الكتاب: الكافي في فقه الإمام أحمد المؤلف: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى، 1414 هـ - 1994 م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الكافي في فقه الإمام أحمد المقدسي، موفق الدين الكتاب: الكافي في فقه الإمام أحمد المؤلف: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى، 1414 هـ - 1994 م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [ خطبة الكتاب ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين قال الشيخ العالم العلامة الأوحد، الصدر الكامل شيخ الإسلام قدوة الأنام، موفق الدين أبو عبد الله أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار، عالم خفيات الأسرار، غافر الخطيئات والأوزار، الذي امتنع عن تمثيل الأفكار وارتفع عن الوصف بالحد والمقدار، وأحاط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 علمه بما في لجج البحار، وله ما سكن في الليل والنهار، أنعم علينا بالنعم الغزار، ومن علينا بالنبي المختار، محمد سيد الأبرار، المبعوث من أطهر بيت في مضر بن نزار، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - الأطهار، وصحابته المصطفين الأخيار، صلاة تجوز حد الإكثار، دائمة بدوام الليل والنهار. هذا كتاب استخرت الله تعالى في تأليفه على مذهب إمام الأئمة، ورباني الأمة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفقه، توسطت فيه بين الإطالة والاختصار، وأومأت إلى أدلة مسائله مع الاقتصار، وعزيت أحاديثه إلى كتب أئمة الأمصار؛ ليكون الكتاب كافيا في فنه عما سواه، مقنعا لقارئه بما حواه، وافيا بالغرض من غير تطويل، جامعا بين بيان الحكم والدليل، وبالله أستعين، وعليه أعتمد، وإياه أسأل أن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والنية والعمل، ويجعل سعينا مقربا إليه، ونافعا لديه، وينفعنا والمسلمين بما جمعنا، ويبارك لنا فيما صنعنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 [ كتاب الطهارة ] [ باب حكم الماء الطاهر ] [كتاب] الطهارة باب حكم الماء الطاهر يجوز التطهر من الحدث والنجاسة بكل ماء نزل من السماء: من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المطر، وذوب الثلج والبرد؛ لقول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد» متفق عليه. وبكل ماء نبع من الأرض، من العيون، والبحار، والآبار، لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سأل رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو الطهور ماؤه الحل ميتته» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 و «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ من بئر بضاعة» رواه النسائي. فصل: فإن سخن بالشمس، أو بطاهر، لم تكره الطهارة به؛ لأنها صفة خلق عليها الماء، فأشبه ما لو برده، وإن سخن بنجاسة يحتمل وصولها إليه، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 يتحقق فهو طاهر؛ لأن الأصل طهارته، فلا تزول بالشك، ويكره استعماله لاحتمال النجاسة. وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أنه لا يكره؛ لأن الأصل عدم الكراهة. وإن كانت النجاسة لا تصل إليه غالباً، ففيه وجهان: أحدهما: يكره؛ لأنه يحتمل النجاسة، فكره كالتي قبلها. والثاني: لا يكره؛ لأن احتمال النجاسة بعيد، فأشبه غير المسخن. وإن خالط الماء طاهر لم يغيره، لم يمنع الطهارة به؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغتسل هو وزوجته من قصعة فيها أثر العجين» رواه النسائي وابن ماجه والأثرم [و] لأن الماء باق على إطلاقه. فإن كان معه ماء يكفيه لطهارته فزاده مائعاً لم يغيره، ثم [تطهر] به، صح لما ذكرنا. وإن كان الماء لا يكفيه لطهارته، فكذلك؛ لأنه المائع استهلك في الماء كالتي قبلها. وفيه وجه آخر: لا تجوز الطهارة به؛ لأنه أكملها بغير الماء، فأشبه ما لو غسل به بعض أعضائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وإن غير الطاهر صفة الماء لم يخل من أوجه أربعة: أحدها: ما يوافق الماء في الطهورية، كالتراب، وما أصله الماء كالملح المنعقد من الماء، فلا يمنع الطهارة به؛ لأنه يوافق الماء في صفته، أشبه الثلج. والثاني: ما لا يختلط بالماء كالدهن والكافور والعود، فلا يمنع؛ لأنه تغير عن مجاورة، فأشبه ما لو تغير الماء بجيفة بقربه. الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب وسائر ما ينبت في الماء، وما يجري عليه الماء من الكبريت والقار وغيرهما، وورق الشجر على السواقي والبرك، وما تلقيه الرياح والسيول في الماء من الحشيش والتبن ونحوهما، فلا يمنع؛ لأنه لا يمكن صون الماء عنه. الرابع: ما سوى هذه الأنواع، كالزعفران والأشنان والملح المعدني، وما لا ينجس بالموت كالخنافس والزنابير، وما عفي عنه لمشقة التحرز إذا ألقي في الماء قصداً، فهذا إن غلب على أجزاء الماء مثل أن جعله صبغاً، أو حبراً، أو طبخ فيه، سلبه الطهورية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 [بغير] خلاف؛ لأنه زال اسم الماء، فأشبه الخل. وإن غير إحدى صفاته طعمه أو لونه أو ريحه، ولم يطبخ فيه، فأكثر الروايات عن أحمد أنه لا يمنع؛ لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، ولأنه خالطه طاهر لم يسلبه اسمه، ولا رقته، ولا جريانه، أشبه سائر الأنواع. وعنه: لا تجوز الطهارة به؛ لأنه سلب إطلاق اسم الماء، أشبه ماء الباقلاء المغلي، وهذا اختيار الخرقي، وأكثر الأصحاب. فصل: فإن استعمل في رفع الحدث، فهو طاهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صب على جابر من وضوئه» رواه البخاري. ولأنه لم يصبه نجاسة فكان طاهراً، كالذي تبرد به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وهل تزول طهوريته؟ فيه روايتان: أشهرهما: زوالها؛ لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء أشبه المتغير بالزعفران. والثانية: لا تزول؛ لأنه استعمال لم يغير الماء، أشبه التبرد به. وإن استعمل في طهارة مستحبة، كالتجديد وغسل الجمعة، والغسلة الثانية والثالثة، فهو باق على إطلاقه؛ لأنه لم يرفع حدثاً، ولم يزل نجساً. وعنه: أنه غير مطهر؛ لأنه مستعمل في طهارة شرعية، أشبه المستعمل في رفع الحدث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فصل: وإن استعمل في غسل نجاسة، فانفصل متغيراً بها، أو قبل زوالها، فهو نجس؛ لأنه متغير بنجاسة، أو ملاق لنجاسة لم يطهرها، فكان نجساً، كما لو وردت عليه. وما انفصل من الغسلة التي طهرت المحل غير متغير، فهو طاهر إن كان المحل أرضاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوب من ماء» متفق عليه. فلو كان المنفصل نجساً لكان تكثيراً للنجاسة. وإن كان غير الأرض، ففيه وجهان: أظهرهما: طهارته كالمنفصل عن الأرض، ولأن البلل الباقي في المحل طاهر، والمنفصل بعض المتصل، فكان حكمه حكمه. والثاني: هو نجس؛ لأنه ماء يسير لاقى نجاسة فتنجس بها، كما لو وردت عليه. فإن قلنا بطهارته، فهل يكون مطهراً؟ على وجهين بناء على الروايتين في المستعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 في رفع الحدث، وقد مضى توجيههما. فصل: وإذا انغمس المحدث في ماء يسير ينوي به رفع الحدث، صار مستعملاً؛ لأنه استعمل في رفع الحدث، ولم يرتفع حدثه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه وهو جنب» رواه مسلم. والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ولأنه بأول جزء انفصل منه صار مستعملاً، فلم يرتفع الحدث عن سائره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فصل: وما سوى الماء من المائعات كالخل والمرق والنبيذ، وماء الورد، والمعتصر من الشجر، لا يرفع حدثاً، ولا يزيل نجساً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فأوجب التيمم على من لم يجد ماء، «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب: تحتيه ثم تقرصيه ثم تنضحيه بالماء ثم تصلي فيه» متفق عليه. فدل على أنه لا يجوز بغيره. والله أعلم. [ باب الماء النجس ] إذا وقع في الماء نجاسة فغيرته، نجس بغير خلاف؛ لأن تغيره لظهور أجزاء النجاسة فيه. وإن لم تغيره لم يخل من حالين: أحدهما: أن يكون قلتين فصاعداً، فهو طاهر لما روى ابن عمر رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «سئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» رواه الأئمة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وفي لفظ: «لم ينجسه شيء» وروى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل: يا رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الله، أتتوضأ من بئر بضاعة وهي: بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء» . قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح. قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي فوجدتها ستة أذرع، ولأن الماء الكثير لا يمكن حفظه في الأوعية، فعفي عنه كالذي لا يمكن نزحه. الثاني: ما دون القلتين، ففيه روايتان: أظهرهما: نجاسته؛ لأن قوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء» يدل على أن ما لم يبلغهما ينجس، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات» متفق عليه. فدل على نجاسته من غير تغيير، ولأن الماء اليسير يمكن حفظه [في الأوعية] فلم يعف عنه، وجعلت القلتان حداً بين القليل والكثير. والثانية: هو طاهر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء» . وروى أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الماء طهور لا ينجسه إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه» رواه ابن ماجه. ولأنه لم يتغير بالنجاسة أشبه الكثير. فصل: وفي قدر القلتين روايتان: إحداهما: [أنهما] أربعمائة رطل بالعراقي؛ لأنه روي عن ابن جريج ويحيى بن عقيل: أن القلة تأخذ قربتين، وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل فصارت القلتان بهذه المقدمات أربعمائة رطل. والثانية: هما خمسمائة رطل؛ لأنه يروى عن ابن جريج أنه قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئاً. فالاحتياط أن يجعل الشيء نصفاً فيكونان خمس قرب. وهل ذلك تحديد أو تقريب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فيه وجهان: أظهرهما: أنه تقريب، فلو نقص رطل أو رطلان لم يؤثر؛ لأن القربة إنما جعلت مائة رطل تقريباً، والشيء إنما جعل نصفاً احتياطاً، والغالب أنه يستعمل فيما دون النصف، وهذا لا تحديد فيه. والثاني: أنه تحديد، فلو نقص شيئاً يسيراً تنجس بالنجاسة؛ لأنا جعلنا ذلك احتياطاً، وما وجب الاحتياط به صار فرضاً، كغسل جزء من الرأس مع الوجه. فصل: وجميع النجاسات في هذا سواء إلا بول الآدميين، وعذرتهم المائعة، فإن أكثر الروايات عن أحمد أنها تنجس الماء الكثير؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» متفق عليه. إلا أن يبلغ حداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 لا يمكن نزحه، كالغدران والمصانع بطريق مكة، فذلك الذي لا ينجسه شيء؛ لأن «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البول في الماء الدائم» ينصرف إلى ما كان في أرضه على عهده من آبار المدينة ونحوها. وعنه أنه كسائر النجاسات لعموم الأحاديث التي ذكرناها، ولأن البول كغيره من النجاسات في سائر الأحكام، فكذلك في تنجيس الماء، وحديث البول لا بد من تخصيصه، فنخصه بخبر القلتين. فصل: وإذا وقعت النجاسة في ماء فغيرت بعضه فالمتغير نجس، وما لم يتغير إن بلغ قلتين فهو طاهر لعموم الأخبار فيه، ولأنه ماء كثير لم يتغير بالنجاسة، فكان طاهراً كما لو لم يتغير فيه شيء. وإن نقص عنهما فهو نجس؛ لأنه ماء يسير لاقى ماء نجسا فنجس به. فإذا كان بين الغديرين ساقية فيها ماء يتصل بهما فهما ماء واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فصل: فأما الماء الجاري إذا تغير بعض جريانه بالنجاسة، فالجرية المتغيرة نجسة، وما أمامها طاهر؛ لأنها لم تصل إليه، وما وراءها طاهر؛ لأنه لم يصل إليها. وإن لم يتغير منه شيء، احتمل أنه لا ينجس؛ لأنه ماء كثير يتصل بعضه ببعض فيدخل في عموم الأخبار السابقة أولاً، فلم ينجس كالراكد. ولو كان ماء الساقية راكداً لم ينجس إلا بالتغير، فالجاري أولى لأنه أحسن حالاً. وجعل أصحابنا المتأخرون كل جرية كالماء المنفرد، فإذا كانت النجاسة في جرية تبلغ قلتين، فهي طاهرة ما لم تتغير. وإن كان دون القلتين فهي نجسة، وإن كانت النجاسة واقفة، فكل جرية تمر عليها إن بلغت قلتين، فهي طاهرة وإلا فهي نجسة. وإن اجتمعت الجريات، فكان في الماء قلتان طاهرتان، متصلة لاحقة، أو سابقة، فالمجتمع كله طاهر، إلا أن يتغير بالنجاسة؛ لأن القلتين تدفعان النجاسة عن نفسهما ويطهرهما ما اجتمع معهما، وإن لم يكن فالجميع نجس، والجرية ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها وما قرب منها مع ما يحاذي ذلك فيما بين طرفي النهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فصل: وهو ثلاثة أقسام: ما دون القلتين: فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين، إما أن ينبع فيه، أو يصب عليه، وسواء كان متغيراً فزال تغيره أو غير متغير فبقي بحاله. الثاني: قدر القلتين، فتطهيره بالمكاثرة المذكورة، أو بزوال تغيره بمكثه. الثالث: الزائد عن القلتين، فتطهيره بهذين الأمرين، أو بنزح يزيل تغيره ويبقى بعده قلتان، ولا يعتبر صب الماء دفعة واحدة؛ لأن ذلك يشق، لكن يصبه على حسب ما أمكنه من المتابعة، إما أن يجريه من ساقية، أو يصبه دلواً فدلواً. وإن كوثر بماء دون القلتين، أو طرح فيه تراب، أو غير الماء، لم يطهره؛ لأن ذلك لا يدفع النجاسة عن نفسه، فلم يطهره الماء، كما لو طرح فيه مسك، ويتخرج أن يطهره؛ لأنه تغير الماء، فأشبه ما لو زال بنفسه، ولأن علة التنجيس في الماء الكثير التغير، فإذا زالت زال حكمها، كما لو زال تغير المتغير بالطاهرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فأما ما دون القلتين، فلا يطهر بزوال التغير؛ لأن العلة فيه المخالطة لا التغير. فصل: فإن اجتمع نجس إلى نجس، فالجميع نجس وإن كثر؛ لأن اجتماع النجس إلى النجس لا يتولد بينهما طاهر، كالمتولد بين الكلب والخنزير، ويتخرج أن يطهر إذا زال التغير، وبلغ القلتين، لما ذكرناه، وإن اجتمع مستعمل إلى مثله، فهو باق على المنع، فإن اجتمع إلى طهور يبلغ قلتين، فالكل طهور؛ لأن القلتين تزيل حكم النجاسة، فالاستعمال أولى، فإن اجتمع مستعمل إلى طهور دون القلتين، وكان المستعمل يسيراً، عفي عنه؛ لأنه لو كان مائعاً غير الماء، عفي عنه، فالمستعمل أولى وإن كثر؛ بحيث لو كان مائعاً غلب على أجزاء الماء، منع كغيره من الطاهرات. [ باب الشك في الماء ] إذا شك في نجاسته لم يمنع الطهارة به، سواء وجده متغيراً أو غير متغير؛ لأن الأصل الطهارة، والتغير يحتمل أن يكون من مكثه، أو بما لا يمنع، فلا يزول بالشك. وإن تيقن نجاسته، ثم شك في طهارته، فهو نجس؛ لأن الأصل نجاسته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وإن علم وقوع النجاسة فيه، ثم وجده متغيراً تغيراً يجوز أن يكون منها، فهو نجس؛ لأن الظاهر تغيره بها. وإن أخبره ثقة بنجاسة الماء، لم يقبل حين يعين سببها لاحتمال اعتقاده نجاسته بما لا ينجسه، كموت ذبابة فيه، وإن عين سببها، لزمه القبول، رجلاً كان أو امرأة، بصيراً أو أعمى؛ لأنه خبر ديني، فلزمه قبوله كرواية الحديث، ولأن للأعمى طريقاً إلى العلم بالحس والخبر، ولا يقبل خبر كافر، ولا صبي ولا مجنون ولا فاسق؛ لأن روايتهم غير مقبولة. وإن أخبره أن كلباً ولغ في هذا الإناء دون هذا وقال آخر: إنما ولغ في هذا الإناء دون ذاك حكم بنجاستهما؛ لأنه يمكن صدقهما، لكونهما في وقتين. أو كانا كلبين. وإن عينا كلباً ووقتاً لا يمكن شربه فيه منهما، تعارضا وسقط قولهما؛ لأنه لا يمكن صدقهما، ولم يترجح أحدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 [ فصل في اشتباه الماء النجس بالطاهر ] فصل: وإن اشتبه الماء النجس بالطاهر، تيمم، ولم يجز له استعمال أحدهما، سواء كثر عدد الطاهر أو لم يكثر. وحكي عن أبي علي النجاد أنه إذا كثر عدد الطاهر، فله أن يتحرى ويتوضأ بالطاهر عنده؛ لأن احتمال إصابة الطاهر أكثر، والأول المذهب؛ لأنه اشتبه المباح بالمحظور فيما لا تبيحه الضرورة، فلم يجز التحري كما لو كان النجس بولاً، أو كثر عدد النجس أو اشتبهت أخته بأجنبيات، ولأنه لو توضأ بأحدهما ثم تغير اجتهاده في الوضوء الثاني، فتوضأ بالأول، لتوضأ بماء يعتقد نجاسته، وإن توضأ بالثاني من غير غسل أثر الأول، تنجس يقيناً، وإن غسل أثر الأول، نقض اجتهاده باجتهاده، وفيه حرج ينتفي بقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فتركهما أولاً أولى. وهل يشترط لصحة التيمم إراقتهما أو خلطهما؟ فيه روايتان: إحداهما: يشترط ليتحقق عدم الطاهر. والثانية: لا يشترط؛ لأن الوصول إلى الطاهر متعذر، واستعماله ممنوع منه، فلم يشترط عدمه كماء الغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وإن اشتبه مطلق بمستعمل، توضأ من كل إناء وضوءاً لتحصل له الطهارة بيقين، وصلى صلاة واحدة. وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة، وأمكنه الصلاة في عدد النجس، وزيادة صلاة، لزمه ذلك؛ لأنه أمكنه تأدية فرضه يقيناً من غير مشقة، فلزمه كما لو اشتبه المطلق بالمستعمل، وإن كثر عدد النجس، فذكر ابن عقيل أنه يصلي في أحدها بالتحري؛ لأن اعتبار اليقين يشق، فاكتفي بالظاهر، كما لو اشتبهت القبلة. [ أقسام الحيوان ] فصل: وهو ثلاثة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 طاهر، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: الآدمي متطهراً كان، أو محدثاً، لما روى أبو هريرة، قال: «لقيني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا جنب فانخنست منه، فاغتسلت، ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله ‍‍‍! كنت جنباً، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إن المؤمن ليس بنجس» متفق عليه. وعن عائشة: «أنها كانت تشرب من الإناء، وهي حائض فيأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع فاه على موضع فيها فيشرب» رواه مسلم. النوع الثاني: ما يؤكل لحمه، فهو طاهر بلا خلاف. الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، وهو السنور، وما دونها في الخلقة، لما روت كبشة بنت كعب بن مالك، قالت: «دخل علي أبو قتادة، فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة، فأصغى لها الإناء حتى شربت، فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟! قلت: نعم، قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. دل بمنطوقه على طهارة الهرة، وبتعليله على طهارة ما دونها، لكونه مما يطوف علينا، ولا يمكن التحرز عنه، كالفأرة ونحوها، فهذا سؤره وعرقه وغيرهما طاهر. القسم الثاني: نجس، وهو: الكلب والخنزير، وما تولد منهما فسؤره نجس، وجميع أجزائه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 متفق عليه. ولولا نجاسته ما وجب غسله، والخنزير شر منه؛ لأنه منصوص على تحريمه، ولا يباح إنقاذه بحال. وكذلك ما تولد من النجاسات كدود الكنيف وصراصره؛ لأنه متولد من نجاسة، فكان نجساً، كولد الكلب. القسم الثالث: مختلف فيه، وهو ثلاثة أنواع كذلك: أحدها: سائر سباع البهائم والطير، وفيهما روايتان: إحداهما: أنها نجسة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال: إذا كان الماء قلتين، لم ينجسه شيء» فمفهومه: أنه ينجس إذا لم يبلغهما، ولأنه حيوان حرم لخبثه يمكن التحرز عنه، فكان نجساً كالكلب. والثانية: أنها طاهرة لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تردها السباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة بها، فقال: لها ما أخذت في أفواهها، ولنا ما غبر طهور» رواه ابن ماجه. ومر عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص بحوض، فقال عمرو: يا صاحب الحوض! ترد على حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، فإنا نرد عليها، وترد علينا. رواه مالك في الموطأ. النوع الثاني: الحمار الأهلي والبغل، ففيهما روايتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 إحداهما: نجاستهما، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحمر يوم خيبر: إنها رجس» متفق عليه، ولما ذكرنا في السباع. والثانية: أنها طاهرة؛ لأنه قال: إذا لم يجد غير سؤرهما، تيمم معه، ولو شك في نجاسته، لم يبح استعماله، ووجهها ما روى جابر أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها» رواه الشافعي في مسنده. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركب الحمار والبغال، وكان الصحابة يقتنونها ويصحبونها في أسفارهم، فلو كانت نجسة، لبين لهم نجاستها، ولأنه لا يمكن التحرز عنها لمقتنيها، فأشبهت الهر ويحكم بطهارته، ويجوز بيعها، فأشبهت مأكول اللحم. النوع الثالث: الجلالة وهي: التي أكثر علفها النجاسة، ففيها روايتان: إحداهما: نجاستها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن ركوب الجلالة وألبانها» ، رواه أبو داود. ولأنها تنجست بالنجاسة، والريق لا يطهر. والثانية: أنها طاهرة؛ لأن الضبع والهر يأكلان النجاسة، وهما طاهران. وحكم أجزاء الحيوان من جلده وشعره وريشه حكم سؤره؛ لأنه من أجزائه، فأشبه فمه، فإذا وقع في الماء ثم خرج حياً، فحكم ذلك حكم سؤره. قال أحمد في فأرة سقطت في ماء، ثم خرجت حية: لا بأس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فصل: إذا أكلت الهرة نجاسة، ثم شربت من ماء بعد غيبتها، لم ينجس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنها ليست بنجس» مع علمه بأكلها النجاسات. وإن شربت قبل الغيبة، فقال أبو الحسن الآمدي: ظاهر قول أصحابنا: طهارته؛ للخبر. ولأننا حكمنا بطهارتها بعد الغيبة، واحتمال طهارتها بها شك لا يزيل يقين النجاسة. وقال القاضي: ينجس؛ لأن أثر النجاسة في فمها، بخلاف ما بعد الغيبة، فإنه يحتمل أن تشرب من ماء يطهر فاها، فلا ينجس ما تيقنا طهارته بالشك. [ فصل في أقسام الحيوان الطاهر ] فصل: والحيوان الطاهر على أربعة أضرب: أحدها: ما تباح ميتته، كالسمك ونحوه، والجراد وشبهه فميتته طاهرة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والحل ميتته» . والثاني: ما ليست له نفس سائلة، كالذباب والعقارب والخنافس، فهو طاهر حياً وميتاً، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فامقلوه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء» رواه البخاري بمعناه فأمر بمقله؛ ليكون شفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 لنا إذا أكلنا، ولأنه لا نفس له سائلة، أشبه دود الخل إذا مات فيه. والثالث: الآدمي، ففيه روايتان: أظهرهما: أنه طاهر بعد الموت، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن المؤمن ليس بنجس» ولأنه لو كان نجس العين، لم يشرع غسله، كسائر النجاسات. والثانية: هو نجس، قال أحمد في صبي مات في بئر: تنزح، وذلك لأنه حيوان له نفس سائلة أشبه الشاة. والرابع: ما عدا ما ذكرنا، مما له نفس سائلة لا تباح ميتته، فميتته نجسة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله [تعالى] : {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] . [ باب الآنية ] وهي ضربان: مباح من غير كراهة: وهو إناء طاهر من غير جنس الأثمان، ثميناً كان أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 غير ثمين، كالياقوت والبلور والعقيق والخزف والخشب والجلود والصفر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل من جفنة، وتوضأ من تور من صفر، وتور من حجارة، ومن قربة وإداوة. والثاني: محرم، وهو آنية الذهب والفضة، لما روى حذيفة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا من صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة» ، وقال: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليهما. فتوعد عليه بالنار، فدل على تحريمه، ولأن فيه سرفاً وخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، ولا يحصل هذا في [ثمين] الجواهر؛ لأنه لا يعرفها إلا خواص الناس، ويحرم اتخاذها، لأن ما حرم استعماله، حرم اتخاذه [على] هيئة الاستعمال، كالطنبور، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لعموم الخبر. وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى الزينة للأزواج، فما عداه تجب التسوية فيه بين الجميع، وما ضبب بالفضة أبيح إذا كان يسيراً، لما روى أنس «أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 قدح الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة.» رواه البخاري. ولا يباح الكثير؛ لأن فيه سرفاً، فأشبه الإناء الكامل، واشترط أبو الخطاب أن يكون لحاجة؛ لأن الرخصة وردت في شعب القدح، وهو لحاجة. ومعنى الحاجة أن تدعو الحاجة إلى ما فعله به، وإن كان غيره يقوم مقامه. وقال القاضي: يباح من غير حاجة لأنه يسير، إلا أن أحمد كره الحلقة؛ لأنها تستعمل، وتكره مباشرة الفضة بالاستعمال، فأما الذهب، فلا يباح إلا في الضرورة، كأنف الذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رخص لعرفجة بن سعد لما قطع أنفه يوم الكلاب واتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه، فأمره أن يتخذ أنفاً من الذهب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ويباح ربط أسنانه بالذهب إذا خشي سقوطها؛ لأنه في معنى أنف الذهب. وذكر أبو بكر في " التنبيه " أنه يباح يسير الذهب. وقال أبو الخطاب: ولا بأس بقبيعة السيف بالذهب؛ لأن سيف عمر كان فيه سبائك من ذهب. ذكره الإمام أحمد. وعن مزيدة العصري قال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة» . رواه الترمذي، وقال: هو حديث غريب. [ التطهر من آنية الذهب والفضة ] فصل: فإن تطهر من آنية الذهب والفضة، ففيه وجهان: أحدهما: تصح طهارته، وهذا قول الخرقي؛ لأن الوضوء جريان الماء على العضو وليس بمعصية، وإنما المعصية استعمال الإناء. والثاني: لا تصح، اختاره أبو بكر؛ لأنه استعمال للمعصية في العبادة، أشبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الصلاة في الدار المغصوبة. [ فصل في استعمال آنية أهل الكتاب ] فصل: وهم ضربان: أحدهما: من لا يستحل الميتة كاليهود، فأوانيهم طاهرة [مباحة الاستعمال] ؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة فأجابه» ، رواه أحمد في المسند وتوضأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من جرة نصرانية. والثاني: من يستحل الميتات والنجاسات، كعبد الأوثان والمجوس، وبعض النصارى، فلما لم يستعملوه من آنيتهم، فهو طاهر، وما استعملوه فهو نجس، لما روى أبو ثعلبة الخشني [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «قلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها، إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كلوا فيها» متفق عليه. وما شك في استعماله فهو طاهر، وذكر أبو الخطاب أن أواني الكفار كلها طاهرة. وفي كراهية استعمالها روايتان: إحداهما: تكره، لهذا الحديث. والثانية: لا تكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل فيها. [ فصل في حكم ثياب الكفار ] فأما ثياب الكفار، فما لم يلبسوه، أو علا من ثيابهم كالعمامة والطيلسان، فهو طاهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا يلبسون ثياباً من نسج الكفار. وما لاقى عوراتهم، فقال أحمد: أحب إلي أن يعيد إذا صلى فيها، فيحتمل وجوب الإعادة، وهو قول القاضي؛ لأنهم يتعبدون بالنجاسة، ويحتمل أن لا تجب، وهو قول أبي الخطاب؛ لأن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك. [ فصل في حكم طهارة الميتة ] فصل: وجلود الميتة نجسة، ولا تطهر بالدباغ في ظاهر المذهب؛ لقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والجلد جزء منها. وروى أحمد عن يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال: «قرئ علينا كتاب رسول الله في أرض جهينة، وأنا غلام شاب: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قال أحمد: ما أصلح إسناده، [تعجب منه] . ولأنه جزء من الميتة، نجس بالموت، فلم يطهر كاللحم. وعنه: يطهر منها جلد ما كان طاهراً حال الحياة، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال: ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به؟ قالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها» متفق عليه. ولا يطهر جلد ما كان نجساً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن جلود السباع وعن مياثر النمور» رواه الأثرم. ولأن أثر الدبغ في إزالة نجاسة حادثة بالموت، فيعود الجلد إلى ما كان عليه قبل الموت، كجلد الخنزير. وهل يعتبر في طهارة الجلد المدبوغ أن يغسل بعد دبغه؟ على وجهين: أحدهما: لا يعتبر، لما روى ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» متفق عليه. والثاني: يعتبر؛ لأن الجلد محل النجس، فلا يطهر بغير الماء، كالثوب. فصل: وعظم الميتة وقرنها وظفرها وحافرها نجس لا يطهر بحال؛ لأنه جزء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الميتة فيدخل في عموم قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والدليل على أنه منها قول الله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] . ولأن دليل الحياة الإحساس والألم، والضرس يألم ويحس بالضرس، برد الماء وحرارته، وما فيه حياة يحله الموت، فينجس به كاللحم. فصل: وصوفها ووبرها وشعرها وريشها طاهر لأنه لا روح له، فلا يحله الموت؛ لأن الحيوان لا يألم بأخذه، ولا يحس، ولأنه لو كانت فيه حياة لنجس بفصله من الحيوان في حياته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي فهو ميت» رواه أبو داود بمعناه. فصل: وحكم شعر الحيوان وريشه حكمه في الطهارة والنجاسة، متصلاً كان أو منفصلاً في حياة الحيوان أو موته، فشعر الآدمي طاهر؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن واتفق على معناه. ولولا طهارته لما فعل، ولأنه شعر حيوان طاهر، فأشبه شعر الغنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فصل: ولبن الميتة نجس؛ لأنه مائع في وعاء نجس، وإنفحتها نجسة لذلك، وعنه: أنها طاهرة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أكلوا من جبن المجوس، وهو يصنع بالإنفحة، وذبائحهم ميتة. فأما البيضة: فإن صلب قشرها، لم تنجس، كما لو وقعت في شيء نجس، وإن لم يصلب، فهي كاللبن. وقال ابن عقيل: لا تنجس إذا كان عليها جلدة تمنع وصول النجاسة إلى داخلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فصل: وكل ذبح لا يفيد إباحة اللحم لا يفيد طهارة المذبوح، كذبح المجوسي، ومتروك التسمية، وذبح المحرم للصيد، وذبح الحيوان غير المأكول؛ لأنه ذبح غير مشروع، فلم يطهر كذبح المرتد. [ باب السواك وغيره ] السواك سنة مؤكدة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» متفق عليه. وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أنه قال: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» رواه الإمام أحمد في المسند، ويتأكد استحبابه في أوقات ثلاثة: عند الصلاة؛ لما ذكرنا، وإذا قام من النوم؛ لما روى حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك» ، متفق عليه. ولأن النائم ينطبق فمه ويتغير. والثالث: عند تغير الفم بمأكول أو خلو معدته، ولأن السواك شرع لتنظيف الفم، وإزالة رائحته. ويستحب في سائر الأوقات؛ لما روى شريح بن هانئ، قال: «سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأي شيء كان يبدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك» . رواه مسلم. قال ابن عقيل: لا يختلف المذهب أنه لا يستحب السواك للصائم بعد الزوال؛ لأنه يزيل خلوف فم الصائم، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ولأنه أثر عبادة مستطاب شرعاً، فلم يستحب إزالته، كدم الشهداء. وهل يكره؟ على روايتين: إحداهما: يكره لذلك. والثانية: لا يكره؛ لأن عامر بن ربيعة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» . قال الترمذي: هذا حديث حسن، ويستاك بعود لين ينقي الفم، ولا يجرحه ولا يتفتت فيه، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستاك بعود أراك، ولا يستاك بعود رمان؛ لأنه يضر بلحم الفم، ولا عود ريحان؛ لأنه يروى أنه يحرك عرق الجذام، فإن استاك بأصبعه أو خرقة، لم يصب السنة؛ لأنها لم ترد به، ولا يسمى سواكاً، [قال ابن عبد القوي على القول المجود] : ويحتمل أن يصيب؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لأنه يحصل من الإنقاء بقدره. فصل: ومن السنة تقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط» متفق عليه. فصل: ويجب الختان؛ لأنه من ملة إبراهيم، فإنه روي «أن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ختن نفسه» متفق عليه. وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] ولأنه يجوز كشف العورة من أجله، ولولا أنه واجب ما جاز النظر إليها لفعل مندوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فإن كان كبيراً وخاف على نفسه من الختان، سقط وجوبه. [ باب فرائض الوضوء وسننه ] أول فرائضه: النية: وهي شرط لطهارة الأحدث كلها، الغسل، والوضوء، والتيمم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه. ولأنها عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصلاة. ومحل النية: القلب؛ لأنها عبارة عن القصد، ويقال: نواك بخير، أي: قصدك به. ومحل القصد القلب، ولا يعتبر أن يقول بلسانه شيئاً، فإن لفظ بما نواه كان آكد. وموضع وجوبها عند المضمضة؛ لأنها أول واجباته، ويستحب تقديمها على غسل اليدين والتسمية، لتشمل مفروض الوضوء ومسنونه. ويستحب استدامة ذكرها في سائر وضوئه، فإن عزبت في أثنائها جاز؛ لأن النية في أول العبادة تشمل جميع أجزائها كالصيام، وإن تقدمت النية الطهارة بزمن يسير، وعزبت عنه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أولها، جاز؛ لأنها عبادة، فلم يشترط اقتران النية بأولها كالصيام. وصفتها: أن ينوي رفع الحدث، أي: إزالة المانع من الصلاة أو الطهارة، لأمر لا يستباح إلا بها، كالصلاة والطواف ومس المصحف، وإن نوى الجنب بغسله قراءة القرآن صح؛ لأنه يتضمن رفع الحدث، وإن نوى بطهارته ما لا تشرع له الطهارة، كلبس ثوبه ودخول بيته والأكل، لم يرتفع حدثه؛ لأنه ليس بمشروع، أشبه التبرد، وإن نوى ما يستحب له الطهارة، كقراءة القرآن، وتجديد الوضوء وغسل الجمعة والجلوس في المسجد والنوم، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه لا يفتقر إلى رفع الحدث أشبه لبس الثوب، والأخرى: يرتفع حدثه؛ لأنه يشرع له فعل هذا، وهو غير محدث، وقد نوى ذلك، فينبغي أن تحصل له، ولأنها طهارة صحيحة، فرفعت الحدث، كما لو نوى رفعه. وإن نوى رفع الحدث والتبرد، صحت طهارته؛ لأنه أتى بما يجزئه، وضم إليه ما لا ينافيه، فأشبه ما لو نوى بالصلاة العبادة والإدمان على السهر، فإن نوى طهارة مطلقة، لم يصح؛ لأن منها ما لا يرفع الحدث، وهو الطهارة من النجاسة. وإن نوى رفع حدث بعينه، فهل يرتفع غيره؟ على وجهين: قال أبو بكر: لا يرتفع؛ لأنه لم ينوه، أشبه إذا لم ينو شيئاً. وقال القاضي: يرتفع؛ لأن الأحداث تتداخل، فإن ارتفع بعضها ارتفع جميعها، وإن نوى صلاة واحدة نفلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أو فرضاً لا يصلي غيرها، ارتفع حدثه، ويصلي ما شاء؛ لأن الحدث إذا ارتفع لم يعد إلا لسبب جديد، ونيته للصلاة تضمنت رفع الحدث، وإن نوى نية صحيحة ثم غير نيته، فنوى التبرد في غسل بعض الأعضاء، لم يصح ما غسله للتبرد، فإن أعاد غسل العضو بنية الطهارة، صح، ما لم يطل الفصل. فصل: ثم يقول: بسم الله. وفيها روايتان: إحداهما: أنها واجبة في طهارات [الأحداث] كلها، اختارها أبو بكر، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» . قال أحمد: حديث أبي سعيد أحسن شيء في الباب. والثانية: أنها سنة اختارها الخرقي. قال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه: أنه لا بأس به إذا ترك التسمية؛ لأنها عبادة، فلا تجب فيها التسمية كغيرها، وضعف أحمد الحديث فيها، وقال: ليس يثبت في هذا حديث، واختلف من أوجبها في سقوطها بالسهو، فمنهم من قال: لا تسقط كسائر واجبات الطهارة ومنهم من أسقطها؛ لأن الطهارة عبادة تشتمل على مفروض ومسنون، فكان من فروضها ما يسقطه السهو، كالصلاة والحج، فإن ذكرها في أثناء وضوئه، سمى حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ذكر. ومحل التسمية اللسان؛ لأنها ذكر، وموضعها بعد النية، ليكون مسمياً على جميع الوضوء. فصل: في غسل الكفين: ثم يغسل كفيه ثلاثاً؛ «لأن عثمان وعبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وصفا وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالا: فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات» . متفق عليهما، ولأن اليدين آلة نقل الماء إلى الأعضاء ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء، ثم إن كان لم يقم من نوم الليل، فغسلهما مستحب؛ لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده» متفق عليه. ولم يذكر البخاري "ثلاثاً". فتخصيصه هذه الحالة بالأمر، دليل على عدم الوجوب في غيرها. وإن قام في نوم الليل ففيه روايتان: إحداهما: أنه واجب، اختارها أبو بكر لظاهر الأمر، فإن غمسهما قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 غسلهما، صار الماء مستعملاً؛ لأن النهي عن غمسهما يدل على أنه يفيد منعاً، وإن غسلهما دون الثلاث، ثم غمسهما، فكذلك؛ لأن النهي باق، وغمس بعض يده كغمس جميعها، ويفتقر غسلهما إلى النية؛ لأنه غسل وجب تعبداً، أشبه الوضوء. والرواية الثانية: ليس بواجب، اختارها الخرقي؛ لأن اليد عضو لا حدث عليه ولا نجاسة، فأشبهت سائر الأعضاء، وتعليل الحديث يدل على أنه أريد به الاستحباب؛ لأنه علل بوهم النجاسة، ولا يزال اليقين بالشك، فإن غمسهما في الماء فهو باق على إطلاقه. فصل: ثم يتمضمض ويستنشق؛ لأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكر أنه مضمض واستنشق، وهما واجبان في الطهارتين؛ لقول الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وهما داخلان في حد الوجه، ظاهران، يفطر الصائم بوصول القيء إليهما، ولا يفطر بوضع الطعام فيهما، ولا يحد بوضع الخمر فيهما، ولا يحصل الرضاع بوصول اللبن إليهما، ويجب غسلهما من النجاسة، فيدخلان في عموم الآية. وعنه: الاستنشاق وحده واجب؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال] : «إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه، ثم لينتثر» متفق عليه. وعنه: أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى؛ لأنها طهارة تعم جميع البدن ويجب فيها غسل ما تحت الشعور، وتحت الخفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ويستحب المبالغة فيهما، إلا أن يكون صائماً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً» حديث صحيح. وصفة المبالغة اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف، ولا يجعله سعوطاً، وفي المضمضة، إدارة الماء في أقاصي الفم، ولا يجعله وجوراً، وهو مخير بين أن يمضمض ويستنشق ثلاثاً من غرفة أو من ثلاث غرفات؛ لأن في حديث عبد الله بن زيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «مضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً» ، وفي لفظ: «أدخل يده في الإناء، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات» ، متفق عليهما. وإن شاء فصل بينهما؛ لأن جد طلحة بن مصرف قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يفصل بين المضمضة والاستنشاق» . رواه أبو داود. ولا يجب الترتيب بينهما وبين الوجه؛ لأنهما منه، لكن تستحب البداءة بهما اقتداءً برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل: ثم يغسل وجهه، وذلك فرض بالإجماع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وحده من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، ولا اعتبار بالأصلع الذي ينحسر شعره عن ناصيته، ولا الأفرع الذي ينزل شعره على جبهته. فإن كان في الوجه شعر كثيف يستر البشرة، لم يجب غسل ما تحته؛ لأنه باطن أشبه [باطن] أقصى الأنف، ويستحب تخليله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلل لحيته. وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «كان إذا توضأ، أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي، عز وجل» رواه أبو داود. وإن كان يصف البشرة، وجب غسل الشعر والبشرة. وإن كان بعضه خفيفا، وبعضه كثيفاً، وجب غسل ظاهر الكثيف، وبشرة الخفيف معه. وسواء في هذا شعر اللحية والحاجبين، والشارب والعنفقة؛ لأنها شعور معتادة في الوجه، أشبهت اللحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وفي المسترسل من اللحية عن حد الوجه روايتان: إحداهما: لا يجب غسله؛ لأنه شعر نازل عن محل الفرض، أشبه الذؤابة في الرأس. والثاني: يجب؛ لأنه نابت في بشرة الوجه، أشبه الحاجب. ويدخل في حد الوجه العذار، [وهو: الشعر الذي على العظم الناتئ سمت صماخ الأذن إلى الصدغ. والعارض: الذي تحت العذار] . والذقن: وهو مجتمع اللحيين، ويخرج منه النزعتان، وهما: ما ينحسر عنهما الشعر في فودي الرأس؛ لأنهما من الرأس، لدخولهما فيه. والصدغ: وهو الذي عليه الشعر في حق الغلام، محاذ لطرف الأذن الأعلى؛ لأنه شعر متصل بالرأس ابتداء، فكان من الرأس كسائره، وقد مسحه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع رأسه في حديث الربيع. ويستحب أن يزيد في ماء الوجه؛ لأن فيه غضوناً وشعوراً، ودواخل وخوارج، ويمسح مآقيه، ويتعاهد المفصل وهو البياض الذي بين اللحية والأذن، فيغسله. ولا يجب غسل داخل العينين. ولا يستحب؛ لأنه لا يؤمن الضرر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 غسلهما. فصل: ثم يغسل يديه إلى المرفقين، وهو فرض بالإجماع، لقول الله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . ويجب غسل المرفقين؛ لأن جابراً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه» ، رواه الدارقطني، وفيه: " دار الماء " وهذا يصلح بياناً؛ لأن " إلى " تكون بمعنى " مع " كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] [أي: مع الله] ، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . ويجب غسل أظفاره، وإن طالت، والأصبع الزائدة، والسلعة؛ لأن ذلك من يده، وإن كانت له يد زائدة أصلها في محل الفرض، وجب غسلها؛ لأنها نابتة في محل الفرض، أشبهت الأصبع، وإن نبتت في العضد أو المنكب، لم يجب غسلها وإن حاذت محل الفرض؛ لأنها في غير محل الفرض، فهي كالقصيرة. وإن كانت له يدان متساويتان على منكب واحد، وجب غسلهما؛ لأن إحداهما ليست أولى من الأخرى. وإن تقلعت جلدة من الذراع، فتدلت من العضد، لم يجب غسلها؛ لأنها صارت من العضد، وإن تقلعت من العضد، فتدلت من الذراع، وجب غسلها؛ لأنها متدلية من محل الفرض. وإن تقلعت من إحداهما، فالتحم رأسها بالأخرى، وجب غسل ما حاذى محل الفرض منها؛ لأنها كالجلد الذي عليهما، فإن كانت متجافية في وسطها، غسل ما تحتها من محل الفرض. وإن كان أقطع فعليه غسل ما بقي من محل الفرض، فإن لم يبق منه شيء، سقط الغسل، ويستحب أن يمس محل القطع بالماء، لئلا يخلو العضو من طهارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وتستحب البداءة بغسل اليمنى من يديه ورجليه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يحب التيمن في ترجله وتنعله وطهوره، وفي شأنه كله» . متفق عليه. فإن بدأ باليسرى جاز؛ لأنهما كعضو واحد، بدليل قوله سبحانه: {وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] فجمع بينهما. فصل: ثم يمسح رأسه، وهو فرض بغير خلاف، لقول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وهو ما ينبت عليه الشعر المعتاد في الصبي مع النزعتين. ويجب استيعابه بالمسح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] والباء للإلصاق، فكأنه قال: امسحوا رؤوسكم، وصار كقوله سبحانه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] قال ابن برهان: من زعم أن الباء للتبعيض، فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. وظاهر قول الإمام أحمد: المرأة يجزئها مسح مقدم الرأس؛ لأن عائشة كانت تمسح مقدم رأسها، وعنه في الرجل: أنه يجزئه مسح بعضه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مسح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بناصيته وعمامته» . رواه مسلم. وكيفما مسح الرأس أجزأ، بيد واحدة، أو بيدين، إلا أن المستحب أن يمر يديه من مقدم رأسه إلى قفاه، ثم يعيدهما إلى الموضع الذي بدأ منه، لأن عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال في صفة وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» ، متفق عليه. ولا يستحب تكرار المسح، لأن أكثر من وصف وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكر أنه مسح مرة واحدة، ولأنه ممسوح في طهارة، أشبه التيمم. وعنه: يستحب تكراره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «توضأ ثلاثا ثلاثا. وقال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي» رواه ابن ماجه. ولأنه أصل في الطهارة، أشبه الغسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 والأذنان في الرأس يمسحان معه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأذنان من الرأس» رواه أبو داود. وروت الربيع بنت معوذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مسح برأسه، وصدغيه، وأذنيه، مسحة واحدة» . رواه الترمذي، وقال حديث [حسن] صحيح. ويستحب إفرادهما بماء جديد لأنهما كالعضو المنفرد، وإنما هما من الرأس على وجه التبع، ولا يجزئ مسحهما عنه لذلك، وظاهر كلام أحمد أنه لا يجب مسحهما لذلك، ويستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه، ويجعل إبهاميه لظاهرهما، ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر، ولا يجزئ مسحه عن الرأس سواء رده فعقده فوق رأسه أو لم يرده، لأن الرأس ما ترأس وعلا، ولو أدخل يده تحت الشعر، فمسح البشرة دون الظاهر لم يجزه، لأن الحكم تعلق بالشعر فلم يجزه مسح غيره، ولو مسح رأسه ثم حلقه، أو غسل عضوا ثم قطع جزعا منه أو جلده، لم يؤثر في طهارته، لأنه ليس ببدل عما تحته، فلم يلزمه بظهوره طهارة، فإن أحدث بعد ذلك غسل ما ظهر لأنه صار ظاهرا، فتعلق الحكم به، ولو حصل في بعض أعضائه شق أو ثقب، لزمه غسله لأنه صار ظاهرا. فصل: ثم يغسل رجليه إلى الكعبين، وهو فرض لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ويدخل الكعبين في الغسل لما ذكرنا في المرفقين، ولا يجزئ مسح الرجلين، لما روى عمر «أن رجلا ترك موضع ظفر في قدمه اليمنى فأبصره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " ارجع فأحسن وضوءك " فرجع ثم صلى» رواه مسلم. وإن كان الرجل أقطع اليدين فقدر على أن يستأجر من يوضئه بأجرة مثله، لزمه كما يلزمه شراء الماء. ولا يعفى عن شيء من طهارة الحدث، وإن كان يسيرا لما ذكرنا من حديث عمر. ويستحب أن يخلل أصابعه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن. فصل: ويجب ترتيب الوضوء على ما ذكرنا في ظاهر المذهب، وحكي عنه أنه ليس بواجب، لأن الله سبحانه وتعالى عطف الأعضاء المغسولة بالواو، ولا ترتيب فيها. ولنا أن في الآية قرينة تدل على الترتيب، لأنه أدخل الممسوح بين المغسولات، وقطع النظير عن نظيره، ولا يفعل الفصحاء هذا إلا لفائدة، ولا نعلم هنا فائدة سوى الترتيب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه الوضوء إلا مرتبا، وهو يفسر كلام الله سبحانه بقوله مرة وبفعله مرة أخرى. فإن نكس وضوءه فختم بوجهه لم يصح إلا غسل وجهه، وإن غسل وجهه ويديه، ثم غسل رجليه ثم مسح برأسه، صح وضوءه إلا غسل رجليه، فيغسلهما ويتم وضوءه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فصل: ويوالي بين غسل الأعضاء، وفي وجوب الموالاة روايتان: إحداهما: يجب، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رأى رجلا يصلي وفي رجله لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة» . رواه أبو داود. ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسلها، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والى بين الغسل. والثانية: لا تجب، لأن المأمور به الغسل، وقد أتى به، وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه توضأ وترك مسح خفيه حتى دخل المسجد، فدعي لجنازة، فمسح عليهما وصلى عليها. والتفريق المختلف فيه: أن يؤخر غسل عضو حتى يمضي زمن ينشف فيه الذي قبله في الزمان المعتدل فإن أخر غسل عضو لأمر في الطهارة من إزالة الوسخ، أو عرك عضو لم يقدح في طهارته. فصل: والوضوء مرة مرة يجزئ، والثلاث أفضل، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، توضأ مرة مرة، وقال: " هذا وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة "، ثم توضأ مرتين، ثم قال: " هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من الأجر "، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا،، ثم قال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي» أخرجه ابن ماجه. وإن غسل بعض أعضائه أكثر من بعض فلا بأس، فقد «حكى عبد الله بن زيد وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغسل يديه مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثا [وغسل وجهه ثلاثا] ثم غسل يديه مرتين إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما ثم رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» ، متفق عليه. ولا يزيد على ثلاث لأن «أعرابيا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوضوء، فأراه ثلاثا ثلاثا ثم قال: " هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم» رواه أبو داود، ويكره الإسراف في الماء لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على سعد وهو يتوضأ فقال: " لا تسرف " قال: يا رسول الله: في الماء إسراف؟ قال: " نعم وإن كنت على نهر جار» رواه ابن ماجه. فصل: ويستحب إسباغ الوضوء، ومجاوزة قدر الواجب بالغسل، لأن «أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضد، ورجله حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله» متفق عليه. فصل: ولا بأس بالمعاونة على الوضوء والغسل بتقريب الماء، وحمله وصبه لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحمل له الماء، ويصب عليه. قال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ينطلق لحاجته فآتيه أنا وغلام من الأنصار بإداوة من ماء يستنجي به» ، وعن المغيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمشى حتى توارى عني في سواد الليل، ثم جاء فصببت عليه من الإداوة، فغسل وجهه وذكر بقية الوضوء» ، متفق عليهما. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كنا نعد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة آنية من الليل مخمرة، إناء لطهره، وإنا لسواكه، وإنا لشرابه» ، أخرجه ابن ماجه. فصل: وفي تنشيف بلل الغسل والوضوء روايتان: إحداهما: يكره، لأن «ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وصفت غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: فأتيته بالمنديل فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده» ، متفق عليه. والأخرى: لا بأس به، لأنه إزالة الماء عن بدنه، أشبه نفضه بيديه. فصل: ويستحب أن يقول بعد فراغه من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «من توضأ فأحسن وضوئه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 أن محمدا عبده ورسوله فتح الله له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم. فصل: والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. وخمسة فيها روايتان: الترتيب، والموالاة، والمضمضة والاستنشاق، والتسمية. والسنن سبعة: غسل الكفين والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتخليل اللحية، وأخذ ماء جديد للأذنين، وتخليل الأصابع، والبداءة باليمنى والدفعة الثانية والثالثة. [ باب المسح على الخفين ] وهو جائز بغير خلاف لما روى جرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه» ، متفق عليه. قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، ولأن الحاجة تدعو إلى لبسه، وتلحق المشقة بنزعه، فجاز المسح عليه كالجبائر ويختص جوازه بالوضوء دون الغسل، لما روى صفوان بن عسال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا مسافرين، أو سفر أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم» . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ولأن الغسل يقل فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تدعو الحاجة إلى المسح على الخف فيه بخلاف الوضوء، ولجواز المسح عليه شروط أربعة: أحدها: أن يكون ساترا لمحل الفرض من القدم كله، فإن ظهر منه شيء لم يجز المسح، لأن حكم ما استتر المسح، وحكم ما ظهر الغسل، ولا سبيل إلى الجمع بينهما، فغلب الغسل، كما لو ظهرت إحدى الرجلين، فإن تخرقت البطانة دون الظهارة، أو الظهارة دون البطانة جاز المسح، لأن القدم مستور به، وإن كان فيه شق مستطيل ينضم لا يظهر منه القدم، جاز المسح [عليه] لذلك، وإن كان الخف رقيقا يصف لم يجز المسح عليه، لأنه غير ساتر، وإن كان ذي شرج في موضع القدم، وكان مشدودا لا يظهر شيء من القدم إذا مشى جاز المسح عليه، لأنه كالمخيط. فصل: الثاني: أن يمكن متابعة المشي فيه، فإن كان يسقط من القدم لسعته، أو ثقله لم يجز المسح عليه، لأن الذي تدعو الحاجة إليه هو الذي يمكن متابعة المشي فيه، وسواء في ذلك الجلود والخرق والجوارب لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مسح على الجوربين والنعلين» . أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قال الإمام أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه ملبوس ساتر للقدم يمكن متابعة المشي فيه، أشبه الخف. فإن شد على رجليه لفائف، لم يجز المسح عليها، لأنها لا تثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بنفسها إنما تثبت بشدها. فصل: الثالث: أن يكون مباحا فلا يجوز المسح على المغصوب والحرير، لأن لبسه معصية، فلا تستباح به الرخصة، كسفر المعصية. فصل: الرابع: أن تلبسهما على طهارة كاملة، لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في سفر فأهويت لأنزع خفيه، قال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما» متفق عليه. فإن تيمم، ثم لبس الخف، لم يجز المسح عليه، لأن طهارته لا ترفع الحدث. وإن لبست المستحاضة، ومن به سلس البول خفا على طهارتهما فلهما المسح، نص عليه، لأن طهارتهما كاملة في حقهما فإن عوفيا لم يجز المسح؛ لأنها صارت ناقصة في حقهما، فأشبهت التيمم. وإن غسل إحدى رجليه، فأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى فأدخلها، لم يجز المسح، لأنه لبس الأول قبل كمال الطهارة. وعنه: يجوز لأنه أحدث بعد كمال الطهارة واللبس، فأشبه ما لو نزع الأول، ثم لبسه بعد أن غسل الأخرى. وإن تطهر ولبس خفيه، فأحدث قبل بلوغ الرجل قدم الخف، لم يجز المسح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لأن الرجل حصلت في مقرها وهو محدث فأشبه من بدأ اللبس محدثا، وإن لبس خفا على طهارة، ثم لبس فوقه آخر، أو جرموقا قبل أن يحدث جاز المسح على الفوقاني سواء كان التحتاني صحيحا أو مخرقا، لأنه خف صحيح يمكن متابعة المشي فيه لبسه على طهارة كاملة، أشبه المنفرد، وإن لبس الثاني بعد الحدث، لم يجز المسح عليه لأنه لبسه على غير طهارة، وإن مسح الأول، ثم لبس الثاني، لم يجز المسح عليه، لأن المسح لم يزل الحدث عن الرجل فلم تكمل الطهارة. وإن كان التحتاني صحيحا، والفوقاني مخرقا، فالمنصوص جواز المسح لأن القدم مستور بخف صحيح. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز، لأن الحكم تعلق بالفوقاني، فاعتبرت صحته كالمنفرد. وإن لبس المخرق فوق لفافة، لم يجز المسح عليه، لأن القدم لم يستتر بخف صحيح، وإن لبس مخرقا فوق مخرق فاستتر القدم بهما احتمل أن لا يجوز المسح لذلك، واحتمل أن يجوز، لأن القدم استتر بهما فصارا كالخف الواحد. [ فصل في مدة المسح على الخفين ] فصل: ويتوقت المسح بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، لما روى عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم» . قال الإمام أحمد: هذا أجود حديث في المسح على الخفين لأنه في غزوة تبوك، آخر غزاة غزاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو آخر فعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وسفر المعصية كالحضر، لأن ما زاد يستفاد بالسفر، وهو معصية فلم يجز أن يستفاد به الرخصة. ويعتبر ابتداء المدة من حين الحدث بعد اللبس في إحدى الروايتين، لأنهما عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها، كالصلاة. والأخرى من حين المسح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بالمسح ثلاثة أيام، فاقتضى أن تكون الثلاثة كلها يمسح فيها. وإن أحدث في الحضر، ثم سافر قبل المسح، أتم مسح مسافر، لأنه بدأ العبادة في السفر. وإن مسح في الحضر، ثم سافر، أو مسح في السفر ثم أقام، أتم مسح مقيم، لأنها عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر، فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكم كالصلاة، وإن مسح المسافر أكثر من يوم وليلة، ثم أقام، انقضت مدته في الحال. وإن شك هل بدأ المسح في الحضر، أو في السفر بنى على مسح الحضر، لأن الأصل الغسل والمسح رخصة، فإذا شككنا في شرطها رجعنا إلى الأصل. وإن لبس وأحدث، وصلى الظهر ثم شك هل مسح قبل الظهر أو بعدها، وقلنا: ابتداء المدة من حين المسح بنى الأمر في المسح على أنه قبل الظهر، وفي الصلاة على أنه مسح بعدها، لأن الأصل بقاء الصلاة، في ذمته، ووجوب غسل الرجل فرددنا كل واحد منهما إلى أصله. فصل: والسنة أن يمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه، فيضع يديه مفرجتي الأصابع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أصابع قدميه، ثم يجرهما إلى ساقيه، لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الخفين على ظاهرهما» ، حديث حسن صحيح. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر خفيه» . رواه أبو داود. فإن اقتصر على مسح الأكثر من أعلاه أجزأه، وإن اقتصر على مسح أسفله لم يجزه لأنه ليس محلا للمسح أشبه الساق. [ فصل في نواقض المسح على الخفين ] فصل: إذا انقضت مدة المسح، أو خلع خفيه، أو أحدهما بعد المسح، بطلت طهارته في أشهر الروايتين، ولزمه خلعهما، لأن المسح أقيم مقام الغسل، فإذا زال بطلت الطهارة في القدمين، فتبطل في جميعها لكونها لا تتبعض. والثانية، يجزئه غسل قدميه، لأنه زال بدل غسلهما فأجزأه المبدل كالمتيمم يجد الماء. وإن أخرج قدمه إلى ساق الخف، بطل المسح، لأن استباحة المسح تعلقت باستقرارهما، فبطلت بزواله كاللبس. وإن مسح على الخف الفوقاني، ثم نزعه، بطل مسحه، ولزمه نزع التحتاني، لأنه زال الممسوح عليه، فأشبه المنفرد. [ فصل في المسح على العمامة ] فصل: في المسح على العمامة: ويجوز المسح على العمامة لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «توضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسح على الخفين والعمامة» . حديث [حسن] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 صحيح. وعن عمرو بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على عمامته وخفيه» . رواهما البخاري. وروى الخلال بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله. ولأن الرأس عضو سقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. ويشترط أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، لأنه جرت العادة بكشفه في العمائم، فعفي عنه بخلاف بعض القدم، ويشترط أن تكون لها ذؤابة أو تكون تحت الحنك، لأن ما لا ذؤابة لها ولا حنك تشبه عمائم أهل الذمة، وقد نهي عن التشبه بهم، فلم تستبح بها الرخصة، كالخف المغصوب، فإن كانت ذات حنك جاز المسح عليها، وإن لم يكن لها ذؤابة، لأنها تفارق عمائم أهل الذمة. وإن أرخى لها ذؤابة، ولم يتحنك، ففيه وجهان: أحدهما: يجوز المسح عليها لذلك. والثاني: لا يجوز، لأنه يروى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط» ، قال أبو عبيد: الاقتعاط أن لا يكون تحت الحنك منها شيء. فصل: وحكمها في التوقيت، واشتراط تقديم الطهارة، وبطلان الطهارة بخلعها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 كحكم الخف لأنها أحد الممسوحين على سبيل البدل، وفيما يجزئه مسحه منها؟ روايتان: إحداهما: مسح أكثرها لما ذكرنا. والثاني: يلزمه استيعابها، لأنها بدل من جنس المبدل، فاعتبر كونه مثله، كما لو عجز عن قراءة الفاتحة، وقدر على قراءة غيرها اعتبر أن يكون بقدرها، ولو عجز عن القراءة فأبدلها بالتسبيح لم يعتبر كونه بقدرها. وإن خلع العمامة بعد مسحها. وقلنا لا يبطل الخلع الطهارة. لزمه مسح رأسه، وغسل قدميه، ليأتي بالترتيب. وإن قلنا بوجوب استيعاب مسح الرأس، فظهرت ناصيته، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه مسحها معه، لأن المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين» . ولأنه جزء من الرأس ظاهر، فلزم مسحه، كما لو ظهر سائر رأسه. والثاني: لا يلزمه، لأن الفرض تعلق بالعمامة، فلم يجب مسح غيرها، كما لو ظهرت أذناه. وإن انتقض من العمامة كور، ففيه روايتان: إحداهما: يبطل المسح لزوال الممسوح عليه. والأخرى: لا يبطل، لأن العمامة باقية، أشبه كشط الخف مع بقاء البطانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فصل: ولا يجوز المسح على الكلوتة ولا وقاية المرأة لأنها لا تستر جميع الرأس، ولا يشق نزعها، فأما القلانس المبطنات، كدنيات القضاة والنوميات، وخمار المرأة، ففيها روايتان: إحداهما: يجوز المسح عليها؛ لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مسح على قلنسوته. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن شاء حسر عن رأسه، وإن شاء مسح على قلنسوته وعمامته. وكانت أم سلمة تمسح على الخمار. وقال الخلال: قد روي المسح على القلنسوة من رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأسانيد صحاح، واختاره لأنه ملبوس للرأس معتاد أشبه العمامة. والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يشق نزع القلنسوة، ولا يشق على المرأة المسح من تحت خمارها، فأشبه الكلوتة والوقاية. [ فصل في المسح على الجبيرة ] فصل: ويجوز المسح على الجبائر الموضوعة على الكسر، لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «انكسرت إحدى زندي فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أمسح عليها» . رواه ابن ماجه، ولأنه ملبوس يشق نزعه، فجاز المسح عليه كالخف، ولا إعادة على الماسح لما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ويشترط أن لا يتجاوز بالشد موضع الحاجة لأن المسح عليها إنما جاز للضرورة، فوجب أن يتقيد الجواز بموضع الضرورة. وتفارق الجبيرة الخف في ثلاثة أشياء: أحدها: أنه يجب مسح جميعها، لأنه مسح للضرورة أشبه التيمم، ولأن استيعابها بالمسح لا يضر بخلاف الخف. الثاني: أن مسحها لا يتوقف، لأنه جاز لأجل الضرورة فيبقى ببقائه. الثالث: أنه يجوز في الطهارة الكبرى، لأنه مسح أجيز للضرورة أشبه التيمم. وفي تقدم الطهارة روايتان: إحداهما: يشترط لأنه حائل منفصل يمسح عليه، أشبه الخف، فإن لبسها على غير طهارة، أو تجاوز بشدها موضع الحاجة، وخاف الضرر بنزعها تيمم لها، كالجريح العاجز عن غسل جرحه. والثانية: لا يشترط، لأنه مسح أجيز للضرورة، فلم يشترط تقدم الطهارة له كالتيمم. فصل: ولا فرق بين الجبيرة على كسر، أو جرح يخاف الضرر بغسله؛ لأنه موضع يحتاج إلى الشد عليه، فأشبه الكسر، ولو وضع على الجرح دواء، وخاف الضرر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بنزعه، مسح عليه، نص عليه. وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة، فألقمها مرارة، فكان يتوضأ عليها. [ باب نواقض الطهارة الصغرى ] وهي ثمانية: الخارج من السبيلين، وهو نوعان: معتاد فينقض بلا خلاف، لقول الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن من غائط وبول ونوم» وقوله: «فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» وقال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» متفق عليه. النوع الثاني: نادر كالحصى والدود والشعر والدم، فينقض أيضا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال للمستحاضة: «تتوضأ عند كل صلاة» رواه أبو داود، ودمها غير معتاد، ولأنه خارج من السبيل، أشبه المعتاد، ولا فرق بين القليل والكثير. فصل: الثاني: خروج النجاسة من سائر البدن، وهو نوعان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 غائط وبول فينقض قليله وكثيره، لدخوله في النصوص المذكورة. الثاني: دم وقيح وصديد وغيره، فينقض كثيره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إنه دم عرق فتوضئي لكل صلاة» رواه الترمذي، فعلل بكونه دم عرق، وهذا كذلك، ولأنها نجاسة خارجة من البدن، أشبهت الخارج من السبيل. ولا ينقض يسيره لقول ابن عباس في الدم: إذا كان فاحشا فعليه الإعادة، قال الإمام أحمد: عدة من الصحابة تكلموا فيه، ابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ، وابن أبي أوفى عصر دملا، وذكر غيرهما، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا. وظاهر مذهب أحمد أنه لا حد للكثير إلا ما فحش، لقول ابن عباس. وقال ابن عقيل: إنما يعتبر الفاحش في نفوس أوساط الناس، لا المتبذلين، ولا الموسوسين، كما رجعنا في يسير اللقطة الذي لا يجب تعريفه إلى ما لا تتبعه نفوس الأوساط. وعن أحمد: أن الكثير شبر في شبر. وعنه: قدر الكف فاحش. وعنه: قدر عشر أصابع كثير، وما يرفعه بأصابعه الخمس يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قال الخلال: والذي استقر عليه قوله: إن الفاحش ما يستفحشه كل إنسان في نفسه. فصل: الثالث: زوال العقل، وهو نوعان: أحدهما: النوم فينقض، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن من غائط وبول ونوم» . وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ» رواه أبو داود. ولأن النوم مظنة الحدث، فقام مقامه كسائر المظان. ولا يخلو من أربع أحوال: أحدها: أن يكون مضجعا أو متكئا أو معتمدا على شيء، فينقض الوضوء قليله وكثيره، لما رويناه. والثاني: أن يكون جالسا غير معتمد على شيء فلا ينقض قليله، لما روى أنس «أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا ينتظرون العشاء فينامون قعودا ثم يصلون، ولا يتوضؤون» رواه مسلم بمعناه. ولأن النوم إنما نقض، لأنه مظنة لخروج الريح من غير علمه، ولا يحصل ذلك ههنا، لأنه يشق التحرز منه لكثرة وجوده من منتظري الصلاة، فعفي عنه، وإن كثر واستثقل، نقض، لأنه لا يعلم بالخارج مع استثقاله ويمكن التحرز منه. الحال الثالث: القائم، ففيه روايتان: إحداهما: إلحاقه بحالة الجلوس، لأنه في معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 والثانية: ينقض يسيره، لأنه لا يتحفظ حفاظ الجالس. الرابع: الراكع والساجد، وفيه روايتان: أولاهما: أنه كالمضطجع لأنه ينفرج محل الحدث، فلا يتحفظ، فأشبه المضطجع. والثانية: أنه كالجالس، لأنه على حال من أحوال الصلاة، أشبه الجالس. والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف، ما عد كثيرا فهو كثير، وما لا فلا، لأنه لا حد له في الشرع فيرجع فيه إلى العرف، كالقبض والإحراز، وإن تغير عن هيئته انتقض وضوءه لأنه دليل على كثرته استثقال فيه. النوع الثاني: زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر ينقض الوضوء، لأنه لما نص على نقضه بالنوم نبه على نقضه بهذه الأشياء، لأنها أبلغ في إزالة العقل، ولا فرق بين الجالس وغيره، والقليل والكثير، لأن صاحب هذه الأمور لا يحس بحال، بخلاف النائم فإنه إذا نبه انتبه، وإن خرج منه شيء قبل استثقاله في نومه أحس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فصل: الرابع: أكل لحم الجزور فينقض الوضوء، لما روى جابر بن سمرة «أن رجلا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: " إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ " قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: " نعم توضأ من لحوم الإبل» رواه مسلم. قال أبو عبد الله: فيه حديثان صحيحان عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حديث البراء بن عازب، وجابر بن سمرة. ولا فرق بين قليله وكثيره، ونيئه ومطبوخه، لعموم الحديث. وعنه في من أكل وصلى ولم يتوضأ: إن كان يعلم أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بالوضوء منه، فعليه الإعادة، وإن كان جاهلا فلا إعادة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وفي اللبن روايتان: إحداهما: لا ينقض؛ لأنه ليس بلحم. والثانية: ينقض، لما روى أسيد بن حضير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توضؤوا من لحوم الإبل وألبانها» رواه أحمد في المسند. وفي الكبد والطحال، وما لا يسمى لحما وجهان: أحدهما: لا ينقض؛ لأنه ليس بلحم. والثاني: ينقض، لأنه من جملته، فأشبه اللحم، وقد نص الله على تحريم لحم الخنزير فدخل فيه سائر أجزائه. ولا ينقض الوضوء مأكول غير لحم الإبل، ولا ما غيرت الناس لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لحم الغنم: «وإن شئت فلا توضأ» ويروى أن آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ترك الوضوء مما غيرت النار» . رواه أبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فصل: والخامس: لمس الذكر فيه ثلاث روايات: إحداهن: لا ينقض [الوضوء] ، لما روى قيس بن طلق [عن أبيه] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سئل عن الرجل يمس ذكره، وهو في الصلاة. قال: " هل هو إلا بضعة منك» رواه أبو داود. ولأنه جزء من جسده، أشبه يده. والثانية: ينقض وهي أصح، لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» . قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو حديث صحيح. وروى أبو هريرة نحوه، وهو متأخر عن حديث طلق، لأن في حديث طلق أنه قدم، وهم يؤسسون المسجد، وأبو هريرة قدم حين فتحت خيبر فيكون ناسخا له. والثالثة: إن قصد إلي مسه نقض، ولا ينقض من غير قصد، لأنه لمس فلم ينقض بغير قصد كلمس النساء. وفي لمس حلقة الدبر، ومس المرأة فرجها روايتان: إحداهما: لا ينقض لأن تخصيص الذكر بالنقض دليل على عدمه من غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 والثانية: ينقض، لأن أبا أيوب وأم حبيبة قالا: سمعنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» قال أحمد: حديث أم حبيبة صحيح. وهذا عام؛ ولأنه سبيل فأشبه الذكر. وحكم لمسه فرج غيره حكم لمس فرج نفسه صغيرا كان أو كبيرا، لأن نصه على نقض الوضوء بمس ذكر نفسه، ولم يهتك به حرمة وهذا تنبيه على نقضه بمسه من غيره. وفي مس الذكر المقطوع وجهان: أحدهما: لا ينقض كمس يد المرأة المقطوعة. والآخر: ينقض، لأنه مس ذكر. وإن انسد المخرج وانفتح غيره لم ينقض مسه، لأنه ليس بفرج. ولا ينقض مس فرج البهيمة، لأنه لا حرمة لها، ولا مس ذكر الخنثى المشكل، ولا قبله، لأنه لا يتحقق كونه فرجا. وإن مسهما معا نقض لأن أحدهما فرج. وإن مس رجل ذكره لشهوة نقض، لأنه إن كان ذكرا فقد مس ذكره، وإن كانت امرأة فقد مسها لشهوة. وإن مست امرأة قبله لشهوة فكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 لما ذكرنا. واللمس الذي ينقض هو اللمس بيده إلى الكوع، ولا فرق بين ظهر الكف وبطنه، لأن أبا هريرة روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ» من " المسند "، ورواه الدارقطني بمعناه. واليد المطلقة تتناول اليد إلى الكوع لما نذكره في التيمم. ولا ينقض غير الفرج كالعانة والأنثيين وغيرهما، لأن تخصيص الفرج به دليل على عدمه فيما سواه. فصل: السادس: لمس النساء وهو أن تمس بشرته بشرة أنثى، وفيه ثلاث روايات: إحداهن: ينقض بكل حال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] الثانية: لا ينقض لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل عائشة ثم صلى ولم يتوضأ» . رواه أبو داود، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «فقدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعلت أطلبه فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد» . رواه النسائي ومسلم. ولو بطل وضوءه لفسدت صلاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 والثالثة: هي ظاهر المذهب أنه ينقض إذا كان لشهوة، ولا ينقض لغيرها جمعا بين الآية والأخبار، ولأن اللمس ليس بحدث، إنما هو داع إلى الحدث، فاعتبرت فيه الحالة التي تدعو فيها إلى الحدث كالنوم. ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة، وذوات المحارم وغيرهن، لعموم الأدلة فيه. وإن لمست امرأة رجلا ففيه روايتان: إحداهما: أنها كالرجل، لأنها ملامسة توجب طهارة فاستوى فيها الرجل والمرأة كالجماع. والثانية: لا ينقض وضوءها، لأن النص لم يرد فيها، ولا يصح قياسها على المنصوص، لأن اللمس منه أدعى إلى الخروج. وهل ينقض وضوء الملموس؟ فيه روايتان. وإن لمس سن امرأة أو شعرها أو ظفرها لم ينقض وضوءه. لأنه لا يقع عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الطلاق بإيقاعه عليه، وإن لمس عضوا مقطوعا، لم ينقض وضوءه، لأنه لا يقع عليه اسم امرأة، وإن مس غلاما أو بهيمة أو مست امرأة امرأة، لم ينقض الوضوء، لأنه ليس محلا لشهوة الآخر شرعا. فصل: السابع: الردة عن الإسلام، وهو أن ينطق بكلمة الكفر، أو يعتقدها، أو يشك شكا يخرجه عن الإسلام، فينتقض وضوءه لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ولأن الردة حدث لقول ابن عباس: الحدث حدثان وأشدهما حدث اللسان. فيدخل في عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» متفق عليه. ولأنها طهارة من حدث، فأبطلتها الردة كالتيمم. فصل: الثامن: غسل الميت. عده أصحابنا من نواقض الوضوء، لأن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء. وقال أبو هريرة: أقل ما فيه الوضوء، لأنه مظنة لمس الفرج فأقيم مقامه كالنوم مع الحدث. ولا فرق بين الميت المسلم، والكافر، والصغير والكبير في ذلك، لعموم الأمر والمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب، فإنه قال: أحب إلي أن يتوضأ. وعلل نفي وجوب الغسل من غسل الميت بكون الحديث موقوفا على أبي هريرة والوضوء كذلك، ولأنه ليس بمنصوص عليه، ولا هو في معنى المنصوص، والأصل عدم وجوبه، فيبقى عليه، وما عدا هذا لا ينقض بحال. فصل: ومن تيقن الطهارة وشك هل أحدث أم لا فهو على طهارته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه هل خرج شيء أو لم يخرج؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» رواه مسلم والبخاري، ولأن اليقين لا يزال بالشك. وإن تيقن الحدث، شك في الطهارة، فهو محدث لذلك. وإن تيقنهما، وشك في السابق منهما نظر في حاله قبلهما فإن كان متطهرا فهو محدث الآن لأنه تيقن زوال تلك الطهارة، بحدث وشك هل زال أم لا، فلم يزل يقين الحدث بشك الطهارة، وإن كان قبلهما محدثا، فهو الآن متطهر لما ذكرنا في التي قبلها. فصل: ولا تشترط الطهارتان معا إلا لثلاثة أشياء: الصلاة: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» . والطواف: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام» رواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الشافعي في مسنده. ومس المصحف: لقول الله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] . وفي كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» رواه الأثرم. ولا بأس بحمله في كمه أو بعلاقته، وتصفحه بعود، لأنه ليس بمس له، ولذلك لو فعله بامرأة لم ينتقض وضوءه. وإن مس المحدث كتاب فقه، أو رسالة فيها آي من القرآن جاز لأنه لا يسمى مصحفا، والقصد منه غير القرآن، ولذلك «كتب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قيصر في رسالته: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية» متفق عليه. وكذلك إن مس ثوبا مطرزا بآية من القرآن. وإن مس درهما مكتوبا عليه آية فكذلك في أحد الوجهين لما ذكرنا. والثاني: لا يجوز لأنه معظم ما فيه من القرآن. وفي مس الصبيان ألواحهم، وحملها على غير طهارة وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنهم محدثون، فأشبهوا البالغين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 والثاني: يجوز؛ لأن حاجتهم ماسة إلى ذلك ولا تتحفظ طهارتهم، فأشبه الدرهم. ومن كان طاهرا وبعض أعضائه نجس فمس المصحف بالعضو الطاهر جاز، لأن حكم النجاسة لا يتعدى محلها بخلاف الحدث. فصل: ويستحب تجديد الطهارة، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ لكل صلاة» طلبا للفضل. رواه البخاري. " «وصلى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد» ليبين الجواز. رواه مسلم. [ باب آداب التخلي ] يستحب لمن أراد قضاء الحاجة أن يقول: بسم الله. لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 يقول: بسم الله» رواه ابن ماجه والترمذي. ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان إذا دخل الخلاء قال ذلك. متفق عليه. فإذا خرج قال: «غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» " لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك» حديث حسن. وعن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج من الخلاء قال: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» رواه ابن ماجه، ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج، لأن اليسرى للأذى واليمنى لما سواه، ويضع ما فيه ذكر الله أو قرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 صيانة له، فإذا كان ذلك دراهم، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرجو أن لا يكون به بأس. قال: والخاتم فيه اسم الله يجعله في بطن كفه، ويدخل الخلاء. فصل: وإن كان في الفضاء أبعد لما روى جابر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد» . ويستتر عن العيون، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره» . ويرتاد لبوله مكانا رخوا لئلا يترشش عليه. ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض» أخرج هذه الأحاديث الثلاثة أبو داود. ويبول قاعدا لأنه أستر له، وأبعد من أن يترشش عليه. فصل: ولا يجوز استقبال القبلة في الفضاء بغائط ولا بول، لما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا ". قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله» ، متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وفي استدبارها روايتان: إحداهما: لا يجوز، لهذا الحديث. والأخرى: يجوز، لما روى ابن عمر قال: «رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسا على حاجته، مستقبل الشام، مستدبر الكعبة.» متفق عليه. وفي استدبارها في البنيان روايتان: إحداهما: لا يجوز لعموم النهي. والثانية: يجوز، لما روى عراك بن مالك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «ذكر عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: " أو قد فعلوها؟ ‍‍! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ استقبلوا بمقعدتي القبلة» رواه الإمام أحمد وابن ماجه. قال أحمد: أحسن حديث يروى في الرخصة حديث عراك، وإن كان مرسلا فإن مخرجه حسن. سماه مرسلا، لأن عراكا لم يسمع من عائشة. وعن مروان الأصفر أنه قال: «أناخ ابن عمر بعيره مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليه فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس» . رواه أبو داود. ويكره أن يستقبل الشمس والقمر تكريما لهما، وأن يستقبل الريح لئلا ترد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 البول عليه. فصل: ويكره أن يبول في شق أو ثقب، لما روى عبد الله بن سرجس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى أن يبال في الجحر» رواه أبو داود. ولأنه لا يأمن أن يكون مسكنا للجن، أو يكون فيه دابة تلسعه، ويكره البول في طريق أو ظل ينتفع به، أو مورد ماء، لما روى معاذ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل» رواه أبو داود، ويكره البول في موضع تسقط فيه الثمرة لئلا تتنجس به، والبول في المغتسل، لما روى عبد الله بن مغفل قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبول الرجل في مغتسله» رواه ابن ماجه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن صب عليه الماء فجرى في البالوعة فذهب فلا بأس. فصل: يكره أن يتكلم على البول أو يسلم، أو يذكر الله تعالى بلسانه «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم عليه رجل، وهو يبول، فلم يرد عليه حتى توضأ ثم قال: " كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. ويكره الإطالة أكثر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الحاجة، لأنه يقال: إن ذلك يدمي الكبد، ويأخذ منه الباسور. ويتوكأ في جلوسه على الرجل اليسرى، لما روى سراقة بن مالك قال: «علمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى، وننصب اليمنى.» رواه الطبراني في معجمه، ولأنه أسهل لخروج الخارج، ويتنحنح ليخرج ما تم، ثم يسلت من أصل ذكره فيما بين المخرجين، ثم ينتره برفق ثلاثا فإذا أراد الاستنجاء تحول من موضعه لئلا يرش على نفسه. فصل: والاستنجاء واجب من كل خارج من السبيل معتادا كان أو نادرا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» وقال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه» رواه أبو داود عن ابن أبي أوفى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والنسائي وأحمد والدارقطني وقال: إسناده حسن صحيح. ولأن المعتاد نجاسة لا مشقة في إزالتها فلم تصح الصلاة معها كالكثير، والنادر لا يخلو من رطوبة تصحبه غالبا، ولا يجب من الريح، لأنها ليست نجسة، ولا يصحبها نجاسة، وقد روي: «من استنجى من الريح فليس منا» رواه الطبراني في المعجم الصغير. فصل: وإن تعدت النجاسة المخرج بما لم تجر العادة به، كالصفحتين ومعظم الحشفة لم يجزئه إلا الماء، لأن ذلك نادر، فلم يجز فيه المسح، كيده وإن لم يتجاوز قدر العادة جاز بالماء والحجر، نادرا كان أو معتادا، لحديث ابن أبي أوفى، ولأن النادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 خارج يوجب الاستنجاء أشبه المعتاد. والأفضل الجمع بين الماء والحجر يبدأ بالحجر، لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول، فإني أستحييهم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يفعله» . حديث صحيح. ولأنه أبلغ في الإنقاء وأنظف. ولأن الحجر يزيل عين النجاسة، فلا تباشرها يده، فإن اقتصر على أحدهما جاز، والماء أفضل، لأن أنسا قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج لحاجة أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء، يعني: يستنجي به» متفق عليه. ولأنه يزيل عين النجاسة وأثرها، ويطهر المحل. وإن اقتصر على الحجر أجزأ بشرطين: أحدهما: الإنقاء وهو أن لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء بحيث يخرج الآخر نقيا. والثاني: استيفاء ثلاثة أحجار، لقول سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لقد نهانا - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم» . رواه مسلم. وإن كان الحجر كبيرا فمسح بجوانبه ثلاث مسحات أجزأه. ذكره الخرقي، لأن المقصود عدد المسحات دون عدد الأحجار بدليل أنا لم نقتصر على الأحجار بل عديناه إلى ما في معناه من الخشب والخرق. وقال أبو بكر لا يجزئه اتباعا للفظ الحديث، وقال: لا يجزئه الاستجمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 بغير الأحجار، لأن الأمر ورد بها على الخصوص، ولا يصح، لأن في سياقه «وأن نستنجي برجيع أو عظم» فيدل على أنه أراد الحجر، وما في معناه، ولولا ذلك لم يخص هذين بالنهي، وروى طاوس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاثة حثيات من تراب» رواه الدارقطني. ولأنه نص على الأحجار لمعنى معقول، فيتعداه الحكم كنصه على الغضب في منع القضاء. فصل: ويجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منق، غير مطعوم، لا حرمة له، ولا متصل بحيوان، فيدخل فيه الحجر، وما قام مقامه من الخشب والخرق والتراب، ويخرج منه المائع، لأنه يتنجس بإصابة النجاسة، فيزيد المحل تنجسا، ويخرج منه النجس، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ألقى الروثة، وقال: «إنها ركس» رواه البخاري. ولأنه يكسب المحل نجاسة. فإن استجمر به، والمحل رطب، لم يجزه الاستجمار بعده، لأن المحل صار نجسا بنجاسة واردة عليه، فلزم غسله، كما لو تنجس بذلك في حال طهارته، ويخرج ما لا ينقي كالزجاج والفحم الرخو لأن الإنقاء شرط، ولا يحصل به، ويخرج المطعومات والروث والرمة، وإن كانا ظاهرين لما روى ابن مسعود أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال: «لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن» رواه مسلم. علل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 النهي بكونه زادا للجن فزادنا أولى. ويخرج ما له حرمة كالورق المكتوب، لأن له حرمة، أشبه المطعوم، ويخرج منه ما يتصل بحيوان، كيده، وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها، لأنه ذو حرمة، فأشبه سائر أعضاءها. وإن استجمر بما نهي عنه لم يصح، لأن الاستجمار رخصة فلا تستباح بالمحرم كسائر الرخص. فصل: ولا يستجمر بيمينه، ولا يستعين بها فيه، لحديث سلمان وروى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه» متفق عليه. فيأخذ ذكره بيساره، ويمسح به الحجر أو الأرض، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 كان الحجر صغيرا أمسكه بعقبيه، أو بإبهامي قدميه، فمسح عليه، فإن لم يمكنه، أخذ الحجر بيمينه، والذكر بيساره، فمسحه على الحجر. ولا يكره الاستعانة باليمنى في الماء، لأن الحاجة داعية إليه، فإذا استجمر بيمينه أجزأه، لأن الاستجمار بالحجر لا باليد، فلم يقع النهي على ما يستنجى به. فصل: وكيف حصل الإنقاء في الاستجمار أجزأه إلا أن المستحب أن يمر حجرا من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها، ثم يمره على صفحته اليسرى حتى يرجع به إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك، ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحتين، وحجرا للمسربة» رواه الدارقطني، وقال إسناد حسن. ويبدأ بالقبل لينظفه لئلا تتنجس يده به عند الاستجمار في الدبر، والمرأة مخيرة في البداءة بأيهما شاءت لعدم ذلك فيها. فصل: فإن توضأ قبل الاستنجاء ففيه روايتان: إحداهما: لا يجزئه، لأنها طهارة يبطلها الحدث، فاشترط تقديم الاستنجاء عليها كالتيمم. والثانية: يصح لأنها نجاسة فلم يشترط تقديم إزالتها كالتي على ساقه، فعلى هذه الرواية إن قدم التيمم على الاستجمار ففيه وجهان: أحدهما: يصح قياسا على الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 والثاني: لا يصح لأنه لا يرفع الحدث، وإنما تستباح به الصلاة، فلا تباح مع قيام المانع. وإن تيمم وعلى بدنه نجاسة في غير الفرج، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح قياسا على نجاسة الفرج. والثاني: يصح لأنها نجاسة لم توجب التيمم فلم تمنع صحته كالتي على ثوبه. [ باب ما يوجب الغسل ] والموجب له في حق الرجل ثلاثة أشياء: الأول: إنزال المني، وهو الماء الدافق تشتد الشهوة عند خروجه، ويفتر البدن بعده. وماء الرجل أبيض ثخين، وماء المرأة أصفر رقيق، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر» رواه مسلم. فيجب الغسل بخروجه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 النوم واليقظة، «لأن أم سليم قالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : " نعم إذا رأت الماء» متفق عليه. فإن خرج لمرض من غير شهوة لم يوجب، لأن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وصف المني الموجب بأنه غليظ أبيض، ولا يخرج في المرض إلا رقيقا. فإن احتلم فلم ير بللا فلا غسل عليه، لحديث أم سليم. وإن رأى منيا ولم يذكر احتلاما فعليه الغسل، لما روت عائشة قالت: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر احتلاما، فقال: " يغتسل» ". «وسئل عن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال: " لا غسل عليه» رواه أبو داود. فإن وجد منيا في ثوب ينام فيه هو وغيره، فلا غسل عليه، لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك. وإن لم يكن ينام فيه غيره، وهو ممن يمكن أن يحتلم كابن اثني عشر سنة فعليه الغسل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وإعادة الصلاة من أحدث نومة نامها، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى في ثوبه منيا بعد أن صلى، فاغتسل وأعاد الصلاة. فصل: والمذي: ماء رقيق يخرج بعد الشهوة متسببا لا يحس بخروجه، فلا غسل فيه، ويجب منه الوضوء، لما روى سهل بن حنيف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت ألقى من المذي شدة وعناء، فكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسألته عنه، فقال: " يجزيك من ذلك الوضوء» ، حديث صحيح. وهل يوجب غسل الذكر والأنثيين؟ على روايتين: إحداهما: لا يوجب، لحديث سهل. والثانية: يوجب لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت رجلا مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته، فأمرت المقداد فسأله، فقال: " يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ» رواه أبو داود. والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، فليس فيه إلا الوضوء، لأن الشرع لم يرد فيه بزيادة عليه. فإن خرج منه شيء ولم يدر، أمنى هو أو غيره؟ في يقظة فلا غسل فيه، لأن المني الموجب للغسل يخرج دفقا بشهوة، فلا يشتبه بغيره، وإن كان في نوم، وكان نومه عقيب شهوة بملاعبة أهله، أو تذكر فهو مذي، لأن ذلك سبب المذي، والظاهر أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 مذي، وإن لم يكن كذلك اغتسل، لحديث عائشة في الذي يجد البلل، ولأن خروج المني في النوم معتاد، وغيره نادر، فحمل الأمر على المعتاد. فصل: وإن أحس بانتقال المني من ظهره، فأمسك ذكره فلم يخرج، ففيه روايتان: إحداهما: لا غسل عليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأت الماء» . والثانية: يجب، لأنه خرج من مقره، أشبه ما لو ظهر. فإن اغتسل فخرج بعد ذلك، وجب الغسل على الرواية الأولى، لأن الواجب متعلق بخروجه، ولم يجب على الثانية، لأنه تعلق بانتقاله، وقد اغتسل له. وعنه: إن خرج قبل البول، وجب الغسل، لأنا نعلم أنه المني المنتقل، فإن خرج بعده لم يجب لأنه يحتمل أنه غيره، وهو خارج لغير شهوة، وفي فضلة المني الخارجة بعد الغسل الروايات الثلاث. فصل: والثاني: التقاء الختانين، وهو تغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل وإن عري عن الإنزال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جلس بين شعبها الأربع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ومس الختان الختان فقد وجب الغسل» رواه مسلم. وختان الرجل: الجلدة التي تبقى بعد الختان، وختان المرأة، جلدة كعرف الديك في أعلى الفرج يقطع منها في الختان، فإذا غابت الحشفة في الفرج تحاذى ختاناهما فيقال: التقيا وإن لم يتماسا. ويجب الغسل في الإيلاج في كل فرج، قبل أو دبر، من آدمي، أو بهيمة، حي أو ميت، لأنه فرج أشبه قبل المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فإن أولج من قبل الخنثى المشكل، فلا غسل عليهما لأنه لا يتيقن كونه فرجا فلا يجب الغسل بالشك. فصل: والثالث: إسلام الكافر وفيه روايتان: إحداهما: يوجب الغسل، اختارها الخرقي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ثمامة بن أثال، وقيس بن عاصم أن يغتسلا حين أسلما، ولأن الكافر لا يسلم من حدث لا يرتفع حكمه باغتساله، فقامت مظنة ذلك مقامه، ولا يلزمه أن يغتسل للجنابة، لأن الحكم تعلق بالمظنة، فسقط حكم المظنة كالمشقة في السفر. والثانية: لا غسل عليه اختارها أبو بكر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ: «إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات» متفق عليه. ولم يأمرهم بالغسل، ولو كان أول الفروض لأمر به، ولأنه أسلم العدد الكثير، والجم الغفير، فلو أمروا بالغسل لنقل نقلا متواترا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فإن أجنب في حال كفره احتمل أن لا يجب الغسل عليه لما ذكرناه، واحتمل أن يجب، وهو قول أبي بكر، لأن حكم الحدث باق. فصل: فأما المرأة فيجب من حقها الأغسال المذكورة، وتزيد بالغسل من الحيض، والنفاس، ونذكره في بابه. ولا يجب الغسل بالولادة العارية عن دم، لأن الإيجاب من الشرع، ولم يوجب لها، ولا هي في معنى المنصوص عليه. وعنه يجب بها، لأنها لا تكاد تعرى من نفاس موجب، فكانت مظنة له، فأقيمت مقامه كاتقاء الختانين مع الإنزال. فصل: ولا يجب الغسل بغير ذلك، من غسل ميت، أو إفاقة مجنون، أو مغمى عليه، لما ذكرناه. [ فصل فيما يحرم على الجنب ] فصل: ومن لزمه الغسل حرم عليه ما حرم على المحدث، ويحرم عليه قراءة آية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فصاعدا، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه. أو قال: يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة» . رواه أبو داود. وفي بعض آية روايتان: إحداهما: يحرم قراءته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن» رواه أبو داود. والأخرى: يجوز، لأن الجنب لا يمنع من قول: بسم الله، والحمد لله، وذلك بعض آية. فصل: ويحرم عليه اللبث في المسجد لقول الله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، يعني مواضع الصلاة. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب» رواه أبو داود. ولا يحرم العبور في المسجد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «ناوليني الخمرة من المسجد " قالت: إني حائض، قال: " إن حيضتك ليست في يدك» . قال بعض أصحابنا: إذا توضأ الجنب حل له اللبث في المسجد، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كان أحدهم إذا أراد أن يتحدث في المسجد وهو جنب، توضأ ثم دخل فجلس فيه، ولأن الوضوء يخفف بعض حدثه فيزول بعض ما منعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فصل: ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة، لما روى ابن عمر «أن عمر قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: " نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد» متفق عليه. ويستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يعود للجماع، ويغسل فرجه، فأما الحائض فلا يستحب لها شيء من ذلك، لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها، ولا يصح منها. [ باب صفة الغسل من الجنابة ] باب الغسل من الجنابة وهي على ضربين: كامل، ومجزئ. الضرب الأول: الكامل، يأتي فيه بتسعة أشياء: النية، وهو أن ينوي الغسل للجنابة، أو استباحة ما لا يستباح إلا بالغسل، كقراءة القرآن، واللبث في المسجد ثم يسمي، ثم يغسل يديه ثلاثا قبل إدخالهما الإناء. ثم يغسل ما به من أذى، ويغسل فرجه وما يليه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات يروي بها أصول شعره، ويخلله بيده، ثم يفيض الماء على سائر جسده، ثم يدلك بدنه بيده، وإن توضأ إلا غسل رجليه، ثم غسل قدميه آخرا، فحسن. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغسل من الجنابة على حديث عائشة، يعني قولها: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل شعره بيديه، حتى إذا ظن أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده» . وقالت ميمونة: «وضع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوء الجنابة، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا، ثم تمضمض، واستنشق، وغسل وجهه، وذراعيه، ثم أفاض على رأسه، ثم غسل جسده، فأتيته بالمنديل فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده» . متفق عليهما. الضرب الثاني: المجزئ، وهو أن ينوي، ويعم بدنه وشعره بالغسل، والتسمية ههنا كالتسمية في الوضوء فيما ذكرنا، ويجب إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر وإن كان كثيفا، لحديث عائشة، ولا يجب نقضه إن كان مضفورا؛ لما روت أم سلمة قالت: «قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: " لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» رواه مسلم، ولا ترتيب الغسل، لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ولم يقدم بعض البدن على بعض لكن يستحب البداءة بما ذكرناه، والبداءة بغسل الشق الأيمن، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب التيامن في طهوره، ولا موالاة فيه، لأنه طهارة لا ترتيب فيها فلم يكن فيها موالاة كغسل النجاسة. فصل: فأما غسل الحيض، فهو كغسل الجنابة سواء إلا أنه يستحب لها أن تأخذ شيئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 من المسك أو طيب أو غيره، فتتبع به أثر الدم، ليزيل [زفورته] لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله عن الغسل من الحيض، فقال: " خذي فرصة من مسك، فتطهري بها " فقالت: كيف أتطهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بها؟ فقالت عائشة: قلت: تتبعي بها أثر الدم» . رواه مسلم. فإن لم تجد مسكا فغيره من الطيب، فإن لم تجد فالماء كاف. وهل عليها نقض شعرها للغسل منه؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يجب، لأنه غسل واجب أشبه الجنابة. والثانية: يجب، ليتيقن وصول الماء إلى ما تحته، وإنما عفي عنه في الجنابة، لأنه يتكرر فيشق النقض فيه، بخلاف الحيض. فصل: والأفضل تقديم الوضوء على الغسل، للخبر الوارد، فإن اقتصر على الغسل ونواهما أجزأه عنهما لقول الله تعالى: [ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ولم يأمر بالوضوء معه] ، ولأنهما عبادتان من جنس: صغرى وكبرى، فدخلت الصغرى في الكبرى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الأفعال دون النية، كالحج، والعمرة. وعنه: لا يجزئه عن الحدث الأصغر حتى يتوضأ، لأنهما نوعان يجبان بسببين، فلم يدخل إحداهما في الآخر، كالحدود. وإن نوى إحداهما دون الأخرى، فليس له غيرها، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» . فصل: ويجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا، ويتوضآ من إناء واحد، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل هو وزوجته من إناء واحد، يغرفان منه جميعا» ، متفق عليه. وقال ابن عمر: «كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد» ، رواه أبو داود، ويجوز للمرأة التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة، وللرجل التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة ما لم تخل به. فإن خلت به، ففيه وجهان: إحداهما: يجوز أيضا، لما روت ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أجنبت فاغتسلت من جفنة، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليغتسل منه، فقلت: إني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 اغتسلت منه فقال: " إن الماء ليس عليه جنابة» رواه أبو داود، ولأنه ماء لم ينجس، ولم يزل عن إطلاقه، فأشبه فضله الرجل. والثانية: لا يجوز للرجل التطهر به، لما روى الحكم بن عمرو قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة» ، حديث حسن. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جماعة من الصحابة كرهوه ذكر منهم ابن عمر وعبد الله بن سرجس، وخص ما خلت به، لقول عبد الله بن سرجس: توضأ أنت ههنا، وهي ههنا، فأما إذا خلت به فلا تقربنه. ومعنى الخلوة: أن لا يشاهدها إنسان تخرج بحضوره عن الخلوة في النكاح. وذكر القاضي أنها لا تخرج عن الخلوة ما لم يشاهدها رجل. وإنما تؤثر خلوتها في الماء اليسير، لأن النجاسة لا تؤثر في الكثير، فهذا أولى. ولا يخرج الماء الذي خلت به المرأة عن إطلاقه. بل يجوز للنساء التطهر به من الحدث والنجاسة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وللرجل إزالة النجاسة به، لأن منع الرجل من الوضوء به تعبد، فوجب قصره على مورده. وذكر القاضي أنه لا يزيل النجاسة، لأن ما لا يرفع الحدث لا يزيل النجس، كالخل. وهذا لا يمكن القول بموجبه، فإن هذا يرفع حدث المرأة بخلاف الخل. [ باب التيمم ] التيمم طهارة بالتراب يقوم مقام الطهارة بالماء عند العجز عن استعماله، لعدم، أو مرض، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وروى عمار قال: «أجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فذكرت ذلك له فقال: " إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا " ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه , ووجهه» . متفق عليه. والسنة في التيمم أن يضرب بيديه على الأرض ضربة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 واحدة، ثم يمسح بهما وجهه، ويديه إلى الكوعين، للخبر، ولأن الله تعالى أمر بمسح اليدين. واليد عند الإطلاق في الشرع تتناول اليد إلى الكوع، بدليل قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وإن مسح يديه إلى المرفقين، فلا بأس، لأنه قد روي عن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وسواء فعل ذلك بضربتين أو أكثر. ويستحب تفريق أصابعه عند الضرب ليدخل الغبار فيما بينهما، وإن كان التراب ناعما فوضع اليدين عليه وضعا أجزأه، ويمسح جميع ما يجب غسله من الوجه، مما لا يشق، مثل باطن الفم، والأنف، وما تحت الشعور الخفيفة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] وكيفما مسح بعد أن يستوعب الوجه والكفين إلى الكوعين، جاز لأن المستحب في الضربة الواحدة أن يمسح وجهه بباطن أصابع يديه، وظاهر كفيه بباطن راحتيه، وإن مسح بضربتين، مسح بأولاهما وجهه، وبالثانية يديه، فإن مسح إلى المرفقين، وضع بطون أصابع اليسرى على ظهور أصابع اليمنى، ثم يمرهما إلى مرفقيه، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، ويمر عليه، ويرفع إبهامه، فإن بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى ثم مسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك، ثم مسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين أصابعه، وإن يممه غير جاز، كما يجوز أن يوضئه. وإن أثارت الريح عليه ترابا، فمسح وجهه بما على يديه جاز، وإن مسح وجهه بما عليه لم يجز، لأن الله تعالى أمر بقصد الصعيد والمسح به، ويحتمل أن يجزئه إذا صمد للريح، لأنه بمنزلة مسح غيره له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 [ فصل في فرائض التيمم ] فصل: وفرائض التيمم: النية، لما ذكرنا في الوضوء، ومسح الوجه والكفين، للأمر به، وترتيب اليدين على الوجه قياسا على الوضوء، وفي التسمية والموالاة روايتان، كالوضوء. فأما النية، فهو أن ينوي استباحة ما لا يباح إلا به، فإن نوى صلاة مكتوبة أبيح له سائر الأشياء لأنه تابع لها، فيدخل في نية المتبوع، وإن نوى نفلا أو صلاة مطلقة، لم يبح له الفرض، لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما تستباح به الصلاة، فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه، وله قراءة القرآن لأن النافلة تتضمن القرآن، وليس له الجنازة المتعينة، لأنها فرض ولو كانت نفلا فله فعلها. وإن نوى قراءة القرآن لم يكن له التنفل لأنه أعلى. فإن نوى رفع الحدث لم يجزئه. لأن التيمم لا يرفع الحدث. وعنه: ما يدل على أنه يرفع الحدث، فيكون حكمه حكم الوضوء في نيته. ولا بد له من تعيين ما يتيمم له من الحدث الموجب للغسل، أو الوضوء أو النجاسة، فإن تيمم للحدث ونسي الجنابة، أو الجنابة ونسي الحدث، لم يجزئه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنما لكل امرئ ما نوى» ولأن ذلك لا يجزئ في الماء وهو الأصل، ففي البدل أولى. [ فصل فيما يباح بالتيمم ] فصل: ويجوز التيمم عن جميع الأحداث لظاهر الآية، وحديث عمار وروى عمران بن حصين «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم، فقال: " يا فلان، ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 منعك أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء عندي، قال: عليك بالصعيد فإنك يكفيك» متفق عليه. ويجوز التيمم للنجاسة على البدن، لأنها طهارة مشترطة للصلاة، فناب فيها التيمم، كطهارة الحدث. واختار أبو الخطاب أنه يلزمه الإعادة إذا تيمم لها عند عدم الماء. وقيل في وجوب الإعادة روايتان: إحداهما: لا يجب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التراب كافيك ما لم تجد الماء» وقياسا على التيمم الحدث. والأخرى: تجب الإعادة، لأنه صلى بالنجاسة، فلزمته الإعادة، كما لو تيمم. ولا يجوز التيمم عن النجاسة في غير البدن، لأنها طهارة في البدن فلا تؤثر في غيره كالوضوء. [ فصل في شرائط التيمم ] فصل: ولجواز التيمم ثلاث شروط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أحدها: العجز عن استعمال الماء، وهو نوعان: أحدهما: عدم الماء، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] . ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإن وجدت الماء فأمسه جلدك» رواه أبو داود. النوع الثاني: الخوف على نفسه باستعمال الماء، لمرض أو قرح يخاف باستعمال الماء تلفا أو زيادة مرض أو تباطؤ البرء أو شيئا فاحشا في جسمه، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] ، وقَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] وإن وجد ماء يحتاج إلى شربه للعطش، أو شرب رفيقه أو بهائمه، أو بينه وبينه سبع أو عدو يخافه على نفسه أو ماله، أو خاف على ماله إن تركه وذهب إلى الماء، فله التيمم لأنه خائف الضرر باستعماله، فهو كالمريض. وإن خاف لشدة البرد تيمم وصلى، لما روى عمرو بن العاص قال: «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، ثم قلت سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئا» . رواه أبو داود. ولأنه خائف على نفس، أشبه المريض، ولا إعادة عليه إن كان مسافرا، لما ذكرنا. وإن كان حاضرا ففيه روايتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 إحداهما: لا يلزمه الإعادة لذلك. والثانية: يلزمه، لأنه ليس بمريض، ولا مسافر، فلا يدخل في عموم الآية، ولأن الحضر مظنة إمكان إسخان الماء، فالعجز عنه عذر غير متصل. وإن قدر على إسخان الماء، لزمه كما يلزمه شراء الماء، ومن كان واجدا للماء فخاف فوت الوقت لتشاغله بتحصيله، أو استسقائه لم يبح له التيمم، لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد. وإن خاف فوات الجنازة فليس له التيمم لذلك. وعنه: يجوز، لأنه لا يمكن استدراكها. فصل: والثاني: طلب الماء شرط في الرواية المشهورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، ولا يقال: لم يجد إلا لمن طلب، ولأنه بدل، فلم يجز العدول إليه قبل طلب المبدل، كالصيام في الظهار. وعنه: ليس بشرط، لأنه ليس بواجب قبل الطلب، فيدخل في الآية. وصفة الطلب أن ينظر يمينه، وشماله، وأمامه، ووراءه، وإن كان قريبا من حائل، من ربوة، أو حائط، علاه فنظر حوله. وإن رأى خضرة أو نحوها استبرأها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وإن كان معه رفيق، سأله الماء فإن بذله له لزمه قبوله. لأن المنة لا تكثر في قبوله. وإن وجد ماء يباع بثمن المثل أو بزيادة غير مجحفة بماله، وهو واجد للثمن، غير محتاج إليه، لزمه شراؤه، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة. فإن لم يبذله له صاحبه، لم يكن له أخذه قهرا، وإن استغنى عنه صاحبه، لأن له بدلا، وإن علم بماء قريب، لزمه قصده ما لم يخف على نفسه أو ماله أو فوت الوقت أو الرفقة وإن تيمم ثم رأى ركبا، أو خضرة، أو شيئا يدل على الماء، أو سرابا ظنه ماء قبل الصلاة، لزمه الطلب؛ لأنه وجد دليل الماء، وبطل تيممه، لأنه وجب عليه الطلب، فبطل تيممه، كما لو رأى ماء. وإن رأى الركب ونحوه في الصلاة، لم تبطل؛ لأنه شرع فيها بطهارة متيقنة، فلا يبطلها بالشك. فصل: الثالث: دخول الوقت شرط، لأنه قبل الوقت مستغن عن التيمم، فلم يصح تيممه، كما لو تيمم وهو واجد للماء، وإن كان التيمم لنافلة، لم يجز في وقت النهي عن فعلها، لأنه قبل وقتها، وإن تيمم لفائتة أو نافلة قبل وقت الصلاة، ثم دخل الوقت بطل تيممه، وإن تيمم لمكتوبة في وقتها، فله أن يصليها وما شاء من النوافل قبلها وبعدها، ويقضي فوائت، ويجمع بين الصلاتين، لأنها طهارة أباحت فرضا، فأباحت سائر ما ذكرناه، كالوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ومتى خرج الوقت بطل التيمم في ظاهر المذهب، لأنها طهارة عذر وضرورة، فتقدرت بالوقت كطهارة المستحاضة. وعنه: يصلي بالتيمم حتى يحدث، قياسا على طهارة الماء. فصل: والأفضل تأخير التيمم إلى آخر الوقت إن رجا وجود الماء، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجنب: يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، ولأن الطهارة بالماء فريضة. وأول الوقت فضيلة، وانتظار الفريضة أولى. وإن يئس من الماء، استحب تقديمه لئلا يترك فضيلة متيقنة لأمر غير مرجو. ومتى تيمم وصلى صحت صلاته، ولا إعادة عليه، وإن وجد الماء في الوقت، لما روى عطاء بن يسار، قال: «خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الآخر، ثم أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: " أجزأتك صلاتك " وقال للذي أعاد: " لك الأجر مرتين» رواه أبو داود. وقال: قد روي عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصحيح أنه مرسل، ولأنه أدى فريضة بطهارة، فأشبه ما لو أداها بطهارة الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فإن علم أن في رحله ماء نسيه، فعليه الإعادة، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالنسيان، كما لو نسي عضوا لم يغسله، وإن ضل عن رحله، أو ضل عنه غلامه الذي معه الماء، فلا إعادة عليه، لأنه غير مفرط، وإن وجد بقربه بئرا أو غديرا علامته ظاهرة، أعاد لأنه مفرط في الطلب، وإن كانت أعلامه خفية لم يعد لعدم تفريطه. فصل: وإن وجد ماء لا يكفيه لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنبا، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري. وقال: «إذا وجدت الماء فأمسه جلدك» ولأنه مسح أبيح للضرورة، فلم يبح في غير موضعها كمسح الجبيرة. وإن كان محدثا ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه استعماله لذلك. والآخر: لا يلزمه، لأن الموالاة شرط يفوت بترك غسل الباقي، فبطلت طهارته، بخلاف غسل الجنابة. وإن كان بعض بدنه صحيحا، وبعضه جريحا، غسل الصحيح، وتيمم للجريح جنبا كان أو محدثا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أصابته الشجة: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود، لأن العجز ههنا ببعض البدن، وفي الإعواز العجز ببعض الأصل، فاختلفا، كما أن الحر إذا عجز عن بعض الرقبة في الكفارة، فله العدول إلى الصوم، ولو كان بعضه حرا فملك بنصفه الحر مالا، لزمه التكفير بالمال، ولم تكن كالتي قبلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 [ فصل في مبطلات التيمم ] فصل: ويبطل التيمم بجميع مبطلات الطهارة التي تيمم عنها، لأنه بدل عنها. فإن تيمم لجنابة، ثم أحدث منع ما يمنعه المحدث من الصلاة والطواف، ومس المصحف، لأن التيمم ناب عن الغسل، فأشبه المغتسل إذا أحدث، ويزيد التيمم بمبطلين: أحدهما: القدرة على استعمال الماء سواء وجدت في الصلاة أو قبلها أو بعدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك» دل بمفهومه على أنه ليس بطهور عند وجود الماء، وبمنطوقه على وجوب استعماله عند وجوده، ولأنه قدر على استعمال الماء، فأشبه الخارج من الصلاة. فعلى هذا إن وجده في الصلاة خرج، وتوضأ، واغتسل إن كان جنبا، واستقبل الصلاة، كما لو أحدث في أثنائها. وعنه: إذا وجده في الصلاة لم تبطل، لأنه شرع في المقصود، فأشبه المكفر يقدر على الإعتاق بعد شروعه في الصيام، إلا أن المروذي روي عنه أنه قال: كنت أقول: إنه يمضي ثم تدبرت فإذا أكثر الأحاديث أنه يخرج. وهذا يدل على رجوعه عن هذه الرواية. والثاني: خروج الوقت يبطلها لما ذكرناه، فإن خرج وهو في الصلاة بطل، كما لو أحدث. ومن تيمم وهو لابس خفا أو عمامة، يجوز المسح عليهما، ثم خلع أحدهما، فقد ذكر أصحابنا أنه يبطل تيممه، لأنه من مبطلات الوضوء، ولا يقوى ذلك عندي، لأنها طهارة لم يمسح عليهما، فلم تبطل بخلعهما، كالملبوس على غير طهارة بخلاف الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فصل ويجوز التيمم في السفر الطويل والقصير، وهو ما بين قريتين قريبتين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] ولأن الماء يعدم في القصير غالباً، أشبه الطويل، ويجوز في الحضر للمرض للآية، ولأنه عذر غالب يتصل، أشبه السفر. وإن عدم الماء في الحضر لحبس، تيمم ولا إعادة عليه؛ لأنه في عدم الماء، وعجزه عن طلبه كالمسافر، وأبلغ منه فألحق به، وإن عدمه لغير ذلك، وكان يرجوه قريباً، تشاغل بطلبه ولم يتيمم، وإن كان ذلك يتمادى، تيمم وصلى وأعاد؛ لأنه عذر نادر غير متصل، ويحتمل أن لا يعيد؛ لأنه في معنى عادم الماء في السفر، فألحق به. وإن كان مع المسافر ماء، فأراقه قبل الوقت، أو مر بماء قبل الوقت، فتركه، ثم عدم الماء في الوقت تيمم وصلى ولا إعادة عليه؛ لأنه لم يخاطب باستعماله. وإن كان ذلك في الوقت، ففيه وجهان: أحدهما: تلزمه الإعادة؛ لأنه مفرط. والثاني: لا تلزمه؛ لأنه عادم للماء أشبه ما قبل الوقت. [ فصل فيما يجوز التيمم به ] فصل ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وما لا غبار له لا يمسح شيء منه. وقال ابن عباس: الصعيد تراب الحرث، والطيب: هو الطاهر، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أعطيت ما لم يعط نبي من أنبياء الله تعالى قبلي جعل لي التراب طهوراً» رواه الشافعي في " مسنده " ولو كان غيره طهوراً ذكره فيما من الله به عليه. وعنه: يجوز التيمم بالرمل والسبخة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» رواه البخاري ومسلم، وقال ابن أبي موسى: إن لم يجد غيرهما، تيمم بهما، وإن دق الخزف أو الحجارة، وتيمم به لم يجزئه؛ لأنه ليس بتراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وإن خالط التراب جص، أو دقيق، أو زرنيخ، فحكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات، وإن خالط ما لم يعلق باليد، كالرمل والحصى، لم يمنع التيمم به؛ لأنه لا يمنع وصول الغبار إلى اليد، وإن ضرب بيده على صخرة عليها غبار، أو حائط، أو لبد، فعلا يديه غبار، أبيح التيمم به؛ لأن المقصود التراب الذي يمسح به وجهه ويديه، وقد روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه» رواه أبو داود. ولا بأس أن يتيمم الجماعة من موضع واحد، كما يتوضئون من حوض واحد، وإن تناثر من التراب عن العضو بعد استعماله شيء: احتمل أن يمنع من استعماله مرة ثانية؛ لأنه كالماء المستعمل، واحتمل أن يجوز؛ لأنه لم يرفع حدثاً ولم يزل نجساً، بخلاف الماء. [ فصل في حكم فاقد الطهورين ] فصل فإن عدم الماء والتراب ووجد طيناً، لم يستعمله، وصلى على حسب حاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ولم يترك الصلاة؛ لأن الطهارة شرط، فتعذرها لا يبيح ترك الصلاة، كالسترة، والقبلة، وفي الإعادة روايتان: إحداهما: لا تلزمه؛ لأن الطهارة شرط، فأشبهت السترة والقبلة. والثانية: تلزمه؛ لأنه عذر نادر غير متصل، أشبه نسيان الطهارة. فصل إذا اجتمع جنب، وميت، وحائض، معهم ماء لأحدهم لا يفضل عنه، فهو أحق به، ولا يجوز أن يؤثر به؛ لأنه واجد للماء، فلم يجزئه التيمم، فإن آثر به وتيمم، لم يصح تيممه مع وجوده لذلك، وإن استعمله الآخر، فحكم المؤثر به حكم من أراق الماء، وإن كان الماء لهم، فهم فيه سواء، وإن وجدوه، فهو للأحياء دون الميت؛ لأنه لا وجدان له، وإن كان لغيرهم فأراد أن يجود به، فالميت أولى به؛ لأن غسله خاتمة طهارته، وصاحباه يرجعان إلى الماء ويغتسلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وإن فضل عنه ما يكفي أحدهما، فالحائض أحق به؛ لأن حدثها آكد، وتستبيح بغسلها ما يستبيحه الجنب وزيادة الوطء، وإن اجتمع على رجل حدث ونجاسة، فغسل النجاسة أولى؛ لأن طهارة الحدث لها بدل مجمع عليه، بخلاف النجاسة. وإن اجتمع محدث وجنب، فلم يجدا إلا ما يكفي المحدث، فهو أحق به؛ لأنه يرفع جميع حدثه، وإن كان يكفي الجنب وحده، فهو أحق به، لما ذكرنا في الحائض، وإن كان يفضل عن كل واحد منهما فضلة لا تكفي صاحبه، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقدم الجنب لما ذكرنا. والثاني: المحدث؛ لأن فضلته يلزم الجنب [استعمالها] فلا تضيع، بخلاف فضلة الجنب. والثالث: التسوية: لأنه تقابل الترجيحان فتساويا، فتدفع إلى من شاء منهما، أو يقرع بينهما والله أعلم. [ باب الحيض ] وهو دم ترخيه الرحم يخرج من المرأة في أوقات معتادة يتعلق به ثلاثة عشر حكماً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 أحدها: تحريم فعل الصلاة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» متفق عليه. والثاني: سقوط فرضها؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنا نحيض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» ، متفق عليه. والثالث: تحريم الصيام، ولا يسقط وجوبه، لحديث عائشة، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل؟ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 قلن: بلى» ، رواه البخاري. والرابع: تحريم الطواف؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة إذ حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» متفق عليه. والخامس: تحريم قراءة القرآن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن» رواه الترمذي. والسادس: تحريم مس المصحف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» رواه الأثرم. والسابع: تحريم اللبث في المسجد، لما ذكرناه من قبل. والثامن: تحريم الطلاق، لما نذكره في النكاح. والتاسع: تحريم الوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . ولا يحرم الاستمتاع بها في غير الفرج؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصنعوا كل شيء غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 النكاح» رواه مسلم. وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرني فأتزر فيباشرني، وأنا حائض» ، متفق عليه، ولأنه وطء حرم للأذى، فاختص بمحله، كالوطء في الدبر. والعاشر: منع صحة الطهارة؛ لأنه حدث يوجب الطهارة فاستمراره يمنع صحتها كالبول. والحادي عشر: وجوب الغسل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي» متفق عليه. الثاني عشر: وجوب الاعتداد به، لما نذكره في العدد. الثالث عشر: حصول البلوغ به لما نذكره في موضعه. فإذا انقطع دمها ولم تغتسل زالت أربعة أحكام: سقوط فرض الصلاة؛ لأن سقوطه بالحيض قد زال، ومنع صحة الطهارة لذلك، وتحريم الصيام؛ لأن وجوب الغسل لا يمنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فعله، كالجنابة، وتحريم الطلاق؛ لأن تحريمه لتطويل العدة، وقد زال هذا المعنى. وسائر المحرمات باقية؛ لأنها تثبت في حق المحدث الحدث الأكبر، وحدثها باق، وتحريم الوطء باق؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] قال مجاهد: حتى يغتسلن. فإن لم تجد الماء تيممت، وحل وطؤها؛ لأنه قائم مقام الغسل، فحل به ما يحل بالغسل، وإن تيممت للصلاة حل وطؤها؛ لأن ما أباح الصلاة أباح ما دونها. وإن وطئ الحائض قبل طهرها؛ فعليه كفارة [دينار أو] نصف دينار، لما روى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: " يتصدق بدينار أو بنصف دينار» ، قال أبو داود: كذا الرواية الصحيحة. وعن أحمد: لا كفارة فيه؛ لأنه وطء حرم للأذى، فلم تجب به كفارة كالوطء في الدبر، والحديث توقف أحمد عنه للشك في عدالة راويه. وإن وطئها بعد انقطاع دمها، فلا كفارة عليه؛ لأن حكمه أخف ولم يرد الشرع بالكفارة فيه. فصل وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين، فإن رأت قبل ذلك دماً فليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 بحيض، ولا يتعلق به أحكامه؛ لأنه لم يثبت في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك، وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. وأقل الحيض يوم وليلة. وعنه: يوم؛ لأن الشرع علق على الحيض أحكاماً ولم يبين قدره، فعلم أنه رده إلى العادة، كالقبض والحرز، وقد وجد حيض معتاد يوماً، ولم يوجد أقل منه. قال عطاء: رأيت من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر. قال أبو عبد الله الزبيري: كان في نسائنا من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً. [وأكثره خمسة عشر يوماً] لما ذكرنا، وعنه سبعة عشرة يوماً. وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن امرأة ادعت انقضاء عدتها في شهر، فقال لشريح: قل فيها، فقال: إن جاءت ببطانة من أهلها يشهدن أنها حاضت في شهر ثلاث مرات تترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الصلاة فيها، وإلا فهي كاذبة، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قالون " يعني جيد، وهذا اتفاق منهما على إمكان ثلاث حيضات في شهر، ولا يمكن إلا بما ذكرنا من أقل الحيض، وأقل الطهر. وعنه: أقله خمسة عشر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي» وليس لأكثره حد، وغالب الحيض ست أو سبع؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: «تحيضي - في علم الله - ستة أيام أو سبعة، ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين يوماً، أو ثلاثة وعشرين كما تحيض النساء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن» حديث حسن، وغالب الطهر أربعة وعشرون أو ثلاثة وعشرون، لهذا الحديث. وإذا بلغت المرأة ستين عاماً يئست من المحيض؛ لأنه لم يوجد لمثلها حيض معتاد، فإن رأت دماً فهو دم فاسد، وإن رأته بعد الخمسين، ففيه روايتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إحداهما: هو دم فاسد أيضاً؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض. والثانية: إن تكرر بها الدم فهو حيض، وهذا أصح؛ لأنه قد وجد ذلك، وعنه: أن نساء العجم ييأسن في خمسين، ونساء العرب إلى ستين؛ لأنهن أقوى جبلة. وقال الخرقي: إذا رأت الدم، ولها خمسون سنة، فلا تدع الصلاة، ولا الصوم، وتقضي الصوم احتياطاً، وإن رأته بعد الستين، فقد زال الإشكال، فتصوم وتصلي، ولا تقضي. والحامل لا تحيض، فإن رأت دماً، فهو دم فاسد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في سبايا أوطاس: " لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» يعني تستعلم براءتها من الحمل بالحيضة، فدل على أنها لا تجتمع معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فصل والمبتدأ بها الدم في سن تحيض لمثله تترك الصلاة والصوم؛ لأن دم الحيض جبلة وعادة، ودم الفساد عارض لمرض ونحوه، والأصل عدمه، فإن انقطع لدون يوم وليلة، فهو دم فساد، وإن بلغ ذلك جلست يوماً وليلة، فإن انقطع دمها لذلك اغتسلت وصلت، وكان ذلك حيضها. وإن زاد عليه، ففيه أربع روايات: أشهرهن: أنها تغتسل عقيب اليوم والليلة، وتصلي؛ لأن العبادة واجبة بيقين، وما زاد على أقل الحيض مشكوك فيه، فلا تسقطها بالشك، فإن انقطع دمها، ولم يعبر أكثر الحيض، اغتسلت غسلاً ثانياً، ثم تفعل ذلك في شهر آخر، وعنه: تفعله في شهرين آخرين. فإن كان في الأشهر كلها مدة واحدة، علمت أن ذلك حيضها، فانتقلت إليه، وعملت عليه، وأعادت ما صامت الفرض فيه؛ لأننا تبينا أنها صامته في حيضها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 والثانية: تجلس ما تراه من الدم إلى أكثر الحيض؛ لأنه دم يصلح حيضاً، فتجلسه كاليوم والليلة. والثالثة: تجلس ستاً أو سبعاً؛ لأن الغالب من النساء هكذا يحضن، ثم تغتسل وتصلي. والرابعة: تجلس عادة نسائها؛ لأن الغالب أنها تشبههن في جميع ذلك، فإذا انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون وتكرر، صار عادة، فانتقلت إليه، وأعادت ما صامته من الفرض فيه. وإن عبر دمها أكثر الحيض، علمنا استحاضتها فنظر في دمها، فإن كان متميزاً بعضه أسود ثخين منتن، وبعضه رقيق أحمر، وكان الأسود لا يزيد على أكثر الحيض، ولا ينقص عن أقله، فهذه مدة حيضها زمن الدم الأسود، فتجلسه، فإذا خلفته اغتسلت وصلت، لما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش «قالت: يا رسول الله، إني أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: " لا إنما ذلك عرق، ليس بالحيض، فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم، وصلي» متفق عليه. يعني بإقباله: سواده ونتنه، وبإدباره: رقته وحمرته، وفي لفظ، قال: «إذا كان دم الحيض، فإنه أسود، يعرف فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الأحمر فتوضئي إنما هو عرق» رواه النسائي , وقال ابن عباس: ما رأت الدم البحراني، فإنها تدع الصلاة، إنها والله لن ترى الدم بعد أيام محيضها إلا كغسالة ماء اللحم، ولأنه خارج من الفرج يوجب الغسل، فرجع إلى صفته عند الاشتباه، كالمني والمذي، وإن لم تكن مميزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 جلست من كل شهر ستة أيام، أو سبعة، لما روي أن حمنة بنت جحش «قالت: يا رسول الله، إني أستحاض حيضة شديدة، منكرة، قد منعتني الصوم والصلاة، فقال لها: " تحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام، في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت، فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها، وصومي فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وذكر أبو الخطاب في المبتدأة هذه الروايات الأربع، وحكي عن ابن عقيل في المبتدأة المميزة أنها تجلس بالتمييز في أول مرة، لما ذكرنا من الأخبار؛ ولأن التمييز يجري مجرى العادة، والمعتادة تجلس عدة أيام عادتها، كذلك المميزة. فصل وإن استقرت لها عادة، فما رأت من الدم فيها، فهو حيض سواء كان كدرة أو صفرة أو غيرهما، لما روى مالك عن علقمة عن أمه: أن النساء كن يرسلن بالدرجة، فيها الشيء من الصفرة، إلى عائشة فتقول: لا تصلين حتى ترين القصة البيضاء. قال مالك وأحمد: هو ماء أبيض يتبع الحيضة، ولأنه دم في زمن العادة أشبه الأسود، فإن تغيرت العادة، لم تخل من ثلاثة أقسام: أحدها: أن ترى الطهر قبل تمامها، فإنها تغتسل وتصلي؛ لأن ابن عباس قال: لا يحل لها ما رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل، ولأنها طاهر فتلزمها الصلاة، كسائر الطاهرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وإن عاودها الدم في عادتها، ففيه روايتان: إحداهما: تتحيض فيه، وهي الأولى؛ لأنه دم صادف العادة، فكان حيضاً كالأول. والثانية: لا تجلسه حتى يتكرر؛ لأنه جاء بعد طهر، فلم يكن حيضاً بغير تكرار، كالخارج عن العادة، وإن عاودها بعد العادة، وعبر أكثر الحيض، فهو استحاضة، وإن لم يعبر ذلك وتكرر، فهو حيض، وإلا فلا؛ لأنه لم يصادف عادة، فلا يكون حيضاً بغير تكرار. القسم الثاني: أن ترى الدم في غير عادتها، قبلها أو بعدها مع بقاء عادتها، أو طهرها فيها، أو في بعضها، فالمذهب أنها لا تجلس ما خرج عن العادة حتى يتكرر، وفي قدره روايتان: إحداهما: ثلاثاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعي الصلاة أيام أقرائك» وأقل ذلك ثلاثاً. والثانية: مرتان؛ لأن العادة مأخوذة من المعاودة، وذلك يحصل بمرتين، فعلى هذا تصوم وتصلي فيما خرج عن العادة مرتين أو ثلاثاً، فإذا تكرر، انتقلت إليه، وصار عادة، وأعادت ما صامته من الفرض فيه؛ لأنا تبينا أنها صامته في حيضها. قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويقوى عندي أنها تجلس متى رأت دماً يمكن أن يكون حيضاً، وافق العادة أو خالفها؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، ولم تقيده بالعادة وظاهر الأخبار تدل على أن النساء كن يعددن ما يرينه من الدم حيضاً من غير افتقاد عادة، ولم ينقل عنهن ذكر العادة، ولا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بيان لها ولا الاستفصال عنها إلا في التي قالت: إني أستحاض فلا أطهر، وشبهها من المستحاضات، أما في امرأة يأتي دمها في وقت يمكن أن يكون حيضاً، ثم يطهر فلا، والظاهر أنهن جرين على العرف في اعتقاد ذلك حيضاً، ولم يأت من الشرع تغيير، ولذلك أجلسنا المبتدأة من غير تقدم عادة، ورجعنا في أكثر أحكام الحيض إلى العرف، والعرف أن الحيضة تتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص، وفي اعتبار العادة على هذا الوجه، إخلال ببعض المنتقلات عن الحيض بالكلية، مع رؤيتها للدم في وقت الحيض على صفته، وهذا لا سبيل إليه. فصل القسم الثالث: أن ينضم إلى العادة ما يزيدان بمجموعهما على أكثر الحيض، فلا تخلو من حالين: أحدهما: أن تكون ذاكرة لعادتها، فإن كانت غير مميزة، جلست قدر عادتها، واغتسلت بعدها وصلت وصامت؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» متفق عليه، وإن كانت مميزة ففيها روايتان: إحداهما: تعمل بالعادة، لهذا الحديث، والأخرى: تعمل بالتمييز، وهو اختيار الخرقي، لما تقدم من أدلته. الحال الثاني: أن تكون ناسية لعادتها: فإن كانت مميزة، عملت بتمييزها؛ لأنه دليل لا معارض له، فوجب العمل به كالمبتدأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وإن لم تكن مميزة فهي على ثلاثة أضرب: إحداهن: المتحيرة وهي الناسية لوقتها وعددها، فهذه تتحيض في كل شهر ستة أيام أو سبعة، على حديث حمنة بنت جحش، ولأنه غالب عادات النساء، فالظاهر، أنه حيضها، وعنه: أنها ترد إلى عادة نسائها، كما تقدم، وقيل: فيها الروايات الأربع. ويجعل حيضها من أول كل شهر في أحد الوجهين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحيضي في علم الله ستة أيام، أو سبعة أيام، من كل شهر، ثم اغتسلي، وصلي ثلاثة وعشرين يوماً» فجعل حيضها من أوله، والصلاة في بقيته. والآخر: تجلسه بالاجتهاد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها إلى الاجتهاد في العدد بين الست والسبع، فكذلك في الوقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وإن علمت أن حيضها في وقت من الشهر كالنصف الأول ولم تعلم موضعه منه، ولا عدده فكذلك، إلا أن اجتهادها يختص بذلك الوقت دون غيره. الضرب الثاني: أن تعلم عددها وتنسى وقتها، نحو أن تعلم أن حيضها خمس ولا تعلم لها وقتاً، فهذه تجلس قدر أيامها من أول كل شهر في أحد الوجهين، وفي الآخر تجلسه بالتحري. وإن علمته في وقت من الشهر، مثل أن علمت أن حيضها في العشر الأول من الشهر أو العشر الأوسط، جلست قدر أيامها من ذلك الوقت دون غيره. الضرب الثالث: ذكرت وقتها ونسيت عددها، مثل أن تعلم أن اليوم العاشر من حيضها، ولا تدري قدره، فحكمها في قدر ما تجلسه حكم المتحيرة، واليوم العاشر حيض بيقين، فإن علمته أول حيضها، جلست بقية أيامها بعده، وإن علمته آخر حيضها، جلست الباقي قبله. وإن لم تعلم أوله ولا آخره جلست مما يلي أول الشهر في أحد الوجهين، وفي الآخر تجلس بالتحري. فصل ومتى ذكرت الناسية عادتها، رجعت إليها؛ لأنها تركتها للعجز عنها، فإذا زال العجز، وجب العمل بها لزوال العارض، فإن كانت مخالفة لما عملت قضت ما صامت من الفرض في مدة العادة، وما تركت من الصلاة والصيام فيما خرج عنها؛ لأننا تبينا أنها تركتها وهي طاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فصل ولا تصير المرأة معتادة حتى تعلم حيضها وطهرها وشهرها، ويتكرر. وشهرها: هو المدة التي يجتمع لها فيه حيض وطهر، وأقل ذلك أربعة عشر يوماً، يوم للحيض وثلاثة عشر للطهر، وغالبه الشهر المعروف، لحديث حمنة، ولأنه غالب عادات النساء، وأكثره، لا حد له [لأن أكثر الحيض لا يتعداه] وتثبت العادة بالتمييز، كما تثبت بانقطاع الدم، فلو رأت المبتدأة خمسة أيام دماً أسود، ثم احمر وعبر أكثر الحيض، وتكرر ذلك ثلاثاً، ثم رأت في الرابع دماً مبهماً، كان حيضها أيام الدم الأسود؛ لأنه صار عادة لها. فصل والعادة على ضربين: متفقة ومختلفة. فالمتفقة: مثل من تحيض خمسة من كل شهر، والمختلفة مثل من تحيض في شهر ثلاثة، وفي الثاني أربعة، وفي الثالث خمسة، ثم يعود إلى الثلاثة، ثم إلى أربعة على هذا الترتيب، أو في شهر ثلاثة، وفي الثاني خمسة، وفي الثالث أربعة، ثم تعود إلى الثلاثة، فكل ما أمكن ضبطه من ذلك، فهو عادة مستقرة، وما لم يمكن ضبطه نظرت إلى القدر الذي تكرر منه، فجعلته عادة، كأنها رأت في شهر ثلاثة، وفي شهر أربعة، وفي شهر خمسة، فالثلاثة حيض، لتكررها ثلاثاً. فإذا رأت في الرابع ستة، فالأربعة حيض: لتكررها ثلاثاً، فإذا رأت في الخامس سبعة، فالخمسة حيض، وعلى هذا ما تكرر، فهو حيض، وما لا فلا. فصل في التلفيق: إذا رأت يوماً دماً، ويوم طهراً، فإنها تغتسل، وتصلي في زمن الطهر، لقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يحل لها إذا رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل، ثم إن انقطع الدم لخمسة عشر فما دون، فجميعه حيض، تغتسل عقيب كل يوم وتصلي في الطهر، وإن عبر الخمسة عشر، فهي مستحاضة ترد إلى عادتها، فإن كانت عادتها، سبعة متوالية، جلست ما وافقها من الدم، فيكون حيضها منه ثلاثة أيام، أو أربعة، وإن كانت ناسية، فأجلسناها سبعة فكذلك، وإن أجلسناها أقل الحيض، جلست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 يوماً وليلة لا غير، وإن كانت مميزة، ترى يوماً دماً أسود، ثم ترى نقاء ثم ترى أسود إلى عشرة أيام، ثم ترى دماً أحمر وعبر، ردت إلى التمييز، فيكون حيضها زمن الدم الأسود دون غيره، ولا فرق بين أن ترى الدم زمناً يمكن يكون أن يكون حيضاً كيوم وليلة، أو دون ذلك، كنصف يوم، ونصف ليلة، فإن كان النقاء أقل من ساعة، فالظاهر أنه ليس بطهر؛ لأن الدم يجري تارة، وينقطع أخرى، وقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. فصل وإذا رأت ثلاثة أيام دماً، ثم طهرت اثني عشر يوماً، ثم رأته ثلاثة دماً، فالأول حيض؛ لأنها رأته في زمان إمكانه، والثاني استحاضة؛ لأنه لا يمكن أن يكون ابتداء حيض، لكونه لم يتقدمه أقل الطهر، ولا من الحيض الأول؛ لأنه يخرج عن الخمسة عشر. والحيضة الواحدة لا يكون بين طرفيها أكثر من خمسة عشر يوماً. فإن كان بين الدمين ثلاثة عشر يوماً فأكثر وتكرر، فهما حيضتان؛ لأنه أمكن جعل كل واحد منهما حيضة منفردة، لفصل أقل الطهر بينهما، وإن أمكن جعلهما حيضة واحدة بأن لا يكون بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوماً مثل أن ترى يومين دماً وتطهر عشرة، وترى ثلاثة دماً وتكرر، فهما حيضة واحدة؛ لأنه لم يخرج زمنهما عن مدة أكثر الحيض. وعلى هذا يعتبر ما ألقي من المسائل في التلفيق. فصل في المستحاضة وهي: التي ترى دماً ليس بحيض ولا نفاس. وحكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات وفعلها؛ لأنها نجاسة غير معتادة، أشبه سلس البول، فإن اختلط حيضها باستحاضتها، فعليها الغسل عند انقطاع الحيض، لحديث فاطمة، ومتى أرادت الصلاة؛ غسلت فرجها، وما أصابها من الدم، حتى إذا استنقأت عصبت فرجها، واستوثقت بالشد، والتلجم، ثم توضأت وصلت، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال لحمنة بنت جحش حين شكت إليه كثرة الدم: " أنعت لك الكرسف " يعني القطن، تحشي به المكان. قالت: إنه أشد من ذلك، فقال: " تلجمي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وعن أم سلمة «أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة، قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصل» رواه أبو داود، فإن خرج الدم بعد الوضوء لتفريط في الشد، أعادت الوضوء؛ لأنه حدث أمكن التحرز عنه. وإن خرج لغير تفريط، فلا شيء عليها لما روت «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: اعتكفت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من أزواجه، فكانت ترى الدم، والصفرة والطست تحتها، وهي تصلي» رواه البخاري. ولأنه لا يمكن التحرز منه فسقط، وتصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض والنوافل قبل الفريضة وبعدها، حتى يخرج الوقت فتبطل بها طهارتها، وتستأنف الطهارة لصلاة أخرى، لما روي في حديث «فاطمة أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال لها: "اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة وصلي» قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ولأنها طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم، وإن توضأت قبل الوقت، بطل وضوءها بدخوله، كما في التيمم، وإن انقطع دمها بعد الوضوء، وكانت عادتها انقطاعه وقتاً لا يتسع للصلاة لم يؤثر انقطاعه؛ لأنه لا يمكن الصلاة فيه، وإن لم تكن به عادة أو كانت عادتها انقطاعه مدة طويلة، لزمها استئناف الوضوء، وإن كانت في الصلاة، بطلت؛ لأن العفو عن الدم، لضرورة جريانه فيزول بزواله، وحكم من به سلس البول أو المذي أو الريح أو الجرح الذي لا يرقأ دمه حكمها في ذلك إلا أن ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 لا يمكن عصبه يصلي بحاله، فقد صلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجرحه يثعب دماً. فصل قال أصحابنا: ولا توطأ مستحاضة لغير ضرورة؛ لأنه أذى في الفرج، أشبه دم الحيض، فإن الله تعالى قال: {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فعلله بكونه أذى، وإن خاف على نفسه العنت، أبيح الوطء؛ لأنه يتطاول، فيشق التحرز منه، وحكمه أخف، لعدم ثبوت أحكام الحيض فيه، وحكى أبو الخطاب فيه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان: إحداهما: كما ذكرنا. والثانية: يحل مطلقاً لعموم النص في حل الزوجات، وامتناع قياس المستحاضة على الحائض، لمخالفتها لها في أكثر أحكامها، ولأن وطء الحائض ربما يتعدى ضرره إلى الولد، فإنه قد قيل: إنه يكون مجذوماً بخلاف دم المستحاضة. فصل ويستحب لها الغسل لكل صلاة؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - روت: «أن أم حبيبة استحيضت، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تغتسل لكل صلاة.» [رواه أبو داود] ، وإن جمعت بين الصلاتين بغسل واحد، فهو حسن، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحمنة: «فإن قويت أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، ثم تغتسلين حتى تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب، وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، وتغتسلين مع الصبح، كذلك فافعلي إن قويت على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ذلك هو أعجب الأمرين إلي» وهو حديث صحيح، وإن توضأت لوقت كل صلاة أجزأها لما ذكرنا سابقاً. [ باب النفاس ] وهو خروج الدم، بسبب الولادة، وحكمه حكم الحيض فيما يحرم ويجب ويسقط به؛ لأنه دم حيض مجتمع، احتبس لأجل الحمل، فإن خرج قبل الولادة بيومين، أو ثلاثة، فهو نفاس؛ لأن سبب خروجه الولادة، وإن خرج قبل ذلك، فهو دم فساد؛ لأنه ليس بنفاس، لبعده من الولادة، ولا حيض؛ لأن الحامل لا تحيض. وأكثر النفاس أربعون يوماً لما روت أم سلمة قالت: «كانت النفساء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة» رواه أبو داود. وليس لأقله حد فأي وقت رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي، ويستحب لزوجها الإمساك عن وطئها حتى تتم الأربعين، فإن عاودها الدم في مدة النفاس، فهو نفاس؛ لأنه في مدته أشبه الأول، وعنه: أنه مشكوك فيه، تصوم وتصلي وتقضي الصوم احتياطاً؛ لأن الصوم واجب بيقين، فلا يجوز تركه لعارض مشكوك فيه، ويجب قضاؤه لأنه ثابت بيقين فلا يسقط بفعل مشكوك فيه، ويفارق الحيض المشكوك فيه، لكثرته وتكرره ومشقة إيجاب القضاء فيه، وما زاد على الأربعين، فليس بنفاس، وحكمها فيه حكم غير النفساء، إذا رأت الدم وصادف عادة الحيض فهو حيض، وإلا فلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فصل وإذا ولدت توأمين، فالنفاس من الأول؛ لأنه دم خرج عقيب الولادة، فكان نفاساً، كما لو كان منفرداً، وآخره منه، فإذا أكملت أربعين من ولادة الأول انقضت مدتها؛ لأنه نفاس واحد، لحمل واحد، فلم تزد العادة منه على أربعين. وعنه: أنه من الأول، ثم تستأنفه في الثاني؛ لأن كل واحد منهما سبب للمدة، فإذا اجتمعا اعتبر أولها من الأول، وآخرها من الثاني، كالوطء في إيجاب العدة. [ باب أحكام النجاسات ] بول الآدمي نجس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الذي يعذب في قبره: «إنه كان لا يستتر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 من بوله» متفق عليه، والغائط مثله. والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، حكمه حكم البول لأنه في معناه. والمذي نجس؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المذي: «اغسل ذكرك» ولأنه خارج من الذكر لا يخلق منه الولد، أشبه البول، وعنه: أنه كالمني: لأنه خارج بسبب الشهوة، أشبه المني. وبول ما لا يؤكل لحمه، ورجيعه نجس؛ لأنه بول حيوان غير مأكول، أشبه بول الآدمي إلا بول ما لا نفس له سائلة، فإن ميتته طاهرة فأشبه الجراد. وبول ما يؤكل لحمه ورجيعه طاهر، وعنه أنه كالدم؛ لأنه رجيع، والمذهب الأول؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا في مرابض الغنم» حديث صحيح، وكان يصلي فيها قبل بناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 مسجده، وقال للعرنيين: «انطلقوا إلى إبل الصدقة فاشربوا من ألبانها وأبوالها» متفق عليه. ومني الآدمي طاهر؛ لأن عائشة قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيصلي فيه» ، متفق عليه، ولأنه بدء خلق آدمي، فكان طاهراً كالطين، وعنه: أنه نجس، يجزئ فرك يابسه، ويعفى عن يسيره لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» هذا حديث صحيح؛ لأنه خارج من مخرج البول أشبه المذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وفي رطوبة فرج المرأة روايتان: إحداهما: أنها نجس؛ لأنها بلل من الفرج، لا يخلق منه الولد، أشبه المذي. والثانية: أنها طاهرة؛ لأن عائشة كانت تفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو من جماع؛ لأن الأنبياء لا يحتلمون، وهو يصيب رطوبة الفرج. والقيء نجس؛ لأنه طعام استحال في الجوف إلى الفساد، أشبه الغائط. وفي كل حيوان غير الآدمي ومنيه، في حكم بوله في الطهارة والنجاسة؛ لأنه في معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 والنخامة طاهرة، سواء خرجت من رأس، أو صدر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه، فإن لم يجد، فليقل هكذا ووصف القاسم، وتفل في ثوبه ومسح بعضه على بعض» رواه مسلم. وذكر أبو الخطاب: أن البلغم نجس، قياساً على القيء، والأول أصح، والبصاق والمخاط والعرق، وسائر رطوبات بدن الآدمي طاهرة؛ لأنه من جسم طاهر، وكذلك هذه الفضلات، من كل حيوان طاهر. فصل والدم نجس؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في الدم: «اغسليه بالماء» متفق عليه، ولأنه نجس لعينه، بنص القرآن، أشبه الميتة، إلا دم السمك، فإنه طاهر؛ لأن ميتته طاهرة مباحة. وفي دم ما لا نفس له سائلة، كالذباب والبق والبراغيث والقمل، روايتان: إحداهما: نجاسته؛ لأنه دم أشبه المسفوح. والثانية: طهارته؛ لأنه دم حيوان، لا ينجس بالموت، أشبه دم السمك، وإنما حرم الدم المسفوح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 والعلقة نجسة؛ لأنها دم خارج من الفرج، أشبه الحيض، وعنه: إنها طاهرة؛ لأنها بدء خلق آدمي، أشبهت المني. والقيح نجس؛ لأنه دم استحال إلى نتن وفساد، والصديد مثله، إلا أن أحمد قال: هما أخف حكماً من الدم، لوقوع الخلاف في نجاستهما، وعدم النص فيهما. وما بقي من الدم في اللحم معفو عنه، ولو علت حمرة الدم في القدر، لم يكن نجساً؛ لأنه لا يمكن التحرز منه. فصل والخمر نجس؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر، فكان نجساً كالدم، والنبيذ مثله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» رواه مسلم، ولأنه شراب فيه شدة مطربة، أشبه الخمر، فإن انقلبت الخمرة خلاً بنفسها طهرت؛ لأن نجاستها لشدتها المسكرة، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 زال ذلك، من غير نجاسة خلفتها فوجب أن تطهر، كالماء الذي تنجس بالتغير [إذا زال تغيره] . وإن خللت لم تطهر لما روي: «أن أبا طلحة، سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن أيتام ورثوا خمراً فقال: أهرقها، قال: أفلا أخللها؟ قال: لا» ، رواه أحمد في مسنده والترمذي، ولو جاز التخليل، لم ينه عنه، ويتخرج أن تطهر لزوال علة التحريم، كما لو تخللت، ولا يطهر غيرها من النجاسات بالاستحالة، فلو أحرقت فصارت رماداً أو تركت في ملاحة، فصارت ملحاً لم تطهر؛ لأن نجاستها لعينها بخلاف الخمر، فإن نجاستها لمعنى زال بالانقلاب. ودخان النجاسة وبخارها نجس، فإن اجتمع منه شيء، أو لاقى جسماً صقيلاً، فصار ماءً، فهو نجس. وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة، وغبارها، فلم يجتمع منه شيء، ولا ظهرت صفته فهو معفو عنه، لعدم إمكان التحرز منه. فصل ولا يختلف المذهب، في نجاسة الكلب والخنزير، وما تولد منهما، إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 أصابت غير الأرض أنه يجب غسلها سبعاً إحداهن بالتراب، سواء كان من ولوغه أو غيره، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب» متفق عليه، ولمسلم: «أولاهن بالتراب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وعنه: «يغسله سبعاً، وواحدة بالتراب» ، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب» رواه مسلم والأولى أصح؛ لأنه يحتمل أنه عد التراب ثامنة، لكونه مع الماء، من غير جنسه، والأولى جعل التراب، في الأولى للخبر، وليكون الماء بعده، فينظفه، وحيث جعله جاز، لقوله في اللفظ الآخر: «وعفروه الثامنة بالتراب» فيدل على أن عين الغسلة غير مرادة. وإن جعل مكان التراب جامداً آخر كالأشنان، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجزئه؛ لأن نصه على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه في التنظيف. والثاني: لا يجزئه؛ لأنه تطهير ورد الشرع فيه بالتراب، فلم يقم غيره مقامه كالتيمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 والثالث: يجزئه إن عدم التراب، أو كان مفسداً للمغسول للحاجة، وإلا فلا. وإن جعل مكانه غسلة ثامنة، لم يجزه؛ لأنه أمر بالتراب معونة للماء، في قلع النجاسة، أو للتعبد، ولا يحصل بالماء وحده، وقد ذكر فيه الأوجه الثلاثة، وإن ولغ في الإناء كلاب، أو وقعت فيه نجاسة أخرى، لم تغير حكمه؛ لأن الغسل لا يزداد بتكرار النجاسة، كما لو ولغ الكلب فيه مرات. وإن أصاب الثوب من ماء الغسلات، ففيه وجهان: أحدهما: يغسل سبعاً إحداهن بالتراب؛ لأنها نجاسة كلب. والثاني: حكمه حكم المحل الذي انفصل عنه في الغسل بالتراب وفي عدد الغسلات؛ لأن المنفصل كالبلل الباقي، وهو يطهر بباقي العدد كذلك هذا. فصل والنجاسات كلها على الأرض، يطهرها أن يغمرها الماء، فيذهب عينها ولونها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء» متفق عليه، ولو كانت أرض البئر نجسة فنبع عليها الماء طهرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ولا تطهر الأرض النجسة بشمس، ولا ريح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بغسل بول الأعرابي، ولأنه محل نجس، أشبه الثوب. وإن طبخ اللبن المخلوط بالزبل النجس، لم يطهر، لكن ما يظهر منه يحترق فيذهب عينه، ويبقى أثره، فإذا غسل طهر ظاهره، وبقي باطنه نجساً لو حمله مصل، لم تصح صلاته، وإن ظهر من باطنه شيء فهو نجس. فصل إذا أصاب أسفل الخف، أو الحذاء نجاسة، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: يجزئ دلكه بالأرض، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه، فطهورهما التراب» وفي لفظ: «إذا وطئ بنعله» ، رواه أبو داود؛ لأنه محل تتكرر فيه النجاسة، فأجزأ فيه المسح، كمحل الاستنجاء. والثانية: يجب غسله؛ لأنه ملبوس فلم يجز فيه المسح كظاهره. والثالثة: يجب غسله من البول والعذرة لفحشهما، ويجزئ دلكه من غيرهما، فإن قلنا: يجزئ المسح، ففيه وجهان: أحدهما: يطهر اختاره ابن حامد، للخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 والثاني: لا يطهر؛ لأنه محل نجس فلم يطهره المسح كغيره، وفي محل الاستنجاء بعد الاستجمار وجهان أيضاً: أحدهما: يطهر، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المستجمر: يعرق في سراويله: لا بأس به، «وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الروث والرمة: لا يطهران» دليل على أن غيرهما يطهر. والثاني: لا يطهر، لما ذكرنا من القياس. فصل ويجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح، وهو أن يغمره بالماء، وإن لم يزل عنه لما «روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير، لم يأكل الطعام، إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فدعا بماء فنضحه ولم يغسله» متفق عليه. ولا يجزئ في بول الجارية إلا الغسل، لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل» رواه أحمد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 " المسند " فإن أكلا الطعام وتغذيا به غسل بولهما؛ لأن الرخصة وردت فيمن لم يطعم، فبقي من عداه على الأصل. وفي المذي روايتان: إحداهما: يجزئ نضحه، لما «روى سهل بن حنيف، قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناء، فقلت: يا رسول الله، فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه» ، قال الترمذي: هذا حديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والثانية: يجب غسله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بغسل الذكر منه، ولأنه نجاسة من كبير، أشبه البول. فصل وما عدا المذكور من النجاسات، في سائر المحال، فيه روايتان: إحداهما: يجزئ مكاثرتها بالماء حتى تذهب عين النجاسة ولونها من غير عدد، قياساً على نجاسة الأرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسماء في الدم: «اغسليه بالماء» ولم يذكر عدداً، «وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان غسل الثوب من النجاسة سبع مرات، فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل، حتى جعل الغسل من البول مرة» رواه أبو داود. والثانية: يجب فيها العدد، وفي قدره روايتان: إحداهما: سبع؛ لأنها نجاسة في غير الأرض، فأشبهت نجاسة الكلب، وفي اشتراط التراب وجهان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 والثانية: ثلاث؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده» أمر بالثلاث، وعلل بوهم النجاسة، ولا يرفع وهمها إلا ما يرفع حقيقتها. فإن قلنا بالعدد، لم يحتسب برفع الثوب من الماء غسلة، حتى يعصره، وعصر كل شيء بحسبه، فإن كان بساطاً ثقيلاً أو زلياً فعصره بتقليبه ودقه، حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء. فصل وإذا غسل النجاسة، فلم يذهب لونها أو ريحها لمشقة إزالته، عفي عنه، لما «روي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله، أرأيت لو بقي أثره، تعني: الدم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الماء يكفيك، ولا يضرك أثره» رواه أبو داود بمعناه. فصل ويعفى عن يسير الدم في غير المائعات؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، فإن الغالب أن الإنسان، لا يخلو من حبة وبثرة، فألحق نادره بغالبه، وقد روي عن جماعة من الصحابة الصلاة مع الدم، ولم يعرف لهم مخالف، وحد اليسير ما لا ينقض مثله الوضوء، وقد ذكر في موضعه. والقيح والصديد كالدم لأنه مستحيل منه، وفي المني إذا حكمنا بنجاسته روايتان: إحداهما: أنه كالدم؛ لأنه مستحيل منه. والثانية: لا يعفى عنه؛ لأنه يمكن التحرز منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وفي المذي، وريق البغل والحمار وعرقهما، وسباع البهائم وجوارح الطير وبول الخفاش، روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره، لمشقة التحرز منه، فإن المذي يكثر من الشباب، ولا يكاد يسلم مقتني هذه الحيوانات من بللها، فعفي عن يسيرها كالدم. والثانية: لا يعفى عنها، لعدم ورود الشرع فيها. وفي النبيذ روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره، لوقوع الخلاف فيه. والثانية: لا يعفى عنه؛ لأن التحرز عنه ممكن. وما عدا هذا من النجاسة، لا يعفى عن شيء منه، ما أدركه الطرف منها، وما لم يدركه؛ لأنها نجاسة، لا يشق التحرز منها، فلم يعف عنها كالكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 [ كتاب الصلاة ] الصلوات المكتوبات خمس، لما «روى طلحة بن عبيد الله، أن أعرابياً قال: يا رسول الله، ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 شيئاً» متفق عليه، ولا تجب إلا على مسلم عاقل بالغ، فأما الكافر، فلا تجب عليه، أصلياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 كان أو مرتداً. وخرج أبو إسحاق بن شاقلا رواية أخرى: أنها تجب على المرتد، ويؤمر بقضائها؛ لأنه اعتقد وجوبها، وأمكنه التسبب إلى أدائها، فأشبه المسلم. والمذهب الأول؛ لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ولأنه قد أسلم كثير في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعده، فلم يؤمروا بقضاء، ولأن في إيجاب القضاء تنفيراً له عن الإسلام، فعفي عنه. ولا تجب على مجنون؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» حديث حسن، ولأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 مدته تتطاول، فيشق إيجاب القضاء عليه، فعفي عنه. ولا تجب على الصبي حتى يبلغ، للحديث، ولأن الطفل لا يعقل، والمدة التي يكمل فيها عقله وبنيته تخفى وتختلف، فنصب الشرع عليه علامة ظاهرة، وهي البلوغ لكنه يؤمر بها لسبع، ويضرب عليها لعشر، ليتمرن ويعتادها فلا يتركها عند بلوغه، وتصح صلاته، ويستحب له فعلها، لما ذكرنا. وعنه: أنها تجب عليه إذا بلغ عشراً، لكونه يعاقب على تركها، والواجب ما عوقب على تركه. والأول المذهب، فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في الوقت، لزمته إعادتها؛ لأنه صلاها نفلاً، فلم تجزه عما أدرك وقته من الفرض، كما لو نواها نفلاً. وإن بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو أسلم الكافر، أو طهرت الحائض قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 غروب الشمس، لزمته الظهر والعصر، وإن كان ذلك قبل طلوع الفجر، لزمته المغرب والعشاء؛ لأن ذلك يروى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن وقتهما وقت لكل واحدة منهما حال العذر، فأشبه ما [لو] أدرك جزءاً من وقت الأولى. وإن بلغ في وقت الفجر لم يلزمه غيرها؛ لأن وقتها مختص بها. وتجب الصلاة على المغمى عليه لمرض، أو شرب دواء، وعلى السكران؛ لأن عماراً أغمي عليه فقضى ما فاته، ولأن مدته لا تتطاول، ولا تثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الولاية عليه، فوجبت عليه كالنائم. فصل ومن وجبت عليه الصلاة لم يجز له تأخيرها عن وقتها إذا كان ذاكراً لها، قادراً على فعلها إلا المتشاغل بتحقيق شرطها، ومن أراد الجمع لعذر، فإن جحد وجوبها كفر؛ لأنه كذب الله تعالى في خبره. وإن تركها متهاوناً بها معتقداً وجوبها وجب قتله؛ لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فدل على أنهم إذا لم يقيموا الصلاة يقتلون، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعوا على قتال مانعي الزكاة والصلاة آكد منها. ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام، ويضيق عليه، ويدعى إلى فعل كل صلاة في وقتها، ويقال له: إن صليت وإلا قتلناك؛ لأنه قتل لترك واجب فيتقدمه الاستتابة، كقتل المرتد، فإن تاب، وإلا قتل بالسيف، وهل يقتل حداً أو لكفره؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فيه روايتان: إحداهما: لكفره، وهو كالمتمرد في أحكامه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» رواه مسلم، ولأنها من دعائم الإسلام لا تدخلها نيابة بنفس، ولا مال، فيكفر تاركها كالشهادتين. والثانية: يقتل حداً كالزاني المحصن، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 شاء عذبه وإن شاء غفر له» من المسند، ولو كفر لم يدخله في المشيئة. ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» ، «ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله» متفق عليهما، ولأنها فعل واجب في الإسلام، فلم يكفر تاركها المعتقد لوجوبها كالحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 [ باب أوقات الصلوات ] الأولى هي الظهر، لما روى أبو برزة الأسلمي قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الشمس، يعني: تزول» في حديث طويل، متفق عليه، وأول وقتها إذا زالت الشمس، وآخره إذا كان ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت الشمس عليه، لما روى [ابن عباس] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي في المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله، وقال: الوقت ما بين هذين» في حديث طويل، قال الترمذي: هو حديث حسن. ويعرف زوال الشمس بطول الظل بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 تناهي قصره، والأفضل تعجيلها، لحديث أبي برزة إلا في شدة الحر فإنه يستحب، الإبراد بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا [بالظهر] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 في شدة الحر، فإن شدة الحر من فيح جهنم» متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فصل ثم العصر، وهي الوسطى لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً» متفق عليه، وأول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله، وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جبريل: «وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي المرة الآخرة حين صار ظل كل شيء مثليه» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وعنه: أن آخره ما لم تصفر الشمس، لما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» رواه مسلم، ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس. ومن أدرك منها جزءاً قبل الغروب، فقد أدركها، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته» متفق عليه، وتعجيلها أفضل بكل حال، لقول أبي برزة في حديثه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية» ، متفق عليه. فصل ثم المغرب وهي الوتر وأول وقتها، إذا غابت الشمس، وآخره إذا غاب الشفق الأحمر، لما روى بريدة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق، ثم قال: وقت وصلاتكم بين ما رأيتم» رواه مسلم، وفي حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» ويكره تأخيرها عن وقتها؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاها بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 اليومين في أول وقتها، وقال جابر: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب إذا وجبت الشمس» ، متفق عليه. فصل ثم العشاء وأول وقتها إذا غاب الشفق الأحمر، وآخره ثلث الليل، لما روى بريدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وصلاها في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل» ، وحديث ابن عباس في صلاة جبريل مثله، وعن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق، وجبت الصلاة» رواه الدارقطني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وعنه: آخره نصف الليل، لما روى عبد الله بن عمرو: أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال: «وقت العشاء إلى نصف الليل» رواه مسلم وأبو داود، والأفضل تأخيرها لقول أبي برزة: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستحب أن يؤخر العشاء» متفق عليه. ويستحب أن يراعى حال المأمومين، لقول جابر: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العشاء أحياناً يقدمها وأحياناً يؤخرها إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا، أخر» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 متفق عليه، ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني، على ما ذكرنا في وقت العصر. فصل ثم الفجر، وأول وقتها إذا طلع الفجر الثاني بغير خلاف، وهو البياض الذي يبدو من قبل المشرق معترضاً لا ظلمة بعده، وآخره إذا طلعت الشمس، لما روى بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه أمر بلالاً فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني صلى الفجر، فأسفر بها، ثم قال: وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم» ، وفي حديث ابن عباس في حديث جبريل مثله. والأفضل تعجيلها، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الفجر، فيشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 معه نساء من المؤمنات، ثم ينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 متفق عليه. وعنه: يراعي حال المأمومين، فإن أسفروا فالإسفار أفضل، لما ذكرنا في العشاء. فصل: وتجب الصلاة بأول الوقت، لأن الأمر بها يتعلق بأول وقتها، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه سبب الوجوب، فتثبت عقبيه، كسائر الأسباب، ويستقر الوجوب بذلك. فلو جن بعد دخول جزء من وقت الصلاة، أو حاضت المرأة، لزمها القضاء، لأنه إدراك جزء تجب بها الصلاة، فاستقرت به، كآخر الوقت. وهل تجب العصر بإدراك جزء من وقت الظهر؟ فيه وجهان: أحدهما: تجب، لأنه أدرك جزءاً من وقت إحدى صلاتي الجمع، فلزمته الأخرى، كإدراك جزء من وقت العصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 والثاني: لا تجب، لأنه لم يدرك شيئاً من وقتها، ولا وقت تبعها، فأشبه من لم يدرك شيئاً بخلاف العصر، فإنها تفعل تبعاً للظهر، فمدرك وقتها مدرك لجزء من وقت تبع الظهر، وهكذا القول في المغرب والعشاء. ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت، فهو مدرك لها لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وفي لفظ: «إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح، فليتم صلاته» متفق عليه. وفي مدرك أقل من ركعة وجهان: أحدهما: يكون مدركاً لها لأنه إدراك جزء من الصلاة، فاستوى فيه الركعة وما دونها، كإدراك الجماعة. والثاني: لا يكون مدركاً لها، لتخصيصه الإدراك بركعة، وقياساً على إدراك الجمعة. فصل: ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، لأن «جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 اليوم الثاني في آخر الوقت» . فإن أخرها عن وقتها، لزمه قضاؤها على الفور، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه. فإن فاتته صلوات، لزمه قضاؤهن مرتبات، لأنها صلوات مؤقتات، فوجب الترتيب فيها، كالمجموعتين. فإن خشي فوات الحاضرة، قدمها لئلا تصير فائتة، ولأن فعل الحاضرة آكد، بدليل أنه يقتل بتركها، بخلاف الفائتة. وعنه: لا يسقط الترتيب، لما ذكرنا من القياس. وإن نسي الفائتة حتى صلى الحاضرة سقط الترتيب، وقضى الفائتة وحدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» رواه النسائي. وإن ذكرها في الحاضرة، والوقت ضيق، فكذلك. وإن كان متسعاً وهو مأموم، أتمها وقضى الفائتة، وأعاد الحاضرة، لما روى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليصل مع الإمام، فإذا فرغ من صلاته، فليعد التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام» رواه أبو حفص العكبري وأبو يعلى الموصلي. وروي موقوفاً على ابن عمر. وفي المنفرد روايتان: إحداهما: أنه كذلك. والأخرى: يقطعها. وعنه في الإمام: أنه ينصرف، ويستأنف المأمومون، قال أبو بكر: لم ينقلها غير حرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وإن كثرت الفوائت، قضاها متتابعة ما لم تشغله عن معيشته، أو تضعفه في بدنه حتى يخشى فوات الحاضرة، فليصلها، ثم يعود إلى القضاء. وعنه: إذا كثرت الفوائت فلم يمكنه فعلها قبل فوات الحاضرة، فله فعل الحاضرة في أول وقتها، لعدم الفائدة في التأخير، مع لزوم الإخلال في الترتيب. فصل: ومن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، لزمه خمس صلوات، ينوي في كل واحدة أنها المكتوبة، ليحصل له تأدية فرضه بيقين. وإن نسي ظهراً وعصراً من يومين لا يدري أيتهما الأولى، لزمه ثلاث صلوات ظهراً، ثم عصراً، ثم ظهراً، [أو] عصراً، ثم ظهراً ثم عصراً، ليحصل له ترتيبها بيقين. فصل: ومن شك في دخول الوقت، لم يصل حتى يتيقن، أو يغلب على ظنه ذلك، بدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فإن أخبره ثقة عن علم، عمل به، وإن أخبره عن اجتهاد لم يقلده، واجتهد حتى يغلب على ظنه دخوله، فإن صلى فبان أنه وافق الوقت أو بعده، أجزأه، لأنه صلى بعد الوجوب. وإن وافق قبله، لم يجزه، لأنه صلى قبل الوجوب. [ باب الأذان ] الأذان مشروع للصلوات الخمس دون غيرها، وهو من فروض الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، فلم يجز تعطيله، كالجهاد، فإن اتفق أهل بلد على تركه، قوتلوا عليه، وإن أذن واحد في المصر أسقط الفرض عن أهله، ولا يجزئ الأذان قبل الوقت، لأنه لا يحصل المقصود منه، إلا الفجر، فإنه يجزئ الأذان لها بعد نصف الليل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 متفق عليه. ولأنه وقت النوم فيحتاج إلى التأذين قبل الوقت، لينتبه النائم ويتأهب للصلاة، بخلاف سائر الصلوات. ولا يؤذن قبل الوقت، إلا من يتخذه عادة لئلا يغر الناس. ويكون معه من يؤذن في الوقت، كفعل بلال وابن أم مكتوم. ولا يجوز تقديم الإقامة على الوقت، لأنها تراد لافتتاح الصلاة ولا تفتتح قبل الوقت. فصل: ويذهب أبو عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أذان بلال الذي أريه عبد الله بن زيد، كما روي عنه أنه قال: «لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناقوس ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، فال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها رؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى طوتاً منك» رواه أبو داود. فهذه صفة الأذان والإقامة المستحب، لأن بلالاً كان يؤذن به حضراً وسفراً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن مات. وإن رجع في الأذان، أو ثنى الإقامة، فلا بأس لأنه من الاختلاف المباح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ويستحب أن يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين، لما روى أبو محذورة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن كان في أذان الصبح، قلت: الصلاة خير من النوم، مرتين» رواه النسائي. ويكره التثويب في غيره، لما روى بلال قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوب في العشاء» . رواه ابن ماجه. ودخل ابن عمر مسجداً يصلي فيه، فسمع رجلاً يثوب في أذان الظهر، فخرج وقال: أخرجتني البدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فصل: ويسن الأذان للفائتة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتته الصبح فقال: «يا بلال قم فأذن ثم صلى ركعتين، ثم أقام، ثم صلى الغداة» . متفق عليه. وإن كثرت الفوائت، أذَّن وأقام للأولى، ثم أقام للتي بعدها، لما روى ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 مسعود أن «المشركين شغلوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، ثم أمر بلالاً، فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء» ، رواه الأثرم. وإن جمع بين الصلاتين، فكذلك، لما روى جابر أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر والعصر بعرفة بأذان وإقامتين» . رواه مسلم. وإن ترك الأذان للفائتة، أو المجموعتين في وقت الآخرة منهما، فلا بأس، لما روي أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب والعشاء بإقامة لكل صلاة من غير أذان» ، متفق عليه. فصل: ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل، ولا يصح من كافر ولا طفل ولا مجنون، لأنهم من غير أهل العبادات. ولا يشرع الأذان للنساء، ولا الإقامة، ولا يصح منهن، لأنه يشرع فيه رفع الصوت، ولسن من أهل ذلك، ولا لخنثى مشكل، لأنه لا يعلم كونه رجلاً. وفي أذان الفاسق والصبي العاقل وجهان: أحدهما: يصح، لأنه مشروع لصلاتهما، وهما من أهل العبادات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 والثاني: لا يصح لأنه إعلام بالوقت، ولا يقبل فيه خبرهما. وفي الأذان الملحَّن وجهان: أحدهما: يصح، لأنه أتى به مرتباً فصح كغيره. والثاني: لا يصح، لما روى ابن عباس، قال: «كان لرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذن يطرب، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فلا تؤذن» رواه الدارقطني. وفي أذان الجنب وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه أحد الحدثين، فلم يمنع صحته، كالحدث الأصغر. والثاني: لا يصح؛ لأنه ذكر مشروع للصلاة يتقدمها، أشبه الخطبة. فصل: ويستحب للمؤذن أن يكون أميناً لأنه مؤتمن على الأوقات. صيتاً، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك» رواه أبو داود. ولأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان. وأن يكون عالماً بالأوقات، ليتمكن من الأذان في أوائلها. وأن يكون بصيراً، لأن الأعمى لا يعلم، إلا أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 معه بصير يؤذن قبله، كبلال مع ابن أم مكتوم، فإن تشاح اثنان في الأذان، قدم أكملهما في هذه الخصال، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم بلالا على عبد الله بن زيد، لكونه أندى صوتاً، وقسنا عليه باقي الخصال. فإن استويا في ذلك، أقرع بينهما لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 لاستهموا» متفق عليه. وتشاح الناس في الأذان يوم القادسية، فأقرع بينهم سعد. وعنه: يقدم من يرضاه الجيران، لأن الأذان لإعلامهم، فكان لرضاهم أثر في التقديم. ولا بأس أن يؤذن اثنان أحدهما بعد الآخر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يؤذن له بلال وابن أم مكتوم، إذا نزل هذا طلع هذا» . ولا يسن أكثر من هذا إلا أن تدعو إليه حاجة فيجوز، لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتخذ أربعة مؤذنين. فصل: يستحب أن يؤذن قائماً، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبلال: قم فأذن» ولأنه أبلغ في الإسماع، فإن أذن قاعداً أو راكباً في السفر جاز، لأن الصلاة آكد منه، وهي تجوز كذلك. وأن يؤذن على موضع عال، لأنه أبلغ في الإعلام. وروي أن «بلالاً كان يؤذن على سطح امرأة، ويرفع صوته» ، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال للمؤذن: يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس» رواه أبو داود. ولا يجهد نفسه فوق طاقته؛ لئلا ينقطع صوته، ويؤذي نفسه. وإن أذن لفائتة أو لنفسه في مصر، لم يجهر لأنه لا يدعو أحداً وربما غر الناس. وإن كان في الصحراء جهر في الوقت، فإن أبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 سعيد قال: «إذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 رواه البخاري، ويستحب أن يؤذن متوضئاً، لأن أبا هريرة قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» ، وروي مرفوعاً، أخرجه الترمذي. ويستحب أن يؤذن مستقبل القبلة، ويلتفت يميناً إذا قال: حي على الصلاة، ويساراً إذا قال: حي على الفلاح، ولا يزيل قدميه، ويجعل إصبعيه في أذنيه، لما روى أبو جحيفة قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو في قبة حمراء من أدم، وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا، يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة، حي على الفلاح» . متفق عليه. وفي لفظ: «ولم يستدر وأصبعاه في أذنيه» ، رواه الترمذي. ويستحب أن يترسل في الأذان ويحدر الإقامة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا بلال إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر» رواه أبو داود. ولأن الأذان إعلام الغائبين والترسل فيه أبلغ في الإسماع، والإقامة إعلام الحاضرين، فلم يحتج إلى الترسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فيه، ويكره التمطيط والتلحين لما تقدم. فصل: ولا يصح الأذان إلا مرتباً متوالياً، لأنه لا يعلم أنه أذان بدونهما، فإن سكت فيه سكوتاً طويلاً أعاد. ولا يصح أن يبني على أذان غيره، لأنه عبادة بدنية، فلم يبن فعله على فعل غيره، كالصلاة، فإن أغمي عليه، ثم أفاق قريباً بنى، وإن طال الفصل ابتدأ لتحصيل الموالاة. وإن ارتد في أثنائه بطل أذانه لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . ويكره الكلام فيه، فإن تكلم بكلام طويل ابتدأ، لإخلاله بالموالاة، وإن كان يسيراً بنى، لأن ذلك لا يبطل الخطبة، وهي آكد منه، إلا أن يكون كلاماً محرماً، ففيه وجهان: أحدهما: لا يبطل، لأنه لا يخل بالمقصود. والثاني: يبطل، لأنه فعل محرماً فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 فصل: ويستحب أن يؤذن في أول الوقت ليعلم الناس بوقت الصلاة فيتهيؤوا لها، وقد روي أن «بلالا كان يؤذن في أول الوقت، وربما أخر الإقامة شيئاً» . رواه ابن ماجه. ويؤخر الإقامة. لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته» رواه أبو داود. ولأن الإقامة لافتتاح الصلاة فينبغي أن تتأخر قدراً يتهيؤون فيه للصلاة. فإن كان للمغرب جلس جلسة خفيفة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جلوس المؤذن بين الأذان والإقامة في المغرب سنة» رواه تمام في الفوائد. ويستحب أن يقيم في موضع أذانه إلا أن يشق عليه، لكونه قد أذن في مكان بعيد، «لقول بلال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تسبقني بآمين» . لأنه لو أقام في موضع صلاته لم يخف سبقه بذلك. ويستحب لمن أذن أن يقيم لما «روى زياد بن الحارث الصدائي أنه أذن فجاء بلال ليقيم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم» من المسند. وإن أقام غيره جاز لما روى أبو داود في حديث الأذان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألقه على بلال فألقاه عليه فأذن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته، وأنا كنت أريده قال: فأقم أنت» . فصل: ولا يجوز أخذ الأجرة عليه، لما روي عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: «إن آخر ما عهد إلي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً» . قال الترمذي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 هذا حديث حسن. ولأنه قربة لفاعله، أشبه الإمامة، وإن لم يوجد من يتطوع به رزق الإمام من بيت المال من يقوم به، لأن الحاجة داعية إليه، فجاز أخذ الرزق عليه، كالجهاد. وإن وجد متطوعاً به لم يرزق لأن المال للمصلحة فلا يعطى في غير مصلحة. فصل: ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول، لما روى أبو سعيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول» متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ويقول عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه، دخل الجنة» رواه مسلم. قال الأثرم: هذا من الأحاديث الجياد. فإن سمع الأذان في الصلاة لم يقل مثل قوله، لأن في الصلاة شغلاً، فإذا فرغ قال ذلك. وإن كان في قراءة قطعها، وقال ذلك، لأن القراءة لا تفوت وهذا يفوت. وعن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة» أخرجه البخاري. وروى [سعد] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، غفر له ذنبه» رواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 مسلم. ويستحب الدعاء بين الأذان والإقامة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد» حديث حسن. [ باب شرائط الصلاة ] وهي ستة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الطهارة من الحدث، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» رواه مسلم. والثاني: الطهارة من النجس، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض: حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه، وصلي فيه» فدل على أنها ممنوعة من الصلاة فيه قبل غسله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فمتى كانت عليه في بدنه أو ثيابه نجاسة مقدور على إزالتها غير معفو عنها، لم تصح صلاته. وإن جبر عظمه بعظم نجس، فجبر، لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر وأجزأته صلاته، لأن ذلك يبيح ترك التطهر من الحدث، وهو آكد. ويحتمل أن يلزمه قلعه إذا لم يخف التلف، لأنه لا يخاف التلف، أشبه إذا لم يخف الضرر. وإن أكل نجاسة، لم يلزمه فيها، لأنها حصلت في معدته، فصارت كالمستحيل في المعدة. وإن عجز عن إزالة النجاسة عن بدنه، أو خلع الثوب النجس، لكونه مربوطاً، أو نحو ذلك، صلى ولا إعادة عليه، لأنه شرط عجز عنه فسقط، كالسترة. وإن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه، لأن ستر العورة آكد لوجوبه في الصلاة وغيرها، وتعلق حق الآدمي به في ستر عورته، وصيانة نفسه. والمنصوص أن يعيد، لأنه ترك شرطاً مقدوراً عليه. ويتخرج أن لا يعيد، كما لو عجز عن خلعه، أو صلى في موضع نجس، لا يمكنه الخروج منه. وإن خفي عليه موضع النجاسة لم يزل حكمها حتى يغسل ما يتيقن به أن التطهر قد لحقها، لأنه تيقن النجاسة، فلا يزول إلا بيقين غسلها. فإن صلى على منديل طرفه نجس على الطاهر منه صحت صلاته، فإن كان المنديل عليه، أو متعلقاً به، بحيث ينجر معه إذا مشى، لم تصح صلاته، لأنه حامل لها وإن كان في يده حبل مشدود في شيء نجس ينجر معه إذا مشى، لم تصح صلاته، لأنه كالحامل لها، وإن كان لا ينجر معه كالفيل والسفينة النجسة، لم تبطل صلاته، لأنه غير حامل لها، فأشبه ما لو كان مشدوداً في دار فيها حش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وإن حمل في الصلاة حيواناً طاهراً لم تبطل صلاته، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى حاملاً أمامة بنت زينب ابنته» . متفق عليه. ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدته، فأشبه ما في جوف المصلي. ولو حمل قارورة فيها نجاسة، لم تصح صلاته، لأنه حامل لنجاسة في غير معدتها، أشبه ما لو حملها في كمه. فصل: ويشترط طهارة موضع صلاته، لأنه يحتاج إليه في الصلاة، أشبه الثوب فإن كان بدنه أو ثوبه يقع على موضع نجس، لم تصح صلاته. وإن لاصقها على حائط، أو ثوب إنسان، فذكر ابن عقيل أن صلاته صحيحة، لأنه ليس بموضع لصلاته، ولا محمولاً فيها. وإن سقطت عليه نجاسة يابسة فزالت، أو أزالها بسرعة، لم تبطل صلاته، لأنه زمن يسير، فعفي عنه، كاليسير في القدر وإن كانت النجاسة محاذية لبدنه في سجوده، لا تصيب بدنه، ولا ثوبه، صحت صلاته. وإن بسط على الأرض النجسة ثوباً أو طينها، صحت صلاته عليها مع الكراهة، لأنه ليس بحامل للنجاسة، ولا مباشر لها. وقيل: لا تصح لأن اعتماده على الأرض النجسة. وإن خفيت النجاسة في موضع معين، حكمه حكم الثوب. وإن خفيت في صحراء صلى حيث شاء، لأنه لا يمكنه حفظها من النجاسة، ولا غسل جميعها. فإن حبس في مكان نجس صلى ولا إعادة عليه، لأنه صلى على حسب حاله، أشبه المربوط إلى غير القبلة فإن كانت رطبة يخاف تعديها إليه أومأ بالسجود، وإن لم يخف سجد بالأرض. فصل: إذا رأى عليه نجاسة بعد الصلاة، وجوز حدوثها بعدها، لم تلزمه الإعادة لأن الأصل عدمها في الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وإن علم أنها كانت عليه في الصلاة، ففيه روايتان: إحداهما: يعيد، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالجهل، كالوضوء وقياساً على سائر الشرائط. والثانية: لا يلزمه، لما روى أبو سعيد أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فقال: ما لكم خلعتم؟ فقالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا، فقال: أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبرني أن فيهما قذراً» رواه أبو داود. ولو بطلت لاستأنفها، فعلى هذا إن علم بها في الصلاة، فأمكنه إزالتها بغير عمل طويل، فعل كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن علم بها قبل الصلاة ثم نسيها، فقال القاضي: يعيد، لأنه فرط في تركها. وقال أبو الخطاب: فيها روايتان، كالتي قبلها، لأن ما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان، كواجبات الصلاة. فصل: ولا تصح الصلاة في خمسة مواضع: المقبرة، حديثة كانت أو قديمة، والحمام داخله وخارجه، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» رواه أبو داود. وروى أبو مرثد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وأعطان الإبل، وهي التي تقيم فيها وتأوي إليها، لما روى جابر بن سمرة أن رجلاً قال: «يا رسول الله أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا.» رواه مسلم. ولأن هذه المواضع مظنة للنجاسة فأقيمت مقامها. والحش، لأن النهي عن هذه المواضع تنبيه على النهي عنه، ولأن احتمال النجاسة فيه أكثر وأغلب. والموضع المغصوب، لأن قيامه وقعوده ولبثه فيه محرم، منهي عنه، فلم يقع عبادة، كالصلاة في زمن الحيض. وعنه: أن الصلاة في هذه المواضع تصح مع التحريم، لأن النهي لمعنى في غير الصلاة، أشبه المصلي وفي يده خاتم من ذهب، وعنه: إن علم النهي لم تصح صلاته، لارتكابه للنهي، وإن لم يعلم صحت. وضم بعض أصحابنا إلى هذه المواضع أربعة أخر، المجزرة، وهي موضع الذبح، والمزبلة، وقارعة الطريق، وظهر البيت الحرام، فجعل فيها الروايات الثلاث، لما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة، المجزرة والمزبلة، والمقبرة ومعاطن الإبل، والحمام وقارعة الطريق، وفوق بيت الله العتيق» رواه ابن ماجه. وفيه ضعف، ولأن قارعة الطريق والمجزرة والمزبلة مظان للنجاسة، أشبهت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الحش والحمام، وفي الكعبة يكون مستدبراً لبعض القبلة. وإن صلى النافلة في الكعبة، أو على ظهرها وبين يديه شيء منها، صحت صلاته، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في البيت ركعتين» . متفق عليه. والصلاة إلى هذه المواضع صحيحة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركتك الصلاة فصل» متفق عليه. إلا المقبرة فإن ابن حامد قال: لا تصح الصلاة إليها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصلوا إليها» وإن صلى في مسجد بني في المقبرة، فحكمه حكمها. وإن حدثت المقبرة حوله صحت الصلاة فيه، لأنه ليس بمقبرة. وفي أسطحة هذه المواضع وجهان: أحدهما: أن حكمها حكمها، لأنها تابعة لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 والثاني: تصح، لأنه ليس بمظنة للنجاسة، ولا يتناوله النهي. [ باب ستر العورة ] وهو الشرط الثالث للصلاة، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» رواه أبو داود. وعورة الرجل ما بين سرته وركبتيه لما روى أبو أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة» رواه أبو بكر بإسناده. وعن جرهد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «غط فخذك فإن الفخذ من العورة» رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المسند، وليست السرة والركبة من العورة، لما ذكرنا. وعنه: أنها الفرجان، لما روى أنس أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه البخاري. وعورة الحر والعبد سواء، لعموم الأحاديث. فصل: والمرأة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان: لقول الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال ابن عباس: وجهها وكفيها، ولأنه يحرم ستر الوجه في الإحرام، وستر الكفين بالقفازين، ولو كانا عورة، لم يحرم سترهما. والثانية: أن الكفين عورة لأن المشقة لا تلحق في سترهما فأشبها سائر بدنها، وما عدا هذا عورة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» وعن أم سلمة قالت: «يا رسول الله تصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها» رواه أبو داود. فصل: وما يظهر غالباً من الأمة، كالرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين، ليس بعورة، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نهى الأمة عن التقنع والتشبه بالحرائر، قال القاضي في الجامع: وما عدا ذلك عورة، لأنه لا يظهر غالباً، أشبه ما تحت السرة. وقال ابن حامد: عورتها كعورة الرجل، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته، فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة يريد عورة الأمة» ، رواه الدارقطني. ولأنه من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة، كالرجل والمدبرة والمعلق عتقها بصفة كالقن، لأنهما مثلها في البيع وغيره. وأم الولد والمعتق بعضها كذلك، لأن الرق باق فيهما إلا أنه يستحب لهما التستر، لما فيهما من شبه الأحرار. وعنه: أنها كالحرة لذلك. وعورة الخنثى المشكل كعورة الرجل، لأن الأصل عدم وجوب الستر، فلا نوجبه بالشك، وإن قلنا: العورة الفرجان، لزمه ستر قبله وذكره، لأن أحدهما واجب الستر، ولا يتيقن ستره إلا بسترهما. فصل: وإن انكشف من العورة شيء يسير عفي عنه، لأن اليسير يشق التحرز منه. وإن كثر بطلت الصلاة به، لأن التحرز منه ممكن، وإن أطارت الريح ثوبه عن عورته، فأعاده بسرعة، لم تبطل صلاته، لأنه يسير فأشبه اليسير في العورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فصل: ويجب ستر العورة بما يستر لون البشرة من الثياب أو الجلود أو غيرها، فإن وصف لون البشرة، لم يعتد به. لأنه ليس بساتر. ويجب أن يجعل على عاتقه شيئاً من اللباس في الصلاة المفروضة، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء» متفق عليه. فإن ترك عليه شيئاً من اللباس أجزأه وإن لم يسترها؛ استدلالاً بمفهوم الحديث. وقال القاضي: ستر المنكبين واجب في الفرض، وقيل: يجزئه وضع خيط، وظاهر الحديث يدل على ما ذكرناه. فصل: ويستحب للرجل أن يصلي في قميص ورداء أو إزار وسراويل، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قال: قال عمر: «إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما» . رواه أبو داود. فإن اقتصر على ثوب واحد أجزأه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد» . متفق عليه. والقميص أولى من الرداء، لأنه أعم في الستر، فإن كان واسع الجيب ترى منه عورته، لم يجزئه، لما روى سلمة بن الأكوع قال: قلت: «يا رسول الله إنا نصيد أفنصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم وازرره ولو بشوكة» حديث حسن. فإن كان ذا لحية تسد جيبه فلا ترى عورته جاز. وإن صلى في رداء، وكان واسعاً، التحف به. وإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ضيقاً خالف بين طرفيه على منكبيه، كالقصار، لما روى عمر بن أبي سلمة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد، قد ألقى طرفيه على عاتقيه» . متفق عليه. وإن لم يجد ما يستر عورته أو منكبيه، ستر عورته، لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الثوب واسعاً، فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به» رواه البخاري. ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وجلباب تلتحف به، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار. وإن صلت في درع وخمار يستر جميع بدنها أجزأ، لما روينا من حديث أم سلمة وقد روي عن أم سلمة وميمونة أنهما كانا يصليان في درع وخمار، ليس عليهما أزار. رواه مالك. فصل: فإن عدم السترة، وأمكنه الاستتار بحشيش بربطه عليه، أو ورق، لزمه، لأنه ساتر للبشرة، أشبه الثياب. وإن وجد طيناً لم يلزمه أن يطين عورته، لأنه يلوثه ولا يغيب الخلقة. وإن وجد بارية تؤذي جسمه، ويدخل القصب فيه، لم يلزمه لبسها، لما فيه من الضرر. وإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه، وإن كان كدر، لأنه ليس يستره، ويمنعه التمكن من الصلاة. فصل: فإن لم يجد إلا ما يستر بعض العورة ستر الفرجين، لأنهما أغلظ، وإن لم يكف إلا أحدها ستر الدبر في أحد الوجهين لأنه أفحش، وفي الآخر القبل، لأنه به يستقبل القبلة، والدبر يستتر بالأليتين، وأيهما ستر أجزأه. فصل: فإن عدم بكل حال صلى عرياناً جالساً يومئ بالسجود، لأنه يحصل به ستر أغلظ العورة , وهو آكد لما ذكرناه، وعنه يصلي قائماً ويركع ويسجد لأن المحافظة على ثلاثة أركان أولى من المحافظة على بعض شرط. يصلي العراة جماعة صفاً واحداً لئلا يرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 بعضهم عورات بعض، ويقوم إمامهم في وسطهم ليكون أستر له، فإن لم يسعهم صف واحد صلوا صفين وغضوا أبصارهم، فإن كان فيهم نساء صلى كل نوع لأنفسهم، فإن ضاق المكان صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهن الرجال. فصل: وإن وجد السترة بعد الصلاة لم يعد لأنه شرط للصلاة عجز عنه، أشبه القبلة، وإن وجدها في أثناء الصلاة قريبة، ستر وبنى، لأنه عمل قليل، وإن كانت بعيدة بطلت صلاته لأنه يفتقر إلى عمل كثير. وإن عتقت الأمة في الصلاة وهي مكشوفة الرأس فكذلك، فإن لم تعلم حتى صلت أعادت، كما لو بدت عورتها ولم تعلم بها. فصل: إذا كان معهم ثوب لأحدهم لزمته الصلاة فيه، فإن آثر غيره وصلى عرياناً لم تصح لأنه قادر على السترة، فإذا صلى استحب أن يعيره لرفقته، فإن لم يفعل لم يغصب لأن صلاتهم تصح بدونه. وإن أعاره لواحد لزمه قبوله وصار بمنزلته لأن المنة لا تلحق به، ولو وهبه له لم يلزمه قبوله، لأن فيه منة، فإن أعاره لجميعهم صلى فيه واحد بعد واحد إلا أن يخاف ضيق الوقت، فيصلي فيه واحد والباقون عراة. ويستحب أن يعيره لمن يصلح لإمامتهم حتى يؤمهم، ويقوم بين أيديهم فإن أعاره لغيره، جاز. قال القاضي: ويصلي وحده، لأنه قادر على شرط الصلاة، فلم يجز أن يأتم بالعاجز عنه، كالمعافى يأتم بمن به سلس البول. فصل: ويحرم لبس الثوب المغصوب، لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، فإن لم يجد غيره، صلى وتركه، ويحرم على الرجال استعمال ثياب الحرير، في لبسها وافتراشها، وكذلك المنسوج بالذهب، والمموه به، لما روى أبو موسى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وإن صلى في ذلك، ففيه روايتان. مضى توجيههما في المواضع المنهي عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وإن صلى في عمامة محرمة، أو خاتم ذهب، صحت صلاته، لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة. ولا بأس في صلاة المرأة في الحرير والذهب، لحله لها. ولا بأس بلبس الرجل الخز، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لبسوه. ومن لم يجد إلا ثوب حرير، صلى فيه، ولا يعيد، لأنه مباح له في تلك الحال، ويباح علم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحرير إلا موضع إصبعين، أو ثلاث أو أربع» . حديث صحيح. وقال أبو بكر: يباح وإن كان مذهباً، وكذلك الرقاع، ولبنة الجيب، وسجف الفراء، وما نسج من الحرير وغيره، جاز لبسه إذا قل الحرير عن النصف، لما روي عن ابن عباس أنه قال: «إنما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثوب المصمت، أما العلم وسدى الثوب، فليس به بأس» . رواه أبو داود. وإن زاد على النصف حرم لأن الحكم للأغلب، وإن استويا ففيه وجهان: أحدهما: إباحته للخبر. والثاني: تحريمه، لعموم خبر التحريم. ويباح لبس الحرير للقمل والحكة، لأن أنساً روى أن «عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام شكوا القمل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرخص لهما في قميص الحرير» . متفق عليه. وعنه: لا يباح، لعموم التحريم، واحتمال اختصاصهم بذلك. وهل يباح لبسه في الحرب، فيه روايتان: إحداهما: لا يجوز لعموم الخبر. والثانية: يجوز، لأن المنع منه للخيلاء، وهي غير مذمومة في الحرب، وكان لعروة يلمق من ديباج، بطانته من سندس، يلبسه في الحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وليس لولي الصبي أن يلبسه الحرير، لأنه ذكر فيدخل في عموم الخبر. وعنه: يباح، لأن الصبي غير مكلف، فأشبه ما لو ألبسه الدابة. فصل: ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر. لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يتزعفر الرجل» . متفق عليه. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهاني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لباس المعصفر» . رواه مسلم. ولا بأس بذلك للنساء. فأما ما عليه صور الحيوان فقال أبو الخطاب: يحرم لبسه، لأن أبا طلحة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب، ولا صورة» . وقال ابن عقيل: يكره وليس بمحرم، لأن في سياق الحديث: «إلا رقم في ثوب» متفق عليه. فصل: ويكره اشتمال الصماء، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى عن اشتمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الصماء» . رواه البخاري. ومعنى الصماء: أن يجعل الرداء تحت كتفه الأيمن، ويرد طرفيه على الأيسر، فيبقى منكبه الأيمن مكشوفاً. وعنه: إنما نهي عنه إذا لم يكن عليه إزار فيبدو فرجه، أما إذا كان عليه إزار فتلك لبسة المحرم، لا بأس بها. ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل اختيالاً، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» متفق عليه. ويكره تغطية الفم في الصلاة، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه» . رواه أبو داود. ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار، لما فيه من التشبه بالنصارى، فأما شده بغير ذلك، فلا بأس به. ويكره لف الكم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعراً ولا ثوباً» متفق عليه. [ باب استقبال القبلة ] وهو الشرط الرابع للصلاة، لقول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . والناس في القبلة على ضربين: منهم من يلزمه إصابة العين، وهو المعاين للكعبة. أو من بمكة أو قريباً منها من وراء حائل، فمتى علم أنه مستقبل الكعبة عمل بعلمه، وإن لم يعلم كالأعمى، والغريب بمكة، أجزأه الخبر عن يقين، أو مشاهدة أنه مصل إلى عين الكعبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الثاني: من فرضه إصابة جهة الكعبة، وهو البعيد عنها فلا يلزمه إصابة العين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ولأن الإجماع انعقد على صحة صلاة الاثنين المتباعدين، يستقبلان قبلة واحدة، ولا يمكن أن يصيب العين إلا أحدهما، وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: الحاضر في قرية أو من يجد من يخبره عن يقين، ففرضه التوجه إلى محاريبهم أو الرجوع إلى خبرهم، لأن هذا بمنزلة النص، فلا يجوز الرجوع إلى الاجتهاد معه، كالحاكم إذا وجد النص. الثاني: من عدم ذلك، وهو عارف بأدلة القبلة، ففرضه الاجتهاد، لأن له طريقاً إلى معرفتها بالاجتهاد، فلزمه ذلك، كالعالم في الحادثة. الثالث: من عجز عن ذلك، لعدم بصره أو بصيرته، أو لرمد أو حبس، ففرضه تقليد المجتهد، لأنه عجز عن معرفة الصواب باجتهاده، فلزمه التقليد، كالعامي في الأحكام، وإن أمكنه تعرف الأدلة، والاستدلال بها قبل خروج الوقت، لزمه ذلك، لأنه قدر على التوجه باجتهاد نفسه، فلم يجز له تقليد غيره كالعالم، فإن اختلف مجتهدان قلد العامي أوثقهما عنده، فإن قلد الآخر احتمل أن يجوز، لأنه دليل مع عدم غيره، فكذلك مع وجوده، واحتمل أن لا يجوز، لأنه عمل بما يغلب على ظنه خطؤه، فأشبه المجتهد إذا خالف جهة ظنه، فإن استويا عنده، قلد من شاء منهما كالعامي في الأحكام. فصل: ومن ترك فرضه في الاستقبال وصلى، لم تصح صلاته، وإن أصاب؛ لأنه تارك لفرضه، فأشبه ما لو أخطأ، وإن أتى بفرضه فبان أنه أخطأ، وكان في الحضر، أعاد، لأن ذلك لا يكون إلا لتفريط، وإن كان مسافراً لم يعده، لأنه أتى بما أمر من غير تفريط، فلم تلزمه إعادة، كما لو أصاب. وإن بان له الخطأ في الصلاة، استقبل جهة القبلة، وبنى على صلاته، لأن «أهل قباء بلغهم تحويل القبلة، وهم في الصلاة، فاستداروا إليها، وأتموا صلاتهم» . متفق عليه. وإن اختلف اجتهاد رجلين، لم يجز لأحدهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الائتمام بصاحبه، لأنه يعتقد خطأه، وإن اتفق اجتهادهما فصليا جميعاً، فبان الخطأ لأحدهما، استدار وحده، ونوى كل واحد منهما مفارقة صاحبه، فإن كان معهما مقلد تبع الذي قلده منهما، فدار بدورانه، وأقام بإقامته، وإن قلدهما جميعاً لم يدر إلا بدورانهما لأنه دخل في الصلاة بظاهر، فلا يزول إلا بمثله. وإن تغير اجتهاده في الصلاة رجع إليه كما لو بان له الخطأ، نص عليه لأنه مجتهد أداه اجتهاده إلى جهة، فلم يجز له تركها. وقال ابن أبي موسى: لا يرجع ويبني على الأول كيلا ينقض اجتهاده باجتهاده، والأول أولى. وإن شك في الصلاة مضى على ما هو عليه لأنه دخل فيها بظاهر فلا يزول عنه بالشك. وإن تبين له الخطأ، ولم يعلم جهة القبلة، فسدت صلاته، لأنه لا يمكن إتمامها إلى جهة يعلم الخطأ فيها، ولا التوجه إلى جهة أخرى بغير دليل، وإن صلى بالاجتهاد، ثم أراد صلاة أخرى لزمه الاجتهاد لها، كالحاكم إذا اجتهد في حادثة، ثم حدثت مرة أخرى. فصل: فإن خفيت الأدلة على المجتهد بغيم أو غيره، صلى على حسب حاله، ولا إعادة عليه، لما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » رواه ابن ماجة والترمذي. ولأنه أتى بما أمر به فأشبه المجتهد مع ظهور الأدلة. وإن لم يجد المقلد من يقلده صلى، وفي الإعادة روايتان: إحداهما: لا يعيد، لما ذكرنا. والثاني: يعيد، لأنه صلى بغير دليل. وقال ابن حامد: إن أخطأ أعاد وإلا ففيها وجهان. ويجوز للأعمى الاستدلال باللمس، فإذا لمس المحراب جاز له استقباله لأنه يحصل بذلك العلم، فأشبه البصير، فإن شرع في الصلاة بخبر غيره، فأبصر في أثنائها وهو ممن فرضه الخبر، بنى على صلاته، لأن فرضه لم يتغير، وإن كان فرضه الاجتهاد فشاهد ما يدل على القبلة من شمس أو محراب أو نحوه، أتم صلاته، وإن لم يشاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 شيئاً وكان قلد مجتهداً فسدت صلاته لأن فرضه الاجتهاد، فلا تجوز صلاته باجتهاد غيره. فصل: ولا يقبل خبر كافر ولا فاسق ولا صبي ولا مجنون، لما تقدم، ويقبل خبر من سواهم من الرجال والنساء والعبيد والأحرار، لأنه خبر من أخبار الديانة فأشبه الرواية، وإن رأى محاريب لا يعلم أهي للمسلمين أم لغيرهم؟ لم يلتفت إليها لأنه لا دلالة له فيها. فصل: والمجتهد في القبلة العالم بأدلتها وإن كان عامياً، ومن لا يعرفها، فهو مقلد وإن كان فقيهاً، فإن من علم دليل شيء كان مجتهداً فيه، وأوثق أدلتها النجوم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ، وآكدها القطب، وهو نجم خفي حوله أنجم دائرة كفراشة الرحى إحدى طرفيها الفرقدان. وفي طرفها الآخر الجدي، وبين ذلك أنجم صغار ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل، تدور هذه الفراشة حول القطب دوران الرحى حول قطبها في كل يوم وليلة دورة، وحول الفراشة بنات نعش مما يلي الفرقدين، وهي سبعة أنجم متفرقة مضيئة، والقطب في وسط الفراشة لا يبرح مكانه، إذا جعله إنسان وراء ظهره في الشام، كان مستقبلاً للكعبة، وإن استدبر الفرقدين أو الجدي كان مستقبلاً للجهة، وكذلك بنات نعش، إلا أن انحرافه يكون أكثر، والشمس والقمر ومنازلهما، وهي ثمانية وعشرون منزلاً تطلع كلها من المشرق، وتغرب من المغرب، يكون في طلوعها على ميسرة المصلي، وفي غروبها عن يمينه. ويستدل من الرياح بأربع تهب من زوايا السماء، الدبور تهب مما بين المغرب والقبلة، مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن، والصبا مقابلتها تهب من ظهره إلى كتفه اليسرى مارة إلى مهب الدبور، والجنوب تهب مما بين المشرق والقبلة مارة إلى الزاوية المقابلة لها، والشمال تهب من مقابلتها مارة إلى مهب الجنوب. فصل: ويسقط الاستقبال في ثلاثة مواضع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أحدها: عند العجز لكونه مربوطاً إلى غير القبلة، يصلي على حسب حاله، لأنه فرض عجز عنه أشبه القيام. والثاني: في شدة الخوف مثل حال التحام الحرب، والهرب المباح من عدو أو سيل أو سبع لا يمكنه التخلص منه إلا بالهرب، فيجوز له ترك القبلة، ويصلي حيث أمكنه راجلاً وراكباً، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مستقبلي القبلة وغير مستقبليها» رواه البخاري. ولأنه عاجز عن الاستقبال، فأشبه المربوط، فإن كان طالباً للعدو يخاف فوته، ففيه روايتان: إحداهما: يجوز له صلاة الخائف كالمطلوب، لأن عبد الله بن أنيس قال: «بعثني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سفيان بن خالد الهذلي لأقتله، فانطلقت أمشي فحضرت العصر، وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه» . رواه أبو داود، وظاهره أنه أخبر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكره. وقال الأوزاعي: قال شرحبيل بن حسنة: لا تصلوا الصبح إلا على ظهر، فنزل الأشتر فصلى على الأرض، فمر به شرحبيل، فقال: مخالف خالف الله به، فخرج الأشتر في الفتنة. ولأنها إحدى حالتي الخوف، فأشبهت حالة المطلوب. والثانية: لا يجوز، لأنه آمن. الثالث: النافلة في السفر، فإن كان راكباً، فله الصلاة على دابته، لما روى ابن عمر أن «رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه، وكان يوتر على بعيره» . متفق عليه. وكان يصلي على حماره، ولا فرق بين السفر الطويل والقصير، لأن ذلك تخفيف في التطوع كيلا يؤدي إلى قطعه وتقليله، فيستوي فيه الطويل والقصير، فإن أمكنه الاستقبال والركوع والسجود، كالذي في العمارية، لزمه ذلك، لأنه كراكب السفينة، ويحتمل أن لا يلزمه، لأن الرخصة العامة يستوي فيها ذو الحاجة وغيره. وإن شق عليه، صلى حيث كان وجهه يومئ بالركوع والسجود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، وإن شق عليه استقبال القبلة في تكبيرة الإحرام كراكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الجمل المقطور لا يمكنه إدارته، لم يلزمه. وإن كان سهلاً ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه ذلك، اختاره الخرقي، لأنه أمكنه الاستقبال في ابتداء الصلاة، فلزمه كالماشي. والثاني: لا يلزمه، اختاره أبو بكر، لأنه جزء من الصلاة، فأشبه سائرها، فإن عدلت به البهيمة عن جهة مقصده إلى جهة القبلة، جاز لأنها الأصل، وإن عدلت إلى غيرها، وهو عالم بذلك مختار له، بطلت صلاته، لأنه ترك قبلته لغير عذر. وإن ظنها طريقه أو غلبته الدابة، لم تبطل. فأما الماشي ففيه روايتان: إحداهما: له الصلاة حيث توجه لأنها إحدى حالتي سير المسافر، فأشبه الراكب، لكنه يلزمه الركوع والسجود على الأرض، مستقبلاً لإمكان ذلك. والثانية: لا يجوز، وهو ظاهر قول الخرقي، لأن الرخصة وردت في الراكب، والماشي يخالفه، لأنه يأتي في الصلاة يمشي وذلك عمل كثير، فإن دخل المسافر في طريقه بلداً جاز أن يصلي فيه، وإن كان في البلد الذي يقصده، أتم صلاته ولم يبتدئ فيه صلاة. [ باب اشتراط دخول الوقت لصحة الصلاة ] باب في الشرط الخامس: وهو الوقت وقد ذكرنا أوقات المكتوبات، ولا تصح الصلاة قبل وقتها بغير خلاف، فإن أحرم بها فبان أنه لم يدخل وقتها، انقلبت نفلاً، لأنه لما بطلت نية الفريضة، بقيت نية الصلاة. ووقت سنة كل صلاة مكتوبة متقدمة عليها من دخول وقتها إلى فعلها، ووقت التي بعدها من فعلها إلى آخر وقتها، فأما النوافل المطلقة، فجميع الزمان وقت لها إلا خمسة أوقات، بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تنزل، وبعد العصر حتى تتضيف الشمس للغروب، وإذا تضيفت حتى تغرب، فلا يجوز التطوع في هذه الأوقات بصلاة لا سبب لها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس» متفق عليه. وروى عقبة بن عامر قال: «ثلاث ساعات، كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب» . رواه مسلم. والنهي عما بعد العصر يتعلق بالفعل، فلو لم يصل فله التنفل، وإن صلى غيره، لأن لفظ العصر بإطلاقه ينصرف إلى الصلاة. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما بعد الصبح مثل ذلك، لأنها إحدى الصلاتين، فكان النهي متعلقاً بفعلها، كالعصر. والمشهور في المذهب أنه متعلق بالوقت، لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليبلغ الشاهد الغائب أن لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين» . رواه أبو داود. وسواء في هذا مكة، ويوم الجمعة وغيرهما، لعموم النهي في الجميع. فصل: ويجوز قضاء المكتوبات في كل وقت، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته» ويجوز في وقتين منهما، وهما بعد الفجر، وبعد العصر، الصلاة على الجنازة، لأنهما وقتان طويلان، فالانتظار فيهما يضر بالميت، وركعتا الطواف بعده، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار» رواه الشافعي والأثرم. وإعادة الجماعة لما روى يزيد بن الأسود أنه قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا، قال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحلكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكم نافلة» رواه الأثرم. فأما فعل هذه الصلوات الثلاث في الأوقات الثلاثة الباقية، ففيها روايتان: إحداهما: يجوز لعموم الأدلة المجوزة، ولأنها صلاة جازت في بعض أوقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 النهي، فجازت في جميعها، كالقضاء. والثانية: لا يجوز، لقول عقبة في حديثه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا» . وذكر الصلاة مع الدفن ظاهر في الصلاة على الميت، ولأن النهي في هذه الأوقات آكد لتخصيصهن بالنهي في أحاديث، ولأنها أوقات خفيفة، لا يخاف على الميت فيها، ولا يشق تأخير الركوع للطواف فيها بخلاف غيرها. فصل: ومتى أعاد المغرب شفعها برابعة نص عليه، لأنها نافلة، ولا يشرع التنفل بوتر في غير الوتر، ومتى أقيمت الصلاة في وقت نهي، وهو خارج من المسجد، لم يستحب له الدخول، فإن دخل صلى معهم، لما روي عن ابن عمر أنه خرج من دار عبد الله بن خالد حتى إذا نظر إلى باب المسجد إذا الناس في الصلاة فلم يزل واقفاً حتى صلى الناس، وقال: إني قد صليت في البيت. فصل: فأما سائر الصلوات ذوات الأسباب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وقضاء السنن، ففيها روايتان: إحداهما: المنع لعموم النهي، ولأنها نافلة، فأشبهت ما لا سبب له. والثانية: يجوز فعلها، لما روت أم سلمة، قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم بعد العصر، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله صليت صلاة لم أكن أراك تصليها، فقال: إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر، وإنما قدم وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فهما هاتان الركعتان» رواه مسلم. وعن قيس بن عمر قال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلاة الصبح مرتين؟ فقال له الرجل: إني لم أكن صليت ركعتين قبلها، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 رواه أبو داود. ولأنها صلاة ذات سبب، فأشبهت ركعتي الطواف، والمنصوص عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الوتر أنه يفعله قبل الفجر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن «الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح» رواه الأثرم. وقال في ركعتي الفجر: إن صلاهما بعد الفجر أجزأه. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما أنا فأختار تأخيرهما إلى الضحى، لما روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس» . [ باب النية في الصلاة ] باب النية وهي الشرط السادس، فلا تصح الصلاة إلا بها بغير خلاف، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنها عبادة محضة، فلم تصح بغير نية، كالصوم. ومحل النية: القلب، فإذا نوى بقلبه أجزأه، وإن لم يلفظ بلسانه. وإن نوى صلاة فسبق لسانه إلى غيرها، لم تفسد صلاته. والأفضل النية مع تكبيرة الإحرام، لأنها أول الصلاة لتكون النية مقارنة للعبادة، ويستحب استصحاب ذكرها في سائر الصلوات، لأنها أبلغ في الإخلاص، وإن تقدمت النية التكبير بزمن يسير، جاز ما لم يفسخها، لأن أولها من أجزائها، فكفى استصحاب النية فيها كسائر أجزائها. وإن كانت فرضاً لزمه أن ينوي الصلاة بعينها، ظهراً أو عصراً لتتميز عن غيرها. قال ابن حامد: ويلزمه أن ينوي فرضاً، لتتميز عن ظهر الصبي، والمعادة. وقال غيره: لا يلزمه لأن ظهر هذا لا يكون إلا فرضاً، وينوي الأداء في الحاضرة والقضاء في الفائتة، وفي وجوب ذلك وجهان: أولاهما: أنه لا يجب لأنه لا يختلف المذهب في من صلى في الغيم بالاجتهاد، فبان بعد الوقت أن صلاته صحيحة، وقد نواها أداء، فإن كانت سنة معينة كالوتر ونحوه، لزم تعيينها أيضاً، وإن كانت نافلة مطلقة أجزأته نية الصلاة. ومتى شك في أثناء الصلاة هل نواها أم لا؟ لزمه استئنافها، لأن الأصل عدمها، فإن ذكر أنه نوى قبل أن يحدث شيئاً من أفعال الصلاة أجزأه. وإن فعل شيئا قبل ذكره بطلت صلاته، لأنه فعله شاكاً في صلاته. وإن نوى الخروج من الصلاة بطلت؛ لأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطعها. وإن تردد في قطعها فعلى وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أحدهما: تبطل لما ذكرنا. والثاني: لا تبطل، لأنه دخل فيها بنية متيقنة، فلا يخرج منها بالشك. وإذا نوى في صلاة الظهر ثم قلبها عصراً فسدتا جميعاً، لأنه قطع نية الظهر ولم تصح العصر، لأنه ما نواها عند الإحرام. وإن قلبها نفلاً لعذر، مثل أن يحرم بها منفرداً، فتحضر جماعة فيجعلها نفلاً ليصلي فرضه في الجماعة، صح لأن نية النفل تتضمنها نية الفرض. وإن فعل ذلك لغير غرض كره، وصح قلبها لما ذكرنا، ويحتمل أن لا يصح لما ذكرنا في الظهر والعصر. [ باب صفة الصلاة ] وأركانها خمسة عشر: القيام وهو واجب في الفرض، لقول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري. فإن كبر للإحرام قاعداً، أو في حال نهوضه إلى القيام، لم يعتد به، لأنه أتى به في غير محله. ويستحب القيام للمكتوبة عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة، لأنه دعاء إلى القيام، فاستحب المبادرة إليه. ويستحب للإمام تسوية الصفوف، لما روى أنس بن مالك قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه - يعني عوداً في المحراب - ثم فقال التفت وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم، ثم أخذ بيساره، وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم» رواه أبو داود. فصل: ثم يكبر للإحرام، وهو الركن الثاني، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمسيء في صلاته: «إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 قمت إلى الصلاة فكبر» وقال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود. وقال: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر» ولا يجزئه غيره من الذكر، ولا قول: الله أكبر، ولا التكبير بغير العربية، لما ذكرنا، فإن لم يحسن العربية، لزمه التعلم. فإن خشي خروج الوقت، ففيه وجهان: أحدهما: يكبر بلغته، لأنه عجز عن اللفظ، فلزمه الإتيان بمعناه، كلفظة النكاح. والثاني: لا يكبر بغير العربية، لأنه ذكر تنعقد به الصلاة، فلم يجز التعبير عنه بغير العربية، كالقراءة، فعلى هذا يكون حكمه حكم الأخرس، فإن عجز عن بعض اللفظ، أو عن بعض الحروف، أتى بما يمكنه، وإن كان أخرس، فعليه تحريك لسانه، لأن ذلك كان يلزمه مع النطق، فإذا عجز عن أحدهما بقي الآخر. ذكره القاضي. ويقوى عندي أن لا يلزمه تحريك لسانه، لأن ذلك إنما وجب على الناطق ضرورة القراءة، وإذا سقطت سقط ما هو من ضرورتها، كالجاهل الذي لا يحسن شيئاً من الذكر، ولأن تحريك لسانه بغير القراءة عبث مجرد، فلا يرد الشرع به، ويبين التكبير، ولا يمططه، فإن مططه تمطيطاً يغير المعنى، مثل أن يمد الهمزة في اسم الله تعالى، فيجعله استفهاماً، أو يمد أكبار، فيزيد ألفاً فيصير جمع كبير. وهو الطبل، لم تجزه، ويجهر بالتكبير إن كان إماماً بقدر ما يسمع من خلفه، وإن لم يكن إماماً بقدر ما يسمع نفسه كالقراءة. فصل: ويستحب أن يرفع يده، ممدودة الأصابع، مضموماً بعضها إلى بعض حتى يحاذي بهما منكبيه، أو فروع أذنيه لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، ولا يفعل ذلك في السجود» . متفق عليه. ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه مع انتهائه، لأن الرفع للتكبير، فيكون معه فإن سبق رفعه التكبير، أثبتهما حتى يكبر، ولا يحطهما في حال التكبير. وإن لم يرفع حتى فرغ التكبير، لم يرفع لأنه سنة فات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 محلها. وإن ذكر في الثانية، رفع لأن محله باق، وإن عجز عن الرفع إلى حذو المنكبين، رفع قدر ما يمكنه، وإن عجز عن رفع إحدى اليدين رفع الأخرى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . فصل: فإذا فرغ استحب وضع يمينه على شماله، لما روى هلب، قال، «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. ويجعلهما تحت السرة، لما روي عن علي أنه قال: «السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة» . رواه أبو داود. وعنه: فوق السرة. وعنه: أنه مخير. ويستحب جعل نظره إلى موضع سجوده، لأنه أخشع للمصلي، وأكف لنظره. فصل: ويستحب أن يستفتح. قال أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر - يعني ما رواه الأسود - أنه صلى خلف عمر، فسمعه كبر، فقال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» . رواه مسلم. ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الاستفتاح كان حسناً، أو قال: جائزاً. وإنما اختاره أحمد، لأن عائشة وأبا سعيد، قالا: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استفتح الصلاة، قال ذلك. وعمل به عمر بمحضر من الصحابة، فكان أولى من غيره، وصوب الاستفتاح بغيره مثل ما روى أبو هريرة قال: «قلت: يا رسول الله أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بالثلج والماء والبرد» متفق عليه. قال أحمد: ولا يجهر الإمام بالاستفتاح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجهر به. فصل: ثم يستعيذ بالله، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . قال ابن المنذر: وجاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» . فصل: ثم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا يجهر بها، لما روى أنس بن مالك قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» . رواه البخاري ومسلم. وفيها روايتان: إحداهما: أنها آية من الفاتحة، اختارها أبو عبد الله بن بطة، وأبو حفص، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قرأ في الصلاة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وعدها آية، والحمد لله رب العالمين آيتين» ، ولأن الصحابة أثبتوها في المصاحف فيما جمعوا من القرآن، فدل على أنها منها. والثانية: ليست منها، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين ... إلى آخرها، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» رواه مسلم. ولو كانت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ منها لبدأ بها، ولم يتحقق التنصيف، ولأن مواضع الآي كالآي في أنها لا تثبت إلا بالتواتر، ولا تواتر فيما نحن فيه، ومن نسي الاستفتاح حتى شرع في الاستعاذة أو نسي الاستعاذة حتى شرع في البسملة، أو البسملة حتى شرع في الفاتحة على الرواية التي تقول: ليست من الفاتحة، لم يرجع إليها لأنها سنة فات محلها. فصل: ثم يقرأ الفاتحة، وهو الركن الثالث في حق الإمام المنفرد، لما روى عبادة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» متفق عليه. ولا تجب على المأموم لقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] . وروى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما لي أنازع القرآن قال: فانتهى الناس أن يقرأوا فيما جهر فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مالك في الموطأ. ولأنها لو وجبت عليه لم تسقط عن المسبوق، كسائر الأركان لكن إن سمع قراءة الإمام أنصت له، ويقرأ في سكاته وإسراره، لأن مفهوم قوله: فانتهى الناس أن يقرؤوا فيما جهر فيه، أنهم يقرأون في غيره. وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة، لما روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يقرأ في الأخيرتين بأم الكتاب» . متفق عليه. وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم المسيء في صلاته، فقال: «اقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر، ثم قال: اصنع في كل ركعة مثل ذلك» ولأنه ركن لا تفتتح به الصلاة فتكرر في كل ركعة، كالركوع. وعنه: لا تجب إلا في الأوليين، لأنها لو وجبت في غيرهما لسن الجهر بها في بعض الصلوات كالأوليين. ويجب أن يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية، فإن قطع قراءتها بذكر كثير، أو سكوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 طويل عامداً، أعادها وإن فعل ذلك ناسياً، أو كان الذكر أو السكوت يسيراً، أتمها لأن الموالاة لا تفوت بذاك. وإن نوى قطعها، لم تنقطع، لأن القراءة باللسان فلم تنقطع بالنية بخلاف نية الصلاة. ويأتي فيها بإحدى عشرة تشديدة، فإن أخل بحرف منها أو شدة، لم تصح، لأنه لم يقرأها كلها، والشدة أقيمت مقام حرف، وإن خفف الشدة صح، لأنه كالنطق به مع العجلة. فصل: فإذا فرغ منها، قال: آمين، يجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة، لما روى وائل بن حجر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قال: ولا الضالين قال: آمين، ورفع بها صوته» . رواه أبو داود. ويؤمن المأمومون مع تأمينه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، فقولوا: آمين» ، وفي لفظ: «إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له» متفق عليه. ويجهرون بها لما روى عطاء أن ابن الزبير كان يؤمن ويؤمنون حتى إن للمسجد للجة. رواه الشافعي في مسنده. فإن نسيه الإمام جهر به المأموم، ليذكره فإن لم يذكره حتى شرع في القراءة لم يأت به، لأنه سنة فات محلها. وفي آمين لغتان: قصر الألف ومدها مع التخفيف، فإن شدد الميم لم يجزئه لأنه يغير معناها. فصل: فإن لم يحسن الفاتحة، لزمه تعلمها، فإن ضاق الوقت عن ذلك، قرأ سبع آيات من غيرها. وهل يجب أن يكون في عدد حروفها؟ على وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أحدهما: [يجب] لأن الثواب مقدر بالحروف، فاعتبرت كالآي. والآخر: لا يعتبر، لأنه من فاته صوم يوم طويل لم يعتبر كون القضاء في يوم طويل مثله، فإن لم يحسن سبعاً كرر ما يحسن بقدرها، فإن لم يحسن إلا آية من الفاتحة وشيئاً من غيرها، ففيه وجهان: أحدهما: يكرر آية الفاتحة، لأنها أقرب إليها. والثاني: يقرأ تمام السبع من غيرها، لأنه لو لم يحسن شيئاً من الفاتحة، قرأ من غيرها فما عجز عنه منها وجب أن يأتي ببدله من غيرها، فإن لم يحسن الفاتحة بالعربية، لم يجز أن يترجم عنها بلسان آخر، لأن الله تعالى جعل القرآن عربياً، ويلزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن، فعلمني ما يجزئني، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه أبو داود. ولأنه ركن من الصلاة، فقام غيره مقامه عند العجز عنه، كالقيام، فإن لم يحسن إلا بعض ذلك، كرره بقدره، فإن لم يحسن شيئاً وقف بقدر القراءة. فصل: ويستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة سكتة، يقرأ فيها من خلفه، لما روى سمرة: أنه حفظ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكتتين، سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] رواه أبو داود. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب، إذا افتتح الصلاة، وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] . فصل: ويسن أن يقرأ بعد الفاتحة سورة تكون في الصبح من طوال المفصل، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 المغرب من قصاره، وفي سائرهن من أوساطه، لما روى جابر بن سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الفجر بـ "ق» رواه مسلم. وعنه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] و {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ونحوهما من السور» . رواه أبو داود. وعنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دحضت الشمس، صلى الظهر، ويقرأ بنحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] والعصر كذلك، والصلوات كلها إلا الصبح، فإنه كان يطيلها» . رواه أبو داود. وما قرأ به بعد أم كتاب في ذلك كله أجزأه. ويستحب له أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة، لما روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر، بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وكان يقرأ في العصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب، وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، وكان يطول في الركعة الأولى من الصبح، ويقصر في الثانية» . متفق عليه. وفي رواية: «فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، ولا يزيد على أم الكتاب في الأخيرتين من الرباعية، ولا الثالثة من المغرب» ، لهذا الحديث. فصل: ويسن للإمام الجهر بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء، والإسرار فيما وراء ذلك، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك. ولا يسن الجهر لغير الإمام، لأنه لا يقصد إسماع غيره، وإن جهر المنفرد فلا بأس، لأنه لا ينازع غيره، وكذلك القائم لقضاء ما فاته من الجماعة. وإن فاتته الصلاة ليلاً فقضاها نهاراً، لم يجهر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاة النهار عجماء» فإن فاتته صلاة نهار فقصاها ليلاً لم يجهر، لأنها صلاة نهار، وإن فاتته ليلاً، فقضاها ليلاً في جماعة جهر. وإذا فرغ من القراءة استحب له أن يسكت سكتة قبل الركوع، لأن في حديث سمرة في بعض رواياته: «وإذا فرغ من القراءة سكت» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فصل: ثم يركع وهو الركن الرابع، لقول الله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ويكبر للركوع، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قام إلى الصلاة كبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، يفعل ذلك في صلاته كلها» ، رواه البخاري. وفي هذه التكبيرات روايتان: إحداهما: أنها واجبة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعلها، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» متفق عليه. ولأن الهوي إلى الركوع فعل، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام. والثانية: لا يجب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلمها المسيء في صلاته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ويستحب أن يرفع يديه مع التكبير لحديث ابن عمر، وقدر الإجزاء: الانحناء حتى يمكنه مس ركبتيه بيديه، لأنه لا يسمى راكعاً بدونه. ويجب أن يطمئن راكعاً وهو الركن الخامس، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته: «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» متفق عليه. ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه، قابضاً لهما، ويسوي ظهره، ولا يرفع رأسه، ولا يخفضه، ويجافي يديه على جنبيه، لما روى أبو حميد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره» ، وفي لفظ: «ركع ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه ولم يقنع» . وفي رواية: «ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه، فنحاهما عن جنبيه» . حديث صحيح. فصل: ثم يقول: سبحان ربي العظيم، وفيه روايتان: إحداهما: يجب، لما روى عقبة بن عامر أنه «لما نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجعلوها في ركوعكم فلما نزل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: اجعلوها في سجودكم رواه» أبو داود. ولأنه فعل في الصلاة، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام. والثانية: ليس بواجب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلمه المسيء في صلاته، وأدنى الكمال ثلاث، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ركع أحدكم فليقل: سبحان ربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 العظيم ثلاثاً، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وذلك أدناه» رواه الأثرم والترمذي. وإن اقتصر على واحدة أجزأه، لأنه ذكر مكرر، فأجزأت الواحدة، كسائر الأذكار. فصل: ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده، حتى يعتدل قائماً، وهذا الرفع والاعتدال الركن السادس والسابع، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته: «ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» وفي حديث أبي حميد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه، واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه معتدلاً» . وفي وجوب التسميع روايتان، لما ذكرنا في التكبير، ولا يشرع للمأموم، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال: الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» ويقول في اعتداله: ربنا ولك الحمد. وفي وجوبه روايتان. لما ذكرنا. قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يثبت أمر الواو. وقال: قد روى فيه الزهري ثلاثة أحاديث عن أنس، وعن سعيد عن أبي هريرة، وعن سالم عن أبيه. وإن قال: ربنا لك الحمد، جاز، نص عليه، لأنه قد صحت به السنة. ويستوي في ذلك كل مصل، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله، وأمر به المأمومين. ويستحب أن يقول: ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، لما روى أبو سعيد، وابن أبي أوفى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد» متفق عليه. ولا يستحب للمأموم الزيادة على «ربنا ولك الحمد» نص عليه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فقولوا: ربنا ولك الحمد» ولم يأمره بغيره. وعنه: ما يدل على استحباب قول: «ملء السماء» وهو اختيار أبي الخطاب لأنه ذكر مشروع للإمام، فشرع للمأموم كالتكبير. وموضع ربنا ولك الحمد، من حق الإمام المنفرد بعد اعتداله، وللمأموم حال رفعه، لأن قوله: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» يقتضي تعقيب قول الإمام قول المأموم، وهي حال رفعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فصل: في السجود: ثم يخر ساجداً ويطمئن في سجوده، وهما الركن الثامن والتاسع، لقول الله تعالى: {اسْجُدُوا} [البقرة: 34] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» وينحط إلى السجود مكبراً لحديث أبي هريرة، ولا يرفع يديه، لحديث ابن عمر. ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، لما روى وائل بن حجر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» رواه أبو داود. والسجود على هذه الأعضاء واجب، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أسجد على سبع أعظم، الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه، واليدين والركبتين، وأطراف القدمين» متفق عليه. وفي الأنف روايتان: إحداهما: لا يجب السجود عليه، لأنه ليس من السبعة المذكورة. والثانية: تجب، لإشارة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أنفه عند بيان أعضاء السجود. ولا يجب مباشرة المصلي بشيء من هذه الأعضاء إلا الجبهة، فإن فيها روايتين: إحداهما: يجب، لما روي عن خباب قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا» . رواه مسلم. والثانية: لا يجب، وهو ظاهر المذهب، لما روى أنس قال: «كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود» . رواه البخاري ومسلم. ولأنها من أعضاء السجود، فجاز السجود على حائلها كالقدمين. ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، لما روى أبو حميد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جافى عضديه عن إبطيه» . «ووصف البراء سجود النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضع يديه واعتمد على ركبتيه ورفع عجيزته وقال: هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد» . رواه أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 داود. ويستحب أن يضم أصابع يديه بعضها إلى بعض، ويضعها على الأرض حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويكون على أطراف أصابع قدميه، ويثنيها نحو القبلة، لما روى أبو حميد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع كفيه حذو منكبيه» . وفي لفظ: «سجد غير مفترش، ولا قابضهما، واستقبل بأطراف رجليه القبلة» . وفي رواية: «فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه، وصدور قدميه، وهو ساجد» . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش افتراش الكلب» ، صحيح متفق على معناه. ويقول: سبحان ربي الأعلى، وحكمه حكم تسبيح الركوع في عدده ووجوبه لما مضى. فإذا أراد السجود فهوى على وجهه، فوقعت جبهته على الأرض، أجزأه لأنه قد نواه. وإن انقلب على جنبه، ثم انقلب فمست جبهته الأرض ناوياً السجود، أجزأه، وإن لم ينو لم يجزئه، ويأتي بالسجود بعده. فصل: ثم يرفع رأسه مكبراً، ويعتدل جالساً، وهما الركن العاشر والحادي عشر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم ارفع حتى تطمئن جالساً» ويجلس مفترشاً، يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، لقول أبي حميد في وصف صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، وينهى عن عقبة الشيطان» . رواه مسلم. ويسن أن يثني أصابع اليمنى نحو القبلة، لما روى النسائي عن ابن عمر أنه قال: «من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 بأصابعها القبلة» . ويكره الإقعاء وهو أن يفترش قدميه، ويجلس على عقبيه، بهذا فسره أحمد، لحديث أبي حميد وعائشة. وعن أحمد أنه قال: لا أفعله، ولا أعيب في فعله، العبادلة كانوا يفعلونه، وقال ابن عباس: «هو سنة نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم. ويقول: رب اغفر لي، لما روى حذيفة «أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي رب اغفر لي» رواه النسائي. والقول في وجوبه وعدده، كالقول في تسبيح الركوع. وإن قال ما روى ابن عباس: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني، واهدني، وعافني وارزقني فلا بأس» . رواه أبو داود. فصل: ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى سواء، وفيها ركنان، ثم يرفع رأسه مكبراً لحديث أبي هريرة. وهل يجلس للاستراحة فيه؟ فيه روايتان: إحداهما: يجلس، اختارها الخلال، لما روى مالك بن الحويرث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض» . متفق عليه. وصفة جلوسه مثل جلسة الفصل، لما روى أبو حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ثم نهض» . حديث صحيح. وقال الخلال: روى عن أحمد من لا أحصيه كثرة أنه يجلس على إليته. وقال الآمدي: يجلس على قدميه، ولا يلصق إليته بالأرض. والرواية الثانية: لا يجلس بل ينهض على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهض على صدور قدميه» . وفي حديث وائل بن حجر: «وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» . وفي لفظ: «فإذا نهض، نهض على ركبتيه، واعتمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 على فخذيه» . رواه أبو داود. ولا يعتمد بيده على الأرض، لما ذكرنا، إلا أن يشق ذلك عليه، لضعف أو كبر. ولا يكبر لقيامه من جلس الاستراحة لأنه قد كبر لرفعه من السجود. فصل: ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها» إلا في النية والاستفتاح، لأنه يراد لافتتاح الصلاة، وفي الاستعاذة روايتان: إحداهما: يستعيذ، لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] فيقتضي أن يستعيذ عند كل قراءة. والثانية: لا يستعيذ لما روى أبو هريرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نهض من الركعة الثانية، استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت» . رواه مسلم. ولأن الصلاة جملة واحدة، فإذا أتى بالاستعاذة من أولها، كفى كالاستفتاح، فإن نسيها في أول الصلاة، أتى بها في الثانية، والاستفتاح خلاف ذلك، نص عليه. فصل: ثم يجلس مفترشاً، لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «فإذا جلس في الركعتين، جلس على اليسرى ونصب الأخرى» ، وفي لفظ: «فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته» . صحيح. ويستحب أن يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى مبسوطة مضمومة الأصابع مستقبلاً بأطرافها القبلة، أو يلقمها ركبته، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، يعقد الوسطى مع الإبهام عقد ثلاث وخمسين، ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى، ويقبض الخنصر والبنصر، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة» . رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وعنه: يبسط الخنصر والبنصر، لما روى ابن الزبير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة يدعو، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى يدعو» ، وفي لفظ: «وألقم كفه اليسرى ركبته» ، رواه مسلم. وفي لفظ: «وكان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها» ، رواه أبو داود. فصل: ثم يتشهد لما روى ابن مسعود قال: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد، كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . متفق عليه. قال الترمذي هذا أصح حديث روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، فاختاره أحمد لذلك، فإن تشهد بغيره مما صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتشهد ابن عباس وغيره جاز، نص عليه. ومقتضى هذا أنه متى أخل بلفظة ساقطة في بعض التشهدات، فلا بأس، فإذا فرغ منه، وكانت الصلاة أكثر من ركعتين، لم يزد عليه، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف.» رواه أبو داود. لشدة تخفيفه، ثم نهض مبكراً كنهوضه من السجود، ويصلي الثالثة والرابعة كالأوليين إلا في الجهرية، ولا يزيد على فاتحة الكتاب لما قدمناه. فصل: فإذا فرغ جلس فتشهد، وهما الركن الثاني والثالث عشر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وعلمه ابن مسعود، ثم قال: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» رواه أبو داود. وعن ابن مسعود قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: التحيات لله» فدل هذا على أنه فرض، ويجلس متوركًا يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه؛ لقول أبي حميد في وصفه: «فإذا جلس في الركعتين جلس على اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى، وجلس متوركًا على شقه الأيسر، وقعد على مقعدته» . رواه البخاري. وقال الخرقي: يجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى، ويجعل إليته على الأرض؛ لأن في بعض لفظ حديث أبي حميد: «جلس على إليتيه، وجعل باطن قدمه اليسرى عند مأبض اليمنى، ونصب قدمه اليمنى» . وقال ابن الزبير: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه» ، رواهما أبو داود: وأيهما فعل جاز، ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما؛ لأنه جعل للفرق، ولا حاجة إليه مع عدم الاشتباه. فصل: ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيها روايتان: إحداهما: ليست واجبة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد: «فإذا فعلت فقد تمت صلاتك» . والثانية: أنها واجبة، قال أبو زرعة الدمشقي، عن أحمد قال: كنت أتهيب ذلك، ثم تبينت، فإذا الصلاة واجبة، ووجهها ما روى كعب بن عجرة قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 مجيد» متفق عليه، قال بعض أصحابنا: وتجب الصلاة على هذه الصفة، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها، والأولى أن يكون هذا الأفضل، وكيفما أتى بالصلاة أجزأه؛ لأنها رويت بألفاظ مختلفة، فوجب أن يجزئ منها ما اجتمعت عليه الأحاديث. فصل: ويستحب أن يتعوذ من أربع؛ لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» متفق عليه، ولمسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع» وذكره، وما دعا به مما ورد في القرآن والأخبار فلا بأس إلا أن يكون إمامًا، فلا يستحب له التطويل، كيلا يشق على المأمومين إلا أن يؤثروا ذلك، وقد روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» متفق عليه. فصل: ولا يجوز أن يدعو فيها بالملاذ وشهوات الدنيا، وما يشبه كلام الآدميين، مثل: اللهم ارزقني زوجة حسناء، وطعامًا طيبًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم، ولأن هذا يتخاطب بمثله الآدميون أشبه تشميت العاطس، ورد السلام. فصل: ثم يسلم، والسلام هو الركن الرابع عشر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود، والترمذي، ولأنه أحد طرفي الصلاة، فكان فيه نطق واجب كالأول، ويسلم تسليمتين، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويلتفت عن يمينه وعن يساره كذلك، لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، وفي لفظ: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه وعن يساره» ، رواه مسلم. ويكون التفاته في الثانية أوفى، قال ابن عقيل يبتدئ بقوله: السلام عليكم إلى القبلة، ثم يلتفت قائلًا: ورحمة الله عن يمينه ويساره؛ «لقول عائشة كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم تلقاء وجهه» ، معناه ابتداء السلام، ويستحب أن يجهر بالأولى أكثر من الثانية، نص عليه، واختاره الخلال، وحمل أحمد «حديث عائشة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة» ، على أنه كان يجهر بواحدة، ويستحب أن لا يمد السلام؛ لأن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حذف السلام سنة» رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. قال ابن المبارك: معناه لا يمده مدًا. قال أحمد: معناه لا يطول به صوته. فصل: والواجب تسليمة واحدة، والثانية سنة؛ لأن عائشة وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع رووا أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فسلم مرة واحدة» ، ولأنه إجماع حكاه ابن المنذر، وعنه أن الثانية واجبة؛ لأن جابرًا قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله» رواه مسلم، ولأنها عبادة لها تحللان، فكان الثاني واجبًا كالحج. فصل: فإن اقتصر على قول: السلام عليكم، فقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه يجزئه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 نص عليه في صلاة الجنازة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحليلها التسليم» وهو حاصل بدون الرحمة، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم، السلام عليكم. وقال ابن عقيل: الصحيح أنه لا يجزئ؛ لأن من وصف سلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصحابة، قال فيه: " ورحمة الله " ولأنه سلام ورد فيه ذكر الرحمة، فلم يجزئه بدونها، كالسلام على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، ويأتي بالسلام مرتبًا فإن نكسه، فقال: عليكم السلام، أو نكس التشهد لم تصح. وذكر القاضي وجهًا من صحته؛ لأن المقصود يحصل، وهو بعيد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مرتبًا، وعلمهم إياه مرتبًا، ولأنه ذكر يؤتى به في أحد طرفي الصلاة، فاعتبر ترتيبه كالتكبير. فصل: وينوي بسلامه الخروج من الصلاة، فإن لم ينو لم تبطل صلاته، نص عليه؛ لأن نية الصلاة قد شملت جميعها، والسلام من جملتها، ولأنها عبادة فلم تجب النية للخروج منها كسائر العبادات، وقال ابن حامد: تبطل صلاته؛ لأنه أحد طرفي الصلاة، فوجبت فيه النية كالآخر، وإن نوى بالسلام على الحفظة وعلى المصلين معه فلا بأس، نص عليه؛ لحديث جابر الذي قدمناه، وفي لفظ: «أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نرد على الإمام، وأن يسلم بعضنا على بعض» رواه أبو داود. فصل: ويستحب ذكر الله تعالى بعد انصرافه من الصلاة ودعائه واستغفاره، قال المغيرة: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» متفق عليه. وقال ثوبان: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه مسلم. «وقال ابن عباس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته» متفق عليه. فصل: ويكره للإمام إطالة الجلوس في مكانه مستقبل القبلة؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه ابن ماجه. فإن أحب قام، وإن شاء انحرف عن قبلته، لما روى سمرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى أقبل علينا بوجهه» ، رواه مسلم. وينصرف حيث شاء، عن يمين أو شمال؛ لقول ابن مسعود: «لا يجعل أحدكم للشيطان حظًا من صلاته، يرى أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر ما ينصرف عن يساره» . متفق عليه. فإن كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن تثب النساء، ويثبت هو والرجال، بقدر ما ينصرف النساء؛ لقول أم سلمة: «إن النساء في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام الرجال، قال الزهري: فنرى أن ذلك لكي ينفذ من ينصرف من النساء» ، رواه البخاري. ولأن الإخلال بذلك يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء، ولا يثب المأمومون قبل انصراف الإمام، لئلا يذكر سهوًا فيسجد، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني إمامكم فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف» رواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 مسلم. فإن انحرف عن قبلته أو خالف السنة في إطالة الجلوس مستقبل القبلة، فلا بأس أن يقوم المأموم ويدعه. فصل: ويكره للإمام التطوع في موضع صلاة مكتوبة، نص عليه، وقال: كذا قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وللمأموم أن يتطوع في موضع صلاته، فعله ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وروى المغيرة بن شعبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلي به الناس» رواه أبو داود. فإن دعت إليه ضرورة، لضيق المسجد انحرف قليلًا عن مصلاه، ثم صلى. فصل: وترتيب الصلاة على ما ذكرنا، وهو الركن الخامس عشر، فصارت أركان الصلاة خمسة عشر، لا يسامح بها في عمد ولا سهو. وواجباتها المختلف فيها: تسعة؛ التكبير سوى تكبيرة الإحرام، التسبيح في الركوع والسجود مرة مرة، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: ربنا ولك الحمد، وقول: رب اغفر لي، بين السجدتين مرة، والتشهد الأول، والجلوس له، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتسليمة الثانية: وقد ذكرنا في وجوب جميعها روايتين. وما عدا ذلك فسنن، تتنوع ثلاثة أنواع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 سنن الأقوال، وهي اثنتا عشرة: الاستفتاح، والاستعاذة، وقراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقول آمين، وقراءة السورة بعد الفاتحة، والجهر والإخفات في موضعهما، وما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود، وعلى المرة في سؤال المغفرة، وقول ملء السماء بعد التحميد، والدعاء، والتعوذ في التشهد الأخير، وقنوت الوتر. النوع الثاني: سنن الأفعال، وهي اثنتان وعشرون: رفع اليدين عند الإحرام، الركوع والرفع منه، ووضع اليمنى على اليسرى، وجعلهما فوق السرة، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومد الظهر والتسوية بين رأسه وظهره، والتجافي فيه، والبداءة بوضع الركبتين قبل اليدين في السجود، ورفع اليدين قبل الركبتين في النهوض، والتجافي فيه، وفتح أصابع رجليه فيه، وفي الجلوس، ووضع يديه حذو منكبيه مضمومة، مستقبلًا بها القبلة، والتورك في التشهد الأخير، والافتراش في الأول، وفي سائر الجلوس، ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة محلقة، والإشارة بالسبابة، ووضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة، والالتفات عن يمينه وشماله في التسليم، والسجود على أنفه، وجلسة الاستراحة على إحدى الروايتين فيهما. والنوع الثالث: ما يتعلق بالقلب: وهو الخشوع، ونية الخروج في سلامه. فصل: ولا يسن القنوت في صلاة فرض؛ لأن أبا مالك الأشجعي، قال: قلت لأبي: «يا أبت، إنك قد صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، هاهنا في الكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني، محدث» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرًا يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه» . رواه مسلم، فإن نزل بالمسلمين نازلة فللإمام القنوت في صلاة الصبح بعد الركوع، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما روى أبو هريرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» ، رواه سعيد في سننه، وليس ذلك لآحاد المسلمين، ويقول في قنوته نحوًا من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقول عمر رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الله عنه وكان عمر يقول في القنوت: " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب، الذين يكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك " رواه أبو داود. [ باب صلاة التطوع ] وهي من أفضل تطوع البدن؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واعلموا أن من خير أعمالكم الصلاة» رواه ابن ماجه، ولأن فرضها آكد الفروض، فتطوعها آكد التطوع. وهي تنقسم أربعة أقسام: القسم الأول: السنن الرواتب، وهي ثلاثة أنواع: النوع الأول: الرواتب مع الفرائض، وآكدها عشر ركعات، وذكرها ابن عمر، قال: «حفظت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها أحد حدثتني حفصة، أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر، صلى ركعتين» ، متفق عليه. وآكدها ركعتا الفجر؛ قالت عائشة: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر» ، وقال: «ركعتا الفجر أحب إلي من الدنيا وما فيها» رواهما مسلم، وقال: «صلوهما ولو طردتكم الخيل» رواه أبو داود، ويستحب له تخفيفها، لقول عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلي ركعتي الفجر فيخفف، حتى إني لأقول هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟» متفق عليه. ويقرأ فيهما وفي ركعتي المغرب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، قال أبو هريرة: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] رواه مسلم. وعن ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يقرأ في الركعتين بعد المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه ابن ماجه. ويستحب ركوعهن في البيت؛ لحديث ابن عمر، ولما روى رافع بن خديج قال: «أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بني عبد الأشهل فصلى المغرب في مسجدنا، ثم قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» رواه ابن ماجه. قال أحمد: ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 هاهنا شيء آكد من الركعتين بعد المغرب، يعني فعلها في البيت. ويستحب المحافظة على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، لما روت أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار» وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وعلى أربع قبل العصر، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا» رواه أبو داود. وعلى ست بعد المغرب، لما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى بعد المغرب ستًا لم يتكلم بينهن بسوء، عدلن له عبادة ثنتي عشرة سنة» رواه الترمذي. وعلى أربع بعد العشاء؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء قط إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات» ، رواه أبو داود. فصل: في الوتر: النوع الثاني: الوتر. وهو سنة مؤكدة، لمداومة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حضره وسفره، وروى أبو أيوب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» رواه أبو داود. وحكي عن أبي بكر أنه واجب لذلك، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأنه يصلى على الراحلة من غير ضرورة، ولا يجوز ذلك في واجب. والكلام فيه في ثلاثة أشياء: وقته، وعدده، وقنوته. أما وقته: فمن صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، لما روى أبو بصرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله زادكم صلاة، فصلوها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر» رواه الإمام أحمد. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» متفق عليه. والأفضل فعله سحرًا؛ لقول عائشة: «من كل الليل قد أوتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانتهى وتره إلى السحر» . متفق عليه، فمن كان له تهجد جعل الوتر بعده، ومن خشي أن لا يقوم أوتر قبل أن ينام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره، فليوتر من آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل» رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فمن أوتر قبل النوم، ثم قام للتهجد لم ينقض وتره، وصلى شفعًا حتى يصبح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وتران في ليلة» وهذا حديث حسن. ومن أحب تأخير الوتر، فصلى مع الإمام التراويح والوتر، قام إذا سلم الإمام، فضم إلى الوتر ركعة أخرى؛ لتكون شفعًا، ومن فاته الوتر حتى يصبح صلاه قبل الفجر، لما ذكرنا متقدمًا. وأما عدده، فأقله ركعة لحديث أبي أيوب، وأكثره إحدى عشرة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ما بين صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة» . متفق عليه. وأدنى الكمال: ثلاث بتسليمتين، لما روى ابن عمر أن «رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوتر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: افصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم» رواه الأثرم. فإن أوتر خلف الإمام تابعه فيما يفعله، لئلا يخالفه، قال أحمد: يعجبني أن يسلم في الركعتين، وإن أوتر بثلاث لم يضيق عليه عندي. ويستحب أن يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما روى أبي بن كعب قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه أبو داود. وإن أوتر بخمس سردهن، فلم يجلس إلا في آخرهن؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن» . متفق عليه. وإن أوتر بتسع لم يجلس إلا بعد الثامنة، ولم يسلم، ثم جلس بعد التاسعة، فتشهد وسلم، وكذلك يفعل في السبع، لما «روى سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن وتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقالت: كنا نعد كل سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه، فيتسوك ويصلي تسع ركعات، ولا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمد ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيحمد الله ويذكره ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين صنيعه في الأول» رواه مسلم، وأبو داود. وفي حديثه: «أوتر بسبع ركعات لم يجلس فيهن إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة» . وأما القنوت فيه؛ فمسنون في جميع السنة، وعنه: لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان؛ لأن أبيًا كان يفعل ذلك حين يصلي التراويح، وعن أحمد ما يدل على رجوعه قال في رواية المروذي: قد كنت أذهب إلى أنه في النصف الأخير من رمضان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ثم إني قنت، هو دعاء وخير، ولأن ما شرع في الوتر في رمضان شرع من غيره كعدده، ويقنت بعد الركوع، لما روى أبو هريرة، وأنس أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت بعد الركوع» ، رواه مسلم. ويقول في قنوته: ما «روى الحسن بن علي قال: علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت» رواه الترمذي، وقال: لا نعرف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القنوت شيئًا أحسن من هذا، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في آخر الوتر: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» رواه الطيالسي. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قنت فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، وهاتان سورتان من مصحف أبي. وقال ابن قتيبة: نحفد: نبادر، وأصل الحفد: مداركة الخطو، والإسراع. والجد بكسر الجيم أي: الحق لا اللعب، وملحق بكسر الحاء لاحق، وإن فتحها جاز. وإذا قنت الإمام أمن من خلفه، فإن لم يسمع قنوت الإمام، دعا هو، نص عليه. ويرفع يديه في القنوت إلى صدره؛ لأن ابن مسعود فعله، وإذا فرغ أمر يديه على وجهه، وعنه: لا يفعل، والأولى أولى؛ لأن السائب بن يزيد قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا رفع يديه، ومسح وجهه بيديه» . رواه أبو داود. فصل: النوع الثالث: صلاة الضحى، وهي مستحبة، لما روى أبو هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاث أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» ، متفق عليه. وأقلها ركعتان لحديث أبي هريرة، وأكثرها ثمان ركعات، لما «روت أم هانئ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل بيتها يوم فتح مكة، وصلى ثمان ركعات، فلم أر قط صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود» ، متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ووقتها إذا علت الشمس، واشتد حرها؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» رواه مسلم. قال أبو الخطاب: يستحب المداومة عليها؛ لحديث أبي هريرة، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» أخرجه الترمذي، ولأن أحب العمل إلى الله أدومه، وقال غيره: لا يستحب ذلك؛ لقول عائشة: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الضحى قط.» متفق عليه، ولأن فيه تشبيهًا بالفرائض. فصل: والقسم الثاني: ما سن له الجماعة، منها التراويح، وهو قيام رمضان، وهي سنة مؤكدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان، وقامه إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، وقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه ثلاث ليال، ثم تركها خشية أن تفرض، فكان الناس يصلون لأنفسهم، حتى خرج عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليهم وهم أوزاع يصلون، فجمعهم على أبي بن كعب. قال السائب بن يزيد: لما جمع عمر الناس على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة؛ فالسنة أن يصلي بهم عشرين ركعة في الجماعة لذلك، ويوتر الإمام بهم بثلاث ركعات، لما روى مالك عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بثلاث وعشرين ركعة، قال أحمد: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف، حسب له قيام ليلة» قال: ويقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، قال القاضي: لا تستحب الزيادة على ختمة، لئلا يشق عليهم، ولا النقصان منها، ليسمعهم جميع القرآن، إلا أن يتفق جماعة يؤثرون الإطالة، فلا بأس بها، وسميت هذه تراويح؛ لأنهم كانوا يجلسون بين كل أربعة يستريحون. وكره أحمد التطوع بينها، وقال: فيه عن ثلاثة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كراهية، عبادة، وأبو الدرداء وعقبة بن عامر. ولا يكره التعقيب، وهو أن يصلوا بعد التراويح نافلة في جماعة؛ لأن أنسًا قال: ما يرجعون إلا لخير يرجونه، أو لشر يحذرونه، وعنه: أنه يكره، إلا أنه قول قديم. قال أبو بكر: إن أخروا الصلاة إلى نصف الليل أو آخره لم يكره رواية واحدة، قال أحمد: فإذا أنت فرغت من قراءة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ، فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، وادع وأطل القيام، رأيت أهل مكة وسفيان بن عيينة يفعلونه، واختلف أصحابنا في قيام ليلة الشك، فقامها القاضي؛ لأن القيام تبع للصيام، ومنعها أبو حفص العكبري؛ لأن الأصل بقاء شعبان، ترك ذلك في الصيام احتياطًا، ففيما عداه يبقى على الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فصل: القسم الثالث: التطوع المطلق، وهو مشروع في الليل والنهار، وتطوع الليل أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل» وهو حديث حسن. والنصف الأخير أفضل، «قال عمرو بن عبسة: قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير» رواه أبو داود. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الصلاة إلى الله، صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه» متفق عليه. ويستحب للمتهجد أن يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم. ويستحب أن يكون له ركعات معلومة، يقرأ فيها حزبه من القرآن؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحب العمل إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه وإن قل» متفق عليه. وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء الآخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة» . رواه مسلم. وهو مخير إن شاء خافت، وإن شاء جهر، قالت عائشة: «كل ذلك كان يفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ربما أسر وربما جهر» حديث صحيح، إلا أنه إن كان يسمع ما ينفعه، أو يكون أنشط له وأطيب لقلبه، فالجهر أفضل، وإن كان يؤذي أحدًا، أو يخلط عليه القراءة، فالسر أولى، فإن أبا سعيد قال: «اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» رواه أبو داود. فصل: ويستحب أن يختم القرآن في كل سبع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في كل سبع» متفق عليه. ويحزبه أحزابًا، لما روى أوس بن حذيفة قال: «قلنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد أبطأت علينا الليلة، قال: إنه طرأ علي حزبي، فكرهت أن أجيء حتى أتمه. قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف يحزبون القرآن؟ قال: قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده» . رواه أبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فصل: وصلاة الليل مثنى مثنى، لا يزيد على ركعتين؛ لما «روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صلاة الليل مثنى مثنى قيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين» . متفق عليه. وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس؛ لأن تخصيص الليل بالتثنية دليل على إباحة الزيادة عليها في النهار. والأفضل التثنية؛ لأنه أبعد من السهو. فصل: والتطوع في البيت أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» . رواه مسلم، ولأنه من عمل السر، ويجوز منفردًا وفي جماعة؛ لأن أكثر تطوع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان منفردًا، وقد أم ابن عباس في التطوع مرة، وحذيفة مرة، وأنسًا واليتيم مرة، فدل على جواز الجميع. فصل: ويجوز التطوع جالسًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة» رواه مسلم، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأنه يستحب تطويله وتكثيره، فسومح في ترك القيام تكثيرًا له، ويستحب أن يكون في حال القيام متربعًا، ليخالف حالة الجلوس، ويثني رجليه حال السجود؛ لأن حال الركوع كحال القيام، وقال الخرقي: يثنيها في الركوع أيضًا لأن ذلك يروى عن أنس، وإن صلى على غير هذه الهيئة جاز، وإذا بلغ الركوع فإن شاء قام، ثم ركع لما روت عائشة قالت: «لم أر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة الليل قاعدًا حتى أسن، فكان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد أن يركع، قام فقرأ نحوًا من ثلاثين آية، أو أربعين آية، ثم ركع» . متفق عليه. وإن شاء ركع من قعود، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، وكان إذا قرأ وهو قائم، ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد» . رواه مسلم. فصل: القسم الرابع: صلوات لها أسباب، منها تحية المسجد، لما روى أبو قتادة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ومنها صلاة الاستخارة، قال جابر: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم في الأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به» أخرجه البخاري. فصل: وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع؛ لأن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا السورة من غير الصلاة، فيسجد ونسجد معه، حتى لا يجد أحدنا مكانًا لوضع جبهته» متفق عليه. ولا يسن للسامع عن غير قصد؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بقاص، فقرأ سجدة ليسجد عثمان معه، فلم يسجد، وقال: إنما السجدة على من استمع. ويشترط كون التالي يصلح إمامًا للمستمع، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى إلى نفر من أصحابه، فقرأ رجل منهم سجدة، ثم نظر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك كنت إمامنا، ولو سجدت لسجدنا» رواه الشافعي. ويسجد القارئ لسجود الأمي والقادر على القيام بالعاجز عنه؛ لأن ذلك ليس بواجب فيه، ولا يقوم الركوع مقام السجود؛ لأنه سجود مشروع فأشبه سجود الصلاة، وإن كانت السجدة آخر السورة سجد ثم قام فقرأ شيئًا ثم ركع، وإن أحب قام، ثم ركع من غير قراءة، وإن شاء ركع في آخر السورة؛ لأن السجود يؤتى به عقيب الركوع. فصل: [في أن سجود التلاوة غير واجب] : وسجود التلاوة غير واجب؛ لأن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النجم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فلم يسجد منا أحد» متفق عليه. وقال عمر: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يكتبها الله علينا. وله أن يومئ بالسجود على الراحلة، كصلاة السفر، ويشترط له ما يشترط للنافلة، ويكبر للسجود تكبيرة واحدة في الصلاة وفي غيرها؛ لأن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة، كبر وسجد، وسجدنا معه» ، ويرفع يديه في غير الصلاة؛ لأنها تكبيرة افتتاح، وإن كان في صلاة، ففيها روايتان، ويكبر للرفع منه؛ لأنه رفع من سجود أشبه سجود الصلاة، ويسلم إذا رفع تسليمة واحدة؛ لأنها صلاة ذات إحرام، فأشبهت صلاة الجنازة. وعنه: لا سلام له؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يفتقر إلى تشهد، ولا يسجد فيه لسهو؛ لأنه لا ركوع فيه أشبه صلاة الجنازة، ولا يفتقر إلى قيام؛ لأنه لا قراءة فيه، ويقول فيه ما يقول في سجود الصلاة، فإن قال ما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته» فحسن، وهذا حديث صحيح. فإن قال غيره مما ورد في الأخبار فحسن. فصل: وسجدات القرآن، أربع عشرة سجدة: في (الحج) منها اثنتان، وثلاث في المفصل، وعنه: أنها خمس عشرة سجدة، منها سجدة (ص) ؛ لما «روى عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرأه خمس عشرة سجدة؛ منها ثلاث في المفصل، وسجدتان في الحج» رواه أبو داود. والصحيح أن سجدة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست من عزائم السجود؛ لما روى ابن عباس أنه قال: ليست (ص) من عزائم السجود رواه أبو داود. ومواضع السجدات ثابتة بالإجماع، إلا سجدات المفصل، والثانية من الحج، وقد ثبت ذلك بحديث عمرو. «وروى عقبة بن عامر أنه قال: يا رسول الله، أفي الحج سجدتان؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما لا يقرأهما» رواه أبو داود. وأول السجدات آخر الأعراف، وفي الرعد عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] ، وفي النحل عند: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] ، وفي سبحان عند {يَزِيدُهُمْ إِلا} [الإسراء: 41] ، وفي مريم عند: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] ، وفي الحج: الأولى عند: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 والثانية عند: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] وفي الفرقان عند: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] ، وفي النمل عند: {الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] ، وفي {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] عند: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] وفي حم السجدة عند: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وفي آخر النجم، وفي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] عند: {لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] ، وآخر اقرأ، ويكره اختصار السجود، وهو أن يجمع آيات السجدات فيقرأها في ركعة، وقيل: أن يحذف آيات السجدات في قراءته، وكلاهما مكروه؛ لأنه محدث، وفيه إخلال بالترتيب. فصل: وسجود الشكر مستحب عند تجدد النعم، لما روى أبو بكرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاءه شيء يسر به خر ساجدًا» ، وصفته وشروطه كصفة سجود التلاوة وشروطها، ولا يسجد للشكر في الصلاة؛ لأن سببه ليس منها، فإن فعل بطلت، كما لو سجد في الصلاة لسهو صلاة أخرى. [ باب سجود السهو ] وإنما يشرع لجبر خلل الصلاة، وهو ثلاثة أقسام: زيادة، ونقص، وشك. والزيادة ضربان: زيادة أقوال، تتنوع ثلاثة أنواع: أحدها: أن يأتي بذكر مشروع في غير محله، كالقراءة في الركوع والسجود والجلوس، والتشهد في القيام، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول، ونحوه فهذا لا يبطل الصلاة بحال؛ لأنه ذكر مشروع في الصلاة، ولا يجب له سجود؛ لأن عمده غير مبطل، وهل يسن السجود لسهوه؟ فيه روايتان: إحداهما: يسن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» . والثانية: لا يسن؛ لأن عمده غير مبطل، فأشبه العمل اليسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الثاني: أن يسلم في الصلاة قبل إتمامها، فإن كان عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه تكلم فيها، وإن كان سهوًا، وطال الفصل، بطلت أيضًا، لتعذر بناء الباقي عليها، وإن ذكر قريبًا أتم صلاته، وسجد بعد السلام. فإن كان قد قام، فعليه أن يجلس لينهض عن جلوس؛ لأن القيام واجب للصلاة، ولم يأت به قاصدًا لها، والأصل فيه، ما روى أبو هريرة قال: «صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فوضع يده عليها كأنه غضبان، شبك بين أصابعه، ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وخرج السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال له: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم. قال: فتقدم فصلى ما ترك من صلاته، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر» متفق عليه. وإن انتقض وضوؤه أو دخل في صلاة أخرى، أو تكلم من غير شأن الصلاة، كقوله: اسقني ماء فسدت صلاته، وإن تكلم مثل كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذي اليدين، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: لا تفسد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا ثم أتموا صلاتهم. والثانية: لا تفسد صلاة الإمام؛ لأن له أسوة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفسد صلاة المأموم؛ لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 لا يمكنه التأسي بأبي بكر وعمر؛ لأنهما تكلما مجيبين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجابته واجبة، ولا بذي اليدين؛ لأنه تكلم سائلًا عن قصر الصلاة في زمن يمكن ذلك فيه، فعذر، بخلاف غيره، واختارها الخرقي. والثالثة: تفسد صلاتهم؛ لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» اختارها أبو بكر، والأول أولى. النوع الثالث: أن يتكلم من صلب الصلاة، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة إجماعًا لما رويناه، ولما روى زيد بن أرقم، قال: «كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام» متفق عليه. وإن تكلم ناسيًا، أو جاهلًا بتحريمه ففيه روايتان: إحداهما: يبطلها، لما روينا، ولأنه من غير جنس الصلاة، فأشبه العمل الكثير. والثانية: لا يفسدها، لما «روى معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينما أنا أصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم لكي أسكت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم. فلم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة لجهله، والناسي في معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وإن غلب بكاء، فنشج بما انتظم حروفًا لم تفسد صلاته، نص عليه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يسمع نشيجه من وراء الصفوف، وإن غلط في القراءة وأتى بكلمة من غيره لم تفسد صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه. وإن نام فتكلم احتمل وجهين: أحدهما: لا تفسد صلاته؛ لأنه عن غلبة، أشبه ما تقدم. والثاني: أنه ككلام الناسي، وإن شمت عطاسًا، أفسد صلاته لحديث معاوية، وكذلك إن رد سلامًا، أو سلم على إنسان؛ لأنه من كلام الآدميين، فأشبه تشميت العاطس، وإن قهقه بطلت صلاته؛ لأن جابرًا روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القهقهة تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء» رواه الدارقطني. والكلام المبطل ما انتظم حرفين فصاعدًا؛ لأنه أقل ما ينتظم منه الكلام، وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نفخ في الصلاة، وتنحنح فيها» ، وهو محمول على أنه لم يأت بحرفين، أو لم يأت بحرفين مختلفين. فصل: الثاني: زيادة الأفعال، وهي ثلاثة أنواع: أحدهما: زيادة من جنس الصلاة، كركعة أو ركوع أو سجود، فمتى كان عمدًا أبطلها، وإن كان سهوًا سجد له؛ لما «روى ابن مسعود، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسًا، فلما انفتل من الصلاة توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: لا قالوا: إنك صليت خمسًا، فانفتل وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين، وفي لفظ: فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» رواه مسلم. ومتى قام الرجل إلى ركعة زائدة، فلم يذكر حتى سلم، سجد للحال، وإن ذكر قبل السلام سجد ثم سلم، وإن ذكر في الركعة، جلس على أي حال كان، فإن كان قيامه قبل التشهد تشهد ثم سجد ثم سلم، وإن كان بعده سجد ثم سلم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، ثم سجد وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فصل: وإذا سها الإمام فزاد أو نقص فعلى المأمومين تنبيهه؛ لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فزاد أو نقص، ثم قال: إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ، «وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفح النساء» ، وفي لفظ: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» متفق عليه. وإذ سبح به اثنان، لزمه الرجوع إليهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إلى قول أبي بكر وعمر، وأمر بتذكيره ليرجع، فإن لم يرجع بطلت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، وليس لهم اتباعه لبطلان صلاته، فإن اتبعوه بطلت صلاتهم، إلا أن يكونوا جاهلين، فلا تبطل؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تابعوه في الخامسة، وإن فارقوه وسلموا صحت صلاتهم، وذكر القاضي رواية أخرى: أنهم يتابعونه استحبابًا، ورواية ثالثة: أنهم ينتظرونه، اختارها ابن حامد، وإن كان الإمام على يقين من صواب نفسه لم يرجع؛ لأن قولهما: إنما يفيد الظن، واليقين أولى. وإن سبح به واحد لم يرجع نص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرجع بقول ذي اليدين وحده، وإن سبح به من يعلم فسقه لم يرجع؛ لأن خبره غير مقبول، وإن افترق المأمومون طائفتين سقط قولهم؛ لتعارضه عنده، وإن نسي التشهد الأول، فسبحوا به، بعد انتصابه قائمًا، لم يرجع، ويتابعونه في القيام، لما «روى زياد بن علاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم، وسجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه الإمام أحمد. وإن رجع بعد شروعه في القراءة لم يتابعوه؛ لأنه خطأ، فإن سبحوا به قبل قيامه لزمه الرجوع، فإن لم يرجع تشهدوا لأنفسهم وتابعوه؛ لأنه ترك واجبًا تعين عليهم، فلم يجز لهم اتباعه في تركه، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه فرجع إليه بعد قيام المأمومين وشروعهم في القراءة لزمهم الرجوع؛ لأنه رجع إلى واجب، فلزمهم متابعته، ولا عبرة بما فعلوه قبله. النوع الثاني: زيادة من غير جنس الصلاة، كالمشي والحك، والتروح، فإن كثر متواليًا أبطل الصلاة إجماعًا، وإن قل لم يبطلها، لما «روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها» متفق عليه. وروي عنه أنه فتح الباب لعائشة وهو في الصلاة، ولا فرق بين العمد والسهو فيه؛ لأنه من غير جنس الصلاة، ولا يشرع له سجود لذلك، واليسير: ما شابه فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رويناه، ومثل تقدمه وتأخره في صلاة الكسوف، والكثير: ما زاد على ذلك مما عد كثيرًا في العرف؛ فيبطل الصلاة، إلا أن يفعله متفرقًا. النوع الثالث: الأكل والشرب، متى أتى بهما في الفريضة عمدًا بطلت؛ لأنهما ينافيان الصلاة، والنافلة كالفريضة. وعنه: لا يبطلها اليسير، والأولى أولى؛ لأن ما أبطل الفريضة أبطل النافلة، كالعمل الكثير، وإن فعلها سهوًا وكثر ذلك بطلت الصلاة؛ لأنه عمل كثير، وإن قل فكذلك؛ لأنه من غير جنس الصلاة، فسوى بين عمده وسهوه كالمشي. وعنه: لا يبطل؛ لأنه سوى بين قليله وكثيره في العمد، فعفي عنه في السهو كالسلام، فعلى هذا يسجد له؛ لأنه تبطل الصلاة بعمده، وعفي عن سهوه، فيسجد له كجنس الصلاة. ومن ترك في فيه ما يذوب كالسكر، وابتلع ما يذوب منه، فهو أكل، وإن بقي في فمه أو بين أسنانه يسير من بقايا الطعام يجري به الريق فابتلعه، لم تبطل صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه، وإن ترك في فيه لقمة، لم يبلعها لم تبطل صلاته؛ لأنه عمل يسير، ويكره؛ لأنه يشغل عن خشوعها وقراءتها، فإن لاكها فهو كالعمل، وإن كثر أبطل، وإلا فلا. فصل: القسم الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ترك ركن، كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة، وإن كان سهوًا فله أربعة أحوال: أحدها: لم يذكره حتى سلم، وطال الفصل، فتفسد صلاته، لتعذر البناء مع طول الفصل. الثاني: ذكره قريبًا من التسليم، فإنه يأتي بركعة كاملة؛ لأن الركعة التي ترك الركن منها، بطلت بتركه، والشروع في غيرها، فصارت كالمتروكة. الثالث: ذكر المتروك قبل شروعه في قراءة الركعة الأخرى، فإنه يعود فيأتي بما تركه، ثم يبني على صلاته، فإن سجد سجدة، ثم قام قبل جلسة الفصل فذكر، جلس للفصل، ثم سجد ثم قام، وإن ترك السجود وحده، سجد ولم يجلس؛ لأنه لم يتركه، ولو جلس للاستراحة لم يجزئه عن جلسة الفصل؛ لأنه نوى بجلوسه النفل، فلم يجزئه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 عن الفرض، كمن سجد للتلاوة لم يجزئه عن سجود الصلاة، ويسجد للسهو، فإن لم يعد إلى فعل ما تركه، فسدت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، إلا أن يكون جاهلًا. الحال الرابع: ذكر بعد شروعه في قراءة الفاتحة في ركعة أخرى، فتبطل الركعة التي ترك ركنها وحدها، ويجعل الأخرى مكانها، ويتم صلاته، ويسجد قبل السلام. وإن ترك ركنين مع ركعتين، أتى بركعتين مكانها. وإن ترك أربع سجدات من أربع ركعات، وذكر وهو في التشهد سجد سجدة، تصح له الركعة الرابعة، ويأتي بثلاث ركعات، ويسجد للسهو، وعنه: أن صلاته تبطل؛ لأنه يفضي إلى عمل كثير غير معتد به. وإن ذكر وهو في التشهد أنه ترك سجدة من الرابعة، سجد في الحال، ثم تشهد وسجد للسهو، فإن لم يعلم من أي الركعات تركها، جعلها من ركعة قبلها، ليلزمه ركعة، وإن ذكر في الركعة أنه ترك ركنًا لم يعلم أركوع هو أم سجود؟ جعله ركوعًا، ليأتي به، ثم بما بعده كيلا يخرج من الصلاة على شك. النوع الثاني: ترك واجبا غير ركن عمدًا، كالتكبير غير تكبيرة الإحرام، وتسبيح الركوع والسجود؛ بطلت صلاته إن قلنا بوجوبه، وإن تركه سهوًا سجد للسهو قبل السلام؛ لما «روى عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقام في الركعتين، فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم» متفق عليه. فثبت هذا بالخبر، وقسنا عليه سائر الواجبات، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه قائمًا، رجع فأتى به، وإن ذكر بعد شروعه في القراءة، لم يرجع لذلك؛ لأنه تلبس بركن مقصود، فلم يرجع إلى واجب، وإن ذكره بعد قيامه، وقبل شروعه في القراءة لم يرجع أيضًا لذلك، لما «روى المغيرة بن شعبة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائمًا جلس، فإن استتم قائمًا لم يجلس وسجد سجدتي السهو» رواه أبو داود. وقال أصحابنا: وإن رجع في هذه الحال لم تفسد صلاته، ولا يرجع إلى غيره من الواجبات؛ لأنه لو رجع إلى الركوع لأجل تسبيحة لزاد ركوعًا في صلاته، وأتى بالتسبيح في ركوع غير مشروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 النوع الثالث: ترك سنة، فلا تبطل الصلاة بتركها عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه؛ لأنه شرع للجبر، فإن لم يكن الأصل واجبًا فجبره أولى، ثم إن كان المتروك من سنن الأفعال لم يشرع له السجود؛ لأنه يمكن التحرز منه، وإن كان من سنن الأقوال ففيه روايتان: أحدهما: لا يسن له السجود كسنن الأفعال. والثانية: يسن؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» . فصل: القسم الثالث: الشك، وفيه ثلاث مسائل: إحداهن: شك في عدد الركعات، ففيه ثلاثة روايات: إحداهن: يبني على غالب ظنه، ويتم صلاته، ويسجد بعد السلام؛ لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين متفق عليه، وللبخاري: " بعد التسليم» . الثانية: يبني على اليقين، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثًا أو أربعًا؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعًا كانتا ترغيمًا للشيطان» رواه مسلم. والرواية الثالثة: يبني الإمام على غالب ظنه، والمنفرد على اليقين؛ لأن للإمام من يذكره إن غلط، فلا يخرج منها على شك، والمنفرد يبني على اليقين؛ لأنه لا يأمن الخطأ، وليس له من يذكره، فلزمه البناء على اليقين، كيلا يخرج من الصلاة شاكًا فيها، وهذا ظاهر المذهب. المسألة الثانية: شك في ركن من الصلاة، فحكمه حكم تاركه؛ لأن الأصل عدمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 المسألة الثالثة: شك فيما يوجب سجود السهو، من زيادة أو ترك واجب، ففيه وجهان: أحدهما: لا سجود عليه؛ لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك. والثاني: إن شك في زيادة لم يسجد؛ لأن الأصل عدمها، وإن شك في ترك واجب لزمه السجود؛ لأن الأصل عدمه، وإنما يؤثر الشك إذا وجد في الصلاة، فإن شك بعد سلامها لم يلتفت إليه؛ لأن الظاهر الإتيان بها على الوجه المشروع؛ لأن ذلك يكثر فيشق الرجوع إليه فسقط، وهكذا الشك في سائر العبادات بعد فراغه منها. فصل: وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله وأمر به، ولأنه شرع لجبر واجب، فكان واجبًا كجبرانات الحج، وجميعه قبل السلام؛ لأنه من تمامها وشأنها، فكان قبل سلامها كسجود صلبها، إلا في ثلاثة مواضع: أحدها: إذا سلم من نقصان في صلاته سجد بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين. الثاني: إذا بنى على غالب ظنه سجد بعد السلام لحديث ابن مسعود. الثالث: إذا نسي السجود قبل السلام سجده بعده؛ لأنه فاته الواجب فقضاه، وعن أحمد: أن جميعه قبل السلام، إلا أن ينساه قبل أن يسلم. وعنه: ما كان من زيادة فهو بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين، وما كان من نقصان أو شك كان قبله؛ لحديث ابن بحينة وأبي سعيد، فمن سجد قبل السلام جعله بعد فراغه من التشهد؛ لحديث ابن بحينة: فيكبر للسجود والرفع منه، ويسجد سجدتين كسجدتي صلب الصلاة، ويسلم عقيبها، وإن سجد بعد السلام كبر للسجود والرفع منه؛ لحديث ذي اليدين، ويتشهد ويسلم، لما «روى عمران بن حصين: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد وسلم» وهذا حديث حسن، ولأنه سجود يسلم له، فكان معه تشهد كسجود صلب الصلاة، فإن نسي السجود فذكره قبل طول الفصل سجد وإن تكلم. وقال الخرقي: يسجد ما لم يخرج من المسجد، وإن تكلم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام رواه مسلم. وإن نسيه حتى طال الفصل، أو خرج من المسجد، على قول الخرقي، سقط؛ وعنه: يعيد الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وقال أبو الخطاب: إن ترك المشروع قبل السلام عامدًا بطلت صلاته؛ لأنه ترك واجبًا فيها عمدًا، وإن ترك المشروع بعد السلام عمدًا أو سهوًا لم تبطل صلاته؛ لأنه ترك واجبًا ليس منها، فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج. فصل: فإن سها سهوين محل سجودهما واحد، كفاه أحدهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» ، ولأن السجود إنما أخر ليجمع السهو كله، ولولا ذلك فعله عقيب السهو؛ لأنه سببه، وإن كان أحدهما قبل السلام والآخر بعده ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه سجود واحد لذلك، ويسجد قبل السلام؛ لأنه أسبق وآكد، ولم يسبقه ما يقوم مقامه فلزمه الإتيان بخلاف الثاني. والثاني: يأتي بهما في محلهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» رواه أبو داود. فصل: وليس على المأموم سجود لسهوه، فإن سها إمامه فعليه السجود معه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه» رواه الدارقطني، ولأن المأموم تابع لإمامه، فلزمه متابعته في السجود وفي تركه. ويسجد المسبوق مع إمامه في سهوه الذي لم يدركه، فإن كان السجود بعد السلام لم يقم المسبوق حتى يسجد معه. وعنه: لا سجود عليه هاهنا، والأول المذهب، فإن قام ولم يعلم، فسجد الإمام رجع فسجد معه إن لم يكن استتم قائمًا، وإن استتم قائمًا مضى، ثم سجد في آخر صلاته قبل سلامه؛ لأنه قام عن واجب، فأشبه تارك التشهد الأول، وإن سجد مع الإمام ففيه روايتان: إحداهما: يعيد السجود؛ لأن محله آخر الصلاة، وإن سجد مع إمامه تبعًا، فلم يسقط المشروع في محله كالتشهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والثانية: لا يسجد؛ لأنه قد سجد وانجبرت صلاته، وإن لم يسجد مع إمامه سجد وجهًا واحدًا. وإن ترك الإمام السجود، فهل يسجد المأموم؟ فيه روايتان: إحداهما: يسجد لأن صلاته نقصت بسهو إمامه، ولم يجبرها فلزمه جبرها. والثانية: لا يسجد؛ لأنه إنما يسجد تبعًا، فإن لم يوجد المتبوع لم يجب التبع. فصل: والنافلة كالفريضة في السجود؛ لعموم الأخبار، ولأنها في معناها، ولا يسجد لسهو في سجود السهو؛ لأنه يفضي إلى التسلسل، ولا في صلاة جنازة؛ لأنه لا سجود في صلبها، ففي جبرها أولى، ولا يسجد لفعل عمد؛ لأن السجود سجود للسهو، ولأن العمد إن كان لمحرم أفسد الصلاة، وإن كان في غيره فلا عذر عليه، والسجود إنما شرع في محل العذر. فصل: ومن أحدث عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه أخل بشرطها عمدًا، وإن سبقه الحدث أو طرأ عليه ما يفسد طهارته، كظهور قدمي الماسح، وانقضاء مدة المسح، ومن به سلس لبول؛ بطلت صلاته. وعنه فيمن سبقه الحدث: يتوضأ ويبني، وهذه الصور في معناها، والمذهب الأول؛ لأن الصلاة لا تصح من محدث في عمد ولا سهو، وله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة. وعنه: ليس له ذلك؛ لأن صلاته باطلة، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأتم بهم الصلاة، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا، وإن لم يستخلف، فاستخلف الجماعة لأنفسهم، أو صلوا وحدانًا جاز. قال أصحابنا: وله استخلاف من لم يكن معه في الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة أبي بكر، ولم يكن معه، فأخذ من حيث انتهى إليه أبو بكر، فإن كان مسبوقًا ببعض الصلاة، فتمت صلاة المأمومين قبله، وجلسوا يتشهدون، وقام هو فأتم صلاته، ثم أدركهم فسلم بهم، ولا يسلمون قبله؛ لأن الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف، فالمأمومون أولى بانتظاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 [ باب ما يكره في الصلاة ] يكره الالتفات لغير حاجة؛ لأن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التفات الرجل وهو في الصلاة، فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الرجل» حديث صحيح، ولا تبطل الصلاة به، ما لم يستدر بجملته، أو يستدبر القبلة. ولا يكره للحاجة؛ لأن «سهل ابن الحنظلية قال: جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، قال: وكان بعث أنس بن أبي مرثد طليعة» رواه أبو داود. «وقال ابن عباس: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلتفت يمينًا وشمالًا، ولا يلوي عنقه خلف ظهره» رواه النسائي. ويكره رفع البصر لما روى البخاري أن أنسًا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم - فاشتد قوله في ذلك حتى قال: - لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم» ويكره أن يصلي ويده على خاصرته؛ لما «روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلي الرجل متخصرًا» متفق عليه. ويكره أن يكف شعره، أو ثيابه، أو يشمر كميه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف شعرًا ولا ثوبًا» متفق عليه. ويكره أن يصلي معقوصًا أو مكتوفًا؛ لما «روي: أن ابن عباس رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص فحله، وقال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إنما مثل هذا، مثل الذي يصلي وهو مكتوف» رواه الأثرم. ويكره أن يشبك أصابعه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلًا قد شبك أصابعه، في الصلاة ففرج بين أصابعه» رواه ابن ماجه. ويكره فرقعة الأصابع؛ لما روي عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقعقع أصابعك، وأنت في الصلاة» رواه ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ماجه. ويكره التروح؛ لأنه من العبث، ويكره أن يعتمد على يده في الجلوس؛ لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجلس الرجل وهو يعتمد على يديه» رواه أبو داود. ويكره مسح الحصى؛ لما روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم في الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصى» من المسند. ويكره أن يكثر الرجل مسح جبهته؛ لقول ابن مسعود: إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل أن يفرغ من الصلاة. ويكره النظر إلى ما يلهيه؛ لما «روت عائشة قالت: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خميصة لها أعلام، فقال: شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم بن حذيفة، وائتوني بأنبجانيته» متفق عليه. ويكره أن يصلي وبين يديه ما يلهيه؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: أميطي عنا قرامك هذا، فإنه ما تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي» رواه البخاري. ويكره كثرة التميل؛ لقول عطاء: إني لأحب أن يقل فيه التحريك. وأن يعتدل قائمًا على قدميه إلا أن يكون إنسانًا كبيرًا لا يستطيع ذلك، فأما التطوع فإنه يطول على الإنسان، فلا بد من التوكي على هذا مرة، وعلى هذا مرة، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يفرج بين قدميه ولا يمس إحداهما الأخرى، ولكن بين ذلك، ويكره تغميض العين، نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: هو من فعل اليهود، ويكره العبث كله، وما يذهب بخشوع الصلاة، ولا تبطل الصلاة بشيء من هذا إلا ما كان عملًا كثيرًا. فصل: ولا بأس بِعَدّ الآي والتسبيح؛ لأنه روي عن طاوس، والحسن، وابن سيرين، ولا بأس بقتل الحية والعقرب؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الأسودين في الصلاة، الحية والعقرب» ، وإن قتل القملة فلا بأس، فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يقتل القمل في الصلاة رواه سعيد. قال القاضي: والتغافل عنها أولى، ولا بأس بالعمل اليسير للحاجة لما قدمنا. فصل: فإن تثاءب في الصلاة استحب له أن يكظم، فإن لم يقدر وضع يده على فيه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» ، وفي رواية: «فليضع يده على فيه، فإن الشيطان يدخل» وهذا حديث حسن صحيح. وإن بدره البصاق بصق عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 يساره، أو تحت قدمه، فإن كان في المسجد بصق في ثوبه، وحك بعضه ببعض؛ لما «روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس، فقال: ما بال أحدكم يقوم مستقبل القبلة، فيتنخع أمامه، أيحب أن يُستقبل فيتنخع في وجهه، وإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا ووصف القاسم: فتفل في ثوبه ومسح بعضه على بعض» ، وإن سُلم على المصلي، رد بالإشارة؛ لما «روى جابر قال: أدركت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فسلمت عليه فأشار إلي، فلما فرغ دعاني، وقال: إنك سلمت علي آنفًا وأنا أصلي» متفق عليه. [ باب صلاة الجماعة ] باب الجماعة الجماعة واجبة على الرجال، لكل صلاة مكتوبة؛ لما روى أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» متفق عليه. وليست شرطًا للصحة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة» متفق عليه. وتنعقد باثنين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الاثنان فما فوقهما جماعة» رواه ابن ماجه. فإن أم الرجل عبده أو زوجته كانا جماعة لذلك، وإن أَمَّ صبيًا في النفل جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم ابن عباس في التهجد، وإن أَمَّهُ في فرض، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يكون مسقطًا له؛ لأنه ليس من أهله، وعنه: يصح كما لو أم رجلًا متنفلًا. فصل: ويجوز فعلها في البيت والصحراء؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أينما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه مسجد» متفق عليه. وعنه أن حضور المسجد واجب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفعلها فيما كثر الجمع أفضل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى» من المسند. وإن كان في جواره مسجد، تختل الجماعة فيه بغيبته عنه، ففعلها فيه أفضل، وإن لم تختل بذلك، وثم مسجد آخر فالعتيق أفضل؛ لأن الطاعة فيه أسبق، وإن كانا سواء، فهل الأفضل قصد الأبعد أو الأقرب على روايتين، وإن كان البلد ثغرًا فالأفضل اجتماع الناس في مسجد واحد؛ لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة، وبيت المرأة خير لها، فإن أرادت المسجد لم تمنع منه، ولا تتطيب له؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 لهن» رواه أحمد. وفي رواية: «ليخرجن تفلات» يعني غير متطيبات، ولا بأس أن تصلي المرأة بالنساء؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لأم ورقة أن تؤم أهل دارها» رواه أبو داود. فصل: ويعذر في ترك الجماعة والجمعة بثمانية أشياء: المرض: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر، قالوا: يا رسول الله، وما العذر؟ قال: خوف أو مرض» رواه أبو داود. والخوف: لهذا الحديث، وسواء خاف على نفسه من سلطان، أو لص، أو سبع، أو غريم يلزمه، ولا شيء معه يعطيه، أو على ماله من تلف أو ضياع أو سرقة، أو يكون له دين على غريم يخاف سفره، أو وديعة عنده إن تشاغل بالجماعة مضى وتركه، أو يخاف شرود دابته، أو احتراق خبزه أو طبخه، أو ناطور بستان يخاف سرقة شيء منه، أو مسافر يخاف فوت رفقته، أو يكون له مريض يخاف ضياعه، أو صغير أو حرمة يخاف عليها. والثالث، والرابع: المطر والوحل: لما «روي عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل حي على الصلاة، وقل: صلوا في بيوتكم، فعل ذلك من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض» متفق عليه. والخامس: الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، وهذا يختص بالجماعة؛ لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديًا فيؤذن، ثم يقول على إثر ذلك: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر» متفق عليه. السادس: أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه. السابع: أن يدافع الأخبثين أو أحدهما؛ لما روت عائشة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين» رواه البخاري ومسلم. الثامن: أن يكون له قريب يخاف موته ولا يحضره، لما روى ابن عمر رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 عنهما: استصرخ علي سعيد بن زيد، وقد تجهز للجمعة، فذهب إليه وتركها. فأما الأعمى فلا يعذر إذا أمكنه الحضور؛ لما روى أبو هريرة قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: أتسمع النداء بالصلاة، قال: نعم، قال: فأجب» رواه مسلم. فصل: ومن شرط صحة الجماعة أن ينوي الإمام والمأموم حالهما، فإن نوى أحدهما دون صاحبه لم تصح؛ لأن الجماعة إنما انعقدت بالنية، فيعتبر وجودها منهما، وإن نوى كل واحد منهما أنه إمام صاحبه لم يصح؛ لأنه لا مأموم له، وإن نوى كل واحد منهما أنه مأموم لم يصح؛ لأنه لا إمام له، وإن نوى أن يأتم بأحد الإمامين لا بعينه لم يصح؛ لأنه لا يمكنه اتباعه، وإن نوى الائتمام بهما لم يصح لذلك، وإن نوى الائتمام بالمأموم أو المنفرد لم يصح؛ لأنه ليس بإمام. فصل: فإن أحرم على صفة، ثم انتقل عنها، ففيه ست مسائل: إحداهن: أحرم منفردًا، ثم جاء إنسان فأحرم معه، فنوى إمامته، فيجوز في النفل؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام يصلي في التهجد، فجاء ابن عباس فأحرم معه، فصلى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» متفق عليه. وإن كان في فرض وكان يرجو مجيء من يصلي معه، جاز أيضًا، نص عليه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بالصلاة وحده، فجاء جابر وجبار فصلى بهما» رواه أبو داود. وإن لم يكن كذلك؛ فعن أحمد لا يجزئه؛ لأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة، وعنه ما يدل على الإجزاء؛ لأنه يصح في النفل والفرض في معناه. الثانية: أحرم منفردًا فحضرت جماعة، فأحب أن يصلي معهم، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أحب إلي أن يقطع الصلاة، ويدخل مع الإمام، فإن لم يفعل ودخل معهم ففيه روايتان: إحداهما: لا يجزئه؛ لأنه لم ينو الائتمام في ابتداء الصلاة. والثانية: يجزئه لأنه لما جاز أن يجعل نفسه إمامًا، جاز أن يجعلها مأمومًا. الثالثة: أحرم مأمومًا، ثم نوى الانفراد لعذر جاز، نحو أن يطول الإمام، أو تفسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 صلاته لعذر من سبق حدث أو نحوه؛ لما «روى جابر قال: صلى معاذ بقومه، فقرأ بسورة البقرة فتأخر رجل، وصلى وحده، فقيل له: نافقت يا فلان، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك، فقال: أفتان أنت يا معاذ؟ مرتين» متفق عليه. فإن نوى الانفراد لغير عذر فسدت صلاته؛ لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذر، فأشبه ما لو تركها بغير نية المفارقة، وفيه وجه أنه يصح، بناء على المنفرد إذا نوى الإمامة. الرابعة: أحرم مأمومًا ثم صار إمامًا لعذر، مثل أن سبق إمامه الحدث فيستخلفه فإنه يصح. وعنه: لا يصح، وإن أدرك نفسان بعض الصلاة مع الإمام، فلما سلم ائتم أحدهما بصاحبه في بقيتها؟ ففيه وجهان، فإن كان لغير عذر لم تصح. الخامسة: أحرم إمامًا ثم صار منفردًا لعذر، مثل أن يسبق الإمام الحدث أو تفسد صلاته لعذر، فينوي الإمام المنفرد فيصح، وإن كان لغير عذر لم يصح. السادسة: أحرم إمامًا ثم صار مأمومًا لعذر، مثل أن يؤم غير إمام الحي، فيزول عذر الإمام، فيتقدم في أثناء الصلاة، ويبني على صلاة الأول، ويصير الأول مأمومًا ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لما روى سهل بن سعد قال: «ذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فاستأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى ثم انصرف» متفق عليه. والثانية: لا يصح؛ لأنه لا حاجة إلى ذلك، وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتمل أن يكون خاصًا له؛ لأن أحدًا لا يساويه. فصل: وإذا أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بغيرها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم. وإن أقيمت وهو في نافلة خففها وأتمها، إلا أن يخاف فوات الجماعة فيقطعها؛ لأن الفريضة أهم، وعنه يتمها لقول الله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وإن أقيمت قبل مجيئه لم يسع إليها؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا وروي: فاقضوا» متفق عليه. ولا بأس أن يسرع شيئًا إذا خاف فوات الركعة؛ لأنه جاء عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم كانوا يعجلون شيئًا إذا خافوا الفوات، فإن أدركه راكعًا كبر للإحرام وهو قائم، ثم كبر أخرى للركوع، فإن كبر واحدة أجزأه، نص عليه، واحتج أنه فعل زيد بن ثابت، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن أدرك قدر ما يجزئ في الركوع مع الإمام أدرك الركعة، فإن لم يدرك ذلك لم يكن مدركًا لها، لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أدركتم الإمام في السجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئًا، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة» رواه أبو داود. وإن أدركه في سجود أو جلوس كبر الإحرام، وانحط من غير تكبير؛ لأنه لم يدرك محل التكبير في السجود. فصل: وإذا أحس بداخل في القيام أو الركوع استحب له انتظاره، ما لم يشق على المأمومين؛ لما «روى ابن أبي أوفى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر، حتى لا يسمع وقع قدم» ، ولأنه انتظار ليدرك المأموم على وجه لا يشق، فلم يكره، كالانتظار في صلاة الخوف، إلا أن يكون الجمع كثيرًا فأنه لا يستحب؛ لأنه يتعذر أن يكون فيهم من يشق عليه، ولأنه يفوت حق جماعة كثيرة لأجل واحد، ومن كبر قبل سلام الإمام، فقد أدرك فضيلة الجماعة ويبني عليها. فصل: وما يدركه المأموم مع الإمام آخر صلاته لا يستفتح فيه، وما يقضيه أولها يستفتح إذا قام إليه ويستعيد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» والمقضي هو الفائت. وعنه: إن ما يدركه أولها ما يقضيه آخرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فأتموا» والأول المشهور؛ لأنه يقرأ فيما يقضيه بالسورة بعد الفاتحة، فكان أول صلاته كما لو بدأ به، فإن لم يدرك إلا ركعة من المغرب، أو الرباعية ففي موضع تشهده روايتان: إحداهما: يأتي بركعتين متواليتين ثم يتشهد؛ لأن المقضي أول صلاته، وهذا صفة أول الصلاة، ولأنهما ركعتان يقرأ فيهما بالسورة، فكانتا متواليتين كغير المسبوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 والثانية: يأتي بركعة ثم يجلس؛ لأنه يروى عن ابن مسعود، وسعيد بن المسيب، ومسروق: فإذا جلس مع الإمام في تشهده الأخير كرر التشهد الأول، فإذا قضى ما عليه تشهد، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم سلم. فصل: وإن فاتته الجماعة استحب أن يصلي في جماعة أخرى، فإن لم يجد إلا من قد صلى استحب لبعضهم أن يصلي معه، لما «روى أبو سعيد: أن رجلًا جاء وقد صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: من يتصدق على هذا فيصلي معه؟» وهذا حديث حسن؛ ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» ويجوز ذلك في جميع المساجد، إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كرهه في المسجد الحرام ومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل: ويتبع المأموم الإمام، فيجعل أفعاله بعد أفعاله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا» متفق عليه. والفاء للتعقيب، وقال في حديث أبي موسى: «فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم» رواه مسلم. «وقال البراء بن عازب: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا ظهره، حتى يقع ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده» متفق عليه. فإن كبر للإحرام مع إمامه أو قبله لم يصح؛ لأنه ائتم بمن لم تنعقد صلاته، وإن فعل سائر الأفعال معه كره لمخالفة السنة، ولم تفسد صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن، وإن ركع أو رفع قبله عمدًا أتم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام» والنهي يقتضي التحريم. وروى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار» متفق عليه. وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن صلاته تبطل لهذا الحديث. قال: لو كان له صلاة لرجي له الثواب، ولم يخش عليه العقاب. وقال القاضي: تصح صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن، أشبه ما لو وافقه، وإن فعله جاهلًا أو ناسيًا فلا بأس. وعليه أن يعود ليأتي بذلك معه، فإن لم يفعل صحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 صلاته؛ لأنه سبق يسير لا يمكن التحرز منه، فإن ركع ورفع قبل أن يركع إمامه، وسجد قبل رفعه عمدًا عالمًا بتحريمه بطلت صلاته؛ لأنه لم يأتم بإمامه في معظم الركعة، وإن كان جاهلًا أو ناسيًا لم تبطل صلاته للعذر، ولم يعتد بتلك الركعة لما ذكرنا، فإن ركع قبله فلما ركع رفع، ففي بطلان الصلاة لعمد ذلك والاعتداد بالركعة مع جهله ونسيانه وجهان. فإن ركع الإمام، ورفع قبل ركوع المأموم عمدًا، بطلت صلاته، لتركه المتابعة، وإن كان لنوم أو غفلة ونحو ذلك لم تبطل؛ لأنه سبق يسير، ويركع ثم يدركه، فإن سبقه بأكثر من ذلك لعذر ففيه وجهان: أحدهما: يفعله ويلحق، كالمزحوم في الجمعة. والثاني: تبطل الركعة؛ لأنها مفارقة كثيرة. [ باب صفة الأئمة ] الكلام فيها في ثلاثة أمور: أحدها: صحة الإمامة: والناس فيها على خمسة أقسام: أحدها: من تصح إمامته بكل حال، وهو الرجل المسلم العدل القائم بأركان الصلاة وشرائطها، فتصح إمامته وإن كان عبدًا؛ لأن أبا ذر، وابن مسعود، وحذيفة، وناسًا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدموا أبا سعيد مملوكًا لأبي أسيد فصلى بهم، ولأنه من أهل الأذان لهم، فأشبه الحر، وتصح إمامة الأعمى؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى» رواه أبو داود. ولأن الأعمى فقد حاسة فأشبه فقد الشم، وتصح إمامة الأصم لذلك، فإن كان أصم أعمى فقال بعض أصحابنا: لا تصح إمامته؛ لأنه قد يسهو فلا يمكن تنبيهه، والأولى صحتها؛ لأنه لا يخل بشيء من واجبات الصلاة، والسهو عارض لا يبطل الصلاة احتمال وجوده كالجهل بحكم السجود، وتصح إمامة ولد الزنا، والجندي، والخصي، والأعرابي، إذا سلموا في دينهم؛ لدخولهم في عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم» وتصح إمامة المتيمم بالمتوضئ؛ «لأن عمرو بن العاص صلى بأصحابه متيممًا، وأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضحك، ولم ينكر عليه» ؛ لأن طهارته صحيحة أشبه الماسح. فصل: القسم الثاني: من لا تصح إمامته؛ وهم نوعان: أحدهما: من لا تصح صلاته لنفسه كالكافر والمجنون، ومن أخل بشرط أو واجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 لغير عذر، فلا تصح إمامته بحال؛ لأنه لا صلاة له في نفسه أشبه اللاعب إلا في المحدث والنجس إذ لم يعلم هو والمأموم حتى فرغوا من الصلاة أعاد وحده؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بالناس الصبح، ثم خرج إلى الجرف، فأهراق الماء فوجد في ثوبه احتلامًا، فأعاد ولم يعد الناس. وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعلي وابن عمر، ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعًا، ولأن هذا مما يخفى، فكان المأموم معذورًا في الاقتداء به، والنجاسة كالحدث؛ لأنها مما تخفى ولا يعفى عن سائر الشروط؛ لأنها ليست في مظنة الخفاء، فإن علم الإمام والمأموم ذلك في أثناء الصلاة لزمهم الاستئناف، وحكي عنه في المأموم أنه يبني على ما مضى لو سبق الإمام الحدث والمذهب الأول؛ لأن ما مضى بني على غير طهارة بخلاف من سبقه الحدث، وإن علم بعض المأمومين دون بعض، فالمنصوص أنهم يعيدون جميعًا لعدم المشقة فيه، ويحتمل أن تختص الإعادة بمن علم؛ لأنه اختص بالعلم المبطل، فاختص البطلان كما لو أحدث. النوع الثاني: الفاسق إما بالأفعال أو ببدعة لا تكفره؛ ففي إمامته روايتان: إحداهما: تصح «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء، يميتون الصلاة عن وقتها. قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة» من المسند. وكان ابن عمر يصلي وراء الحجاج، والحسن والحسين يصليان وراء مروان. والثانية: لا يصح؛ لأن جابرًا قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تؤمن امرأة رجلًا، ولا فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان، أو يخاف سوطه أو سيفه» رواه ابن ماجه. ولأنه لا يؤمن على شرائط الصلاة، ويحتمل أن تصح الجمعة والعيد دون غيرهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بهما خلف كل بر وفاجر؛ لأنها لا تختص بإمام واحد، فالمنع منها خلف الفاسق يفضي إلى تفويتها، فسومح فيها دون سائر الصلوات. فصل: القسم الثالث: من تصح إمامته بمثله، ولا تصح بغيره، وهم ثلاثة أنواع: إحداها: المرأة يجوز أن تؤم النساء لما تقدم، ولا يجوز أن تؤم رجلًا، ولا خنثى مشكلًا، في فرض ولا صلاة نفل؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تؤمن امرأة رجلًا» ولأنها لا تؤذن للرجال، فلم يجز لها أن تؤمهم كالمجنون. والثاني: الأمي وهو: من لا يحسن الفاتحة، أو يخل بترتيلها أو حرف منها، أو يبدله بغيره كالألثغ الذي يجعل الراء غينًا، ومن يلحن لحنًا يحيل المعنى مثل أن يضم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 تاء {أَنْعَمْتَ} [الفاتحة: 7] أو يكسر كاف {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5] ، أو يخل بشدة، فإن الشدة قامت مقام حرف، بدليل أن شدة راء الرحيم قامت مقام اللام، لكن إذا خففها أجزأته، فهؤلاء إن لم يقدروا على إصلاح قراءتهم أميون تصح صلاتهم بمثلهم، ولا تصح بقارئ؛ لأنه عجز عن ركن الصلاة فأشبه العاجز عن السجود، فإن أم أميين وقارئًا صحت صلاة الأميين وفسدت صلاة القارئ. وفي معنى هذا النوع من يخل بشرط أو ركن كالأخرس والعاجز عن الركوع والسجود، والقيام والقعود، والمستحاضة ومن به سلس البول وأشباههم تصح صلاتهم في أنفسهم، وبمن حاله كحالهم، ولا تصح بغيرهم؛ لأنهم أخلوا بفرض الصلاة، فأشبه المضجع يؤم القائم، إلا في موضع واحد وهو العاجز عن القيام يؤم القادر عليه بشرطين: أحدهما: أن يكون إمام الحي. والثاني: أن يرجى زوال مرضه، ويصلون خلفه جلوسًا؛ لأن النبي «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم جالسًا، فصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، ثم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون» متفق عليه. فإن صلوا قيامًا ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح للنهي عنه. والثاني: يصح لأن القيام هو الأصل، وقد أتوا به، فإن ابتدأ بهم قائمًا، ثم اعتل فجلس أتموا قيامًا؛ «لأن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فلما دخل أبو بكر في الصلاة خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر قائمًا يقتدي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر» متفق عليه. فأتموا قيامًا لابتدائهم إياها قيامًا، فأما غير إمام الحي، فلا يصح أن يؤم قادرًا على القيام، وهو جالس لعدم الحاجة إلى تقديمه مع عجزه، وإن لم يرج برؤه لم تجز إمامته؛ لأنه لا يجوز استبقاؤه إمامًا دائمًا مع عجزه، واحتمل هذا في القيام دون سائر الأركان لخفته؛ بدليل سقوطه في النفل دونها، فإن كان أقطع اليدين فقال أبو بكر: لا تصح إمامته لإخلاله بالسجود على عضوين من أعضاء السجود، فأشبه العاجز عن السجود على جبهته، وفي معناه: اقطع اليد الواحدة. وقال القاضي: تصح إمامته؛ لأنه لا يخل بركن الصلاة بخلاف تارك السجود على الجبهة. النوع الثالث: الصبي تصح إمامته بمثله؛ لأنه بمنزلته، ولا تصح إمامته ببالغ في فرض، نص عليه؛ لأن ذلك روي عن ابن مسعود، وابن عباس، ولأنه ليس من أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الكمال، فلا يؤم الرجال كالمرأة، وهل يؤمهم في النفل على روايتين. إحداهما: لا تصح لذلك. والثانية: تصح لأن صلاته نافلة، فيؤم من هو في مثل حاله، ويخرج أن تصح إمامته لهم في الفرض بناء على إمامة المتنفل للمفترض، «ولأن عمر بن سلمة الجرمي كان يؤم قومه وهو غلام في عصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أخرجه البخاري. فصل: القسم الرابع: من تصح إمامته ممن دونه ولا تصح بمثله ولا أعلى منه، وهو الخنثى المشكل، تصح إمامته بالنساء؛ لأن أدنى أحواله أن يكون امرأة، ولا تصح برجل؛ لأنه يحتمل أن يكون امرأة، ولا خنثى مشكل؛ لأنه يحتمل كون المأموم رجلًا. فصل: القسم الخامس: المتنفل يصح أن يؤم متنفلًا، وهل يصح أن يؤم مفترضًا؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يصح؛ لأن صلاة المأموم لا يتأدى بنية الإمام، فأشبه الجمعة خلف من يصلي الظهر. والثانية: يصح، وهي أولى؛ «لأن جابرًا روى أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» متفق عليه. «وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخوف بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بالأخرى ركعتين ثم سلم» رواه أبو داود. وهو في الثانية متنفل، ويؤم مفترضين، ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال، فأشبه المتنفل يأتم بمفترض، وإن صلى الظهر خلف من يصلي العصر، أو صلى العشاء خلف من يصلي التراويح ففيه روايتان، وجههما ما تقدم، فإن كانت إحدى الصلاتين تخالف الأخرى، كصلاة الكسوف والجمعة، خلف من يصلي غيرهما، أو غيرهما خلف من يصليهما لم يصح. رواية واحدة؛ لأنه يفضي إلى المخالفة في الأفعال، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عنه» وإن صلى من يؤدي صلاة خلف من يقضيها، أو من يقضيها خلف من يؤديها صحت، رواية واحدة، ذكره الخلال؛ لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت، وخرج بعض أصحابنا فيها روايتين كالتي قبلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فصل: الأمر الثاني في أولى الناس بالإمامة، وأتم ما روي فيه حديث أبي مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا، أو قال: سلمًا، ولا يؤمن الرجل في بيته، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» رواه مسلم. فأولى الناس بالإمامة السلطان، للحديث وهو الخليفة أو الوالي من قبله أو نائبهما، فإن لم يكن سلطان، فصاحب البيت أحق للخبر. وقال أبو سعيد مولى أبو أسيد: تزوجت وأنا مملوك، فدعوت ناسًا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيهم أبو ذر، وابن مسعود، وحذيفة، فحضرت الصلاة، فتقدم أبو ذر فقالوا له: وراءك، فالتفت إلى أصحابه فقال: أكذلك؟ قالوا: نعم فقدموني، رواه صالح، بإسناده في مسائله. فإن أذن صاحب البيت لرجل فهو بمنزلته، وإن اجتمع السلطان وصاحب البيت فالسلطان أولى؛ لأن ولايته على البيت وصاحبه، وإن اجتمع السلطان وخليفته فالسلطان أولى؛ لأن ولايته أعم، وإن اجتمع العبد وسيده في بيت العبد فالسيد أولى؛ لأنه مالك للعبد وبيته، وإن اجتمع المؤجر والمستأجر في الدار، فالمستأجر أولى لأنه أحق بالمنفعة، وإمام المسجد الراتب فيه بمنزلة صاحب البيت، لا يجوز لأحد أن يؤم فيه، بغير إذنه لذلك، ويجوز في غيبته؛ لأن أبا بكر صلى حين غاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف مرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحسنتم» رواه مسلم. فإن لم يكن ذو مزية من هؤلاء، فأولاهم أقرؤهم لكتاب الله للخبر، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» رواه مسلم. ويرجع في القراءة بجودتها وكثرة القرآن، فإن كان أحدهم أجود والآخر أكثر قرآنًا، فالأجود أولى؛ لأنه أعظم أجرًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه، فله بكل حرف حسنة» حديث حسن صحيح. وقال أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، فإن اجتمع قارئ لا يعرف أحكام الصلاة وفقيه أمي، فالقارئ أولى للخبر، ولأنه لا تصح صلاته خلف الأمي، وإن كان الفقيه يقرأ ما يجزئ في الصلاة فكذلك الخبر. وقال ابن عقيل: الفقيه أولى؛ لأنه تميز بما لا يستغنى عنه في الصلاة، فإن استويا في القراءة فأولاهما أفقههما للخبر، ولأن الفقيه يحتاج إليه في الصلاة، فأشبه القراءة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وإن استويا في ذلك فأولاهما أقدمهما هجرة، وهو المهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، فإن استويا في ذلك فأكبرهما سنًا للخبر، ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمالك بن الحويرث: إذا حضرت الصلاة فليؤذن إحداكما، وليؤمكما أكبركما» حديث صحيح. ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء، ويرجح بتقدم الإسلام؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقدمهم سلمًا» لأنه إذا رجح بتقدم السن فبالإسلام أولى، فإن استويا في ذلك قدم أشرفهما نسبًا، وأفضلهما في أنفسهما، وأعلاهما قدرًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا ولا تقدموها» هذا ظاهر كلام أحمد. وقال الخرقي: إذا استويا في الفقه فقدم أكبرهما سنًا، فإن استويا فأقدمهما هجرة، وقال ابن حامد يقدم الشرف بعد الفقه ثم الهجرة، ثم السن، فإن استووا قدم أتقاهم وأورعهم؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولأنه أقربهم إلى الإجابة. فإن استووا قدم أعمرهم للمسجد، وأتمهم مراعاة له، ويقدم الحر على العبد؛ لأنه من أهل المناصب، والحاضر يقدم على المسافر؛ لأنه إذا أم حصل جميع الصلاة في جماعة، بخلاف المسافر. والحضري على البدوي؛ لأنه أجدر بمعرفة حدود الله تعالى، وأحرى بإصابة الحق. والبصير على الأعمى؛ لأنه أقدر على توقي النجاسات، واستقبال القبلة بعلم نفسه. وقال القاضي: هما سواء؛ لأن الضرير لا يرى ما يلهيه ويشغله، فذلك يقابل البصر فيستويان، والأولى لإمام الحي إذا عجز عن القيام أن يستنيب، لئلا يلزمهم ترك ركن، فإن استووا أقرع بينهم؛ لأن سعدًا أقرع بين أهل القادسية في الأذان، ولا يرجح بحسن الوجه؛ لأنه لا مدخل له في الإمامة. فصل: الثالث: أنه يكره إمامة اللحان؛ لأنه نقص يذهب ببعض من الثواب، وإمامة من لا يفصح ببعض الحروف، كالضاد والقاف، وإمامة التمتام، وهو من يكرر التاء والفأفاء، فالذي يكرر الفاء؛ لأنهما يزيدان في الحروف، وتصح الصلاة خلفهما؛ لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال، فإن كان يجعل الضاد ظاء في الفاتحة، فقياس المذهب أنه كالأمي؛ لأنه يبدل حرفًا بغيره، ويحيل المعنى، فإنه يقال: ظل يفعل كذا، إذا فعله نهارًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ويكره أن يؤم قومًا أكثرهم له كارهون؛ لما روى أبو أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» وهذا الحديث حسن. فإن كانوا يكرهونه لسنته أو دينه فلا يكره، قال منصور: قيل لنا: إنما عنى بهذا أئمة الظلم، فأما من أقام بالسنة، فإنما الإثم على من كرهه. ويكره أن يؤم نساء أجانب لا رجل معهن، ويكره أن يتقدم المفضول من هو أولى منه؛ لأنه جاء في الحديث: «إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال» احتج به أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [ باب موقف الإمام والمأموم في الصلاة ] باب موقف الصلاة إذا كان المأموم واحدًا، وقف عن يمين الإمام، فإن كبر عن يساره أداره الإمام عن يمينه، فإن جاء آخر كبر وتأخر فصفا خلفه، ولا يتقدم الإمام إلا إن كان الموضع ضيقًا، فإن كبر الثاني عن يساره أخرهما الإمام بيديه؛ لما «روى جابر قال: سرت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فقام يصلي فتوضأت، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذ بيدي، فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعًا حتى أقامنا خلفه» من المسند. وإن صليا عن يمينه، أو أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره جاز؛ لما روي: «أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» رواه أبو داود. ولأن الوسط موقف لإمام العراة وإمامة النساء. فإن كان معهم امرأة قامت خلفهم؛ لما «روى أنس قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا، فصلى بنا ركعتين» متفق عليه. فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء، تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء؛ لما «روى أبو مالك الأشعري أنه قال: ألا أحدثكم بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: أقام الصلاة، فصف الرجال، ثم صف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، ثم قال: هكذا قال عبد الأعلى، لا أحسبه إلا قال: صلاة أمتي» رواه أبو داود. فإن لم يكن مع الرجال إلا امرأة، وقفت خلفه، فإن كان معه صبي وقف عن يمينه، لما «روى ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فقمت فوقفت عن يساره، فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه» متفق عليه. فإن كان معه رجل وصبي في فرض وقف بينهما، كما في حديث ابن مسعود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وجعل الرجل عن يمينه، أو جعلهما عن يمينه، وإن كان في نافلة وقفا خلفه على ما في حديث أنس. فصل: فإن وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاتهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» . وإن وقف الواحد خلف الصف، أو خلف الإمام أو عن يساره لم تصح صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدار ابن عباس وجابرا لما وقفا عن يساره، «وروى وابصة بن معبد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد» رواه أبو داود. «وعن علي بن شيبان قال: صلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانصرف ورجل فرد خلف الصف، فوقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى انصرف الرجل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف الصف» رواه الأثرم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه وفي حديث وابصة: هذا حديث حسن. ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته، كما لو وقف قدام الإمام، فإن صلى ركعة واحدة لم تصح صلاته، وإن جاء آخر فوقف معه أو دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع صحت صلاته؛ لأنه أدرك في الصف ما يدرك به الركعة، وإن كان ذلك بعد رفع الإمام ففيه ثلاث روايات: إحداهن: يصح؛ لأنه لم يصل ركعة واحدة، أشبه ما لو أدرك الركوع. والثانية: لا يصح؛ لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة، أشبه من صلى ركعة. والثالثة: إن كان جاهلًا لم يعد، وإن كان عالمًا أعاد؛ لما روى البخاري «أن أبا بكرة انتهى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فركع قبل أن يصله، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد» فلم يأمره بالإعادة لجهله، ونهاه عن العود، والنهي يقضي الفساد، فإن ذلك لغير عذر، ولا خشي الفوات، فحكمه حكم من خاف الفوات؛ لأن الموقف لا يختلف لخيفة الفوات وعدمه، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن الرخصة وردت في حق المعذور، فلا يلحق به غيره. فصل: ومن وقف معه كافر أو امرأة أو خنثى مشكل أو من صلاته فاسدة، فحكمه حكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الفذ؛ لأنهم من غير أهل الوقوف معه، وإن وقف معه فاسق أو أمي أو متنفل كانوا معه صفًا: لأنهم من أهل الوقوف معه، وإن وقف الصبي معه في النفل كانا صفًا لحديث أنس، وإن كان في فرض احتمل أن يكون معه صفًا؛ لأنه كالمتنفل، واحتمل أن لا يصح؛ لأنه ليس من أهل الإمامة له فيه أشبه المرأة. وإن وقف معه محدث أو نجس يعلمان بذلك فهو كالفذ، وإن لم يعلما بذلك صحت صلاته؛ لأنه لو كان إمامًا له صحت صلاته. وإن وقفت المرأة في صف الرجال كره، ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها، وقال أبو بكر: تبطل صلاة من يليها؛ لأنه خالف الموقف، والأول أولى؛ لأنها هي التي خالفت بوقوفها مع الرجال، فلم تبطل صلاتها، فصلاته أولى. فإن وقف اثنان خلف الصف، فخرج أحدهما لعذر دخل الآخر في الصف، أو وقف عن يمين الإمام أو نبه من يخرج فيقف معه، فإن لم يمكنه نوى مفارقته، وأتم منفردًا؛ لأنه عذر أشبه ما لو سبق إمامه الحدث. فإن دخل المسبوق فوجد فرجة قام فيها، فإن لم يمكنه قام عن يمين الإمام، فإن لم يمكنه نبه رجلًا يتأخر معه، فإن لم يفعل لم يكرهه ويصلي وحده، أو ينتظر جماعة أخرى. فصل: السنة للمرأة إذا أمت نساء، أن تقوم وسطهن؛ لأن ذلك يروى عن عائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن كانت معهما امرأة وقفت عن يمينها، وإن وقفت خلفها جاز؛ لأن المرأة يجوز وقوفها وحدها؛ بدليل حديث أنس. فصل: والسنة أن يقف الإمام حذاء وسط الصف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وسطوا الإمام وسدوا الخلل» رواه أبو داود. وأن يتموا الصف الأول؛ لما روى أنس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتموا الصف الأول، فما كان من نقص، فليكن في الصف الآخر» رواه أبو داود. وخير صفوف الرجال أولها، وخير صفوف النساء آخرها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه مسلم. قال أحمد: ويلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن، ويؤخر الصبيان والغلمان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 فصل: والسنة أن لا يكون الإمام أعلى من المأمومين، لما «روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار فقام على دكان والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ بيده، واتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم وقال عمار: فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي» رواه أبو داود. فإن فعل فقال ابن حامد: تبطل صلاته لارتكابه النهي، وقال القاضي: لا تبطل؛ لأن عمارًا بنى على صلاته، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس بهذا؛ لما «روى سهل قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المنبر، فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع ثم رفع، فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم قال: أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه. ولا بأس بالعلو اليسير؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى رفع البصر المنهي عنه فيه، بخلاف الكثير، ولا بأس أن يكون المأموم أعلى من الإمام لذلك، ويصح أن يأتم به من في أعلى المسجد وغيره، إذا اتصلت الصفوف. فصل: يجوز أن يأتم بالإمام من في المسجد، وإن تباعد؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة، وسماع التكبير لم يصح الائتمام به، لتعذر اتباعه، وإن منع المشاهدة دون السماع؛ ففيه وجهان: أصحها صحة الصلاة؛ لأن أحمد قال في المنبر: إذا قطع الصف لم يضر، ولأنهم في موضع الجماعة، ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير، فأشبه المشاهد. والثاني: لا يصح؛ لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب، والحجاب موجود هاهنا، فإن كان المأموم في غير المسجد، وبينهما حائل يمنع رؤية الإمام، أو من وراءه لم تصح الصلاة؛ لحديث عائشة، وقال ابن حامد: يمنع في الفرض، وفي النافلة روايتان. وعن أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة، وأبوابه مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس، ويشترط اتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله، واشترط أصحابنا أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن، ولا طريق، والصحيح أن هذا لا يمنع؛ لأنه لا يمنع المتابعة، إلا أن يكون عريضًا يمنع الاتصال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فصل: ويستحب أن يصلي إلى سترة ويدنو منها؛ لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها» رواه الأثرم. «قال سهل: كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين القبلة ممر الشاة» رواه البخاري ومسلم. وقدر السترة مثل آخرة الرحل، وقد قدر الذراع أو عظم الذراع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال ما مر وراء ذلك» رواه مسلم. ويجوز أن يستتر بعصًا أو حيوان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له الحربة، فيصلي إليها، ويعرض البعير فيصلي إليه، وقال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلًا إلى سارية، قال: ولني ظهرك، فإن لم يجد سترة خط خطًا؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا فليخط خطًا، ثم لا يضره ما مر أمامه» رواه أبو داود. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخط عرضًا مثل الهلال، وقد قالوا طولًا، وقالوا عرضًا. قال الشيخ: وأنا أختار هذا، فإن لم يمكنه نصب العصا ولا الخط، عرضها بين يديه؛ لأنها تقوم مقام الخط، ولا يصمد للسترة، لكن ينحرف عنها يسيرًا؛ «لقول المقداد: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن، ولا يصمد له صمدًا» رواه أبو داود. وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بأصحابه إلى سترة، ولم يأمرهم أن يستتروا بشيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فصل: وإذا مر من وراء سترته بشيء، فلا بأس، للحديث، فإن أراد المرور دونها رده، فإن لح دفعه، إلا أن يغلبه أن يحوجه إلى عمل كثير، لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان» متفق عليه. فإن مر بين يديه لم يرده من حيث جاء؛ لأنه مرور ثان، وإن صلى إلى غير سترة فمر من بين يديه شيء فحكمه حكم ما مر بينه وبين السترة للحديث، ويتقيد ذلك بالقريب منه، الذي لو مشى إليه فدفعه لم تفسد صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار، فتقيد به، بدلالة الإجماع بما لا يفسد الصلاة، فكذلك هذا. [ فصل في حكم المرور بين يدي المصلي ] فصل: ويحرم المرور بين يدي المصلي؛ لما روى أبو جهيم الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه» متفق عليه. ولا يقطعها شيء إلا الكلب الأسود البهيم، الذي لا لون فيه سوى السواد، لما «روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره مثل آخر الرحل، فإن لم يكن بين يديه، مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وعن أحمد: أن مرور المرأة والحمار يقطع الصلاة للحديث، والمشهور الأول؛ «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: عدلتمونا بالكلب والحمار، لقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاته في الليل كلها، وأنا معترضة بينه وبين القبلة» متفق عليه. «وقال: الفضل بن عباس: أتانا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه، فما بالى ذلك» رواه أبو داود. فإن كان الكلب واقفًا بين يديه ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم المار؛ لأنه حصل بين يديه أشبه المار. والثاني: لا تفسد صلاته؛ لأن حكم الواقف يخالف حكم المار؛ بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى البعير، ويصلي وعائشة في قبلته، ولا يرى ذلك كالمرور، ومن غصب سترة فاستتر بها، فهل يمنع ما مر وراءها، فيه وجهان بناء على الصلاة في الثوب المغصوب. فصل: ولا حاجة في مكة إلى سترة، ولا يضره ما مر بين يديه؛ «لأن المطلب قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي حيال الحجر والناس يمرون بين يديه» رواه الخلال. وكان ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي والطواف بينه وبين القبلة تمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 [ باب قصر الصلاة ] ولا يجوز قصر الصبح والمغرب بالإجماع؛ لأن قصر الصبح يجحف بها لقلتها، وقصر المغرب يخرجها عن كونها وترًا، ويجوز قصر الرباعية فيصليها ركعتين بشروط ستة: أحدها: أن تكون في سفر طويل قدره أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي، وذلك نحو من يومين قاصدين؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، ما بين عسفان إلى مكة، وكان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن عمر لا يقصران في أقل من أربعة برد، ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والشدة، فجاز القصر فيها كمسيرة ثلاثة أيام. وسواء كان في بر أو بحر؛ لأن الاعتبار بالفراسخ، وإن شك في قدر السفر لم يبح القصر؛ لأن الأصل الإتمام، فلا يزول بالشك والاعتبار بالنية دون حقيقة السفر، فلو نوى سفرًا طويلًا، فقصر ثم بدأ له فأقام أو رجع، كانت صلاته صحيحة، ولو خرج طالبًا لآبق أو منتجعًا غيثًا، متى وجده رجع أو أقام لم يقصر، ولو سافر شهرًا. ولو خرج مكرهًا كالأسير يقصد به بلدًا بعينه فله القصر؛ لأنه تابع لمن يقصد مسافة القصر، فإذا وصل حصنهم أتم حينئذ، نص عليه، وإن كان للبلد طريقان طويلة وقصيرة، فسلك البعيدة ليقصر فله ذلك؛ لأنه سفر يقصر في مثله، فجاز له القصر، كما لو لم يكن له طريق سواه. فصل: والثاني: أن يكون السفر مباحًا، فإن سافر لمعصية كالآبق، وقطع الطريق والتجارة في خمر لم يقصر، ولم يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي، لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها، ولا يرد الشرع بذلك. فصل: والثالث: شروعه بالسفر بخروجه من بيوت قريته؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، ولا يكون ضاربًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 في الأرض حتى يخرج، فله القصر بين حيطان البساتين؛ لأنها ليست من حيطان البلد، ولا تبنى للسكنى. وإن خرب بعض البلد فصار فضاء فهو كالصحراء، وإن كانت حيطانه قائمة، فقال القاضي: لا يقصر حتى يفارقها؛ لأنه يمكن السكنى فيها، وقال الآمدي: له القصر بينهما؛ لأنها غير معتمدة للسكنى، فهي كالبساتين. فصل: الرابع: أن ينوي القصر مع نية الإحرام، وقال أبو بكر: لا يحتاج إلى النية؛ لأن من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصيام، ولنا أن الأصل الإتمام، فإطلاق النية ينصرف إليه، كما لو نوى الصلاة مطلقًا انصرف إلى الانفراد الذي هو الأصل، فإن شك نية القصر لزمه الإتمام؛ لأنه الأصل، فلو نوى الإتمام في ابتداء الصلاة، أو في أثنائها، أو ما يلزمه الإتمام كالإقامة، أو قلب نيته إلى سفر قريب أو معصية؛ لزمه إتمام الصلاة، ولزم من خلفه متابعته؛ لأن نية الأربع أو ما قد يوجبها قد وجد، فلزمته الأربع كما لو نوى في الابتداء، ومن قصر معتقدًا تحريم القصر فصلاته فاسدة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه. فصل: الخامس: ألا تكون الصلاة وجبت في الحضر، فلو ترك صلاة حضر فقضاها في السفر لم يجز له قصرها؛ لأنه تعين فعلها أربعًا، فلم يجز النقصان فيها، كما لو نوى أربع ركعات، ولأن القضاء معتبر بالأداء، والأداء أربع، ومن سافر بعد دخول وقت صلاة، لم يقصرها لذلك، وحكي عنه أن له قصرها؛ لأنها صلاة مؤداة في السفر، فأشبه ما لو دخل وقتها فيه. ولو أحرم بها في سفينة في الحضر، فخرجت به في أثناء الصلاة، أو أحرم بها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 السفر، فدخلت البلد في أثناء الصلاة، لم يقصر؛ لأنها عبادة تختلف بالسفر والحضر، ووجد أحد طرفيها في الحضر، فغلب حكمه كالمسح. وإن نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر، أتمها لذلك، وإن ذكرها في السفر أو في سفر آخر قصرها؛ لأن وجوبها وفعلها وجدا في السفر، فكان له قصرها كما لو أداها، ويتخرج أن يلزمه إتمامها إذا ذكرها في سفر آخر؛ لأن الوجوب كان ثابتًا في ذمته في الحضر. فصل: السادس: أن لا يأتم بمقيم، فإن ائتم بمقيم لزمه الإتمام، سواء ائتم به في الصلاة كلها أو جزء منها؛ لأن «ابن عباس سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين حال الانفراد وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» رواه الإمام أحمد. وهذا ينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنها صلاة مردودة من أربع، فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة، ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعًا، لائتمامه بالمقيم، ومن ائتم بالمقيم ففسدت صلاته، لم يجز له قصرها بعد ذلك؛ لأنها تعينت عليه تامة لائتمامه بمقيم. ومن أحرم مع من يظنه مقيمًا أو يشك فيه، لزمه الإتمام، وإن قصر إمامه اعتبارًا بالنية، وإن غلب على ظنه أنه مسافر لدليل، فله أن ينوي القصر، ويتبع إمامه، فيقصر بقصره، ويتم بإتمامه، وإن أحدث إمامه قبل علمه بحاله، فله القصر؛ لأن الظاهر أنه مسافر. وإن أم المسافر مقيمًا لزم المقيم الإتمام، ويستحب للإمام أن يقول لهم: أتموا فإنا قوم سفر، لما «روى عمران بن حصين قال: شهدت الفتح مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سفر» رواه أبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وإن أتم الإمام بهم صحت الصلاة. وعنه: تفسد صلاة المقيمين؛ لأنهم ائتموا بمتنفل في الركعتين الأخيرتين، والأول المذهب؛ لأن الإتمام يلزمه بنيته. وإن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس، ولا يلزمه الإتمام؛ لأن الموجب للإتمام نيته، أو ائتمامه بمقيم ولم يوجد، فإن جلس سجد للسهو، وله أن يتم. فإن لم يعلم المأمومون هل سها أو نوى الإتمام؟ لزمته متابعته؛ لأن حكم وجوب المتابعة ثابت، فلا يزول بالشك، فإذا اتبعوه فصلاتهم صحيحة لما ذكرناه، وإن علموا أن قيامه لسهو فلهم مفارقته، فإن تابعوه، فقال القاضي: تفسد صلاتهم؛ لأنهم زادوا في الصلاة عمدًا، والصحيح أنها لا تفسد؛ لأنها زيادة لا تفسد بها صلاة الإمام عمدًا، فلا تفسد بها صلاة المأموم، كزيادات الأقوال، وإذا صلى بهم الأربع سهوًا سجد للسهو، وليس بواجب عليه؛ لأنها زيادة لا يبطل عمدها، فلا يجب لها السجود كقراءة السورة في الثالثة. فصل: وللمسافر أن يقصر، وله أن يتم؛ لقول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فمفهومه أن القصر رخصة يجوز تركها، «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت، فقال: أحسنت» رواه أبو داود الطيالسي. ولأنه تخفيف أبيح للسفر، فجاز تركه كالمسح ثلاثًا، والقصر أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه داوموا عليه، وعابوا من تركه. «قال عبد الرحمن بن يزيد: صلى عثمان أربعًا، فقال عبد الله: صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، ولوددت أن حظي من أربع، ركعتان متقبلتان» متفق عليه. وأتى ابن عباس رجل فقال: إني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 كنت مع صاحب لي في السفر، فكنت أتم وصاحبي يقصر، فقال: بل أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم. فصل: وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإن نوى دونها قصر، وعنه: إن نوى الإقامة أربعة أيام أتم؛ لأن الثلاث حد القلة بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» رواه أبو داود. فإذا أقام أربعًا فقد زاد على حد القلة، فيتم، والأول المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة فصلى بها إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها، وذلك أنه قدم لصبح رابعة، فأقام إلى يوم التروية، فصلى الصبح ثم خرج، فمن أقام مثل إقامته قصر، ومن زاد أتم، ذكره الإمام أحمد، «قال أنس: أقمنا بمكة عشرًا نقصر الصلاة» ، ومعناه ما ذكرناه؛ لأنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وما بعده من العشرة، وفي هذا الحديث دليل على أن من قصد بلدًا ينوي الرجوع عنه قريبًا فله القصر فيه؛ لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة وهي مقصده، وفيه دليل على أن من قصد رستاقًا، يتنقل فيه لا ينوي إقامة في موضع واحد فله القصر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة ومنى وعرفة عشرًا، ومن كان بمكة مقيمًا فخرج إلى عرفة عازمًا على أنه إذا رجع إلى مكة لا يقيم بها، فله القصر من حين خروجه، ولو خرج المسافر، فذكر حاجة في بلده قصر في رجوعه إليها، فإذا وصل البلد، فإن كان له به أهل أو مال أتم، وإلا قصر فيه أيضًا. ومتى مر المسافر ببلده له به أهل أو ماشية أتم؛ لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فصل: ومن لم يجمع على إقامة إحدى وعشرين صلاة قصر، وإن أقام دهرًا، مثل من يقيم لحاجة يرجو إنجازها، أو جهاد أو حبس سلطان أو عدو أو مرض، سواء غلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 على ظنه كثرة ذلك أو قلته؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يقصر الصلاة» رواه البخاري. «وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر» رواه الإمام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول، وإن قال: إن لقيت فلانًا أقمت، وإلا لم أقم، لم يبطل حكم سفره؛ لأنه لم يعزم على الإقامة. فصل: والملاح الذي أهله معه في السفينة، وحاجة بيته ولا بيت له غيرها، وليس له نية المقام ببلد لا يقصر، نص عليه؛ لأنه غير ظاعن عن بلده ومنزله، فأشبه المقيم ببلد، قال القاضي: والمكاري، والفيج مثل في ذلك، والأولى إباحة القصر لهما، لدخولهما في النصوص المبيحة، وامتناع قياسها على الملاح؛ لأنه لا يمكنهما استصحاب الأهل، ومصالح المنزل في السفر، وزيادة المشقة عليه في سفره بحمل أهله معه بخلاف الملاح. [ باب الجمع بين الصلاتين ] وأسباب الجمع ثلاثة: أحدها: السفر المبيح للقصر؛ لما «روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينها ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق» متفق عليه. وهذا لفظ مسلم، وخص الخرقي الجمع بهذه الحالة، إذا ارتحل قبل دخول الوقت الأولى أخرها حتى يجمعها مع الثانية، في وقت الثانية، وروى نحوه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والمذهب جواز الجمع لمن جاز له القصر في نزوله وسيره، وله الخيرة بين تقديم الثانية، فيصليها مع الأولى، وبين تأخير الأولى إلى الثانية، لما «روى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى ابن عباس نحوه، وروى أنس نحوه، أخرجه البخاري. ولأنها رخصة من رخص السفر، فلم يعتبر فيها وجود السير كسائر رخصه، فإن جمع بينهما في وقت الأولى اعتبر ثلاثة شروط: أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى؛ لأنها نية تفتقر إليها، فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر، وفيه وجه آخر أنه يجزئه، أن ينوي قبل الفراغ من الأولى؛ لأنه موضع الجمع بين الصلاتين، فإذا لم تتأخر النية عنه جاز، وقال أبو بكر: لا يحتاج الجمع إلى نية؛ كقوله في القصر، وقد مضى الكلام معه. الشرط الثاني: أن لا يفرق بينهما إلا تفريقًا يسيرًا؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقرنة، ولا يحصل ذلك مع الفرق الطويل، والمرجع في طول الفرق وقصره إلى العرف، فإن احتاج إلى وضوء خفيف لم تبطل، وإن صلى بينهما سنة الصلاة فعلى روايتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الشرط الثالث: وجود العذر حال افتتاح الأولى، والفراغ منها، وافتتاح الثانية؛ لأن افتتاح الأولى موضع النية، وبافتتاح الثانية يحصل الجمع، فاعتبر العذر فيها، فإن انقطع العذر في غير هذه المواضع لم يؤثر، وإن جمع في وقت الثانية اعتبر أن ينوي التأخير للجمع في وقت الأولى، إلى أن يبقى منه قدر فعلها، واستمرار العذر إلى وقت الثانية، ولا يعتبر وجوده في وقت الثانية؛ لأنها صارت في غير وقتها، وقد جوز له التأخير ولا يعتبر المواصلة بينهما في أصح الوجهين؛ لأن الثانية مفعولة في وقتها، فهي أداء على كل حال، والأولى معها كصلاة فائتة. فصل: والسبب الثاني: المطر يبيح الجمع بين المغرب والعشاء؛ «لأن أبا سلمة قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» ، وكان ابن عمر يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء، ولا يجمع بين الظهر والعصر للمطر، قال أحمد: ما سمعت بذلك، وهذا اختيار أبي بكر، وذكر بعض أصحابنا وجهًا في جوازه قياسًا على الليل، ولا يصح لأن المشقة في المطر إنما تعظم في الليل لظلمته، فلا يقاس عليه غيره. والمطر المبيح للجمع هو الذي يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه والثلج مثله في هذا، فأما الطل والمطر الذي لا يبل الثياب، فلا يبيح الجمع؛ لعدم المشقة فيه، وهل يجوز الجمع لمن يصلي منفردًا، أو لمقيم في المسجد، أو من طريقه إليه في ظلال؟ على وجهين: أحدهما: لا يجوز لعدم المشقة. والثاني: يجوز؛ لأن العذر العام لا يعتبر فيه حقيقة المشقة كالسفر. والوحل بمجرده مبيح للجمع؛ لأنه يساوي المطر في مشقته وإسقاطه للجمعة والجماعة، فهو كالمطر، وفيه وجه آخر أنه لا يبيح، لاختلافهما في المشقة، وفي الريح الشديدة في الليلة المظلمة وجهان. فصل: والسبب الثالث: المرض يبيح الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا لحقه بتركه مشقة وضعف؛ لأن «ابن عباس قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر» متفق عليه. وقد أجمعنا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أن الجمع لا يجوز لغير عذر، ولم يبق إلا المرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة بنت سهيل، وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة، وهو نوع مرض، ثم هو مخير بين التقديم والتأخير، أي ذلك كان أسهل عليه فعله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله طلبًا للأسهل، فكذلك المريض، وإن كان الجمع عنده واحدًا فالأفضل التأخير، فأما الجمع في المطر، فلا تحصل فائدة الجمع فيه إلا بتقديم العشاء إلى المغرب، فيكون ذلك الأولى، والله أعلم. [ باب صلاة المريض ] إذا عجز عن الصلاة قائمًا صلى قاعدًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري. وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعدًا بأصحابه وهو شاك. وصفة جلوسه على ما ذكرنا في صلاة التطوع. فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، يقرب وجهه من الأرض في السجود قدر طاقته. فإن سجد على وسادة بين يديه جاز؛ لأن أم سلمة سجدت على وسادة لرمد بها، ولا يجعلها أرفع من مكان يمكنه حط وجهه إليه. وإن أمكنته الصلاة قائمًا وحده ولم تمكنه من الإمام إلا بالقعود في بعضها فهو مخير فيها؛ لأنه يفعل في كل واحدة منهما واجبًا ويترك واجبًا، وإن أمكنه القيام وعجز عن الركوع والسجود صلى قائمًا، فأومأ بالركوع، ثم جلس فأومأ بالسجود؛ لأن سقوط فرض لا يسقط فرضًا غيره. وإن تقوس ظهره فصار كالراكع رفع حال القيام قدر طاقته، ثم انحنى في الركوع قليلًا آخر، وإن كان بعينه رمد فقال ثقات من العلماء بالطب: إن صليت مستلقيًا أمكن مداواتك جاز ذلك؛ لأن أم سلمة تركت السجود لرمد بها، ولأنه يخاف من الضرر، أشبه المرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فصل: وإن عجز عن القعود صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه؛ لحديث عمران، وإن صلى على جنبه الأيسر جاز للخبر، ولأنه يستقبل القبلة به، وإن صلى مستلقيًا على ظهره بحيث إذا قعد كان وجهه إليها جاز؛ لأنه نوع استقبال، ويحتمل أن لا يجوز لمخالفته الأمر، وتركه الاستقبال بوجهه وجملته. فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى على ظهره، ويومئ بالركوع والسجود برأسه، فإن عجز فبطرفيه، ولا تسقط الصلاة عنه ما دام عقله ثابتًا. فصل: وإن قدر على القيام والقعود في أثناء الصلاة انتقل إليه، وأتم صلاته. وإن ابتدأها قائمًا أو قاعدًا فعجز عن ذلك في أثنائها أتم صلاته على ما أمكنه؛ لأنه يجوز أن يؤدي جميعها قائمًا حال القدرة، وقاعدًا حال العجز، فجاز أن يفعل بعضها قائمًا مع القدرة، وبعضها قاعدًا مع العجز. فصل: ومن كان في ماء أو طين لا يمكنه السجود إلا بالتلوث والبلل فله الصلاة بالإيماء، والصلاة على دابته؛ لأن أنس بن مالك صلى المكتوبة في يوم مطير على دابته، «وروى يعلى بن أمية، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه على ظهور دوابهم يومئون ويجعلون السجود أخفض من الركوع» رواه الأثرم، والترمذي. فإن كان البلل يسيرًا لا أذى فيه لزمه السجود؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من صلاته وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين» متفق عليه. وهل تجوز الصلاة على الدابة لأجل مرض؟ فيه روايتان: إحداهما: تجوز، اختارها أبو بكر؛ لأن مشقة النزول في المرض أكثر من المشقة بالمطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 والثانية: لا تجوز؛ لأن ابن عمر كان ينزل مرضاه، ولأن الصلاة على الأرض أسكن له وأمكن، بخلاف صاحب الطين. فإن خاف المريض بالنزول ضررًا غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة ونحوه فله الصلاة عليها، رواية واحدة؛ لأنه خائف على نفسه، فأشبه الخائف من عدو. [ باب صلاة الخوف ] تجوز صلاة الخوف في كل قتال مباح، كقتال الكفارة والبغاة والمحاربين، ولا تجوز في محرم لأنها رخصة، فلا تستباح بالمحرم كالقصر. والخوف على ضربين: شديد وغيره، فغير الشديد، يجوز أن يصلي بهم على الصفة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأحاديث التي جاءت في صلاة الخوف كلها أحاديث جياد صحاح، وهي تختلف، فأقول: إن ذلك كله جائز لمن فعله، إلا أن حديث سهل بن أبي خيثمة أنكى في العذر فأنا أختاره، وقال ستة أو سبعة: يروى فيها كلها جائز، فتذكر الوجوه التي بلغنا. فالوجه الأول: منها ما «روى صالح بن خوات، عن من صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صلت معه، وطائفة وجاه فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم» متفق عليه. فهذا حديث سهل الذي اختاره أحمد. ويشترط أن يكون في المسلمين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين؛ كل طائفة ثلاثة فأكثر. ويقرأ الإمام في حال الانتظار، ويطيل حتى يدركوه؛ لأن الصلاة ليست محلًا للسكوت، وتكون الطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقته إن سها لحقهم حكم سهوه، وسجدوا له، وإن سهوا لم يلحقهم حكم سهوهم؛ لأنهم مأمومون، فإذا فارقوه صاروا منفردين لا يلحقهم سهوه، وإن سهوا سجدوا؛ لأنهم منفردون، فأما الطائفة الثانية، فلحقها سهو إمامها في جميع الصلاة، ما أدركوه معه وما لم يدركوه كالمسبوق، ولا يلحقهم حكم سهوهم في شيء من صلاتهم؛ لأنهم إن فارقوه فهم مؤتمون به حكمًا؛ لأنهم يسلمون بسلامه، فإذا قضوا ما عليهم فسجد إمامهم سجدوا معه، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 سجد قبل إتمامه سجدوا معه؛ لأنه إمامهم فلزمهم متابعته، ولا يعيدون السجود بعد فراغهم من التشهد؛ لأنهم لم ينفردوا عن الإمام، فلا يلزمهم من السجود أكثر مما يلزمه، بخلاف المسبوق. فصل: الوجه الثاني: أن يقسمهم طائفتين، يصلي بكل طائفة صلاة كاملة، كما «روى أبو بكرة قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خوف الظهر، فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه، فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين» رواه أبو داود. فصل: الوجه الثالث: أن يصلي بهم كالتي قبلها، إلا أنه لا يسلم إلا في آخر الأربع، كما «روى جابر قال: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذ كنا بذات الرقاع، فنودي بالصلاة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ركعات، وللقوم ركعتان» رواه البخاري. فصل: الوجه الرابع: ما «روى عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» متفق عليه. فهذا الوجه جوز أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصلاة به، واختار حديث سهل؛ لأنه أشبه بظاهر الكتاب وأحوط للصلاة، وأنكى في العدو، وأما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية، وقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ظاهره أن جميع صلاتها معه، وأن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، ولا يتحقق هذا في هذا الوجه، وأما الاحتياط للحرب، فإن كل طائفة تنصرف بعد الفراغ من صلاتها، وتتمكن من الضرب والكلام والتحريض وغيره، وفي هذا الوجه تنصرف كل طائفة، وهي في حكم الصلاة لا تتمكن من ذلك، ولا يخلو من أن تمشي أو تركب، وذلك عمل كثير يفسدها. فصل: الوجه الخامس: إذا كان العدو في جهة القبلة، بحيث لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كمينًا، صلى بهم كما «روى جابر قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجد، ثم سلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلمنا جميعًا» أخرجه مسلم. فهذه الأوجه الخمسة جائزة لمن فعلها، ولا نعرف وجهًا سادسًا غير ما «روى ابن عباس، قال: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي قرد صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصف صفًا خلفه وصفًا موازي العدو، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولهم ركعة ركعة» رواه الأثرم. فكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي كون هذا من الوجوه الجائزة، إلا أن أصحابه قالوا: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، فيدل على أن هذا ليس بمذهب له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 فصل: فإن صلى المغرب على حديث سهل، صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وتتم لأنفسها ركعة، تقرأ فيها بالحمد لله، وبالثانية ركعة، وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد لله وسورة، وتفارقه الأولى حين يقوم إلى الثالثة في أحد الوجهين؛ لأن الانتظار في القيام أولى لكثرة ثواب القيام، واستحباب تقصير التشهد، وفي الآخر تفارقه حين يفرغ من تشهده الأول، فتقوم ويثبت هو جالسًا لتدرك الثانية جميع الركعة الثالثة، ويطيل التشهد حتى تجيء الطائفة الثانية فينهض، ثم تكبر الطائفة وتدخل معه، فإذا جلس للتشهد الآخر نهضت لقضاء ما فاتها، ولم تتشهد معه؛ لأنه ليس بموضع تشهدها، ويحتمل أن تتشهد معه إذا قلنا: إنها تقضي ركعتين متواليتين؛ لئلا يفضي إلى وقوع جميع الصلاة بتشهد واحد. فصل: ويجوز صلاة الخوف للمقيمين؛ لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية. ولأنها حالة خوف، فأشبهت حالة السفر، ويصلي بكل طائفة ركعتين، وتتم الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى بالحمد لله وسورة، وفي موضع مفارقة الطائفة الأولى له وجهان، على ما ذكرنا في المغرب، وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات وبالأخرى ركعة، أو صلى المغرب بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين، جاز لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بهما. وإن فرقهم أربع فرق، وصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق في المغرب صحت صلاة الأولى والثانية؛ لأنهما فارقتاه لعذر، وبطلت صلاة الإمام لزيادته انتظارًا لم يرد الشرع بمثله، وصلاة الثالثة والرابعة لاقتدائهما بمن صلاته باطلة، وقال ابن حامد: إن لم يعلما ببطلان صلاته صحت صلاتهما للعذر، فأشبه من صلى وراء محدث يجهل هو والإمام حدثه. فصل: إذا صلى صلاة الخوف من غير خوف لم تصح؛ لأنها لا تنفك من مفارق إمامه، أو تارك متابعته، أو قاصر مع إتمام إمامته، أو قائم للقضاء قبل سلامه، وكل ذلك مبطل إلا مع العذر، إلا أن يصلي بكل طائفة صلاة تامة على حديث أبي بكرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فصل: قال أصحابنا: لا يجب حمل السلاح في صلاة الخوف؛ لأنه لو وجب لكان شرطًا كالسترة، ويستحب أن يحمل ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين، ويكره ما يثقله كالجوشن، وما يمنع إكمال السجود كالمغفر، وما يؤذي به غيره كالرمح متوسطًا، فإن كان في حاشية لم يكره، ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن الصلاة، إلا أن يخاف وقوع السهام والحجارة ونحوها به، فيجوز للضرورة، ويحتمل وجوب حمل السلاح للأمر به بقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فيدل على الجناح عند عدم ذلك. فصل: الضرب الثاني: الخوف الشديد، مثل التحام الحرب والقتال، ومصيرهم إلى المطاردة، فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالًا وركبانًا، يومون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويتقدمون ويتأخرون ويضربون ويطعنون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وصلاتهم صحيحة، وإن هرب هربًا مباحًا من عدو أو سيل أو سبع أو نار لا يمكنه التخلص إلا بالهرب، أو كان أسيرًا يخاف الكفار إن صلى أو مختفيًا في موضع يخاف أن يظهر عليه صلى كيفما أمكنه، قائمًا أو قاعدًا أو مستلقيًا إلى القبلة وغيرها بالإيماء في السفر والحضر، فإن أمن في صلاته أتمها صلاة أمن، وإن ابتدأها آمنًا فعرض له الخوف أتمها صلاة خائف؛ لأنه يبني على صلاة صحيحة، فجاز كبناء صلاة المرض على صلاة الصحة. وإن رأى سوادًا فظنه عدوًا، فصلى صلاة الخوف، ثم بان أنه غير عدو، أو بينه وبينه ما يمنع العبور أعاد؛ لأنه لم يوجد المبيح فأشبه من ظن أنه متطهر، فصلى ثم علم بحدثه، قال أصحابنا: ويجوز أن يصلوا في شدة الخوف جماعة رجالًا وركبانًا، ويعفى عن تقدمهم الإمام لأجل الحاجة، كما عفي عن العمل الكثير وترك الاستقبال. [ باب صلاة الجمعة ] وهي واجبة بالإجماع، وروى ابن ماجه عن جابر قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودًا لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره» . ولا تجب إلا على من اجتمعت فيه شرائط ثمانية: الإسلام، والبلوغ، والعقل؛ لأنها من شرائط التكاليف بالفروع، والذكورية، والحرية، والاستيطان، لما روى طارق بن شهاب قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو مسافر، أو مريض» رواه أبو داود. ولأن المرأة ليست من أهل الجماعات، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات يوم جمعة فلم يصل جمعة. وفي العبد رواية أخرى أنها تجب عليه؛ لأنها فرض عين من الصلوات فوجبت عليه كالظهر، والأولى أولى للخبر؛ ولأن العبد مملوك المنفعة محبوس على سيده، أشبه المحبوس بدين. السابع: انتفاء الأعذار المسقطة للجماعة. الثامن: أن يكون مقيمًا بمكان الجمعة أو قريبًا منه، وتجب الجمعة على أهل المصر قريبهم وبعيدهم؛ لأن البلد كالشيء الواحد، وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ من غيرهم، ولا تجب على غيرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود. ولم يمكن اعتبار السماع بنفسه فاعتبر بمظنته، والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب، إذا كان المؤذن صيتًا بموضع عالٍ، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية، فرسخ فاعتبرناه به. فصل: وهذه الشروط تنقسم أربعة أقسام: أحدها: شرط للصحة والانعقاد، وهو: الإسلام والعقل، فلا تصح من كافر ولا مجنون، ولا تنعقد بهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات. الثاني: شرط للوجوب والانعقاد وهي: الحرية، والذكورية، والبلوغ، والاستيطان، فلا تنعقد الجمعة بمن عدمت فيه، ولا يصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من غير أهل الوجوب، فلم تنعقد بهم كالنساء، وتصح منهم وتجزئهم عند الظهر، وحضورها لغير النساء أفضل؛ لأن سقوطها عنهم رخصة، فإذا تكلفوا فعلها أجزأتهم، كالمريض يتكلف الصلاة قائمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الثالث: شرط الوجوب السعي فقط، وهو: انتفاء الأعذار، فلو تكلف المريض الحضور وجبت عليه، وانعقدت به؛ لأن سقوطها كان لدفع المشقة، فإذا حضرت زالت المشقة، فوجبت عليه، وانعقدت به كالصحيح. الرابع: شرط الانعقاد حسب وهو: الإقامة بمكان الجمعة، فلو كان أهل القرية يسمعون النداء من المصر لزمهم حضورها، ولم تنعقد بهم، ولو خرج أهل المصر أو بعضهم إلى القرية لم تنعقد بهم الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين بها، والظاهر أنها تصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من أهل الوجوب. فصل: والأفضل لمن لم تجب عليه الجمعة أن لا يصلي الظهر قبل صلاة الإمام؛ لأنه ربما زال عذره فلزمته الجمعة، فإن صلى، فقال أبو بكر: لا تصح صلاته لذلك، والصحيح أنها تصح؛ لأنه صلى فرضه، فلا يبطل بالاحتمال، كالمتيمم، فإن زال عذره فقياس المذهب أنه لا تلزمه الجمعة؛ لأنه أدى فرض الوقت، فأشبه المعضوب إذا حج عن نفسه ثم برئ، وإن لم يزل العذر فحضروها كانت لهم نفلًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: فصلها معهم تكن لك نافلة» ولأن الأولى أسقطت الفرض، فأما من تجب عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام لم تصح؛ لأنه ما خوطب بالظهر، فإن فاتته الجمعة أعادها ظهرًا؛ لأنه خوطب بها حينئذ. وإن اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا ظهرًا لم تصح لذلك، فإذا خرج وقت الجمعة لزمهم الجمعة لزمهم إعادة الظهر، ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 متفق عليه. فإن خاف التهمة استحب إخفاؤها ليدفعها عن نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 فصل: ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط: أحدها: الوقت، فلا تصح قبل وقتها ولا بعده بالإجماع، وآخر وقتها آخر وقت الظهر بغير خلاف، فأما أوله فذكر القاضي أنها تجوز في وقت العيد؛ لأن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في رواية عبد الله: يجوز أن يصلي الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد، لحديث وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن حجاج، عن عبد الله بن سيلان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت صلاته وخطبته قبل انتصاف النهار، وشهدتها مع عمر بن الخطاب، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم صليتها مع عثمان بن عفان - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره. وهذا نقل للإجماع. وعن جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة فنذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس.» رواه مسلم؛ ولأنها صلاة عيد فأشبهت صلاة العيدين. وقال الخرقي: تجوز في الساعة السادسة، وفي نسخة الخامسة، فمفهومه أنه لا يجوز قبل ذلك؛ لأن ما رويناه تختص به. والأفضل فعلها عند زوال الشمس صيفاً وشتاءً، لا يقدمها إلى موضوع الخلاف، ولا يؤخرها. فيشق على الناس؛ لما روى سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمع مع النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء» ، متفق عليه. فإن خرج الوقت وهم فيها، فقال أحمد: من أدرك التشهد أتمها جمعة، فظاهره أنه يعتبر الوقت في جميعها إلا السلام؛ لأن الوقت شرط، فيعتبر في جميعها كالوضوء، وقال الخرقي: إن دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أجزأتهم جمعة؛ لأنه شرط يختص بالجمعة، فلم يعتبر في الركعة الثانية كالجماعة في حق المسبوق، وإن أدرك أقل من ذلك فهل يتمها ظهراً أو يستأنف؟ على وجهين بناء على المسبوق، بأكثر من ركعة، وقال القاضي: متى تلبس بها في وقتها أتمها جمعة، قياساً على سائر الصلوات، فإن شرع فيها ثم شك في خروج الوقت أتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن ضاق الوقت عما يجري في الجمعة لم يكن لهم فعلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فصل: الشرط الثاني: أن يكون في قرية مبنية بما جرت العادة ببناء القرى به، من حجر أو طين أو لبن أو قصب، مجتمعة البناء بما جرت به العادة في القرية الواحدة، يسكنها أربعون من أهل الجمعة سكنى إقامة، لا يظعنون عنها صيفاً ولا شتاءً، فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة لهم؛ لأن ذلك لا ينصب للاستيطان، ولذلك كانت قبائل العرب حول المدينة، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجمعة، وإن كانت قرية يسكن فيها بعض السنة دون بعضهم، أو متفرقة تفريقاً لم تجر به العادة، لم تصح فيها الجمعة، فإن اجتمعت هذه الشروط في القرية، وجبت الجمعة على أهلها، وصحت بها؛ لأن كعباً قال: أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. رواه أبو داود. قال الخطابي: حرة بني بياضة على ميل من المدينة، ولأن هذا بناء استوطنه أربعون من أهل الجمعة، فوجبت عليهم كأهل مصر، وتجوز إقامة أهل الجمعة فيما قارب البنيان من الصحراء، لحديث أسعد بن زرارة. فإن خربت القرية، فلازموها عازمين على إصلاحها ومرمتها فحكمها باق، وإن عزموا على النقلة عنها زال الاستيطان. فصل: الشرط الثالث: اجتماع أربعين ممن تنعقد بهم الجمعة. وعنه: تنعقد بثلاثة؛ لأنهم جمع تنعقد بهم الجماعة، وعنه بخمسين، والمذهب الأول؛ لأن جابراً قال: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة. فينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن انفضوا فلم يبق معه إلا أقل من أربعين لم يتمها جمعة؛ لأنه شرط، فاعتبر في جميع الصلاة كالطهارة، وهل يستأنف ظهراً أو يبني على صلاته؟ على وجهين، بناءً على المسبوق، وقياس المذهب، أنهم إن انفضوا بعد صلاة ركعة أتمها جمعة؛ لأنها شرط تختص الجمعة فلم يعتبر الركوع في أكثر من ركعة كالجماعة فيها. فصل: ولا يختلف المذهب أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام الركوع في الثانية أنه يتمها جمعة، فإن أدرك أقل من ذلك لم يتمها جمعة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة» متفق عليه. وفي لفظ: «فليضف إليها أخرى» فأما من أدرك أقل من ذلك فقال الخرقي: يبني على ظهر إذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 قد دخل بنية الظهر. فظاهر هذا أنه إن نوى جمعة لزمه الاستئناف؛ لأنهما صلاتان لا تتأدى إحداهما بنية أخرى، فلم يجز بناؤها عليها، كالظهر والعصر. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: ينوي جمعة؛ لئلا يخالف بنيته نية إمامه، ثم يبني عليها ظهراً لأنهما فرض وقت واحد، ردت إحداهما من أربع إلى ركعتين فجاز أن يبني عليها الأربع، كالتامة مع المقصورة. فصل: من أحرم مع الإمام ثم زوحم عن السجود فأمكنه السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه. لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه أو قدمه. رواه الطيالسي. ولأنه يأتي بما يمكنه حال العجز فوجب وصح، كالمريض يومئ، فإن لم يمكنه ذلك انتظر زوال الزحام، ثم يسجد ويتبع الإمام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بذلك في صلاة عسفان للعذر، والعذر ههنا قائم، وكذلك إن تعذر عليه السجود لعذر من مرض أو نوم أو سهو. فإن خاف فوات الركوع مع إمامه لزمه متابعته وترك السجود لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن ركع فاركعوا» ولأنه مأموم خاف فوات الركعة فلزمه متابعة إمامه، كالمسبوق فيركع مع إمامه، وتبطل الأولى. وتصير الثانية أولاه. فإن سجد وترك متابعة إمامه بطلت صلاته، إن علم تحريم ذلك؛ لأنه ترك الواجب عمداً، وإن لم يكن يعلم تحريمه، لم تبطل صلاته، ولم يعتد بسجوده؛ لأنه أتى به في موضع الركوع جهلاً فهو كالساهي. وقال أبو الخطاب: يعتد بسجوده ويتم ركعته الأولى، فإن أدرك الركوع أيضاً صحت له الركعتان وإن فاته الركوع، فاتته الثانية وحدها فيقضيها بعد سلام إمامه، وتصح جمعته، قال: ويسجد للسهو، وقال القاضي: هو كمن لم يسجد، فإن أدرك الركوع صحت الثانية وحدها، وإن فاته الركوع وأدرك معه السجدتين سجدهما للركعة الأولى، وصحت له ركعة، ويقضي ركعة، وتمت جمعته لإدراكه ركعة، وإن فاتته السجدتان أو إحداهما قضى ذلك بعد سلام إمامه، فتصح له ركعة، وكذا لو ترك سجدتي الأولى، خوفاً من فوات ركوع الثانية فركع معه، وزوحم عن سجدتي الثانية فأمكنه السجود في التشهد سجد، وإن لم يمكنه سجد بعد سلام الإمام وصحت له ركعة ومثلها: لو كان مسبوقاً بالأولى وزوحم عن سجود الثانية، وهل يكون مدركاً للجمعة في كل موضع لم يتم له ركعة إلا بعد سلام إمامه؟ على روايتين: إحداهما: يكون مدركاً لها؛ لأنه قد يحرم بالصلاة مع الإمام، أشبه ما لو ركع وسجد معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 والثانية: لا جمعة له؛ لأنه لم يدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق بركوع الثانية، وعلى هذه الرواية هل يستأنف أو يتمها ظهراً على وجهين. وإن أحرم مع الإمام فزوحم، وأخرج من الصف فصلى فذاً، لم تصح صلاته، وإن صلى ركعة وأخرج من الثانية، فأتمها وحده ففيه روايتان: إحداهما: يتمها جمعة؛ لأنه أدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق. والثانية: يعيد لأنه فذ في ركعة كاملة. فإن أدرك مع الإمام ركعة، وقام ليقضي، فذكر أنه لم يسجد إلا سجدة واحدة، أو شك في إحدى السجدتين، لزمه أن يرجع إن لم يكن شرع في قراءة الثانية، فيأتي بما ترك، ثم يقضي ركعة أخرى، ويتمها جمعة. نص عليه، وإن ذكر بعد شروعه في قراءة الثانية بطلت الأولى، وصارت الثانية أولاه، ويتمها جمعة على المنصوص، وفيه وجه آخر أنه لا تحصل له الجمعة؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة، وهكذا لو قضى الثانية ثم علم أنه نسي سجدة لا يدري من أيهما تركها، أو شك في ذلك، فإنه يجعلها من الأولى، وتصير الثانية أولاه، فأما إن شك في إدراك الركوع مع الإمام، لم يعتد له بالركعة التي مع الإمام، وتصير ظهراً قولاً واحداً. فصل: الشرط الرابع: أن يتقدمها خطبتان؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبتين يقعد بينهما» . متفق عليه. وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنما أقرت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة. ومن شرط صحتها حضور العدد المشروط للصلاة؛ لأنه ذكر الاشتراط للصلاة واشترط له العدد، كتكبيرة الإحرام، فإن انفضوا وعادوا لم يطل الفصل صلى الجمعة؛ لأنه تفريق يسير، فلم يمنع، كالتفريق بين المجموعتين، ويشترط لهما الوقت لذلك، ويشترط الموالاة في الخطبتين، فإن فرق بين الخطبتين أو بين أجزاء الخطبة الواحدة أو بينهما وبين الصلاة، فأطال بطلت، فإن كان يسيراً بنى؛ لأنهما مع الصلاة كالمجموعتين، ويحتمل أن الموالاة ليست شرطاً؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلا يشترط الموالاة بينهما، كالأذان والإقامة ولا يشترط لهما الطهارة، نص عليه لذلك، ولأنها لو اشترطت لاشترط الاستقبال كالصلاة. وعنه: أنها شرط؛ لأنه ذكر شرط في الجمعة فأشبه تكبيرة الإحرام. ويشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة لذلك، لكن يجوز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر؛ لأنه إذا جاز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر ففي الصلاة بكمالها أولى، وعنه: ما يدل على جواز الاستخلاف لغير عذر، قال في الإمام يخطب يوم الجمعة، ويصلي الأمير بالناس: لا بأس إذا حضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الأمير الخطبة؛ لأنه لا يشترط اتصالها بها، فلم يشترط أن يتولاهما واحد، كصلاتين، وهل يشترط أن يكون الخليفة ممن حضر الخطبة؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يشترط؛ لأنه لا يشترط في صحة جمعته حضور الخطبة إذا كان مأموماً، فكذلك إذا كان إماماً. والثانية: يشترط لأنه إمام، فاشترط حضوره للخطبة، كما لو لم يستخلف. فصل وفروض الخطبة أربعة أشياء: حمد الله تعالى؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» . والثاني: الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان. الثالث: الموعظة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعظ، وهو القصد من الخطبة فلا يجوز الإخلال بها. الرابع: قراءة آية؛ لأن جابر بن سمرة قال: «كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الناس» . رواه أبو داود والترمذي. ولأن الخطبة فرض في الجمعة، فوجبت فيها القراءة كالصلاة، وعن أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ما يدل على أنه لا يشترط قراءة آية، فإنه قال: القراءة في الخطبة على المنبر. ليس فيه شيء مؤقت ما شاء قرأ، وتشترط هذه الأربعة في الخطبتين؛ لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الفروض. فصل: وسننها ثلاث عشرة: أن يخطب على منبر أو موضع عال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب على منبره؛ ولأنه أبلغ في الإعلام. الثاني: أن يسلم عقيب صعوده إذا أقبل عليهم؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم عليهم» رواه ابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الثالث: أن يجلس إذا سلم عليهم؛ لأن ابن عمر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب» ، رواه أبو داود. الرابع: أن يخطب قائماً؛ لأن جابر بن سمرة قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن حدثك أنه كان يخطب جالساً، فقد كذب» ، رواه مسلم وأبو داود. وليس ذلك بشرط؛ لأن المقصود يحصل بدونه. الخامس: أن يجلس بينهما لما رويناه، وليس بواجب؛ لأنها جلسة للاستراحة، وليس فيها ذكر مشروع، فأشبهت الأولى. السادس: أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا، لما روى الحكم بن حزن قال: «وفدت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئاً على سيف، أو قوس، أو عصا، فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات» ، رواه أبو داود، ولأن ذلك أمكن له، فإن لم يكن معه شيء أمسك شماله بيمينه، أو أرسلهما عند جنبيه وسكنهما. السابع: أن يقصد بلقاء وجهه؛ لأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضاً عمن في الجانب الآخر. الثامن: أن يرفع صوته؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم، ولأنه أبلغ في الإسماع. التاسع: أن يكون في خطبته مترسلاً معرباً، مبيناً من غير عجلة ولا تمطيط؛ لأنه أبلغ وأحسن. العاشر: تقصير الخطبة، لما روى عمار قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة» . رواه مسلم. الحادي عشر: ترتيبها، يبدأ بالحمد لله، ثم بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يعظ؛ لأنه أحسن والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بالحمد لله، وقال: «كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الثاني عشر: أن يدعو للمسلمين؛ لأن الدعاء لهم مسنون، في غير الخطبة ففيها أولى وإن دعا للسلطان فحسن لأن صلاحه نفع للمسلمين، فالدعاء له دعاء لهم. الثالث عشر: أن يؤذن لها إذا جلس الإمام على المنبر؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] ، يعني الأذان، قال السائب: «كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس زاد النداء الثالث» رواه البخاري. وهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلق به وجوب السعي، وتحريم البيع؛ لأنه الذي كان مشروعاً حين نزول الآية، فتعلقت الأحكام به. ويسن الأذان الأول في أول الوقت؛ لأن عثمان سنه، وعملت به الأمة بعده، وهو مشروع للإعلام بالوقت، والثاني للإعلام بالخطبة، والإقامة للإعلام بقيام الصلاة. فصل: ولا يشترط للجمعة إذن الإمام؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بالناس، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محصور، ولأنها من فرائض الأعيان، فلم يعتبر لها إذن الإمام، كالظهر. قال أحمد: وقعت الفتنة بالشام تسع سنين، فكانوا يجمعون لكن إن أمكن استئذانه فهو أكمل وأفضل، وعنه أنه شرط؛ لأنه لا يقيمها في كل عصر إلا الأئمة. فصل: وتصلى خلف كل بر وفاجر، لحديث جابر، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وتختص بإمام واحد، فتركها خلف الفاجر يفضي إلى الإخلال بها، فلم يجز ذلك كالجهاد، ولهذا أبيح فعلها في الطرق، ومواضع الغصب، صيانة لها عن الفوات. فصل: [و] إذا فرغ من الخطبة نزل، فأقيمت الصلاة فصلى بهم ركعتين، يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة معها، ويجهر بالقراءة للإجماع ونقل الخلف عن السلف. ومهما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، إلا أن المستحب أن يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين، أو بسبح، والغاشية، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بسورة الجمعة والمنافقين، في الجمعة» . وعن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العيدين والجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رواهما مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فصل: ومتى أمكن الغنى بجمعة واحدة في المصر لم يجز أكثر منها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة، وإن احتيج إلى أكثر منها جاز؛ لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير، فصار إجماعاً، ولأنها صلاة عيد جاز فعلها في موضعين مع الحاجة كغيرها، وإن استغنى بجمعتين لم تجز الثالثة. فإن صليت في موضعين من غير حاجة، وإحداهما جمعة الإمام فهي الصحيحة، ويحتمل أن السابقة هي الصحيحة؛ لأنه لم يتقدمها ما يفسدها، وبعد صحتها لا يفسدها ما بعدها، والأول أولى؛ لأن في تصحيح غير جمعة الإمام افتئاتاً عليه، وتبطيلاً لجمعته، ومتى أراد أربعون نفساً إفساد صلاة الإمام، والناس أمكنهم ذلك، فإن لم يكن لأحدهما مزية فالسابقة هي الصحيحة لما ذكرناه، وتفسد الثانية. وإن وقعتا معاً: فهما باطلتان؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما، ولا تعيين إحداهما بالصحة فبطلتا، كما لو جمع بين أختين. وعليهم إقامة جمعة ثالثة؛ لأنه مصر لم تصل فيه جمعة صحيحة، وإن علم سبق إحداهما وجهلت، فعلى الجميع الظهر؛ لأن كل واحد لم يتيقن براءة ذمته من الصلاة، وليس لهم إقامة الجمعة لأن المصر قد صليت فيه جمعة صحيحة وإن جهل الحال، فسدتا. وهل لهم إقامة الجمعة؟ على وجهين: أحدهما: لا يقيمونها للشك في شرط إقامتها. والثاني: لهم ذلك؛ لأننا لم نعلم المانع من صحتها والأصل عدمه. وذكر القاضي وجهاً من إقامتها مع العلم بسبق إحداهما؛ لأنه لما تعذر تصحيح إحداهما بعينها صارت كالمعدومة. ولو أحرم بالجمعة فعلم أنها قد أقيمت في مكان آخر لم يكن له إتمامها. وهل يبني عليها ظهراً أم يستأنفها؟ على وجهين: أصحهما استئنافها؛ لأن ما مضى منها لم يكن جائزاً له فعله، ويعتبر السبق بالإحرام؛ لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الإحرام بالأخرى للغنى عنها. فصل: ولا يجوز لمن تجب عليه الجمعة السفر بعد دخول وقتها؛ لأنه يتركها بعد وجوبها عليه، فلم يجز، كما لو تركها لتجارة إلا أن يخاف فوت الرفقة، فأما قبل الوقت فيجوز للجهاد، لما روى ابن عباس قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ألحقهم. قال: فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو أنفقت ما في الأرض ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 أدركت فضل غدوتهم» من " المسند " وهل يجوز لغير الجهاد؟ فيه روايتان: إحداهما: يجوز؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الجمعة لا تحبس عن سفر، ولأنها لم تجب، فأشبه السفر من الليل. والثانية: لا يجوز لما روى الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره» . فصل: ويجب السعي بالنداء الثاني لما ذكرنا، إلا لمن منزله في بعد، فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركاً للجمعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويستحب التبكير بالسعي، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أملح، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» متفق عليه. وقال علقمة: خرجت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 مع عبد الله يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد. ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة» رواه ابن ماجه. ويستحب أن يأتيها ماشياً ليكون أعظم للأجر، وعليه سكينة ووقار، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تأتوا الصلاة وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار» ، متفق عليه. ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته. فصل: ويستحب أن يغتسل ويتطيب، ويتنظف بقطع الشعر، وقص الظفر، وإزالة الرائحة، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري. وعنه: أن الغسل واجب، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك وأن يمس طيباً» رواه مسلم. والأول المذهب؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل الغسل أفضل» قال الترمذي: هذا حديث حسن، والخبر الأول أريد به تأكيد الاستحباب، ولذلك ذكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين. ووقت الغسل بعد الفجر لقوله: «يوم الجمعة» والأفضل فعله عند الرواح؛ لأنه أبلغ في المقصود. ولا يصح إلا بنيته؛ لأنه عبادة، فإن اغتسل للجمعة والجنابة أجزأه، وإن اغتسل للجنابة وحدها احتمل أن يجزئه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة» ، ولأن المقصود التنظيف وهو حاصل، واحتمل أن لا يجزئه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وليس للمرء من عمله إلا ما نواه» . فصل: وإذا أتى المسجد كره له أن يتخطى الناس، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولم يفرق بين اثنين» إلا أن يكون إماماً ولا يجد طريقاً فلا بأس بالتخطي؛ لأنه موضع حاجة. ومن لم يجد موضعاً إلا فرجة، لا يصل إليها بتخطي الرجل والرجلين، فلا بأس. فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 تركوا أول المسجد فارغاً وجلسوا دونه، فلا بأس بتخطيهم؛ لأنهم ضيعوا حق نفوسهم. وإن ازدحم الناس في المسجد وداخله اتساع فلم يجد الداخل لنفسه موضعاً، فعلم أنهم إذا قاموا تقدموا، وإن لم يرج ذلك فله تخطيهم؛ لأنه موضع حاجة. وليس لأحد أن يقيم غيره ويجلس مكانه، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه» متفق عليه. وإن قام له رجل من مكانه وأجلسه فيه جاز؛ لأن الحق له، لكن إن كان المتنفل ينتقل إلى موضع أبعد من موضعه كره لما فيه من الإيثار بالقربة. ولو قدم رجل غلامه فجلس في موضع فإذا جاء قام الغلام وجلس مكانه فلا بأس به. كان ابن سيرين يفعله. وإن فرش له مصلى لم يكن لغيره الجلوس عليه. وهل لغيره رفعه والجلوس في موضعه؟ فيه وجهان: وإن قام الجالس من موضعه لحاجة ثم عاد إليه فهو أحق به، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» رواه مسلم. وإن نعس فأمكنه التحول إلى مكان لا يتخطاه فيه أحد استحب له ذلك، لما روى ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره» من المسند. وهو حديث صحيح. فصل: ويستحب الدنو من الإمام لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها» رواه ابن ماجه والنسائي. وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بالتنفل، أو ذكر الله، وقراءة القرآن، ويكثر من الدعاء لعله يوافق ساعة الإجابة، ويكثر من الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقرأ سورة الكهف؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي الفتنة» . فصل: فإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل، فإذا أخذ من الخطبة حرم الكلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت» متفق عليه. وروى ثعلبة بن مالك أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن، قام عمر ولم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا. وعنه: لا يحرم الكلام، لما روى أنس قال: «بينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكراع هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا» . وذكر الحديث. متفق عليه. والأول أولى، وهذا يحتمل أنه من تكليم الخطيب دون غيره لأنه لا يشتغل بتكليمه عن سماع خطبته. والبعيد والقريب سواء في ذلك. وقد روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل للسامع، إلا أن للبعيد أن يذكر الله ويقرأ القرآن سراً، وليس الجهر، ولا المذاكرة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الفقه، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحلق يوم الجمعة والإمام يخطب» . وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة» ، ومن يسمع متكلماً لم ينهه بالقول: للخبر، ولكن يشير إليه، ويضع إصبعه على فيه، وإن وجب الكلام مثل تحذير ضرير شيئاً مخوفاً فعليه الكلام؛ لأنه لحق آدمي، فكان مقدماً على غيره، ومن سأله الإمام عن شيء فعليه إجابته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل الداخل: أصليت فأجابه، وسأل عمر عثمان فأجابه، وفي رد السلام، وتشميت العاطس، روايتان: إحداهما: يفعل لأنه لحق آدمي، فأشبه تحذير الضرير. والأخرى: لا يفعله لأن المسلم سلم في غير موضعه، والتشميت سنة لا يترك لها الإنصات الواجب، ولا يتصدق على سائل والإمام يخطب، وإذا لم يسمع الخطبة، فلا بأس أن يشرب الماء. فصل: ولا يحرم الكلام على الخاطب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتكلم، وعمر سأل عثمان أية ساعة هذه؟ فإذا وصل الخطيب إلى الدعاء ففيه وجهان: أحدهما: يباح الكلام؛ لأنه فرغ من الخطبة. والثاني: لا يباح؛ لأنه قاطع للخطبة أشبه التطويل في الموعظة. فصل: ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما، لما روى جابر قال: «دخل رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قال: صليت يا فلان قال: لا، قال: فصل ركعتين» . متفق عليه. زاد مسلم ثم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» . فصل: ويسن أن يصلي بعد الجمعة أربعاً لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً» رواه مسلم، وإن شاء صلى ركعتين، لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين» ، متفق عليه، وإن شاء صلي ستاً لأن ابن عمر روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ويستحب أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 يفصل بين الجمعة والركوع بكلام، أو رجوع إلى منزله، لما روى السائب بن يزيد قال: قال لي معاوية: «إذا صليت صلاة الجمعة فلا تصليها بصلاة حتى تتكلم، أو تخرج، قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بذلك» ، رواه مسلم. فصل: ويستحب أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] » رواه مسلم. قال أحمد: ولا أحب أن يداوم عليها، لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة. فصل: فإذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلوا العيد لم تلزمهم الجمعة، ويصلون ظهراً لما روى زيد بن أرقم قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيدين اجتمعا في يوم، فصلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يجمع فليجمع» . وعن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون إن شاء الله» رواهما أبو داود. وتجب الجمعة على الإمام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا مجمعون» ولأن تركه لها منع لمن يريدها من الناس. وعنه: لا تجب؛ لأن ابن الزبير لم يصلها وكان إماماً، ولأن الجمعة إذا سقطت عن المأمومين سقطت عن الإمام، كحالة السفر، فإن عجل الجمعة في وقت العيد أجزأته عن العيد والظهر، في ظاهر كلامه لما روى عطاء قال: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما وصلاهما ركعتين، فلم يزد عليهما حتى صلى العصر، وبلغ فعله ابن عباس فقال: أصاب السنة. [ باب صلاة العيدين ] وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يداومون عليها، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانت فرضاً كالجهاد، ولا تجب على الأعيان؛ لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر للأعرابي خمس صلوات فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» متفق عليه. فإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام، لتركهم شعائر الإسلام الظاهرة، فأشبه تركهم الأذان. ويشترط لوجوبها ما يشترط للجمعة؛ لأنها صلاة عيد، فأشبهت الجمعة، ولا يشترط لصحتها الاستيطان، ولا العدد؛ لأن أنساً كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنهما من حق من انتفت فيه شروط الوجوب تطوع، فلم يشترط لها ذلك كسائر التطوع، وقال القاضي: كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي أن في اشتراط الاستيطان والعدد وإذن الإمام روايتين. فصل: ووقتها من حين ترتفع الشمس وتزول وقت النهي إلى الزوال، فإن لم يعلم بها إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن ركباً جاؤوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» ، رواه أبو داود. ويسن تقديم الأضحى وتأخير الفطر، لما روى عمرو بن حزم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم الأضحى ويؤخر الفطر» ، ولأن السنة إخراج الفطرة قبل الصلاة، ففي تأخير الصلاة توسيع لوقتها، ولا تجوز التضحية إلا بعد الصلاة، ففي تعجيلها مبادرة إلى الأضحية. فصل: ويسن أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ويمسك في الأضحى حتى يصلي لما روى بريدة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي» ، رواه الترمذي، ويفطر على تمرات وتر، لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» . رواه البخاري وفي لفظ: «ويأكلهن وتراً» . فصل: والسنة أن يصليها في المصلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يفعلونها فيه، ويستحب أن يستخلف على ضعفة الناس من يصلي بهم في الجامع لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استخلف أبا مسعود البدري، يصلي بضعفة الناس في المسجد، وهل يصلي المستخلف ركعتين أو أربعاً، على روايتين بناء على اختلاف الروايات في فعل أبي مسعود وقد روي أنه صلى بهم ركعتين وروي أنه صلى بهم أربعاً، وإن كان عذر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 مطر أو نحوه صلى في المسجد، لما روى أبو هريرة قال: «أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد» . رواه أبو داود. فصل: ويسن الاغتسال للعيد، والطيب والتنظيف والسواك، وأن يلبس أحسن ثيابه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع: «إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك» فعلل ذلك بأنه يوم عيد، ولأن هذا اليوم يشرع فيه الاجتماع للصلاة، فأشبه الجمعة، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتم، ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» رواه ابن عبد البر. إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه، ليبقى عليه أثر العبادة. فصل: ويستحب أن يبكر إليها المأموم، ماشياً مظهراً للتكبير؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من السنة أن يأتي العيد ماشياً. رواه الترمذي وقال، حديث حسن ولأنه أعظم للأجر، ويتأخر الإمام إلى وقت الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ولأن الإمام ينتظر ولا ينتظر، وإذا غدا من طريق رجع من غيره؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.» رواه البخاري. فصل: قال ابن حامد: ويستحب خروج النساء، لما روت أم عطية قالت: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين» . متفق عليه. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير مستحب، ولا يلبسن ثوب شهرة، ولا يتطيبن لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليخرجن تفلات» . فصل: وليس لها أذان ولا إقامة لما روى عطاء قال: أخبرني جابر «أن لا أذان للصلاة يوم الفطر ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة» ، متفق عليه. وقال جابر بن سمرة: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة» . رواه مسلم. فصل: وصلاة العيد ركعتان، يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد لله وسورة، ويجهر بالقراءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 بلا خلاف، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد خاب من افترى» . رواه الإمام أحمد في " المسند ". ويسن أن يقرأ فيهما بسبح و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] لحديث النعمان بن بشير. ومهما قرأ أجزأه، ويكبر في الأولى سبع تكبيرات منها تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام، لما روت عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع» رواه أبو داود. واعتددنا بتكبيرة الإحرام لأنها في حال القيام، ولم نعتد بتكبيرة القيام لأنها قبله. ويسن أن يرفع يديه في كل تكبيرة، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد. رواه الأثرم. ويحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليماً؛ لأنه يجمع بين ما ذكرناه. وموضع التكبير بين الاستفتاح، وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين. وعنه: أنه قبل الاستفتاح أيضاً اختارها الخلال وصاحبه، والأول أولى؛ لأن الاستفتاح لافتتاح الصلاة، فيكون في أولها، والاستعاذة للقراءة فتكون في أولها. وعنه: أنه يوالي بين القراءتين، يجعلها في الأولى بعد التكبير، وفي الثانية قبله، لما روى علقمة أن عبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوماً فقال لهم: إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله: تبدأ وتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك، وتصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم تدعو وتكبر، إلى أن قال: وتركع، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك،. وذكر الحديث. قال أبو موسى وحذيفة صدق. ووجه الأولى أنه تكبير في إحدى ركعتي العيد فكان قبل القراءة كالأولى. فصل: وتكبيرات العيد الزوائد والذكر بينها سنة لا يؤثر تركها عمداً، وإن والى بين التكبير كان جائزاً، وإن نسي التكبير حتى شرع في القراءة، لم يعد إليه لأنه سنة فلا يعود إليها بعد شروعه في القراءة كالاستفتاح. فصل: فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك. ويفارق خطبتي الجمعة في أربعة أشياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 أحدها: أن محلها بعد الصلاة، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» . متفق عليه. الثاني: أنه يسن أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات، والثانية بسبع، ويكثر التكبير في أضعاف الخطبة، لما روى سعد مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير بن خطبتي العيدين» . الثالث: أن يحثهم في الفطر على إخراج الفطر، ويبين لهم ما يخرجونه ووقته وجنسه، وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبين لهم ما يجزئ فيها، ووقت ذبحها، ويحثهم على الإطعام منها؛ لأنه وقت هذا النسك فيشرع تبيينه. الربع: أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما، لما روى عبد الله بن السائب قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» رواه أبو داود. ويستحب أن يجلس عقيب صعوده ليستريح، وقيل: لا يجلس؛ لأن الجلوس في الجمعة لموضع الأذان ولا أذان ههنا. فصل: ولا يتنفل قبل الصلاة وبعدها في موضع الصلاة لا في المسجد ولا في المصلى، إماماً كان أو مأموماً، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها» . متفق عليه. ولا بأس أن يصلي بعد رجوعه، لما روى أبو سعيد قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين» . رواه ابن ماجه. فصل: ومن سبق بالتكبير أو بعضه لم يقضه لأنه سنة فات محلها. وقال ابن عقيل: يأتي به؛ لأن محله القيام وقد أدركه، وإن أدركه في الركوع تتبعه ولم يقض التكبير وجهاً واحداً، وإن أدركه في التشهد قام إذا سلم الإمام فقضى ركعتين يكبر فيهما، وإن أدركه في الخطبة استمع ثم قضى الصلاة إن أحب. وفي صفة القضاء ثلاث روايات: إحداهن: يقضيها على صفتها، لحديث أنس ولأنه قضى صلاة فكان على صفتها كغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الثانية: يصليها أربعاً بسلام واحد إن أحب، أو بسلامين، لما روى الأثرم عن عبد الله بن مسعود قال: من فاته العيد فليصل أربعاً، ولأنها صلاة عيد فإذا فاتت صليت أربعاً كالجمعة. الثالثة: هو مخير بين ركعتين وأربع؛ لأنه تطوع نهار فكانت الخيرة إليه فيه كالضحى. فصل: ويشرع التكبير في العيدين، لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يكبر حتى يسمع أهل الطريق. قال القاضي: والتكبير في الفطر مطلق غير مقيد على ظاهر كلامه. يعني لا يختص بأدبار الصلوات. وقال أبو الخطاب: يكبر من غروب الشمس إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وهل يكبر بعد صلاة العيد على روايتين. فصل: فأما التكبير في الأضحى فهو على ضربين: مطلق ومقيد. فأما المطلق فالتكبير في جميع الأوقات، من أول العشر إلى آخر أيام التشريق. وأما المقيد فهو التكبير في أدبار الصلوات، من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. قيل لأحمد: بأي حديث تذهب إلى أن التكبير في صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقد روي عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: الله أكبر ومد التكبير إلى آخر أيام التشريق» . وصفة التكبير المشروع: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) ؛ لأن هذا يروى عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال أبو عبد الله: اختياري تكبير ابن مسعود. وذكر مثل هذا، ولأن في حديث جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر تكبيرتين» ، ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعاً كتكبير الأذان. فصل: وموضعه عقيب أدبار الصلوات المفروضات، ولا يشرع عقيب النوافل لأنه لا أذان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 لها فلم يكبر بعدها كصلاة الجنازة. وإن سبق الرجل ببعض الفريضة كبر إذا سلم. وإن صلاها كلها وحده ففيه روايتان: إحداهما: يكبر لأنه ذكر مشروع للمسبوق فأشبه التسليمة الثانية. والثانية: لا يكبر؛ لأن ابن عمر كان لا يكبر إذا صلى وحده. وقال ابن مسعود: إنما التكبير على من صلى في الجماعة، ولأنه مخصوص بوقت فخص بالجماعة كالخطبة. والمسافر كالمقيم في التكبير، والمرأة كالرجل. قال البخاري: النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز مع الرجال في المسجد، ويخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنها لا تكبر. ومن فاتته صلاة في أيام التكبير فقضاها فيها كبر، وإن قضاها بعدها لم يكبر؛ لأن التكبير مقيد بالوقت. فصل: ويكبر مستقبل القبلة، فإن أحدث قبل التكبير لم يكبر؛ لأن الحدث يقطع الصلاة. وإن نسي التكبير استقبل القبلة وكبر، ما لم يخرج من المسجد. ويستحب الاجتهاد في العمل الصالح في أيام العشر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما العمل الصالح في أيام أفضل منه من العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» أخرجه البخاري. [ باب صلاة الكسوف ] وهي سنة مؤكدة عند كسوف الشمس أو القمر، لما روى أبو مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آتيان من آيات الله تعالى يخوف الله بهما عباده وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» وعن عائشة قالت: «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبعث منادياً فنادى: الصلاة جامعة، وخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» ، متفق عليهما. وتجوز جماعة وفرادى لإطلاق الأمر بهما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 حديث أبي مسعود، والجماعة أفضل لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها في جماعة، وينادي لها: الصلاة جامعة للحديث. وتفعل في لمسجد للخبر، ولأن وقتها ضيقاً فلو خرجوا إلى المصلى خيف فواتها. فصل: وصفتها أن يكبر للإحرام ويستفتح، ثم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو نحوها، ثم يركع ويسبح نحواً من مائة آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وآل عمران أو نحوها، ثم يركع فيسبح نحواً من سبعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد، ثم يسجد سجدتين يسبح فيهما نحواً من الركوع، ثم يقوم إلى الثانية، فيقرأ الفاتحة وسورة النساء، ثم يركع ويسبح نحواً من خمسين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وسورة المائدة، ثم يركع فيسبح نحواً من أربعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد ثم يسجد نحواً من ركوعه، ويتشهد ويسلم؛ وليس هذا التقدير في القراءة والتسبيح منقولاً عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا هو متعين. وما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، لكن يستحب ذلك ليقارب فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روت عائشة قالت: قال: «خسفت الشمس في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج إلى المسجد فقام وكبر، وصف الناس وراءه فقرأ رسول الله قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، فانجلت الشمس.» متفق عليه. وفي رواية أخرى: «فرأيت أنه قرأ في الأولى بسورة البقرة، وفي الثانية سورة آل عمران» ، ويجهر بالقراءة ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن عائشة روت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاة الخسوف» [رواه أبو داود] . ولأنها صلاة شرع لها الجمع الكثير فسن لها الجهر كالعيد، وإن صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات على نحو ما ذكرنا جاز؛ لأن [عائشة روت] ، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ست ركعات وأربع سجدات» . رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وإن جعل في كل ركعة أربع ركوعات جاز أيضاً؛ لأنه يروى عن علي وابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمختار الأول؛ لأنه أصح وأشهر. فصل: ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي، فإن فاتت لم تقض لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلوا حتى يكشف الله ما بكم» وإن تجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها، وإن سلم قبل انجلائها لم يصل أخرى واشتغل بالذكر والدعاء، وإن استترت بغيم صلى؛ لأن الأصل بقاء الكسوف، وإن غابت كاسفة فهو كانجلائها؛ لأنه ذهب وقت الانتفاع بنورها. وإن طلعت الشمس والقمر خاسف فكذلك لما ذكرنا، وإن غاب ليلاً وهو كاسف لم يصل كالشمس إذا غابت. وقال القاضي: يصلي لأن وقت سلطانه باق. فصل: قال القاضي: لم يذكر لها أحمد خطبة، ولا رأيته لأحد من أصحابنا، وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالصلاة دون الخطبة. فصل: إذا اجتمع الكسوف والجنازة بدئ بالجنازة؛ لأنه يخاف عليها وإن اجتمع مع المكتوبة في آخر وقتها بدئ بها؛ لأنها آكد. وإن كان في أول وقتها بدئ بصلاة الكسوف؛ لأنه يخشى فواتها. وإن اجتمع هو والوتر وخيف فواتهما بدئ بالكسوف لأنه آكد. فصل: ولا يصلى لغير الكسوف من الآيات؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من خلفائه. إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يصلي للزلزلة الدائمة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع لصلاة. [ باب صلاة الاستسقاء ] وهي سنة عند الحاجة إليها. لما روى عبد الله بن زيد قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» . متفق عليه. وصفتها في موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد. وهل يكبر فيهما تكبير العيدين؟ على روايتين: إحداهما: لا يكبر لأن عبد الله بن زيد لم يذكره. والثاني: يكبر؛ لأن ابن عباس روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين كما يصلي في العيدين» ، حديث صحيح. وعن جعفر بن محمد عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعاً، وخمساً» . رواه الشافعي في " مسنده ". ولا وقت لها معين، إلا أن الأولى فعلها في وقت صلاة العيد، لشبهها بها. وذكر ابن عبد البر أن الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء. فصل: وفي إذن الإمام روايتان، بناء على صلاة العيد: إحداهما: هو شرط لها. قال أبو بكر: فإن خرجوا بغير إذن الإمام صلوا ودعوا بغير خطبة. والثانية: يصلون ويخطب بهم أحدهم، والأولى للإمام إذا أراد الاستسقاء أن يعظ الناس، ويأمرهم بتقوى الله، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي وتحليل بعضهم بعضاً، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . ويعد الناس يوماً يخرجون فيه، ويأمرهم أن يخرجوا على الصفة التي خرج عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عباس: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذلاً، متواضعاً متخشعاً، متضرعاً حتى أتى المصلى، فلم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد» . هذا حديث صحيح. ويسن التنظيف وإزالة الرائحة لئلا يؤذي الناس بها، ولا يلبس زينة ولا يتطيب؛ لأن هذا يوم استكانة وخضوع. فصل: ويخرج الشيوخ والصبيان، ومن له ذكر جميل ودين وصلاح؛ لأنه أسرع للإجابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ويستحب أن يستسقي الإمام بمن ظهر صلاحه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استسقى بالعباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستسقى معاوية والضحاك بيزيد بن الأسود الجرشي، وروي أن معاوية أمر يزيد بن الأسود فصعد المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فما كان بأوشك من أن ثارت سحابة في الغرب، كأنها ترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. ولا يستحب إخراج البهائم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، ولا إخراج الكفار؛ لأنهم أعداء الله فلا يتوسل بهم. فإن خرجوا لم يمنعوا لأنهم يطلبون رزقهم، ويفردون عن المسلمين بحيث إن أصابهم عذاب لم يصب غيرهم. فصل: واختلفت الرواية في الخطبة فروي: أنه لا يخطب وإنما يدعو، لقول ابن عباس: «لم يخطب خطبتكم هذه» ، وروي أنه يخطب قبل الصلاة، لقول عبد الله بن زيد: «فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه ثم صلى» . وعنه: أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها؛ لأن الجميع مروي. وعنه: يخطب بعد الصلاة؛ لأن أبا هريرة قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خطبنا» . وهذا صريح. ولأنها مشبهة بصلاة العيد، وخطبتها بعد الصلاة. فإذا صعد المنبر جلس، ثم قام فخطب خطبة واحدة، يفتتحها بالتكبير لأنه لم ينقل أحد من الرواة خطبتين، ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار مثل: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] ، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] . ويكثر الدعاء والتضرع ويدعو بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روى ابن قتيبة بإسناده عن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فتقدم فصلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، وحياً ربيعاً، وجداً طبقاً، غدقاً مغدقاً، مونقاً، هنيئاً مريئاً مريعاً، مربعاً، مرتعاً، سابلاً، مسبلاً مجللاً، دائماً، دروراً، نافعاً، غير ضار عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 السماء ماء طهوراً، فأحي به بلدة ميتاً، واسقه مما خلقت لنا أنعاماً وأناسي كثيراً» . فالحيا الذي يحيى به الأرض. والجدا: المطر العام. والطبق: الذي يطبق الأرض. والغدق: الكثير. والمونق: المعجب. والمريع: ذو المراعة والخصب. والمربع: المقيم، من قولك: ربعت بالمكان إذا أقمت فيه. والمرتع: من قولك: رتعت الإبل إذا رعت. والسابل: المطر. والمسبل: الماطر. والسكن: القوة لأن الأرض تسكن به. وعن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى قال: «اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، غدقاً، مجللاً، طبقاً، عاماً، سحاً، دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من العذاب ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً» . ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة، ويحول رداءه، يجعل اليمين يساراً واليسار يميناً كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً أن يحول الله تعالى الجدب خصباً، ولا يجعل أعلاه أسفله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعله، ويدعو الله في استقباله فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا. لأن عبد الله بن زيد روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة ودعا، وحول رداءه وجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» . ويرفع يديه؛ لأن أنساً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه» . متفق عليه. فإن سقوا قبل الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 صلوا وشكروا الله تعالى، وسألوه المزيد من فضله، وإن صلوا ولم يسقوا عادوا في اليوم الثاني والثالث لأن الله يحب الملحين في الدعاء. فصل: والاستسقاء على ثلاثة أضرب: أحدها: مثل ما وصفنا. والثاني: أن يستسقي الإمام يوم الجمعة على المنبر كما روى أنس: «أن رجلاً دخل يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فاستقبل رسول الله قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله يديه فقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، وذكر الحديث، متفق عليه. الثالث: أن يدعو عقيب الصلوات، ويستحب أن يقف في أول المطر، ويخرج ثيابه ليصيبها لما روى أنس في حديثه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر من لحيته» . [رواه البخاري] . فصل: فإن كثر المطر بحيث يضرهم، أو كثرت مياه العيون حتى خيف منها، استحب أن يدعو الله تعالى حتى يخففه؛ لأن في حديث أنس قال: «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم على ظهور الجبال والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب» . متفق عليه. وفي حديث آخر: «اللهم حوالينا ولا علينا ويقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 [ كتاب الجنائز ] يستحب الإكثار من ذكر الموت، والاستعداد له، فإذا مرض استحب عيادته، لما روى البراء قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنازة، وعيادة المريض» . متفق عليه. فإذا دخل عليه سأله عن حاله، ورقاه ببعض رقى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحثه على التوبة، ويرغبه في الوصية، ويذكر له ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 متفق عليه. فصل: ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله به، وأعلمهم بسياسته، وأتقاهم لربه. وإذا رآه منزولاً به تعاهد بل حلقه فيقطر فيه ماء أو شراباً، ويندي شفتيه بقطنة، ويلقنه قول: لا إله إلا الله مرة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» رواه مسلم. ويكون ذلك في لطف ومداراة، ولا يكرر عليه فيضجره، إلا أن يتكلم بشيء فيعيد تلقينه، لتكون آخر كلامه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» رواه أبو داود. ويقرأ عنده سورة " يس " ليخفف عنه، لما روى معقل بن يسار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقرؤوا يس على موتاكم» رواه أبو داود. ويوجهه إلى القبلة، كتوجيهه إلى الصلاة؛ لأن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وجهوني، ولأن خير المجالس ما استقبل القبلة. فصل: فإذا مات أغمض عينيه، لما روى شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح» من " المسند ". ولأنه إذا لم تغمض عيناه بقيتا مفتوحتين فيقبح منظره، ويشد لحيته بعصابة عريضة، يجمع لحييه ثم يشدها على رأسه، لئلا ينفتح فوه فيقبح منظره ويدخل فيه ماء الغسل. ويقول الذي يغمضه: بسم الله وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويلين مفاصله؛ لأنه أسهل في الغسل، ولئلا تبقى جافة فلا يمكن تكفينه، ويخلع ثيابه لئلا يحمي جسمه فيسرع إليه التغير والفساد، ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه نداوة الأرض فتغيره، ويترك على بطنه حديدة لئلا ينتفخ بطنه، وإن لم يكن فطين مبلول. ويسجى بثوب؛ «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجي ببرد حبرة» ، متفق عليه. ويسارع في تجهيزه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 أهله» رواه أبو داود. وإن شك في موته انتظر به حتى يتيقن موته، بانخساف صدغيه، وميل أنفه وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه، ولا بأس بالانتظار بها قدر ما يجتمع لها جماعة، ما لم يخف عليه، أو يشق على الناس. ويسارع في قضاء دينه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» وهذا حديث حسن. فإن تعذر تعجيله استحب أن يتكفل به عنه، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بجنازة فسأل: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران فلم يصل عليه. فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله فصلى عليه» . رواه النسائي. وتستحب المسارعة في تفريق وصيته ليتعجل ثوابها بجريانها على الموصى له. [ باب غسل الميت ] وهو فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الذي وقصته ناقة: «اغسلوه بماء وسدر» متفق عليه. وأولى الناس بغسله من أوصي إليه بذلك لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك. وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل، ولأنه حق للميت فقدم وصيه فيه على غيره كتفريق ثلثه. فإن لم يكن له وصي فأولاهم بغسل الرجل أبوه، ثم جده، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته، ثم الرجال من ذوي الأرحام، ثم الأجانب لأنهم أولى الناس بالصلاة عليه. وأولاهم بغسل المرأة أمها، ثم جدتها، ثم ابنتها ثم الأقرب فالأقرب، ثم الأجنبيات. ويجوز للمرأة غسل زوجها بلا خلاف، لحديث أبي بكر. ولقول عائشة: لو استقبلنا ما أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا نساؤه. رواه أبو داود. وفي غسل الرجل امرأته روايتان: أشهرهما: يباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك» رواه ابن ماجه. وغسل علي فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلم ينكره منكر، فكان إجماعاً، ولأنها أحد الزوجين فأبيح للآخر غسله كالزوج. والأخرى: لا يباح؛ لأنهما فرقة أباحت أختها وأربعاً سواها، فحرمت اللمس، والنظر كالطلاق. وأم الولد كالزوجة في هذا؛ لأنها محل استمتاعه، فإن طلق الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 زوجته فماتت في العدة، وكان الطلاق بائناً، فهي كالأجنبية محرمة عليه، وإن كانت رجعية، وقلنا: إن الرجعية مباحة له فله غسلها وإلا فلا. فصل: ولا يصح غسل الكافر لمسلم؛ لأن الغسل عبادة محضة فلا تصح من كافر كالصلاة، ولا يجوز للمسلم أن يغسل كافراً وإن كان قريبه، ولا يتولى دفنه، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه. قال أبو حفص العكبري: يجوز ذلك، وحكاه قولاً لأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: اذهب فواره» رواه أبو داود والنسائي. ولنا أنه لا يصلي عليه فلم يكن له غسله كالأجنبي، والخبر يدل على مواراته وله ذلك: لأنه يتغير بتركه ويتضرر ببقائه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مسلم مات والده النصراني -: فليركب دابته وليسر أمام الجنازة، وإذا أراد أن يدفن رجع، مثل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ولا يجوز لرجل غسل امرأة غير من ذكرنا، ولا لامرأة غسل رجل سوى زوجها وسيدها؛ لأن أحدهما محرم على صاحبه في الحياة، فلم يجز له غسله كحال الحياة. فإن مات رجل بين نساء، أو امرأة بين رجال، أو خنثى مشكل فإنه ييمم، في أصح الروايتين، لما روى واثلة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجل» أخرجه تمام في " فوائده ". وعنه: في الرجل تموت أخته فلم يجد نساء، يغسلها، وعليها ثياب ويصب عليها الماء صباً، والأول أولى؛ لأن الغسل من غير مس لا يحصل به التنظيف ولا إزالة النجاسة، بل ربما كثرت، فكان التيمم أولى كما لو وجد ماء لا يطهر النجاسة. ويجوز للمرأة غسل صبي لم يبلغ سبع سنين نص عليه؛ لأن عورته ليست عورة، وتوقف عن غسل الرجل الجارية، قال الخلال: القياس التسوية بين الغلام والجارية، لولا أن التابعين فرقوا بينهما، وسوى أبو الخطاب بينهما في الجواز، جرياً على موجب القياس. فصل: وينبغي أن يكون الغاسل أميناً، لما روي عن ابن عمر أنه قال: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون. ولأن غير الأمين لا يؤمن أن لا يستوفي الغسل، ويذيع ما يرى من قبيح، وعليه ستر ما يرى من قبيح؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من غسل ميتاً ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» رواه ابن ماجه بمعناه. وإن رأى أمارات الخير استحب إظهارها، ليترحم عليه، ويرغب في مثل طريقته. وإن كان مغموصاً عليه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 السنة والدين، مشهوراً بذلك، فلا بأس بإظهار الشر عنه، لتحذر طريقته، ويستحب ستر الميت عن العيون، ولا يحضره إلا من يعين في أمره؛ لأنه ربما كان فيه عيب يستره في حياته، وربما بدت عورته فشاهدها. فصل: ويجرد الميت عند تغسيله، ويستر ما بين سرته وركبتيه، وروى ذلك الأثرم عنه، واختاره الخرقي وأبو الخطاب؛ لأن ذلك أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره، وأشبه بغسل الحي، وأصون له عن أن يتنجس بالثوب إذا خلع عنه، ولأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يفعلون ذلك. بدليل أنهم قالوا: لا ندري أنجرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما نجرد موتانا؟ رواه أبو داود. والظاهر أن النبي أمرهم به وأقرهم عليه. وروى المروذي، وعنه: أن الأفضل غسله في قميص رقيق ينزل الماء فيه، ويدخل الغاسل يده في كم القميص فيمرها على بدنه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل في قميصه. ولأنه أستر للميت. ويستحب أن يوضع على سرير غسله، متوجهاً، منحدراً نحو رجليه، لينصب ماء الغسل منه، ولا يستنقع تحته فيفسده، ويستحب أن يتخذ الغاسل ثلاثة آنية، إناء كبير فيه ماء، بعيداً عن الميت، وإناء وسطاً، وإناء يغترف به من الوسط، ويصب على الميت، فإن فسد الماء الذي في الوسط كان الآخر سليماً؟ ويكون بقربه مجمر فيه بخور لتخفى رائحة ما يخرج منه. فصل: والفرض فيه ثلاثة أشياء: النية. لأنها طهارة تعبدية، أشبهت غسل الجنابة. وتعميم البدن بالغسل؛ لأنه غسل فوجب فيه ذلك، كغسل الجنابة وتطهيره من النجاسة. وفي التسمية وجهان بناء على غسل الجنابة. ويسن فيه ثمانية أشياء: أحدها: أن يبدأ فيحني الميت حنياً لا يبلغ به الجلوس، ويمر يده على بطنه فيعصره عصراً دقيقاً ليخرج ما في جوفه من فضلة لئلا يخرج بعد الغسل، أو بعد التكفين فيفسده، ويصب عليه الماء وقت العصر صباً كثيراً، ليذهب بما يخرج، فلا تظهر رائحته. والثاني: أن يلف على يده خرقة فينجيه بها ولا يحل له مس عورته؛ لأن رؤيتها محرمة فلمسها أولى، ويستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة، وينبغي أن يتخذ الغاسل خرقتين خشنتين، ينجيه بإحداهما ثم يلقيها، ويلف الأخرى على يده فيمسح بها سائر البدن، لما روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيده خرقة يمسح بها ما تحت القميص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الثالث: أن يبدأ بعد إنجائه فيوضئه، لما روت أم عطية أنها قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» متفق عليه. ولأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل فكذلك الميت، ولا يدخل فاه ولا أنفه ماء؛ لأنه لا يمكنه إخراجه، فربما دخل بطنه ثم خرج فأفسد وضوءه، لكن يلف على يده خرقة مبلولة، ويدخلها بين شفتيه فيمسح أسنانه وأنفه، ويتتبع ما تحت أظافره - إن لم يكن قلمها - بعود لين كالصفصاف، فيزيله ويغسله، كما يفعل الحي في وضوئه وغسله. الرابع: أن يغسله بسدر مع الماء، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغسلوه بماء وسدر» وقال للنساء اللاتي غسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور» متفق عليه. وظاهر كلام أحمد أن السدر يجعل في جميع الغسلات لظاهر الخبر، وذكره الخرقي. وقال القاضي وأبو الخطاب: يغسل الأولى بماء وسدر، ثم يغسل الثانية بماء لا سدر فيه، كيلا يسلب طهوريته، ولا يجعل فيه سدر صحيح. ولا فائدة في ترك يسير لا يؤثر فإن أعوز السدر جعل مكانه ما يقوم مقامه كالخطمي والصابون ونحوه مما ينقي. الخامس: أن يضرب السدر، ثم يبدأ فيغسل برغوته رأسه ولحيته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بعد الوضوء بالصب على رأسه في الجنابة. السادس: أن يبدأ بشقه الأيمن، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ابدأن بميامنها» فيغسل يده اليمنى، وصفحة عنقه، وشق صدره، وجنبه، وفخذه، وساقه، وقدمه، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ويغسل شق ظهره الأيمن وما يليه، ثم يقلبه على جنبه الأيمن ويغسل شقه الأيسر كذلك. السابع: أن يغسله وتراً للخبر، فيغسله ثلاثاً فإن لم ينق بثلاث زاد إلى خمس، أو إلى سبع لا يزيد عليها؛ لأنه آخر ما انتهى إليه أمر النبي، ويمر في كل مرة يده، ولا يوضئه إلا في المرة الأولى، إلا أن يخرج منه شيء فيعيد وضوءه؛ لأنه بمنزلة الحدث من المغتسل في الجنابة، ولو غسله ثلاثاً ثم خرج منه شيء غسله إلى خمس، فإن خرج بعد ذلك غسله إلى سبع، فإن خرج بعد ذلك لم يعد إلى الغسل، ويسد مخرج النجاسة بالقطن، فإن لم يستمسك فبالطين الحر، ويغسل موضع النجاسة، ويوضأ لأن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل انتهى إلى سبع. واختار أبو الخطاب أنه لا يعاد إلى الغسل لخروج الحدث؛ لأن الجنب إذا أحدث بعد غسله لم يعده، ويوضأ وضوءه للصلاة. الثامن: أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً ليشده ويبرده ويطيبه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بذلك ويستحب أن يضفر شعر المرأة ثلاثة قرون، ويسدل من ورائها، لما روت أم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 عطية قالت: «ضفرنا شعرها ثلاثة قرون، وألقيناه من خلفها، تعني: ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. فصل: وكره أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تسريح الميت؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: علام تنصون ميتكم؟ يعني: لا تسرحوا رأسه بالمشط. ولأنه يقطع شعره وينتفه. والماء البارد في الغسل أفضل من الحار؛ لأن البارد يشده، والحار يرخيه، إلا من حاجة إليه لوسخ يقلع به، أو شدة برد يتأذى به الغاسل ولا يستعمل الأشنان، إلا لحاجة إليه للاستعانة على إزالة الوسخ. فصل: ويستحب تقليم أظافر الميت، وقص شاربه؛ لأن ذلك سنة في حياته، ويترك ذلك معه في أكفانه؛ لأنه من أجزائه، وكل ما سقط من الميت جعل معه في أكفانه، ليجمع بين أجزائه، وفي أخذ عانته، وجهان: أحدهما: يستحب إزالتها بنورة أو حلق؛ لأن سعد بن أبي وقاص جز عانة ميت، ولأنه من الفطرة، فأشبه تقليم الأظفار. والثاني: لا يستحب؛ لأن فيه لمس العورة، وربما احتاج إلى نظرها، وذلك محرم فلا يفعل لأجل مندوب. فصل: والسقط إذا أتى عليه أربعة أشهر غسل وصلي عليه، لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والسقط يصلى عليه» رواه أبو داود، ولأنه ميت مسلم أشبه المستهل، ودليل أنه ميت: ما روى ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوماً، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح» متفق عليه. ومن كان فيه روح ثم خرجت فهو ميت، ويستحب تسميته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم» . فإن لم يعلم أذكر هو أم أنثى سمي اسماً يصلح لهما كسعادة وسلامة، ومن له دون أربع أشهر لا يغسل، ولا يصلى عليه لعدم ما ذكرناه فيه. فصل: والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل رواية واحدة. وفي الصلاة عليه روايتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 إحداهما: يصلى عليه، اختارها الخلال لما روى عقبة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف» . متفق عليه. والثانية: لا يصلى عليه، وهي أصح، لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم» . رواه البخاري. وحديث عقبة مخصوص بشهداء أحد، بدليل أنه صلى عليهم بعد ثمان سنين، والخيرة في تكفين الشهداء إلى الولي، إن أحب زمله في ثيابه ونزع ما عليه من جلد أو سلاح. لما روى ابن عباس «أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم» . رواه أبو داود. وإن أحب نزع ثيابه وكفنه بغيرها؛ «لأن صفية أرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثوبين ليكفن حمزة فيهما، فكفنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحدهما، وكفن في الآخر رجلاً آخر» . قال يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد، وإن حمل وبه رمق، أو أكل أو طالت حياته، غسل وصلي عليه؛ لأن سعد بن معاذ غسله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى عليه وكان شهيداً، وإن قتل وهو جنب غسل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم أحد: «ما بال حنظلة بن الراهب؟ إني رأيت الملائكة تغسله قالوا: إنه سمع الهائعة، فخرج ولم يغتسل» . رواه الطيالسي. وإن سقط من دابته، أو تردى من شاهق، أو وجد ميتاً لا أثر به، غسل وصلي عليه؛ لأنه ليس بقتيل الكفار، والذي لا أثر به يحتمل أنه مات حتف أنفه، فلا يسقط الغسل الواجب بالشك. ومن عاد عليه سلاحه فقتله فهو كقتيل الكفار؛ لأن عامر بن الأكوع عاد عليه سيفه فقتله فلم يفرد عن الشهداء بحكم. وقال القاضي: يغسل ويصلى عليه؛ لأنه ليس بقتيل الكفار، ومن قتل من أهل العدل في المعترك فحكمه حكم قتيل المشركين. وأما أهل البغي فقال الخرقي، يغسلون ويصلى عليهم؛ لأنهم ليس لهم حكم الشهداء. وأما المقتول ظلماً كقتيل اللصوص، والمقتول دون ماله ففيه روايتان: إحداهما: يغسل ويصلى عليه؛ لأن ابن الزبير غسل وصلي عليه؛ لأنه ليس بشهيد المعترك أشبه المبطون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 والثانية: لا يغسل؛ لأنه قتيل شهيد أشبه شهيد المعترك. فصل: ومن تعذر غسله لعدم الماء أو خيف تقطعه به، كالمجزوم والمحترق، يمم لأنها طهارة على البدن، فيدخلها التيمم عند العجز عن استعمال الماء كالجنابة، وإن تعذر غسل بعضه يمم، لما لم يصبه الماء، وإن أمكن صب الماء عليه، وخيف من عركه، صب عليه الماء صباً ولا يعرك. ومن مات في بئر ذات نفس أخرج، فإن لم يمكن إلا بمثله، وكانت البئر يحتاج إليها أخرج أيضاً؛ لأن رعاية حقوق الأحياء أولى من حفظه عن المثلة، وإن لم يحتج إليها طمت عليه فكانت قبره. فصل: ويستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتاً فليغتسل» رواه الطيالسي وأبو داود. ولا يجب ذلك لأن الميت طاهر، والخبر محمول على الاستحباب والصحيح فيه أنه موقوف على أبي هريرة، وكذلك قال أحمد: فإذا فرغ من غسله نشفه بثوبه، كيلا يبل أكفانه. [ باب الكفن ] يجب كفن الميت في ماله، مقدماً على الدين والوصية. والإرث، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي وقصته ناقته: «كفنوه في ثوبيه» متفق عليه. ولأن كسوة المفلس الحي تقدم على دينه، فكذلك كفنه فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه كسوته في حياته، فإن لم يكن ففي بيت المال، وليس على الرجل كفن زوجته؛ لأنها صارت أجنبية لا يحل الاستمتاع منها، فلم يجب عليه كسوتها. فصل: وأقل ما يجزئ في الكفن ثوب يستر جميعه. وقال القاضي: لا يجزئ أقل من ثلاثة؛ لأنه لو أجزأ واحد لم يجز أكثر منه؛ لأنه يكون إسرافاً ولا يصح؛ لأن العورة المغلظة يسترها ثوب واحد، فالميت أولى، وما ذكره لا يلزم، فإنه يجوز التكفين بالحسن وإن أجزأ دونه. ويستحب تحسين الكفن لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه» رواه مسلم. ويكون جديداً أو غسيلاً إلا أن يوصي الميت بتكفينه في خلق فتمتثل وصيته؛ لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قال: كفنوني في ثوبي هذين، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت، والأفضل تكفينه في ثلاث لفائف بيض، لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كفن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة» . متفق عليه. ولأن حالة الإحرام أكمل أحوال الحي، وهو لا يلبس المخيط فيها، فكذلك حال موته. والمستحب أن يؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها، فيبسط على بساط ليكون الظاهر للناس أحسنها؛ لأن هذه عادة الحي، ثم تبسط الثانية فوقها، ثم الثالثة فوقهما، ويذر الحنوط والكافور فيما بينهن، ثم يحمل الميت فيوضع عليهن مستلقياً، ليكون أمكن لإدراجه فيها، ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه، ويجعل بقية الحنوط والكافور في قطن، ويجعل من بين أليتيه برفق، ويكثر ذلك ليرد شيئاً إن خرج حين تحريكه، ويشد فوقه خرقة مشقوقة الطرف، كالتبان تأخذ أليتيه ومثانته، ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده، ويجعل الطيب والذريرة في مغابنه ومواضع سجوده، تشريفاً لهذه الأعضاء التي خصت بالسجود، ويطيب رأسه ولحيته؛ لأن الحي يتطيب هكذا. وإن طيب جميع بدنه كان حسناً، ولا يترك على أعلى اللفافة العليا ولا النعش شيء من الحنوط؛ لأن الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تجعلوا على أكفاني حنوطاً. ثم يثني طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوق الطرف الآخر ليمسكه إذا أقامه على شقه الأيمن، ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك، ثم يجمع ذلك جمع طرف العمامة فيرده على وجهه ورجليه، إلا أن يخاف انتشارها فيعقدها، وإذا وضع في القبر حلها. ولا يخرق الكفن؛ لأن تخريقه يفسده. ولا يجب الطيب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر به، ولأنه لا يجب على الحي، فكذلك على الميت. ولا يزاد الكفن على ثلاثة أثواب لأنه إسراف لم يرد الشرع به. فصل: وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألبس عبد الله بن أبي قميصه كفنه فيه» متفق على معناه. ويجعل المئزر مما يلي جلده، ولا يزر عليه القميص، فإن تشاح الورثة في الكفن، جعل ثلاث لفائف على حسب ما كان يلبس في حياته، وإن قال أحدهم: يكفن من ماله، وقال الآخر: من مال السبيل، كفن من ماله لئلا يتعير بذلك. ويستحب تجمير الكفن ثلاثاً؛ لأن جابراً روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثاً» . فصل: وتكفن المرأة في خمسة أثواب، مئزر تؤزر به، وقميص تلبسه بعده، ثم تخمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 بمقنعة، ثم تلف بلفافتين، لما روى أبو داود عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: «كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقي، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر» . ولأن المرأة تزيد في حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته، فكذلك في موتها، وتلبس المخيط في إحرامها فتلبسه في مماتها. فصل: فإن لم يجد إلا ثوباً لا يستر جميعه، غطي رأسه، وترك على رجليه حشيش، لما روى خباب «أن مصعب بن عمير، قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة، إذا غطي رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطي رجلاه بدا رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر» متفق عليه. فإن كان أضيق من ذلك ستر به عورته، وغطي سائره بحشيش أو ورق، فإن كثر الموتى وقلت الأكفان كفن الاثنان والثلاثة في الكفن الواحد، لما روى أنس قال: «كثرت القتلى وقلت الأكفان يوم أحد، فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنوا في قبر واحد» . وهو حديث حسن. فصل: فإن خرج منه شيء يسير وهو في أكفانه، لم يعد إلى الغسل وحمل؛ لأن في إعادته مشقة، ولا يؤمن مثله ثانياً وثالثاً. وإن ظهر منه كثير فالظاهر عنه أنه يحمل أيضاً لمشقة إعادته. وعنه: أنه يعاد غسله، ويطهر كفنه؛ لأنه يؤمن مثله في الثاني للتحفظ بالتلجم والشد. فصل: وإذا مات المحرم، لم يقرب طيباً، ولا يخمر رأسه؛ لأن حكم إحرامه باق فيجنب ما يتجنبه المحرمون، لما روى ابن عباس قال: «بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فمات فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» متفق عليه. وعنه: لا يغطى وجهه ولا رجلاه، والظاهر عنه، جواز تغطيتهما؛ لأنه لم يذكرهما في حديث ابن عباس، ولأن الحي لا يمنع من تغطيتهما، فالميت أولى، ولا يلبس قميصاً إن كان رجلاً؛ لأنه ممنوع من لبس المخيط، وإن كان امرأة جاز ذلك؛ لأنها لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 تمنع من لبس المخيط، وجاز تخمير رأسها لأنها لا تمنع ذلك في حياتها. وإن ماتت معتدة بطل حكم عدتها، وفعل بها ما يفعل بغيرها؛ لأن اجتناب الطيب في الحياة إنما كان لئلا يدعو إلى نكاحها، وقد أمن ذلك بموتها. [ باب الصلاة على الميت ] وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا على من قال لا إله إلا الله» ويكفي واحد لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة، فلم يشترط لها العدد كالظهر، ويجوز في المسجد لأن عائشة قالت: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد» . رواه مسلم. وصلي على أبي بكر وعمر في المسجد. وتجوز في المقبرة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر في المقبرة، ويجوز فعلها فرادى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه فرادى، والسنة فعلها في جماعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليها بأصحابه، ويستحب أن يصف ثلاثة صفوف لما روى مالك بن هبيرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب» وهذا حديث حسن. وإن اجتمع نساء فصلين عليه جماعة، أو فرادى فلا بأس؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - صلت على سعد بن أبي وقاص. فصل: وأولى الناس بالصلاة عليه من أوصى إليه بذلك، لإجماع الصحابة على الوصية بها فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وابن مسعود أوصى بذلك الزبير، وأبو بكرة أوصى به أبا برزة، وأم سلمة أوصت به سعيد بن زيد، وعائشة أوصت إلى أبي هريرة، وأوصى أبو سريحة إلى زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم، فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدم زيداً. ولأنها حق للميت، فقدم وصيه بها كتفريق ثلثه. ثم الأمير، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه» وقال أبو حازم: شهدت حسيناً - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين مات الحسن وهو يدفع في قفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 سعيد بن العاص ويقول: تقدم، لولا السنة ما قدمتك. وسعيد أمير المدينة؛ لأنها إمامة في صلاة فأشبه سائر الصلوات. ثم الأب وإن علا ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة، ثم الرجال من ذوي أرحامه، ثم الأجانب. وفي تقديم الزوج على العصبة روايتان: أشهرهما: تقديم العصبة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لقرابة امرأته: أنتم أحق بها، ولأن النكاح يزول بالموت والقرابة باقية. والثانية: الزوج أحق بها؛ لأن أبا بكرة صلى على امرأته دون إخوتها، ولأنه أحق منهم بغسلها فإن استووا فأولاهم أولاهم بالإمامة في المكتوبات، للخبر فيه، والحر أولى من العبد القريب، لعدم ولايته، فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم. فصل: ومن شرطها الطهارة والاستقبال والنية؛ لأنها من الصلوات فأشبهت سائرهن، والسنة أن يقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة، لما روي «أن أنساً صلى على رجل، فقام عند رأسه، ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المرأة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم» . وهذا حديث حسن. ويجوز أن يصلي على جماعة دفعة واحدة، ويقدم إلى الإمام أفضلهم، ويسوى بين رؤوسهم، فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء. قدم الرجال وإن كانوا عبيداً، ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء، لما روى عمار مولى الحارث بن نوفل قال: «شهدت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم، ووضعت المرأة وراءه فصلي عليهما، وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة، فسألتهم، فقالوا: السنة.» رواه أبو داود. ولأنهم هكذا يصفون في صلاتهم، وقال الخرقي: يقدم النساء على الصبيان لحاجتهن إلى الشفاعة، ويسوى بين رؤوسهم؛ لأن ابن عمر كان يسوي بين رؤوسهم، وعن أحمد ما يدل أنه يجعل صدر الرجل حذاء وسط المرأة، واختاره أبو الخطاب ليقف كل واحد منهما موقفه. فصل: وأركان صلاة الجنازة ستة: أحدها: القيام: لأنها صلاة مكتوبة فوجب القيام فيها كالظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الثاني: أربع تكبيرات؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على النجاشي أربعاً» . متفق عليه. الثالث: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» «وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن، وقال: إنه من السنة، أو من تمام السنة» ، حديث صحيح، رواه البخاري. ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كالظهر. والرابع: أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثانية، لما روى أبو أمامة بن سهل عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن «السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى، ويقرأ في نفسه، ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويخلص الدعاء للجنازة ولا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سراً في نفسه» . رواه الشافعي في " مسنده ". وليس في الصلاة عليه شيء مؤقت، وإن صلى كما يصلى عليه في التشهد فحسن. الخامس: أن يدعو للميت في الثالثة لذلك، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» رواه أبو داود. ولأنه المقصود فلا يجوز الإخلال به، وما دعا به أجزأه. السادس: التسليم لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحليلها التسليم» . فصل: وسننها سبع: أولها: رفع اليدين مع كل تكبيرة؛ لأن عمر كان يرفع يديه في تكبير الجنازة والعيد، ولأنها تكبيرة لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود، فسن فيها الرفع كتكبيرة الإحرام. والثاني: الاستعاذة قبل القراءة، لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . الثالث: الإسرار بالقراءة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسر بها. الرابع: أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو ما روى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى على الجنازة قال: اللهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا» حديث صحيح. وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه. وزاد: «اللهم من أحييته منا فأحييه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده» وفي آخر: «اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضتها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر له» رواه أبو داود. وعن عوف بن مالك قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جنازة فحفظت من دعائه: الله اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت» . رواه مسلم. وإن كان طفلاً جعل مكان الاستغفار له: «اللهم اجعله لوالديه ذخراً وفرطاً وسلفاً وأجراً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم» وإن لم يعلم شراً من العبد قال: «اللهم لا نعلم إلا خيراً» الخامس: أن يقف بعد الرابعة قليلاً، وهل يسن فيها ذكر على روايتين. السادس: أن يضع يمينه على شماله، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة فوضع يمينه على شماله» . السابع: الالتفات على يمينه في التسليمة. فصل: ولا يسن الاستفتاح؛ لأن مبناها على التخفيف، ولا قراءة شيء بعد الفاتحة لذلك. وعنه: يسن الاستفتاح ولا يسن تسليمه ثانية؛ لأن عطاء بن السائب روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم على الجنازة تسليمة واحدة» . رواه الجوزجاني ولأنه إجماع. قال أحمد: التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن ستة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم. ولا تسن الزيادة على أربع تكبيرات؛ لأنها المشهورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وجمع عمر الناس على أربع تكبيرات، وقال: هو أطول الصلاة. فإن كبر خمساً جاز وتبعه المأموم؛ لأن «زيد بن أرقم كبر على جنازة خمساً وقال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبرها» . رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وعنه لا يتابع فيها، اختاره ابن عقيل لأنها زيادة غير مسنونة. وإن كبر ستاً أو سبعاً ففيه روايتان: إحداهما: يجوز ويتابعه المأموم فيها؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كبر سبعاً وكبر على أبو قتادة سبعاً. والثانية: لا يجوز، ولا يتبعه المأموم فيها؛ لأن المشهور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه خلافها، لكن لا يسلم قبله وينتظره حتى يسلم معه؛ لأنها زيادة قول مختلف فيه؛ لأنه لا يجز له مفارقة إمامه إذا اشتغل به، كالقنوت في الصبح، وإن زاد على سبع لم يتابعه، ولم يسلم قبله قال أحمد: وينبغي أن يسبح به. فصل: وإن كبر على جنازة فجيء بأخرى كبر الثانية عليهما، ثم إن جيء بثالثة كبر الثالثة عليهن، ثم إن جيء برابعة كبر الرابعة عليهن، ثم يتمم سبع تكبيرات ليحصل للرابعة أربع تكبيرات، فإن جيء بأخرى لم يكبر عليها لئلا يفضي إلى زيادة التكبير على سبع، أو نقصان الخامسة من أربع، وكلاهما غير جائز. وإن أراد أهل الأولى رفعها قبل سلام الإمام لم يجز؛ لأن السلام ركن لم يأت به. ويقرأ في التكبيرة الرابعة الفاتحة. وفي الخامسة يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويدعو لهم في السادسة لتكمل الأركان لجميع الجنائز. فصل: ومن سبق ببعض الصلاة فأدرك الإمام بين تكبيرتين دخل معه، كما يدخل في سائر الصلوات. وعنه: أنه ينتظر تكبير الإمام فيكبر معه؛ لأن كل تكبيرة كركعة فلا يشتغل بقضائها فإذا سلم الإمام قضى ما فاته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» . قال الخرقي: يقضيه متتابعاً. فإن سلم ولم يقضه فلا بأس؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يقضي، ولأنها تكبيرات متوالية حال القيام فلم يجب قضاء ما فات منها، كتكبيرات العيد. وقال القاضي وأبو الخطاب: يقضيه على صفته، إلا أن ترفع الجنازة فيقضيه متوالياً لعدم من يدعى له، فإن سلم ولم يقضه فحكى أبو الخطاب عنه رواية أنها لا تصح قياساً على سائر الصلوات. فصل: وإذا صلي عليه بودر إلى دفنه ولم ينتظر حضور أحد إلا الولي، فإنه ينتظر ما لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 يخش عليه التغيير فإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه جماعة وفرادى. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا بأس بذلك، قد فعله عدة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى مرة لم يستحب له إعادتها؛ لأنها نافلة، وصلاة الجنازة لا يتنفل بها، ومن فاتته الصلاة عليه حتى دفن صلى على قبره، لما روى ابن عباس «أنه مر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه» . متفق عليه. ولا يصلى على القبر بعد شهر إلا بقليل؛ لأن أكثر ما نقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بشهر» . رواه الترمذي. ولأنه لا يعلم بقاؤه أكثر من شهر فتقيد به. فصل: وتجوز الصلاة على الغائب. وعنه: لا تجوز؛ لأن حضوره شرط، بدليل ما لو كانا في بلد واحد، والأول المذهب، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه، فصف بهم في المصلى وكبر بهم أربعاً» . متفق عليه. فإن كان الميت من أحد جانبي البلد لم يصل عليه في الجانب الآخر؛ لأنه يمكن حضوره، فأشبه ما لو كانا من جانب واحد، وقال ابن حامد: يجوز قياساً على البعيد، وتتوقت الصلاة على الغائب بشهر؛ لأنه لا يعلم بقاؤه أكثر منه، أشبه من في القبر. فصل: ويصلى على كل مسلم لما تقدم، إلا شهيد المعترك، وإن لم يوجد إلا بعض الميت غسل وصلي عليه. وعنه: لا يصلى عليه كما لا يصلى على يد الحي إذا قطعت، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى على عظام بالشام، وصلى أبو عبيدة على رؤوس. ولا يصلي الإمام على الغال ولا قاتل نفسه، لما روى جابر بن سمرة قال: «أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه» . رواه مسلم. وعن زيد بن خالد قال: «توفي رجل من جهينة يوم خيبر، فذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: صلوا على صاحبكم، إن صاحبكم غل من الغنيمة» احتج به أحمد. ويصلى على سائر الناس، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على صاحبكم» . قال الخلال: الإمام ههنا أمير المؤمنين وحده، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن إمام كل قرية واليهم. وأنكر هذا الخلال وخطأ ناقله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 فصل: ولا تجوز الصلاة على كافر، لقول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ، وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] . ومن حكمنا بكفره من أهل البدع لم يصل عليه، قال أحمد: لا أشهد الجهمي ولا الرافضي، ويشهدهما من أحب. [ باب حمل الجنازة والدفن ] وهما فرض على الكفاية؛ لأن في تركها هتكاً لحرمتها، وأذى للناس بها، وأولى الناس بذلك أولاهم بغسله، وأولى الناس بإدخال المرأة قبرها محارمها الأقرب فالأقرب. وفي تقديم الزوج عليهم وجهان. بناء على ما مر في الصلاة، فإن لم يكن فالمشايخ من أهل الدين. وعنه: النساء بعد المحارم، اختاره الخرقي، والأول أولى؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة فنزل على قبر ابنته دون النساء» . رواه البخاري. «ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساء في جنازة فقال: أتدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات» أخرجه ابن ماجه. ولأن الدفن يحتاج إلى قوة وبطش، ويحضره الرجال فتولي المرأة له، تعريض لها للهتك. والتربيع في حمل الجنازة مسنون، لما روي عن ابن مسعود أنه قال: إذا اتبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع، ثم ليتطوع بعد أو ليذر، فإنه من السنة. رواه سعيد بن منصور. وصفته أنه يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت، ثم من عند رجليه، ثم يضع قائمة السرير اليمنى على كتفه اليسرى من كتفه اليمنى من عند رأسه، ثم من عند رجليه. وعنه: أن يدور فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة، يامنة المؤخرة، ثم المقدمة وإن حمل بين العمودين فحسن. روي عن سعد بن مالك وأبي هريرة وابن عمر وابن الزبير أنهم حملوا بين عمودي السرير. والسنة الإسراع في المشي بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» متفق عليه. ولا يفرط بالإسراع فيمخضها ويؤذي متبعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فصل: واتباع الجنازة سنة، وهو على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يصلي وينصرف. والثاني: أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين» متفق عليه. الثالث: أن يقف بعد الدفن يستغفر له، ويسأل الله له التثبيت. كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان إذا دفن ميتاً وقف وقال: استغفروا له واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» [رواه أبو داود] . والمشي أمامها أفضل، لما روى ابن عمر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يمشون أمام الجنازة.» رواه أبو داود. ولأنهم شفعاء لها، والشافع يتقدم المشفوع. وحيث مشى قريباً منها فحسن. وإن كان راكباً فالسنة أن يكون خلفها، لما روى المغيرة بن شعبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها» حديث صحيح. ويكره الركوب لمشيعها إلا من حاجة؛ لأنه يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ركب في جنازة ولا عيد، ولا بأس بالركوب في الانصراف لما روى جابر بن سمرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتبع جنازة ابن الدحداح ماشياً، ورجع على فرس» حديث حسن، رواه الترمذي ورواه مسلم. فصل: وإذا سبقها فجلس لم يقم عند مجيئها، وإن مرت به جنازة لم يستحب له القيام. وعنه: يستحب لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه» رواه مسلم. والأول أولى، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قعد» ، ورواه مسلم. وهذا ناسخ للأول، فأما من مع الجنازة فيكره أن يجلس حتى توضع عن الأعناق، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تبع جنازة فلا يجلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 حتى توضع» رواه البخاري ومسلم. وفي لفظ: «حتى توضع في الأرض» رواه أبو داود. ويكره اتباع النساء الجنائز لما روت أم عطية قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز» . متفق عليه. ويكره أن تتبع بنار أو صوت، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار» رواه أبو داود. فصل: ويجوز الدفن في البيت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر دفنوا في بيت. والدفن في الصحراء أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن أصحابه بالبقيع وإنما دفن في البيت كراهة أن يتخذ قبره مسجداً ولولا ذلك لأبرز قبره، كذلك قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. متفق عليه. ويدفن الشهيد في مصرعه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بشهداء أحد أن يردوا إلى مصارعهم» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: صحيح وكان بعضهم قد حمل إلى المدينة. وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه؛ لأنه أذى للأحياء والميت لغير فائدة. وإن تنازع وارثان في الدفن في مقبرة المسلمين أو البيت دفن في المقبرة لأن له في البيت حقاً فلا يجوز إسقاطه، ويستحب الدفن في المقبرة التي فيها الصالحون لينتفع بمجاورتهم. وجمع الأقارب في الدفن حسن، لتسهل زيارتهم والترحم عليهم، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال: أعلم قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي» رواه أبو داود. وإن تشاح اثنان في مقبرة مسبلة قدم السابق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به» . وإن استويا في السبق أقرع بينهما. ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت حتى يبلى الأول، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض. فصل: ويستحب تعميق القبر وتوسيعه وتحسينه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «احفروا وأوسعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وأعمقوا» رواه أبو داود، قال أحمد يعمق إلى الصدر؛ لأن الحسن وابن سيرين كانا يستحبان ذلك، ولأن في تعميقه أكثر من ذلك مشقة، وقال أبو الخطاب: يعمق قدر قامة وبسطة والسنة أن يلحد له، لقول سعد بن مالك: «ألحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما صنع برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا أحب الشق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللحد لنا والشق لغيرنا» رواه أبو داود. ومعنى الشق أنه إذا وصل إلى الأرض شق في وسطه شقاً نازلاً، فإن كانت الأرض رخوة لا يثبت فيها اللحد شق فيها للحاجة. فصل: ولا يدفن في القبر اثنان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن كل ميت في قبره، فإن دعت الحاجة إليه جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لما كثر القتلى يوم أحد، كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد، ويسأل أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه في اللحد» . حديث صحيح. ويقدم أفضلهم إلى القبلة للخبر، ويجعل بين كل اثنين حاجزاً من تراب، ليصير كل واحد منفرداً كأنه في قبر منفرد، وإن دفن رجل وصبي وامرأة في قبر واحد جعل الرجل في القبلة، والصبي خلفه، والمرأة خلفهما، وقال الخرقي: تقدم المرأة على الصبي، وقال أحمد: وإن حفروا شبه النهر رأس هذا عند رجل هذا جاز، ويجعل بينهما حاجز لا يلصق أحدهما بصاحبه، فإن مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره، فإن استووا بدأ بأقربهم إليه على ترتيب النفقات، فإن استووا قدم أسنهم وأفضلهم. فصل: ولا توقيت في عدد من يدخل القبر، إنما هو بحسب الحاجة إليه، نص عليه. ويسل الميت من قبل رأسه، وهو أن يجعل رأسه عند رجلي القبر، ثم يسل سلاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سل من قبل رأسه، وإن كان الأسهل غير ذلك فعل الأسهل ويقول الذي يدخله، بسم الله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوله إذا أدخل الميت القبر من " المسند "، ويضعه في اللحد على جانبه الأيمن، مستقبل القبلة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه» ويتوسد رأسه بلبنة أو نحوها كالحي إذا نام ويجعل خلفه تراب يسنده لئلا يستلقي على قفاه، وإن وطأ تحته بقطيفة فلا بأس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك تحته قطيفة كان يفترشها، وينصب عليه اللبن نصباً لحديث سعد، وإن جعل عليه: طن قصب جاز، لما روى عمرو بن شرحبيل أنه قال: إني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ويكره الدفن في التابوت، وأن يدخل القبر آجراً أو خشباً أو شيئاً مسته النار؛ لأن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب والآجر، ولأنه آلة بناء المترفين، وسائر ما مسته النار يكره للتفاؤل بها. فصل: ولا يخمر قبر الرجل، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه مر بقوم وقد دفنوا ميتاً وبسطوا على قبره الثوب، فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء، ويستحب ذلك للنساء للخبر ولئلا ينكشف منها شيء فيراه الحاضرون. فصل: ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، لما روى الساجي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع قبره عن الأرض قدر شبر، ولأنه يعلم أنه قبر فيتوقى، ويترحم عليه، ولا يزاد عليه من غير ترابه، لقول عقبة بن عامر: لا تجعلوا على القبر من التراب أكثر مما خرج منه. رواه أحمد. ويستحب أن يرش عليه الماء ليتلبد. وروى أبو رافع «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سل سعداً ورش على قبره الماء» . رواه ابن ماجه. وتسنيمه أفضل من تسطيحه. لما روى البخاري عن سفيان التمار: أنه رأى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسنماً، ولأن السطح يشبه أبنية أهل الدنيا. ولا بأس بتعليمه بصخرة ونحوها لما ذكرنا من حديث عثمان بن مظعون، ولأنه يعرف قبره فيكثر الترحم عليه. فصل: ويكره البناء على القبر، وتجصيصه والكتابة عليه، لقول جابر: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه» . رواه مسلم. زاد الترمذي: «وأن يكتب عليها» . وقال: حديث صحيح، ولأنه من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه، ولا يجوز أن يبنى عليه مسجد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر مثل ما صنعوا. متفق عليه. ويكره الجلوس عليه، والاتكاء إليه، والاستناد إليه، لحديث جابر. ويكره المشي عليه، لما روى عقبة بن عامر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق» . رواه ابن ماجه. فإن لم يكن طريق إلى قبر من يزوره إلا بالوطء جاز لأنه موضع حاجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 فصل: ولا يجوز الدفن في الساعات المذكورة في حديث عقبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب» . رواه مسلم. ويجوز الدفن في سائر الأوقات ليلاً ونهاراً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن ليلاً، ودفن ذا البجادين ليلاً. والدفن في النهار أولى؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه زجر عن الدفن ليلاً. رواه مسلم. ولأن النهار أمكن وأسهل على مشيعيها، وأكثر لمتبعيها. فصل: وإذا ماتت ذمية حامل من مسلم لم تدفن في مقبرة المسلمين لكفرها، ولا تدفن في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم، وتدفن مفردة، ظهرها إلى القبلة لأن وجه الجنين إلى ظهرها. وإن ماتت امرأة حامل، وولدها يتحرك، ورجيت حياته، سطت عليه القوابل فأخرجنه، ولا يشق بطنها؛ لأن فيه هتكاً لحرمة متيقنة، لإبقاء حياة موهومة بعيدة، فإن لم يخرج تركت حتى يموت، ثم تدفن، ويحتمل أن يشق بطنها إن غلب على الظن أنه يحيا لأن حفظ حرمة الحي أولى. وإن بلع الميت جوهرة لغيره شق بطنه. وأخذت؛ لأن فيه تخليصاً له من مأثمها، ورداً لها إلى مالكها، ويحتمل أن يغرم قيمتها من تركته، ولا يتعرض له صيانة عن المثلة به، فإن لم يكن له تركة تعين شقه، فإن كانت الجوهرة له ففيه وجهان: أحدهما: يشق بطنه لأنها للوارث فهي كجوهرة الأجنبي. والثاني: لا يشق؛ لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الوارث. وإن بلع مالاً يسيراً لم يشق بطنه، ويغرم القيمة من تركته. وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخذ؛ لأنه يمكن رده إلى صاحبه بغير ضرورة فوجب. وإن دفن الميت بغير غسل، أو إلى غير القبلة نبش، وغسل ووجه؛ لأن هذا مقدور على فعله فوجب، إلا أن يخاف عليه الفساد فلا ينبش؛ لأنه تعذر فسقط كما يسقط وضوء الحي لتعذره. وإن دفن قبل الصلاة عليه احتمل أن يكون حكمه كذلك؛ لأنه واجب فهو كغسله، واحتمل أن يصلى على القبر ولا تهتك حرمته لأنه عذر. فصل: سئل أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن تلقين الميت في قبره فقال: ما رأيت أحداً يفعله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 إلا أهل الشام. قال: وكان أبو مغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلون. وقال القاضي وأبو الخطاب: يستحب ذلك، ورويا فيه حديث عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحد عند رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، الثانية، فيستوي قاعداً، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تسمعونه فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكير يتأخر كل واحد منهما، فيقول: انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون عند الله حجيجه دونهما فقال الرجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال: فلينسبه إلى حواء» رواه الطبراني في " معجمه " بمعناه. [ باب التعزية والبكاء على الميت ] التعزية سنة لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى مصاباً فله مثل أجره» وهو حديث غريب. وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده لعموم الخبر. ويكره الجلوس لها؛ لأنه محدث، ويقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، ورحم ميتك، وفي تعزيته بكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وتوقف أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن تعزية أهل الذمة، وهي تخرج على عيادتهم، وفيها روايتان: إحداهما: يعودهم؛ لأنه روي «أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له، أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار» رواه البخاري. والثانية: لا يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبدؤوهم بالسلام» فإن قلنا: نعزيهم فإن تعزيتهم عن مسلم: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك، وعن كافر: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك. فصل: والبكاء غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على سعد بن عبادة، فوجده في غاشية، فبكى وبكى أصحابه وقال: ألا تسمعون أن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 لا يعذب بدمع العين، ولا يحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه أو يرحم» متفق عليه. ولا يجوز لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» وعن أبي مسعود «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة» متفق عليهما. ويكره الندب والنوح. ونقل حرب عن أحمد كلاماً يحتمل إباحتهما، واختاره الخلال وصاحبه؛ لأن واثلة وأبا وائل كانا يستمعا النوح ويبكيان وظاهر الأخبار التحريم. قال أحمد في قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] . هو النوح، فسماه معصية. وقالت أم عطية: «أخذ علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البيعة أن لا ننوح» . متفق عليه. وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى وبالصبر والصلاة، ويسترجع، ولا يقول إلا خيراً، لقول الله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 153] الآيات. وقالت أم سلمة: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خير منها. قالت: فلما توفي أبو سلمة قلتها. فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم. وقال: لما مات أبو سلمة: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» . رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فصل: ويستحب لأقرباء الميت وجيرانه إصلاح طعام لأهله؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاء نعي جعفر قال: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنهم قد أتاهم أمر شغلهم» رواه أبو داود. فأما صنيع أهل الميت الطعام للناس فمكروه؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلاً لهم إلى شغلهم. فصل: ويستحب للرجال زيارة القبور؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها إنها تذكركم الموت» رواه مسلم. وإن مر بها أو زارها قال ما روى مسلم قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» . وفي حديث آخر: «يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين» وفي حديث آخر: «اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» ، وإن زاد: «اللهم اغفر لنا ولهم» كان حسناً. فأما النساء ففي كراهية زيارة القبور لهن روايتان: إحداهما: لا يكره، لعموم ما رويناه؛ ولأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زارت قبر أخيها عبد الرحمن. والثانية: يكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله زوارات القبور» وهذا حديث صحيح، فلما زال التحريم بالنسخ، بقيت الكراهية؛ ولأن المرأة قليلة الصبر، فلا يؤمن تهيج حزنها برؤية قبور الأحبة، فيحملها على فعل ما لا يحل لها فعله، بخلاف الرجل. فصل: ويستحب لمن دخل المقابر خلع نعليه، لما روى بشير بن الخصاصية قال: «بينما أنا أماشي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ حانت منه نظرة، فإذا رجل يمشي بالقبور عليه نعلان فقال: يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك فنظر الرجل، فلما عرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلعهما فرمى بهما» ، رواه أبو داود. فإن خاف الشوك إن خلع نعليه فلا بأس بلبسهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 للحاجة، ولا يدخل في هذا الخفاف؛ لأن نزعها يشق، وفي التمشكات ونحوها وجهان: أحدهما: هي كالنعل لسهولة خلعها. والثاني: لا يستحب؛ لأن خلع النعلين تعبد فيقصر عليهما. فصل: وإن دعا إنسان لميت، أو تصدق عنه، أو قضى عنه ديناً واجباً عليه، نفعه ذلك بلا خلاف؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] . «وقال سعد بن عبادة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أينفع أمي إذا تصدقت عنها؟ قال: نعم» متفق عليه. وإن فعل عبادة بدنية كالقراءة والصلاة والصوم، وجعل ثوابها للميت نفعه أيضاً؛ لأنه إحدى العبادات فأشبهت الواجبات، ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرؤون ويهدون لموتاهم، ولم ينكره منكر، فكان إجماعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 [ كتاب الزكاة ] وهي أحد أركان الإسلام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت» متفق عليه. وتجب على الفور، فلا يجوز تأخيرها مع القدرة على أدائها؛ لأنها حق يصرف إلى آدمي توجهت المطالبة به، فلم يجز تأخيرها، كالوديعة، ومن جحد وجوبها لجهله، ومثله يجهل ذلك، كحديث العهد بالإسلام، عرف ذلك ولم يحكم بكفره؛ لأنه معذور. وإن كان ممن لا يجهل مثله ذلك كفر، وحكمه حكم المرتد؛ لأن وجوب الزكاة معلوم ضرورة، فمن أنكرها كذب الله ورسوله، وإن منعها معتقداً وجوبها أخذها الإمام منه وعزره، فإن قدر عليه دون ماله استتابه ثلاثاً، فإن تاب وأخرج، وإلا قتل، وأخذت من تركته، وإن لم يمكن أخذها إلا بالقتال قاتله الإمام؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم عليها. رواه البخاري. وتابعه الصحابة على ذلك، فكان إجماعاً. وإن كتم ماله حتى لا تؤخذ زكاته، أخذت منه وعزر، وفي جميع ذلك يأخذها الإمام من غير زيادة، بدليل أن العرب منعت الزكاة، فلم ينقل أنه أخذ منهم زيادة عليها. وقال أبو بكر: يأخذ معها شطر ماله، بدليل ما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: «في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون، من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن أبى فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا» رواه أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 داود. وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو عندي صالح. وهل يكفر من قاتل الإمام على الزكاة؟ فيها روايتان: إحداهما: يكفر؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] دل هذا على أنه لا يكون أخانا في الدين إلا بأدائها، ولأن الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لمانعي الزكاة: لا حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. والثانية: لا يكفر؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - امتنعوا من قتالهم ابتداء، فيدل على أنهم لم يعتقدوا كفرهم، ثم اتفقوا على القتال وبقي الكفر على الأصل. فصل: ولا تجب إلا بشروط أربعة: الإسلام، فلا تجب على كافر أصلي ولا مرتد؛ لأنها من فروع الإسلام، فلا تجب على كافر كالصيام. فصل: والشرط الثاني: الحرية فلا تجب على عبد، فإن ملَّكه سيده مالاً، وقلنا: لا يملك، فزكاته على سيده؛ لأنه مالكه، وإن قلنا: يملك، فلا زكاة في المال؛ لأن سيده لا يملكه، ومِلْك العبد ضعيف لا يحتمل المواساة، بدليل أنه لا يعتق عليه أقاربه إذا ملكهم، ولا تجب عليه نفقة قريبه، والزكاة إنما تجب بطريق المواساة، فلا تجب على مكاتب لأنه عبد، وملكه غير تام لما ذكرنا، فإن عتق وبقي في يده نصاباً استقبل به حولاً، وإن عجز استقبل سيده بماله حولاً؛ لأنه يملكه حينئذ، وما قبض من نجوم مكاتبه استقبل به حولاً لذلك، وإن ملك المعتق بعضه بجزئه الحر نصاباً لزمته زكاته؛ لأنه يملك ذلك ملكاً تاماً فأشبه الحر. فصل: والشرط الثالث: تمام الملك، فلا تجب الزكاة في الدين على المكاتب لنقصان الملك فيه، فإن له أن يعجز نفسه ويمتنع عن أدائه، ولا في السائمة الموقوفة؛ لأن الملك لا يثبت فيها في وجه، في وجه يثبت ناقصاً لا يتمكن من التصرف فيها بأنواع التصرفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وروى مهنا عن أحمد: فيمن وقف أرضاً أو غنماً في السبيل لا زكاة عليه ولا عشر، هذا في السبيل. إنما يكون ذلك إذا جعله في قرابته، وهذا يدل على إيجاب الزكاة فيه إذا كان لمعين؛ لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «في كل أربعين شاة شاة» . ولا تجب في حصة المضارب من الربح قبل القسمة؛ لأنه لا يملكها على رواية، وعلى روية يملكها ملكاً ناقصاً غير مستقر؛ لأنها وقاية لرأس المال، ولا يختص المضارب بنمائها. واختار أبو الخطاب أنها جائزة في حول الزكاة لثبوت الملك فيها، وفي المغصوب والضالّ. والدين على من لا يمكن استيفاؤه منه لإعسار أو جحد أو مطل روايتان: إحداهما: لا زكاة فيه؛ لأنه خارج عن يده وتصرفه، أشبه دين الكتابة، ولأنه غير تام أشبه الحلي. والثانية: فيه الزكاة؛ لأن الملك فيه مستقر، ويملك المطالبة به فوجبت الزكاة فيه كالدين على مليء، ولا خلاف في وجوب الزكاة في الدين الممكن استيفاؤه. ولا يلزمه الإخراج حتى يقبضه، فيؤدي لما مضى؛ لأن الزكاة مواساة وليس في المواساة إخراج زكاة مال لم يقبضه. وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا فرق بين الحالّ والمؤجل؛ لأن المؤجل مملوك له تصح الحوالة به، والبراءة منه. ولو أجر داره سنين بأجرة ملكها من حين العقد، وجرت في حول الزكاة، وحكمها حكم الدين، وحكم الصداق على الزوج حكم الدين على الموسر والمعسر؛ لأنه دين، وسواء في هذا قبل الدخول أو بعده؛ لأنها مالكة له. فأما إن أسر رب المال وحِيلَ بينه وبين ماله، أو نسي المودع لمن أودع ماله، فعليه فيه الزكاة؛ لأن تصرفه في ماله نافذ، ولهذا لو باع الأسير ماله أو وهبه صح. وإذا حصل الضال في يد ملتقط فهو في حول التعريف على ما ذكرناه، وفيما بعده يملكه الملتقط، فزكاته عليه دون ربه، ويحتمل أن لا تلزمه زكاته، ذكره ابن عقيل؛ لأن ملكه غير مستقر؛ إذ لمالكه انتزاعه منه عند مجيئه، والأول أصح؛ لأن الزكاة تجب في الصداق قبل الدخول، وفي المال الموهوب للابن مع جواز الاسترجاع. فإن أبرأت المرأة زوجها من صداقها عليه، أو أبرأ الغريم غريمه من دينه ففيه روايتان: إحداهما: على المبرئ زكاة ما مضى؛ لأنه تصرف فيه، أشبه ما لو أحال به أو قبضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 والثانية: زكاته على المدين؛ لأنه ملك ما ملك عليه قبل قبضه منه، فكأنه لم يزل ملكه عنه. ويحتمل أن لا تجب الزكاة على واحد منهما؛ لأن المبرئ لم يقبض شيئاً، ولا تجب الزكاة على رب الدين قبل قبضه، والمدين لم يملك شيئاً؛ لأن من أسقط عنه شيئاً لم يملكه بذلك، فأما ما سقط من الصداق قبل قبضه بطلاق الزوج فلا زكاة فيه؛ لأنها لم تقبضه، ولم يسقط بتصرفها فيه، بخلاف التي قبلها، وإن سقط لفسخها النكاح احتمل أن يكون كذلك؛ لأنها لم تتصرف فيه، واحتمل أن يكون كالموهوب؛ لأن سقوطه بسبب من جهتها. فصل: الشرط الرابع: الغنى، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» متفق عليه؛ ولأن الزكاة تجب مواساة للفقراء، فوجب أن يعتبر الغنى، ليتمكن من المواساة، والغنى المعتبر: ملك نصاب خال عن دين، فلا يجب على من لا يملك نصاباً، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمسة ذود صدقة ولا فيما دون خمسة أواق صدقة» متفق عليه. ومن ملك نصاباً، وعليه دين يستغرقه أو ينقصه فلا زكاة فيه، إن كان من الأموال الباطنة وهي الناضّ وعروض التجارة رواية واحدة؛ لأن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال بمحضر من الصحابة: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم. رواه أبو عبيد في الأموال ولم ينكر، فكان إجماعاً؛ ولأنه لا يستغني به، ولا تجب الصدقة إلا عن ظهر غنى، وإن كان من الأموال الظاهرة وهي المواشي والزروع والثمار ففيه ثلاث روايات: إحداهن: لا تجب فيها الزكاة لذلك. والثانية: فيها الزكاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث سعاته، فيأخذون الزكاة من رؤوس الأموال الظاهرة، من غير سؤال عن دين صاحبه، بخلاف الباطن. الثالثة: أن ما استدانه على زرعه لمؤنته حسبه، وما استدان لأهله لم يحسبه؛ لأنه ليس من مؤونة الزرع فلا يحسبه على الفقراء. فإن كان له مالان من جنسين، وعليه دين يقابل أحدهما؛ جعله في مقابلة ما يقضي منه، وإن كانا من جنس، جعله في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته تحصيلاً لحظهم. فصل: وتجب الزكاة على مال الصبي والمجنون. لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ابتغوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 في أموال اليتامى كيلا تأكلها الزكاة» . أخرجه الترمذي وفي إسناده مقال، وروي موقوفاً على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن الزكاة تجب مواساة، وهما من أهلها، ولهذا تجب عليهما نفقة القريب، ويعتق عليهما ذو الرحم، وتخرج عنهما زكاة الفطر والعشر، فأشبها البالغ العاقل. فصل: ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» . يدل بمفهومه على وجوبها فيه عند تمام الحول؛ ولأنه لو أتلف النصاب بعد الحول ضمنها، ولو لم تجب لم يلزمه ضمانها كقبل الحول، فإن تلف النصاب بعد الحول لم تسقط الزكاة، سواء فرط أو لم يفرط؛ لأنه مال وجب في الذمة، فلم يسقط بتلف النصاب كالدين، وروى عنه التميمي وابن المنذر أنه إن تلف قبل التمكن سقطت الزكاة؛ لأنها عبادة تتعلق بالمال، فتسقط بتلفه قبل إمكان الأداء كالحج؛ ولأنه حق تعلق بالعين فسقط بتلفها من غير تفريط كالوديعة والجاني، فإن تلف بعض النصاب قبل التمكن سقط من الزكاة بقدره، وإن تلف الزائد عن النصاب لم يسقط شيء؛ لأنها تتعلق بالنصاب دون العفو. ولا تسقط الزكاة بموت من وجبت عليه؛ لأنه حق واجب تصح الوصية به فلم يسقط بالموت كدين الآدمي. فصل: وفي محل الزكاة روايتان: إحداهما: أنها تجب في الذمة؛ لأنه يجوز إخراجها من غير النصاب، ولا يمنع التصرف فيه فأشبهت الدين. والثانية: يتعلق بالعين، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وفي للظرفية. فإن ملك نصاباً مضت عليه أحوال لم تؤد زكاته، وقلنا: هي في الذمة، لزمته الزكاة لما مضى من الأحوال؛ لأن النصاب لم ينقص، وإن قلنا: تتعلق بالعين لم يلزمه إلا زكاة واحدة؛ لأن الزكاة الأولى تعلقت بقدر الفرض فينقص النصاب في الحول الثاني، وهذا ظاهر المذهب، نقله الجماعة عن أحمد. فإن كان المال زائداً عن نصاب نقص منه كل حول بقدر الفرض، ووجبت الزكاة فيما بقي، فإن ملك خمساً من الإبل لزمه لكل حول شاة؛ لأن الفرض يجب من غيرها فلا يمكن تعلقه بعينها. وإن ملك خمساً وعشرين من الإبل فعليه للحول الأول ابنة مخاض، وفيما بعد ذلك لكل حول أربع شياه. فصل: وتجب الزكاة في خمسة أنواع: أحدها: المواشي. ولها ثلاثة شروط: أحدها: أن تكون من بهيمة الأنعام؛ لأن الخبر ورد فيها وغيرها لا يساويها في كثرة نمائها ونفعها ودرّها ونسلها واحتملت المواساة منها دون غيرها، ولا زكاة في الخيل والبغال والحمير والرقيق؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» متفق عليه. ولأنه لا يطلب درها، ولا تقتنى في الغالب إلا للزينة، والاستعمال، لا للنماء ولا زكاة في الوحوش لذلك، وعنه في بقر الوحش الزكاة، لدخولها في اسم البقر، والأول أولى؛ لأنها لا تدخل في إطلاق اسم البقر، ولا تجوز التضحية بها، ولا تقتنى لنماء ولا دَرّ، فأشبهت الظباء. وما تولد بين الوحشي والأهلي فقال أصحابنا: فيه الزكاة تغليباً للإيجاب، والأولى أن لا تجب؛ لأنها لا تقتنى للنماء والدر، أشبهت الوحشية، ولأنها لا تدخل في إطلاق اسم البقر والغنم. فصل: الشرط الثاني: الحول؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود؛ ولأن الزكاة إنما تجب في مال نَامٍ فيعتبر له حول يكمل النماء فيه، وتحصل الفائدة منه، فيواسي من نمائه. فإن هلك النصاب، أو واحدة منه في الحول، أو باعها، انقطع، ثم إن نتجت له أخرى مكانها، أو رجع إليه باع، استأنف الحول، سواء ردت إليه ببيع أو إقالة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 باعها بالخيار فردت به؛ لأن الملك يزول بالبيع، والرد تجديد ملك، وإن قصد بشيء من ذلك الفرار من الزكاة لم تسقط؛ لأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه فلم يسقط، كالطلاق في مرض الموت. وإن نتجت واحدة ثم هلكت واحدة لم ينقطع الحول؛ لأنه لم ينقص. وإن خرج بعضها ثم هلكت أخرى قبل خروج بقيتها انقطع الحول؛ لأنها لا يثبت لها حكم الوجود في الزكاة حتى يخرج جميعها. وإن أبدل نصاباً بجنسه لم ينقطع الحول؛ لأنه لم يزل في ملكه نصاب من الجنس جاز في حول الزكاة، فأشبه ما لو نتج النصاب نصاباً، ثم ماتت الأمهات. وإن باع عيناً بورق انبنى على ضم أحدهما إلى الآخر. فإن قلنا: يضم لم ينقطع الحول؛ لأنهما كالجنس الواحد، وإن قلنا: لا يضم انقطع الحول لأنهما جنسان. وما نتج من النصاب فحوله حول النصاب، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: اعتد عليهم بالسلخة يروح بها الراعي على يديه؛ ولأنه من نماء النصاب فلم يفرد عنه بحول، كربح التجارة. وإن ماتت الأمهات فتم الحول على السخال وهي نصاب وجبت فيها الزكاة؛ لأنها جملة جارية في الحول لم تنقص عن النصاب، أشبه ما لو بقي من الأمهات نصاب. وإن ملك دون النصاب، وكمل بالسخال احتسب الحول من حين كمال النصاب. وعنه: يستحب من حين ملك الأمهات، والأول المذهب؛ لأن النصاب هو السبب فاعتبر مضي الحول على جميعه. وأما المستفاد بإرث أو عقد فله حكم نفسه؛ لأن مال ملكه أصلاً فيعتبر له الحول شرطاً، كالمستفاد من غير الجنس. ولا يبني الوارث حوله على حول الموروث؛ لأنه ملك جديد، فإن كان عنده ثلاثون من البقر، فاستفاد عشرة في أثناء الحول، فعليه من الثلاثين إذا تم حولها تبيع، لكمال حولها. فإذا تم حول العشرة فيها ربع مسنة؛ لأنه تم نصاب المسنة، ولم يمكن إيجابها لانفراد الثلاثين بحكمها، فوجبت في العشرة بقسطها منها. وإن ملك أربعين من الغنم في المحرم، وأربعين في صفر وأربعين في ربيع فتم حول الأولى فعليه شاة؛ لأنها نصاب كامل مضى عليه حول، لم يثبت له حكم الخلطة في جميعه، فوجب فيه شاة، كما لو لم يملك غيرها، فإن تم حول الثاني ففيه وجهان: أحدهما: لا شيء فيه، ولا في الثالث؛ لأنه لو ملكه مع الأول لم يجب فيه شيء، فكذلك إذا ملكه بعده؛ لأنه يحصل وقص بين نصابين. والثاني: فيه الزكاة؛ لأنه نصاب منفرد بحول، فوجبت زكاته كالأول. وفي قدرها وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 أحدهما: شاة لذلك. والثاني: نصف شاة؛ لأنه لم ينفك عن خلطة في جميع الحول. وفي الثالث ثلث شاة؛ لأنه لم ينفك عن خلطة لثمانين، فكان عليه بالقسط وهو ثلث شاة. وإن ملك عشرين من الإبل في المحرم، وخمساً في صفر، وخمساً في ربيع، فعليه في العشرين عند دخولها أربع شياه، وفي الخمس الأولى عند حولها خمس بنات مخاض، وفي الخمس الثانية ثلاثة أوجه: أحدها: لا شيء فيها. والثاني: عليه سدس بنت مخاض. والثالث: عليه شاة. فصل: الشرط الثالث: السوم، وهو أن تكون راعية، ولا زكاة في المعلوفة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون وفي سائمة الغنم في كل أربعين شاة» فيدل على نفي الزكاة عن غير السائمة؛ ولأن المعلوفة لا تقتنى للنماء، فلم يجب فيها شيء، كثياب البذلة. ويعتبر السوم في معظم الحول؛ لأنها لا تخلو من علف في بعضه، فاعتباره في الحول كله يمنع الوجوب بالكلية، فاعتبر في معظمه. وإن كان غصبها غاصب فعلفها معظم الحول فلا زكاة فيها، لعدم السوم المشترط. وإن غصب معلوفة فأسامها ففيه وجهان: أحدهما: لا زكاة فيها لأن مالكها لم يسمها فلم يلزمه زكاتها كما لو علفها. والثاني: تجب زكاتها؛ لأن الشرط تحقق، فأشبه ما لو كمل النصاب في يد الغاصب. [ باب زكاة الإبل ] وهي مقدرة بما قدره به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فروى البخاري بإسناده، عن أنس أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب له حين وجهه إلى البحرين: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقها فلا يعطه. في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة؛ فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض؛ فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل، إلى ستين فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان، طروقتا الفحل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها. فإذا بلغت خمساً من الإبل ففيها شاة أوجب دون خمس وعشرين غنماً لأنه لا يمكن المواساة من جنس المال؛ لأن واحدة منها كثير، وإخراج جزء تشقيص يضر بالمالك والفقير، والإسقاط غير ممكن فعدل إلى إيجاب الشياه جمعاً بين الحقوق، وصارت الشياه أصلاً لو أخرج مكانها إبلاً لم يجزئه لأنه عدل عن المنصوص عنه إلى غير جنسه فلم يجزئه، كما لو أخرجها عن الشياه الواجبة في الغنم. ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني من المعز؛ لأنها الشاة التي تعلق بها حكم الشرع، في سائر موارده المطلقة، ويعتبر كونها في صفة الإبل، ففي السمان الكرام شاة سمينة كريمة، وفي اللئام والهزال لئيمة هزيلة؛ لأنها سببها فإن كانت مراضاً لم يجز إخراج مريضة؛ لأن المخرج من غير جنسها، ويخرج شاة صحيحة على قدر المال، ينقص من قيمتها على قدر نقيصة الإبل، ولا يعتبر كونها من جنس غنمه، ولا غنم البلد؛ لأنها ليست سبباً لوجوبها، فلم يعتبر كونها من جنسها، كالأضحية، ولا يجزئ فيها الذكر كالمخرجة عن الغنم، ويحتمل أن يجزئ؛ لأنها شاة مطلقة، فيدخل فيها الذكر كالأضحية، فإن عدم الغنم لزمه شراء شاة، وقال أبو بكر: يجزئه عشرة دراهم؛ لأنها بدل الشاة للجبران ولا يصح؛ لأن هذا إخراج قيمة فلم يجز، كما في الشاة المخرجة عن الغنم، وليست الدراهم في الجبران بدلاً، بدليل إجزائها مع وجود الشاة. فصل: فإذا بلغت خمساً وعشرين أمكنت المواساة من جنسها، فوجبت فيها بنت مخاض، وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية، سميت بذلك لأن أمها ماخض أي: حامل بغيرها، قد حان ولادتها، فإن عدمها أخرج ابن لبون ذكراً، وهو الذي له سنتان ودخل في الثالثة، سمي بذلك لأن أمه لبون أي ذات لبن، وصار نقص الذكورية مجبوراً بزيادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 السن. فإن عدمه أيضاً لزمه شراء بنت مخاض؛ لأنهما استويا في العدم، فأشبه ما لو استويا في الوجود، ولأن تجويز ابن لبون للرفق به، إغناء له عن كلفة الشراء، ولم يحصل الإغناء عنها ههنا، فرجع إلى الأصل. ومن لم يجد إلا بنت مخاض معيبة فهو كالعادم؛ لأنه لا يمكن إخراجها، وإن وجدها أعلى من صفة الواجب أجزأته، فإن أخرج ابن لبون لم يجزئه لأن ذلك مشروط بعدم ابنة مخاض مجزئة، وإن اشترى بنت مخاض على صفة الواجب جاز، ولا يجبر نقص الذكورية بزيادة السن في غير هذا الموضع. وقال القاضي: يجوز أن يخرج عن بنت لبون حقاً، وعن الحقة جذعاً مع عدمهما؛ لأنه أعلى وأفضل، فيثبت الحجم فيه بالتنبيه، ولا يصح لأنه لا نص فيهما، وقياسهما على ابن اللبون ممتنع؛ لأن زيادة سنة يمتنع بها من صغار السباع، ويرعى الشجر بنفسه، ويرد الماء ولا يوجد هذا في غيره. فصل: فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، وفي ست وأربعين حقة وهي التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، سميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل وتركب، ولهذا قال في الحديث: «طروقة الفحل» . وفي إحدى وستين جذعة، وهي التي ألقت سناً ولها أربع سنين ودخلت الخامسة، وهي أعلى سن يؤخذ في الزكاة، وفي ست وسبعين ابنتا لبون. وفي إحدى وتسعين حقتان إلى عشرين ومائة، وإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون. وعنه: لا يعتبر الفرض حتى تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقة وبنتا لبون، والصحيح الأول؛ لأن في حديث الصدقات الذي كتبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان عند آل عمر بن الخطاب «فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون» وهذا نص، وهو حديث حسن. ولو ملك زادت جزءاً من بعير لم يتغير الفرض به لذلك، ولأن سائر الفروض لا تتغير بزيادة جزء، ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، للحديث الصحيح. فصل: فإذا بلغت مائتين، اتفق الفرضان، أربع حقاق أو خمس بنات لبون، أيهما أخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 أجزأه، فإن كان الآخر أفضل منه، والمنصوص عنه في أربع حقاق، وهذا محمول على أن ذلك فيها بصفة التخيير؛ لأن في كتاب الصدقات الذي عند آل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإذا كان مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، أي السنين وجدت عنده أخذت منه، ولأنه اتفق الفرضان في الزكاة فكانت الخيرة لرب المال كالخيرة في الجبران، وإن كان المال ليتيم لم يخرج عنه إلا أدنى السنين، لتحريم التبرع بمال اليتيم، فإن أراد إخراج الفرض من السنين، على وجه يحتاج إلى التشقيص، كزكاة لمائتين لم يجز، وإن لم يحتج إليه كزكاة ثلاثمائة يخرج عنها حقتين وخمس بنات لبون جاز، وإن وجدت إحدى الفريضتين دون الأخرى، أو كانت الأخرى ناقصة، تعين إخراج الكاملة؛ لأن الجبران بدل، لا يصار إليه مع وجود الفرض الأصلي، وإن احتاجت كل فريضة إلى جبران أخرج ما شاء منها، فإذا كانت عنده ثلاث حقاق وأربع بنات لبون فله إخراج الحقاق وبنت لبون مع الجبران أو بنات اللبون وحقة، ويأخذ الجبران، وإن أعطى حقة وثلاث بنات لبون مع الجبران لم يجزئه؛ لأنه يعدل عن الفرض مع وجوده إلى الجبران، ويحتمل الجواز، فإن كان الفرضان معدومين، أو معيبين فله العدول إلى غيرها مع الجبران، فيعطي أربع جذعات، ويأخذ ثماني شياه، أو يخرج خمس بنات مخاض وعشر شياه، وإن اختار أن ينتقل من الحقاق إلى بنات المخاض مع الجبران، أو من بنات اللبون إلى الجذعات مع الجبران، لم يجز؛ لأن الحقاق وبنات اللبون منصوص عليهن فلا تصعد إلى الحقاق بجبران، ولا ينزل لبنات اللبون بجبران. فصل: ومن وجبت عليه فريضة فعدمها فله أن يخرج فريضة أعلى منها بسنة، ويؤخذ شاتين، أو عشرين درهماً، أو فريضة أدنى منها بسنة، ومعها شاتان أو عشرون درهما، لما روى أنس في كتاب الصدقات الذي كتبه أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطى شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وعنده حقة، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهماً، فأما من وجبت عليه جذعة، فأعطى مكانها ثنية بغير جبران جاز، وإن طلب جبراناً لم يعط؛ لأن زيادة سن الثنية غير معتبر في الزكاة، وإن عدم بنت المخاض لم يقبل منه فصيل بجبران ولا غيره؛ لأنه ليس بفرض ولا أعلى منه، والخيرة في النزول والصعود، والشياه والدراهم إلى رب المال؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 للخبر، فإن أراد أعطى شاة وعشرة دراهم، أو أخذ ذلك جاز ذكره القاضي؛ لأن الشاة مقام عشرة دراهم، وقد كانت الخيرة إليه فيهما مع غيرهما، فكانت الخيرة إليه فيهما مفردين ويحتمل المنع؛ لأن الشارع جعل له الخيرة في شيئين، وتجويز هذا يجعل له الخيرة في ثلاثة أشياء، وإن كان النصاب مريضاً لم يجز له الصعود إلى الفرض الأعلى بجبران؛ لأن الشاتين جعلتا جبراناً، لما بين صحيحين، فيكون أكثر مما بين المريضين، وإن أراد النزول ويدفع الجبران جاز؛ لأنه متطوع بالزيادة، ومن وجب عليه فرض فلم يجد إلا أعلى منه بسنتين، فقال القاضي: يجوز أن يصعد إلى الأعلى، ويأخذ أربع شياه أو أربعين درهماً، أو ينزل إلى الأنزل، ويخرج معه أربع شياه أو أربعين درهماً لأن الشارع جوز له الانتقال إلى الذي يليه، وجوز الانتقال من العدول إلى ما يليه [إذا كان هو الفرض، وهنا لو كان موجوداً فإذا عدم جاز العدول إلى ما يليه] ، وقال أبو الخطاب: لا يجوز؛ لأن النص إنما ورد بالانتقال إلى ما يليه فأما إن وجد سناً يليه لم يجز له الانتقال إلى الأبعد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أقام الأقرب مقام الفرض، ولو وجد الفرض لم ينتقل عنه، فكذلك إذا وجد الأقرب لم ينتقل عنه، وإن أراد أن يخرج مكان الأربع شياه شاتين وعشرين درهماً جاز؛ لأنهما جبران فيهما كالكفارتين، ولا مدخل للجبران في غير الإبل لأن النص فيها ورد وليس غيرها في معناها. [ باب صدقة البقر ] روى الإمام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن يحيى بن الحكم، أن معاذاً قال: «بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصدق أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعاً، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاث أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعاً، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع، وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئاً إلا أن تبلغ مسنة أو جذعاً.» فأول نصابها ثلاثون وفيها تبيع أو تبيعة، وهو الذي له سنة ودخل في الثانية. وفي الأربعين مسنة، وهي التي لها سنتان ودخلت في الثالثة. ويتفق الفرضان في مائة وعشرين، فيخرج رب المال أيهما شاء للخبر، ولما ذكرنا في الإبل. فصل: ولا يؤخذ في الصدقة إلا الأنثى، لورود النص بها. وفضلها بدرها ونسلها، إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الأتبعة في البقر حيث وجبت، وابن لبون مكان بنت مخاض، إذا عدمت، فإن كانت ماشيته كلها ذكوراً جاز إخراج الذكر في الغنم وجهاً واحداً لأن الزكاة وجبت مواساة، والمواساة إنما تكون بجنس المال. ويجوز إخراجه في البقر في أصح الوجهين لذلك. وفي الإبل وجهان: إحداهما: يجوز لذلك. والآخر: لا يجوز، لإفضائه إلى إخراج ابن لبون عن خمس وعشرين وست وثلاثين، وفيه تسوية بين النصابين. فعلى هذا يخرج أنثى ناقصة بقدر قيمة الذكر، وعلى الوجه الأول يخرج ابن لبون عن النصابين، ويكون التعديل بالقيمة. ويحتمل أن يخرج بن مخاض عن خمس وعشرين فيقوم الذكر مقام الأنثى التي في سنه، كسائر النصب [ويحتمل أن لا يخرج الذكر فعلى هذا يخرج أنثى ناقصة بقدر قيمة الذكر وعلى الوجه الأول يخرج ابن لبون عن نصابين ويكون التعديل بالقيمة] . فصل: والجواميس نوع من البقر، والبخاتي نوع من الإبل، والضأن والمعز جنس واحد. فإذا كان النصاب نوعين، أو كان فيه سمان ومهازيل، وكرام ولئام؛ أخرج الفرض من أيهما شاء على قدر المالين. فإذا كان نصفين، وقيمة الفرض من أحدهما عشرة، ومن الآخر عشرين أخذه من أيهما شاء قيمته خمسة عشر، إلا أن يرضى رب المال بإخراج الأجود. [ باب صدقة الغنم ] وأول نصابها أربعون: وفيها شاة، إلى مائة وعشرين. فإذا زادت واحدة، ففيها شاتان إلى مائتين، فإن زادت واحدة ففيها ثلاث شياه. ثم في كل مائة شاة شاة، لما روى أنس في كتاب الصدقات: «وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة؛ فإذا زادت على عشرين ومائة ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه: فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها» . وعن أحمد: أن في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه، ثم في كل مائة شاة شاة. اختارها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 أبو بكر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الثلاثمائة غاية، فيجب تغير الفرض بالزيادة عليها، والأول أصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل حكمها إذا زادت على الثلاثمائة، في كل مائة شاة. فإيجاب أربع فيما دون الأربعمائة يخالف الخبر، وإنما جعل الثلاثمائة حداً لاستقرار الفرض. فصل: ولا يجزئ من الغنم إلا الجذع من الضأن، وهو الذي له ستة أشهر، والثني في المعز، وهو الذي له سنة لما روى سعر بن ديسم قال: «أتاني رجلان على بعير فقالا: إنا رسولا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتؤدي صدقة غنمك. قلت: فأي شيء تأخذان؟ قالا: عناقاً جذعة أو ثنية» . رواه أبو داود. لأن هذا السن هو المجزئ في الأضحية دون غيره، كذلك في الزكاة، فإن كان في ماشيته كبار وصغار لم يجب فيها إلا المنصوص، ويؤخذ الفرض بقدر قيمة المالين، ولذلك قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اعتد عليهم بالسخلة، يروح بها الراعي على يديه، ولا تأخذها منهم. فإن كانت كلها صغاراً جاز إخراج الصغير؛ لقول الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لقاتلتهم عليها. ولا تؤدى العناق إلا عن صغار؛ ولأن الزكاة تجب مواساة، فيجب أن تكون من جنس المال. وقال أبو بكر: لا تجزئ إلا كبيرة، للخبر. فإن كانت ماشيته الصغار إبلاً أو بقراً ففيها وجهان: أحدهما: تجزئه الصغيرة، لما ذكرناه في الغنم، وتكون الصغيرة الواجبة في ست وأربعين زائدة على الواجبة في ست وثلاثين بقدر تفاوت ما بين الحقة وبنت اللبون، وهكذا في سائر النصب تعدل بالقيمة. والثاني: لا يجزئ إلا كبيرة؛ لأن الفرض يتغير بنهاية السن، فيؤدي إخراج الصغيرة إلى التسوية بين النصابين. فعلى هذا يخرج كبيرة ناقصة القيمة بقدر نقص الصغار عن الكبار. وعنه أيضاً: لا ينعقد عليها الحول حتى تبلغ سناً يجزئ في الزكاة، لئلا يلزم هذا المحذور. فصل: لا يجزئ في الصدقة هرمة، ولا معيبة، ولا تيس، لقول الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وروى أنس في كتاب الصدقات: «لا يخرج في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس» . وروى أبو داود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، لكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره» . الشرط: رذالة المال، والدرنة: الجرباء، فإن كان بعض النصاب مريضاً، وبعضه صحيحاً لم يأخذ إلا صحيحة على قدر المالين، وإن كان كله مريضاً أخذت مريضة منه. وقال أبو بكر: لا يؤخذ إلا صحيحة بقيمة المريضة، والقول في هذا كالقول في الصغار. فصل: ولا يؤخذ في الصدقة الربى، وهي التي تربي ولدها، ولا الماخض، وهي الحامل، ولا التي طرقها الفحل؛ لأن الغالب أنها حامل، ولا الأكولة وهي السمينة، ولا فحل الماشية المعد لضرابها، ولا حزرات المال، وهو خياره تحزره العين لحسنه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «إياك وكرائم أموالهم» متفق عليه. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لم يسألكم خيره» وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لساعيه: لا تأخذ الربى ولا الماخض ولا الأكولة ولا فحل الغنم. قال الزهري: إذا جاء المصدق قسم الشاء: أثلاثاً، ثلثاً خياراً، وثلثاً شراراً، وثلثاً وسطاً، ويأخذ المصدق من الوسط. فإن تبرع المالك بدفع شيء من هذا، أو أخرج عن الواجب أعلى منه من جنسه جاز؛ لأن المنع من أخذه، لحقه فجاز برضاه، كما لو دفع فرضين مكان فرض. فإذا دفع حقة عن بنت لبون، أو تبيعين مكان الجذعة جاز لذلك، ولأن التبيعين يجزئان عن الأربعين مع غيرها فلأن يجزئان عنها مفردة أولى. وقد روى أبو داود عن أبي بن كعب «أن رجلاً قدم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي، فزعم أن ما علي فيه بنت مخاض، فعرضت عليه ناقة فتية سمينة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذاك الذي وجب عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك فقال: ها هي ذه يا رسول الله، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبضها، ودعا له بالبركة» . فصل: ولا تجزئ القيمة في شيء من الزكاة. وعنه: يجزئ لأن المقصود غنى الفقير بقدر المال. والأول المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر هذه الأعيان المنصوص عليها بياناً لما فرضه تعالى، فإخراج غيرها ترك للمفروض. وقوله: فإن لم تكن بنت مخاض، فابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 لبون ذكر، يمنع إخراج ابن اللبون مع وجود ابنة المخاض، ويدل على أنه أراد العين دون المالية، فإن خمساً وعشرون لا تخلوا عن مالية ابنة المخاض، وإخراج القيمة يخالف ذلك، ويفضي إلى إخراج الفريضة مكان الأخرى من غير جبران، وهو خلاف النص، واتباع السنة أولى. وقد روي عن معاذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعثه إلى اليمن قال: «خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر» رواه أبو داود. [ باب حكم الخلطة ] وهي ضربان: خلطة أعيان: بأن يملكا مالاً مشاعاً يرثانه أو يشتريانه أو غير ذلك. وخلطة أوصاف: وهو أن يكون مال كل واحد منهما متميزاً فخلطاه، ولم يتميزا في أوصاف نذكرها، وكلاهما يؤثر في جعل مالهما كمال الواحد في شيئين: أحدهما: أن الواجب فيهما كالواجب في مال واحد؛ فإن بلغا معاً نصاباً ففيهما الزكاة، وإن زادا على النصاب لم يتغير الفرض حتى يبلغا فريضة ثانية. فلو كان لكل واحد منهما عشرون كان عليهما شاة، وإن كان لكل واحد منهما ستون، لم يجب أكثر من شاة، وإن كان لهما مال غير مختلط، تبع المختلط في الحكم فلو كان لكل واحد منهما ستون، فاختلط في أربعين لم يلزمهما إلا شاة في مالهما كله؛ لأن مال الواحد يضم بعضه إلى بعض في الملك، فتضم الأربعين المنفردة إلى العشرين المختلطة، فيلزم انضمامها إلى العشرين التي لخليطه، فيصير الجميع كمال واحد، ولو كان لرجل ستون، كل عشرين منها مختلطة بعشرين لآخر، فالواجب شاة واحدة، نصفها على صاحب الستين، ونصفها على الخلطاء، على كل واحد سدس شاة، لما ذكرناه، فإن كان لأحدهم شاة مفردة، لزمهم شاتان. والثاني: أن الساعي أخذ الفرض من مال أيهما شاء، سواء دعت إليه حاجة لكون الفرض واحداً أو لم تدع إليه حاجة، بأن يجد فرض كل واحد منهما في ماله؛ لأن مالهما صار كالمال الواحد في الإيجاب، فكذلك في الإخراج، ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» رواه البخاري. يعني: إذا أخذ الفرض من مال أحدهما. والأصل في الخلطة ما روى أنس في حديث الصدقات: «ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» . ولأن المالين صارا كالمال الواحد في المؤن، فكذلك في الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فصل: ويعتبر في الخلطة شروط خمس: أحدها: أن تكون في السائمة ولا تؤثر الخلطة في غيرها. وعنه: تؤثر فيها خلطة الأعيان لعموم الخبر، ولأنه مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة فيه كالسائمة، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والخليطان ما اجتمعا على الحوض والراعي والفحل» رواه الدارقطني وهذا تفسير للخلطة المعتبرة شرعاً، فيجب تقديمه، ولأن الخلطة في السائمة أثرت في الضرر لتأثيرها في النفع، وفي غيرها لا تؤثر في النفع لعدم الوقص فيها، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة» دليل على اختصاص ذلك بالسائمة التي تقل الصدقة بجمعها لأجل أوقاصها، بخلاف غيرها. الثاني: أن يكون الخليطان من أهل الزكاة، فإن كان أحدهما مكاتباً أو ذمياً فلا أثر لخلطته؛ لأنه لا زكاة في ماله، فلم يكمل النصاب به. الشرط الثالث: أن يختلطا في نصاب، فإن اختلطا فيما دونه، مثل أن يختلطا في ثلاثين شاة لم تؤثر الخلطة، سواء كان لهما مال سواه أو لم يكن؛ لأن المجتمع دون النصاب فلم تجب الزكاة فيه. الشرط الرابع: أن يختلطا في ستة أشياء لا يتميز أحدهما عن صاحبه فيها وهي: المسرح، والمشرب، والمحلب، والمراح، والراعي، والفحل لما روى الدارقطني بإسناده عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي» نص على هذه الثلاثة، فنبه على سائرها، ولأنه إذا تميز كل مال بشيء مما ذكرناه لم يصيرا كالمال الواحد في المؤن ولا يشترط حلب المالين في إناء واحد؛ لأن ذلك ليس بمرفق بل ضرر، لاحتياجهما إلى قسمته. الشرط الخامس: أن يختلطا في جميع الحول، فإن ثبت لهما حكم الانفراد في بعضه زكيا زكاة المنفردين فيه؛ لأن الخلطة، معنى يتعلق به إيجاب الزكاة فاعتبرت في جميع الحول كالنصاب، فإن كان مال كل واحد منهما منفرداً فخلطاه، زكياه في الحول الأول زكاة الانفراد، وفيما بعد زكاة الخلطة، فإن اتفق حولاهما مثل أن يملك كل واحد منهما أربعين في أول المحرم، وخلطاها في صفر، فإذا تم حولهما الأول أخرجا شاتين، فإذا تم الثاني فعليهما شاة واحدة. وإن اختلف حولاهما، فملك أحدهما أربعين في المحرم، والآخر أربعين في صفر، فخلطاها في ربيع، أخرجا شاتين للحول الأول، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 تم حول الأول والثاني فعليه نصف شاة، فإن أخرجا من غير النصاب فعلى الثاني عند تمام حوله نصف شاة، وإن أخرجها من النصاب فعلى الثاني من الشاة بقدر ماله من جميع المالين، فإذا كان ماله أربعين، ومال صاحب أربعون إلا نصف شاة، فعليه أربعون جزءاً من تسع وسبعين جزءاً ونصف من شاة، وإن ثبت لأحدهما حكم الانفراد دون صاحبه: نحو أن يملكا نصابين فخلطاهما، ثم باع أحدهما ماله أجنبياً، فعلى الأول شاة عند تمام حوله؛ لأنه ثبت له حكم الانفراد، فإذا تم حول الثاني فعليه زكاة الخلطة؛ لأنه لم يزل مخلطاً في جميع الحول. فصل: فإن كان بينهما نصابان مختلطان، فباع أحدهما غنمه بغنم صاحبه وأبقياه على الخلطة، لم ينقطع حولهما ولم تزل خلطتهما، وكذلك إن باع البعض بالبعض من غير إفراد، قل المبيع أو كثر، فأما إن أفرداها، ثم تبايعا ثم خلطاها، وطال زمان الإفراد بطل حكم الخلطة، وإن لم يطل ففيه وجهان: أحدهما: لا ينقطع حكم الخلطة لأن هذا زمن يسير فعفي عنه. والثاني: يبطل حكم الخلطة؛ لأنه قد وجد الانفراد في بعض الحول فيجب تغليبه، كالكثير وإن أفردا بعض النصاب وتبايعاه، وكان الباقي على الخلطة نصاباً، لم تنقطع الخلطة؛ لأنها باقية في نصاب، وإن بقي أقل من نصاب فحكمه حكم إفراد جميع المال. وذكر القاضي: أن حكم الخلطة، ينقطع في جميع هذه المسائل ولا يصح؛ لأن الخلطة لم تزل في جميع الحول، والبيع لا يقطع حكم الحول في الزكاة فكذلك في الخلطة، ولو كان لكل واحد أربعون، مخالطة لمال آخر، فتبايعاها مختلطة، لم يبطل حكم الخلطة، وإن اشترى بالمخالطة، مفردة، أو بالمفردة مختلطة، انقطعت الخلطة، وزكى زكاة المنفرد؛ لأن زكاة المشتري تجب ببنائه على حول المبيع، وقد ثبت لأحدهما حكم الانفراد في بعض الحول فيجب تغليبه. فصل: [إذا كان لرجل نصاب، فباع نصفه مشاعاً في الحول] ، فقال أبو بكر: ينقطع حول الجميع؛ لأنه قد انقطع في النصف المبيع، فكأنه لم يجر في حول الزكاة أصلاً، فلزم انقطاعه في الباقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وقال ابن حامد: لا ينقطع الحول فيما لم يبع؛ لأنه لم يزل مخالطاً لمال جار في حول الزكاة، وحدوث الخلطة لا يمنع ابتداء الحول، فلا يمنع استدامته، وهكذا لو كان النصاب لرجلين، فباع أحدهما نصيبه أجنبياً فعلى هذا إذا تم حول ما لم يبع ففيه حصته من الزكاة، فإن أخرجت منه نقص النصاب، فلم يلزم المشتري زكاة، وإن أخرجت من غيره، وقلنا الزكاة تتعلق بالعين، فلا شيء على المشتري أيضاً لأن تعلق الزكاة بالعين يمنع وجوب الزكاة. وقال القاضي: لا يمنع، فعلى قوله: على المشتري زكاة حصته إذا تم حوله، وإن قلنا تتعلق بالذمة لم يمنع وجوب الزكاة على المشتري؛ لأن النصاب لم ينقص، فأما إن أفرد بعض النصاب وباعه، ثم خلطه المشتري بمال البائع، فقال ابن حامد: ينقطع حولهما، لثبوت حكم الانفراد لهما. وقال القاضي: يحتمل أن لا ينقطع حكم حول البائع؛ لأن هذا زمن يسير. ولو كان لرجلين نصاب خلطة، فاشترى أحدهما نصيب صاحبه، أو ورثه، أو اتهبه في أثناء الحول فهذه عكس المسألة الأولى صورة ومثلها معنى؛ لأنه في الأولى كان خليط نفسه ثم صار خليط أجنبي، وههنا كان خليط أجنبي فصار خليط نفسه، والحكم فيها كالحكم في الأولى، لاشتراكهما في المعنى. ولو استأجر أجيراً يرعى غنمه بشاة منها، فحال الحول ولم يفردها فهما خليطان، ولو أفردها فنقص النصاب فلا زكاة فيها، لنقصانها، وإن استأجره بشاة موصوفة صح وجرت مجرى الدين في منعها من الزكاة على ما مضى من الخلاف فيه. فصل: وذكر القاضي شرطاً سادساً وهو نية الخلطة؛ لأنه معنى يتغير به الفرض فافتقر إلى النية، كالسوم، والصحيح أنه لا يشترط؛ لأن النية لا تؤثر في الخلطة فلا تؤثر في حكمها؛ لأن المقصود بها الارتفاق بخفة المؤونة، وذلك يحصل في عدم النية. فصل: إذا أخذ الساعي الفرض من مال أحدهما رجع على خليطه بقدر حصته من المال، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» فإذا كان لأحدهما الثلث فأخذ الفرض من ماله، رجع على خليطه بقيمة ثلثيه، وإن أخذه من صاحبه، رجع صاحبه عليه بقيمة ثلثه، فإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرجوع عليه، إذا عدمت البينة؛ لأنه غارم فالقول كالغاصب، وإن أخذ الساعي أكثر من الواجب بغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 تأويل، فأخذ مكان الشاة اثنتين، لم يرجع على صاحبه إلا بقدر الواجب؛ لأن الزيادة ظلم، فلا يرجع بها على غير ظالمه، وإن أخذه بتأويل فأخذ صحيحة كبيرة عن مراض صغار رجع على صاحبه؛ لأن ذلك إلى اجتهاد الإمام، فإذا أداه اجتهاده إلى أخذه وجب دفعه إليه، وكان بمنزلة الواجب، وإن أخذ القيمة رجع بالحصة منها لأنه مجتهد فيه. فصل: فإن كانت سائمة الرجل في بلدين لا يقصر بينهما الصلاة فهي كالمجتمعة وإن كان بينهما مسافة القصر فكذلك اختاره أبو الخطاب؛ لأنه مال واحد يضم إلى بعض، كغير السائمة، وكما لو تقارب البلدان، والمشهور عن أحمد: أن لكل مال حكم نفسه، لظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة» ، ولا يختلف المذهب في سائر الأموال أنه يضم مال الواحد بعضه إلى بعض، تقاربت البلدان أو تباعدت، لعدم تأثير الخلطة فيها. [ باب زكاة الزرع والثمار ] وهي واجبة: بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] . وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر» أخرجه البخاري، وبالإجماع. ولا تجب إلا بخمسة شروط: أحدها: أن يكون حباً أو ثمراً، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في حب أو ثمر حتى تبلغ خمسة أوسق» رواه مسلم. وهذا يدل على وجوب الزكاة في الحب والثمر وانتفائها عن غيرهما. الشرط الثاني: أن يكون مكيلاً، لتقديره بالأوسق، وهي مكاييل، فيدل ذلك على اعتبارها. الشرط الثالث: أن يكون مما يدخر؛ لأن جميع ما اتفق على زكاته مدخر، ولأن غير المدخر لا تكمل ماليته لعدم التمكن من الانتفاع به في المال. فتجب الزكاة في جميع الحبوب المكيلة، المقتات منها، والقطاني، والأبازير والبزور والقرطم، وحب القطن، ونحوها، وفي التمر، والزبيب، واللوز، والفستق، والعناب، لاجتماع هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الأوصاف الثلاثة، [وقال ابن حامد: لا زكاة في الأبازير والبزور ونحوها] ، ولا تجب في الخضر كالقثاء، والبطيخ، والباذنجان، لعدم هذه الأوصاف فيها، وقد روى موسى بن طلحة أن معاذاً لم يأخذ من الخضر صدقة: ولا تجب في سائر الفواكه كالجوز، والتفاح، والإجاص، والكمثرى، والتين، لعدم الكيل فيها، وعدم الادخار في بعضها، وقد روى الأثرم بإسناده أن عامل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إليه في كروم فيها من الفرسك ما هو أكثر غلة من الكرم أضعافاً مضاعفة، فكتب إليه عمر: ليس عليها عشر هي من العضاه. والفرسك: الخوخ، ولا زكاة في الزيتون؛ لأنه لا يدخر، وعنه: فيه الزكاة لقول الله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . وقيل: لم يرد بهذه الآية الزكاة؛ لأنها مكية نزلت قبل وجوب الزكاة، ولهذا لم تجب الزكاة في الرمان. ولا زكاة في تين، ولا ورق، ولا زهر؛ لأنه ليس بحب ولا ثمر ولا مكيل. وعنه في القطن والزعفران: زكاة لكثرته، وفي الورس والعصفر وجهان. بناء على الزعفران. وقال أبو الخطاب: تجب الزكاة في الصعتر، والأشنان؛ لأنه مكيل مدخر والأول أولى؛ لأنه ليس بمنصوص عليه، ولا في معنى المنصوص. فصل: الشرط الرابع: أن ينبت بإنبات الآدمي في أرضه، فأما النابت بنفسه، كبزر قطونا والبطم وحب الأشنان والثمام، فلا زكاة فيه. ذكره ابن حامد؛ لأنه إنما يملك بحيازته. والزكاة إنما تجب ببدو الصلاح، ولم يكن ملكاً له حينئذ، فلم تجب زكاته، كما لو اتهبه. وقال [القاضي] : فيه الزكاة، لاجتماع الأوصاف الأول فيه. وما يلتقطه اللقاطون من السنبل لا زكاة فيه. نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: هو بمنزلة المباحات ليس فيه صدقة. وما يأخذه الإنسان أجرة لحصاده، أو يوهب له لا زكاة عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فيه، لما ذكرنا. ومن استأجر أرضاً، أو استعارها فالزكاة عليه فيما زرع؛ لأن الزرع ونفع الأرض له دون المالك. ومن زرع في أرض موقوفة عليه، فعليه العشر؛ لأن الزرع طلق غير موقوف. فإن كان الوقف للمساكين فلا عشر فيه؛ لأنه ليس لواحد معين إنما يملك المسكين ما يعطاه منه، فلم يلزمه عشره، كما لو أخذ عشر الزرع غيره. فصل: [في نصاب الزروع] الشرط الخامس: أن يبلغ نصاباً قدر خمسة أوسق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيها دون خمسة أوسق صدقة» متفق عليه. والوسق: ستون صاعاً لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الوسق ستون صاعاً» رواه أبو داود. والصاع خمس أرطال وثلث، والمجموع ثلاثمائة صاع، وهي ألف وستمائة رطل بالعراقي، والرطل مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع، وهو بالرطل الدمشقي المقدر بستمائة درهم، ثلاثمائة رطل واحد وأربعون رطلاً وستة أسباع رطل. والأوساق مكيلة، وإنما نقل إلى الوزن ليحفظ وينقل. قال أحمد: وزنته، يعني الصاع، فوجدته خمسة أرطال وثلثاً حنطة، وهذا يدل على أن قدره ذلك من الحبوب الثقيلة. فإن كان ما وجبت فيه الزكاة موزوناً كالقطن والزعفران اعتبر بالوزن؛ لأنه موزون ذكره القاضي. وحكي عنه أنه قال: إذا بلغت قيمته قيمة خمسة أوسق من أدنى ما تخرجه الأرض ففيه الزكاة، فإن كان الحب [قيمته قيمة خمسة أوسق] مما يدخر في قشره كالأرز، فإنه علم أنه يخرج عن النصف، فنصابه عشرة أوسق مع قشره، وإن لم يعلم ذلك، أو شك في بلوغ النصاب، خير بين أن يستنظر ويخرج عشره قبل قشره وبين قشره واعتباره بنفسه. والعلس: نوع من الحنطة، يزعم أهله أنه إذا خرج من قشره لا يبقى بقاء الحنطة، ويزعمون أنه يخرج عن النصف، فنصابه عشرة أوسق مع قشره، ويعتبر أنه يبلغ النصاب من الحب مصفى، ومن الثمار يابساً. وعنه: يعتبر النصاب في الثمرة رطباً ثم يخرج منه قدر عشر رطبه ثمراً، ولا يصح؛ لأنه إيجاب لزيادة على العشر، والنص يرد ذلك. فصل: وتضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض ليكمل النصاب، كما ذكرنا في الماشية، فيضم العلس إلى الحنطة، والسلت إلى الشعير؛ لأنهما نوعا جنس واحد، ويضم زرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 العام الواحد بعضه إلى بعض، سواء اتفق وقت إطلاعه وإدراكه أو اختلف، فيقدم بعضه على بعض ويضم الصيفي إلى الربيعي. ولو حصدت الذرة ثم نبتت مرة أخرى يضم أحدهما إلى الآخر لأنه زرع عام واحد فضم بعضه إلى بعض كالمتقارب. ويضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض لذلك. فإن كان له نخل يحمل حملين في العام، ضم أحدهما إلى الآخر كالزرع. وقال القاضي في موضع: لا يضم الحمل الثاني إلى شيء. والأول أولى. فصل: ولا يضم جنس إلى غيره؛ لأنهما جنسان مختلفان، فلم يضم أحدهما إلى الآخر كالماشية. وعنه: تضم كل الحبوب بعضها إلى بعض، اختارها أبو بكر لأنها تتفق في قدر النصاب، والمخرج، والمنبت، والحصاد، أشبهت أنواع الجنس. وعنه: تضم الحنطة إلى الشعير، والقطنيات بعضها إلى بعض، اختاره الخرقي والقاضي؛ لأنها تتقارب في المنفعة فأشبهت نوعي الجنس. وهذا ينتقض بالتمر والزبيب، لا يضم أحدهما إلى الآخر مع ما ذكروه. فصل: وقدر الزكاة: العشر فيما سقي بغير كلفة، كماء السماء والعيون والأنهار، ونصف العشر فيما سقي بكلفة كالدوالي والنواضح ونحوها للحديث الذي في أول الباب، ولأن للكلفة تأثيراً في تقليل النماء، فيؤثر على الزكاة كالعلف في الماشية، فإن سقي نصف السنة بكلفة، ونصفها بما لا كلفة فيه، ففيه ثلاث أرباع العشر، وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر بالأكثر؛ لأن اعتبار السقي في عدد مراته، وقدر ما يشرب في كل مرة يشق ويتعذر، فاعتبر بالأكثر، كالسوم. وقال ابن حامد: يجب بالقسط لأن ما وجب فيه بالقسط عند التماثل، ويجب عند التفاضل كزكاة الفطر عن العبد المشترك. وإن جهل المقدار غلبنا إيجاب العشر، نص عليه لأنه الأصل. وإن اختلف الساعي ورب المال في قدر شربه، فالقول قول رب المال من غير يمين؛ لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم، فإن كان له حائطان، فسقى أحدهما بمؤنة، والآخر بغير مؤنة، ضم أحدهما إلى الآخر في كمال النصاب، وأخذ من كل واحدة فرضه، ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه، قل أو كثر؛ لأنه يتجزأ فوجب فيه بحسابه كالأثمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فصل: وإذا بدا الصلاح في الثمار واشتد الحب وجبت الزكاة؛ لأنه حينئذ يقصد للأكل والاقتيات به، فأشبه اليابس، وقيل: لا يقصد لذلك، فهو كالرطبة. فإن تلف قبل ذلك، أو أتلفه فلا شيء فيه؛ لأنه تلف قبل الوجوب، فأشبه ما لو أتلف السائمة قبل الحول، إلا أن يقصد بإتلافها الفرار من زكاتها فتجب عليه لما ذكرنا، وإن تلف بعد وجوبها، وقبل حفظها في بيدرها وجرينها بغير تفريط، فلا ضمان عليه، سواء خرصت أو لم تخرص؛ لأنها في حكم ما لم تثبت اليد عليه. ولو تلف بجائحة رجع بها المشتري على البائع. وإن أتلفها أو فرط فيها ضمن نصيب الفقراء بالخرص، أو بمثل نصيبهم. وإن أتلفها أجنبي ضمن نصيب الفقراء بالقيمة؛ لأن رب المال عليه تخفيف هذا بخلاف الأجنبي. والقول في تلفها وقدرها والتفريط فيها، قول رب المال؛ لأنه خالص حق الله تعالى، فلا يستحلف فيه كالحد، وإن تلف بعد جعلها في الجرين فحكمها حكم تلف السائمة بعد الحول. فصل: ويستحب الإمام أن يبعث من يخرص الثمار حين بدو الصلاح، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه» . رواه أبو داود. وعن عتاب بن أسيد قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرص العنب كما نخرص النخل. فيؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ زكاة النخل تمراً» . رواه أبو داود. ويجزئ خارص واحد لحديث عائشة، ولأنه يفعل ما يؤديه إليه اجتهاده، فجاز أن يكون واحداً كالحاكم. ويعتبر أن يكون مسلماً أميناً غير متهم ذا خبرة، فإن كانت الثمرة أنواعاً خرص كل نوع على حدته؛ لأن الأنواع تختلف، منها ما يكثر رطبه ويقل يابسه، ومنها خلاف ذلك، فإن كانت نوعاً واحداً خير بين خرص كل شجرة منفردة، وبين خرص الجميع دفعة واحدة، ثم يعرف المالك قدر الزكاة، ويخيره بين حفظها إلى الجذاذ، وبين التصرف فيها وضمان حق الفقراء فإن اختار حفظها فعليه زكاة ما يؤخذون منها قل أو كثر؛ لأن الفقراء شركاؤه، فليس عليه أكثر من حقهم منها، وإن اختار التصرف ضمن حصة الفقراء بالخرص، فإن ادعى غلط الساعي في الخرص، دعوى محتملة، فالقول قوله بغير يمين، وإن ادعى غلطاً كثيراً لا يحتمل مثله لم يلتفت إليه لأنه يعلم كذبه، فإن اختار التصرف فلم يتصرف، أو تلفت فهو كما لو لم يخير؛ لأن الزكاة أمانة فلا تصير مضمونة في الشرط كالوديعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 فصل: ويخرص الرطب والعنب، لحديث عتاب، ولأن الحاجة داعية إلى أكلهما رطبين، وخرصهما ممكن لظهور ثمرتهما، واجتماعها في أفنانها وعناقيدها، ولم يسمع بالخرص من غيرهما، ولا هو في معناهما؛ لأن الزيتون ونحوه حبه متفرق في شجره مستتر بورقه. فصل: وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع توسعة على رب المال، لحاجته إلى الأكل منها والإطعام، ولأنها قد يتساقط منها وينتابها الطير والمارة، وقد روى سهل بن أبي حثمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجدوا الثلث فدعوا الربع» رواه أبو داود. وعن مكحول قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث الخراص قال: خففوا عن الناس فإن في المال العرية والواطئة والأكلة» رواه أبو عبيد. فالعرية: النخلات يهب رب المال ثمرتها لإنسان، والواطئة: السابلة، والأكلة: أرباب الأموال ومن تعلق بهم. فإن لم يترك الخارص شيئاً فلهم الأكل بقدر ذلك، ولا يحتسب عليهم، وإن لم يخرص عليهم، فأخرج رب المال خارصاً فخرص، وترك قدر ذلك، جاز. ولهم أكل الفريك من الزرع ونحوه، مما جرت العادة بمثله، ولا يحتسب عليهم. فصل: وإذا احتيج إلى قطع الثمرة قبل كمالها، لخوف العطش أو غيره، أو لتحسين بقية الثمرة جاز قطعها؛ لأن العشر وجب مواساة، فلا يكلف منه ما يهلك أصل المال، ولأن حفظ الأصل أحظ للفقراء من حفظ [الثمرة، لتكرر حقهم فيها كما هو أحظ للمالك. فإن كفى التجفيف لم يجز قطعها] ، فإن لم يكف جاز قطعها كلها، وإن كانت الثمرة عنباً، لا يجيء منه زبيب، أو زبيبه رديء كالخمري، أو رطب لا يجيء منه تمر جاز كالبربنا قطعه. قال أبو بكر: وعليه قدر الزكاة في جميع ذلك يابساً، وذكر أن أحمد نص عليه. وقال القاضي: لا يلزمه ذلك لأن الفقراء شركاؤه فلم يلزمه مواساتهم بغير جنس ماله. ويتخير الساعي بين مقاسمة رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص، ويأخذ نصيبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 شجرات منفردة، وبين مقاسمة الثمرة بعد جذها بالكيل، ويقسم الثمرة في الفقراء، وبين بيعها للمالك أو لغيره قبل الجذاذ وبعده، ويقسم ثمنها في الفقراء، فإن أتلفها رب المال فعليه قيمتها؛ لأنه لا يلزمه تجفيفها، فأشبه الأجنبي. فصل: وما عدا ذلك لا يجوز إخراج الواجب من ثمرته إلا يابساً، ومن الحبوب إلا مصفى؛ لأنه وقت الكمال وحالة الادخار، فإن كان نوعاً واحداً أخرج عشره منه، جيداً كان أو رديئاً؛ لأن الفقراء بمنزلة الشركاء فيه. وإن كان أنواعاً أخرج من كل نوع حصته كذلك، ولا يجوز إخراج الرديء عن الجيد، ولا يلزم إخراج الجيد عن الرديء، لما ذكرنا، ولا مشقة في هذا؛ لأنه لا يحتاج إلى تشقيص. وقال أبو الخطاب: إن شق ذلك لكثرة الأنواع واختلافها، أخذ من الوسط، وإن أخرج رب المال الجيد عن الرديء جاز، وله ثواب الفضل لما ذكرنا في السائمة. فصل: فأما الزيتون فإن لم يكن ذا زيت أخرج عشر حبه، وإن كان ذا زيت فأخرج من حبه جاز كسائر الحبوب، وإن أخرج زيتاً كان أفضل لأنه يكفي الفقراء مؤنته، ويخرجه في حال الكمال والادخار. فصل: ويجوز لرب المال بيعه بعد وجوب زكاته؛ لأن الزكاة إذا كانت في ذمته لم يمنع التصرف في ماله كالدين، وإن تعلقت بالمال، لكنه تعلق ثبت بغير اختياره، فلم يمنع التصرف فيه كأرش الجناية، فإن باعه فزكاته عليه دون المشتري ويلزمه إخراجها كما تلزمه لو لم يبعه. فصل: ويجتمع العشر والخراج في كل أرض فتحت عنوة، الخراج في رقبتها والعشر في غلتها؛ لأن الخراج مؤنة الأرض فهو كالأجرة في الإجارة، ولأنهما حقان يحيان لمستحقين، فيجتمعان كالكفارة، والقيمة في الصيد المملوك على المحرم. وقال الخرقي: يؤدي الخراج ثم يزكي ما بقي؛ لأن الخراج دين من مؤنة الأرض، فأشبه ما استدانه لينفقه على زرعه. وقد ذكرنا فيما استدانه رواية أخرى: أنه لا يحتسب به فكذلك يخرج ههنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فصل: ويجوز لأهل الذمة شراء الأرض العشرية، ولا عشر عليهم في الخارج منها؛ لأنهم من غير أهل الزكاة، فأشبه ما لو اشتروا سائمة. ويكره بيعها لهم لئلا يفضي إلى إسقاط الزكاة. وعنه: يمنعون شراءها لذلك، اختاره الخلال وصاحبه، فعلى هذا إن اشتروها، ضوعف العشر عليهم، كما لو اتجروا إلى غير بلدانهم ضوعف عليهم ما يؤخذ من المسلمين. فصل: وفي العسل العشر، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل، من كل عشر قرب قربة من أوسطها» . رواه أبو عبيد. وعن ابن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في العسل في كل عشر قرب قربة» رواه أبو داود والترمذي. وقال الترمذي: في إسناده مقال، ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبير شيء. ومقتضى هذا أن يكون نصابه عشر قرب، والقربة مائة رطل. كذلك ذكره العلماء في تقرير القرب التي قدروا بها في القلتين. وقال أصحابنا: نصابه عشر أفراق؛ لأن الزهري قال: في عشرة أفراق فرق، ثم اختلفوا، فقال ابن حامد والقاضي في المجرد: الفرق ستون رطلاً، وحكي عن القاضي أنه قال: الفرق ستة وثلاثون رطلاً، والمشهور عند أهل العربية الفرق الذي هو ثلاثة آصع، هو ستة عشر رطلاً. [ باب زكاة الذهب ] والفضة وهي واجبة لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ، ولما نذكره من النصوص، ولأنهما معدان للنماء، فأشبها السائمة، ولا زكاة إلا في نصاب، ونصاب الورق مائتا درهم، ونصاب الذهب، عشرون مثقالاً؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب، ولا أقل من مائتي درهم صدقة» رواه أبو عبيد. والاعتبار بدراهم الإسلام، التي وزن كل عشر منها سبعة مثاقيل بغير خلاف فإن نقص النصاب كثيراً فلا زكاة فيه للحديث، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أواق صدقة» . والأوقية أربعون درهماً، وإن كان يسيراً كالحبة والحبتين فظاهر كلام الخرقي لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 زكاة فيه للخبر؛ وقال غيره من أصحابنا: فيه الزكاة؛ لأن هذا لا يضبط، فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين. ولا يضم الذهب إلى الفضة في إكمال النصاب؛ لأنهما جنسان. اختارها أبو بكر، وفرق بينها وبين الحبوب لاختلاف نصابهما واتفاق نصاب الحبوب. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه يضم؛ لأن مقاصدها متفقة، فهما كنوعي الجنس، ويضم أحدهما إلى الآخر بالأجزاء فيحسب كل واحد من نصابه، ثم يضم إلى صاحبه؛ لأن الزكاة تتعلق بأعيانها فلا تعتبر قيمتها كسائر الأموال. وعنه: تضم بالقيمة إن كان ذلك أحظ للفقراء فيقوم الأعلى منهما بالآخر، فإذا ملك مائة درهم وتسعة دنانير، قيمتها مائة درهم، وجبت زكاتها، مراعاة للفقراء، ويجب في الزائد على النصاب بحسابه؛ لأنه يتجزأ من غير ضرر فأشبه الحبوب. فصل: والواجب فيها ربع العشر. لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» رواه البخاري. والرقة: الدراهم المضروبة، فيجب في المائتين خمسة دراهم وفي العشرين مثقال، نصف مثقال ويخرج عن كل واحد من الرديء والجيد، وعن كل نوع من جنسه، إلا أن يشق ذلك لكثرة الأنواع واختلافها فيؤخذ من الوسط لما ذكرنا في الماشية، وإن أخرج الجيد عن الرديء كان أفضل، فإن أخرج رديئاً عن جيد زاد بقدر ما بينهما من الفضل؛ لأنه لا ربا بين العبد وسيده. وقال القاضي: هذا في المكسرة عن الصحيحة، أما المبهرجة فلا يجزئه، بل يلزمه إخراج جيده، ولا يرجع فيما أخرج لله تعالى، وفي إخراج أحد النقدين عن الآخر روايتان. بناء على ضم أحدهما إلى الآخر. ومن ملك مغشوشاً منهما فلا زكاة فيه حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصاباً، فإن شك في بلوغه، خير بين سبكه ليعرف، وبين أن يستظهر ويخرج، ليسقط الفرض بيقين. فصل: ولا زكاة في الجواهر واللآلئ؛ لأنها معدة للاستعمال، فأشبهت ثياب البذلة، وعوامل الماشية، وأما الفلوس فهي كعروض التجارة تجب فيها زكاة القيمة. فصل: ومن ملك مصوغاً من الذهب أو الفضة محرماً كالأواني، وما يتخذه الرجل لنفسه من الطوق ونحوه، وخاتم الذهب وحلية المصحف والدواة والمحبرة والمقلمة والسرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 واللجام وتازير المسجد، ففي الزكاة؛ لأن هذا فعل محرم فلم يخرج به عن أصله. فإن كان مباحاً كحلية النساء المعتادة من الذهب والفضة، وخاتم الرجل من الفضة، وحلية سيفه وحمائله ومنطقته، وجوشنه وخوذته وخفه ورانه من الفضة وكان معداً للتجارة، أو نفقة أو كراء بيت؛ ففيه الزكاة؛ لأنه معد للنماء، فهو كالمضروب، وإن أعد للبس والعارية، فلا زكاة فيه، لما روى جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في الحلي زكاة» ولأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح فلم تجب فيه زكاته كثياب البذلة. وحكى ابن أبي موسى عنه أن فيه الزكاة، لعموم الأخبار. فصل: ولا فرق بين كثير الحلي وقليله لعدم ورود الشرع بتحديده. وقال ابن حامد: إن بلغ حلي المرأة ألف مثقال فهو محرم وفيه الزكاة؛ لأن جابراً قال: إن ذلك لكثير. ولأنه سرف لم تجز العادة به، فأشبه ما لو اتخذت حلي الرجال. فصل: فإن انكسر الحلي كسراً لا يمنع اللبس فهو كالصحيح، إلا أن ينوي ترك لبسه، وإن كان كسراً يمنع الاستعمال، ففيه الزكاة لأنه صار كالنقرة. ولو نوى بحلي اللبس التجار والكرى انعقد عليه حول الزكاة من حين نوى؛ لأن الوجوب الأصل فانصرف إليه بمجرد النية، كما لو نوى بمال التجارة القنية. فصل: ويعتبر النصاب في المصوغ بالوزن لعموم الخبر، فإن كانت قيمته أكثر من وزنه لصناعة محرمة فلا عبرة بزيادة القيمة؛ لأنها معدومة شرعاً، وإن كانت مباحة كحلي التجارة فعليه قدر ربع عشره في زنته وقيمته؛ لأن زيادة القيمة ها هنا بغير محرم، فأشبه زيادة قيمته لنفاسة جوهره، فإن أخرج ربع عشره مشاعاً جاز، وإن دفع قدر ربع عشره وزاد في الوزن بحيث يستويان في القيمة جاز؛ لأن الربا لا يجري ها هنا، وإن أراد كسره، ودفع ربع عشره مكسوراً لم يجز؛ لأنه ينقص قيمته، وإن كان في الحلي جواهر ولآلئ وكان للتجارة قوم جميعه، وإن كان لغيرها فلا زكاة فيها؛ لأنها لا زكاة فيها منفردة فكذلك مع غيرها. [ باب زكاة المعدن ] وهو ما استخرج من الأرض مما خلق فيها من غير جنسها كالذهب والفضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 والحديد والنحاس والزبرجد والبلور والعقيق والكحل والمغرة وأشباهها، والقار والنفط والكبريت ونحوه، فتجب فيه الزكاة، لقول الله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] . وروى الجوزجاني بإسناده عن بلال بن الحارث المزني: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ من معادن القبلية الصدقة» . وقدرها ربع العشر؛ لأنها زكاة في الأثمان، فأشبهت زكاة سائر الأثمان، أو تتعلق بالقيمة أشبهت زكاة التجارة، ولا يعتبر لها حول؛ لأنه يراد لتكامل النماء، وبالوجود يصل إلى النماء فلم يعتبر له حول كالعشر. ويشترط له النصاب وهو مائتا درهم من الورق، أو عشرون مثقالاً من الذهب، أو ما قيمته ذلك من غيرهما، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ولأنها زكاة تتعلق بالأثمان أو بالقيمة فاعتبر لها النصاب كالأثمان أو العروض. ويعتبر إخراج النصاب متوالياً، فإن ترك العمل ليلاً أو نهاراً للراحة، أو لإصلاح الأداة، أو لمرض أو إباق عبد فهو كالمتصل؛ لأن ذلك العادة. وإن خرج بين النيلين تراب لا شيء فيه فاشتغل به فهو مستديم للعمل، وإن تركه ترك إهمال فلكل دفعة حكم نفسها. قال القاضي: ويعتبر النصاب في كل جنس منفرداً، والأولى ضم الأجناس إلى المعدن الواحد في تكميل النصاب؛ لأنها تتعلق بالقيمة فيضم، وإن اختلفت الأنواع، كالعروض. ولا يحتسب بما أنفق على المعدن في إخراجه وتصفيته؛ لأنه كمؤن الحصاد والزراعة. ولا تجب على من ليس من أهل الزكاة؛ لأنه زكاة. ويمنع الدين وجوبه، كما يمنع في الأثمان. وتجب في الزائد على النصاب بحسابه؛ لأنه مما يتجزأ، ويخرج زكاته من قيمته كما يخرج من قيمة العروض. فصل: فأما الخارج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر ففيه روايتان: إحداهما: لا شيء فيه؛ لأن ابن عباس قال: لا شيء في العنبر إنما هو شيء ألقاه البحر، ولأنه قد كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه فلم يسبق فيه سنة. والثانية: فيه زكاة؛ لأنه معدن أشبه معدن البر. ولا شيء في السمك؛ لأنه صيد فهو كصيد البر. وعنه: فيه الزكاة قياساً على العنبر. فصل: ويجوز بيع تراب معادن الأثمان بغير جنسه، ولا يجوز بجنسه لإفضائه إلى الربا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وزكاته على البائع؛ لأن رجلاً باع معدناً، ثم أتى علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبره، فأخذ زكاته منه. ولأنه باع ما وجبت عليه زكاته فكانت عليه، كبائع الحب بعد صلاحه. وتتعلق الزكاة بالمعدن بظهوره، كتعلقها بالثمرة بصلاحها، ولا يخرج منه إلا بعد السبك والتصفية كالحب والثمر. [ باب حكم الركاز ] وهو مال الكفار المدفون في الأرض، وفيه الخمس، لما روى أبو هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «وفي الركاز الخمس» متفق عليه. ولأنه مال كافر مظهور عليه بالإسلام فوجب فيه الخمس كالغنيمة، ويجب الخمس في قليله وكثيره من أي نوع كان من غير حول لذلك. ويجب على كل واجد له من أهل الزكاة وغيرهم لذلك. ومصرفه مصرف الفيء لذلك، ولأنه روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رد بعض خمس الركاز على واجده، ولا يجوز ذلك في الزكاة. وعنه: أنه زكاة مصرفه مصرفها، اختارها الخرقي. لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر واجد الركاز أن يتصدق به على المساكين، ولأنه حق تعلق بمستفاد من الأرض فأشبه صدقة المعدن والعشر. وفي جواز رده على واجده وجهان لما ذكرنا من الروايتين، ويجوز لواجده أن يفرق الخمس بنفسه، نص عليه واحتج بحديث علي، ولأنه أوصل الحق إلى مستحقه فبرئ منه، كما لو فرق الزكاة. فصل: والركاز: ما دفنه الجاهلية، ويعتبر ذلك برؤية علاماتهم عليه، كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم؛ لأن الأصل أنه لهم، فأما ما عليه علامات المسلمين كأسمائهم أو قرآن ونحوه فهو لقطة؛ لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه، وكذلك إن كان على بعضه علامة الإسلام وعلى بعضه علامة الكفار؛ لأن الظاهر أنه صار لمسلم فدفنه، وما لا علامة عليه فهو لقطة تغليباً لحكم الإسلام. فصل: ولا يخلو الركاز من أربعة أحوال: أحدها: أن يجده في موات فهو لواجده. الثاني: وجده في ملك آدمي معصوم، ففيه روايتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 إحداهما: يملكه واجده؛ لأنه لا يملك بملك الأرض إذ ليس هو من أجزائها، وإنما هو مودع فيها، فجرى مجرى الصيد والكلأ، يملكه من ظفر به كالمباحات كلها، وإن ادعاه صاحب الأرض فهو له مع يمينه، لثبوت يده على محله. والثانية: هو لصاحب الأرض إن اعترف به، وإن لم يعترف به، فهو لأول مالك؛ لأنه في ملكه، فكان له كحيطانه، فإن كان الملك موروثاً فهو للورثة، إلا أن يعترفوا أنه لم يكن لمورثهم فيكون لمن قبله، فإن اعترف به [بعضهم دون بعض فللمعترف به نصيبه وباقيه لمن قبله] . الثالث: وجده في ملك انتقل إليه فهو له بالظهور عليه، وإن قلنا: لا يملك به فهو للمالك قبله إن اعترف به، وإلا فهو لأول مالك. الرابع: وجده في أرض الحرب وقدر عليه بنفسه فهو له؛ لأن مالك الأرض لا حرمة له فأشبه الموات وإن لم يقدر عليه إلا بجماعة المسلمين فهو غنيمة؛ لأن قوتهم أوصلته إليه وإن وجد في ملك انتقل إليه ما عليه علامة الإسلام، فادعاه من انتقل عنه ففيه روايتان: إحداهما: يدفع إليه من غير تعريف ولا صفة؛ لأنه كان تحت يده فالظاهر أنه ملكه، كما لو لم ينتقل عنه. والثانية: لا يدفع إليه إلا بصفة؛ لأن الظاهر أنه لو كان له لعرفه. وإن اكترى داراً فظهر فيها دفين، فادعى كل واحد من المالك والمكتري أنه دفنه ففيه وجهان: أحدهما: القول قول المالك؛ لأن الدفين تابع للأرض. والثاني: القول قول المكتري؛ لأنه مودع في الأرض وليس منها، فكان القول قول من يده عليه كالقماش. فصل: وإذا استأجر أجيراً ليحفر له طالباً لكنز فوجد كنزاً فهو للمستأجر؛ لأنه استأجره لذلك، فأشبه ما لو استأجره ليحتش له، وإن استأجره لغير ذلك فوجد كنزاً فهو للأجير؛ لأنه غير مقصود بالإجارة. فكان للظاهر عليه كما لو استأجره ليحتمل له فوجد صيداً. [ باب زكاة التجارة ] وهي واجبة، روى سمرة بن جندب قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا أن نخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الصدقة مما نعده للبيع» . رواه أبو داود. ولأنه مال نام فتعلقت به الزكاة كالسائمة، ولا تجب إلا بشروط أربعة: أحدهما: نية التجارة، لقوله: مما نعده للبيع، ولأن العروض مخلوقة في الأصل للاستعمال فلا تصير للتجارة إلا بنيتها، كما أن ما خلق للتجارة وهي الأثمان لا تصير للقنية إلا بنيتها. ويعتبر وجودها في جميع الحول؛ لأنها شرط أمكن اعتباره في جميع الحول فاعتبر فيه كالنصاب. الثاني: أن يملك العروض بفعله كالشراء ونحوه بنية التجارة. وعنه: تصير للتجارة بمجرد النية، اختاره أبو بكر، وابن عقيل للخبر، ولأنه يصير للقنية بمجرد النية، فلأن يصير للتجارة بذلك أولى. وظاهر المذهب الأول؛ لأن ما لا تتعلق به الزكاة من أصله لا يصير لها بمجرد النية، كالمعلوفة إذا نوى بها الإسامة، وفارق نية القنية؛ لأنها الأصل فكفى فيها مجرد النية كالإقامة مع السفر، فعلى هذا إن لم ينو عند التملك ونوى بعده لم تجب الزكاة فيه؛ لأنه نية مجردة، ولو نوى بتملكه أنه للتجارة، ثم نواه للقنية صار للقنية؛ لأنها الأصل، وإن نوى بعد للتجارة لم يصر لها حتى يبيعه. الشرط الثالث: أن يبلغ قيمته نصاباً من أقل الثمنين قيمة، فإذا بلغ أحدهما نصاباً دون الآخر قومه به، ولا يعتبر ما اشتراه به؛ لأن تقويمه لحظ الفقراء فيعتبر ما لهم الحظ فيه، ولو كان أثماناً قومه كالسلع؛ لأنه وجد فيه معنيان يقتضيان الإيجاب فيعتبر ما يتعلق به الإيجاب كالسوم والتجارة، فإن بلغ نصاباً من كل واحد منهما قومه بما هو أحظ للفقراء، فإن استويا قومه بما شاء منهما. الشرط الرابع: الحول لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» ويعتبر وجوب النصاب في جميع الحول؛ لأن ما اعتبر له الحول والنصاب اعتبر وجوده في جميعه كالأثمان. ولو اشترى للتجارة عرضاً لا يبلغ نصاباً، ثم بلغه، انعقد الحول عليه من حين صار نصاباً. وإن ملك نصاباً فنقص انقطع الحول، فإن عاد فنما فبلغ النصاب استأنف الحول على ما ذكرنا في السائمة والأثمان. وإن ملك نصاباً في أوقات فلكل نصاب حول، ولا يضم نصاب إلى نصاب؛ لأن المستفاد يعتبر له حول أصله على ما أسلفناه، وإن لم يكمل الأول إلا بالثاني فحولهما منذ ملك الثاني، وإن لم يكمل إلا بالثالث فحول الجميع من حين كمل النصاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 فصل: ولا يشترط أن يملك العرض بعوض. ذكره ابن عقيل وأبو الخطاب، وقال القاضي: يشترط أن يملكه بعوض كالبيع والخلع والنكاح، فإن ملكه بهبة أو احتشاش أو غنيمة لم يصر للتجارة؛ لأنه ملك بغير عوض أشبه الموروث. ولنا: أنه ملكه بفعله أشبه المملوك بالبيع، وفارق الإرث؛ لأنه بغير فعله فجرى مجرى الاستدامة. فصل: وإذا اشترى نصاباً للتجارة بآخر لم ينقطع الحول؛ لأن الزكاة تتعلق بالقيمة، والقيمة فيها واحدة انتقلت من سلعة إلى سلعة، فهي كدراهم نقلت من بيت إلى بيت، وإن اشتراه بأثمان لم ينقطع الحول؛ لأن القيمة في الأثمان كانت ظاهرة فاستترت في السلعة، وكذلك لو باع نصاب التجارة بنصاب الأثمان لم ينقطع الحول لذلك، وإن اشترى نصاباً للتجارة بعرض للقنية، أو بما دون نصاب من الأثمان أو عرض التجارة، انعقد الحول من حين الشراء؛ لأن ما اشترى به لم يجر في حول الزكاة فلم يبن عليه، ولو اشترى نصاباً للتجارة بنصاب سائمة، أو سائمة بنصاب تجارة، انقطع الحول؛ لأنهما مختلفان، فإن كان نصاب التجارة سائمة فاشترى به نصاب سائمة للقنية لم ينقطع الحول. لأن السوم سبب للزكاة إنما قدم عليه زكاة التجارة لقوته، فإذا زال المعارض ثبت حكم السوم لظهوره. فصل: وإذا ملك للتجارة سائمة فحال الحول، والسوم ونية التجارة موجودان فبلغ المال نصاب أحدهما دون الآخر كخمس من الإبل لا تبلغ قيمتها مائتي درهم، أو أربع تبلغ ذلك، وجب زكاة ما وجد نصابه، لوجود سببها خالياً عن معارض لها، وإن وجد نصابهما كخمس قيمتها مائتا درهم، وجبت زكاة التجارة وحدها؛ لأنها أحظ للفقراء لزيادتها بزيادة القيمة من غير وقص. وسواء تم حولهما جميعاً، أو تقدم أحدهما صاحبه لذلك. وإن اشترى أرضاً أو نخلاً للتجارة فأثمرت النخل وزرعت الأرض فكذلك في أحد الوجهين، وفي الآخر يزكي الثمرة والزرع زكاة العشر، ثم يقوم النخل والأرض فيزكيهما؛ لأن ذلك أحظ للفقراء لكثرة الواجب وزيادة نفعه. فصل: وتقوم السلعة عند الحول بما فيها من نماء وربح؛ لأن الربح من نمائها فكان حولها كسخال السائمة، وما نما بعد الحول ضم إليه في الحول الثاني؛ لأنه إنما وجد فيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ويكمل نصاب التجارة بالأثمان؛ لأن زكاة التجارة تتعلق بالقيمة فهما جنس واحد وتخرج الزكاة من قيمة العروض لا من أعيانها؛ لأن زكاتها تتعلق بالقيمة لا بالأعيان، وما اعتبر النصاب فيه وجبت الزكاة منه كسائر الأموال. وقدر زكاته ربع العشر؛ لأنها تتعلق بالقيمة فأشبهت زكاة الأثمان، وفيما زاد على النصاب بحسابه لذلك، ويخرج عنها ما شاء من عين أو ورق لأنهما جميعاً قيمة. فصل: وإذا تم الحول على مال المضاربة فعلى رب المال زكاة رأس المال وحصته من الربح؛ لأن حول الربح حول الأصل، وله إخراجها من المال؛ لأنها من مؤنته وواجبة لسببه، ويحسبها من نصيبه؛ لأنها واجبة عليه فتجب عليه كدينه، ويحتمل أن تحسب من الربح؛ لأنها من مؤنة المال فأشبهت أجرة الكيال. وفي زكاة حصة المضارب وجهان. فمن أوجبها لم يجوز إخراجها من المال؛ لأن الربح وقاية رأس المال فليس عليه إخراجها من غيره حتى يقبض، فيؤدي لما مضى كالدين، ويحتمل جواز إخراجها منه؛ لأنهما دخلا على حكم الإسلام، ومن حكمه وجوب الزكاة وإخراجها من المال. فصل: وإذا أذن كل واحد من الشريكين للآخر في إخراج زكاته فأخرجاها معاً، ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه؛ لأنه انعزال عن الوكالة بشروع موكله في الإخراج، وإن أخرجها أحدهما قبل الآخر، ضمن الثاني نصيب الأول، علم بإخراجه أو لم يعلم؛ لأن الوكالة زالت بزوال ما وكل فيه، فأشبه ما لو وكله في بيع ثوب ثم باعه الموكل، ويحتمل أن لا يضمن إذا لم يعلم؛ لأن المالك غيره. فصل: ومن اشترى شقصاً للتجارة بمائتي درهم، فحال الحول وقيمته أربعمائة فعليه زكاة أربعمائة، ويأخذه الشفيع بمائتين؛ لأن الشفيع يأخذه في الحال بالثمن الأول، وزكاته على المشتري؛ لأنها زكاة ماله، ولو وجد به عيباً رده بالثمن الأول وزكاته على المشتري. [ باب صدقة الفطر ] وهي واجبة على كل مسلم، لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «فرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر من رمضان على الذكر والأنثى، والحر والمملوك من المسلمين، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير)) ، فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير، وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» . متفق عليه. وتجب على المكاتب عن نفسه للخبر، ولأنه مسلم تلزمه نفقته فلزمته فطرته كالحر، ولا تجب على كافر، ولا على أحد بسببه، فلو كان للمسلم عبد كافر أو زوجة كافرة لم تجب فطرتهما، لقوله: «من المسلمين» ، ولأنها زكاة، فلم تلزم الكافر كزكاة المال، وتجب على الصغير للخبر والمعنى، ويخرج من حيث يخرج نفقته؛ لأنها تابعة لها. ولا تجب على جنين، كما لا تجب على أجنة السائمة، ويستحب إخراجها عنه؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يخرج عن الجنين، وإن ملك الكافر عبداً مسلماً، لم تجب فطرته؛ لأن العبد لا مال له والسيد كافر. وعنه: على السيد فطرته؛ لأنه من أهل الطهرة فلزم سيده فطرته كما لو كان مسلماً. فصل: ولا تجب إلا بشرطين: أحدهما: أن يفضل عن نفقته ونفقة عياله يوم العيد وليلته صاع؛ لأن النفقة أهم فتجب البداءة بها لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابدأ بنفسك» رواه مسلم. وفي لفظ: «وابدأ بمن تعول» رواه الترمذي. فإن فضل صاع واحد أخرجه عن نفسه، فإن فضل آخر، بدأ بمن تلزمه البداءة بنفقته، على ما نذكره في بابه إن شاء الله لأنها تابعة للنفقة، فإن فضل بعض صاع ففيه روايتان: إحداهما: يلزمه إخراجه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» متفق عليه. ولأنه لو ملك بعض العبد لزمته فطرته، فكذلك إذا ملك بعض المؤدى لزمه أداؤه. والثانية: لا يلزمه؛ لأنه عدم ما يؤدي به الفرض فلم يلزمه، كمن عليه الكفارة إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 لم يملك إلا بعض الرقبة. فإن فضل صاع وعليه دين يطالب به، قدم قضاؤه؛ لأنه حق آدمي مضيق وهو أسبق، فكان أولى، فإن لم يطالب به فعليه الفطرة؛ لأنه حق توجهت المطالبة به فقدم على ما لا يطالب به، ولا يمنع الدين وجوبها لتأكدها بوجوبها على الفقير من غير حول. فصل: الشرط الثاني: دخول وقت الوجوب، وهو غروب الشمس من ليلة الفطر، لقول ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر من رمضان» . وذلك يكون بغروب الشمس، فمن أسلم أو تزوج أو ولد له ولد أو ملك عبداً أو أيسر بعد الغروب، لم تلزمه فطرتهم، وإن غربت وهم عنده ثم ماتوا فعليه فطرتهم؛ لأنها تجب في الذمة فلم تسقط بالموت ككفارة الظهار. فصل: والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة للخبر، ولأن المقصود إغناء الفقراء يوم العيد عن الطلب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» رواه سعيد بن منصور. وفي إخراجها قبل الصلاة إغناء لهم في اليوم كله، فإذا قدمها قبل ذلك بيومين جاز؛ لأن ابن عمر كان يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين، ولأن الظاهر أنها تبقى أو بعضها فيحصل الغنى بها فيه، وإن عجلها لأكثر من ذلك لم يجز؛ لأن الظاهر أنه ينفقها فلا يحصل بها الغنى المقصود يوم العيد، وإن أخرها [عن الصلاة ترك الاختيار لمخالفته الأمر، وأجزأت لحصول الغنى بها في اليوم، وإن أخرها] عن اليوم أثم لتأخيره الحق الواجب عن وقته ولزمه القضاء؛ لأنه حق مال وجب فلا يسقط بفوات وقته كالدين. فصل: ولا يشترط لوجوبها الغنى بنصاب ولا غيره، لما روى أبو داود بإسناده عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أدوا صدقة الفطر صاعاً من بر أو قمح عن كل اثنين صغير أو كبير، حر أو مملوك، غني أو فقير، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى» ، ولأنه حق مالي لا يزيد بزيادة المال فلم يشترط في وجوبه النصاب كالكفارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 فصل: ومن لزمته فطرة نفسه لزمته فطرة من تلزمه مؤنته من المسلمين، لما روى ابن عمر قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد. ممن تمونون» . فيجب على الرجل فطرة زوجته وعبده وزوجة عبده؛ لأن نفقتهم عليه، فإن كان له عبد آبق فعليه فطرته؛ لأنها تجب بحق الملك والملك لم يزله الإباق. قال أحمد: ولا يعطي عنه، إلا أن يعلم مكانه، وذلك لأنه يحتمل أنه قد مات أو ارتد فلم تجب الفطرة مع الشك، فإن علم حياته بعد ذلك لزمه الإخراج لما مضى، وإن كانت له زوجة ناشز لم تلزمه فطرتها؛ لأنه لا تلزمه نفقتها. وقال أبو الخطاب: تلزمه قطرتها كما يلزم السيد فطرة الآبق. وإن كان لزوجته خادم تلزمه نفقته لزمته فطرته. وإن كان العبد لسادة فعليهم فطرته؛ لأن عليهم نفقته، وعلى كل واحد من فطرته بقدر ما يلزمه من نفقته؛ لأنها تابعة لها فتقدرت بقدرها. وعنه: على كل سيد فطرة كاملة؛ لأنها طهرت فوجب تكميلها ككفارة القتل. ومن نصفه حر ففطرته عليه وعلى سيده لما ذكرناه، ومن نفقتها على اثنين من أقاربه، أو الأمة التي نفقتها على سيدها: وزوجها، فطرته عليهما كذلك. ومن تكفل بمؤنة شخص فمانه شهر رمضان فالمنصوص عن أحمد أن عليه فطرته لدخوله في عموم قوله: «ممن تمونون» . واختار أبو الخطاب: أنه لا تلزمه فطرته كما لا تلزمه نفقته، وحمل الخبر على من تلزمه المؤنة بدليل وجوبها على الآبق، ومن ملكه عند الغروب ولم يمنهما، وسقوطها عمن مات أو أعتق قبل الغروب وقد مانه. فصل: على الموسرة التي زوجها معسر فطرة نفسها؛ لأنه كالمعدوم. وإن كانت أمة ففطرتها على سيدها لذلك، ويحتمل أن لا تجب فطرتهما؛ لأن من تجب عليه النفقة معسر فسقطت، كما لو كانت الزوجة والسيد معسرين، ومن لزمت فطرته غيره فأخرجها عن نفسه بغير إذنه ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه لأدائه ما عليه. والثاني: لا يجزئه؛ لأنها تجب على غيره فلا يجزئ إخراجها بغير إذن من وجبت عليه، كزكاة المال. فصل: والواجب في الفطرة صاع من كل مخرج، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 روى أبو سعيد قال: «كنا نعطيها في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: إن مداً من هذا يعدل مدين. قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه» . متفق عليه. ومن قدر على هذه الأصناف الأربعة لم يجزه غيرها؛ لأنها المنصوص عليها فأيها أخرج أجزأه، سواء كانت قوته أو لم تكن لظاهر الخبر. ويجزئ الدقيق والسويق من الحنطة والشعير لقول أبي سعيد، «لم نخرج على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من دقيق، ثم شك فيه سفيان بعد، فقال: دقيق أو سلت» . رواه النسائي. ولأنه أجزاء بحب يكال أو يدخر، فأشبه الحب. ويجزئ إخراج صاع من أجناس إذا لم يعدل عن المنصوص؛ لأن كل واحد منها يجزئ منفرداً فأجزأ بعض من هذا وبعض من هذا، كما لو كان العبد لجماعة، وقال أبو بكر يتوجه قول آخر أنه يعطي ما قام مقام هذه الخمسة لظاهر قوله: صاعاً من طعام. قال: والأول أقيس. وفي الأقط روايتان: إحداهما: يجزئ إخراجه مع وجود غيره؛ لأنه في الخبر. والثانية: لا يجزئ إلا عند عدم الأصناف. قال الخرقي: إن أعطى أهل البادية الأقط أجزأ إذا كان قوتهم، وذلك لأنه لا يجزئ في الكفارة ولا تجب الزكاة فيه، فإن عدم الخمسة أخرج ما قام مقامها من كل مقتات من الحب والتمر، وقال ابن حامد: يخرجون من قوتهم أي شيء كان، كالذرة والدخن ولحوم الحيتان والأنعام. فصل: والأفضل عن أبي عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إخراج التمر. لما روى مجاهد قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع والبر أفضل من التمر. قال: إن أصحابي قد سلكوا طريقاً وأنا أحب أن أسلكه، فآثر الاقتداء بهم على غيره. وكذلك أحمد. ثم بعد التمر البر؛ لأنه أكثر نفعاً وأجود. فصل: ولا يجزئ الخبز لأنه خارج من الكيل والادخار، ولا حب معيب ولا مسوس، ولا قديم تغير طعمه، لقول الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . ولا تجزئ القيمة؛ لأنه عدول عن المنصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 فصل: والصاع خمس أرطال وثلث بالعراقي، وهو بالرطل الذي وزنه ستمائة درهم رطل وأوقية وثلثا أوقية إلى ثلثي درهم. قال أحمد: الصاع: خمسة أرطال وثلث حنطة، فإن أعطى خمسة أرطال وثلثاً تمراً فقد أوفى، وقيل له: إن الصيحاني ثقيل، فقال: لا أدري. وهذا يدل على أنه ينبغي أن يحتاط في الثقيل بزيادة شيء على خمسة أرطال وثلث ليسقط الفرض بيقين. ومصرفها مصرف زكاة المال؛ لأنها زكاة. ويجوز إعطاء الواحد ما يلزم الجماعة، كما يجوز دفع زكاة مالهم إليه، وإعطاء الجماعة ما يلزم الواحد كما يجوز تفرقة ماله عليهم. [ باب إخراج الزكاة والنية فيه ] لا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنها عبادة محضة فافتقرت إلى النية كالصلاة، ويجوز تقديمها على الدفع بالزمن اليسير كما في سائر العبادات، ولأنه يجوز التوكل فيها بنية غير مفارقة لأداء الوكيل. ويجب أن ينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة، أو صدقة المال، أو الفطر، فإن نوى صدقة مطلقة لم تجزه؛ لأن الصدقة تكون نفلاً فلا ينصرف إلى الفرض إلا بتعيين، ولو تصدق بجميع ماله تطوعاً لم يجزه؛ لأنه لم ينو الفرض. ولا يجب تعيين المال المزكى عنه، فإن كان له نصابان، فأخرج الفرض عن أحدهما بعينه أجزأه؛ لأن التعيين لا يضر، وإن أطلق عن أحدهما أجزأه؛ لأنه لو أطلق لكان عن أحدهما فلا يضر التقييد به. وإن نوى أنه لو كان الغائب سالماً فهو زكاته وإلا فهو عن الحاضر، صح، وكان على ما نواه. وإن نوى أنه زكاة أو تطوع لم يصح؛ لأنه لم يخلص النية للفرض، وإن نوى أنه زكاة مالي وإن لم يكن سالماً فهو تطوع صح؛ لأنه هكذا يقع فلا يضر التقييد به، ولو نوى إن كان أبي قد مات فصار ماله لي فهذا زكاته لم يصح؛ لأنه لم يبن على أصل. ولو نوى عن ماله الغائب فبان تالفاً لم يكن له صرفه إلى الحاضر؛ لأنه عينه للغائب، فأشبه ما لو أعتق عبداً عن كفارة لم يملك صرفه إلى أخرى. فصل: وإذا كان في إخراج الزكاة، ونوى عند الدفع إلى الوكيل ونوى الوكيل عند الأداء، جاز. وإن نوى الوكيل ولم ينو الموكل لم يجزه؛ لأنها فرض عليه فلم يجزه من غير نية، وإن نوى الموكل عند الدفع إلى الوكيل ولم ينو الوكيل عند الدفع. فقال أبو الخطاب: يجزئ؛ لأن الذي عليه الفرض قد نوى، ويحتمل أنه إن نوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 بعد الأداء من الدفع لم يجزه؛ لأن الدفع حصل من غير نية قريبة ولا مقارنة، وإن دفعها إلى الإمام برئ منها بكل حال؛ لأن يد الإمام كيد الفقراء. وإن أخذها الإمام قهراً أجزأت من غير نية رب المال؛ لأنها تؤخذ من الممتنع فلو لم تجزئ ما أخذت. هذا ظاهر كلام الخرقي ويحتمل أن لا تجزئه فيما بينه وبين الله تعالى إلا بنيتها؛ لأنها عبادة محضة فلم تجز بغير نية، كالمصلي كرهاً، وهذا اختيار أبي الخطاب وابن عقيل، وقال القاضي: تجزئ نية الإمام في الكره والطوع؛ لأن أخذ الإمام كالقسم بين الشركاء، والأول أولى. فصل: ولا يجوز تعجيل الزكاة قبل كمال النصاب؛ لأنه سببها فلم يجز تقديمها عليه كالتكفير قبل الحلف، ويجوز تعجيلها بعده، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن العباس سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرخص له في أن يعجل الصدقة قبل أن تحل فرخص له» . رواه أبو داود. ولأنه حق مال أجل للرفق فجاز تعجيله قبل أجله، كالدين ودية الخطأ. وفي تعجيلها لأكثر من عام روايتان: إحداهما: يجوز لأنه عجلها بعد سببها. والثانية: لا يجوز؛ لأنه عجلها قبل انعقاد حولها، فأشبه ما لو عجلها قبل انعقاد وقت نصابها، فإن ملك نصاباً فعجل زكاة نصابين عنه وعما يستفيده في الحول الآخر أجزأه عن النصاب دون الزيادة؛ لأنه عجل زكاة الزيادة قبل وجودها، ولو ملك خمساً من الإبل فعجل شاتين عنها وعن نتاجها، فحال الحول وقد نتجت خمساً فكذلك، لما ذكرنا، وإن ملك أربعين شاة فعجل عنها شاة، ثم ماتت الأمهات وبقيت سخالها، أجزأت عنها؛ لأنها لا تجزئ عنها وعن أمهاتها لو كانت باقية فعنها وحدها أولى، بخلاف التي قبلها، ولو ملك عرضاً قيمته ألف، فعجل زكاة ألفين، فحال الحول وقيمته ألفان أجزأه عن ألف واحد لما ذكرنا. فصل: وإذا عجل الزكاة فلم تتغير الحال وقعت موقعها، وإن ملك نصاباً فعجل زكاته وحال الحول وهو ناقص مقدار ما عجلها أجزأت عنه. وإن ملك مائة وعشرين، فعجل شاة ثم نتجت أخرى قبل كمال الحول؛ لزمه شاة ثانية؛ لأن المعجل كالباقي على ما ملكه في إجزائه عن الزكاة عند الحول، وكذلك في إيجاب الزكاة، وإن تغيرت الحال قبل الحول بموت الآخذ أو غناه أو ردته فإن الزكاة تجزئ عن ربها وليس له ارتجاعها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 لأنه أداها إلى مستحقها فبرئ منها، كما لو تلفت عند أخذها أو استغنى بها، أما إن تغيرت حال رب المال بموته أو ردته، أو تلف النصاب أو بعضه، أو بيعه أو حالهما معاً. فقال أبو بكر والقاضي: الحكم كذلك لأنه دفعها إلى مستحقها فلم يملك الرجوع بها، كما لو لم يعلمه. وقال ابن حامد: إن لم يعلمه رب المال أنها زكاة معجلة لم يكن له الرجوع عليه؛ لأن الظاهر أنها عطية تلزم بالقبض، فلم يكن له الرجوع بها، وإن كان الدافع الساعي أو رب المال، لكنه أعلم الآخذ أنها زكاة معجلة، رجع عليه؛ لأنه دفعها عن ما يستحقه القابض في الثاني، فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق وجب رده، كالأجرة إذا انهدمت الدار قبل السكنى، ثم إن وجدها بعينها أو زائدة زيادة متصلة رجع بها؛ لأن هذه الزيادة تتبع في الفسوخ فتبعت ههنا، وإن زادت زيادة منفصلة فهي للفقير؛ لأنها انفصلت في ملكه، وإن نقصت لزم الفقير نقصها لأنه ملكها بقبضها فكان نقصها عليه كالمعيب، وإن تلفت فعليه قيمتها يوم قبضها؛ لأن ما زاد بعد ذلك أو نقص إنما هو في ملك الفقير، فإن قال المالك: أعلمته الحال فأنكر الفقير فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه منكر. فصل: ولو عجلها إلى غني فافتقر عند وجوبها لم يجزه؛ لأنه لم يعطها لمستحقها وإن عجلها فدفعها إلى مستحقها ثم مات المالك فحبسها الوارث عن زكاته، لم يجزه؛ لأنها عجلت قبل ملكه، فأشبه ما عجلها هو، وإن تسلف الإمام الزكاة فهلكت في يده، لم يضمنها، وكانت من ضمان الفقراء، سواء سأله رب المال أو الفقراء أو لم يسأله الجميع؛ لأن يده كأيديهم وله ولاية عليهم، بدليل أن له أخذ الزكاة بغير إذنهم، فإذا تلفت من غير تفريط لم يضمن كولي اليتيم. فصل: وظاهر كلام القاضي أنه لا يجوز تعجيل العشر؛ لأنه يجب بسبب واحد وهو بدو الصلاح في الثمرة والحب، فتعجيله تقديماً له على سببه، وقال أبو الخطاب: يجوز تعجيله إذا ظهرت الثمرة وطلع الزرع، ولا يجوز قبله؛ لأن وجود ذلك كملك النصاب، وبدو الصلاح كتمام الحول. وأما المعدن والركاز فلا يجوز تقديم صدقتهما قولاً واحداً؛ لأن سبب وجوبها يلازم وجوبها ولا يجوز تقديمها قبل سببها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 [ باب قسم الصدقات ] يجوز لرب المال تفريق زكاته بنفسه؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليقضه ثم يزكي بقية ماله. وأمر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واجد الركاز أن يتصدق بخمسه. وله دفعها إلى الإمام عدلاً كان أو غيره، لما روى سهيل بن أبي صالح قال: أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال وأريد إخراج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى. فقال: ادفعها إليهم. فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقالوا مثل ذلك، ولأنه نائب عن مستحقها فجاز الدفع إليه كولي اليتيم. قال أحمد: أعجب إلي أن يخرجها، وذلك لأنه على ثقة من نفسه، ولا يأمن من السلطان أن يصرفها في غير مصارفها. وعنه: ما يدل على أنه يستحب دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى السلطان دون الباطنة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يبعثون سعاتهم لقبض زكاة الأموال الظاهرة دون الباطنة. وقال ابن أبي موسى وأبو الخطاب: دفعها إلى الإمام العادل أفضل؛ لأنه أعلم بالمصارف، والدفع إليه أبعد من التهمة، ويبرأ بها ظاهراً وباطناً، ودفعها إلى أهلها، يحتمل أن يصادف غير مستحقها فلا يبرأ بها باطناً. فصل: ويجب على الإمام أن يبعث السعاة لقبض الصدقات؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يفعلونه، ولأن في الناس من لا يؤدي صدقته أو لا يعلم ما عليه، ففي إهمال ذلك ترك للزكاة. ومن شرط الساعي أن يكون بالغاً عاقلاً أميناً؛ لأن الصبي والمجنون لا قبض لهما، والخائن يذهب بمال الزكاة، ولا يشترط كونه فقيراً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بعث عمر وعمله وكان غنياً، ولأن ما يعطيه أجرة، فأشبه أجرة حملها، ولا كونه حراً؛ لأن المقصود يحصل منه من غير ضرر، فأشبه الحر، ولا فقيهاً إذا كتب له ما يأخذ وحد له، أو بعث معه من يعلمه ذلك. لأنه استئجار على استيفاء حق فلم يشترط له الفقه كاستيفاء الدين قال أبو الخطاب: في إسلامه روايتان: إحداهما: لا يشترط ذلك، ولأنه قد يعرف منه الأمانة بالتجربة، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 والأخرى: هو شرط؛ لأن الكفر ينافي الأمانة. وقد قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى. قال أصحابنا: وجوز أن يكون من ذوي القربى؛ لأن ما يأخذه أجرة فلم يمنع منها كأجرة الحمل، وظاهر الخبر يمنع ذلك، فإن «الفضل بن عباس وعبد المطلب بن ربيعة سألا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالا: يا رسول الله، لو بعثتنا على هذه الصدقة فنصيب منها ما يصيب الناس، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس. فأبى أن يبعثهما، وقال: إن هذه الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس» رواه مسلم. فصل: وإذا كان الساعي يبعث لأخذ العشر بعث في وقت إخراجه، وإن بعث لقبض غيره، بعث في أول محرم؛ لأنه أول السنة. ويستحب أن يعد الماشية على أهلها على الماء أو في أفنيتهم، لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تؤخذ صدقات الناس على مياههم وأفنيتهم» ، وإن أخبره صاحب المال بعدده قبل منه، وإن قال: لم يكمل الحول أو فرقت زكاته ونحو هذا مما يمنع الأخذ منه، قبل منه ولم يحلفه؛ لأن الزكاة عبادة وحق لله تعالى، فلا يحلف عليهما كالصلاة والحد. وإن أعطاه صدقته، استحب أن يدعو له، لقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] . وروى عبد الله بن أبي أوفى قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقة فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى» متفق عليه. ولا يجب الدعاء لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر سعاته بذلك. ويستحب أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً. ويستحب للمعطي أن يقول: اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً. وإن وجد الساعي مالاً لم يكمل حوله، فسلفه ربه زكاته أخذها، وإن أبى لم يجبره؛ لأنه ليس بواجب عليه، فإما أن يوكل من يقبضها منه عند حولها، وإما أن يؤخرها إلى الحول الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فصل: ويؤمر الساعي بتفريق الصدقة في بلدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» . ولا يجوز نقلها عنهم إلى بلد تقصر فيه الصلاة لذلك، ولأن نقلها عنهم يفضي إلى ضياع فقرائهم، فإن نقلها رب المال ففيه روايتان: إحداهما: لا يجزئه؛ لأنه حق واجب لأصناف بلد، فلم يجزئ إعطاؤه لغيرهم كالوصية لأصناف بلد. والأخرى: يجزئه؛ لأنهم من أهل الصدقات، فإن استغنى عنها أهل بلدها جاز نقلها، لما روي أن معاذاً بعث إلى عمر صدقة من اليمن، فأنكر عمر ذلك وقال: لم أبعثك جابياً ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس وترد في فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني. رواه أبو عبيد في كتاب الأموال. فإن كان مال الرجل غائباً عنه زكاه في بلد المال، فإن كان متفرقاً زكى كل مال حيث هو، فإن كان نصاباً من السائمة ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه في كل بلد من الرفض بقدر ما فيه من المال، لئلا تنقل زكاته إلى غير بلده. والثاني: يجزئه الإخراج في بعضها، لئلا يفضي إلى تشقيص زكاة الحيوان. وإن كان ماله تجارة يسافر به. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يزكيه في الموضع الذي أكثر مقامه فيه. وعنه: يعطي بعضه في هذا البلد وبعضه في هذا. وقال القاضي: يخرج زكاته حيث حال حوله؛ لأن المنع من هذا يفضي إلى تأخير الزكاة. وإن كان ماله في بادية، فرق زكاته في أقرب البلاد إليها. فصل: إذا احتاج الساعي إلى نقل الصدقة استحب أن يسم الماشية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسمها، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لتمييزها عن غنم الجزية والضوال، ولترد إلى مواضعها إذا شردت، ويسم الإبل والبقر في أصول أفخاذها؛ لأنه موضع صلب يقل ألم الوسم فيه، وهو قليل الشعر فتظهر السمة ويسم الغنم في آذانها، فيكتب عليها: لله أو زكاة. وإن وقف من الماشية في الطريق شيء، أو خاف هلاكه جاز بيعه؛ لأنه موضع ضرورة، وإن باع لغير ذلك فقال القاضي: البيع باطل وعليه الضمان؛ لأنه متصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بالإذن ولم يؤذن له في ذلك، ويحتمل الجواز؛ لأن قيس بن أبي حازم روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء فسأل عنها، فقال المصدق: إني ارتجعتها بإبل فسكت» . رواه سعيد بن منصور. ومعنى الارتجاع أن يبيعها ويشتري بثمنها غيرها. [ باب ذكر الأصناف الذين تدفع الزكاة لهم ] وهم ثمانية ذكرهم الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] . فلا يجوز صرفها إلى غيرهم من بناء مساجد أو إصلاح طريق أو كفن ميت؛ لأن الله تعالى خصهم بها بقوله: إنما وهي للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه. ولا يجب تعميمهم بها. وعنه: يجب تعميمهم والتسوية بينهم. وأن يدفع من كل صنف إلى ثلاثة فصاعداً؛ لأنه أقل الجمع، إلا العامل، فإن ما يأخذه أجرة فجاز أن يكون واحداً، وإن تولى الرجل إخراجها بنفسه سقط العامل. وهذا اختيار أبي بكر؛ لأن الله تعالى جعلها لهم بلام التمليك، وشرك بينهم بواو التشريك، فكانت بينهم على السواء كأهل الخمس، والأول: المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال لمعاذ: أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» أمر بردها في صنف واحد. «وقال لقبيصة لما سأله في حمالة: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» وهو صنف واحد. وأمر بني بياضة بإعطاء صدقاتهم سلمة بن صخر وهو واحد، فتبين بهذا أن مراد الآية بيان مواضع الصرف دون التعميم؛ ولذلك لا يجب تعميم كل صنف، ولا التعميم بصدقة واحد إذا أخذها الساعي، بخلاف الخمس. فصل: إذا تولى الإمام القسمة بدأ بالساعي فأعطاه عمالته؛ لأنه يأخذ عوضاً فكان حقه آكد ممن يأخذ مواساة. وللإمام أن يعين أجرة الساعي قبل بعثه، وله أن يبعثه من غير شرط؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ساعياً ولم يجعل له أجرة فلما جاء أعطاه، فإن عين له أجرة دفعها إليه، وإلا دفع إليه أجرة مثله. ويدفع منها أجرة الحاسب والكاتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 والعداد والسائق والراعي والحافظ والحمال والكيال ونحو ذلك؛ لأنه من مؤنتها فقدم على غيره. فصل: والفقراء والمساكين صنفان، وكلاهما يأخذ لحاجته إلى مؤنة نفسه، والفقراء أشد حاجة؛ لأن الله تعالى بدأ بهم والعرب إنما تبدأ بالأهم فالأهم، ولأن الله تعالى قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] . فأخبر أن لهم سفينة يعملون بها، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعاذ من الفقر وقال: «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين» رواه الترمذي. فدل على أن الفقراء أشد، فالفقير من ليس له ما يقع موقعاً من كفايته من مكسب ولا غيره، والمسكين الذي له ذلك، فيعطى كل واحد منهما ما تتم به كفايته. وإذا ادعى الفقر من لم يعرف بغنى قبل قوله بغير يمين؛ لأن الأصل عدم المال، وإن ادعاه من عرف غناه لم يقبل إلا ببينة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل أصابته فاقة حتى يشهد له ثلاث من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش» رواه مسلم. وإن رآه جلداً وذكر أنه لا كسب له أعطاه من غير يمين، لما روى عبيد الله بن عدي بن الخيار: «أن رجلين أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقسم الصدقة فسألاه شيئاً، فصعد بصره فيهما وصوبه، وقال لهما: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» رواه أبو داود. وإن ادعى أن له عيالاً: فقال القاضي وأبو الخطاب: يقلد في ذلك كما قلد في حاجة نفسه. وقال ابن عقيل: لا يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل عدم العيال، فلا تتعذر إقامة البينة عليهم، وإن كان لرجل دار يسكنها، أو دابة يحتاج إلى ركوبها، أو خادم يحتاج إلى خدمته، أو بضاعة يتجر بها، أو ضيعة يستغلها، أو سائمة يقتنيها، ولا يقوم بكفايته فله أخذ ما تتم به الكفاية ولا يلزمه بيع شيء من ذلك قل أو كثر. فصل: الصنف الرابع: المؤلفة وهم السادة المطاعون في عشائرهم، وهم ضربان: كفار ومسلمون، فالكفار من يرجى إسلامهم أو يخاف شرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى صفوان بن أمية يوم حنين قبل إسلامه ترغيباً له في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 والمسلمون أربعة أضرب: منهم من له شرف، يرجى بإعطائه إسلام نظيره، فإن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعطى عدي بن حاتم ثلاثين فريضة من الصدقة، وأعطى الزبرقان بن بدر، مع ثباتهما وحسن نياتهما. الثاني: ضرب نيتهم ضعيفة في الإسلام، فيعطون لتقوى نيتهم فيه، فإن أنساً قال «حين أفاء الله على رسوله أموال هوزان طفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل وقال: إني أعطي رجالاً حدثاء عهد بكفر أتالفهم» متفق عليه. الثالث: قوم إذا أعطوا قاتلوا ودفعوا عن المسلمين. الرابع: قوم إذا أعطوا جبوا الزكاة، ممن لا يعطيها إلا أن يخاف فكل هؤلاء يجوز الدفع إليهم من الزكاة لأنهم داخلون في اسم المؤلفة. وقد سمى الله تعالى لهم سهماً. وروى حنبل عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن حكمهم انقطع؛ لأن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لم يعطياهم شيئاً. والمذهب الأول. فإن سهمهم ثبت بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ولا يثبت النسخ بالاحتمال وترك عمر وعثمان عطيتهم، وإنما كان لغناهم عنهم. والمؤلفة إنما يعطون للحاجة إليهم، فإن استغني عنهم فلا شيء لهم. فصل: الخامس: الرقاب. وهم المكاتبون، يعطون ما يؤدونه في كتابتهم، ولا يقبل قوله: إنه مكاتب إلا ببينة لأن الأصل عدمها، فإن صدقه المولى ففيه وجهان: أحدهما: يقبل؛ لأن السيد يقر على نفسه. والثاني: لا يقبل؛ لأنه متهم في أن يواطئه ليأخذ الزكاة بسببه. وللسيد دفع زكاته إلى مكاتبه؛ لأنه معه في باب المعاملة كالأجنبي، ويجوز أن يردها المكاتب إليه؛ لأنه يأخذها وفاء عن دينه، فأشبه الغريم. ولا يزاد المكاتب على ما يوفي كتابته، ويجوز أن يدفع إليه قبل حلول النجم لئلا يحل وهو معسر فتنفسخ كتابته. وهل يجوز الإعتاق من الزكاة فيه روايتان: إحداهما: يجوز؛ لأنه من الرقاب فيدخل في الآية فعلى هذا يجوز أن يعين في ثمنها، وأن يشتريها كلها من زكاته ويعتقها، ولا يجوز أن يشتري ذا رحمه المحرم عليه، فإن فعل عتق عليه ولم تسقط الزكاة؛ لأن عتقه حصل بسبب غير الإعتاق من الزكاة، ويجوز أن يفتك منها أسيراً مسلماً؛ لأنه فك رقبته من الأسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 والرواية الثانية: لا يجوز الإعتاق منها لأن الآية تقضي الدفع إلى الرقاب، لقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] ، يريد الدفع إلى المجاهدين والعبد لا يدفع إليه. فصل: السادس: الغارمون، وهم ضربان: ضرب غرم لإصلاح ذات البين، وهو من يحمل دية أو مالاً لتسكين فتنة، وإصلاح بين طائفتين، فيدفع إليه من الصدقة ما يؤدي حمالته، وإن كان غنياً، لما روى قبيصة بن مخارق قال: «تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها فقال: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. ثم قال: يا قبيصة إن الصدقة لا تحل إلا لثلاث، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك» رواه مسلم، ولأنه يأخذ لمصلحة المسلمين، فجاز له الأخذ مع الغنى كالغازي. الضرب الثاني: من غرم لمصلحة نفسه في مباح، فيعطى من الصدقة ما يقضي غرمه، ولا يعطي مع الغنى لأنه يأخذ لحاجة نفسه فلم يدفع إليه مع الغنى كالفقير. وإن غرم في معصية، لم يدفع إليه قبل التوبة؛ لأنه لا يؤمن أن يستعين بها في المعصية، وفي إعطائه بعد التوبة وجهان: أحدهما: يعطى؛ لأنه يأخذ لتفريغ ذمته، لا لمعصية فجاز، كإعطائه لفقره. والثاني: لا يعطى؛ لأنه لا يؤمن عوده إلى المعصية، ولا يقبل قوله: إنه غارم إلا ببينة فإن صدقه الغريم فعلى وجهين. ويجوز للرجل دفع زكاته إلى غريمه وأخذها منه لما ذكرنا في المكاتب. فصل: السابع: في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان إذا نشطوا غزوا، ويعطون قدر ما يحتاجون إليه لغزوهم، من نفقة طريقهم وإقامتهم، وثمن السلاح والخيل إن كانوا فرساناً، وما يعطون السايس وحمولتهم إن كانوا رجالاً مع الغنى؛ لأنهم يأخذون لمصلحة المسلمين. ولا يعطى الراتب في الديوان؛ لأنه يأخذ قدر كفايته من الفيء. وفي الحج روايتان: إحداهما: هو من سبيل الله فيعطى من الصدقة ما يحج به حجة الإسلام، أو يعينه فيها مع الفقر، لما روي «أن رجلاً جعل ناقة له في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اركبيها فإن الحج في سبيل الله» رواه أبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 والثانية: لا يجوز ذلك؛ لأن سبيل الله إذا أطلق إنما يتناول الغزو، ولأنه لا مصلحة للمسلمين في حج الفقير، ولا حاجة به إلى إيجاب الحج عليه، فلم يدفع إليه كحج النفل. فصل: الثامن: ابن السبيل. وهو المسافر المنقطع به وله اليسار في بلده، فيعطى من الصدقة ما يبلغه، فأما المنشئ للسفر من بلده فليس بابن سبيل؛ لأن السبيل الطريق، وابنها الملازم لها الكائن فيها، والقاطن في بلده ليس بمسافر، ولا له حكم المسافر. فإن كان هذا فقيراً أعطي لفقره، وإلا فلا. ومن كان سفره لمعصية فهل يدفع إليه بعد التوبة ما يرجع به؟ على وجهين، كما ذكرنا فيمن غرم لمعصية. فصل: ولا يدفع إلى واحد منهم أكثر مما يدفع به حاجته، فلا يزاد الفقير والمسكين على ما يغنيهما، ولا العامل على أجرته، ولا المؤلفة على ما يحصل به التأليف، ولا الغارم والمكاتب على ما يقضي دينهما، ولا الغازي على ما يحتاج إليه لغزوه، ولا ابن السبيل على ما يوصله بلده؛ لأن الدفع لحاجة، فوجب أن يتقيد بها، وإن اجتمع في واحد سببان كالغارم الفقير دفع إليه بهما؛ لأن كل واحد منهما سبب للأخذ، فوجب أن يثبت حكمه حيث وجد. فصل: وأربعة يأخذون أخذاً مستقراً لا يرجع عليهم بشيء الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة، وأربعة يأخذون أخذاً مراعى، الرقاب والغارمون والغزاة وابن السبيل، إن صرفوه فيما أخذوا له، وإلا استرجع منهم. وإن فضل مع المكاتب شيء بعد أداء كتابته أو مع الغارم بعد قضاء غرمه، أو مع الغازي بعد غزوه، أو مع ابن السبيل بعد وصوله إلى بلده استرجع منهم وإن استغنوا عن الجميع ردوه، وإن عجز المكاتب رجع على سيده بما أخذ لأن الدفع إليهم لمعنى لم يوجد. وقال الخرقي: إذا عجز المكاتب ورد في الرق، وقد كان تصدق عليه بشيء فهو لسيده. وأربعة يأخذون مع الغنى؛ الغازي والعامل والغرم للإصلاح والمؤلفة؛ لأنهم يأخذون لحاجتنا إليهم. والحاجة توجد مع الغنى، وسائرهم لا يعطون إلا مع الفقر؛ لأنهم يأخذون لحاجتهم، فاعتبر ذلك فيهم، إلا أن ابن السبيل تعتبر حاجته في مكانه، وإن كان له مال في بلده؛ لأنه غير مقدور عليه، فهو كالمعدوم. ولا يستحب إعلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 الآخذ أنها زكاة إذا كان ظاهره الاستحقاق؛ لأن فيه كسر قلبه. قال أحمد: ولم يبلغه بها، يعني: لا يعلمه. فإن شك في استحقاقه أعلمه كما أعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجلين الجلدين. [ باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه ] وهم ستة أصناف: الكافر، لا يجوز الدفع إليه لغير التأليف، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» ، ولأنها مواساة تجب على المسلم فلا تجب للكافر كالنفقة. الثاني: المملوك؛ لأن ما يعطاه يكون لسيده، ولأن نفقته على سيده فهو غني بغناه. الثالث: بنو هاشم لا يعطون منها إلا لغزو أو حمالة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما الصدقة أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد وآل محمد» وسواء أعطوا حقهم من الخمس أو منعوه لعموم الخبر، ولأن منعهم لشرفهم، وشرفهم باق، فينبغي المنع. الرابع: مواليهم: وهم معتقوهم، فحكمهم حكمهم، لما روى أبو رافع، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصب منها، فانطلق إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله فقال: إنا لا تحل لنا الصدقة وإن مولى القوم منهم» وهذا حديث صحيح، ولأنهم ممن يرثهم بني هاشم بالتعصيب، فحرمت عليهم الصدقة كبني هاشم. وفي بني المطلب روايتان: إحداهما: تحل لهم؛ لأن المنع اختص بآل محمد وهم بنو هاشم فلا يلحق بهم غيرهم. والثاني: يحرم عليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك أصابعه» أخرجه البخاري [والحديث بتمامه أخرجه الشافعي في مسنده] . ولأنهم يستحقون من خمس الخمس فأشبهوا بني هاشم. الخامس: الغني، لا تحل له الزكاة سوى من ذكرنا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حظ فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 لغني ولا لقوي مكتسب» ، وقوله: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» وهذا حديث حسن. وفي ضابطه روايتان: إحداهما: أنه الكفاية على الدوام، إما بصناعة أو مكسب أو أجرة أو نحوه. اختارها أبو الخطاب وابن شهاب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث قبيصة: «فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سدادا من عيش» مد إباحة المسألة إلى حصول الكفاية، ولأن الغنى ضد الحاجة وهي تذهب بالكفاية، وتوجد مع عدمها. والثانية: أنه الكفاية أو ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب، لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشاً أو خدوشاً أو كدوحاً في وجهه، فقيل: يا رسول الله ما الغنى؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. فعلى هذه الرواية: إن كان له عيال فله أن يأخذ لكل واحد من عياله خمسين، نص عليه. ولو ملك عروضاً تكثر قيمتها لا تقوم بكفايته؛ جاز الأخذ رواية واحدة، وإذا كان للمرأة زوج غني فهي غنية؛ لأن كفايتها واجبة عليه وجوباً متأكداً، فأما من تجب نفقته على نفسه فله الأخذ من الزكاة؛ لأن استحقاقه للنفقة مشروط بفقره، فيلزم من وجوبها له وجود الفقر، بخلاف نفقة الزوجة، ولأن وجوبها بطريق الصلة والمواساة بخلاف غيرها. السادس: من تلزمه مؤنته: كزوجته ووالديه وإن علوا، وأولاده وإن سفلوا، الوارث منهم وغيره، ولا يجوز الدفع إليهم؛ لأن في دفعها إليهم إغناء لهم عن نفسه، فكأنه صرفها إلى نفسه، وفيمن يرثه غير عمودي نسبه روايتان: إحداهما: لا يدفع إليه؛ لأن الله تعالى أوجب نفقته عليه بقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . والثانية: يجوز لأنه ممن تقبل شهادته له، فجاز الدفع إليه، كالأجانب فإن كان محجوباً عن ميراثه، أو من ذوي الأرحام جاز الدفع إليه، وإن كان شخصان يرث أحدهما صاحبه دون الآخر كالعمة مع ابن أخيها فللموروث دفع زكاته إلى الوارث؛ لأنه لا يرثه، وفي دفع الوارث زكاته إلى موروثه الروايتان. وهل للمرأة، دفع زكاتها إلى زوجها؟ على روايتين: إحدهما: يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لزينب امرأة ابن مسعود: «زوجك وولدك أحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 من تصدقت به عليهم» رواه البخاري، ولأنه لا تلزمها نفقته فلم تحرم عليه زكاتها كالأجنبي. والثانية: لا يجوز؛ لأنها تنتفع بدفعها إليه، لوجوب نفقتها عليه، وتبسطها في ماله عادة فلم يجز دفعها إليه كالولد. فصل: ويجوز لكل واحد من هؤلاء الأخذ من صدقة التطوع؛ لأن محمد بن علي كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، وقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة. ويجوز لفقراء ذوي القربى الأخذ من وصايا الفقراء والنذور؛ لأنها صدقة تطوع بها، وفي أخذهم من الكفارة وجهان. وعنه: منعهم من صدقة التطوع، لعموم الخبر. والأول أظهر، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل معروف صدقة» حديث صحيح. ويجوز اصطناع المعروف إليهم. وروى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل ابتاعها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين إلى الغني» رواه أبو داود. ولو أهدى المسكين مما تصدق به عليه إلى الهاشمي حل له؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل مما تصدق به على أم عطية نسيبة وقال: إنها قد بلغت محلها» . متفق عليه. فصل: وإذا دفع رب المال الصدقة إلى غني يظنه فقيراً ففيه روايتان: إحداهما: لا يجزئه؛ لأنه دفعها إلى غير مستحقها، فأشبه دفع الدين إلى غير صاحبه. والثانية: يجزئه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكتفى بالظاهر لقوله للرجلين: «إن شئتما أعطيتكما منها ولا حظ فيها لغني» ، وهذا يدل على أنه يجزئ، ولأن الغنى يخفى فاعتبار حقيقته يشق، ولهذا قال الله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] . وإن بان كافراً أو عبداً أو هاشمياً، لم تجزئه رواية واحدة؛ لأن حال هؤلاء لا تخفى فلم يعذر الدافع إليهم، بخلاف الغني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 فصل: وإذا تولى الرجل إخراج زكاته استحب أن يبدأ بأقاربه الذين يجوز الدفع إليهم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على ذي القربى صدقة وصلة» رواه الترمذي والنسائي. ويخص ذوي الحاجة؛ لأنهم أحق، ومن مات وعليه زكاة ودين لا تتسع تركته لهما، قسمت بينهما بحصصهما؛ لأنهما تساويا في الوجوب فتساويا في القضاء. [ باب صدقة التطوع ] وهي مستحبة، لقول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» متفق عليه. وصدقة السر أفضل لقول الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271] ، وجاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن صلة الرحم تزيد في العمر وصدقة السر تطفئ غضب الرب» رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. والأفضل الصدقة على ذي الرحم للخبر، ولقول الله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] ، والصدقة في أوقات الحاجة أكثر ثواباً للآية، وكذلك على من اشتدت حاجته، لقول الله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] والصدقة في الأوقات الشريفة كرمضان، وفي الأماكن الشريفة تضاعف كما يضاعف غيرها من الحسنات، والنفقة في سبيل الله تضاعف سبعمائة ضعف، لقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فصل: ومن عليه دين، لا يجوز أن يتصدق صدقة تمنع قضاءها؛ لأنه واجب فلم يجز تركه، ولا يجوز تقديمها على نفقة العيال؛ لأنها واجبة، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» رواه أبو داود. وروى أبو هريرة قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصدقة، فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي دينار فقال: تصدق على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر» رواه أبو داود. فإن وافقه عياله على الإيثار فهو أفضل، لقول الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصدقة جهد من مقل إلى فقير في السر» رواه أبو داود [ولم يذكر (إلى فقير في السر) ] ، ومن أراد الصدقة بكل ماله، وكان يعلم من نفسه حسن التوكل وقوة اليقين والصبر عن المسألة، أو كان له مكسب يقوم به فذلك أفضل له وأولى به؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تصدق بكل ماله، فروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتصدق، فوافق مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: أبقيت لهم مثله. فأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أبقيت لأهلك؟ فقال: الله ورسوله، فقلت لا أسابقك إلى شي أبداً» ، وإن لم يثق من نفسه بهذا كره له، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» رواهما أبو داود. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد: «إنك أن تدع أهلك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس» متفق عليه. ويكره لمن لا صبر له على الإضاقة أن ينقص نفسه عن الكفاية التامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 [ كتاب الصيام ] صيام رمضان أحد أركان الإسلام وفروضه، لقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] الآيات، وعن أبي هريرة قال: «بينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً بارزاً للناس إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما الإسلام؟ قال أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» متفق عليه. ولا يجب إلا بشروط أربعة: الإسلام، فلا يجب على كافر أصلي ولا مرتد، والعقل، فلا يجب على مجنون، والبلوغ، فلا يجب على صبي لما ذكرنا في الصلاة، وقال بعض أصحابنا: يجب على من أطاقه، لما روى عبد الرحمن بن أبي لبيبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان» ، ولأنه يعاقب على تركه، وهذا هو حقيقة الواجب والأول المذهب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ» رواه أبو داود ولأنه عبادة بدنية، فلم يلزم الصبي كالحج، وحديثهم مرسل، ثم يحمل على تأكيد الندب. كقوله: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» لكن يؤمر بالصوم إذا أطاقه ويضرب عليه ليعتاده كالصلاة، فإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أو بلغ صبي في أثناء الشهر؛ لزمهم صيام ما يستقبلونه؛ لأنهم صاروا من أهل الخطاب فيدخلون في الخطاب به ولا يلزمهم قضاء ما مضى؛ لأنه مضى قبل تكليفهم فلم يلزمهم قضاؤه كالرمضان الماضي، وإن وجد ذلك منهم في أثناء نهار؛ لزمهم إمساك بقيته وقضاؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وعنه: لا يلزمهم ذلك؛ لأنه نهار أبيح له فطر أوله ظاهرا وباطناً فلم يلزمهم إمساكه، كما لو استمر العذر، ولأنهم لم يدركوا من وقت العبادة ما يمكنهم التلبس بها فيه، فأشبه ما لو زالت أعذارهم ليلاً، وظاهر المذهب الأول؛ لأنهم أدركوا جزءاً من وقت العبادة فلزمهم قضاؤها كما لو أدركوا جزءاً من وقت الصلاة، ويلزمهم الإمساك لحرمة رمضان كما لو قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار، وإن بلغ الصبي وهو صائم، لزمه إتمام صومه رواية واحدة؛ لأنه صار من أهل الوجوب فلزمه الإتمام. كما لو شرع في صيام تطوع ثم نذر إتمامه. وقال القاضي: ولا يلزمه قضاؤه لذلك. وقال أبو الخطاب: يلزمه القضاء كما لو بلغ في أثناء الصيام. فصل: الشرط الرابع: الإطاقة، فلا يجب على الشيخ الذي يجهده الصيام، ولا المريض المأيوس من برئه لقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وعليه أن يطعم لكل يوم مسكيناً لقول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] . قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما لا يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. رواه أبو داود. فإن لم يكن له فدية فلا شيء عليه، للآية الأولى. فصل: ومن لزمه الصوم لم يبح له تأخيره إلا أربعة: أحدها: الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما فلهما الفطر، وعليهما القضاء وإطعام مسكين لكل يوم لما ذكرنا من الآية، وإن أفطرتا خوفاً على أنفسهما فعليهما القضاء حسب كالمريض. الثاني: الحائض والنفساء لهما الفطر، ولا يصح منهما الصيام لما ذكرنا في باب الحيض، والنفاس كالحيض فنقيسه عليه، ومتى وجد ذلك في جزء من اليوم أفسده، وإن انقطع دمها ليلاً فنوت الصوم، ثم اغتسلت في النهار؛ صح صومها؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنباً من جماع ثم يغتسل ويتم صومه» . متفق عليه، وهذه في معناه. الثالث: المريض له الفطر وعليه القضاء لقول الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . والمبيح للفطر: ما خيف من الصوم زيادته أو إبطاء برئه، فأما ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس والإصبع ونحوه فلا يبيح الفطر؛ لأنه لا ضرر عليه في الصوم، ومن أصبح صائماً فمرض في النهار فله الفطر؛ لأن الضرر موجود، والصحيح إذا خاف على نفسه لشدة عطش أو جوع، أو شبق يخاف أن تنشق أنثياه ونحو ذلك، فله الفطر ويقضي؛ لأنه خائف على نفسه، أشبه المريض، ومن فاته الصوم لإغماء فعليه القضاء؛ لأنه لا يزيل التكليف، ويجوز على الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - ولا تثبت الولاية على صاحبه، فهو كالمريض؛ ومن أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه؛ لأن الصوم الإمساك ولا ينسب ذلك إليه، وإن أفاق في جزء من النهار صح صومه، لوجود الإمساك فيه، وإن نام جميع النهار صح صومه؛ لأن النائم في حكم المنتبه، لكونه ينتبه إذا نبه، ويجد الألم في حال نومه. الرابع: السفر الطويل المباح يبيح الفطر، للآية، ولا يباح الفطر لغيره لما ذكرنا في القصر، ولا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره لما ذكرنا في القصر، وللمسافر أن يصوم ويفطر، لما روى حمزة بن عمر الأسلمي أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أصوم في السفر؟ قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» متفق عليه. والفطر أفضل: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس من البر الصوم في السفر» متفق عليه. ولأنه من رخص السفر المتفق عليها، فكان أفضل كالقصر. ولو تحمل المريض والحامل والمرضع الصوم، كره لهم وأجزأهم؛ لأنهم أتوا بالأصل فأجزأهم كما لو تحمل المريض الصلاة قائماً. ومن سافر في أثناء النهار أبيح له الفطر، لما روي عن أبي بصرة الغفاري، أنه ركب في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع، ثم قرب غداه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفر. ثم قال: اقترب قيل: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأكل. رواه أبو داود. ولأنه مبيح للفطر فأباحه في أثناء النهار كالمرض. وعنه: لا يباح؛ لأنها عبادة لا تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة، وإن نوى الصوم في سفره فله الفطر لذلك، ولما روى جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه. فقيل: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناساً صاموا فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 أولئك العصاة» رواه مسلم، وله أن يفطر بما شاء. وعنه: لا يفطر بالجماع، فإن أفطر به ففي الكفارة روايتان: أصحهما: لا تجب؛ لأن الصوم لا يجب المضي فيه، فأشبه التطوع، وإذا قدم المسافر وبرئ المريض وهما صائمان لم يبح لهما الفطر؛ لأنه زال عذرهما قبل الترخص أشبه القصر، فإن زال عذرهما أو عذر الحائض والنفساء وهم مفطرون ففي الإمساك روايتان، على ما ذكرنا في الصبي ونحوه. ومن أبيح له الفطر لم يكن له أن يصوم غير رمضان، فإن نوى ذلك لم يصح؛ لأنه لم ينو رمضان ولا يصح الزمان لسواه. فصل: ولا يجب صوم رمضان إلا بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان ثلاثين يوماً؛ لأنه تيقن به دخول رمضان، ورؤية الهلال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» متفق عليه. ويقبل فيه شهادة الواحد وعنه: لا يقبل فيه إلا شهادة اثنين، لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين فإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا» رواه النسائي. وقال أبو بكر: إن كان الرأي في جماعة لم يقبل إلا شهادة اثنين؛ لأنهم يعاينون ما عاينه، وإن كان في سفر فقدم، قبل قوله وحده، وظاهر المذهب: الأول. اختاره الخرقي وغيره لما روى ابن عمر قال: «تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام» . رواه أبو داود. ولأنه خبر فيما طريقه المشاهدة يدخل به في الفريضة فقبل من واحد، كوقت الصلاة، والعبد كالحر؛ لأنه ذكر من أهل الرواية والفتيا، فأشبه الحر. وفي المرأة وجهان: أحدهما: يقبل قولها؛ لأنه خبر ديني فقبل خبرها به كالرواية. والثاني: لا يقبل؛ لأن طريقه الشهادة ولهذا لا يقبل فيه شاهد الفرع مع إمكان شاهد الأصل، ويطلع عليه الرجال فلم يقبل بالمرأة المنفردة، كالشهادة بهلال شوال. الثالث: أن يحول دون مطلع الهلال ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر، وفيه ثلاث روايات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 إحداهن: يجب الصيام، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له» . متفق عليه. يعني: ضيقوا له العدة من قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي ضيق عليه، وتضييق العدة له أن يحسب شعبان تسعة وعشرين يوماً، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا حال دون مطلعه غيم أو قتر أصبح صائماً، وهو راوي الحديث وعمله به تفسير له. والثانية: لا يصوم، لقوله في الحديث الآخر: «فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين يوماً» حديث صحيح. وقال عمار: «من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، حديث صحيح. ولأنه شك في أول الشهر، فأشبه حال الصحو. الثالثة: الناس تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون» رواه أبو داود. فصل: وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم؛ لأنه ثبت ذلك اليوم من رمضان، وصومه واجب بالنص والإجماع، ومن رأى الهلال فردت شهادته لزمه الصوم، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صوموا لرؤيته» فإن أفطر يومئذ بجماع فعليه القضاء والكفارة؛ لأنه أفطر يوماً من رمضان بجماع تام فلزمته كفارة، كما لو قبلت شهادته. ولا يجوز الفطر إلا بشهادة عدلين، لحديث عبد الرحمن بن زيد، ولأنها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة، فلم يقبل فيه الواحد كسائر الشهور، ولا تقبل فيها شهادة رجل وامرأتين لذلك، ولا يفطر إذا رآه وحده لما روي أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال، وقد أصبح الناس صياماً فأتيا عمر فذكرا ذلك له، فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر. قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال. وقال الآخر: أنا صائم. قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام. فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا لأوجعت رأسك، رواه سعيد. ولأنه محكوم به من رمضان، أشبه الذي قبله، فإذا صام الناس بشهادة اثنين ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال أفطروا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين ثم أفطروا» حديث حسن. وإن صاموا لأجل الغيم فلم يروا الهلال لم يفطروا؛ لأنهم إنما صاموا احتياطاً للصوم، فيجب الصوم في آخره احتياطاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وإن صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال ففيه وجهان: أحدهما: لا يفطرون، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا» ولأنه فطر يستند إلى شهادة واحد فلم يجز، كما لو شهد بهلال شوال. والثاني: يفطرون؛ لأن الصوم ثبت فوجب الفطر باستكمال العدة تبعاً وقد ثبت تبعاً ما لا يثبت أصلاً بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء أصلاً، ويثبت بها الولادة ثم يثبت النسب للفراش على وجه التبع للولادة. فصل: ومن كان أسيراً، أو في موضع لا يمكنه معرفة الشهور بالخبر فاشتبهت عليه الشهور فإنه يصوم شهراً بالاجتهاد؛ لأنه اشتبه عليه وقت العبادة فوجب العمل بالتحري، كمن اشتبه عليه وقت الصلاة، فإن لم ينكشف الحال فصومه صحيح؛ لأنه أدى فرضه باجتهاده، أشبه المصلي يوم الغيم، وإن انكشف الحال فبان أنه وافق الشهر أجزأه؛ لأنه أصاب في اجتهاده، وإن وافق بعده أجزأه؛ لأنه وقع قضاء لما وجب عليه فصح، كما لو علم، وإن بان قبله لم يجزئه لأنه صام قبل الخطاب، أشبه المصلي قبل الوقت، وإن صام بغير اجتهاد، أو غلب على ظنه أن الشهر لم يدخل فصام لم يجزئه وإن وافق؛ لأنه صام مع الشك فأشبه المصلي شاكاً في أول الوقت. فصل: ووقت الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، لقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق» حديث حسن. وعن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس أفطر الصائم» متفق عليه، ويجوز الأكل والشرب إلى الفجر للآية والخبر. وإن جامع قبل الفجر ثم أصبح جنباً صح صومه؛ لأن الله تعالى لما أذن في المباشرة إلى الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يصوم جنباً. وقد روت عائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم» . متفق عليه. وإن أصبح وفي فيه طعام أو شراب فلفظه لم يفسد صومه وإن طلع الفجر وهو مجامع فاستدام فعليه القضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 والكفارة؛ لأن استدامة الجماع جماع، وإن نزع فكذلك في اختيار ابن حامد والقاضي؛ لأن النزع جماع كالإيلاج. وقال أبو حفص: لا قضاء عليه ولا كفارة؛ لأنه تارك للجماع، وما علق على فعل شيء لا يتعلق على تركه. وإن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه؛ لأن الأصل بقاء الليل، وإن أكل شاكاً في غروب الشمس بطل صومه؛ لأن الأصل بقاء النهار. [ باب النية في الصوم ] لا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام الواجب إلا بنية من الليل لكل يوم، لما روت حفصة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» رواه أبو داود، ولأنه صوم مفروض فاعتبرت فيه النية، من الليل لكل يوم كالقضاء ونحوه، وعنه: تجزئه النية في أول رمضان لجميعه؛ لأنه عبادة واحدة، والأول: المذهب؛ لأن كل يوم عبادة منفردة لا يتصل بالآخر، ولا يفسد أحدهما الآخر فأشبه أيام القضاء، وفي أي وقت من الليل نوى أجزأه للخبر. ولأن الليل محل النوم فتخصيص النية بجزء منه يفوت الصوم، ومن أكل وشرب بعد النية، لم تبطل نيته لأن إباحة الأكل والشرب إلى الفجر دليل على أن نيته لم تفسد به. فصل: ويجب تعيين النية لكل صوم يوم واجب، وهو أن يعتقد أنه صائم غداً من رمضان، أو من كفارته أو من نذره. وعنه: لا يجب تعيين النية لرمضان؛ لأنه يراد للتمييز، وزمن رمضان متعين له لا يحتمل سواه، والأولى أصح؛ لأنه صوم واجب فافتقر إلى التعيين كالقضاء، فلو نوى ليلة الشك إن كان غداً من رمضان فهو فرض وإلا فهو نفل، أو نوى نفلاً أو أطلق النية، صح عند من لم يوجب التعيين؛ لأنه نوى الصوم ونيته كافية، ولا يصح عند من أوجبه؛ لأنه لم يجزم به والنية عزم جازم. وإن نوى إن كان غداً من رمضان فأنا صائم وإلا فلا، لم يصح على الروايتين؛ لأنه شك في النية لأصل الصوم، ولا يفتقر مع التعيين إلى نية الفرض؛ لأنه لا يكون رمضان إلا فرضاً، وقال ابن حامد: يحتاج إلى ذلك لأن رمضان للصبي نفل، ومن نوى الخروج من صوم الفرض أبطله؛ لأن النية شرط في جميعه، فإذا قطعها في أثنائه خلا ذلك الجزء عن النية ففسد الكل لفوات الشرط. فصل: ويصح صوم التطوع بنية من النهار، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا. قال: إني إذا صائم» رواه مسلم، ولأن في تجويز ذلك تكثيراً للصيام؛ لأنه قد تعرض له النية من النهار فجاز، كما سومح في ترك القيام والاستقبال في النافلة لذلك، وفي أي وقت نوى من النهار أجزأه في ظاهر كلام الخرقي؛ لأنه نوى في النهار، أشبه ما قبل الزوال. واختار القاضي أنه يجزئ بنية بعد الزوال؛ لأن النية لم تصحب العبادة في معظمها، أشبه ما لو نوى مع الغروب. قال أحمد: من نوى التطوع من النهار كتب له بقية يومه، وإذا أجمع من الليل كان له يومه. فظاهر هذا أنه إنما يحكم له بالصيام من وقت نيته لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى» . وقال أبو الخطاب: يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من أول النهار؛ لأن صوم بعضه لا يصح. [ باب ما يفسد الصوم وما يوجب الكفارة ] يحرم على الصائم الأكل والشرب للآية والخبر، فإن أكل أو شرب مختاراً ذاكراً لصومه أبطله؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم لغير عذر، سواء كان غذاء أو غير غذاء كالحصاة والنواة لأنه أكل. وإن استعط أفسد صومه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» رواه أبو داود وهذا يدل على أنه يفسد الصوم إذا بالغ فيه بحيث يدخل إلى خياشيمه. وإن أوصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان، أو إلى دماغه مثل أن احتقن أو داوى جائفة بما يصل جوفه، أو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه بما يصل جوفه، أو قطر في أذنيه فوصل إلى دماغه، أو داوى مأمومة بما يصل إليه؛ أفطر؛ لأنه إذا بطل بالسعوط دل على أنه يبطل بكل واصل من أي موضع كان، ولأن الدماغ أحد الجوفين فأبطل الصوم ما يصل إليه كالآخر. وإن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه أفطر؛ لأن العين منفذ، لذلك يجد المكتحل مرارة الكحل في حلقه، ويخرج أجزاؤه في نخاعته، وإن شك في وصوله لكونه يسيراً كالميل ونحوه ولم يجد طعمه لم يفطر، نص عليه، وإن زرق في إحليله شيئاً أو أدخل ميلاً لم يبطل صومه؛ لأن ما يصل المثانة، لا يصل إلى الجوف ولا منفذ بينهما، إنما يخرج البول رشحاً فهو بمنزلة ما لو ترك في فيه شيئاً، وإن ابتلع ما بين أسنانه أفطر؛ لأنه واصل من خارج يمكن التحرز عنه فأشبه اللقمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 فصل: وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع ريقه، وغربلة الدقيق، وغبار الطريق والذبابة تدخل في حلقه، لا يفطره؛ لأن التحرز منه لا يدخل تحت الوسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإن جمع ريقه ثم ابتلعه لم يفطر؛ لأنه يصل من معدته، أشبه ما لو لم يجمعه. وفيه وجه آخر: أنه يفطره، لإمكان التحرز منه. وإن ابتلع النخامة ففيها روايتان: إحداهما: يفطر لأنها من غير الفم، أشبه القيء. والثانية: لا يفطر لأنها لا تصل من خارج وهي معتادة في الفم، أشبه الريق. ومن أخرج ريقه من فمه ثم ابتلعه، أو بلع ريق غيره أفطر؛ لأنه بلعه من غير فمه، أشبه ما لو بلع ماء، ومن أخرج درهماً من فمه ثم أدخله وبلع ريقه لم يفطر؛ لأنه لا يتحقق ابتلاع البلل الذي كان عليه، ولذلك لا يفطر بابتلاع ريقه بعد المضمضة والتسوك بالعود الرطب، ولا بإخراج لسانه ثم إعادته. ولو سال فمه دماً أو خرج إليه قلس أو قيء فازدرده أفطر؛ لأن الفم في حكم الظاهر، وإن أخرجه ثم ابتلع ريقه ومعه شيء من المنجس أفطر وإلا فلا. فصل: ومن استقاء عمداً أفطر، ومن ذرعه فلا شيء عليه لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقى عمداً فليقض» حديث حسن. وإن حجم أو احتجم أفطر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحد عشر نفساً، وقال أحمد: حديث ثوبان وشداد بن أوس صحيحان. فصل: وتحرم عليه المباشرة للآية، فإن باشر فيما دون الفرج، أو قبل أو لمس فأنزل فسد صومه، فإن لم ينزل لم يفسد، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً قبلت وأنا صائم قال: أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم قلت: لا بأس قال: فمه؟» رواه أبو داود. شبه القبلة بالمضمضة لأنها من مقدمات الشهوة، والمضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر كذلك القبلة، ولو احتلم لم يفسد صومه؛ لأنه يخرج عن غير اختياره. وإن جامع ليلاً فأنزل نهاراً لم يفطر؛ لأن مجرد الإنزال لا يفطر كالاحتلام، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 كرر النظر فأنزل أفسد صومه؛ لأنه إنزال عن فعل في الصوم أمكن التحرز عنه، أشبه الإنزال باللمس، وإن صرف بصره فأنزل لم يفطر لأنه لا يمكن التحرز عنه وإن أنزل بالفكر لم يفطر لذلك، وإن استمنى بيده فأنزل أفطر؛ لأنه إنزال عن مباشرة أشبه القبلة، وسواء في هذا كله المني والمذي؛ لأنه خارج تخلله الشهوة انضم إلى المباشرة به فأفطر به كالمني، إلا في تكرار النظر لا يفطر، إلا بإنزال المني في ظاهر كلامه؛ لأنه ليس بمباشرة. فصل: وما فعل من هذا ناسياً لم يفطره، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أكل أحدكم أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» متفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 عليه، وفي لفظ: «فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله تعالى» فنص على الأكل والشرب، وقسنا عليه سائر ما ذكرناه، وإن فعله مكرهاً لم يفطر، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء» فنقيس عليه ما عداه، وإن فعله وهو نائم لم يفطر؛ لأنه أبلغ في العذر من الناسي، وإن فعله جاهلاً بتحريمه أفطر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» في حق رجلين رآهما يفعلان ذلك مع جهلهما بالتحريم، ولأنه نوع جهل فلم يعذر به، كالجهل بالوقت، وذكر أبو الخطاب أنه لا يفطر؛ لأن الجهل عذر يمنع [التأثيم] فيمنع الفطر كالنسيان، وإن تمضمض أو استنشق فدخل الماء حلقه لم يفطر؛ لأنه واصل بغير اختياره ولا تعديه فأشبه الذباب الداخل حلقه وإن بالغ فيهما فوصل الماء ففيه وجهان: أحدهما: لا يفطر؛ لأنه بغير اختياره. والثاني: يفطر لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنه لقيط بن صبرة، حفظاً للصوم، فدل على أنه يفطره؛ لأنه تولد بسبب منهي عنه، فأشبه الإنزال عن مباشرة، وإن زاد على الثلاث فيهما فوصل الماء فعلى الوجهين. وإن أكل يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب، أو أن الفجر لم يطلع وقد طلع، أفطر، لما روي عن حنظلة. قال: كنا بالمدينة في رمضان وفي السماء سحاب، فظننا أن الشمس قد غابت فأفطر بعض الناس، ثم طلعت الشمس، فقال عمر: من أفطر فليقض يوماً مكانه رواه سعيد بن منصور. ولأنه أكل ذاكراً مختاراً فأفطر، كما لو أكل يظن أن اليوم من شعبان فبان من رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 فصل: وعلى من أفطر القضاء لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استقاء فليقض» ولأن القضاء يجب مع العذر فمع عدمه أولى، وعليه إمساك سائر يومه لأنه أمر به في جميع النهار فمخالفته في بعضه لا تبيح المخالف في الباقي. ولو قامت البينة بالرؤية بعد فطره فعليه القضاء والإمساك لذلك. ولا تجب الكفارة بغير الجماع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر بها المحتجم ولا المستقيء، ولأن الإيجاب في الشرع ولم يرد بها إلا في الجماع، وليس غيره في معناه؛ لأنه أغلظ، ولهذا يجب به الحد في ملك الغير، والكفارة العظمى في الحج، ويفسده دون سائر محظوراته، ويتعلق به اثنا عشر حكماً. فصل: ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل فعليه القضاء والكفارة، لما روى أبو هريرة «أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا، قال: فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينا نحن على ذلك أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعذق فيه تمر فقال: أين السائل خذ هذا فتصدق به فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أنيابه فقال: أطعمه أهلك» متفق عليه. وسواء في هذا وطء الزوجة والأجنبية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 والحية والميتة، والآدمية والبهيمة، والقبل والدبر؛ لأنه وطء في فرج موجب للغسل أشبه وطء الزوجة، ولأنه إذا وجب التفكير بالوطء في المحل المملوك ففيما عداه أولى، ويحتمل أن لا تجب الكفارة بوطء البهيمة لأنه محل لا يجب الحد بالوطء فيه أشبه غير الفرج، وفي الجماع دون الفرج إذا أنزل روايتان: إحداهما: تجب به الكفارة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل السائل عن الوقاع. والثانية: لا تجب؛ لأنه مباشرة لا يفطر بغير إنزال فأشبه القبلة، ولا يصح قياسه على الوطء في الفرج، لما بينهما من الفرق، وإنما لم يستفصله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه فهم منه الوقاع في الفرج، بدليل ترك الاستفصال عن الإنزال. وتجب الكفارة على الناسي والمكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل السائل عن حاله، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا غيره. فيدخل فيه الإكراه والنسيان، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه النسائي. وقياساً على سائر المفطرات. وقال ابن عقيل: إن كان الإكراه إلجاء. مثل أن استدخلت ذكره وهو نائم أو مغلوب على نفسه. فلا كفارة عليه؛ لأنه لا فعل له. وفي فساد صومه احتمالان، وإن كان بالوعيد ونحوه فعليه القضاء؛ لأن الانتشار من فعله ولا كفارة عليه لعذره. فصل: وفي وجوب الكفارة على المرأة روايتان: إحداهما: تجب؛ لأنها إحدى المتواطئين فلزمتها الكفارة كالرجل. والثانية: لا تلزمها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر امرأة المواقع بكفارة، ولأنه حق مال يتعلق بالوطء من بين جنسه فاختص بالرجل كالمهر. فإن كانت ناسية أو مكرهة فلا كفارة عليها رواية واحدة؛ لأنها تعذر بالعذر في الوطء ولذلك لا تحد إذا أكرهت على الزنا بخلاف الرجل، والحكم في فساد صومها كالحكم في الرجل المعذور، ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان، لعدم حرمة الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فصل: ومن لزمه الإمساك في رمضان فعليه الكفارة بالوطء وإن كان مفطراً لأنه وطء يحرم بحرمة رمضان فوجبت به الكفارة كوطء الصيام ومن جامع وهو صحيح مقيم ثم مرض أو جن أو سافر؛ لم تسقط الكفارة عنه؛ لأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تام فوجبت الكفارة وجوباً مستمراً، كما لو لم يطرأ عذر. وإن وطئ ثم وطئ قبل التكفير في يوم واحد فعليه كفارة واحدة بلا خلاف؛ لأنها عبادة تكرر الوطء فيها قبل التكفير فلم تجب أكثر من كفارة كالحج، وإن كان ذلك في يومين ففيه وجهان: أحدهما: تجزئه كفارة واحدة لأنه جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فتداخلا كالحدود وكالتي قبلها. والثاني: تلزمه كفارتان اختاره القاضي؛ لأنه أفسد صوم يومين بجماع فوجبت كفارتان كما لو كانا في رمضانين، فإن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة وجهاً واحداً؛ لأنه تكرر السبب بعد استيفاء حكم الأول فوجب أن يثبت للثاني حكمه كسائر الكفارات. فصل: والكفارة عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً للخبر. وعنه: أنها على التخيير بين الثلاثة، لما روي عن أبي هريرة «أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً» . رواه مسلم ومالك في " الموطأ ". و" أو " للتخيير، والأول المذهب؛ لأن الحديث الأول أصح وهو متضمن للزيادة، وإن عجز عن الأصناف كلها سقطت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الذي أخبره بحاجته إليها بأكلها، ويحتمل أن لا تسقط؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إليه المكتل وأمره بالتكفير بعد إخباره بعجزه، والأول أولى؛ لأن الإسقاط آخر الأمرين فيجب تقديمه. [ باب قضاء رمضان ] باب القضاء يجوز تفريق قضاء رمضان، لقول الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وهذا مطلق يتناول المتفرق، وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن المنكدر أنه قال: بلغني «أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن تقطيع قضاء رمضان، فقال: لو كان على أحدكم دين فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضياً دينه؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم» رواه الدارقطني بنحوه والمتتابع أحسن؛ لأنه أشبه بالأداء وأبعد من الخلاف، ويجوز له تأخيره ما لم يأت رمضان آخر؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لقد كان يكون علي الصيام من رمضان فما أقضيه حتى يجيء شعبان. متفق عليه، ولا يجوز تأخيره أكثر من ذلك لغير عذر؛ لأنه لو جاز لأخرته عائشة، ولأن تأخيره غير مؤقت، إلحاقاً لها بالمندوبات، فإن أخره لعذر فلا شيء عليه؛ لأن فطر رمضان يباح للعذر فغيره أولى، وسواء مات أو لم يمت؛ لأنه لم يفرط في الصوم فلم يلزمه شيء، كما لو مات في رمضان، وإن أمكنه القضاء فلم يقض حتى جاء رمضان آخر قضى وأطعم عن كل يوم مسكيناً؛ لأن ذلك يروى عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن تأخير القضاء عن وقته إذا لم يوجب قضاء أوجب كفارة، كالشيخ الهرم وإن فرط فيه حتى مات قبل رمضان آخر، أطعم عنه عن كل يوم مسكين؛ لأن ذلك يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وإن مات المفرط بعد أن أدركه رمضان آخر فكفارة واحدة عن كل يوم يجزئه، نص عليه؛ لأن الكفارة الواحدة أزالت تفريطه فصار كالميت من غير تفريط. وقال أبو الخطاب: عليه لكل يوم فقيران لأن كل واحد يقتضي كفارة، فإذا اجتمعا وجب بهما كفارتان، كالتفريط في يومين. ويجوز لمن عليه قضاء رمضان التطوع بالصوم؛ لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع بها في وقتها قبل فعلها كالصلاة، وعنه: لا يجوز؛ لأنها عبادة يدخل في جبرانها المال فلم يجز التطوع بها قبل فرضها كالحج، والأول أصح؛ لأن الحج يجب على الفور، بخلاف الصيام، ولا يكره قضاؤه في عشر ذي الحجة؛ لأن عمر كان يستحب القضاء فيها، ولأنها أيام عبادة لا يكره القضاء فيها كعشر المحرم، وعنه: يكره؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كرهه، ولأن العبادة فيها أحب الأعمال إلى الله تعالى فاستحب توفيرها على التطوع. [ باب ما يستحب وما يكره للصائم ] باب ما يستحب وما يكره ينبغي للصائم أن يحرس صومه عن الكذب والغيبة والشتم والمعاصي، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم قلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم» متفق عليه، ويستحب للصائم السحور، لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «تسحروا فإن في السحور بركة» متفق عليه ويستحب تأخير السحور وتعجيل الفطر، لما روى أبو ذر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تزال أمتي بخير ما أخروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 السحور وعجلوا الفطور» من المسند. ويستحب أن يفطر على رطب، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى ماء، لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء» ، وهذا حديث حسن، ولا بأس بالسواك؛ لأن عامر بن ربيعة قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» ، وهذا حديث حسن. وهل يكره بالعود الرطب، على روايتين: إحداهما: لا يكره؛ لأنه يروى عن عمر وعلي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. والأخرى: يكره؛ لأنه لا يأمن أن يتحلل منه أجزاء تفطره. فصل: وتكره القبلة لمن تحرك شهوته؛ لأنه لا يأمن إفضاءها إلى فساد صومه ومن لا تحرك شهوته فيه روايتان: إحداهما: يكره؛ لأنه لا يأمن من حدوث شهوة. والأخرى: لا يكره، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبل وهو صائم» متفق عليه لما كان أملك لإربه، وقد روي عن أبي هريرة «أن رجلاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المباشرة للصائم فرخص له، فأتاه آخر وسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ. والذي نهاه شاب» . رواه أبو داود، والحكم في اللمس وتكرار النظر كالحكم في القبلة؛ لأنهما في معناها. ويكره أن يذوق الطعام، فإن فعل فلم يصل إلى حلقه شيء لم يضره، وإن وصل شيء فطره، ويكره مضغ العلك القوي الذي لا يتحلل منه شيء، فأما ما يتحلل منه أجزاء يجد طعمها في حلقه فلا يحل مضغه، إلا أن لا يبلع ريقه، فإن بلعه فوجد طعمه في حلقه فطره، وإن وجد طعم ما لا يتحلل منه شيء في حلقه ففيه وجهان: أحدهما: يفطره كالكحل. والثاني: لا يفطره؛ لأن مجرد الطعم لا يفطر، كمن لطخ باطن قدميه بالحنظل فوجد مرارته في حلقه لم يفطره، ويكره الغوص في الماء لئلا يدخل مسامعه، فإن دخل فهو كالداخل من المبالغة في الاستنشاق؛ لأنه حصل بفعل مكروه، فأما الغسل فلا بأس به؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنباً ثم يغتسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 فصل: ويكره الوصال وهو أن يصوم يومين لا يفطر بينهما، لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تواصلوا قالوا: إنك تواصل. قال: إني لست كأحد منكم إني أُطعم وأُسقى» متفق عليه. فإن أخّر فطره إلى السحر جاز، لما روى أبو سعيد أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر» أخرجه البخاري. [ باب صوم التطوع ] وهو مستحب، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الله تعالى: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، الصيام جنة، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه» . متفق عليه، وأفضله ما روى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً» متفق عليه. ويستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لما روى أبو هريرة قال: «أوصاني خليلي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاث؛ صيام ثلاث أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» ، متفق عليه. ويستحب أن يجعلها أيام البيض، لما روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة» وهذا حديث حسن، ويستحب صوم الاثنين والخميس، لما روى أسامة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فسئل عن ذلك فقال: إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس» . رواه أبو داود. ويستحب الصيام في المحرم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم» رواه مسلم، وهذا حديث حسن. ويستحب صيام عشر ذي الحجة، لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من أيامٍ العملُ الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» وهذا حديث حسن صحيح. وصوم يوم عرفة كفارة سنتين وهو التاسع من ذي الحجة، وصوم عاشوراء كفارة سنة، وهو العاشر من المحرم، لما روى أبو قتادة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» وقال في صيام يوم عاشوراء: «إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده» رواه مسلم. ولا يستحب لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 بعرفة أن يصوم؛ ليتقوى على الدعاء؛ لما روى ابن عمر قال: «حججت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، فأنا لا أصومه ولا آمر به، ولا أنهى عنه» ، حديث حسن، ومن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال - وإن فرقها - فكأنما صام الدهر؛ لما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله» رواه مسلم. فصل: ويكره إفراد الجمعة بالصيام. لما روى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةَ إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ» متفق عليه. وإفراد يوم السبت بالصوم؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» وهذا حديث حسن صحيح. فإن صامهما معًا لم يكره لحديث أبي هريرة، ويكره إفراد أعياد الكفار بالصيام لما فيه من تعظيمها، والتشبه بأهلها، ويكره صوم الدهر؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل له: فكيف بمن صام الدهر؟ قال: «لا صام ولا أفطر» حديث حسن؛ ولأنه يشبه التبتل المنهي عنه. ويكره إفراد رجب بالصوم؛ لما فيه من تشبهه برمضان، وقد روي عن خرشة قال: رأيت عمر يضرب أكف الناس حتى يضعوها في الطعام. يعني في رجب. ويقول: إنما هو شهر كانت الجاهلية تعظمه، ثم يقول: صوموا منه، وأفطروا، وروى سعيد بن منصور أوله بمعناه، ولم يقل فيه: " صوموا منه وأفطروا ". وقال أصحابنا: يكره صوم يوم الشك وهو اليوم الذي يُشَكُّ فيه هل هو من شعبان أو من رمضان إذا كان صحوًا، ويحتمل أنه محرم؛ لقول عمار: «من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - رواه أبو داود والترمذي نحوه، وصححه والمعصية حرام. وكذلك استقبال رمضان باليوم واليومين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجلا كان يصوم صيامًا فليصمه» متفق عليه. وما وافق هذا كله عادة فلا بأس بصومه لهذا الحديث، وقد دل هذا الحديث بمفهومه على جواز التقدم بأكثر من يومين. وقد روي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَأَمْسِكُوا عَنِ الصِّيَامِ حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ» وهذا حديث صحيح، فيحمل الأول على الجواز، وهذا على نفي الفضيلة جمعًا بينهما. فصل: ويحرم صوم العيدين عن فرض أو تطوع، فإن صامهما فقد عصى ولم يجزآه عن فرض؛ لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فقال: «هذان يومان نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامهما، يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 تأكلون من نسككم.» متفق عليه، ولا يجوز صيام أيام التشريق؛ لما روى نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل» رواه مسلم. وفي صيامهما للفرض روايتان: إحداهما: يحرم لهذا الحديث. والثانية: يجوز لما روي عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي» رواه البخاري. وقسنا على صوم المتعة صوم كل فرض لأنه في معناه. فصل: ومن دخل في صيام تطوع فله الخروج منه، ولا قضاء عليه، وعنه: عليه القضاء؛ لأنه عبادة فلزمت بالشروع كالحج. والأول: المذهب؛ لما روت عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله، أهديت لنا هدية أو جاءنا زَوْرٌ، وقد خبأت لك شيئًا: قال ما هو؟ قلت: حيس، قال: هاتيه، فجئته به فأكل ثم قال: قد كنت أصبحت صائمًا» رواه مسلم؛ ولأن كل صوم لو أتمه كان تطوعًا؛ لا يلزمه إتمامه، وإن خرج منه لم يلزمه قضاؤه، كما لو اعتقده من رمضان فبان من شعبان، وإن كان الصوم مكروهًا، فالفطر منه مستحب؛ لما روي عن جويرية بنت الحارث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: «أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا، قال: فأفطري» متفق عليه، وسائر التطوعات من الصلاة، والاعتكاف وغيرهما كالصوم، إلا الحج والعمرة. وعنه: أن الصلاة أشد فلا يقطعها، ومال إليها أبو إسحاق والجوزجاني؛ لأن الصلاة ذات إحلال وإحرام، فأشبهت الحج، والأول المذهب؛ لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة والحج والعمرة يخالفان غيرهما؛ لأنه يمضي في فاسدهما فلا يصح القياس عليهما، ومن دخل في واجب كقضاء، أو نذر غير معين، أو كفارة؛ لم يجز له الخروج منه؛ لأنه تعين بدخوله فيه، فصار كالمتعين، فإن خرج منه لزمه أكثر مما كان عليه. فصل: ويستحب تحري ليلة القدر؛ لقول الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، وهي في رمضان؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أنزل فيها القرآن، وأنه أنزله في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 شهر رمضان، فيدل على أنها في رمضان. وأرجاه الوتر في ليالي العشر الأواخر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» وفي لفظ: «فاطلبوها في العشر الأواخر في الوتر منها» متفق عليه. وقال أبي بن كعب: إنها ليلة سبع وعشرين، «أخبرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها ليلة صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع. فعددنا وحفظنا» . هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم إلى قوله ((شعاع)) ، فهذا أصح علاماتها، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنها ليلة بلجة سمحة لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها» ، من " المسند "، وروى أبو سعيد عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «قد أُرِيتُ هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين، قال أبو سعيد: فأمطرت تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، فأبصرت عيناي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين.» متفق عليه، والحديثان يدلان على أنها تتنقل في ليالي الوتر من العشر؛ لأن كل واحد منهما يدل على وجود علامتها في ليلة، فينبغي أن يجتهد في ليالي الوتر من العشر كله، ويكثر من الدعاء لعله يوافقها، ويدعو بما روي «عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله إن وافقتها فبم أدعو؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» رواه الترمذي وقال: حديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 [ كتاب الاعتكاف ] وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه، وهو مستحب؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده.» متفق عليه، وليس بواجب؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعلوه، ولا أمروا به إلا من أراده، ويجب بالنذر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» رواه البخاري. فصل: ويصح من الرجال والنساء، وليس للمرأة أن تعتكف بغير إذن زوجها لأنه يملك استمتاعها فلا تملك تفويته بغير إذنه، وليس للعبد الاعتكاف بغير إذن سيده؛ لأنه يملك نفعه، فإن أذن لهما، صح منهما؛ لأن أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كن يعتكفن بإذنه، وإن شرعا فيه تطوعًا فلهما إخراجهما منه، وإن كان بإذنهما؛ لأنه لا يلزم بالشروع فيه، وإن كان منذورًا مأذونًا فيه؛ لم يجز إخراجهما منه سواء كان معينًا أو مطلقًا؛ لأنه يتعين بالشروع، ويجب إتمامه فلم يجز التحليل منه كالصوم، وإن كان النذر والدخول فيه بغير إذن، فلهما منعهما من ابتدائه، وإخراجهما منه بعد الشروع فيه؛ لأنه نذر يتضمن تفويت منافع مملوكة لغيرهما فأشبه نذر عارية عبد غيره. فصل: والمكاتب كالحر في الاعتكاف؛ لأنه لا حق للسيد في نفعه، ومن نصفه حر إن لم يكن بينهما مهايأة، فهو كالقن؛ لتعلق حق سيده بنفعه في زمن اعتكافه، وإن كان بينهما مهايأة فهو في زمن سيده كالقن، وفي زمن نفسه كالحر لعدم حق السيد فيه. فصل: ولا يصح إلا بنية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ؛ ولأنه عبادة محضة فأشبه الصوم، وإن كان فرضًا لزمه نية الفرضية؛ ليميزه عن التطوع كصوم الفرض. وإن نوى الخروج منه ففيه وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 أحدهما: يبطل كما لو قطع نية الصوم. والثاني: لا يبطل لأنه قربة تتعلق بمكان فلا يخرج منها بنية الخروج كالحج. فصل: ويصح بغير صوم، وعنه: لا يصح إلا به؛ لما روى ابن عمر «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: اعتكف وصم» رواه أبو داود. والمذهب الأول؛ لما روي عن عمر أنه قال: «يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوف بنذرك» متفق عليه. ولو كان الصوم شرطًا لم يصح في الليل منفردًا؛ ولأن كل عبادة صح بعضها بغير صوم صح جميعها بغيره كالحج، والأفضل الصوم؛ ليجمع بين العبادتين ويخرج من الخلاف، فعلى هذه الرواية يصح اعتكاف ليلة وبعض يوم، وعلى الأخرى لا يصح أقل من زمن يصح فيه الصوم. وإن نذر أن يعتكف بصوم؛ لزمه؛ لأنه صفة مقصودة في الاعتكاف فلزم بالنذر كالتتابع. فصل: ولا يصح من رجل ولا امرأة إلا في المسجد؛ لقول الله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأنها واجبة عليه فلا يجوز تركها، ولا كثرة الخروج الذي يمكن التحرز منه؛ والأفضل أن يعتكف في الجامع؛ لأن ثواب الجماعة فيه أكثر، ويصح من المرأة في جميع المساجد لعدم وجوب الجماعة عيها. ومن نذر الاعتكاف في مسجد بعينه، جاز الاعتكاف في غيره؛ لأن الله تعالى لم يعين لأداء الفرض موضعًا، فلم يتعين بالنذر إلا المساجد التي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى.» متفق عليه. فإنها تتعين بالنذر، فإن نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يجزئه الاعتكاف في غيره؛ لأنه أفضلها، وإن نذره في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاز أن يعتكف في المسجد الحرام لفضله عليه، ولم يجز في المسجد الأقصى؛ لأنه مفضول، وإن نذر الاعتكاف في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 المسجد الأقصى جاز له الاعتكاف فيهما؛ لأنهما أفضل منه، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» رواه مسلم. وفي " المسند " عن رجال من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن رجلاً قال يوم الفتح: يا نبي الله، إني نذرت لأصلين في بيت المقدس، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: والذي بعث محمدًا بالحق لو صليت هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس» . فصل: فإن عين بنذره زمنًا، تعين ولزمه أن يعتكف فيه؛ لأن الله تعالى عين لعباده زمنًا فتعين بالنذر، فإن نذر اعتكاف العشر الأواخر لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين، ويخرج منه بعد غروب شمس الشهر؛ لأن ذلك هو العشر، تامًا كان الشهر أو ناقصًا. وعنه: أنه يدخل معتكفه إذا صلى الصبح؛ لما روت عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الصبح، ثم يدخل معتكفه» ، متفق عليه. وإن نذر عشر ليالي من الشهر فخرج الشهر ناقصا لزمه قضاء ليلة عن العاشرة؛ لأنه صرح بذلك، وإن نذر اعتكاف شهر بعينه لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس من أوله، ويخرج منه بعد غروبها من آخره، تاماً كان الشهر أو ناقصاً؛ لأنه ذلك هو الشهر. وإن نذر اعتكاف شهر مطلق خير بين اعتكاف ما بين هلالين وبين اعتكاف ثلاثين يوماً بالعدد؛ لأن شهر العدد ثلاثون يوماً. ويلزمه التتابع؛ لأن الشهر بإطلاقه ينصرف إلى المتتابع فلزمه كما لو نذر يوماً. وفيه وجه آخر لا يلزمه التتابع؛ لأنه معنى يصح فيه التفريق فلم يجب التتابع فيه بمطلق النذر، كما لو نذر اعتكاف ثلاثين يوماً، ويدخل في نذره الليل والنهار؛ لأن الشهر عبارة عنهما، وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوما ًلم يلزمه التتابع؛ لأن الأيام المطلقة توجد بدون التتابع، والنذر يقتضي ما يتناوله لفظه. وقال القاضي: يلزمه التتابع لما ذكرنا في الشهر، فعلى قوله تدخل الليالي في نذره، وعلى الأول لا تدخل الليالي إلا أن ينويها أو يشترطها بلفظه؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار، والتثنية والجمع تكرار للواحد، فإن شرط التتابع لزمه ودخل في نذره الليالي التي فيه خلل الأيام، وكذلك إذا نذر الليالي متتابعة دخل في نذره الأيام التي في خللها؛ لأن ذلك يدخل في خلل نذره المتتابع فلزمه كأيام العشر، وإن نذر اعتكاف يوم؛ لزمه دخول معتكفه قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد مغيب الشمس ليستوفي اليوم يقيناً، ولا يجوز تفريق ذلك في ساعات؛ لأن اليوم اسم للكامل المتتابع، فإن قال: لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 تعالى علي أن أعتكف أيام هذا الشهر أو لياليه أو شهراً بالليل أو بالنهار؛ لزمه ما نذر ولم يدخل فيه ما سواه؛ لأنه إنما يلزمه بلفظه، فيجب ما يتناوله اللفظ. وإن نذر اعتكافاً معيناً متتابعاً ففاته؛ لزمه قضاؤه متتابعاً؛ لأن التتابع صفة فيه فلم يجز الإخلال بها في القضاء. وإن لم يقل: متتابعاً ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه التتابع؛ لأن الأداء متتابع فأشبه ما لو تلفظ بالتتابع. والثاني: لا يلزمه لأن التتابع في الأداء حصل ضرورة التعيين لا من نذره، فلم يجب في القضاء كقضاء رمضان، فإن لم يكن التتابع واجباً في الأداء لم يجب القضاء بطريق الأولى. فصل: ولا يجوز الخروج من المسجد إلا لما لا بد له منه؛ لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.» متفق عليه. ولا خلاف في جواز الخروج لحاجة الإنسان، وإن احتاج إلى مأكول أو مشروب وليس له من يأتيه به، فله الخروج إليه؛ لأنه مما لا بد له منه، وإن حضرت الجمعة وهو في غير موضعها فله الخروج إليها؛ لأنها واجبة بأصل الشرع فلم يجز تركها بالاعتكاف، كالوضوء، وإن دعي إلى إقامة شهادة تعينت عليه أو صلاة جنازة تعينت عليه أو دفنها أو حملها، فعليه الخروج لذلك؛ لأن وجوبه آكد لكونه حق آدمي، ولا يبطل اعتكافه بشيء من هذا ما لم يطل الزمان؛ لأنه خروج يسير مباح لم يبطل به الاعتكاف كحاجة الإنسان. فصل: وإذا خرج لذلك فليس عليه العجلة في مشيه أكثر من عادته؛ لأن ذلك يشق عليه، ويجوز أن يسأل على المريض أو غيره في طريقه ولا يعرج إليه ولا يقف؛ لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة.» متفق عليه. ولأنه بالوقوف يترك اعتكافه وبالسؤال لا يتركه، وإن احتاج إلى قضاء الحاجة وثم سقاية أقرب من منزله، وأمكنه التنظيف فيها، وهو ممن لا يحتشم من دخولها، ولا نقص عليه فيه؛ لم يكن له المضي إلى منزله؛ لأنه خروج لغير حاجة، وإن كان له منزلان فليس له قصد الأبعد لذلك، فإن خشي ضرراً أو نقصاً في مروءته، أو انتظاراً طويلاً، فله قصد منزله، وإن بعد، فإن بذل له صديق أو غيره الوضوء في منزله لم يلزمه؛ لأنه يحتشم ويشق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 فصل: ولا يخرج لعيادة مريض، ولا حضور جنازة لم تتعين عليه. وعنه: أنه يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس، ويقضي الحاجة ويعود إلى معتكفه لأن ذاك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والأولى أولى؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه» ، رواه أبو داود. ولكن إن كان متطوعاً فله ترك اعتكافه لفعل ذلك، ثم يعود إلى الاعتكاف، وإن كان واجباً لم يجز له تركه لما ليس بواجب، وإن شرط فعل ذلك في نذره فله فعله، وكذلك إن شرط العشاء في أهله، جاز؛ لأنه يجب بعقده فكان الشرط فيه إليه كالوقوف، وإن شرط أنه متى مرض أو عرض له عارض خرج، جاز شرطه لذلك، وإن شرط الوطء في اعتكافه أو الفرجة أو النزهة أو البيع للتجارة أو التكسب بالصناعة في المسجد؛ لم يصح شرطه؛ لأن هذا ينافي الاعتكاف فلم يصح شرطه كتركه الإقامة في المسجد. فصل: وإن خرج لما له منه بد، بطل اعتكافه. فإن كان ناسياً، فقال القاضي: لا يبطل لأنه فعل المنهي عنه في العبادة ناسياً فلم يبطلها كالأكل في الصوم، وقال ابن عقيل: يبطلها؛ لأنه ترك الاعتكاف فاستوى عمده وسهوه كترك النية، وحكم المكره حكم الناسي؛ لأنه في معناه في العفو بالخبر الوارد فيهما، وإن أخرج بعض جسده، جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف إلى عائشة فتغسله.» متفق عليه. وله صعود سطح المسجد لأنه منه، ولهذا منع الجنب من اللبث فيه. وفي رحبة المسجد ما يدل على روايتين، وجمع القاضي بينهما بحملهما على حالين فقال: إن كان عليها حائط وباب، فهي كالمسجد؛ لأنها معه تابعة له، وإن لم تكن محوطة لم يثبت لها حكمه، وإن خرج إلى منارة خارجة من المسجد بطل اعتكافه؛ لأنها ليست منه، قال أبو الخطاب: ويحتمل أن لا يبطل؛ لأن منارة المسجد كالمتصلة به. فصل: وإذا دعت الحاجة إلى ترك الاعتكاف لأمر لا بد منه كحيض المرأة أو نفاسها، أو وجوب الاعتداد عليها في منزلها، أو لمرض يتعذر معه الاعتكاف إلا بمشقة شديدة، أو لوقوع فتنة يخاف منها على نفسه أو ماله أو منزله، أو لعموم النفير والاحتياج إلى خروجه، فله ترك الاعتكاف لأن هذا يسقط به الواجب بأصل الشرع، وهو الجمعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 والجماعة، فغيره أولى. وإذا زال العذر والاعتكاف تطوع. فإن شاء رجع إليه وإن شاء لم يرجع؛ لأنه لا يلزم بالشروع. وإن كان منذوراً لم يخل من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون نذر أياماً معلومة مطلقة فعليه إتمام باقيها حسب؛ لأنه يأتي بالمنذور على وجهه. الثاني: نذر أياماً متتابعة غير معينة فهو مخير بين البناء والقضاء وكفارة يمين، وبين أن يبتدئها ولا كفارة عليه. الثالث: نذر مدة معينة فعليه قضاء ما ترك وكفارة يمين لتركه فعل المنذور في وقته، إلا في الحيض والنفاس فإنه لا كفارة في الخروج له؛ لأنه خروج لعذر معتاد فأشبه الخروج لحاجة الإنسان. وذكر القاضي: أن كل خروج لواجب كالشهادة المتعينة والنفير العام وقضاء العدة، فلا كفارة فيه؛ لأنه خروج واجب أشبه الخروج للحيض. وذكر أبو الخطاب رواية تدل على أن كل من ترك المنذور لعذر لا كفارة عليه، قياساً على خروج الحائض من الاعتكاف. فصل: ويحرم على المعتكف الوطء لقول الله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، فإن وطئ فسد اعتكافه؛ لأن الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها كالصوم والحج، والعامد والساهي سواء؛ لأن الجماع في العبادة يستوي عمده وسهوه، بدليل الحج والصوم ولا كفارة عليه، نص عليه. وعنه: عليه الكفارة؛ لأنها عبادة يفسدها الوطء فوجب به الكفارة كالحج. والأول: المذهب؛ لأنها عبادة لا تجب بأصل الشرع، ولا تلزم بالشروع فلا يجب بإفسادها كفارة، كصوم غير رمضان، وهذا ينقض القياس الأول. واختلف موجبو الكفارة فيها: فقال القاضي: هي ككفارة الوطء في رمضان قياساً لها عليها. وعن أبي بكر: هي كفارة يمين؛ لأنها كفارة نذر فكانت كفارة يمين كسائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 كفاراته. وأما المباشرة فيما دون الفرج فإن كانت لغير شهوة فهي مباحة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدني رأسه إلى عائشة فترجله وهو معتكف، وإن كانت لشهوة فهي محرمة؛ لقول عائشة: «السنة للمعتكف أن لا يمس امرأة ولا يباشرها.» رواه أبو داود. فإن فعل فأنزل أفسد اعتكافه وإلا فلا، كقولنا في الصوم. وإن شرب مسكراً أو ارتد فسد اعتكافه؛ لأنه خرج بذلك عن أن يكون من أهل المسجد فصار كالخارج منه، وكل موضع فسد اعتكافه التطوع فلا قضاء عليه ولا غيره لأنه لا يلزم بالشروع فهو كصوم النفل، وإن كان نذراً متتابعاً بطل ما مضى منه واستأنف؛ لأن التتابع وصف في الاعتكاف أمكن أن يأتي به فلزمه، كعدة الأيام. وإن كان نذره مدة معينة ففيه وجهان: أحدهما: يبطل ما مضى ويستأنف؛ لأنه اعتكاف متتابع فأشبه المقيد بالتتابع لفظاً. والثاني: لا يبطل الماضي ويستأنف؛ لأن التتابع حصل ضرورة التعيين، والتعيين مصرح به في النذر، فالمحافظة على المصرح به أولى. فعلى هذا يقضي ما أفسده ويتم كما لو أفسد لعذر، وعليه كفارة في الوجهين جميعاً. فصل: وليس للمعتكف بيع ولا شراء إلا لما لا بد منه كالطعام ونحوه، ولا يتكسب بالصنعة؛ لأن الاعتكاف لزوم طاعة الله وعبادته في المسجد، والتجارة فيه تنافيه، فإن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البيع والشراء في المسجد.» وهو حديث حسن، فإن خرج ترك اعتكافه. ولا يخيط في المسجد ولا يعمل صنعة، سواء كان محتاجاً إلى ذلك أو لم يكن؛ لأن المسجد لم يبن لذلك، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المعتكف يخيط: لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يعمل. وإن فعل شيئاً من ذلك في المسجد لم يفسد اعتكافه لأنه لا ينافيه. فصل: وليس له أن يبول في المسجد في إناء؛ لأن هذا يقبح ويفحش فوجب صيانة المسجد عنه، كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله، وإن أراد الفصد أو الحجامة، أو القيء فيه فهو كذلك؛ لأنه إراقة النجاسة فهو كالبول، وإن دعت إلى ذلك ضرورة، خرج من المسجد ففعله، كما يخرج لحاجة الإنسان، وإن استغنى عنه فليس له فعله وللمستحاضة الاعتكاف وتحترز بما يمنع تلويث المسجد؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «اعتكفت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد امرأة من نسائه فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي» . أخرجه البخاري. ولأن هذا لا يمنع الصلاة فلم يمنع الاعتكاف، بخلاف ما قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 فصل: ويجوز للمعتكف الأكل في المسجد، ويضع سفرة أو غيرها يسقط عليها ما يقع منه كيلا يتلوث المسجد، ويغسل يده في طست ليفرغ خارج المسجد، ولا يجوز له الخروج لغسل يديه؛ لأنه خروج لما له منه بد، وله أن يتنظف ويرجل شعره ويغسله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله وهو معتكف، وله أن يتطيب ويلبس رفيع الثياب؛ لأن هذه عبادة لا تحرم اللباس، فلا تحرم ذلك كالصوم، وله أن يتزوج ويشهد النكاح لذلك، وله أن يحدث غيره ويأمر بحاجته؛ لما «روت صفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني.» متفق عليه. فصل: ويستحب له التشاغل بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن، واجتناب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش والإكثار من الكلام، فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف، ففي الاعتكاف الذي هو استشعار بطاعة الله تعالى ولزوم عبادته وبيته، أولى، ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام؛ لم يبطل بمحرمه كالصوم. فصل: فأما التزام الصمت فليس من شريعة الإسلام لما روى قيس بن مسلم قال: دخل أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على امرأة من أحمس، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت. رواه البخاري. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا صمات يوم إلى الليل» رواه أبو داود. فإن نذر ذلك فهو كنذر المعاصي على ما سيأتي. قال ابن عقيل: ولا يجوز جعل القرآن بدلاً من الكلام؛ لأنه استعمال له في غير ما هو له، فهو كتوسد المصحف، وقد جاء: لا يناظر بكتاب الله. أي: لا يتكلم به عند الشيء تراه، كأن ترى رجلاً جاء في وقته فتقول: وجئت على قدر يا موسى. وذكر أبو عبيد نحو هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 فصل: وأما قراءة القرآن وتدريس العلم ومناظرة الفقهاء ومذاكرتهم وكتابة العلم فحكي فيه روايتان: إحداهما: يستحب، اختارها أبو الخطاب؛ لأن ذلك أفضل العبادات لتعدي نفعه، ويمكن فعله في المسجد فكان مستحباً له كالصلاة. والثانية: لا يستحب وهو ظاهر المذهب؛ لأن الاعتكاف عبادة شرط لها المسجد، فلم يستحب ذلك فيها كالطواف والصلاة. وعلى هذه الرواية فعله لهذه الأمور أفضل من اعتكافه الشاغل عنها. قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلاً يقرئ في المسجد يريد أن يعتكف لعله أن يختم في كل يوم؟ فقال: إذا فعل هذا كان لنفسه، وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره، يقرئ أحب إلي. فصل: ومن اعتكف العشر الأخير من رمضان استحب أن يبيت ليلة الفطر في معتكفه، ثم يخرج من المصلى في ثياب اعتكافه؛ لأن أبا قلابة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا مجلز والمطلب بن حنطب وإبراهيم النخعي كانوا يستحبون ذلك، ولأنها ليلة تتلو العشر ورد الشرع بالترغيب في قيامها والعبادة فيها، فأشبهت ليالي العشر، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 [ كتاب الحج ] الحج من أركان الإسلام وفروضه؛ لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ولما روينا فيما مضى، وروى مسلم عن أبي هريرة قال: «خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم» وتجب العمرة على من يجب عليه الحج؛ لقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . ولما روى الضبي بن معبد قال: أتيت عمر فقلت: إني أسلمت يا أمير المؤمنين، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما. فقال: هديت لسنة نبيك. رواه النسائي. ويجب ذلك في العمر مرة؛ لحديث أبي هريرة، ولا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام؛ لما روي عن ابن عباس قال: لا يدخل مكة إلا محرم، إلا الحطابين. إلا أن يكون دخوله لقتال مباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر.» متفق عليه. ودخل أصحابه غير محرمين. أو من يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد، فلهم الدخول بغير إحرام؛ لحديث ابن عباس فإنه استثنى الحطابين، وقسنا عليهم من هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 في معناهم. ولأن في إيجاب الإحرام عليهم حرجاً فينتفي بقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . فإن دخل من يجب عليه الإحرام بغير إحرام فلا قضاء عليه لأنه لو وجب قضاؤه للزمه للدخول للقضاء قضاء فلا يتناهى، فسقط لذلك. فصل: ولا يجب الحج والعمرة إلا بشروط خمسة: الإسلام والبلوغ والعقل لما تقدم، والحرية، والاستطاعة لقول الله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] فيدل هذا على أنه لا يجب على غير مستطيع، والعبد غير مستطيع لأنه لا مال له، ومنافعه مستحقة، فهذا أعظم عذراً من الفقير. وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يشترط للصحة وهو: الإسلام والعقل، فلا يصح من كافر ولا مجنون لما ذكرنا في الصوم. وقسم يشترط للإجزاء، وهو البلوغ والحرية؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج، ثم عتق فعليه حجة أخرى» . رواه الشافعي والطيالسي في مسنديهما. ولأنه فعل العبادة وهو من غير أهل الوجوب فلم يجزئه إذا صار من أهل الوجوب، كالصبي يصلي ثم يبلغ في الوقت، وإن وجد البلوغ أو العتق في الوقوف بعرفه أو قبله، أجزأهما عن حجة الإسلام، لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال فأجزأهما، كما لو وجد ذلك قبل الإحرام. وإن وجد بعد الوقوف في وقته فرجعا فوقفا في الوقت أجزأهما أيضاً لذلك، وإن فاتهما ذلك لم يجزئهما لفوات ركن الحج قبل الكمال. الثالث: شرط الوجوب حسب، وهو الاستطاعة، فلو تكلف العاجز الحج أجزأه ووقع موقعه؛ لأنه إنما سقط عنه رفقاً به فإذا تحمله أجزأه كما لو تحمل المريض الصلاة قائماً؛ لكن إن كان في الحج كلاً على الناس لمسألته إياهم وتثقيله عليهم، كره له؛ لأنه يضر بالناس بالتزام ما لا يلزمه، وإن لم يكن كلاً على أحد؛ لقوته على المشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 والتكسب بصناعة أو معاونة من ينفق عليه، فهو مستحب له لقول الله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] ولأنه التزام للطاعة من غير مضرة لأحد فاستحب كقيام الليل. فصل: والاستطاعة في حق البعيد: القدرة والزاد والراحلة؛ لما روى ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة» . قال الترمذي: هذا حديث حسن، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد. والزاد: هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة في ذهابه ورجوعه. فإن وجد ذلك لذهابه دون رجوعه لم يلزمه الحج؛ لأن عليه في غربته ضرراً ومشقة وغيبة عن أهله ومعاشه. وإن وجد ما يكفيه لذهابه ورجوعه بثمن مثله في الغلاء والرخص، أو بزيادة لا تجحف بماله لزمه، وتعتبر القدرة على الماء وعلف البهائم في منازل الطريق على ما جرت به العادة، ولا يكلف حمل ذلك من بلده لما فيه من المشقة التي لا يمكن تحملها، ويعتبر قدرته على أوعية الزاد والماء؛ لأنه لا يستغنى عنها. ويشترط وجدان راحلة تصلح لمثله بشراء أو كراء، وما يحتاج إليه من آلتها الصالحة لمثله في محمل أو زاملة أو قتب على ما جرت به عادة مثله، وما لا يتخوف الوقوع منه، ويكون ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دين حال ومؤجل، ونفقة عياله إلى أن يعود، وما يحتاجون إليه من مسكن وخدم؛ لأن هذا واجب عليه يتعلق به حق آدمي، فكان أولى بالتقديم كنفقة نفسه. وإن احتاج إلى النكاح لخوف العنت، قدم؛ لأنه واجب لدفع الضرر عن نفسه فأشبه النفقة، وإن لم يخف وجب الحج؛ لأنه تطوع فلا يسقط به الحج الواجب، ومن له عقار يحتاج إليه للسكنى أو إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه لذلك، أو آلات لصناعته المحتاج إليها، أو كتب من العلم يحتاج إليها؛ لم يلزمه صرفه في الحج؛ لأنه لا يستغنى عنه، أشبه النفقة، ومن كان من ذلك فاضلاً عن حاجته كمن له بكتاب نسختان أو له دار فاضلة أو مسكن واسع يكفيه بعضه، فعليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 صرف ذلك في الحج، ومن لم يكن له مال فبذل له ولده أو غيره مالاً يحج به؛ لم يلزمه قبوله، وإن بذل له أن يحج عنه أو يحمله؛ لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه فيه منة ومشقة فلم يلزمه قبوله كما لو كان الباذل أجنبياً. فصل: فأما المكي ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر فلا يشترط في حقه راحلة، ومتى قدر على الحج ماشياً لزمه؛ لأنه يمكنه ذلك من غير مشقة شديدة، وإن عجز عن المشي وأمكنه الحبو لم يلزمه؛ لأن مشقته في المسافة القريبة أكثر من السير في المسافة البعيدة. فصل: واختلفت الرواية في ثلاثة أشياء. وهي إمكان المسير، وهو أن تكمل الشرائط فيه، وفي الوقت سعة يتمكن من السير لأدائه. وتخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من خوف ولا غيره. والمحرم للمرأة، فروي أنها من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونها؛ لأنه لا يستطاع فعله بدونها، فكانت شرطاً للوجوب كالزاد والراحلة. وعنه: أنها شروط للزوم الأداء دون الوجوب؛ لأنها أعذار تمنع نفس الأداء فقط، فلم تمنع الوجوب كالمرض، وإذا قلنا: هي من شرائط الوجوب فمات قبل تحققها، فلا شيء عليه كالفقير، وإن قلنا: هي من شرائط لزوم السعي فاجتمعت فيه الشرائط الخمس، حج عنه كالمريض. وإمكان السير معتبر بما جرت به العادة، فلو أمكنه السير بأن يحمل على نفسه ما لم تجر به عادة لم يلزمه؛ لأن فيه مشقة وتعزيراً. وتخلية الطريق عبارة عن عدم الموانع فيها، بعيدة كانت أو قريبة، براً أو بحراً الغالب السلامة فيه، فإن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه، كالبر إذا كان فيه مانع، فإن كان الطريق آمناً لكنه يحتاج إلى خفارة كثيرة لم يلزمه الأداء؛ لأنه كالزيادة على ثمن المثل في شراء الزاد، فإن كانت يسيرة؟. فقال ابن حامد: يلزمه لأنها غرامة ممكنة، يقف الحج على بذلها فلزمته كثمن الزاد. وقال القاضي: لا يلزمه؛ لأنها رشوة في الواجب فلم تلزمه، كسائر الواجبات. فصل: فأما السلامة وكونه على حال يمكنه الثبوت على الراحلة فهو شرط للزوم الأداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 خاصة، فإن عدم ذلك لمرض لا يرجى برؤه، أو كبر، أقام من يحج عنه ويعتمر؛ لما روى أبو رزين أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: حج عن أبيك واعتمر» وهو حديث حسن، فإن برئ بعد أن حج عنه فلا حج عليه؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن عهدته كما لو لم يبرأ. وإن كان مرضه يرجى زواله لم يجز أن يستنيب؛ لأنه يرجو القدرة فلم تكن له الاستنابة، كالصحيح الفقير، فإن استناب ثم مات؛ لم يجزئه ووجب الحج عنه؛ لأنه حج عنه وهو غير مأيوس منه فلم يجزئه الحج، كما لو برئ، وهل يجوز لمن يمكنه الحج بنفسه أن يستنيب في حجة التطوع؟ فيه روايتان: إحداهما: يجوز؛ لأنها حجة لا يلزمه أداؤها فجاز له الاستنابة فيها كالمغصوب. والثانية: لا يجوز؛ لأنها عبادة لا تجوز الاستنابة في فرضها فلم تجز في نفلها كالصلاة. فصل: ومن كملت الشرائط في حقه؛ لزمه الحج على الفور ولم يجز له تأخيره؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة» رواه ابن ماجه. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً» رواه الترمذي، ولأنه أحد أركان الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقته كالصيام. فصل: وحج الصبي صحيح؛ لما روى ابن عباس قال: «رفعت امرأة صبياً فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر» رواه مسلم. والكلام فيه في أربع أمور: أحدها: في إحرامه، إن كان مميزاً أحرم بإذن وليه، ولا يصح من غير إذنه؛ لأنه عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد منه بنفسه كالبيع. وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه الذي يلي ماله، ومعنى إحرامه عنه: عقده الإحرام له فيصير الصبي بذلك محرماً دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الولي، كما يعقد له النكاح، فلذلك صح أن يحرم عنه الولي، محلاً كان أو محرماً ممن حج عن نفسه وممن لم يحج، فإن أحرمت عنه أمه، صح في ظاهر كلام أحمد؛ لأنه قال: يحرم عنه أبواه، وهو ظاهر حديث ابن عباس. وقال القاضي: لا يصح لعدم ولايتها على ماله، وفي سائر عصباته وجهان، بناء على القول في الأم، فأما الأجنبي فلا يصح إحرامه عنه وجهاً واحداً. الثاني: أن ما قدر الصبي على فعله كالوقوف بعرفة ومزدلفة فعليه فعله، وما لا يمكنه فعله كالرمي فعله الولي عنه؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنا إذا حججنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبينا مع الصبيان ورمينا عنهم» رواه ابن ماجه، وإن أمكنه المشي في الطواف وإلا طيف به محمولاً، فقد روى الأثرم عن أبي إسحق أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طاف بابن الزبير في خرقة. ولا يرمي عن الصبي إلا من أسقط فرض الرمي عن نفسه. الثالث: أن ما فعله من محظورات الإحرام، إن كان مما يفرق بين عمده وسهوه، فلا فدية فيه؛ لأن عمد الصبي خطأ، وإن كان مما يستوي عمده وسهوه كجزاء الصيد ونحوه ففيه فدية، وفي محلها روايتان: إحداهما: تجب في مال الصبي؛ لأنه واجب بجنايته فلزمت كجنايته على آدمي. والثانية: تجب على وليه لأنه أدخله في ذلك وغرر بماله. وإن وطئ الصبي أفسد حجه. ووجبت البدنة ويمضي في فاسده، وعليه القضاء إذا بلغ، وهل يجزئه القضاء عن حجة الإسلام ينظر فإن كانت الفاسدة؛ لو صلحت أجزأت، وهو أن يبلغ في وقوفها، أجزأ القضاء أيضاً وإلا فلا. الرابع: أن ما يلزمه من النفقة بقدر نفقة الحضر فهو في ماله؛ لأن الوالي لم يكلفه ذلك، وما زاد ففي محله روايتان، كالفدية سواء. فصل: وفي حج العبد وهو صحيح؛ لأنه من أهل العبادات فصح حجه كالحر، وإلا فالكلام فيه في أمور أربعة: أحدها: أنه إن أحرم، صح إحرامه، بإذن سيده وبغير إذنه؛ لأنها عبادة بدنية فصحت منه بغير إذن سيده كالصلاة، فإن أحرم بإذن سيده لم يجز تحليله؛ لأنها عبادة تلزمه بالشروع فلم يملك تحليله إذا شرع بإذنه كقضاء رمضان، وإن أحرم بغير إذنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 فقال أبو بكر: لا يملك تحليله لذلك، وقال ابن حامد: له تحليله، وهو أصح؛ لأن حق السيد فيه ثابت لازم فلم يملك العبد إبطاله بما لا يلزمه، كالاعتكاف، فإن أذن له ثم رجع قبل إحرامه فهو كمن لم يأذن، فإن لم يعلم العبد برجوعه حتى أحرم ففيه وجهان، بناء على الوكيل هو ينعزل بالعزل قبل علمه به؟ على روايتين. الثاني: إذا نذر العبد الحج انعقد نذره؛ لأنه تكليف فانعقد نذره كالحر، فإن كان بإذن سيده لم يملك منعه من الوفاء به؛ لأنه أذن في التزامه، وإن كان بغير إذنه فله منعه، ذكره ابن حامد. وقال القاضي: لا يجوز لأن تجويز ذلك يفضي إلى تمكينه من التسبب إلى إبطال حق سيده، فمتى عتق فعليه الوفاء به، ولا يفعله إلا بعد حجة الإسلام. الثالث: أن ما جنى العبد مما يوجب الفدية فعليه فديته بالصيام فقط؛ لأنه كالمعسر وأدنى منه، فإن ملكه السيد هدياً وأذن له في الفدية به وقلنا: إنه يملك، فعليه الفدية به وإلا ففرضه الصيام، وإن تمتع أو قرن بإذن سيده فهدي التمتع والقران عليه؛ لأن النسك له، فكانت الفدية عليه، كالزوجة إذا فعلته بإذن زوجها. وقال القاضي: هو على سيده؛ لأنه بإذنه. الرابع: أن العبد إذا وطئ أفسد حجه وعليه المضي في فاسده ويصوم مكان البدنة، ثم إن كان الإحرام مأذوناً فيه لم يكن لسيده تحليله منه، وإن لم يكن مأذوناً فيه فله تحليله؛ لأن هذا الإحرام هو الذي كان صحيحاً، فحكمه في ذلك حكمه. فصل: في حج المرأة ثلاثة أمور: أحدها: أنه لا يحل لها السفر بغير محرم؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 أن تسافر مسيرة يوم، إلا ومعها ذو محرم» متفق عليه. والمحرم زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب، أو سبب مباح، كابنها وأخيها من نسب أو رضاع وربيبها ورابها، فأما عبدها فليس بمحرم لها؛ لأنها تحل له إذا عتق، وليس بمأمون عليها، ومن حرمت عليه بسبب محرم كالزنا أو وطء الشبهة فليس بمحرم؛ لأن تحريم ذلك بسبب غير مشروع، فأشبه التحريم باللعان، ونفقة المحرم عليها؛ لأنه من سبيلها، فكان عليها نفقته كالراحلة، ولا يلزمه الخروج معها إلا أن يشاء؛ لأنه تكلف شديد فلم يلزمه لأجل غيره كالحج عن الغير، وإن مات المحرم في الطريق، مضت إذا كانت قد تباعدت، وإن كانت قريبة رجعت. وإن حجت امرأة بغير محرم أساءت، وأجزأها حجها، كما لو تكلف رجل مسألة الناس والحج. الثاني: أنه ليس للرجل منع زوجته من حج الفرض؛ لأنه واجب بأصل الشرع فأشبه صوم رمضان، ويستحب لها استئذانه جمعاً بين الحقين، وله منعها من حج التطوع؛ لأن حقه ثابت في استمتاعها فلم تملك إبطاله بما لا يلزمها كالعبد، فإن أحرمت به فحكمها حكم العبد على ما فصل فيه. الثالث: أنه ليس لها الخروج للحج في عدة الوفاة؛ لأنها واجبة في المنزل، تفوت، فقدمت على الحج الذي لا يفوت. وإن مات زوجها في الطريق بعد تباعدها، مضت في سفرها؛ لأنه لا بد من سفرها، فالسفر الذي يحصل به الحج أولى، وإن كانت قريبة رجعت لتقضي العدة في منزلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 فصل: ومن وجب الحج عليه فمات قبل فعله، وجب الحج عنه؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أبيها، مات ولم يحج، قال: حجي عن» أبيك رواه النسائي، ولأنه حق مستقر تدخله النيابة فلم يسقط بالموت، كالدين، ويحج عنه من رأس ماله؛ لأنه واجب فكان من رأس المال كالدين. فصل: ويستناب عنه، وعن المعضوب من حيث وجب عليهما، إما من بلدهما، أو من الموضع الذي أيسرا منه، ولا يجزئ الحج عنهما من الميقات؛ لأن الحج واجب عليه من بلده، فوجب أن تكون النيابة عنه منه؛ لأن النائب يقوم مقامه فيما وجب عليه، فيؤدي من حيث وجب. وإن خرج للحج فمات في الطريق، استنيب عنه من حيث انتهى إليه؛ لأنه أسقط عنه ما ساره. وإن مات بعد فعل بعض المناسك، فعل عنه ما بقي لأن ما جاز أن ينوب عنه في جميعه جاز في بعضه كالزكاة، وسواء كان إحرامه لنفسه أو عن غيره، فإن لم يخلف الميت تركة تفي بالحج عنه من بلده، حج عنه من حيث تبلغ، نص عليه أحمد في الوصية بالحج؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولأنه قدر على أداء الواجب على القصور فلزمه، كمن قدر على الصلاة قاعداً. وذكر القاضي أنه لا يحج عنه؛ لأنه لا يمكن أداء الحج على الكمال، والأول أولى. فصل: فإن اجتمع على الميت مع الحج دين آدمي، احتمل تقديم الدين؛ لتأكده بحاجة الآدمي إليه، وغنى الله عن حقه، واحتمل أن يتحاصا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن الحج عمن عليه حج قال: «أرأيت لو كان على أخيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقض فالله أحق بالوفاء» رواه النسائي. فعلى هذا يؤخذ ما يخص الحج فيصنع به ما صنع بتركة من لم يخلف ما يفي بالحجة الواجبة. فصل: ويستناب عن الميت وإن لم يأذن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر بالحج عنه ولا إذن له، علم أن الإذن غير معتبر، ولا يجوز النيابة عن الحي إلا بإذنه؛ لأنه من أهل الإذن فلم تجز النيابة عنه بغير إذنه كأداء الزكاة، وتجوز النيابة عنهما في حج التطوع؛ لأن ما جاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فرضه جاز نفله كالصدقة، فأما القادر على الحج بنفسه، فلا تجوز له الاستنابة في الفرض؛ لأنه عليه في بدنه، فلا ينتقل عنه إلا في موضع الرخصة للحاجة المعلومة وبقي فيما عداه. فصل: ولا يجوز أن ينوب في الحج من لم يسقط فرضه عن نفسه؛ لما روى ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من شبرمة؟ قال: قريب لي، قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة» . رواه أبو داود. ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياساً على الحج، ولا يجوز أن يتنفل بهما من لم يسقط فرضهما، ولا أن يؤدي النذر فيهما وعليه فرضهما؛ لأن التنفل والنذر أضعف من حج الإسلام، فلم يجز تقديمهما عليه كالحج عن غيره، فإن أحرم عن غيره أو نذره أو نفله قبل فرضه، انقلب إحرامه لنفسه عن فرضه. وعنه: يقع عن غيره ونذره ونفله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما لامرئ ما نوى» والأول المذهب؛ لحديث ابن عباس في الحج عن غيره، ووجود معناه في النذر والنفل. ولو أمر المعضوب من يحج عنه طوعاً أو نفلاً أو نذراً وعليه حجة الإسلام انصرف إليها؛ لأن فعل نائبه كفعله، وهكذا إن حج عن الميت نذراً أو نفلاً قبل حجة الإسلام، وإن استنيب عنهما من يحج النذر والفرض في عام واحد صح؛ لأنه لم يتقدم النذر على حجة الإسلام، وأي النائبين أحرم أولاً وقع عن حجة الإسلام لتحريم تقديم النذر عليها، وإن استنابه اثنان فأحرم عنهما لم يقع على واحد منهما ووقع عن نفسه؛ لأنه يتعذر وقوعه عنهما، وليس أحدهما أولى به من الآخر. وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه احتمل ذلك أيضاً لذلك واحتمل صحته؛ لأن الإحرام يصح مبهماً، فصح عن المجهول، وله صرفه إلى من شاء منهما، فإن لم يصرفه حتى طاف شوطاً لم يجز عن واحد منهما؛ لأن هذا الفعل لا يلحقه فسخ، وليس أحدهما أولى به من الآخر، وإن أحرم عن أحدهما وعن نفسه، انصرف إلى نفسه لأنه لما تعذر وقوعه عنهما كان هو أولى به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 [ باب مواقيت الحج ] باب المواقيت وللحج ميقاتان: ميقات مكان، وميقات زمان، فأما ميقات المكان فالمنصوص عليه خمسة. لما روى ابن عباس قال: «وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم. قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها» متفق عليه. وعن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود. فهذه المواقيت لكل من مر عليها من أهلها ومن غيرهم للخبر. ومن منزله بين الميقات ومكة، فميقاته: منزله؛ للخبر، وميقات من بمكة منها، وسواء في ذلك أهلها أو غيرهم للخبر، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المتمتعين من أصحابه فأحرموا منها، وعنه فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة: أهل من الميقات. فإن لم يفعل فعليه دم. وذكر القاضي فيمن دخل مكة محرماً عن غيره بحج، أو عمرة، ثم أراد أن يحج عن نفسه، أو دخل مكة محرماً لنفسه ثم أراد أن يحرم عن غيره بحج أو عمرة، أنه يلزمه الإحرام من الميقات، فإن لم يفعل فعليه دم؛ لأنه جاز الميقات مريداً للنسك لنفسه وأحرم دونه فلزمه دم، كما لو تجاوزه غير محرم، ولنا الخبر. وإن كل ميقات لمن أتى عليه فكذلك مكة، ولأن هذا حصل بمكة حلالاً على وجه مباح، فكان له الإحرام منها بلا دم، كما لو كان الإحرامان لشخص، واحد ومن أي موضع في مكة أحرم جاز؛ لأنها كلها موضع للنسك، وإن أحرم خارجاً منها من الحرم جاز أيضاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه في حجة الوداع: «إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء» وهي خارج من مكة، ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت البلدة فيه وغيرها كالبحر. وميقات العمرة للمكي ومن في الحرم، من الحل؛ لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أخاها عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم.» متفق عليه. وكانت بمكة يومئذ. ومن أي الحل أحرم جاز. لأن المقصود بالإحرام منه الجمع بين الحل والحرم في النسك؛ لأن أفعال العمرة كلها في الحرم، إلا الإحرام، بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الحل للوقوف بعرفة، فيحصل الجمع بين الحل والحرم. فصل: ومن جاوز الميقات مريداً لموضع قبل مكة، ثم بدا له الإحرام، أحرم من موضعه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 كما أن من دخل مكة يحرم منها، وإن مر به كافر أو عبد أو صبي، فأسلم الكافر، وأعتق العبد، وبلغ الصبي دونه، أحرموا من موضعهم ولا دم عليهم؛ لأنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام فيه، فأشبهوا المكي والمتجاوز غير مريد لمكة. وعنه في الكافر يسلم: يخرج إلى الميقات، فإن خشي الفوات أحرم من موضعه وعليه دم، والصبي والعبد في معناه؛ لأنهم تجاوزوا الميقات غير محرمين، قال أبو بكر: وبالأول أقول، وهو أصح لما ذكرناه، ومن لم يكن طريقه على ميقات، فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم؛ لما روى ابن عمر قال؛ «لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حد لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا، قال: فانظروا وخذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق.» رواه البخاري. ولأن هذا مما يدخله الاجتهاد والتقدير، فإذا اشتبه على الإنسان صار إلى اجتهاده فيه كالقبلة، فإن لم يعلم حذو الميقات احتاط فأحرم قبله؛ لأن تقديم الإحرام عليه جائز وتأخيره حرام. فصل: والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا من ذي الحليفة، فإن أحرم قبله، جاز؛ لأن الصبي بن معبد أحرم قبل الميقات قارناً فذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك. ومن بلغ الميقات مريداً للنسك؛ لم يجز له تجاوزه بغير إحرام؛ لما تقدم من حديث ابن عباس، فإن تجاوزه غير محرم؛ لزمه الرجوع ليحرم منه؛ لأن من قدر على فعل الواجب لزمه، فإن رجع فأحرم منه فلا دم عليه؛ لأنه أدى الواجب فأشبه من لم يتجاوزه، فإن لم يمكنه الرجوع لخوف أو خشية الفوات فأحرم من موضعه، أو أحرم من موضعه لغير عذر، فعليه دم لأنه ترك الواجب من مناسك الحج، فإن رجع بعد ذلك إلى الميقات لم يسقط الدم؛ لأنه استقر عليه بإحرام من دونه، فأشبه من لم يرجع، فإن أحرم المكي بالحج من الحل الذي يلي عرفة، فهو كالمحرم من دون الميقات، وإن أحرم من الحل الذي يلي الجانب الآخر، ثم سلك الحرم فهو كالمحرم قبل الميقات، وإن أحرم بالعمرة من الحرم انعقد إحرامه كالذي يحرم بعد ميقاته، ثم إن خرج قبل الطواف إلى الحل وعاد، ففعل أفعاله تمت عمرته، وعليه دم، وإن لم يخرج وفعل أفعالها ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه، ويجبرها بدم، كالذي يحرم من دون ميقاته. والثاني: لا يجزئه؛ لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج، فعلى هذا لا يعتد بأفعاله، وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يأتي بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 فصل: وميقات الزمان: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة؛ لقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] معناه: وقت الحج؛ لأن الحج أفعال وليس بأشهر فلم يكن بد من التقدير. وعن ابن مسعود وجابر وابن الزبير أنهم قالوا: أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، والاختيار أن لا يحرم بالحج قبل أشهره؛ لأنه تقديم للعبادة على وقتها فكره، كتقديمها على ميقات المكان، فإن فعل انعقد إحرامه؛ لأنه أحد الميقاتين فانعقد الإحرام بالحج قبله كالآخر، فأما العمرة فلا ميقات لها في الزمان، ويجوز الإحرام بها في جميع السنة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 متفق عليه. «واعتمر في ذي القعدة وفي ذي الحجة مع حجته» ، رواه أنس، وهو حديث صحيح. [ باب الإحرام ] يستحب الغسل للإحرام؛ لما «روى زيد بن ثابت أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرد لإهلاله واغتسل.» حديث حسن. وعن جابر قال: «أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي» رواه مسلم. فإن لم يجد ماء لم يتيمم؛ لأنه غسل مسنون يراد للتنظيف فلا يسن التيمم عند العجز عنه كغسل الجمعة. وقال القاضي: يستحب له التيمم قياساً على غسل الجنابة، ويستحب له التنظيف بإزالة الشعر والشعث وقطع الرائحة وتقليم الأظفار؛ لأن الغسل شرع لذلك، ثم يتجرد من المخيط في إزار ورداء أبيضين نظيفين جديدين أو غسيلين؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين» ، ويستحب أن يتطيب في بدنه؛ لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أطيب، رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» ، وقالت: «كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم.» متفق عليهما، ولا يتطيب في ثوبه، فإن فعل فله استدامته حتى ينزعه، فمتى نزعه ثم لبسه فعليه الفدية؛ لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب دون استدامته. ولو نقل الطيب عن بدنه من موضع إلى موضع آخر فعليه الفدية، وإن سال بالحر وغيره إلى موضع آخر، فلا فدية عليه؛ لأنه ليس من جهته. فصل: ويستحب أن يحرم عقيب صلاة إما مكتوبة أو نافلة، وروى الأثرم قال: سألت أبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 عبد الله: أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به ناقته؟ فقال: كل قد جاء، في دبر الصلاة، وإذا علا البيداء، وإذا استوت به ناقته، فوسع فيه كله. والمشهور الأول؛ لما روى سعيد بن جبير قال: ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أوجب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين فرغ من صلاته ثم خرج، فلما ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راحلته واستوت به قائمة أهل، فأدرك ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين استوت به راحلته، وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك، ثم سار حتى علا البيداء فأهل، فأدرك ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين علا البيداء» رواه أبو داود، وهذا فيه فضل بيان وزيادة علم، فيتعين الأخذ به، وتقديمه على ما خالفه. فصل: وينوي الإحرام بقلبه، ولا ينعقد من غير نية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنها عبادة محضة فافتقرت إلى النية كالصلاة، فإن لبى من غير نية لم يصر محرماً، وإن نوى الإحرام من غير تلبية، انعقد إحرامه؛ لأنه عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب في أولها كالصوم، فإن نوى إحراماً فسبق لسانه إلى غيره، انعقد إحرامه بما نواه، دون ما نطق به؛ لأن النية هي الإحرام، فاعتبرت دون النطق. فصل: ويستحب أن ينطق بما أحرم به ويعينه، ويشترط فيه: أن محلي حيث يحبسني، فيقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقبله مني، فإن حبسني حابس فمحلي حيث يحبسني؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج» . وعنها قالت: «دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني» متفق عليهما. ويفيد هذا الشرط شيئين: أحدهما: أنه متى عاقه عائق من مرض أو غيره فله التحلل. والثاني: أنه إذا حل لذلك فلا شيء عليه من دم ولا غيره، وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يجري مجراه، قال ابن مسعود: اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت لي وإلا فلا حرج علي. لأن المقصود المعنى، وإنما اعتبر اللفظ لتأديته له. فصل: ويجوز الإحرام بنسك مطلق وله صرفه إلى أيها شاء، وإن أحرم بمثل ما أحرم به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 فلان، صح؛ لما روى أبو موسى قال: «قدمت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو منيخ بالبطحاء فقال لي: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله. قال: أحسنت، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا، والمروة، ثم أمرني أن أحل» متفق عليه، ثم إن تبين له ما أحرم به فلان فإحرامه مثله، وإن تبين أن فلاناً لم يحرم فله صرفه إلى ما شاء كالمطلق؛ لأنه عقد الإحرام، وعلق عين النسك على إحرام فلان، فلما لم يحرم فلان، بطل التعيين وبقي المطلق. وإن علم أن فلاناً أحرم ولم يعلم بما أحرم، أو شك هل أحرم أم لا، فهو كالناسي لإحرامه، وللناسي لما أحرم به صرفه إلى أي نسك شاء لأنه إن صادف ما أحرم به، فقد أصاب، وإن صرفه إلى عمرة، وكان إحرامه بغيرها، فإن فسخه إليها جائز مع العلم فمع الجهل أولى، فإن صرفه إلى قران وكان إحرامه بعمرة، فقد أدخل عليها الحج وهو جائز، وإن كان مفرداً فقد أدخل العمرة على الحج وهو لغو لا يفيد، ولا يقدح في حجه، كما لو فعله مع العلم. وإن صرفه إلى الإفراد وكان معتمراً، فقد أدخل الحج على العمرة فصار قارناً، ولا تبطل العمرة بترك نيتها، فإن كان قارناً فهو على حاله لذلك. والنصوص عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يجعل المنسي عمرة. قال القاضي: هذا على سبيل الاستحباب؛ لأن ذلك مستحب مع العلم فمع عدمه أولى، فعلى هذا إن صرفه إلى عمرة، فهو متمتع حكمه حكم من فسخ الحج إلى العمرة، وإن صرفه إلى القران لم يجزئه عن العمرة إذ من المحتمل أن يكون مفرداً فلم يصح إدخال العمرة على حجة، ولا يلزمه دم القران؛ لأنه شاك فيما يوجبه، ويصح له الحج هاهنا، وفيما إذا صرفه إلى الإفراد، فإن كان شكه بعد الطواف لم يكن له صرفه إلا إلى العمرة؛ لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز، فإن صرفه إلى إفراد أو قران، تحلل بأفعال الحج ولم تجزئه عن واحد من النسكين؛ لأنه شاك في صحته ولا دم عليه للشك فيما يوجبه، إلا أن يكون معه هدي فيجزئه عن الحج؛ لأن إدخال الحج على العمرة في حقه جائز بعد الطواف. فصل: وإن أحرم بحجتين أو عمرتين، انعقد إحرامه بإحداهما، ولا يلزمه للأخرى قضاء ولا غيره؛ لأنهما عبادتان لا يلزم المضي فيهما، فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين، ولو أفسد نسكه ثم أحرم بغيره من جنسه؛ لم يلزمه للثاني شيء ولم يصح لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 فصل: وهو مخير إن شاء أحرم متمتعاً، أو مفرداً قارناً؛ لحديث عائشة. والتمتع: هو الإحرام بعمرة من الميقات، فإن فرغ منها أحرم بالحج من مكة في عامه، والإفراد: الإحرام بالحج مفرداً، والقران: الإحرام بهما معاً أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الإحرام بالحج قبل الطواف؛ لما روت عائشة قالت: «أهللنا بعمرة فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً» متفق عليه. فإن أحرم بحج ثم أدخل عليه عمرة؛ لم يصح ولم يصر قارناً لأنه لم يرد بذلك أثر ولا هو في معنى ما جاء به الأثر؛ لأن إحرامه بها لا يزيده عملاً على ما لزمه بإحرام الحج، ولا بغير ترتيبه بخلاف إدخال الحج على العمرة. ومن طاف للعمرة ثم أحرم بالحج معها؛ لم يصح لأنه قد أتى بمقصودها وشرع في التحلل منها، إلا أن يكون معه هدي فله ذلك؛ لأن من ساق هدياً لا يجوز له التحلل حتى ينحر هديه لقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، فلا يتحلل بطواف، ويتعين عليه إدخال الحج على العمرة، ويصير قارناً بخلاف غيره. فصل: وأفضل الأنساك التمتع؛ لما «روى جابر أنه حج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أهلوا بالحج مفرداً فقال لهم: حلوا من إحرامكم بطواف بالبيت ومن الصفا والمروة، وقصروا وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة، فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثلما أمرتكم به، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله قال: ففعلوا» . متفق عليه. وعنه: إن ساق الهدي فالقران أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل إذا كان معه الهدي. وقد روى أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن بين الحج والعمرة» . متفق عليه. والأول أصح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت» فيدل هذا على فضيلة المتعة، وقد روى عمر وعلي وسعد وابن عمر وحفصة وعائشة وعمران بن حصين - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان متمتعاً، وإنما منعه الحل سوق الهدي، ومعنى حديث أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدخل الحج على العمرة حين امتنع عليه الحل منها. ثم بعد التمتع الإفراد؛ لأنه يأتي بنسكين كاملين، والقارن يقتصر على عمل الحج، ثم القران بعدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 فصل: ويستحب للقارن والمفرد إذا لم يكن معهما هدي أن يفسخا نيتهما بالحج، وينويا عمرة مفردة، ويحلا من إحرامهما بطواف وسعي وتقصير ليصيرا متمتعين؛ لحديث جابر. ويروى عن إبراهيم الحربي أنه قال: قال سلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة، تقول بفسخ الحج! فقال أحمد: وقد كنت أرى أن لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً كلها في فسخ الحج، أتركها لقولك؟ فأما من ساق الهدي فليس له ذلك؛ للحديث، ولقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . فصل: ويجب على المتمتع دم لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] والدم الواجب شاة أو سبع بدنة؛ للآية. قال أبو حمزة: سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها، وسألته عن الدم فقال: فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم. متفق عليه، ولا يجب الدم إلا بشروط خمسة. أحدها: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام؛ لقول الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، وحاضرو المسجد: أهل الحرم، ومن بينه وبينه مسافة القصر؛ لأن الحاضر القريب، والقريب: دون مسافة القصر. الثاني: أن يعتمر في أشهر الحج لأن المعتمر في غير أشهره لم يجمع بين النسكين، فلم يجب عليه دم كالمفرد، ولو أحرم بالعمرة من غير أشهر الحج، وحل منها في أشهره؛ لم يكن متمتعاً لأن الإحرام نسك لا تتم العمرة إلا به، ولأنه أتى به من غير أشهر الحج فلم يصر متمتعاً كالطواف. الثالث: أن يحج من عامه، فإن أخر الحج إلى عام آخر؛ لم يكن متمتعاً لأن التمتع بالعمرة إلى الحج يقتضي الموالاة بينهما، ولم يوال، فأشبه المعتمر في غير أشهر الحج. الرابع: أن لا يسافر بينهما سفر يقصر فيه؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع، فإن خرج ثم رجع فليس بمتمتع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ولأنه إذا سافر لزمه الإحرام من الميقات، أو من حيث انتهى إليه، فلا يترفه بأحد السفرين، فأشبه المفرد. الخامس: أن يحل من عمرته، فإن أدخل عليها الحج لم يجب دم المتعة؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أهللنا بعمرة فقدمنا مكة وأنا حائض؛ لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة. قالت: ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه، فقال: هذه مكان عمرتك فقضى الله حجها وعمرتها ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة» . متفق عليه. ولأنه يصير قارناً، أشبه ما لو أحرم بهما، وذكر القاضي أنه يشترط أن ينوي في ابتداء العمرة أو أثناءها أنه متمتع؛ لأنه جمع بين عبادتين، فافتقر إلى النية كالجمع بين الصلاتين، وظاهر الآية يدل على عدم اشتراط هذا؛ لأنه يوجد التمتع بدونه والترفه بترك أحد السفرين فلزمه دم كما لو نوى. فصل: وفي وقت وجوبه روايتان: إحداهما: إذا أحرم بالحج لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وبإحرام الحج يفعل ذلك فيجب الدم. والثانية: إذا وقف بعرفة؛ لأن الحج لا يحصل إلا به، وهو معرض للفوات قبله فلا يحصل التمتع، فأما وقت ذبحه فقال أحمد: إن قدم مكة قبل العشر ومعه هدي نحره عن عمرته؛ لئلا يضيع أو يموت أو يسرق، فإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدموا في العشر فلم ينحروا حتى نحروا بمنى، فجوز النحر قبل إحرامه بالحج؛ لأنه حق مال يتعلق بشيئين فجاز تقديمه على أحد سببيه كالزكاة. فصل: فإن لم يجد الهدي فعليه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وتعتبر القدرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 في موضعه لأنه موقت له بدل، فاعتبرت قدرته في وقته كالوضوء، ووقت صيام الثلاثة قبل يوم النحر لقول الله تعالى: {فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] . والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة؛ ليحصل صومها أو بعضه بعد إحرام. وإن قدمه على ذلك بعد إحرام العمرة، جاز؛ لأنه وقت جاز فيه نحر الهدي فجاز فيه الصيام كبعد إحرام الحج، ومعنى قوله: {فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] أي في وقته. ولا يجوز تقديم النحر ولا الصوم قبل إحرام العمرة؛ لأنه تقديم له على سببه، فأشبه تقديم الزكاة على النصاب، ويصوم السبعة إذا رجع إلى أهله للآية، ولما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» متفق عليه. فإن صامها بعد حجه بمكة أو في طريقه جاز؛ لأنه صوم واجب جاز تأخيره في حق من يصح منه الصوم فجاز تقديمه، كرمضان في حق المسافر، ولا يجب التتابع في شيء من صوم المتعة؛ لأن الأمر فيه مطلق فلم يجب التتابع فيه كقضاء رمضان، فإن لم يصم الثلاث قبل أيام النحر صام أيام منى في إحدى الروايتين لقول ابن عمر وعائشة: لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا للمتمتع إذا لم يجد الهدي. والثانية: لا يصومها؛ لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صوم أيام التشريق، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام. وهل يلزمه لتأخيره دم؟ فيه روايتان: إحداهما: يلزمه؛ لأنه أخر الواجب من المناسك عن وقته فلزمه دم كتأخير الجمار. والثانية: لا يلزمه دم؛ لأنه صوم واجب يجب القضاء بفواته، فلم يجب عليه بفواته كفارة كصوم رمضان. وقال القاضي: إن أخره لغير عذر لتفريطه؛ لزمه، وإن أخره لعذر لم يلزمه وإن أخر الهدي الواجب لعذر من ضياع نفقة ونحوها فليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدي الواجب، وإن أخره لغير عذر ففيه روايتان: إحداهما: لا يلزمه إلا قضاؤه لذلك. والثانية: عليه هدي آخر؛ لما روي عن ابن عباس أنه قال: من تمتع فلم يهد إلى قابل يهدي هديين. ولأنه من نسك موقت فوجب بتأخيره دم كالرمي. فصل: ومن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي؛ لم يلزمه الانتقال إليه؛ لأنه صوم شرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 فيه لعدم الهدي فلم يلزمه الانتقال عنه كصوم السبعة، وله الانتقال عنه كصوم السبعة، وله الانتقال إليه؛ لأنه الأصل وهو أكمل. وإن وجب عليه الصوم فلم يشرع فيه حتى قدر على الهدي ففيه روايتان: إحداهما: لا يلزمه الهدي؛ لأن الصوم استقر عليه، أشبه الشارع فيه. والثانية: يلزمه لأنه وجد المبدل قبل شروعه في البدل أشبه الواجد له حال الوجوب. فصل: ويجب على القارن دم؛ لأنه يروى عن ابن مسعود وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن القران نوع تمتع فيدخل في عموم الآية، ولأنه ترفه بترك أحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع، ويشترط أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وحكمه حكم دم المتعة فيما ذكرناه. فصل: وإذا حاضت المتمتعة قبل الطواف للعمرة فخشيت فوات الحج، أو خشي ذلك غيرها، أحرم بالحج مع العمرة وصار قارناً لحديث عائشة، ولأنه يجوز إدخال الحج على العمرة لغير عذر فمع خشية الفوات أولى. فصل: وتجزئ عمرة القارن وعمرة المفرد من أدنى الحل عن عمرة الإسلام، وعنه: لا تجزيان؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة لما أعمرها أخوها: هذه مكان عمرتك» والصحيح: الأول؛ لقول الصبي بن معبد لعمر إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما، يعني أهللت بالمكتوبتين. فقال عمر: هديت لسنة نبيك، ولأنها عمرة صحيحة فكانت مجزئة كعمرة المتمتع والمكي، ولأن الحج مع تأكيده يجزئ الإحرام به من مكة، فالعمرة من أدنى الحل أولى، وأما حديث عائشة فهو حجة على إجزاء إحدى العمرتين المختلف فيهما، ولا حجة فيه على عدم الإجزاء في الأخرى؛ لأنه إنما أعمرها من التنعيم تطييباً لقلبها لما سألته ذلك، ولم يبدأها به. فصل: ويسن للمحرم التلبية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبى ورفع صوته وأمر برفع الصوت بها، وصفتها: لبيك اللهم لبيك؛ لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك؛ لا شريك لك؛ لما روى ابن عمر أن هذه تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. متفق عليه. وتجوز الزيادة عليها لأن عمر زاد: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن؛ لبيك مرهوباً ومرغوباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 إليك؛ لبيك، وزاد ابنه: لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل. وزاد أنس لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، وسمعهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكر، ولا تستحب الزيادة لاقتصار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها. قال جابر: «وأهل الناس بهذا الذي يهلون، ولزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته» ، رواه مسلم. ويستحب أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدها؛ لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه ذكر رسوله كالأذان، ثم يسأل الله الجنة ويستعيذ من النار، ويستحب ذكر إحرامه في تلبيته لقول أنس: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لبيك عمرة وحجاً» متفق عليه، وقول ابن عباس: «قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وهم يلبون بالحج» ، قال أحمد: إذا لبى القارن بهما بدأ بالعمرة؛ لحديث أنس. وقال أبو الخطاب لا يستحب ذكر الإحرام فيها. فصل: ويستحب البداءة بالتلبية إذا ركب راحلته؛ لقول ابن عباس، «أوجب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإحرام حين فرغ من صلاته، فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل، أي لبى» ، ويستحب رفع الصوت بها لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال» حديث صحيح، ولا يجهد نفسه بذلك لئلا ينقطع صوته فتنقطع تلبيته، ولا ترفع المرأة صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها؛ لأنه يخاف الافتتان بها، ويستحب الإكثار منها؛ لأنها ذكر، ولأنه يروى عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما من مسلم يضحى لله يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه، فعاد كما ولدته أمه» رواه ابن ماجة، ويتأكد استحبابها في ثمانية مواضع: إذا علا نشزاً أو هبط وادياً، أو تلبس بمحظور ناسياً، وفي دبر الصلوات المكتوبات وإذا التقت الرفاق وفي إقبال الليل والنهار وبالأسحار؛ لأن النخعي قال: كانوا يستحبون التلبية دبر الصلوات المكتوبة، وإذا هبط وادياً وإذا علا نشزاً، وإذا لقي راكباً، وإذا استوت به راحلته، ولأن في هذه المواضع ترتفع الأصوات، ويكثر الضجيج، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الحج: العج والثج» وهو حديث غريب. والعج: رفع الصوت، والثج: إسالة الدماء. وحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 التلبية دبر الصلاة حكم التكبير في أيام عيد النحر، وتجزئ التلبية مرة واحدة؛ لعدم الأثر في تكرارها، ولا بأس بالزيادة؛ لأنها زيادة ذكر، وتستحب التلبية في المسجد الحرام ومنى وسائر مساجد الحرم وبقاعه؛ لأنها مواضع النسك، ولا يستحب إظهارها في مساجد الحل وأمصاره؛ لما روي عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يلبي بالمدينة، فقال: إن هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت. [ باب محظورات الإحرام ] وهي تسعة، أحدها: الجماع؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، وقال ابن عباس الرفث: الجماع. وتحرم المباشرة فيما دون الفرج لشهوة؛ لأنه محرم للوطء فحرم المباشرة لشهوة كالصيام، ويحرم عليه النظر لشهوة؛ لأنه نوع استمتاع فأشبه المباشرة. فصل: الثاني: عقد النكاح؛ لا يجوز للمحرم أن يعقده لنفسه ولا لغيره، ولا يجوز عقده لمحرم، ولا على محرمة؛ لما روى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب» ، رواه مسلم. ولأن الإحرام يحرم الطيب فحرم النكاح كالعدة، وإن فعل فالنكاح باطل؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 بأس بالرجعة؛ لأنها إمساك للزوجة، بدليل قول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 ولأنها تجوز بغير ولي ولا شهود، ولا إذنها، فلم تحرم كإمساكها بترك الطلاق. وعنه: لا يحل لأنه عقد وضع لإباحة البضع، أشبه النكاح. ويجوز أن يشهد في النكاح لأن العقد الإيجاب والقبول، وليس للشاهد فيهما شيء. وتكره الخطبة للمحرم وخطبة المحرمة؛ للخبر، ولا يجب بالتزويج فدية؛ لأنه عقد فسد للإحرام فأشبه شراء الصيد. فصل: الثالث: قطع الشعر؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . نص على حلق الرأس، وقسنا عليه سائر شعر البدن؛ لأنه يتنظف ويترفه به، فأشبه حلق الرأس، وقص الشعر وقطعه ونتفه كحلقه، ولا يحرم عليه حلق شعر الحلال؛ لأنه لا يترفه بذلك. وإن خرج في عينه شعر أو استرسل شعر حاجبيه فغطى عينيه، فله إزالته ولا فدية عليه؛ لأن الشعر آذاه فكان له دفع أذاه من غير فدية كالصيد، وإن كان الأذى من غير الشعر، كالقمل فيه، والقروح برأسه، أو صداع، أو شدة الحر عليه لكثرة شعره فله إزالته، وعليه الفدية؛ لما نذكره، ولأنه فعل المحرم لدفع ضرر غيره، فلزمته الفدية، كما لو قتل الصيد لمجاعة، بخلاف من آذاه الشعر. فصل: الرابع: تقليم الأظافر، يحرم لأنه جزء ينمى، ويترفه بإزالته، أشبه الشعر، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 انكسر ظفره فله إزالته ولا فدية عليه كالشعر المؤذي، وإن قص أكثر مما انكسر فعليه فديته، وإن احتاج إلى مداواة قرحة لا يمكنه مداواتها إلا بقص ظفره فعل، وعليه الفدية، كحالق الرأس دفعاً لأذى قمله. فصل: الخامس: لبس المخيط، يحرم عليه لبس كل ما عمل للبدن على قدره أو على قدر عضو منه، كالقميص والبرنس والسراويل والخف؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحداً لا يجد نعلين فيلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس» متفق عليه، وسواء في هذا ما كان من خرق أو جلد، مخيط بالإبر أو ملصق بعضه ببعض؛ لأنه في معنى المخيط، والتبان والران كالسراويل؛ لأنه في معناه وإن شق الإزار، وجعله ذيلين شدهما على ساقيه؛ لم يجز؛ لأنه كالسراويل، وتجب الفدية باللبس؛ لأنه محرم في الإحرام فتعلقت به الفردية كالحلق، ولا يجوز له عقد ردائه عليه؛ لأن ابن عمر قال: لا تعقد عليك شيئاً، ولأنه يصير بالعقد كالمخيط، ولا يجوز له أن يزره عليه، ولا يخله بشوكة ولا غيرها، ولا يغرز طرفيه في إزاره؛ لأنه في معنى عقده، وله أن يعقد إزاره؛ لأنه يحتاج إليه لستر العورة، ولذلك جاز للمرأة لبس المخيط في إحرامها لكونها عورة، وله أن يشد وسطه بعمامة أو حبل، ولا يعقده، ولكن يدخل بعضه في بعض، وله أن يلبس الهميان الذي فيه نفقته، ويدخل السيور بعضها في بعض، فإن لم يثبت عقده؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أوثق عليه نفقتك، ولأن هذا مما تدعو الحاجة إلى عقده فجاز كالإزار، فأما المنطقة وما لا نفقة فيه، فلا يجوز عقده لعدم الحاجة إليه، فإن احتاج إلى عقد المنطقة؛ لوجع ظهره، فعل وفدى، نص عليه؛ لأن هذا نادر، فأشبه حلق الشعر لوجع الرأس. فأما القباء ونحوه فقال الخرقي: يطرحه على كتفيه، ولا يدخل يديه في كميه؛ لأنه لا يحيط ببدنه، أشبه الاتشاح بالقميص. وقال القاضي: عليه الفدية؛ لأنه لبس المخيط على العادة في لبسه، فلزمه الفدية، كما لو أدخل يديه في كميه. ومن لم يجد إزاراً، فله لبس السراويل ولا فدية عليه؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين» متفق عليه. ومن عدم الرداء لم يبح له لبس القميص؛ لأنه يمكنه أن يرتدي به على صفته، ولا يمكن أن يتأزر بالسراويل، ومتى وجد الإزار لزمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 خلع السراويل للخبر. ويحرم على المحرم لبس الخفين للخبر، فإن لم يجد نعلين؛ لبس خفين، ولا يقطعهما، ولا فداء عليه؛ لحديث ابن عباس، وعنه: لا يلبسهما حتى يقطعهما أسفل من الكعبين، فإن فعل افتدى؛ لأن في حديث ابن عمر زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، وإن لبس خفاً مقطوعاً مع وجود النعل، فعليه الفدية للخبر، وليس له لبس الجمجم، واللالكة في ظاهر كلام أحمد؛ لأنه في معنى الخف المقطوع، فإن لم يجد النعلين، فله لبس ذلك من غير فداء كالخفين. قال أحمد: لا يلبس نعلاً لها قيد، وهو السير المعترض على الزمام، ويقطع العقب يعني الشراك. قال القاضي: إذا كانا عريضين يستران القدم فلا فدية فيه؛ لأن حكمهما أخف من حكم الخف، وقد أباح لبسه عند عدم النعل من غير قطع، فها هنا أولى. ومن وجد نعلاً لا يمكنه لبسها لبس الخف، وافتدى، نص عليه؛ لأن إسقاط الفدية مشروط بعدم النعل، والقياس أنه لا فدية عليه؛ لأن العجز كالعدم في الانتقال إلى البدل، وقد قام مقامه هاهنا في الجواز، فكذلك في سقوط الفدية. فأما المحرمة، فلها لبس المخيط كله، إلا النقاب والقفازين والبرقع وشبهه؛ لما روى ابن عمر أنه «سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر، أو خز، أو حلي، أو سراويل، أو قميص أو خف» . رواه أحمد بإسناده. وروى البخاري منه: «لا تتنقب المرأة، ولا تلبس القفازين» . ولأن إحرام المرأة في وجهها فحرم عليها تغطيته. وإن احتاجت إلى سترة، سدلت على وجهها من فوق رأسها ما يستره؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «كان الرجال يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرمات، فإذا حاذونا، سدلت إحدانا جلبابها على رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه» . رواه أبو داود. قال القاضي: ويكون ما تسدله متجافياً، ولا يصيب البشرة، قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولم أجد هذا عن أحمد، ولا في الحديث، والظاهر أنه غير معتبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 فصل: السادس: تغطية الرأس؛ لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لبس العمائم، ولقوله في الذي مات محرماً «لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» ويحرم تغطية بعضه؛ لأن النهي تناول جميعه، ولا يجوز أن يعصبه بعصابة ولا سير، ولا يجعل عليه شيئاً يلصق به، سواء كان فيه دواء، أو لا دواء فيه، ولا يطينه بطين ولا حناء، ولا دواء يستره؛ لأنه نوع تغطية، وفيه الفداء لما ذكرنا في اللباس. فإن حمل عليه طبقاً، أو وضع يده عليه، فلا بأس؛ لأنه لا يقصد به الستر، ولو ترك فيه طيباً قبل إحرامه؛ لم يمنع من استدامته؛ لقول عائشة: «كأني أنظر إلى وبيص الطيب في رأس رسول الله وهو محرم» ، ولا يمنع من تلبيده بصمغ، وعسل؛ ليتلبد ويجتمع الشعر، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني لبدت رأسي» وهو محرم. متفق عليه، ولا يمنع من تغطية وجهه؛ لأن عثمان وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت أجازوه، وعنه: يمنع منه؛ لأنه في بعض لفظ حديث ابن عباس في الميت المحرم، «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه» متفق عليه وفي تظليل المحمل روايتان: إحداهما: ليس له أن يتظلل به؛ لأن ابن عمر قال: اضح لمن أحرمت له، أي: ابرز للشمس، ولأنه ستر رأسه بما يقصد به الترفه، أشبه تغطيته، وتلزمه الفدية؛ لما ذكرنا. والثانية: له أن يتظلل؛ لأنه ليس بمباشر للرأس، أشبه الخيمة، وله أن يتظلل بثوب على عود؛ لما روت أم الحصين قالت: «حججت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة» . رواه مسلم. ولا بأس بالتظلل بالخيمة والسقف والشجرة وأشباه ذلك؛ لأنه لا يلازمه، أشبه ظل الجبال والحيطان. فصل: السابع: الطيب، يحرم عليه استعماله في بدنه وثيابه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الميت المحرم «ولا تقربوه طيباً» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران» وتجب به الفدية لما ذكرنا في اللباس، ويحرم عليه المبخر بالطيب والمصبوغ به، قياساً على المزعفر، ولا يجوز أن يأكل طيباً، ولا يكتحل به، ولا يستعط به، ولا يحتقن به؛ لأنه استعمال للطيب، وإن كان في الطعام طيب يظهر ريحه؛ لم يجز أكله لأنه يأكل طيباً، وإن لم يظهر له ريح جاز أكله، وإن ظهر لونه، وإن ظهر طعمه فظاهر كلام أحمد المنع منه؛ لأن الطعم لا يكاد ينفك عن الرائحة، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 لبس ثوباً كان مطيباً فانقطع ريحه، وكان بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحه، فعليه الفدية لأنه مطيب، وإلا فلا، وإن فرش فوق المطيب ثوب صفيق يمنع الرائحة والمباشرة، فلا فدية عليه بالنوم عليه، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه، فعليه الفدية؛ لأنه يمنع من استعمال الطيب في ثيابه، كما يمنع منه في بدنه. والطيب كل ما يتطيب به، أو يتخذ منه طيب، كالمسك والكافور والعنبر والزعفران والورس والورد والبنفسج، والأدهان المطيبة بشيء من ذلك، كدهن الورد والبنفسج والخيري والزنبق ونحوها. وفي الريحان الفارسي روايتان: إحداهما: ليس بطيب؛ لأن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في المحرم: يدخل البستان ويشم الريحان، ولأنه إذا يبس ذهبت رائحته أشبه بنت البرية. والثانية: هو طيب؛ لأنه يتخذ للطيب، أشبه الورد في سائر النبات الطيب الرائحة الذي لا يتخذ منه طيب كالمرزنجوش والنرجس والبرم، وجهان قياساً على الريحان، وقال أبو الخطاب: في الورد والخيري والبنفسج والياسمين روايتان، كالريحان، والصحيح أنه طيب؛ لأنه يتخذ منه طيب، فهو كالزعفران، فأما نبت البرية، كالشيح والقيصوم والإذخر والخزامى والفواكه كالأترج والتفاح والسفرجل والحناء، فليس بطيب؛ لأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب، فأشبه العصفر، وقد ثبت أن العصفر ليس بطيب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولتلبس ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر» وكان أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرمن في المعصفرات، وإن مس المحرم طيباً يعلق بيده، فعليه الفدية؛ لأنه طيب يده، وإن مس ما لا يعلق بيده، كقطع الكافور والعنبر فلا فدية؛ لأنه لم يتطيب، وإن شمه فعليه الفدية؛ لأنه يستعمل هكذا، وإن شم العود فلا فدية عليه؛ لأنه لا يستعمل هكذا ولا تقصد رائحته، وإن تعمد لشم الطيب، مثل أن دخل الكعبة، وهي تجمر، أو حمل مسكاً ليشم رائحته، أو جلس عند العطار لذلك، فعليه الفدية؛ لأنه شمه قاصداً له، مبتدئاً به في الإحرام، فأشبه ما لو باشره، وإن لم يقصد ذلك، كالجالس عند العطار لحاجة أخرى، أو دخل الكعبة ليتبرك بها أو حمل الطيب من غير مس للتجارة، فلا يمنع منه؛ لأنه لا يمكن التحرز منه فعفي عنه. فصل: الثامن: الصيد، حرام صيده وقتله وأذاه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . فإن أخذه لم يملكه؛ لأن ما حرم لحق غيره؛ لم يملكه بالأخذ من غير إذنه، كمال غيره، وعليه إرساله من موضع يمتنع فيه، فإن تلف من يده ضمنه كمال الآدمي، وإن كان الصيد لآدمي، فعليه رده إليه؛ لأنه غصبه منه، ويحرم عليه تنفيره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة: «لا ينفر صيدها» متفق عليه. وهذا في معناه، فإن نفره، فصار إلى شيء هلك به، ضمنه؛ لخبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه هلك بسبب من جهته، فأشبه من نصب له شركاً فهلك به. ويحرم عليه الإعانة على قتله، بدلالة، بقول أو إشارة، أو إعارة آلة؛ لما «روى أبو قتادة أنه كان مع أصحاب له، محرمين وهو لم يحرم، فأبصرو حماراً وحشياً، وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا لو أني أبصرته، فركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، قالوا: والله لا نعينك عليه» . وهذا يدل على اعتقادهم تحريم الإعانة عليه، ولما سألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها» متفق عليه. ولأن ما حرم قتله حرمت الإعانة عليه، كالآدمي، فإن فعل فقتله حلال فالجزاء على المحرم؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن فعله سبب إتلافه، فتعلق به الضمان كتنفيره، وإن قتله محرم آخر، فالجزاء بينهما، وإن كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة، فلا شيء فيها؛ لأنها لم تكن سبباً لإتلافه، وإن ضحك المحرم عند رؤية الصيد ففطن الحلال، فلا شيء فيه؛ لأن في حديث أبي قتادة: «فبينا أنا مع أصحابي فضحك بعضهم، فنظرت فإذا حمار وحش» . وفي رواية: «إذ أبصرت بأصحابي يتراؤون شيئاً فنظرت فإذا حمار وحش» ، ويحرم عليه الأكل مما أشار عليه أو أعان عليه، أو كان له أثر في ذبحه، مثل أن يعيره سكيناً؛ لحديث أبي قتادة، ويحرم عليه أكل ما صاده، أو صيد لأجله؛ لما روى جابر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «صيد البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» قال الترمذي: هذا أحسن حديث في الباب. ويباح أكل ما عدا ذلك للحديثين، فإن أكل مما منع من أكله مما لزمه ضمانه كالذي صاده، أو دل عليه؛ لم يضمنه بالأكل لأنه قد ضمنه بالقتل، فلم يضمنه بالأكل كشاة غيره، وكذلك إن وجب على غيره ضمانة، وإن لم يكن ضمن بالقتل، كالذي صاده حلال من أجله، ضمنه بالأكل بمثله لحماً؛ لأنه إتلاف جزء للصيد، حرمه الإحرام، فتعلق به الضمان، كإتلاف أجزاء الحي، وإن ذبح المحرم الصيد، حرم على كل أحد؛ لأنه منع من الذبح لحق الله، فلم يبح ذبحه كالمجوسي، وما حرم عليه لدلالة، أو إعارة آلة، أو صيد من أجله؛ لم يحرم على الحلال؛ لأن لا فعل منه فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 فصل: ويحرم عليه شراء الصيد واتهابه؛ لما روى ابن عباس، «أن الصعب بن جثامة، أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حماراً وحشياً، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» متفق عليه، ولأنه سبب يتملك به الصيد، فلم يملكه به المحرم، كالاصطياد، ومتى ملك الصيد بجهة محرمة، حتى حل؛ لم يبح له، وعليه إرساله، فإن تلف أو أتلفه فعليه فداؤه؛ لأنه تلف بسبب كان في إحرامه فضمنه كما لو جرحه فمات بعد حله، وإن ذبحه بعد التحلل لم يبح عند القاضي؛ لأنه صيد لزمه ضمانه، فلم يبح ذبحه، كحلال الإحرام. وقال أبو الخطاب: يباح؛ لأنه ذبحه في حال حله، فأبيح كغيره، وإن أحرم وفي ملكه صيد؛ لم يزل ملكه عنه؛ لأنه ملك فلا يزول بالإحرام، كملك البضع، وله بيعه وهبته، وإن كان في يده المشاهدة أو قفص أو حبل معه، فعليه إرساله، فإن لم يفعل فأرسله إنسان، فلا ضمان عليه؛ لأنه ترك فعل الواجب، فإن ترك حتى تحلل، فحكمه حكم ما صاده، قال في الشرح: فملكه باق عليه، وإن مات من يرثه وله صيد، ورثه؛ لأن الملك بالإرث يثبت حكماً، بغير اختياره، ويثبت للصبي والمجنون، فأشبه استدامة الملك، ويحتمل أن لا يملكه؛ لأنه ابتداء ملك فأشبه الشراء. فصل: والصيد المحرم: ما جمع صفات ثلاث: أحدها: أن يكون من صيد البر؛ لأن صيد البحر حلال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وصيد البحر ما يفرخ فيه ويأوي إليه، فأما طير الماء فهو من صيد البر المحرم لأنه يتعيش في البحر ولا يعيش فيه، وفي الجراد الجزاء لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه لا يعيش إلا في البر فهو كسائر الطير، وعنه: لا جزاء فيه؛ لأنه يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه من صيد البحر، ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق ضعيف. الثاني: أن يكون وحشياً، فأما الأهلي كبهيمة الأنعام، والدجاج، فليس بمحرم؛ لأنه ليس بصيد، ولذلك يذبح الهدايا والأضاحي، والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال، فلو تأنس الوحشي كحمار الوحش والغزال والحمام لم يحل وفيه الجزاء، ولو توحش الإنسي لم يحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 الثالث: أن يكون مباحاً، فلا يحرم قتل غيره بالإحرام ولا جزاء فيه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن: الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور» متفق عليه. فثبت إباحة هذه الخمس بالنص، وقسنا عليهن ما في معناهن مما فيه أذى، فأما غير المأكول مما لا أذى فيه، فيكره قتله ولا جزاء فيه؛ لأن الصيد ما كان مأكولاً، إلا أن ما تولد بين مأكول وغيره، كالسمع وهو ولد الضبع من الذئب، والعسبار: ولد الذئبة من الضبع، يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً لحرمة القتل، كما غلبت فيه حرمة الأكل. والمتولد بين أهلي ووحشي يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً للتحريم، وفي الثعلب الجزاء، مع الخلاف في أكله، تغليباً للتحريم، وفي القمل روايتان: إحداهما: لا شيء فيه لتحريم أكله وأذاه فهو كالبراغيث. والثانية: فيه الجزاء لأنه يترفه بإزالته، وأي شيء تصدق به كان خيراً منه. قال القاضي: وإنما الروايتان في ما ألقاه من شعره، أما ما ألقاه من ظاهر بدنه أو ثوبه، فلا شيء فيه رواية واحدة لشبهه بالبراغيث. فصل: وما حرم من الصيد، حرم كسر بيضه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال في بيض النعام، يصيبه المحرم: يضمنه» رواه الدارقطني. ولأنه خارج من الصيد يصير منه مثله فهو كالفرخ، وإن كسر بيضاً لم يحل أكله، ولا يحرم على حلال؛ لأنه لا يحتاج إلى زكاة. وقال القاضي: يحرم على كل أحد قياساً على الصيد، وإن كسر بيضاً مذراً فلا شيء عليه؛ لأنه ليس بحيوان ولا يخلق منه حيوان فهو كالأحجار، قال أصحابنا: إلا بيض النعام فإن لقشره قيمة، والأول أولى. وإن نقل بيض صيد فجعله تحت آخر فحضنه وأفرخ، فلا شيء عليه، وكذلك إن كسره فخرج منه فراخ فعاشت، وإن لم تعش الفراخ أو لم تحضنه، أو ترك مع بيضه شيئاً نفر من الصيد فلم يحضنه، ضمنه؛ لأنه أتلفه، وإن باض في طريقه أو على فراشه، فنقله فلم يحضنه الصيد حتى تلف ففيه وجهان: أحدهما: يضمنه؛ لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما لو قتله للمجاعة. والثاني: لا شيء عليه؛ لأنه ألجأه إلى إتلافه فأشبه ما لو صال عليه صيد فدفعه فقتله، وإن افترش الجراد في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان كذلك. فصل: وإن احتاج المحرم إلى لبس المخيط، أو تغطية رأسه، أو الطيب لمرض، أو شدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 حر، فعله، وعليه الفدية، قياساً على الحلق، وإن اضطر إلى الصيد فله أكله وعليه جزاؤه؛ لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما ذكرناه، وإن صال عليه صيد فقتله دفعاً عن نفسه فلا جزاء فيه؛ لأنه حيوان قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي. وقال أبو بكر: عليه الجزاء لأنه قتله لمصلحة نفسه، فأشبه ما لو قتله لأكله والأول أصح. وإن خلص صيداً من سبع أو شبكة ليرسله فتلف ففيه وجهان: أحدهما: يضمنه؛ لأنه تلف بفعله فيضمنه كالمخطئ. والثاني: لا يضمنه؛ لأنه تلف بفعل مباح لمصلحته فلم يضمنه، كالآدمي يتلف بمداواة وليه. فصل: يكره للمحرم حك شعره بأظفاره كيلا ينقطع، فإن انقطع به شعره لزمته فديته، ويكره الكحل بالإثمد غير المطيب؛ لأنه زينة، والحاج أشعث أغبر، وهو في حق المرأة أشد كراهة؛ لأنها محل الزينة ولا فدية فيه؛ لأن وجوبها من الشارع، ولم يرد بها ههنا، ويكره لبس الخلخال، والتزين بالحلي لذلك، وهو مباح لحديث ابن عمر، ويكره أن ينظر في المرآة لإصلاح شيء لأنه نوع تزين، ويكره أن يدهن بدهن غير مطيب لذلك، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في جوازه روايتان، إلا أنه يحتمل أن تختص الروايتان بدهن الشعر؛ لأنه يذيل الشعث، ويسكن الشعر، ويزينه، ويباح التدهن في غيره؛ لأن للمحرم أكل الدهن فكان له أن يدهن به. وقد روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادهن بدهن غير مقتت» ، أي: غير مطيب، يعني وهو محرم [والأولى أصح] . إلا أنه من رواية فرقد وهو ضعيف. ولا فدية فيه بحال لما ذكرنا، وينبغي أن ينزه إحرامه عن الكذب والشتم والكلام القبيح والمراء لقول الله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] قال ابن عباس: الفسوق: المنابزة بالألقاب، وتقول لأخيك: يا فاسق يا ظالم، والجدال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه. وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» متفق عليه. ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام المرء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 تركه ما لا يعنيه» ففي حال الإحرام والتلبس بطاعة الله تعالى والاستشعار بعبادته أولى. فصل: ولا بأس أن يغتسل المحرم بالماء والسدر والخطمي ولا فدية عليه. وعنه: عليه الفدية، والأول أصح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الميت المحرم: «اغسلوه بماء وسدر» . وقال عبد الله بن حنين: «امترى ابن عباس والمسور بن مخرمة في غسل المحرم رأسه، فأرسلوني إلى أبي أيوب الأنصاري، أسأله كيف رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغسل رأسه وهو محرم؟ قال: فصب على رأسه مقبلاً ومدبراً وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل» . متفق عليه. ويجوز أن يحتجم ولا يقطع شعراً؛ لما روى ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم.» متفق عليه. ويجوز أن يفتصد، كما يجوز أن يحتجم، ويتقلد بالسيف عند الضرورة؛ لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلوا في عمرة القضية، متقلدين سيوفهم، ولا بأس بالتجارة والتكسب والصناعة؛ لقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . قال ابن عباس: كان ذو المجاز وعكاظ متجراً للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج. رواه البخاري. فصل: ومن جامع، أفسد حجه وعليه بدنة، سواء كان عالماً أو جاهلاً، عامداً أو ناسياً؛ لأنه في معنى يتعلق به قضاء الحج، فاستوى عمده وسهوه، كالفوات. وإن حلق أو قلم ناسياً أو جاهلاً، فعليه الفدية؛ لأنه إتلاف، فاستوى عمده وسهوه، كإتلاف مال الآدمي. ويتخرج أن لا فدية عليه، قياساً على اللبس، وإن قتل الصيد مخطئاً، فعليه جزاؤه؛ لأنه ضمان مال، فأشبه ضمان مال الآدمي. وعنه: لا جزاء عليه؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 مفهومه أن لا شيء في الخطأ، وإن تطيب ولبس ناسياً أو جاهلاً، فلا فدية عليه؛ لما روى يعلى بن أمية: «أن رجلاً أتى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه جبة، وعليه أثر خلوق، فقال: يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: اخلع عنك هذه الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك» متفق عليه. . ولم يأمره بفدية لجهله، وقسنا عليه الناسي؛ لأنه في معناه، وعنه: عليه الفدية؛ لأنه فعل حرمه الإحرام، فاستوى عمده وسهوه كالحلق، والأول: المذهب. والحلق إتلاف لا يمكن تلافيه، ومتى ذكر الناسي أو علم الجاهل، فعليه إزالة ذلك، فإن استدامه فعليه الفدية؛ لأنه تطيب ولبس من غير عذر فأشبه المبتدئ به. وحكم المكره حكم الناسي؛ لأنه أبلغ منه في العذر. وإن مس طيباً يظنه يابساً فبان رطباً، ففيه وجهان: أحدهما: عليه الفدية؛ لأنه قصد مس الطيب. والثاني: لا فدية عليه؛ لأنه جهل تحريمه، فأشبه من جهل تحريم الطيب. ومن طيب أو حلق رأسه، بإذنه فالفدية عليه؛ لأن ذلك ينسب إليه، وإن حلق رأسه مكرهاً أو نائماً، فالفدية على الحالق؛ لأنه أمانة عنده فالفدية على من أتلفه بغير إذنه، كالوديعة. وإن حلق وهو ساكت لم ينكر، فالفدية عليه، كما لو أتلف الوديعة وهو يقدر على حفظها فلم يفعل، وإن كشط من جلده قطعة عليها شعر، أو قطع إصبعاً عليها ظفر، فلا فدية عليه؛ لأنه زال تبعاً لغيره، فلم يضمنه، كما لو قطع أشفار عيني إنسان، فإنه لا يضمن أهدابها. [ باب الفدية في الحج ] باب الفدية من حلق رأسه وهو محرم، فعليه ذبح شاة، أو إطعام ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وروى كعب بن عجرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لعلك تؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع تمر، أو نسك شاة» متفق عليه، وسواء حلق لعذر أو غيره. وعنه: فيمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 حلق لغير عذر، عليه الدم، من غير تخيير؛ لأن الله تعالى خير بشرط العذر فإن عدم الشرط، زال التخيير، والأول أولى؛ لأن الحكم ثبت من غير عذر المعذور تبعاً له، والتبع لا يخالف أصله، وإنما الشرط لإباحة الحلق؛ لا التخيير، وفي حلق أربع شعرات ما في حلق الرأس كله؛ لأنها كثير، فتعلقت بها الفدية كالكل، وفي الثلاث روايتان: إحداهما: هي كالكل، قال القاضي: هو المذهب لأنه يقع عليها، اسم الجمع المطلق، فهي كالأربع. والثانية: لا يجب فيها ذلك، وهي اختيار الخرقي. لأن الثلاث آخر القلة، وآخر الشيء منه. وفيما دون ذلك ثلاث روايات: إحداهن: في كل شعرة مد من طعام؛ لأن الله تعالى عدل الحيوان بالطعام هاهنا وفي الصيد، وأقل ما يجب منه مد من طعام فوجب. والثانية: قبضة من طعام؛ لأنه لا تقدير له في الشرع، فيجب المصير إلى الأقل؛ لأنه اليقين. والثالثة: درهم؛ لأن إيجاب جزء من الحيوان يشق، فصرنا إلى قيمته وأقل ذلك درهم، وإزالة الشعر بالقطع والنتف والنورة وغيرها كحلقه؛ لأنها في معناه، والأظفار كالشعر في الفدية؛ لأنها في معناها، وفي بعض الشعرة أو الظفر ما في جميعه، كما أن في القصيرة مثل ما في الطويلة، وإن حلق شعر رأسه وبدنه، فعليه فدية واحدة؛ لأنه جنس واحد فأجزأته فدية واحدة، كما لو لبس عمامة وقميصاً، وهذا اختيار أبي الخطاب. وحكي رواية أخرى: أن عليه فديتين، اختاره القاضي؛ لأن حلق الرأس يتعلق به نسك، دون شعر البدن فيخالفه في الفدية، ومن أبيح له الحلق، فهو مخير في الفدية قبله وبعده كما يتخير في كفارة اليمين، قبل الحنث وبعده. فصل: ومن لبس أو غطى رأسه أو تطيب، فعليه الفدية، مثل حلق رأسه؛ لأنه في معناه، فقسناه عليها، وإذا لبس عمامة وقميصاً وسراويل وخفين، فعليه فدية واحدة؛ لأنه جنس واحد فأشبه ما لو طيب رأسه وبدنه، وإن لبس وتطيب وحلق وقلم، فعليه لكل جنس فدية؛ لأنها أجناس مختلفة، فلم تتداخل كفاراتها بالأيمان والحدود، وعنه: إن فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 ذلك دفعة واحدة، ففديته واحدة؛ لأن الكل محظور فأشبه اللبس في رأسه وبدنه. وإن كرر محظوراً واحداً فلبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب، أو حلق ثم حلق، ففدية واحدة، ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني. وعنه: إن فعله لأسباب، مثل من لبس أول النهار للبرد، ووسطه للحر، وآخره للمرض ففديات؛ لأن أسبابه مختلفة، فأشبه الأجناس المختلفة، والأول أولى؛ لأن الحكم يتعلق بالمحظور لا بسببه، فأشبه الحالف بالله ثلاثة أيمان، على شيء واحد؛ لأسباب مختلفة، وقليل اللبس والطيب وكثيره سواء، وحكم كفارة الوطء في التداخل مثل ما ذكرنا؛ لأنها ليست ضماناً. فأما جزاء الصيد، فلا تداخل فيه، وكلما قتل صيداً حكم عليه. وعنه: أنه يتداخل، كسائر الكفارات. وعنه: لا يجب الجزاء، إلا في المرة الأولى؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] ولم يذكر جزاء، والأول المذهب؛ لقول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وهذا يقتضي كل قاتل، ومثل الصيدين، أكثر من مثل واحد، ولأنه ضمان مال يختلف باختلافه فوجب في كل مرة، كضمان مال الآدمي. قال أحمد: روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ، وفيمن قتل ولم يسألوه، هل كان قتل قبل هذا أم لا؟ . فصل: وإذا وطئ المحرم، في الفرج، في الحج، قبل التحلل الأول، فعليه بدنة؛ لأن ذلك يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسواء كان الفرج قبلاً أو دبراً، من آدمي أو من بهيمة؛ لأنه وطء في فرج، أشبه وطء الآدمية، وإن وطئت المحرمة مطاوعة، فعليها بدنة؛ لأنها أفسدت حجها بالجماع فوجبت عليها البدنة كالرجل، وإن وطئ الرجل محرمة مطاوعة، فعلى كل واحد منهما بدنة لأن ابن عباس قال للمجامع: اهد ناقة، ولتهد ناقة، ولأنه إفساد حج شخصين فأوجبت بدنتين كالوطء من رجلين. وعنه: يجزئهما هدي واحد؛ لأنه جماع واحد، فأشبه ما لو أكرهها، فإن وطئها نائمة، أو مكرهة، ففيها روايتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 إحداهما: أن الواجب هدي واحد عليه دونها؛ لأنها معذورة؛ لم يلزمها كفارة، كالمكرهة على الوطء في الصيام. والثانية: يجب هديان؛ لأنه إفساد حج اثنين، فعلى هذا يحتمل الرجل عنها؛ لأن الإفساد وجد منه، فكان موجبه عليه، كما تجب عليه نفقة قضائها، ويحتمل أن تكون عليها؛ لأنها وجبت لفساد حجها، وإن وطئ في العمرة، أو وطئ في الحج بعد التحلل الأول، فعليه شاة؛ لأنه فعل محظور لم يفسد حجاً، فلم يوجب بدنة، كالقبلة. ومتى وطئ المحرم دون الفرج، أو قبل أو لمس لشهوة، فلم ينزل، فعليه شاة لأنه فعل محرم بالإحرام؛ لم يفسد الحج، فوجبت به الشاة كالحلق، وإن أنزل فعليه بدنة؛ لأنه استمتاع، بالمباشرة أوجب الغسل، فأوجب البدنة كالوطء في الفرج، وإن نظر فلم ينزل، فلا شيء عليه. وإن نظر فصرف بصره فأنزل، فعليه شاة، وإن كرر النظر حتى أنزل ففيه روايتان: إحداهما: شاة، يروى ذلك عن ابن عباس، ولأنه ليس بمباشرة، فلم يوجب البدنة، كما لو صرف بصره. والثانية: فيه بدنة، اختارها الخرقي لأنه إنزال باستمتاع، فأوجب البدنة كالمباشرة، وإن فكر فأنزل، فلا شيء عليه؛ لما ذكرنا في الصوم، وإن أمذى في هذه المواضع، فهو كمن لم ينزل؛ لأنه خارج؛ لا يوجب الغسل أشبه البول. فصل: ومن لزمته بدنة، أجزأته بقرة؛ لأن جابراً قال: وهل هي إلا من البدن، ولأنها تقوم في الأضاحي والهدايا مقامها، فكذا هاهنا، ويجزئه سبع من الغنم لذلك، وإن لم يجد هدياً، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ولأن ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو، قالوا للواطئين: اهديا هدياً، فإن لم تجدا فصوما، ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم، وهم الأصل في ثبوت حكم الوطء، وإليهم المرجع فيه، فكذا في بدله، وقال أصحابنا: تقوم البدنة فيشتري بقيمتها طعاماً يتصدق به، فإن لم يجد صام عن كل مد يوماً قياساً على البدنة الواجبة في فدية النعامة. [ باب جزاء الصيد ] يجب الجزاء في الصيد لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الآية. وهو ضربان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 ما له مثل من النعم: وهي بهيمة الأنعام، فيجب فيه مثله للآية، وهو نوعان، ما قضت الصحابة فيه، فيجب فيه ما قضت؛ لأنه حكم مجتهد فيه، واجتهادهم أحق أن يتبع. فمن ذلك الضبع، قضى فيها عمر وابن عباس بكبش، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى فيها بذلك» . رواه أبو داود وغيره، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والنعامة، قضى فيها عثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية ببدنة. وحمار الوحش، وفيه روايتان: إحداهما: فيه بقرة؛ لأن عمر قضى فيه بها. والثانية: فيه بدنة؛ لأن أبا عبيدة وابن عباس قضيا فيه بها، وقضاء عمر أولى. لأنه أقرب إلى ما قضي به، وعن ابن مسعود أنه قضى في بقرة الوحش، ببقرة. وقال ابن عباس: في الإبل، بقرة. وقال ابن عمر: في الأروى، بقرة. وقضى عمر في الظبي، بشاة، وفي اليربوع بجفرة وهي التي لها أربعة أشهر في المعز. وفي الأرنب بعناق، وهي أصغر من الجفرة. وفي الضب بجدي. والضرب الثاني: ما لم تقض فيه الصحابة، فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة؛ لقول الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ويجوز أن يكون القاتل أحدهما؛ لدخوله في العموم، ولما روى طارق بن شهاب قال: خرجنا حجاجاً، فأوطأ منا رجل - يقال له إربد - ضباً، ففزر ظهره، فقدمنا على عمر فسأله إربد، فقال له: احكم فيه يا إربد. قال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم، فقال عمر: إنما أمرتك أن تحكم، ولم آمرك أن تزكيني، فقال إربد: أرى فيه جدياً، قد جمع الماء والشجر، فقال عمر: فذلك فيه. رواه سعيد بن منصور، ولأنه واجب لحق الله فجاز أن يكون من وجب عليه أميناً فيه كالزكاة. وفي كبير الصيد كبير مثله، وفي الصغير صغير مثله، وفي كل واحد من الصحيح والمعيب مثله، وإن فدى الذكر بالأنثى، جاز؛ لأنها أفضل، وإن فدى الأنثى بالذكر، ففيه وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 أحدهما: لا يجزئ لذلك. والآخر: يجزئ؛ لأن لحمه أوفر وهو المقصود، وإن فدى أعور من عين، بأعور من أخرى، جاز لأن المقصود منهما واحد، وإن فدى معيباً بمعيب من جنس آخر؛ لم يجز؛ لأنهما مختلفان. وإن أتلف صيداً ماخضاً، ففيه قيمة مثله ماخض، قال القاضي؛ لأن قيمته أكثر من مثله. وقال أبو الخطاب: فيه مثله ماخض للآية. وإن جنى على ماخض، فأتلف جنينها، ففيه ما نقصها، كما لو جرحها، وإن جرح حياً ثم مات ضمنه بمثله. فصل: الضرب الثاني: ما لا مثل له: وهو الطير وشبهه من صغار الصيد، ففيه قيمته، إلا الحمام، فإن فيه شاة؛ لأن عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس قضوا في حمام الحرم بشاة، والحمام: كل ما عب الماء وهدر، كالحمام المعروف، واليمام والجوازل والقماري، والرقاطي، والدباسي، والقطا؛ لأن هذا كله حمام، وقال الكسائي: كل مطوق حمام، فعلى قوله يكون الحجل حماماً، وعلى الأول ليس بحمام، وما كان أصغر من الحمام، ففيه قيمته؛ لأن لا مثل له، وما كان أكبر منه، ففيه وجهان: أحدهما: فيه قيمته لأن القياس يقتضيها في جميع الطير، تركناه في الحمام؛ لقضاء الصحابة، ففيما عداه يبقى على القياس. والثاني: فيه شاة؛ لأن إيجابها في الحمام تنبيه على إيجابها فيما هو أكبر منه. وقد روي عن ابن عباس وجابر، أنهما قالا في الحجلة والقطا والحبارى: شاة شاة. وإن نتف ريش طائر ففيه ما نقص، فإن عاد فنبت، ففي ضمانه وجهان، كغصن الشجرة إذا نبت، وفي بيض الصيد قيمته. فصل: ومن وجب عليه جزاء صيد، فهو مخير بين إخراج المثل، أو يقوم المثل، ويشتري بقيمته طعاماً، ويتصدق به، أو يصوم عن كل مد يوماً؛ لقول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] و [أو] للتخيير، وعنه: أنها على الترتيب، فيجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 المثل، فإن لم يجد [أطعم فإن لم يجد] صام، ككفارة القتل. وعنه: لا طعام في الجزاء، وإنما ذكره ليعدل به الصيام، والمذهب الأول؛ لأنه ظاهر النص فلا تعويل على ما خالفه. فصل: وإن اشترك جماعة في قتل صيد، فعليهم جزاء واحد. وعنه: على كل واحد جزاء؛ لأنها كفارة قتل، أشبهت كفارة قتل الآدمي. وعنه: إن كفروا بالمال فجزاء واحد، وإن كفروا بالصيام فكفارات، والأولى أولى؛ لأن ذلك يروى عن عمر وابنه وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأنه بدل متلف يتجزأ، فيقسم بدله بين المشتركين، كالديات وقيم المتلفات، وإن اشترك حلال وحرام، فلا شيء على الحلال. وهل يكمل الجزاء على الحرام، أو يكون حكمه، حكم المشارك لحرام؟ فيه وجهان: وإن جرح صيدا، ضمنه، وفي ضمانه وجهان: أحدهما: يضمنه بمثله؛ لأن ما وجب ضمان جملته بمثله، وجب في بعضه مثله، كالمكيلات. والآخر تجب قيمة قدره، من مثله؛ لأن الجزء يشق إخراجه، فصرنا إلى قيمته. وإن جرح صيدا فأزال امتناعه، فقتله حلال، أو سبع، فعلى المحرم جزاء جميعه؛ لأنه سبب تلفه، وإن قتله محرم آخر، فعلى الأول ما نقصه، والباقي على الثاني. وإن برئ وزال نقصه فلا شيء فيه، كالآدمي، وإن نقص فعليه نقصه، وإن برئ غير ممتنع، فعليه جزاء جميعه؛ لأنه عطله، فصار كالتالف، وإن غاب ولم يعلم خبره، فعليه نقصه؛ لأنه المتيقن. فصل: والقارن والمفرد والمعتمر سواء في جزاء الصيد، وسائر الكفارات؛ لأنهم سواء في الإحرام، فوجب استواؤهم في ذلك. فصل: وصيد الحرم حرام على الحلال والحرام؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 قال: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة؛ لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها، فقال العباس: إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلا الإذخر» متفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 عليه. وحكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام؛ لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء، والسمك في التحريم كصيد البر؛ لعموم قوله: «لا ينفر صيدها» ولأن حرمته بمحله، وهما في المحل سواء، وعنه: لا يحرم؛ لأنه لا يحرمه الإحرام، فلم يحرمه الحرم كالسباع. وسائر الحيوانات حكمها في الحرم حكمها في الإحرام، فما حرمه الإحرام من الصيد حرمه الحرم، وما أبيح فيه من الأهلي وغير المأكول؛ لم يحرمه الحرم، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» رواه مسلم. إلا أن القمل لا يحرمه الحرم، رواية واحدة. ويجب الجزاء على كل قاتل في الحرام، مسلماً كان أو كافراً، صغيراً أو كبيراً؛ لأن حرمته لمحله، وهو ثابت بالنسبة إلى كل قاتل، ولو قتل محرم صيداً حرمياً؛ لزمه جزاء واحد؛ لأن المقتول واحد، فكان جزاؤه واحداً كما لو قتله حلال. فصل: ومن ملك صيداً في الحل، فأدخله الحرم؛ لزمه رفع يده عنه وإرساله، فإن تلف في يده أو أتلفه، ضمنه، وإن ذبحه، صار ميتة؛ لأن الحرم سبب لتحريم الصيد، فحرم استدامة إمساكه، كالإحرام. وإن أمسكه في الحرم، فأخرجه إلى الحل؛ لزمه إرساله كالمحرم إذا مسك الصيد حتى حل. وإن رمى من الحرم صيداً في الحل، أو أرسل كلبه عليه، أو قتل صيداً على غصن في الحل، أصله في الحرم، فلا ضمان فيه؛ لأنه صيد حل، قاتله حلال فلم يضمن، كما لو كان قاتله في الحل، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينفر صيدها» يدل بمنطوقه على تحريمه في المسألة الأولى، وبمفهومه على حله في الثانية. وإن رمى من الحل صيداً في الحرم، أو أرسل كلبه عليه فقتله، أو قتل صيداً على غصن في الحرم، أصله في الحل، ضمنه؛ لأنه صيد حرمي معصوم بمحله. وعن أحمد فيهما جميعاً روايتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 فإن كانا جميعاً في الحل، فدخل السهم أو الكلب الحرم، ثم خرج، فقتل صيداً في الحل؛ لم يضمن بحال؛ لأن الصيد والصائد جميعاً في الحل. وإن رمى صيداً في الحل، فدخل السهم الحرم، فقتل فيه صيداً، ضمنه لأن العمد والخطأ واحد في الضمان. وإن أرسل كلبه على صيد في الحل، فدخل فقتله في الحرم، أو قتل غيره، ففيه روايتان: إحداهما: لا يضمن؛ لأن للكلب اختياراً، وقد دخل باختياره، فلم يضمن جنايته، بخلاف السهم. والثانية: إن كان الصيد قريباً من الحرم، ضمنه؛ لتفريطه بتعرضه للاصطياد في الحرم وإن كان بعيداً؛ لم يضمن؛ لعدم تفريطه، ولا يؤكل لأنه صيد حرمي. وقال أبو بكر: عليه الضمان بكل حال. وإن جرحه في الحل، فدخل الحرم فمات فيه؛ لم يضمنه، وحل أكله لأنه ذبحه في الحل. وإن وقف صيد في الحرم والحل، فقتله ضمنه، تغليباً للتحريم. وإن أمسك طائراً في الحل، فهلك فراخه في الحرم، ضمن الفراخ وحدها؛ لأنه أتلفها في الحرم. وإن أمسك الطائر في الحرم، فهلك الفراخ في الحل، ضمن الطائر وحكم الفراخ، حكم ما لو رمى من الحرم صيداً في الحل؛ لأن صيد الحل، هلك بسبب كان منه في الحرم. وإن نفر صيداً حرمياً، فهلك في نفوره بسبع أو غيره، في حل أو حرم ضمنه؛ لأنه هلك بتنفيره المنهي عنه، وإن سكن من نفوره، ثم هلك؛ لم يضمنه لأن هلاكه بغير سببه. وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه دخل دار الندوة، فعلق رداءه، فوقع عليه حمام، فخاف أن يبول عليه، فأطاره، فانتهزته حية فقال: أنا أطرت، فسأل من معه، فحكم عليه عثمان ونافع بن عبد الحارث بشاة. فصل: ويحرم قلع شجر الحرم، وحشيشه كله؛ لحديث ابن عباس، «إلا الإذخر» . وما زرعه الإنسان؛ لأنه كالحيوان الأهلي، وإن غرس شجرة، فقال أبو الخطاب: له قلعها لأنه أنبتها الآدميون، فأشبه الزرع. وإن أخذه من الحرم، فغرسه؛ لم يبح قلعه؛ لأنه حرمي، ويحتمل كلام الخرقي تحريم قلع الشجر كله؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يعضد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 شجرها» وذكر القاضي وأبو الخطاب: أنه يباح قطع الشوك والعوسج؛ لأنه بمنزلة السباع من الحيوان، والحديث صريح في أنه لا يعضد شوكها، واتباعه أولى. ولا بأس بقطع ما يبس؛ لأنه بمنزلة الميت، وأخذ ما تناثر أو يبس من الورق، أو تكسر من الشجر والعيدان بغير فعل الآدمي لذلك، وما قطعه الآدمي لم يبح له ولا لغيره الانتفاع به لظاهر كلام أحمد؛ لأنه قطع محرم؛ لحرمة الحرم، فأشبه ذبح الصيد. ولا يجوز أخذ ورق الشجر الأخضر؛ لأن في بعض الألفاظ: «ولا يخبط شجرها» ولأنه يضر بالشجر، أشبه نتف ريش الطير. فصل: ويجب الجزاء في ذلك، فيجب في الشجرة الكبيرة، بقرة، وفي الصغيرة شاة؛ لما روي عن ابن عباس أنه قال: في الدوحة بقرة، وفي الجزلة شاة، والدوحة: الكبيرة، والجزلة: الصغيرة. وإن قطع غصناً، ضمنه بما نقص، كأغصان الحيوان، فإن خلف مكانه، فهل يسقط الضمان؟ على وجهين: أحدهما: لا يضمنه، كشعر الآدمي وسنه. والثاني: يضمنه؛ لأنه أتلفه. وإن قلع شجرة؛ لزمه ردها إلى موضعها، كمن صاد صيداً لزمه إرساله، فإن أعادها فيبست، ضمنها؛ لأنه أتلفها، وإن نبتت كما كانت؛ لم يضمنها، كالصيد إذا أرسله، وإن نقصت، ضمن نقصها، كالصيد سواء. فصل: ويحرم قطع حشيش الحرم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يختلي خلاها» ويضمنه بقيمته، كما يضمن صغار الصيد بقيمته، وإن استخلف فهل يسقط الضمان؟ على وجهين. وفي إباحة رعيه وجهان: أحدهما: يباح؛ لأن الحاجة تدعو إليه فأشبه قطع الإذخر. والثاني: يحرم؛ لأنه تسبب في إتلافه، فهو كإرسال الكلب على الصيد، وتباح الكمأة لأنه لا أصل لها، فأشبهت الثمرة. فصل: ويكره إخراج تراب الحرم وحصاه؛ لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 كرهاه. ولا يكره إخراج ماء زمزم؛ لأنه يستخلف، ويعد للإتلاف، فأشبه الثمرة. فصل: ويحرم صيد مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشجرها؛ لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشرف على المدينة فقال: «اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثل ما حرم إبراهيم مكة» وفي لفظ: «ولا يقطع شجرها» متفق عليه. ولا جزاء في صيدها وشجرها؛ لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام، فأشبه صيد وج، ولأن الإيجاب من الشارع، ولم يرد به، وعنه: فيه الجزاء، وهو سلب القاتل لأخذه؛ لما روي «أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد، جاء أهل العبد، فكلموه أن يرد عليهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبى أن يرد عليهم» . رواه مسلم. وفي لفظ. قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم هذا الحرم» وقال: «من وجد أحداً يصيد منه فليسلبه» رواه أبو داود. وحد حرمها: ما بين لابتيها، بريد في بريد، وقال أحمد: كذا فسر أنس بن مالك، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بين لابتيها حرام» متفق عليه. فصل: ويفارق حرم مكة، في أن من أدخل إليها صيداً من خارج، فله إمساكه وذبحه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «يا أبا عمير ما فعل النغير» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 متفق عليه. وهو طائر كان يلعب به، فلم ينكر عليهم إمساكه. ويجوز أن يأخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل، ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف؛ لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حرم المدينة قالوا: يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا، فرخص لنا. فقال: القائمتان والوسادة والعارضة والمسند، فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء» رواه الإمام أحمد، فأما صيد وج وشجره، وهو واد من أودية الطائف، فحلال؛ لأن الأصل الحل. وقد روي فيه حديث، ضعفه أحمد، وذكره الخلال في كتاب العلل. فصل: وما وجب من الهدي والإطعام جزاء للصيد؛ لزمه إيصاله إلى مساكين الحرم؛ لقول الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . وكذلك دم التمتع والقران؛ لأنه نسك، فأشبه الهدي. ودم فدية الأذى، يختص بالمكان الذي وجب سببه فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر كعب بن عجرة بالذبح والإطعام بالحديبية، ولم يأمر بإيصاله إلى الحرم، ونحر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين حلق رأس الحسين بالسقبا. وفي معناه ما وجب بلبس أو طيب أو نحوه، وقال القاضي: ما وجب بفعل محظور، فيه روايتان: إحداهما: محله، حيث وجد سببه، كفدية الأذى والإحصار. والثانية: محله الحرم؛ لقول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وقال ابن عقيل: إن فعل المحظور لعذر يبيحه، فحمل هديه موضع فعله، وإن فعل لغير عذر، فمحله الحرم. وأما هدي المحصر، فمحل نحره محل حصره؛ لما روى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج معتمراً، فحالت كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية» ، روى البخاري نحوه، وبين الحديبية والحرم ثلاثة أميال، ولأنه جاز التحلل في غير موضعه للحصر، فيجوز النحر في غير موضع النحر، وعن أحمد: لا يجوز نحره إلا في الحرم. لقول الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فعلى هذا يبعثه إلى الحرم، ويواطئ من يبعثه على اليوم الذي ينحره فيه، فيحل حينئذ. وأما الصيام كله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 فيجزئه بكل مكان؛ لأنه لا نفع فيه لأهل المكان، فلا يختص بالمكان، كرمضان. فصل: وما وجب لمساكين الحرم؛ لم يجز ذبحه إلا في الحرم، وفي أي موضع منه ذبح جاز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر وطريق» رواه ابن ماجة. مفهومه أنه لا يجوز النحر في غيره مما ليس في معناه. إذا نحر ففرقه على المساكين، فإن أطلقها لهم يقتطعونها، جاز «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنات خمساً، ثم قال: من شاء فليقتطع» رواه أبو داود. ومساكين الحرم من حله من أهله وغيرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلقها لمن حضره. [ باب دخول مكة وصفة العمرة ] ويستحب لمن أراد دخول مكة أن يغتسل، ويدخلها من أعلاها من ثنية كداء، ويخرج من أسفلها؛ لما روي «عن ابن عمر أنه كان يغتسل، ثم يدخل مكة، ويذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله» ، وقال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة من ثنية العليا التي بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى» ، متفق عليهما، ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة؛ لقول جابر: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة ارتفاع الضحى، فأناخ راحلته عند باب بني شيبة، ودخل المسجد.» رواه مسلم. ويستحب أن يدعو عند رؤيته البيت، ويرفع يديه؛ لما روى ابن جريح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمر تشريفاً وتعظيماً وبراً» رواه الشافعي في مسنده، وعن سعيد بن المسيب: أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام)) . ذكر الأثرم هذا الدعاء وزاد: الحمد لله رب العالمين كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، الحمد لله الذي بلغني بيته، ورآني لذلك أهلاً، الحمد لله على كل حال، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام، وقد جئتك لذلك، اللهم تقبل مني، واعف عني، وأصلح لي شأني كله؛ لا إله إلا أنت، وما زاد من الدعاء فحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 فصل: ويبدأ بالطواف؛ لما روت عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قدم مكة، توضأ ثم طاف بالبيت» ، متفق عليه، ولأن الطواف تحية المسجد، فاستحبت البداءة به، كالركعتين في غيره من المساجد، وينوي المتمتع به طواف العمرة، وينوي المفرد والقارن الطواف للقدوم. ويسن الاضطباع فيه، وهو أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن، ويتركه مكشوفاً، ويرد طرفيه على منكبه الأيسر؛ لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى» رواه أبو داود. ويطوف سبعاً، يبتدئ بالحجر الأسود فيستلمه؛ لقول جابر: «حتى أتينا البيت معه، استلم الركن، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً» ، ومعنى استلامه: مسحه بيده، ويستحب تقبيله؛ لما روى أسلم قال: «رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر، وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبلك ما قبلتك.» متفق عليه، فإن لم يمكنه تقبيله، استلمه، وقبل يده؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلمه وقبل يده» ، رواه مسلم، فإن استلمه بشيء في يده قبله؛ لما روى ابن عباس قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف في البيت، ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن» . رواه مسلم. وإن لم يمكنه أشار بيده إليه؛ لما روى ابن عباس، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على بعير كلما أتى الركن أشار إليه، وكبر.» ويستحب أن يقول عنده ما روى عبد الله بن السائب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عند استلامه: بسم الله والله أكبر إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ويحاذي الحجر بجميع بدنه؛ ليستوعب جميع البيت بالطواف، ثم يأخذ في الطواف على يمين نفسه، ويجعل البيت على يساره، ويطوف سبعاً يرمل في الثلاث الأول منها، وهو إسراع المشي مع مقاربة الخطى، ولا يثب وثباً، ويمشي أربعاً لحديث جابر، وروى ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثاً، ومشى أربعاً.» متفق عليه. ولا يرمل في غير هذا الطواف لذلك. فإن ترك الرمل في الثلاث لم يقضه في الأربع؛ لأنه سنة فات محلها، فلم يقضه في غيره كالجهر في الأوليين، ولا يقضى في الأخريين. ولو فاته الرمل والاضطباع في هذا الطواف؛ لم يقضه فيما بعده، كمن فاته الجهر في الصبح لم يقضه في الظهر، ويكون الحجر داخلاً في طوافه؛ لأن الحجر في البيت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 ولا يطوف على جدار الحجر، ولا شاذروان الكعبة؛ لأنه من البيت، فيجب أن يطوف به. ولا يستلم الركن العراقي ولا الشامي؛ لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني، وما تركت استلامهما منذ رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلمهما في شدة ولا رخاء» ، رواه مسلم، وقال: «ما أرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلم الركنين اللذين يليان الحجر، إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.» متفق عليه، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك، كلما حاذى الحجر كبَّر. ويقول بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] لما روى عبد الله بن السائب: أنه «سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك ما بين ركن بني جمح والركن الأسود.» رواه أبو داود. ويقول في بقية الطواف: «اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً رب اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم» ، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو بما أحب، ويستحب أن يدنو من البيت؛ لأنه المقصود. فإن كان يمكنه الرمل بعيداً، ولا يمكنه قريباً، فالبعيد أولى؛ لأنه يأتي بالسنة المهمة. ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف؛ لأنه صلاة، والصلاة محل القرآن. ويجوز الشرب في الطواف؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب في الطواف» . رواه ابن المنذر. ويستحب أن يدع الحديث كله، إلا ذكر الله أو قراءة القرآن، أو دعاء أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر؛ لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الطواف في البيت صلاة، إلا أن الله أباحكم فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» رواه الترمذي. فصل: فإذا فرغ من الطواف، صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وسورة الإخلاص. لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف في البيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين، قرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه مسلم. وإن صلاهما في غير هذا الموضع، أو قرأ غير ذلك أجزأه. فصل: ويشترط لصحة الطواف تسعة أشياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 الطهارة من الحدث والنجس، وستر العورة؛ لحديث ابن عباس، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يطوف بالبيت عريان» . متفق عليه؛ ولأنها عبادة تتعلق بالبدن، فاشترط فيها ذلك، كالصلاة. وعنه، فيمن طاف للزيارة ناسياً لطهارته حتى رجع، فحجه ماض، ولا شيء عليه، وهذا يدل على أنها تسقط بالنسيان. وعنه، فيمن طاف للزيارة غير متطهر: أعاد ما كان بمكة، فإن رجع، جبره بدم، وهذا يدل على أن الطهارة ليست شرطاً، إنما هي واجب، يجبره الدم، فكذلك يخرج في طهارة النجس والستارة؛ لأنها عبادة لا يشترط فيها الاستقبال، فلم يشترط فيها ذلك كالسعي والوقوف. الرابع: النية؛ لأنها عبادة محضة، فأشبهت الصلاة. الخامس: الطواف لجميع البيت، فإن سلك الحِجْر، أو طاف على جدار الحجر، أو على شاذروان الكعبة؛ لم يجزئه؛ لأن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وهذا يقتضي الطواف لجميعه، والحِجْر منه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحِجْر من البيت» متفق عليه. السادس: الطواف سبعاً، فإن ترك منها شيئاً وإن قل؛ لم يجزئه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف سبعاً، فيكون تفسيراً لمجمل قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فيكون ذلك هو الطواف المأمور به، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خذوا عني مناسككم» . السابع: أن يحاذي الحجر في ابتداء طوافه، بجميع بدنه، فإن لم يفعل لم يعتد بذلك الشوط، واعتد له بما بعده. ويأتي بشوط مكانه، ويحتمل أن لا يجب هذا؛ لأنه لما لم يجب محاذاة جميع الحجر؛ لم تجب المحاذاة بجميع البدن. الثامن: الترتيب، وهو أن يطوف على يمينه، فإن نكسه؛ لم يجزئه لما ذكرنا في السادس؛ ولأنها عبادة تتعلق بالبدن، فكان الترتيب فيها شرطاً كالصلاة. التاسع: الموالاة شرط لذلك، إلا أنه إذا أقيمت الصلاة، أو حضرت جنازة، فإنه يصلي، ثم يبني؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وعنه: إذا أعيا في الطواف، فلا بأس أن يستريح، وقال: إذا كان له عذر، بنى، وإن قطعه من غير عذر، أو لحاجة، استقبل الطواف. وعنه: فيمن سبقه الحدث، روايتان: إحداهما: يستأنف قياساً على الصلاة. والثانية: يتوضأ. ويبني إذا لم يطل الفصل، فيخرج في الموالاة روايتان: إحداهما: هي شرط كالترتيب. والثانية: ليست شرطاً حال العذر؛ لأن الحسن غشي عليه، فحمل، فلما أفاق أتمه. فصل: وسننه: استلام الركن، وتقبيله، أو ما قام مقامه، من الإشارة والدعاء، والذكر في مواضعه، والاضطباع، والرمل، والمشي في مواضعه؛ لأن ذلك هيئة في الطواف، فلم تجب كالجهر والإخفات في الصلاة. وركعتا الطواف ليست واجبة؛ «لأن الأعرابي؛ لما سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الفرائض، ذكر الصلوات الخمس، قال: فهل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع» متفق عليه. ولأنها صلاة لم يشرع لها جماعة، فلم تجب، كسائر النوافل، ولكنها سنة مؤكدة، وإن صلى المكتوبة بعد طوافه، أجزأته عنهما، فإن جمع بين الأسابيع، وصلى لكل أسبوع ركعتين، جاز؛ لأن عائشة والمسور بن مخرمة فعلا ذلك، ولا تجب الموالاة بينهما لما ذكرنا، وأن يطوف ماشياً، وإن طاف راكباً أجزأه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على بعيره، وأمر أم سلمة فطافت راكبة من وراء الناس» . حديث أم سلمة متفق عليه، ويجوز أن يحمله إنسان فيطوف به؛ لأنه في معنى الراكب، وإن طاف راكباً أو محمولاً لغير عذر، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه؛ لأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقاً، وهذا قد طاف، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف راكباً وهو صحيح. والثانية: لا يجزئه لأنها عبادة تتعلق بالبدن، فلم يجز فعلها راكباً لغير عذر، كالصلاة، فأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن ابن عباس قال: «إن الناس كثروا عليه، يقولون: هذا محمد هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب» ، رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 فصل: والمرأة كالرجل، إلا أنها إذا قدمت مكة نهاراً، استحب لها تأخير الطواف إلى الليل؛ لأنه أستر لها، إلا أن تخاف الحيض، فتبادر الطواف؛ لئلا يفوتها التمتع، ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر، بل تشير بيدها إليه، قال عطاء: كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين. قالت: انطلقي عنك، وأبت، وليس في حقها رمل، ولا اضطباع؛ لأنه يستحب لها التستر، ولأن الرمل شرع في الأصل لإظهار الجَلَد والقوة، ولا يقصد ذلك في المرأة، ولذلك لا يسن الرمل في حق المكي، ومن جرى مجراهم. وقال ابن عباس وابن عمر: ليس على أهل مكة رمل. وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إذا أحرم في مكة لم يرمل. فصل: إذا فرغ من الركعتين، سعى بين الصفا والمروة، ويستحب أن يستلم الحجر ثم يخرج إلى الصفا من بابه، فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله ويدعوه؛ لأن جابراً قال في صفة حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا، قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] نبدأ بما بدأ الله تعالى به. فبدأ في الصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبله، فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرات» . قال أحمد: ويدعو بدعاء ابن عمر، ذكر نحواً من هذا. وزاد: لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، اللهم جنبني حدودك، اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم حببني إليك، وإلى ملائكتك، وإلى رسلك، وإلى عبادك الصالحين. اللهم يسرني لليسرى، وجنبني العسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى. واجعلني من أئمة المتقين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين، اللهم إنك قلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وإنك لا تخلف الميعاد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه، ولا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا على الإسلام، اللهم لا تقدمني لعذاب، ولا تؤخرني لسوء الفتن، رواه سعيد بن منصور. وما دعا به فحسن، ثم ينزل ويمشي حتى يكون بينه وبين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد نحواً من ستة أذرع، فيسعى سعياً شديداً، حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس، ثم يمشي حتى يصعد المروى، فيرقى عليها، ويقول كما قال على الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، حتى يكمل ذلك سبعاً، يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع أخرى، يفتتح بالصفا ويختم بالمروة؛ لأن جابراً قال: «ثم نزل، يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعدنا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، فلما كان آخر طوافه على المروة» . . . وذكر الحديث. رواه مسلم. ويدعو فيما بينهما، ويذكر الله تعالى. قال أبو عبد الله: كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله» وهو حديث حسن صحيح. فصل: والواجب من هذا ثلاثة أشياء، استيفاء السبع، فإن ترك منها شيئاً وإن قل، لم يجزئه، وإن لم يرق على الصفا والمروة، وجب استيعاب ما بينهما، بأن يلصق عقبيه بأسفل الصفا، ثم يلصق أصابع رجليه بالمروة، ليأتي بالواجب كله، والبداءة بالصفا، لخبر جابر، فإن بدأ بالمروة لم يعتد له بذلك الشوط، واعتد له بما بعده. وترتيب السعي على الطواف، فلو سعى قبله لم يجزئه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سعى بعد طوافه، وقال: خذوا عني مناسككم» ولو طاف وسعى، ثم علم أن طوافه غير صحيح لعدم الطهارة، أو غيرها: لم يعتد له بسعيه، لفوات الترتيب. فصل: ويسن الطهارة والستارة. وعنه: أنهما واجبتان؛ لأنه أحد الطوافين، أشبه الطواف في البيت، والأول المذهب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة حين حاضت: «اقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» أخرجه مسلم والبخاري. ونحوه قالت عائشة: إذا طافت المرأة في البيت، فصلت ركعتين، ثم حاضت، فلتطف بالصفا والمروة؛ ولأنها عبادة لا تتعلق بالبيت، فلم يشترط لها ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 كالوقوف، ويسن أن يرقى على الصفا والمروة، ويرمل بين العلمين، ويمشي ما سوى ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله، ولا يجب لما روي عن ابن عمر أنه قال: «أنا أمشي، فقد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي، وأنا شيخ كبير» . رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ويسن الموالاة بينه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والى بينه، ولا يجب؛ لأنه نسك لا يتعلق بالبيت، فلم يشترط له الموالاة كالرمي. وقد روي أن سودة بنت عبد الله بن عمر سعت، فقضت طوافها في ثلاثة أيام، ويسن أن يمشي، فإن ركب جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعى راكباً، ولما ذكرنا في الموالاة، والمرأة كالرجل، إلا أنها لا ترقى على الصفا والمروة، ولا ترمل في طواف ولا سعي، لما ذكرنا في الرمل في الطواف. وليس على أهل مكة رمل لذلك. نص عليه. فصل: فإذا فرغ من السعي، فإن كان متمتعاً، لا هدي معه قصر من شعره، وحل من عمرته، فما روى ابن عمر قال: «تمتع الناس مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة إلى الحج، فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة قال للناس: من كان معه هدي، فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجته، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت، وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل» متفق عليه، وإنما جعل التقصير هاهنا ليكون الحلق للحج، فأما من ساق الهدي فليس له التحلل للحديثين وعنه: أنه يقصر من شعره خاصة، ولا يلمس شاربه ولا أظفاره، لما روى معاوية قال: «قصرت من رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشقص عند المروة» . حديث صحيح رواه مسلم. وعنه: إن قدم في العشر، لم يحل لذلك، وإن قدم قبل العشر نحر وتحلل كالمعتمر غير المتمتع. ومن لبد فهو كمن أهدى، لما روت حفصة أنها قالت: «يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هدياً، فلا أحل حتى أنحر» متفق عليه. فأما المعتمر الذي لا يريد التمتع، فإنه يحل، وإن كان في أشهر الحج؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر من ذي القعدة، فحل ونحر هديه. فصل: والسعي ركن لا يتم الحج إلا به؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الصفا والمروة، فطاف المسلمون، فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بينهما» . رواه مسلم. وعن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» رواه أبو داود. وعنه: أنه سنة لا شيء على تاركه. لقول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . مفهومه أنه مباح. وفي مصحف أبي وابن مسعود ((فلا جناح عليه إلا أن يطوف بهما)) وهذا لا ينحط على رتبة الخبر، قال القاضي: الصحيح أنه واجب يجبره الدم، وليس بركن جميعاً بين الدليلين، وتوسطاً بين الأمرين. فصل: ولا يسن السعي بين الصفا والمروة إلا مرة في الحج، ومرة في العمرة، فمن سعى مع طواف القدوم، لم يعده مع طواف الزيارة. ومن لم يسع مع طواف القدوم، أتى به بعد طواف الزيارة. فأما الطواف بالبيت، فيستحب الإكثار منه، والتطوع به؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من طاف بالبيت وصلى ركعتين فهو كعتق رقبة» رواه ابن ماجه. فصل: ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب، ويتضلع منه؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ماء زمزم لما شرب له» رواه الدارقطني. ويقول عند الشرب: بسم الله اللهم اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً، وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي واملأه من خشيتك. [ باب صفة الحج ] يستحب لمن بمكة الخروج يوم التروية - وهو الثامن من ذي الحجة - قبل صلاة الظهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يومئذ، فصلى الظهر بمنى، فمن كان حراماً، خرج على حاله، ومن كان حلالاً من المتمتعين والمكيين، أحرم بالحج، وفعل فعله عند الإحرام من الميقات، ومن أحرم من الحرم جاز؛ لأن جابراً قال: «أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح» . والمستحب أن يطوف بالبيت سبعاً، ويصلي ركعتين، ثم يستلم الركن وينطلق منه مهلاً بالحج؛ لأن عطاء كان يفعل ذلك، ويفعل في إقامته بمنى ورواحه منها، ووقوفه، مثل ما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال جابر: «ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى بمنى الظهر والعصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضُربت له بنمرة، فسار حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم لم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه، فاستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، ودفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فهذا أولى ما فعل اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ويستحب أن يخطب الإمام خطبة، يعلم الناس مناسكهم وفعلهم في وقوفهم، ودفعهم في أول ما تزول الشمس، ويقصر الخطبة؛ لأن سالم بن عبد الله قال للحجاج يوم عرفة: إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة، وعجل الصلاة، قال ابن عمر: صدق. رواه البخاري. ويأمر بالأذان، فينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين للخبر. ومن لم يصل مع الإمام، جمع في رحله؛ لأنهما صلاتا جمع، فشرع جمعهما في حق المنفرد كصلاتي المزدلفة، ثم يصير إلى موقف عرفة، وأين وقف منها جاز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفة كلها موقف» رواه أبو داود. وهي من الجبل المشرف على عرفة إلى الجبال المقابلة له، إلى ما يلي حوائط بني عامر، إلى بطن عرنة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عرنة» رواه ابن ماجه. والأفضل الوقوف في موقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن يقف راكباً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف راكباً؛ ولأنه أمكن له من الدعاء، وقيل: الراجل أفضل؛ لأنه أروح لراحلته، ويحتمل أن يكونا سواء. فصل: ويجتهد في الذكر والدعاء؛ لأنه يوم رغبة ترجى فيه الإجابة، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من يوم أكثر من يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، فإنه ليدنو عز وجل فيباهي بهم الملائكة. فيقول: ما أراد هؤلاء» رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ويدعو بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أكثر دعاء الأنبياء قبلي، ودعائي عشية عرفة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل لي في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، ويسر لي أمري» ويدعو بدعاء ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي ذكرناه. ويختار من الدعاء ما أمكنه. فصل: ووقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، لما روى عروة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 بن مضرس بن أوس بن لام قال: «أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبلي طيئ، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا ووقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجته وقضى تفثه» هذا حديث صحيح. وقال أبو حفص العكبري: أول وقته زوال الشمس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف بعده، والأول أولى للخبر، ولأن ما قبل الزوال من يوم عرفة، فكان وقتاً للوقوف بها، كالذي بعده، ووقوف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستوعب الوقت، بدليل ما بعد الغروب، ومن حصل بعرفة في وقت الوقوف قائماً، أو قاعداً أو مجتازاً أو نائماً، أو غير عالم أنه بعرفة، فقد أدرك الحج للخبر، ومن كان مغمى عليه، أو مجنونا لم يحتسب له به؛ لأنه ليس من أهل العبادات، بخلاف النائم لما ذكرنا في الصيام. ومن فاته ذلك. فقد فاته الحج. قال ابن عقيل: والسكران كالمغمى عليه؛ لأنه ليس من أهل العبادات. ولا يشترط للوقوف طهارة، ولا سترة ولا استقبال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة إذ حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» وأمرها فوقفت. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يستحب أن يشهد المناسك كلها على وضوء؛ لأنه أكمل وأفضل، ويجب أن يقف حتى تغرب الشمس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف كذلك، فإن دفع قبل الغروب ثم عاد فلا دم عليه؛ لأنه جمع بين الليل والنهار، فإن لم يعد، فعليه دم؛ لأنه ترك نسكاً واجباً، ولا يبطل حجه، لحديث عروة بن مضرس. ومن وافى عرفة ليلاً أجزأه ذلك، ولا دم عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه» رواه أبو داود. ويستحب أن لا يدفع قبل الإمام. قال أحمد: وما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدفعوا قبله. فصل: ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة، ويسير، وعليه السكينة، وإذا وجد فرجة، أسرع؛ لقول جابر: «وأردف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسامة وسار وهو يقول: أيها الناس السكينة، السكينة حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما» وقال أسامة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسير العنق، فإذا وجد فرجة، نص» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 يعني: أسرع. متفق عليه ويكون في الطريق يلبي، ويذكر الله تعالى، لما روى الفضل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» . متفق عليه. فإن وصل مزدلفة، أناخ راحلته ثم صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال، يجمع بينهما، لخبر جابر، وروى أسامة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام فصلى المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم، ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة، فصلوا ثم حلوا» رواه مسلم. وإن صلى المغرب في طريق مزدلفة، ترك السنة وأجزأه؛ لأن الجمع رخصة فجاز تركها كسائر الرخص، ثم يبيت لمزدلفة حتى يطلع الفجر، ثم يصلي الفجر في أول وقتها، ثم يأتي المشعر الحرام فيقف عليه، ويستقبل القبلة ويدعو، ويكون من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه، وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق، {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] . ثم يقف حتى يسفر جداً، ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى، فإذا أتى بطن محسر، أسرع، حتى يجاوزه، ثم يسير حتى يأتي جمرة العقبة، فيرميها؛ لقول جابر في حديثه: «ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره. وهلله ووحده، ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل طلوع الشمس، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى، حتى أتى الجمرة، يعني جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف» وأين وقف من مزدلفة جاز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر» وحدها ما بين مأزمي وعرفة وقرن محسر، ويستحب أخذ حصى الجمار منها، ليكون مستعداً بالحصى، لا يشتغل بجمعه في منى عن تعجيل الرمي، ومن حيث أخذه جاز، وعدده سبعون حصاة، ويستحب أن يكون مثل حصى الخذف، ويلقطهن لقطاً، لما روى ابن عباس قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة العقبة القط لي حصاً فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفيه، ويقول: أمثال هؤلاء، فارموا ثم قال: أيها الناس، إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» رواه ابن ماجه. والمبيت بمزدلفة واجب، يجب بتركه دم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف به، وسماه موقفاً، وليس بركن؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحج عرفة» . ويجوز الدفع بعد نصف الليل، لما روت عائشة قالت: «أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم أفاضت» . رواه أبو داود. ولا بأس بتقديم الضعفة ليلاً لهذا الحديث. ولما روى ابن عباس قال: «كنت فيمن قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى» . متفق عليه ولا يجوز الدفع قبل منتصف الليل، فمن خرج قبل ذلك ثم عاد إليها في ليله فلا دم عليه ومن لم يعد فعليه دم. فإن وافاها بعد نصف الليل فلا دم عليه، كما قلنا في عرفة سواء. فصل: فإذا وصل منى بدأ برمي جمرة العقبة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بها، ولأنها تحية منى، فلم يقدم عليها شيء كالطواف في المسجد، والمستحب رميها بعد طلوع الشمس. لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» من " المسند ". وأول وقته بعد نصف الليل، لحديث عائشة، ويستحب لمن كان راكباً أن يأتيها راكباً، لما روى جابر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: لتأخذوا عني مناسككم» . رواه مسلم. ويستحب أن يستبطن الوادي ويستقبل القبلة، ويرمي على حاجبه الأيمن، لما روى عبد الرحمن بن يزيد قال: «لما أتى عبد الله جمرة العقبة، استبطن الوادي، واستقبل القبلة، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن، ثم رمى بسبع حصيات ثم قال: والله الذي لا إله غيره، من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة» . متفق عليه، وإن رماها من فوقها جاز، لما روي عن عمر أنه جاء والزحام عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها، ويقطع التلبية عند البداءة بالرمي؛ لقول الفضل: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» ، ولأن التلبية للإحرام، وبالرمي يشرع في التحلل منه، فلا يبقى للتلبية معنى. ويكبر مع كل حصاة، لحديث جابر، وعن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استبطن الوادي ورمى بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة: الله أكبر الله أكبر، اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً» ، رواه حنبل في " مناسكه "، ويرفع يده في الرمي حتى يرى بياض إبطيه، ولا يجزئه غير الحجر في الرمي من المدر والخذف، ولا بحجر قد رمي به؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى بالحصى، وأمر بلقطه من غير المرمى ولأن ما تقبل من الحصى رفع، والباقي مردود فلا يرمى به، وإن رمى بحجر كبير أجزأه؛ لأنه حجر، وعنه: لا يجزئه؛ لأنه منهي عنه. ولا يجزئه وضع الحصى في المرمى بغير رمي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى. فإن رمى السبع دفعة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى سبع رميات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 ولو رمى فوقعت الحصاة في غير المرمى واستقرت، لم تجزئه، وإن طارت فوقعت في المرمى أجزأته؛ لأنها حصلت فيه برميه، وإن وقعت على ثوب إنسان أو محمله، ثم طارت إلى المرمى أجزأته، وإن رماها الإنسان عن ثوبه، أو وقعت بحركة المحمل، لم تجزئه؛ لأنها لم تصل برميه، وإن رماها من مكان عال فتدحرجت إلى المرمى، أجزأته لأنها حصلت فيه بفعله، وإن وقعت في غير المرمى، فأطارت أخرى إلى المرمى، لم تجزئه؛ لأن التي رماها لم تصل. وإذا فرغ من الرمي انصرف، ولم يقف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقف عندها، فإن أخر الرمي إلى المساء، رمى ولا شيء عليه، لما روى ابن عباس قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل بمنى قال رجل: رميت بعدما أمسيت. فقال: لا حرج» رواه البخاري، فإن لم يرم حتى جاء الليل لم يرم، وأخره إلى غد بعد الزوال؛ لأن ابن عمر قال ذلك. فصل: ثم ينصرف فيذبح هدياً إن كان معه، وإن كان واجباً عليه، ولا هدي معه، اشتراه فذبحه؛ لقول جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده» ، ويسن أن ينحر بيده، لهذا الحديث، ويجوز أن يستنيب فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى علياً فنحر ما غبر. وحد منى ما بين العقبة وبطن محسر، فحيث نحر منها أو من الحرم أجزأه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر وطريق» . فصل: ثم يحلق رأسه، ويستحب أن يكبر عند حلقه؛ لأنه نسك، ويستقبل القبلة، ويبدأ بشقه الأيمن لما روى أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا بالحلاق، فأخذ بشق رأسه الأيمن، فحلقه ثم الأيسر» . رواه أبو داود. ويجوز أن يقصر من شعره، إلا أن أحمد قال: من لبد رأسه أو عقص أو ظفر، فليحلق؛ لأن عمر وابنه أمرا من لبد رأسه أن يحلق. ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لبد فليحلق» فأما غير هؤلاء فيجزئهم التقصير بالإجماع، والحلق أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق وقال: «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال في الرابعة: والمقصرين» . والمرأة تقصر، ولا تحلق؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء تقصير» رواه أبو داود. ولأن الحلق في حقها مثله، فلم يكن مشروعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 ومن لا شعر له فلا شيء عليه؛ لأنها عبادة تتعلق بمحل فسقطت بذهابه، كغسل اليد في الوضوء، ويستحب أن يمر الموسى على رأسه لأن ابن عمر قال ذلك. فصل: وفي الحلاق والتقصير روايتان: إحداهما: ليس بنسك، إنما هو استباحة محظور؛ لأنه محرم فلم يكن نسكاً، كالطيب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا موسى أن يتحلل بطواف وسعي، ولم يذكر تقصيراً. والثانية: هو نسك، وهو أصح لقول الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] . ولأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر به بقوله: «فليقصر وليحلل» ودعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة. والتفاضل إنما هو في النسك، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنما على النساء التقصير» فإن قلنا: هو استباحة محظور، فله الخير بين فعله وتركه، والأخذ من بعضه دون بعض، ويحصل التحلل الأول برمي الجمرة قبله، فيحل له كل محرم بالإحرام إلا النساء، وما يتعلق بهن من الوطء والعقد والمباشرة، لما روت أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم النحر: «إن هذا يوم رخص لكم، إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا - يعني من كل شيء - إلا النساء» رواه أبو داود. وعنه: يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج. وإن قلنا، هو نسك فعليه الحلق، أو التقصير من جميع رأسه؛ لقول الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] . وحلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جميع رأسه. وعنه: يجزئه بعضه كالمسح، ويقصر قدر الأنملة؛ لأن ابن عمر قال ذلك، وإن أخذ أقل من ذلك جاز؛ لأن الأمر به مطلق، ولا يحصل التحلل الأول إلا به مع الرمي؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليقصر وليحلل» . والأولى حصول التحلل بالرمي وحده، لحديث أم سلمة، عن ابن عباس مثله. وإن أخر الحلاق إلى آخر أيام النحر جاز؛ لأن تأخير النحر جائز، وهو مقدم على الحلق فالحلق أولى، وإن أخره عن ذلك ففيه روايتان: إحداهما: عليه دم؛ لأنه ترك النسك في وقته، فأشبه تأخير الرمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 والثانية: لا شيء عليه سوى فعله؛ لأن الله تعالى بين أول وقته بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . ولم يبين آخره؛ لأنه لو أخر الطواف لم يلزمه إلا فعله، فالحلق أولى، ويستحب لمن حلق أن يأخذ من شاربه وأظفاره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق رأسه، قلم أظفاره، ولا بأس أن يتطيب؛ لقول عائشة: «طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت» . متفق عليه. فصل: ويسن أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى خطبة، يعلمهم فيها الإفاضة والرمي والمبيت بمنى، وسائر مناسكهم، لما روى ابن عمر قال: «خطبنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر فقال في خطبته: إن هذا يوم الحج الأكبر» رواه البخاري. ولأنه يوم فيه وفيما بعده مناسك، يحتاج إلى العمل بها، فشرعت فيه الخطبة، كيوم عرفة. فصل: ثم يفيض إلى مكة، فيطوف بالبيت طوافاً ينوي به الزيارة، ويسمى طواف الزيارة، وطواف الإفاضة، وهو ركن الحج لا يتم إلا به؛ لقول الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وروت عائشة: «أن صفية حاضت. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت. قال: فلتنفر إذا» متفق عليه. فدل على أنه لا بد من فعله. وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر، لحديث أم سلمة، والأفضل فعله يوم النحر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رمى الجمرة أفاض إلى البيت، في حديث جابر. وإن أخره جاز؛ لأنه يأتي به بعد دخول وقته، فإذا فرغ منه، حل له كل شيء؛ لقول ابن عمر: «أفاض بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه» ، يعني: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعن عائشة: مثله. متفق عليهما. وإن أفاض قبل الرمي حل التحلل الأول ووقف الثاني على الرمي، فإن فات وقته قبل رميه سقط وحل التحلل الثاني بسقوطه، وهذا في حق من سعى مع طواف القدوم، أما من لم يسع فعليه أن يسعى بعد طواف الزيارة، ويقف التحلل على السعي. قال أصحابنا: يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة، الرمي والحلق والطواف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 ويحصل التحلل الثاني بالثالث، إن قلنا: الحلق نسك، وإن قلنا: ليس بنسك، حصل التحلل الأول بواحد من اثنين، وهما الرمي والطواف، وحصل التحلل الثاني بالثالث. فصل: قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في المتمتع إذا دخل مكة لطواف الزيارة: يبدأ قبله بطواف القدوم، ويسعى بعده، ثم يطوف للزيارة بعدهما. وهكذا القارن والمفرد، إذا لم يكونا دخلا مكة قبل يوم النحر، ولا طافا للقدوم، فإذا دخلا للإفاضة، بدآ بطواف القدوم، وسعيا بعده، ثم طافا للزيارة،؛ لأن طواف القدوم مشروع، فلا يسقط بتعيين طواف الزيارة إلا أنه قال في المرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت فخشيت فوات الحج: أهلت الحج، وكانت قارنة، ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم. واحتج أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم» ، متفق عليه، قال الشيخ: لم يتبين لي من هذا الحديث إلا أن طواف القدوم في حقهم غير مشروع، لكونهم لم يطوفوا بعد الرجوع من منى إلا طوافاً واحداً، ولو شرع طواف القدوم لطافوا طوافين، ولأن عائشة لم تطف للقدوم حين أدخلت الحج على العمرة، ولم تكن طافت له قبل ذلك؛ لأن طواف القدوم تحية المسجد، فسقط بتعيين الفرض، كتحية المسجد في حق من دخل وقد أقيمت المفروضة. فصل: يوم الحج الأكبر يوم النحر، لما تقدم من حديث ابن عمر، سمي بذلك لكثرة أفعال الحج فيه، فإنه يفعل فيه ستة أشياء: الوقوف في المشعر الحرام، ثم الإفاضة إلى منى، ثم الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم طواف الزيارة. والسنة: ترتيبها هكذا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رتبها في حديث جابر وغيره، فإن فعل شيئاً قبل شيء، جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل له يوم النحر، في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير. قال: لا حرج» متفق عليه. فإن فعل ذلك عالماً ذاكراً، ففيه روايتان: إحداهما: لا شيء عليه للخبر. والثانية: عليه دم؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . ولأن الحلق كان محرماً قبل التحلل الأول، ولا يحصل إلا بالرمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 فصل: ثم يرجع إلى منى من يومه، فيمكث بها ليالي أيام التشريق، لما روت عائشة قالت: «أفاض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق» . وهل المبيت بها واجب أم لا؟ فيه روايتان: إحداهما: ليس بواجب؛ لقول ابن عباس: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت، ولأنه مبيت بمنى، فلم يجب كليلة عرفة. والثانية: هو واجب؛ لأن ابن عمر روى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته» . متفق عليه. فيدل على أنه لا رخصة لغيره. فعلى هذا، إن تركه، فقال أحمد: يطعم شيئاً تمراً أو نحوه، وخففه، وهذا يدل على أنه أي شيء تصدق به أجزأه. وعنه في ليلة مد، وفي ليلتين مدان. وعنه: في ليلة درهم، وفي ليلتين درهمان، لما ذكرنا في الشعر. وعنه: في ليلة نصف درهم، فأما الليلة الثالثة، فلا شيء في تركها؛ لأنها لا تجب إلا على من أدركه الليل بها. فإن تركها في هذه الحال مع الليلتين الأوليتين، فعليه في الثلاث دم، في إحدى الروايتين. فصل: ثم يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد الزوال، كل جمرة في كل يوم بسبع حصيات، يبتدئ بالجمرة الأولى، وهي أبعدها من مكة، وتلي مسجد الخيف، فيجعلها عن يساره، ويستقبل القبلة ويرميها، كما وصفنا جمرة العقبة. ثم يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصى، فيقف وقوفاً طويلاً، يدعو الله رافعاً يديه، ثم يتقدم إلى الوسطى، فيجعلها عن يمينه ويرميها كذلك ويفعل من الوقوف والدعاء فعله في الأولى، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع على صفة رميه يوم النحر، ولا يقف عندها، لما روت عائشة، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، يقف عند الأولى والثانية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 فيطيل المقام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» . رواه أبو داود. ولا يجزئه الرمي إلا بعد الزوال، مرتباً للخبر. فإن نكسه فبدأ بالثالثة، ثم بالثانية، ثم بالأولى لم يعتد له إلا بالأولى. وإن ترك الوقوف والدعاء، فلا شيء عليه؛ لأنه دعاء مشروع، فلم يجب كما في سائر المشاعر. فصل: ولا ينقص من سبع. والمشهور عن أحمد أن استيفاءها غير واجب. وقال: من رمى بست حصيات لا بأس، وخمس حسن، وأقل من خمس لا يرمي أحد وأحب إلي سبع، لما روى سعد قال: «رجعنا من الحجة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعضنا يقول: رميت بست، وبعضنا يقول: رميت بسبع، فلم يعب في ذلك بعضنا على بعض» . رواه الأثرم. وعنه: أن استيفاء السبع شرط؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى بسبع، وقال: «خذوا عني مناسككم» فعلى هذه الرواية إن أخل بحصاة من الأولى، لم يصح رمي الثانية، فإن لم يعلم من أي الجمار تركها حسبها من الأولى ليسقط الفرض بيقين، فإن ترك الرمي كله حتى مضت أيام التشريق فعليه دم؛ لأنه ترك نسكاً واجباً. وإن ترك حصاة أو اثنتين، فعلى الرواية الأولى لا شيء عليه، وعلى الثانية يخرج فيها مثل ما ذكرنا في ليالي منى. وعنه: من رمى بست ناسياً لا شيء عليه. فإن تعمده تصدق بشيء، وإن أخر رمي يوم إلى آخر أو أخر الرمي كله إلى اليوم الثالث، ترك السنة، ولا شيء عليه، لكنه يقدم بالنية رمي الأول، ثم الثاني ثم الثالث؛ لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي، فجاز تأخيره إلى آخر وقته، كتأخير الوقوف بعرفة إلى الليل. وإنما وجب الترتيب بالنية؛ لأنها عبادات يجب الترتيب فيها، مع فعلها في أيامها، فوجب مع فعلها مجموعة، كالصلوات. فصل: ويجوز لرعاة الإبل، وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى ليالي منى، وترك رمي اليوم الأول، إلى الثاني، أو الثالث، إن أحبوا أن يرموا الجميع في وقت واحد، والرمي في الليل، فيرمون رمي كل يوم في الليلة المستقبلة، لحديث ابن عمر في الرخصة للعباس. وقال عاصم بن عدي: «رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرعاة الإبل أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين، بعد يوم النحر، يرمونه في أحدهما» . حديث صحيح. ولأنهم يشتغلون بالرعاية، واستقاء الماء، فرخص لهم ذلك. وكل ذي عذر من مرض، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 خوف على نفسه أو ماله، كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم، لكن إذا غربت الشمس عليهم بمنى لزم الرعاة البيتوتة دون أهل السقاية؛ لأن الرعاة رعيهم في النهار، فلا حاجة لهم في الخروج ليلاً فهم كالمريض تسقط عنه الجمعة، وإن حضرها وجبت عليه، وأهل السقاية يستقون بالليل، فلا يلزمهم المبيت. فصل: ومن عجز عن الرمي جاز أن يستنيب من يرمي عنه؛ لأن جابراً قال: لبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم، والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر النائب، فإن رمى عنه، ثم برئ لم يلزمه إعادته؛ لأن الواجب سقط بفعل النائب، وإن أغمي على إنسان، فرمى عنه إنسان، فإن كان أذن له جاز، وإلا فلا. فصل: ويسن أن يخطب الإمام يوم النفر، وهو أوسط أيام التشريق، ويعلم الناس حكم التعجيل، والتأخير، وتوديعهم، لما روي عن رجلين من بني بكر، قالا: «رأينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته» ، أخرجه أبو داود. ولأن بالناس حاجة إلى أن يعلمهم ذلك، فشرعت الخطبة فيه، كيوم عرفة. فصل: وإذا كان رمي اليوم الثاني، وأحب أن ينفر، نفر قبل غروب الشمس، وسقط عنه المبيت تلك الليلة، والرمي بعدها، وإن غربت وهو في منى، لزمته البيتوتة، والرمي من الغد بعد الزوال؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» رواه الترمذي. واليوم: اسم لبياض النهار. وإن رحل، وخرج ثم عاد إليها لحاجة، فلم يلزمه المبيت، ولا الرمي؛ لأن الرخصة قد حصلت له بالتعجيل. قال بعض أصحابنا: يستحب لمن نفر أن ينزل المحصب، ثم يدخل مكة، لما روى نافع قال: «كان ابن عمر يصلي بها الظهر، والعصر والمغرب، والعشاء، ثم يهجع هجعة، ويذكر ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. وقال ابن عباس وعائشة: «ليس نزول الأبطح بسنة، إنما نزله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليكون أسمح لخروجه» . متفق عليه. وهذا لفظ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 فصل: ومن أراد المقام بمكة فلا توديع عليه؛ لأن الوداع للمفارق. ومن أراد الخروج لم يجز له ذلك يودع البيت بطواف، لما روى ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض» . متفق عليه. ويجعل الوداع في آخر أمره، ليكون آخر عهده بالبيت، فإن ودع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة لزمته إعادته للخبر. وإن صلى في طريقه، أو اشترى لنفسه شيئاً، لم يعده؛ لأن هذا لا يخرجه عن كونه وداعاً، وإن خرج ولم يودع، لزمه الرجوع ما كان قريباً يمكنه الرجوع، فإن لم يفعل، أو لم يمكنه الرجوع فعليه دم، فإن رجع بعد بلوغه مسافة القصر لم يسقط عنه الدم؛ لأن طوافه لخروجه الثاني، وقد استقر عليه دم الأول. والمرأة كالرجل، إلا إذا كانت حائضاً، أو نفساء، خرجت ولا وداع عليها، ولا فدية للخبر، إلا أن يستحب لها أن تقف على باب المسجد فتدعو بدعاء المودع، وإن نفرت فطهرت قبل مفارقة البنيان لزمها التوديع؛ لأنها في البلد، وإن لم تطهر حتى فارقته فلا رجوع عليها؛ لأنه لم يوجد في حقها ما يوجبه في البلد. فصل: ويستحب للمودع أن يقف في الملتزم بين الركن والباب، كما روي «عن عبد الله بن عمر أنه قام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا، وبسطها بسطاً وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» . رواه أبو داود. ويدعو فيقول: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضاً، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا راغباً عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير. وما زاد على ذلك من الدعاء فحسن، ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل: ومن ترك طواف الزيارة، فطافه عند الخروج، أجزأ عن طواف الوداع، لأنه يحصل به المقصود منه فأجزأ عنه، كإجزاء طواف العمرة عن طواف القدوم، وصلاة الفرض عن تحية المسجد. وإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 «وإنما لامرئ ما نوى» وحكمه حكم من ترك طواف الزيارة، يبقى على إحرامه أبداً حتى يرجع فيطوف للزيارة، إلا أن إحرامه عن النساء فحسب؛ لأنه قد حل له بالتحلل الأول كل شيء إلا النساء. فصل: وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد، وإن قتل صيداً فجزاؤه واحد. وعنه: عليه طوافان وسعيان؛ لقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وتمامهما بأفعالهما. ولنا قول عائشة: «وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوافا واحداً» . متفق عليه. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة لما قرنت: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» رواه مسلم. ولأنهما عبادتان من جنس، اجتمعتا فدخلت أفعال الصغرى في الكبرى كالطهارتين. فصل: أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، وفي الإحرام والسعي روايتان. وواجباته: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل، والرمي، وطواف الوداع، وفي الحلق والمبيت بمنى روايتان. وسننه: الاغتسال، وطواف القدوم، والرمل، والاضطباع فيه، واستلام الركنين، وتقبيل الحجر، والإسراع، والمشي في مواضعهما، والخطب، والأذكار، والدعاء، والصعود إلى الصفا والمروة. وأركان العمرة: الطواف، وفي الإحرام والسعي روايتان. وواجبها: الحلق في إحدى الروايتين. وسننها: الغسل، والدعاء، والذكر، والسنن التي في الطواف والسعي، فمن ترك ركناً فلم يتم نسكه إلا به، ومن ترك واجباً فعليه دم، ومن ترك سنة فلا شيء عليه. فصل: فإذا رجع قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوله إذا قفل. متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 ويستحب زيارة قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من زارني أو زار قبري كنت له شفيعاً أو شهيداً» رواه أبو داود والطيالسي. ويصلي في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» متفق عليه. [ باب ما يفسد الحج وحكم الفوات والإحصار ] ومن وطئ في الفرج، فأنزل أو لم ينزل في إحرام الحج قبل التحلل الأول، فقد فسد حجه، وعليه المضي في فاسده، لما روي عن ابن عمر أن رجلاً سأله، فقال: إني واقعت امرأتي، ونحن محرمان، فقال: أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون، واحلق إذا حلقوا، فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك، واهديا هدياً، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم. وقال ابن عباس وعبد الله بن عمر مثل ذلك رواه سعيد بن منصور، وروي أيضاً عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا مخالف لهم، فكان إجماعاً، ولأنه لا يمكنه التحلل من الإحرام إلا بأفعاله، وعليه القضاء على الفور للخبر، ولأنه حج واجب بالشرع، فكان واجباً على الفور، كحجة الإسلام. ويجب عليهما الإحرام للقضاء من حيث أحرما أولاً أو من قدره، إن سلكا طريقاً غيرها؛ لأنه قضاء لعبادة، فكان على وفقها، كقضاء الصلاة، ويفسد حج المرأة للخبر، ولأنها أحد المتجامعين، فأشبهت الرجل، وعليها القضاء ونفقة القضاء عليها إن كانت مطاوعة كالرجل، وإن كانت مكرهة فعلى الزوج؛ لأنه ألزمها ذلك. فكان موجبه عليه ولا فرق بين العمد والسهو والعلم والجهل للخبر، ولأنه معنى يوجب القضاء، فاستوى فيه ذلك كالفوائت. ولا فرق بين الوطء في القبل والدبر من آدمي أو بهيمة؛ لأنه وطء في فرج أشبه وطء فرج الآدمية. فصل: ويتفرقان في القضاء؛ لأن ابن عباس قال: ويتفرقان من حيث يحرمان حتى يقضيا حجهما وفيه وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 أحدهما: أنه واجب لأن ابن عباس ذكره حكماً للمجامع، فكان واجباً كالقضاء. والثاني: لا يجب؛ لأنه حج فلم يجب فيه مفارقة الزوجة كغير القضاء ولأن مقصود الفراق التحرز من إصابتها، وهذا وهم لا يقتضي الوجوب، ومعنى التفرق: اجتناب الركوب معها على بعير واحد، والجلوس معها في خباء، ولكن يكون قريباً منها، يراعي حالها؛ لأنه محرمها. فصل: ومن وطئ دون الفرج أو قبَّل أو لمس فلم ينزل، لم يفسد حجه، وإن أنزل ففيه روايتان: إحداهما: يفسد حجه؛ لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الوطء في الفرج، والأخرى: لا يفسد وهي أصح؛ لأنه فعل لا يجب الحد بجنسه، ولا المهر، ولا يتعلق به حكم بدون الإنزال، أشبه النظر، ولا يفسد النسك بغير ما ذكرنا من المحرمات كلها بغير خلاف. فصل: ومن وطئ بعد التحلل الأول، وقبل الثاني، لم يفسد حجه؛ لأنها عبادة لها تحللان، فوجود المفسد بعد أولهما لا يفسدها، كالصلاة، ولكنه يخرج إلى الحل، فيحرم ليطوف للزيارة بإحرام صحيح. وإن وطئ المعتمر في عمرته، أفسدها، وعليه إتمامها وقضاؤها كالحج. ويتعلق بالماضي في الفاسد من الأحكام، وتحريم المحرمات، ووجوب الفدية فيها مثل ما يتعلق بالصحيح، سواء لأنه باق على الإحرام فتعلق به ذلك كالصحيح. فصل: ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر، فقد فاته الحج، لما روى جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع» رواه الأثرم، وعليه أن يتحلل بأفعال العمرة، وهي طواف وسعي وتقصير؛ لأن ذلك يروى عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قال عمر لأبي أيوب حين فاته الحج: اصنع ما يصنع المعتمر، ثم قد حللت. وقال ابن أبي موسى: يمضي في حج فاسد، يعني: أنه يلزمه المبيت والرمي، والصحيح الأول؛ لقول الصحابة، ولأن المبيت تبع للوقوف فيسقط بسقوطه، ويجب عليه القضاء على الفور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وعنه لا قضاء عليه إن كانت نفلاً، وإن كانت فرضاً فعلها بالوجوب السابق، قياساً على سائر العبادات، والمذهب الأول؛ لأنه قول الصحابة والمسلمين، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، ولأن الحج يلزم بالشروع، فيلزم قضاؤه كالمنذور، بخلاف غيره. ويجزئه القضاء عن الحجة الواجبة بغير خلاف؛ لأن الحجة لو تمت لأجزأت عن الواجب فكذلك قضاؤها؛ لأنه يقوم مقام الأداء، ويجب على ما فاته الحج هدي. وعنه: لا هدي عليه؛ لأنه لو لزمه هدي لزم المحصر هديان، للفوات والإحصار، والصحيح الأول؛ لأنه قول الصحابة المسلمين، ولأنه حل في إحرامه قبل إتمامه فلزمه هدي، كالمحصر، ويخرجه في سنة القضاء، لما روى سليمان بن يسار: أن هبار بن الأسود حج من الشام، فقدم يوم النحر فقال له عمر: انطلق إلى البيت، فطف به سبعاً، وإن كان معك هدي فانحرها، ثم إن كان عام قادم فاحجج، وإن وجدت سعة فاهد، وإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعت إن شاء الله تعالى. رواه الأثرم. فعلى هذا العمل؛ لأنه قول منتشر لم يعرف له مخالف، فإن عدم الهدي، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. وقال الخرقي: يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوماً: لأنه أقرب إلى معادلة الهدي كبدل جزاء الصيد، وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أولى. فصل: إذا أخطأ الناس العدد، فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك؛ لأنه لا يؤمن مثل ذلك في القضاء فيشق، وإن وقع لنفر منهم، لم يجزئهم؛ لأنه لتفريطهم، وقد روي أن عمر قال لهبار: ما حبسك؟ قال: كنت أحسب أن اليوم يوم عرفة. فلم يعذر بذلك. فصل: وإذا حصر المحرم عدو من المسلمين، فمنعه المضي، فالأفضل التحلل، وترك قتاله؛ لأنه أسهل من قتال المسلمين، وإن كان مشركاً لم يجب قتاله إلا أن يبدأ به؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقاتل الذين أحصروه، وإن غلب على ظن المحرم الظفر، استحب القتال، ليجمع بين الجهاد والحج، وإن غلب على ظنه خلاف ذلك، استحب الانصراف، صيانة للمسلمين عن التغرير، ثم إن وجد طريقاً آمناً، لم يجز له التحلل قرب أو بعد؛ لأنه قادر على أداء نسكه، فأشبه من لم يحصر، فإن كان لا يصل إلا بعد الفوات، مضى وتحلل بعمرة، وفي القضاء روايتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 إحداهما: يجب؛ لأنه فاته الحج، أشبه من أخطأ الطريق. والثانية: لا قضاء عليه؛ لأنه تحلل بسبب الحصر، أشبه من تحلل قبل الفوات وإن لم يجد طريقاً آمناً فله التحلل؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حصره العدو بالحديبية فتحلل، ولأنه لو لزمه البقاء على الإحرام لحرج؛ لأنه قد يبقى الحصر سنين. وله أن يتحلل وقت الحصر، سواء كان معتمراً أو مفرداً أو قارناً. وعنه: في المحرم بالحج لا يحل إلا يوم النحر، ليتحقق الفوات؛ لأنه لا ييأس من زوال الحصر. وكذلك من ساق هدياً لا يتحلل إلا يوم النحر؛ لأنه ليس له النحر قبل وقته. والصحيح الأول للآية والخبر، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق هدياً فنحره وحل قبل يوم النحر، ولأن الحج أحد الأنساك، فأشبه العمرة، ولو وقف الحل على يقين الفوات، لم يجر الحل في العمرة؛ لأنها لا تفوت. فصل: فإن كان معه هدي، لم يحل حتى ينحره؛ لقول الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وله ذبحه حين أحصر. وعنه: إن قدر على الحرم، أو على إرساله إليه، لزمه ذلك ويواطئ رجلاً على اليوم الذي يذبحه فيه، فيحل حينئذ؛ لأنه قادر على الذبح في الحرم، فأشبه المحصر في الحرم، والأول أصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر هديه في الحديبية. وهي من الحل باتفاق أهل السير ولذلك قال الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] . ولأنه موضع حله، فكان موضع ذبحه كالحرم، ويجب أن ينوي بذبحه التحلل به؛ لأن الهدي يكون لغيره فلزمته النية، ليميز بينهما، ثم يحلق، لما روى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج معتمراً فحالت كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية» . وهل يجب الحلاق أو التقصير أو لا؟ مبني على الروايتين فيه، هل هو نسك أو لا؟ فإن قلنا: هو نسك حصل الحل به، وبالهدي وبالنية، وإن قلنا: ليس بنسك حصل الحل بهما دونه. فصل: وإن لم يجد هدياً، صام عشرة أيام، ثم حل؛ لأنه دم واجب للإحرام، فكان له بدل ينتقل إليه، كدم التمتع. ولا يحل إلا بعد الصيام، كما لا يحل إلا بعد الهدي، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 نوى التحلل قبله، لم يحل فكان على إحرامه حتى يذبح أو يصوم؛ لأنه أقيم هاهنا مقام أفعال الحج. فصل: وليس عليه قضاء. وعنه: يجب عليه القضاء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى عمرة الحديبية، وسميت الثانية عمرة القضية. ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه، فلزمه القضاء كمن فاته الحج. ووجه الأولى: أنه تطوع جاز التحلل منه، مع صلاح الوقت له، فلم يجب قضاؤه، كما لو دخل في الصوم يعتقده واجباً، فلم يكن. فأما الخبر، فإن الذين صدوا كانوا ألفاً وأربعمائة، والذين اعتمروا معه في القضاء كانوا نفراً يسيراً، ولم يأمر الباقين بالقضاء، والقضية: الصلح الذي جرى بينهم، وهو غير القضاء، ويفارق الفوات، فإنه بتفريطه. فصل: فإن لم يحل المحصر حتى زال الحصر، لم يجز له التحلل؛ لأنه زال العذر، وإن زال العذر بعد الفوات، تحلل بعمرة، وعليه هدي للفوات لا للحصر؛ لأنه لم يحل به، وإن فاته الحج مع بقاء الحصر، فله الحل به؛ لأنه إذا حل به قبل الفوات فمعه أولى، وعليه الهدي للحل، ويحتمل أن يلزمه هدي آخر للفوات. وإن حل بالإحصار، ثم زال، وأمكنه الحج من عامه، لزمه ذلك، وإن قلنا بوجوب القضاء، أو كانت الحجة واجبة؛ لأن الحج على الفور وإلا فلا. ومن كان إحرامه فاسداً، فله التحلل بالإحصار؛ لأنه إذا حل من الصحيح فمن الفاسد أولى، فإن زال الحصر بعد الحل، وأمكنه الحج من عامه، فله القضاء فيه، ولا يتصور القضاء للحج في العام الذي أفسده فيه، إلا في هذا الموضع. فصل: ومن صد عن عرفة، وتمكن من البيت، فله أن يتحلل بعمرة؛ لأن له ذلك من غير حصر، فمعه أولى. وعنه: لا يجوز له التحلل، بل يقيم على إحرامه حتى يفوته الحج، ثم يحل بعمرة؛ لأنه إنما جاز له التحلل بعمرة في موضع يمكنه الحج من عامه ليصير متمتعاً [وهذا ممنوع من الحج فلا يمكنه أن يصير متمتعاً] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 فصل: والحصر الخاص: مثل أن يحبسه سلطان، أو غريم ظلماً، أو بحق لا يقدر على إيفائه. والعبد إذا منعه سيده، والزوجة يمنعها زوجها، كالعام في جواز التحلل، لعموم الآية [وتحقق المعنى فيه، فأما من أحصره مرض أو عدم نفقة ففيه روايتان: إحداهما: له التحلل لعموم الآية] . ولأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كسر أو عرج، فقد حل وعليه حجة أخرى» رواه النسائي. ولأنه محصر فأشبه من حصره العدو. والثانية: ليس له التحلل؛ لأن ابن عباس وابن عمر قالا: لا حصر إلا حصر العدو. ولأنه لا يستفيد بالحل الانتقال من حاله، والتخلص من الأذى به، بخلاف حصر العدو. [ باب الهدي ] يستحب لمن أتى مكة أن يهدي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أهدى في حجته مائة بدنة» [رواه البخاري ولم يقل في حجته] ويستحب استسمانها واستحسانها؛ لقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] . قال ابن عباس: هو الاستسمان، والاستحسان، والاستعظام، أفضل الهدي والأضاحي الإبل، ثم البقر، ثم الغنم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة» متفق عليه. ويجوز للمتطوع أن يهدي ما أحب من كبير الحيوان وصغيره، وغير الحيوان، استدلالاً بهذا الحديث، إذ ذكر فيه الدجاجة والبيضة، والأفضل: بهيمة الأنعام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى منها. فإن كانت إبلاً سن إشعارها، بأن تشق صفحة سنامها اليمنى حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 يسيل الدم، ويقلدها نعلاً، أو نحوها، لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة، فأشعرها في صفحة سنامها اليمنى، وسلت الدم عنها بيده» ، رواه مسلم، ولأنها ربما اختلطت بغيرها، أو ضلت فتعرف بذلك فترد، وإن كانت غنماً قلدت آذان القرب والعرى؛ لقول عائشة: «كنت أفتل القلائد للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيقلد الغنم. ويقيم في أهله حلالاً» [أخرجه البخاري ومسلم ونحوه] ولا يشعرها لضعفها، ولأنه يستتر موضع الإشعار. بشعرها وصوفها. فصل: ولا يجب الهدي بسوقه مع نيته، كما لا تجب الصدقة بالمال، بخروجه به لذلك، ويبقى على ملكه وتصرفه، ونمائه له حتى ينحره، وإن قلده وأشعره وجب بذلك، كما لو بنى مسجداً وأذن بالصلاة فيه. وإن نذره، أو قال: هذا هدي لله وجب؛ لأنه لفظ يقتضي الإيجاب، فأشبه لفظ الوقف، وله ركوبه عند الحاجة من غير إضرار به؛ لأن أبا هريرة روى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها فقال: يا رسول الله، إنها بدنة. فقال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة» ، متفق عليه. وفي حديث آخر قال: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهراً» رواه أبو داود، فإن نقصها الركوب، ضمنها؛ لأنه تعلق حق غيره بها، وإن ولدت، فولدها بمنزلتها يذبحه معها، لما روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى رجلاً يسوق بقرة معها ولدها، فقال: لا تشرب من لبنها، إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فانحرها وولدها ولأنه معنى تصير به لله تعالى، فاستتبع الولد، كالعتق، وله أن يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها لحديث علي، ولقول الله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] . ولا يجوز أكثر من ذلك للخبر. ولأن اللبن غذاء الولد، فلا يجوز منعه منه. كما لا يجوز منع الأم علفها، فإن لم يمكنه المشي، حمله على ظهرها؛ لأن ابن عمر كان يحمل ولد البدنة عليها، فإن لم يمكنه حمله ولا سوقه، صنع به كما يصنع بالهدي الذي يخشى عطبه، وإن كان عليها صوف في جزه صلاح لها، جزه وتصدق به؛ لأنها تسمن بذلك، فتنفع المساكين، وإن لم يكن في جزه صلاح لم يجز أخذه؛ لأنه جزء منها وينفع الفقراء عند ذبحها، وإن أحصر نحره حيث أحصر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر هديه بالحديبية، وإن تلف من غير تفريط لم يضمنه؛ لأنه أمانة عنده، فلم يضمنه من غير تفريط كالوديعة، فإن تعيب ذبحه وأجزأه؛ لأنه لا يضمن جميعه، فبعضه أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 فصل: وإن عجز عن المشي أو عطب دون محله، نحره موضعه وصبغ نعله الذي في عنقه في دمه، فضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء، وخلى بينه وبينهم، ولم يأكل منه هو، ولا أحد من رفقته. لما روى ذؤيب أبو قبيصة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث معه بالبدن، ثم يقول: إن عطب منها شيئاً فخشيت عليها موتاً فأنجزها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك رواه» مسلم، ولأنه متهم في التفريط فيها ليأكلها، أو يطعمها رفقته فمنعوا من أكلها لذلك. فإن لم يذبحها عند خوفه عليها حتى تلفت ضمنها؛ لأنه فرط فيها، فلزمه ضمانها كالوديعة، إذا رأى من يسرقها فلم يمنعه. وإن أتلفها ضمنها؛ لأنه أتلف مالاً يتعلق به حق غيره، فضمنه، كالغاصب، ويلزمه أكثر الأمرين من قيمتها، أو هدي مثلها؛ لأنه لزمته الإراقة والتفرقة، وقد فوتهما فلزمه ضمانهما، كما لو أتلف شيئين، وإن كانت قيمتها وفق مثلها، أو أقل، لزمه مثلها، وإن كانت أكثر، اشترى بالفضل هدياً آخر، فإن لم يسع اشترى به لحماً وتصدق به؛ لأنه أقرب إلى المفوت، ويحتمل أن يتصدق بالقيمة، وإن أكل مما منع من أكله، ضمنه بمثله لحماً لما ذكرنا. وإن أتلفها غيره فعليه قيمتها؛ لأنه لا تلزمه الإراقة، فلزمته قيمتها كغيرها، ويشتري بالقيمة مثلها، فإن زادت فالحكم على ما ذكرنا فيما إذا أتلفها صاحبها. وإن اشترى هدياً فوجده معيباً فله الأرش، ويحتمل أن يكون للمساكين؛ لأنه بدل عن الجزء الفائت من حيوان جعله لله تعالى، فكان للمساكين، كعوض ما أتلف منه بعد الشراء، ويكون حكمه حكم الفاضل عن المثل، ويحتمل أن يكون له؛ لأن النذر إنما صادف المعيب بدون الجزء الفائت، فلم يدخل في نذره، فلا يستحق عليه بدله. فصل: ولا يزول ملكه عن الهدي والأضحية بإيجابهما، نص عليه. وله إبدالهما بخير منهما. وقال أبو الخطاب: يزول ملكه، وليس له بيعه، ولا إبداله؛ لأنه جعله لله تعالى، فأشبه المعتق والموقوف. ووجه الأول: أن النذور محمولة على أصولها في الفرض، وفي الفرض لا يزول ملكه، وهو الزكاة. وله إخراج البدل، فكذلك في النذور، وأما بيعها بدونها، فلا يجوز؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 لأن فيه تفويت حق الفقراء من الجزء الزائد فلم يجز، كما لو أخرج من الزكاة أدنى من الواجب. ولا يجوز إبدالها بمثلها؛ لأنه تفويت لعينها من غير فائدة تحصل. فصل: ومن وجب في ذمته هدي فعينه في حيوان تعين؛ لأنه ما وجب به معين جاز أن يتعين به ما في الذمة، كالبيع، ويصير للفقراء، فإن هلك بتفريط، أو غيره رجع الواجب إلى ما في الذمة، كما لو كان له عليه دين، فباعه به طعاماً، فهلك قبل تسليمه، فإن تعيب أو عطب فنحره، لم يجزئه لذلك، وهل يعود المعين إلى صاحبه؟ فيه روايتان: إحداهما: يعود، ذكره الخرقي. فقال: صنع به ما شاء؛ لأنه إنما عينه عما في ذمته، فإن لم يقع عنه عاد إلى صاحبه، كمن أخرج زكاته فبان أنها غير واجبة عليه. والأخرى: لا يعود؛ لأنه صارت للمساكين بنذره، فلم تعد إليه، كالذي عينه ابتداء، وهل تعود إلى ذمته، مثل المعين، أو مثل الواجب في الذمة؟ ينظر، فإن تلف بغير تفريط لم يلزمه أكثر مما في الذمة؛ لأن الزائد إنما تعلق بالعين، فسقط بتلفها، وإن تلف بتفريط، لزمه أكثر الأمرين؛ لأنه تعلق بالمعين حق الله تعالى. فإن أتلفه فعليه مثل ما فوته. وإن ولد هذا المتعين تبعه ولده، لما ذكرنا في المعين ابتداء، فإن تعيبت الأم فبطل تعيينها، ففي ولدها وجهان: أحدهما: يبطل تبعاً كما ثبت تبعاً. والثاني: لا يبطل؛ لأن بطلانه في الأم لمعنى اختص بها بعد استقرار الحكم في ولدها، فلم يبطل فيه، كما لو ولدت في يد المشتري ثم ردها لعيبها. فصل: وإذا ذبح هديه، أو أضحيته إنسان بغير أمره في وقته أجزأ عنه؛ لأنه لا يحتاج إلى قصده، فإذا فعله إنسان بغير إذنه وقع الموقع، ولا ضمان على الذابح؛ لأنه حيوان تعين إراقة دمه على الفور حقاً لله تعالى، فلم يضمنه كالمرتد. فصل: ويجوز الأكل من هدي التمتع والقران؛ لأن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كن متمتعات إلا عائشة، فإنها كانت قارنة لإدخالها الحج على عمرتها، وقالت: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة، قالت: فدخل علينا بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 ذبح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أزواجه» . رواه مسلم. ولأنه دم نسك فجاز الأكل منه كالأضحية، ولا يجوز الأكل من واجب سواها؛ لأنه كفارة فلم يجز الأكل منه، ككفارة اليمين، وعنه: له الأكل من الجميع، إلا المنذور، وجزاء الصيد، ولا يجوز الأكل من الهدي المنذور في الذمة؛ لأنه نذر إيصاله إلى مستحقيه، فلم يجز أن يأكل منه، كما لو نذر لهم طعاماً، وما ساقه تطوعاً استحب الأكل منه، سواء عينه أو لم يعينه. لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] . وأقل أحوال الأمر الاستحباب. وقال جابر: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كل بدنة ببضعة. فجعلت في قدر، فأكل منها وحسا من مرقها» . ولأنه دم نسك فأشبه الأضحية. قال ابن عقيل: حكمه في الأكل، والتفريق حكمها. وقال جابر: «كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كلوا وتزودوا فأكلنا وتزودنا» ، رواه البخاري ومسلم ونحوه. والمستحب الاقتصار على اليسير في الأكل، لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدنه. وإن أطعمها كلها فحسن، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر خمس بدنات، ثم قال: «من شاء اقتطع» رواه أبو داود. وظاهر هذا أنه لم يأكل منها شيئاً، ويجوز للمهدي تفريق اللحم بنفسه، ويجوز إطلاقه للفقراء، استدلالاً بهذا الحديث. فصل: إذا نذر هدياً مطلقاً فأقل ما يجزئه شاة، أو سبع بدنة أو بقرة. لأن المطلق يحمل على أصله في الشرع، ولا يجزئ إلا ما يجزئ في الأضحية. ويمنع فيه من العيب ما يمنع فيها. وإن عينه بنذره ابتداء أجزأه ما عينه كبيراً أو صغيراً أو حيواناً أو غيره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فكأنما قرب دجاجة، وكأنما قرب بيضة» وإذا أطلق بالنسبة إلى مكانه، وجب إيصاله إلى فقراء الحرم. لأن ذلك المعهود في الهدي. وإن عين الذبح بمكان غيره في نذره لزمه ذلك، ما لم يكن فيه معصية، لما روي «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحر ببوانة. قال: هل بها صنم قال: لا. قال: أوف بنذرك» رواه أبو داود. فصل: ومن وجب عليه دم أجزأه ذبح شاة، أو سبع بدنة أو بقرة. لقول ابن عباس: في هدي المتعة شاة، أو شرك في دم، فإن ذبح بدنة احتمل أن يكون جميعها واجباً، كما لو اختار التكفير بأعلى الكفارات، واحتمل أن يكون سبعها واجباً وباقيها تطوعاً؛ لأن سبعها يجزئه فأشبه ما لو ذبح شياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 ومن وجب عليه بدنة بنذر، أو قتل نعامة، أو وطء أجزأه بسبع من الغنم؛ لأنها معدولة بسبع، والشياه أطيب لحماً. وقد روي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل فقال: إن علي بدنة، وأنا موسر لها، ولا أجدها، فأشتريها. فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن» . رواه ابن ماجه. وقال ابن عقيل: إنما يجزئ ذلك مع عدم البدنة؛ لأنها بدل، فيشترط فيه عدم المبدل، والأول أولى لما ذكرناه وإن وجبت عليه بدنة فذبح بقرة أجزأته، لما روى جابر قال: «كنا ننحر البدنة عن سبعة. فقيل له والبقرة؟ فقال: وهل هي إلا من البدن» ! رواه مسلم. وقال ابن عقيل: إن نذر بدنة، لزمه ما نواه، فإن لم ينو شيئاً، ففيه روايتان: إحداهما: هو مخير على ما ذكرناه. والثانية: إن لم يجد بدنة أجزأته بقرة. فإن لم يجد فسبعاً من الغنم. وعنه: عشر؛ لأنه بدل، فلا يجزئ مع وجود الأصل. فأما من وجب عليه سبع من الغنم، فإنه يجزئه بدنة، أو بقرة؛ لأنها تجزئ عن سبع في حق سبعة، ففي حق واحد أولى. [ باب الأضحية ] وهي سنة مؤكدة، لما روى أنس قال: «ضحى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما» . متفق عليه. قال أبو زيد: الأملح: الأبيض الذي فيه سواد، وقال ابن الأعرابي: هو الأبيض النقي. والتضحية أفضل من الصدقة بقيمتهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثرها على الصدقة. وليست واجبة؛ لأنه روي عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا لا يضحيان عن أهلهما مخافة أن يرى ذلك واجباً. وروت أم سلمة عن رسول الله قال: «إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 يضحي فلا يأخذ من شعره، ولا من أظافره شيئاً حتى يضحي» . رواه مسلم. وقال القاضي: هذا نهي كراهية، لا تحريم بدليل قول عائشة: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يقلدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي» . متفق عليه. ويمكن حمل الحديث على ظاهره في التحريم، ولا تعارض بين الحديثين؛ لأن أحدهما في الأضحية والآخر في الهدي المرسل. ولو تعارضا لكان حديث أم سلمة خاصاً في الشعر والظفر، فيجب تقديمه. فإن فعل، استغفر الله تعالى ولا فدية عليه. فصل: ولا يجزئ إلا بهيمة الأنعام؛ لقول الله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] . ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، والثني من غيره؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عسر عليكم، فاذبحوا الجذع من الضأن» رواه مسلم. والثنية من البقر هي المسنة. ومن الإبل ما كمل لها خمس سنين. قاله الأصمعي. ويستحب استحسانها، وأفضلها البياض؛ لأنه صفة أضحية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم ما كان أحسن لوناً. فصل: وتجزئ البدنة عن سبعة، وكذلك البقرة لقول جابر: «كنا نتمتع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نذبح البقرة عن سبعة، نشترك فيها» . رواه مسلم. ويجوز أن يشتركوا فيها، سواء أراد جميعهم القربة، أو بعضهم القربة والباقون اللحم لأن كل سبع مقام شاة، ويجوز أن يقسموا أنصباءهم لأن القسمة إفراز حق والحاجة داعية إليه. فصل: ويستحب أن ينحر الهدي والأضحية بيده، لحديث أنس. ويجوز أن يستنيب فيه، لما ذكرنا في الهدي، ويجوز أن يستنيب كتابياً؛ لأنه من أهل الذكاة. ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم؛ لأنها قربة، فالأفضل أن لا يليها كافر بالله. وعنه: لا يجوز أن يليها كافر لذلك. ويستحب لمن استناب أن يحضرها، لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 روى أبو سعيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لفاطمة: «أحضري أضحيتك، يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها» ويقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر. لحديث أنس، وإن قال: اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبل مني أو من فلان فحسن، لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال على أضحيته: «اللهم هذا منك، ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر» ثم ذبح وفي رواية قال: «بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد ثم ضحى» . رواه مسلم، وليس عليه أن يقول عن فلان؛ لأن النية تجزئ. فصل: وأول وقت الذبح في حق أهل المصر إذا صلى الإمام وخطب يوم النحر، لما روى البراء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاتنا، ونسك نسكناً فقد أصاب النسك، ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى» متفق عليه. وفي حق غير أهل المصر قدر الصلاة والخطبة؛ لأنه تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة، فاعتبر قدرها. وقال الخرقي: المعتبر قدر الصلاة والخطبة في حق الجميع؛ لأنها عبادة يتعلق آخرها بالوقت، فتعلق أولها بالوقت، كالصوم، فمن ذبح قبل ذلك لم يجزئه، وعليه بدلها إن كانت واجبة، لحديث البراء. وآخر وقتها آخر اليومين الأولين من أيام التشريق؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث» . متفق عليه. قال الخرقي: لا يجوز الذبح ليلاً؛ لقول الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] . وقال غيره من أصحابنا: يجوز ليلاً لأنه زمن يصح فيه الرمي، فصح فيه الذبح كالنهار، وقال بعضهم: فيه روايتان. فإن فات وقت الذبح، ذبح الواجب قضاء؛ لأنه قد وجب ذبحه، فلم يسقط بفوات وقته. وإن كان تطوعاً فقد فاتته سنة الأضحية. فصل: ولا يجزئ في الأضحية معيبة عيباً ينقص لحمها، لما روى البراء قال: قام فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقى» رواه أبو داود، يعني: التي لا مخ فيها، والعوراء البين عورها: التي انخسفت عينها، وذهبت، فنص على هذه الأربعة الناقصة اللحم، وقسنا عليها ما في معناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 ولا تجزئ العضباء، لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضحى بأعضب الأذن، أو القرن» . قال سعيد بن المسيب: العضب النصف فأكثر من ذلك. رواه النسائي. يعني التي ذهب أكثر من نصف أذنها، أو قرنها، وتجزئ الجماء التي لم يخلق لها قرن، والصمعاء: وهي الصغيرة الأذن والبتراء: التي لا ذنب لها، والشرقاء: التي شقت أذنها، والخرقاء: التي انشقت أذنها؛ لأن ذلك لا ينقص لحمها، ولا يمكن التحرز منه، وغيرها أفضل منها؛ لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء» . قال أبو إسحاق السبيعي: المقابلة: قطع طرف الأذن، والمدابرة: القطع من مؤخرة الأذن، والخرقاء: تشق الأذن للمسة، والشرقاء: تشق أذنها السمة. رواه أبو داود. وهذا نهي تنزيه لما ذكرنا. وقال ابن حامد: لا تجزئ الجماء، ويجزئ الخصي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين موجوءين، ولأنه يذهب عضو غير مستطاب، يطيب اللحم بذهابه. فصل: ويستحب أن يأكل الثلث من الأضحية، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث، لما روى ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأضحية قال: «ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السؤال بالثلث» قال الحافظ أبو موسى: هذا حديث حسن. ولقول ابن عمر: الضحايا والهدايا: ثلث لك وثلث لأهلك، وثلث للمساكين. وإن أطعمها كلها أو أكثرها فحسن، وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز، وإن أكلها كلها، ضمن القدر الذي تجب الصدقة به؛ لقول الله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] . والأمر يقتضي الوجوب. وإن نذر الأضحية، فله الأكل منها؛ لأن النذر محمول على المعهود قبله، والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها، ولأكل منها، ولا يغير النذر من صفة المنذور إلا الإيجاب. قال القاضي: ومن أصحابنا من منع الأكل منها، قياساً على الهدي المنذور. فصل: ولا يجوز بيع شيء من الهدي، والأضحية، ولا إعطاء الجازر بأجرته شيئاً منها، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن أقوم بدنه، وأن أقسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 جلودها وجلالها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا» متفق عليه. ويجوز أن ينتفع بجلدها، ويصنع منه النعال، والخفاف والفراء والأسقية، ويدخر منها، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم» رواه مسلم. ولأن الجلد جزء من الأضحية، فجاز الانتفاع به كاللحم. فصل: وإذا أوجب الأضحية بعينها، فالحكم فيها كالحكم في الهدي المعين، في ركوبها، وولدها، ولبنها، وصوفها، وتلفها، وإتلافها، ونقصانها، وذبحها على ما ذكرنا؛ لأن الأضاحي والهدايا معناهما واحد. وإيجابها قوله: هذه أضحيتي، أو هذه لله، ونحوه من القول. ولا يحصل ذلك بالشراء مع النية؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فلم تؤثر فيها النية المفارقة للشراء، كالوقف والعتق، فإن أوجبها ناقصة نقص يمنع الإجزاء، فعليه ذبحها؛ لأن إيجابها كنذر ذبحها، فيلزمه الوفاء به، ولا يكون أضحية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أربع لا تجزئ في الأضاحي» ولكنه يتصدق بلحمها، ويثاب عليه، كمن أعتق عبداً عن كفارة به عيب يمنع الإجزاء، ولا يلزمه البدل، إلا أن تكون الأضحية واجبة؛ لأنها تطوع، وإن زال عيبها قبل ذبحها أجزأت عن الأضحية؛ لأن القربة تتعين فيها بالذبح وهي سليمة حينئذ، وإن اشتراها معيبة فأوجبها، ثم علم عيبها، خرج جواز ردها على جواز إبدالها، وقد ذكرناه وله أخذ أرشها، وحكمه حكم أرش الهدي المعيب. [ باب العقيقة ] وهي الذبيحة عن المولود، وهي سنة، لما روى سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى ويحلق رأسه» رواه أبو داود. وليست واجبة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من ولد له مولود، فأحب أن ينسك عنه فليفعل» رواه مالك في الموطأ. والسنة أن يذبح عن الغلام شاتان متساويتان، وعن الجارية شاة، لما روت أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة» رواه أبو داود. ويستحب ذبحها يوم السابع، ويجزئ فيها من بهيمة الأنعام ما يجزئ في الأضحية، ويمنع فيها من العيب ما يمنع فيها، وسبيلها في الأكل والهدية والصدقة سبيلها، إلا أنه يستحب تفصيلها أعضاء، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 يكسر لها عظم؛ لأنها أول ذبيحة ذبحت عن المولود، فاستحب أن لا تكسر عظامها، تفاؤلاً بسلامة أعضائه. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «السنة شاتان مكافئتان عن الغلام، وعن الجارية شاة» . وكان عطاء يقول: تطبخ جدولاً ولا يكسر عظمها، ويأكل ويطعم ويتصدق، وذلك يوم السابع، فإن ذبحها قبل السابع جاز؛ لأنه فعلها بعد سببها، فجاز كتقديم الكفارة قبل الحنث، وإن أخرها عنه، ذبحها في الرابع عشر، فإن فات، ففي إحدى وعشرين، لما روى بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في العقيقة تذبح لسبع، ولأربع عشر، ولإحدى وعشرين» أخرجه الحسين بن يحيى بن عياش القطان. فإن أخرها عنه، ذبحها بعده؛ لأنه قد تحقق سببها. فصل: ويستحب حلق رأس الصبي يوم السابع، وتسميته، لحديث سمرة. وإن سماه قبل ذلك جاز، لما روى أنس أنه «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأخ له حين ولد، فحنكه بتمرة، وسماه عبد الله» . متفق عليه. وسمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولده إبراهيم ليلة ولد. متفق عليه. ويستحب تحسين اسمه، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم» رواه أبو داود. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» حديث صحيح رواه مسلم ويكره لطخ رأس الصبي بالدم؛ لأنه تنجيس له، وهو من عمل أهل الجاهلية. قال بريدة كنا نلطخ رأس الصبي بدم العقيقة، فلما جاء الإسلام كنا نلطخه بالزعفران. [ باب الذبائح ] لا يحل شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة؛ لقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] . إلا السمك وما شبهه مما لا يعيش إلا في الماء، فإنه يباح بغير ذكاة، وإن طفا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» والجراد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحل لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد والكبد والطحال» ولأن ذكاتهما في العادة لا تمكن، فسقط اعتبارها، وما يعيش من البحري في البر لا يحل إلا بالذكاة؛ لأنه مقدور على ذبحه إلا السرطان فإنه لا ذكاة له، فأشبه الجراد [وقال القاضي: لا يباح بغير ذكاة] . وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن الجراد لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 يباح إلا أن يموت بسبب، كتغريقه وطبخه، والأول المذهب. ولو وجد سمكة في بطن أخرى، أو في حوصلة طائر أو جراد أو حباً، أو وجد الحب في روث بعير حل؛ لأنه في محل طاهر، ولا ذكاة له، فأشبه ما مات في الماء، وعنه: ما أكل مرة لا يؤكل ثانية؛ لأنه رجيع، فيكون مستخبثاً. ولو صاد الوثني حوتاً حل، وعنه: لا يحل، والأول أصح لأنه لا ذكاة له، فأشبه ما لو أخذه ميتاً. فصل: وللذكاة أربعة شروط: أهلية المذكي، بأن يكون مسلماً أو كتابياً أو عاقلاً؛ لقول الله تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وقول سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . يعني: ذبائحهم. ولا تحل ذكاة وثني ولا مجوسي، ولا مرتد، وإن تدين بدين أهل الكتاب؛ لأنه لم يثبت له حكم أهل الكتاب، ومفهوم الآية تحريم ذبائح من سواهم، وفي نصارى بني تغلب روايتان: أصحهما: حل ذبائحهم، لعموم الآية. والثانية: تحريمها؛ لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال أصحابنا: ولا تحل ذبيحة من أحد أبويه وثني أو مجوسي؛ لأنه اجتمع فيه ما يقضي الحظر والإباحة، فغلب الحظر. وإن ذبح اليهودي ما حرم عليهم، وهو كل ذي ظفر. قال قتادة: هو الإبل والنعام والبط، وما ليس بمشقوق الأصابع، أو ذبح بقرة أو شاة، لم يحرم علينا منه شيء في ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واختيار ابن حامد؛ لأنه من أهل الذكاة ذبح ما يحل لنا فأشبه المسلم. واختار أبو الحسن التميمي أنه يحرم علينا ما يحرم عليه من الشحم، وذي الظفر؛ لأنه لم يبح لذابحه، فلم يبح لغيره كالدم، ويعتبر العقل، فلا تحل ذكاة مجنون، ولا سكران ولا طفل غير عاقل؛ لأنه أمر يعتبر له العقل والدين، فاعتبر له العقل كالغسل، وكذلك لو رمى هدفاً فذبح صيداً، لم يحل. ويصح من العدل والفاسق، والذكر والأنثى، والصبي العاقل والأعمى، لما روى كعب بن مالك «أن جارية له كانت ترعى غنماً بسلع، فأصيب منها شاة، فأدركتها فذكتها بحجر، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكلها» . رواه البخاري. وقال ابن عباس: من ذبح من ذكر وأنثى وصغير وكبير، وذكر اسم الله عليه فكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 فصل: الشرط الثاني: الآلة وهو أن يذبح بمحدد، أي شيء كان من حديد أو حجر أو خشب أو قصب إلا السن والظفر، فإنه لا يباح الذبح بهما، لما روى رافع بن خديج قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ليس السن والظفر، وسأخبركم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» متفق عليه. فإن ذبح بعظم غير السن، أبيح في ظاهر كلامه، لدخوله في عموم اللفظ. وعنه: لا يباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل تحريم الذبح بالسن، لكونه عظماً. ويستحب تحديد الآلة، لما روى شداد بن أوس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» رواه مسلم. فصل: الشرط الثالث: أن يسمي الله؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . وحديث رافع، فإن تركها عمداً لم تحل ذبيحته، وإن تركها سهواً حلت لما روى راشد بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يسم الله تعالى إذا لم يتعمد» أخرجه سعيد. وعنه: لا تسقط التسمية في عمد، ولا سهو للآية والخبر، وعنه: لا تجب في الحالين، لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن قوماً قالوا: يا رسول الله إن قوماً من الأعراب يأتونا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال: سموا أنتم وكلوا» رواه البخاري، والمذهب الأول. وإن شك في تسمية الذابح حل لحديث عائشة، ولأن حال المسلم تحمل على الصحة، كالذبح في المحل. والتسمية: قول بسم الله، وإن كان بغير العربية، وموضعها عند الذبح، يجوز تقديمها عليه بالزمن اليسير. وإن سمى على شاة وذبح أخرى لم تبح؛ لأنه لم يذكر اسم الله عليها. وإن سمى على قطيع وذبح منه شاة لم تبح، وإن سمى على شاة، ثم ألقى السكين وأخذ أخرى، أو تحدث ثم ذبحها حلت؛ لأنه سمى عليها. وتقوم إشارة الأخرس مقام تسميته، كسائر ما يعتبر فيه النطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 فصل: الشرط الرابع: المحل، وهو الحلق واللبة، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه نادى: «النحر في اللبة والحلق لمن قدر» . أخرجه سعيد. وروي مرفوعاً عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويشترط قطع الحلقوم، وهما مجرى الطعام والنفس. وعنه: يشترط فري الودجين، أو أحدهما، وهما عرقان محيطان بالحلقوم، لما روى أبو هريرة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شريطة الشيطان» وهي التي تذبح فيقطع الجلد، ولا تفرى الأوداج، ثم تترك حتى تموت. رواه أبو داود. والأول أولى؛ لأنه قطع لا تبقى الحياة معه في محل الذبح، وإن قطع الأوداج وحدها، فينبغي أن تحل استدلالاً بالحديث والمعنى، والأولى قطع الجميع؛ لأنه أوحى وأبلغ من سيلان الدم وتنظيف اللحم منه. فصل: والسنة نحر الإبل قائمة، معقولة يدها اليسرى؛ لقول الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] ومر ابن عمر «على رجل قد أناخ بدنته لينحرها، فقال: ابعثها قياماً مقيدة. سنة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. ثم يجؤها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر؛ لقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ونحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدنة. ويذبح سائر الحيوان؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] . وذبح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكبشين اللذين ضحى بهما. فإن ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح جاز؛ لأنه لم يتجاوز محل الذبح، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» ويستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يستحب ذلك، ولأنها أولى الجهات بالاستقبال. فصل: فإن ذبحها من قفاها، فأتت السكين على موضع ذبحها وفيها حياة مستقرة حلت؛ لأنها ماتت بالذبح، وكذلك ما جرح من غير مذبحه. والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع والمريضة ما أدرك ذكاتها، وفيها حياة مستقرة حلت؛ لقول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] . ولحديث جارية كعب: «إذا أصيبت منها شاة، فأدركتها فذكتها بحجر، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكلها» وما لم يبق فيه إلا مثل حركة المذبوح لا يباح؛ لأنه صار في حكم الميت، وكذلك لو ذبحها بعد ذبح الوثني لها لم تبح. فصل: ويكره أن يبين الرأس بالذبح، وقطع عضو مما ذكى، أو سلخه حتى تزهق نفسه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق ولا يحرم المقطوع؛ لأن إبانته حصلت بعد ذبحها وحلها. ولو ذبحها، فسقطت في ماء، أو تردت تردياً يقتلها مثله، فقال أكثر أصحابنا: لا تحرم لما ذكرنا. وقال الخرقي: تحرم، وهو المنصوص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعدي بن حاتم: «فإن وقعت في الماء فلا تأكل» ولأن ذلك يعين على زهوق نفسها، فيحصل بسبب مبيح ومحرم. فصل: وإذا ذبح حاملاً، فخرج جنينها ميتاً، أو فيه حركة كحركة المذبوح أبيح، لما روى أبو سعيد قال: «قيل يا رسول الله: إن أحدنا ينحر الناقة، ويذبح البقرة والشاة. فيجد في بطنها الجنين، أيأكله أم يلقيه؟ قال: كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه» رواه أبو داود، ولأنه متصل بها يتغذى بغذائها فكانت ذكاتها ذكاة له، كسائر أجزائها. ويستحب أن يذبحه ليخرج دمه الذي في بطنه، نص عليه. وإن خرج وفيه حياة مستقرة لم يبح إلا بالذكاة؛ لأنه مستقل بحياته، فأشبه ما ولدته قبل ذبحها. فصل: وإذا ند بعيره أو غيره، فلم يقدر عليه، صار حكمه حكم الصيد، لما روى رافع بن خديج قال: «كنا مع النبي في غزاة، فأصاب القوم غنماً وإبلاً، فند بعير من الإبل، فرماه رجل بسهم، فحبسه الله به، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا» متفق عليه. ولأنه تعذر ذكاته في الحلق، فأشبه الصيد. ولو تردى في بئر، فلم يقدر على ذبحه، فجرحه في أي موضع قدر عليه من جسده، أبيح لما ذكرناه إلا أن يكون رأسه في الماء، أو في شيء يموت به غير الذبح، فلا يباح لأننا لا نعلم أن الذبح قتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 [ باب الصيد ] وهو مباح لقول الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . وقَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . قال ابن عباس: هي الكلاب المعلمة والبازي، وكل ما تعلم الصيد. فصل: من صاد صيداً فذكاه حل بكل حال، لحديث أبي ثعلبة. وإن أدرك ميتاً حل بشروط سبعة. أحدها: أهلية الصائد على ما ذكرنا في الذكاة؛ لأن الاصطياد كالذكاة، وقائم مقامها. الثاني: التسمية عند إرسال الجارح أو السهم لما ذكرنا في الذكاة، ولا يعفى عنهما في عمد ولا سهو؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك وسميت فكل، وإن وجدت معه غيره فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر» متفق عليه. وعنه: يعفى عنها في السهو، لما ذكرنا في الذكاة. وعنه: يعفى عن السهو في إرسال السهم؛ لأنه آلته فهو كسكينة، ولا يعفى عنه في إرسال الكلب، للحديث، والأول المذهب. الشرط الثالث: إرسال الجارح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك، وسميت فكل» ولأن إرسالها أقيم مقام الذبح، فاعتبر وجوده، فإن استرسل الكلب بنفسه، لم يبح صيده فإن سمى صاحبه وزجره، فزاد في عدوه حل صيده؛ لأنه أثر فيه، فصار كإرساله، وإن لم يزد في عدوه لم يبح؛ لأنه لم يؤثر. الشرط الرابع: أن يكون الجارح معلماً؛ لقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] . ولما روى أبو ثعلبة الخشني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما صدت بكلبك المعلم، وذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل» متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 ويعتبر في تعليمه إن كان سبعاً ثلاثة أشياء: أن يسترسل إذا أرسل، وأن ينزجر إذا زجر، ولا يأكل إذا أمسك. وهل يعتبر تكرار ذلك منه، فيه وجهان: أحدهما: يعتبر ثلاثاً، ذكره القاضي؛ لأن ترك الأكل في المرة الواحدة يحتمل أنه لشبع أو عارض، فيعتبر تكراره، ليعلم أنه لتعلمه. والثاني: لا يعتبر، ذكره أبو جعفر الشريف، وأبو الخطاب؛ لأنه تعلم صنعة، فلم يعتبر تكراره كسائر الصنائع، وأما الطائر كالبازي والصقر، فيعتبر أن يسترسل إذا أرسله، ويجيبه إذا دعاه، ولا يعتبر ترك الأكل؛ لأن تعليمه بأكله، وكل حيوان يقبل التعليم يحل صيده، لعموم الآية إلا الكلب الأسود البهيم، فإنه لا يحل اقتناؤه ولا صيده؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتله، وقال: «إنه شيطان» وما وجب قتله حرم اقتناؤه وتعليمه، فوجب أن لا يحل صيده. الشرط الخامس: أن يرسله على صيد، فإن أرسله على غير شيء، أو على إنسان، أو حجر أو بهيمة، فأصاب صيداً لم يحل؛ لأنه لم يرسله على صيد، فأشبه ما استرسل بنفسه، ويحتمل أن يحل كما لو أرسله على صيد، فصاد غيره، وإن أرسله على صيد فأصاب غيره، أو قتل جماعة حلت للخبر، ولأنه أرسله على صيد فحل ما صاده، كما لو أرسله على كبار فتفرقت عن صغار فصادها. ولو سمع حساً أو رأى سواداً، فظنه صيداً، فأرسل عليه كلبه أو سهمه فأصاب صيداً حل؛ لأنه قصد الصيد، وإن لم يظنه صيداً لم يبح صيده؛ لأن صحة قصده تبنى على ظنه، سواء كان الذي رآه صيداً، أو لم يكن. الشرط السادس: أن يجرح الصيد، فإن قتله بخنقه، أو صدمته لم يحل لأنه قتله بغير جرح، أشبه ما لو رمى بالبندق والحجر. وقال ابن حامد: يباح لعموم قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وعموم الخبر. الشرط السابع: أن يختص السباع، وهو ترك الأكل من الصيد، وفيه روايتان: إحداهما: هو شرط، فمتى أكل الجارح من الصيد لم يحل، لما روى عدي بن حاتم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك، وإن قتل إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 والثانية: لا يحرم، لما روى أبو ثعلبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل» رواه أبو داود. والأولى أولى؛ لأن حديثنا أصح، ولا يحرم المتقدم من صيوده؛ لأنها وجدت مع اجتماع شروط التعلم فيه، فلا تحريم بالاحتمال، وإن شرب من دم الحيوان، لم يحرم رواية واحدة؛ لأنه لم يأكل، ولأن الدم لا ينفع الصائد، فلا يخرج بشربه عن أن يكون ممسكاً على صائده. فصل: وما أصاب فم الكلب، وجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب، كغيره من المحال ويحتمل أن لا يجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولم يأمر بالغسل، ولأنه يشق إيجاب غسله فسقط. فصل: ويباح الصيد بغير الحيوان؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ثعلبة: «ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل» ولأن أبا قتادة شد على حمار وحشي فقتله، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما هي طعمة أطعمكموها الله» متفق عليهما. فما كان محدداً كالسهم والسيف، حل ما قتل به إذا اجتمعت الشروط، كالمعلم من الجوارح، وما لم يكن محدداً كالشباك، والأشراك والعصي والحجارة والبندق، فما أدرك ذكاته حل، وما لم يدرك ذكاته لم يحل، كغير المعلم؛ لأنه لم يقتل بجروحه، فيكون قتيله منخنقة أو موقوذة. ولو قتل المحدد الصيد بعرضه أو ثقله لم يبح لذلك، ولما روى عدي قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيد المعراض، فقال: ما خزق فكل، وما قتل بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل» متفق عليه. ولو نصب المناجل لصيد وسمى، فجرحت الصيد وقتلته أبيح لأنها آلة محددة فأشبهت السهم، ولو وقع السهم على الأرض ثم وثب فقتل الصيد، أو أعانته الريح، ولولاها ما وصل حل لحديث أبي ثعلبة. فصل: إذا اجتمع في الصيد مبيح ومحرم، مثل أن يقتله بمثقل ومحدد، أو بسهم مسموم، أو بسهم مسلم، وبسهم مجوسي، أو سهم غير مسمى عليه، أو كلب مسلم وكلب مجوسي، أو غير مسمى عليه، أو غير معلم، أو اشتركا في إرسال الجارحة عليه، أو وجد مع كلبه كلباً لا يعرف مرسله، أو لا يعرف حاله، أو وجد مع سهمه سهماً كذلك لم يبح الصيد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك وسميت فكل وإن وجدت معه غيره فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر» ولأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 الأصل الحظر، فإذا شككنا في المبيح رد إلى أصله. وإن علم أن كلبه أو سهمه القاتل دون الآخر، مثل أن يجرح في المقتل، والآخر في غيره، أو يكون الآخر رد عليه الصيد أبيح لعدم الاشتباه، وكذلك إن علم أن شريك كلبه أو سهمه مما يباح صيده حل لذلك. ولو خرج الصيد، فوقع في ماء، أو تردى تردياً يقتله لم يبح لذلك. وقد روى عدي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رميت الصيد، فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك فكل، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل» متفق عليه. فصل: ولو صاد المسلم بكلب المجوسي حل، وعنه: لا يحل؛ لقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] . والأول المذهب؛ لأن هذا آلة فأشبه ما لو صاد بقوسه وسهمه. ولو صاد المجوسي بكلب مسلم لم يبح، كما لو صاد بقوسه. فصل: وإن رمى صيداً، أو أرسل كلبه عليه، فغاب عنه، ثم وجده ميتاً وسهمه فيه، أو وجده مع كلبه ولا أثر به، يحتمل أن يقتله غيره حل، لحديث عدي، وعنه: إن غاب نهاراً حل، وإن غاب ليلاً لم يحل. وعنه: إن غاب يسيراً أكله، وإن غاب كثيراً لم يأكله؛ لأنه يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والأول أولى للخبر، ولأنه قد وجد سبب إباحته يقيناً، والمعارض مشكوك فيه، فلا يزول عن اليقين بالشك. وإن شك في سهمه، أو من قتل به، أو وجد به أثر يحتمل أنه قتله، أو وجد غريقاً لم يبح للخبر، ولأنه شك في حله فوجب رده إلى أصله. فصل: إذا أدرك الصيد، وفيه حياة غير مستقرة، فتركه حتى مات حل لأن عقره قد ذبحه، وكذلك إن لم يبق من الزمان ما يتمكن من ذبحه فيه، وإن وجد فيه حياة مستقرة في زمن يمكن ذبحه فيه، فلم يذبحه حتى مات لم يحل لأنه صار مقدوراً على ذبحه، فلم يبح بغيره، كغير الصيد، فإن لم يكن معه ما يذكيه به، ففيه روايتان: إحداهما: لا يباح لذلك. والثانية: يرسل عليه صائده حتى يقتله فيحل، اختارها الخرقي. لأنه صيد قتله صائده قبل إمكان ذبحه، فأشبه الذي قتله قبل إدراكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 فصل: إذا ضرب صيداً فأبان منه عضواً، وبقيت فيه حياة مستقرة، فالعضو حرام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي فهو ميت» رواه أبو داود. وإن قطعه نصفين أو قطع رأسه، حل جميعه؛ لأنه مات بضربته، وإن قطع منه عضواً وبقي في سائره حياة غير مستقرة حل جميعه؛ لأنها ذكاة لبعضه فكانت ذكاة لجميعه، كما لو أبان رأسه. وقد استحسن أبو عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قول الحسن: لا بأس بالطريدة، قال أبو عبد الله: الطريدة: الغزال، يمر بالعسكر فيضربه القوم بأسيافهم، فيأخذ كل واحد منهم قطعة. قال الحسن: ما زال الناس يفعلون ذلك في مغازيهم، وعن أبي عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه لا يؤكل منه ما أبين في حياته، يؤكل سائره، للخبر. وإن بقي معلقاً بجلده حل رواية واحدة؛ لأنه متصل بجملته، أشبه سائر أعضائه. فصل: وإذا أثبت الصيد برميته أو شبكته أو غيرهما من آلات الصيد ملكه، فإن انفلت من الشبكة زال ملكه عنه؛ لأنه لم يستقر، فزال بانفلاته، فإن أخذ الشبكة معه، فصاده آخر رد الشبكة على صاحبها، وملك الصيد إلا أن يكون غير ممتنع بها، فيكون لصاحبها؛ لأنها التي أمسكته. ومن أمسك صيداً، واستقرت يده عليه ثم انفلت لم يزل ملكه عنه لأن اليد استقرت عليه، فلم تزل عنه بانفلاته كبهيمة، فإن أرسله، وقال: قد أعتقتك، لم يزل ملكه عنه؛ لأنه ليس بمحل للعتق. فصل: وإن أثبت الصيد بسهمه، فرماه آخر فقتله حرم؛ لأنه صار مقدوراً عليه، فلم يبح بغير الذبح، وعلى الثاني قيمته مجروحاً لصاحبه؛ لأنه أتلفه عليه إلا أن يكون سهم الثاني ذبحه فيحل؛ لأنه ذكاه، فإن ادعى كل واحد منهما أنه الأول حلف كل واحد منهما، وبرئ من الضمان؛ لأن الأصل براءة ذمته، وإن اتفقا على السابق، وأنكر الثاني كون الأول أثبته، فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء امتناعه، ويحرم على الأول اعترافه بتحريمه، ويحل للثاني. وإن رمياه فوجداه مثبتاً، لم يعلما من أثبته منهما، فهو بينهما، وإن وجداه ميتاً، ولم يعلما هل أثبته الأول أم لا؟ حل؛ لأن الأصل بقاء امتناعه والله سبحانه وتعالى أعلم. [ باب ما يحل وما يحرم من الحيوان ] باب ما يحل ويحرم الحيوان ثلاثة أقسام: أهلي، فيباح منه بهيمة الأنعام؛ لقول الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] والخيل كلها، لما روى جابر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» . وقالت أسماء: «نحرنا فرساً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأكلناه، ونحن بالمدينة» . متفق عليهما، والدجاج لما روى أبو موسى، قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل لحم الدجاج» . متفق عليه. والإوز والبط؛ لأنها طيبات، فتدخل في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وتحرم الحمر، لحديث جابر. والبغال؛ لأنها متولدة منها، والمتولد بين الوحشي والأهلي كذلك، وما تولد بين حلال وحرام، كالسمع والعسبار كذلك. وتحرم الكلاب والسنانير؛ لأنها من السباع، وتأكل الخبائث. فصل: القسم الثاني: الوحشي، فيباح منه الحمر، لحديث أبي قتادة. والأرانب، لما روى أنس «أنه أخذ أرنباً، فذبحها أبو طلحة، وبعث بوركها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبله» . متفق عليه. والضباع لما روى جابر قال: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضبع، فقال: هو صيد ويجعل فيه كبش إذ صادفه المحرم» . رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. والضباب، لما روى ابن عباس قال: «أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضب، فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه فاحتزه خالد فأكله، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر إليه» متفق عليه. ويباح البقر والظباء والنعام والأوبار واليرابيع؛ لأنها مستطابة، قضت الصحابة فيها بالجزاء على المحرم، وتباح الزرافة، نص عليه؛ لأنها من الطيبات المستحسنات. وعنه في اليربوع: أنه محرم؛ لأنه يشبه الفأرة، وفي الثعلب روايتان: إحداهما: يحرم؛ لأنه من السباع. والثانية: يحل؛ لأنه يفدى من الإحرام، وفي سنور البر روايتان لذلك. ويباح من الطير الحمام وأنواعه، والعصافير والقنابر والحجل والقطا، والحبارى والكركي، والكروان، وغراب الزرع، والزاغ وأشباهها مما يلتقط الحب، أو يفدى من الإحرام، وقد روى سفينة قال: «أكلت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحم حبارى» . رواه أبو داود. وفي الهدهد والصرد روايتان: إحداهما: يباح؛ لأنها تشبه المباح. والثانية: يحرم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن قتل الهدهد والصرد» رواه أبو داود وابن ماجه. وكل طير لا يصيد بمخلبه، ولا يأكل الجيف، ولا يستخبث، فهو حلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 فصل: يحرم الخنزير، لنص الله تعالى على تحريمه، وكل ذي ناب من السباع، كالكلب والأسد والفهد، والنمر والذئب، وابن آوى والنمس، وابن عرس، والفيل والقرد، لما روى أبو ثعلبة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كل ذي ناب من السباع» . متفق عليه. وتحريم سباع الطير، كالعقاب والبازي والصقر والشاهين، والحدأة والبومة، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير» رواه مسلم وأبو داود. ويحرم ما يأكل الجيف، كالنسر والرخم، وغراب البين، والأبقع والعقعق؛ لأنها مستخبثة لأكلها الخبائث، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» ذكر منها الحدأة والغراب. وما أبيح قتله، لم يبح أكله. وتحرم الخبائث كلها، كالفأر والجراذين والأوزاغ والعظا والورل، والقنفذ والحرباء والصراصير والجعلان والخنافس والحيات والعقارب والدود والوطواط والخفاش والزنابير واليعاسيب والذباب والبق والبراغيث والقمل وأشباهها؛ لقول الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وقد روى أبو هريرة «أن القنفذ ذكر عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هو خبيثة من الخبائث» رواه أبو داود. وما لم يذكره يرد إلى أقرب الأشياء شبهاً به، فيلحق به بالإباحة والتحريم؛ لأن القياس حجة، وما لم يكن شبيهاً بشيء منها فهو حلال؛ لقول الله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] . خرج من عمومها ما قام الدليل على تحريمه، والباقي يبقى على الأصل. فصل: القسم الثالث: حيوان البحر يباح جميعه؛ لقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] إلا الضفدع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلها، ولأنها مستخبثة. وكره أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التمساح؛ لأنه ذو ناب، فيحتمل أنه محرم؛ لأنه سبع ويحتمل أنه مباح للآية. وقال ابن حامد: يحرم الكوسج؛ لأنه ذو ناب، وقال أبو علي النجاد: لا يؤكل من البحري ما يحرم نظيره في البر، ككلب الماء وخنزيره وإنسانه، والأول أولى. وقد قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كلب الماء: يذبحه، وركب الحسن بن علي على سرج عليه جلد كلب ماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 فصل: وكره أحمد لحوم الجلالة وألبانها. قال القاضي: هي أكثر علفها النجاسة، فإن كان أكثره الطاهر فليست جلالة، قال: ولحمها ولبنها حرام. وفي بيضها روايتان. وقال ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى إن أكلها غير محرم، لعموم قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] . والأولى ظاهر المذهب، لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل الجلالة وألبانها» . رواه أبو داود. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة» . رواه الخلال ويزول تحريمها، وكراهتها بحبسها عن أكل النجاسات ويحبس البعير أربعين ليلة للخبر والبقرة في معناه، ويحبس الطائر ثلاثاً لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً. وعن أحمد: أن الجميع يحبس ثلاثا لخبر ابن عمر. فصل: وما سقي من الزروع والثمار بالنجاسات أو سمد بها نجس، كالجلالة؛ لأنه يتغذى بالنجاسات، وتترقى فيه أجزاؤها، فأشبه الجلالة، ويطهر بسقيها بالطهارات، كالجلالة إذا أكلت الطهارات. فصل: وتحرم الميتة والدم للآية، وتحرم النجاسات كلها؛ لأنها من الخبائث، وتحرم السموم المضرة، كما يحرم عليه إتلاف شيء من جسده. فصل: فإن اضطر إلى شيء مما حرم عليه، أبيح تناوله؛ لقول الله تعالى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وفي قدر ما يباح روايتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 إحداهما: قدر ما يسد رمقه، اختارها الخرقي؛ لأنه يخرج بأكله عن كونه مضطراً، فتزول الإباحة بزواله. والثانية: له الشبع؛ لأنه طعام جاز له سد الرمق منه، فجاز له الشبع، كالحلال. وهل يجب عليه أكل ما يسد رمقه، فيه وجهان: أحدهما: يجب لقول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . والثاني: لا يجب؛ لأنه تجنب ما حرم عليه. وقد روي عن عبد الله بن حذافة صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ملك الروم حبسه، ومعه لحم خنزير مشوي، وماء ممزوج بخمر ثلاثة أيام، فأبى أن يأكله، وقال: لقد أحله الله لي، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام، ومن اضطر إلى طعام من ليس به مثل ضرورته لزمه بذله له؛ لأن في منعه منه إعانة على قتله، وإن بذله بثمن مثله لمن يقدر على ثمنه لزمه أخذه، ولم تحل له الميتة؛ لأنه غير مضطر، وإن امتنع من بذله إلا بأكثر من ثمن مثله فاشتراه به لم يلزمه إلا ثمن مثله؛ لأنه اضطر إلى بذل الزيادة بغير حق، فلم يلزمه كالمكره، وإن منعه منه بالكلية فله قتاله عليه؛ لأنه صار أحق به من مالكه وإن وجد المضطر ميتة، وطعاماً لغائب، فطابت نفسه بأكل الميتة فهي أولى؛ لأن إباحتها ثبتت بالنص، فكانت أولى مما ثبت بالاجتهاد، وإن لم تطب نفسه بأكلها أكل طعام الغير؛ لأنه مضطر إليه. وإن وجد المحرم ميتة وصيداً فكذلك؛ لأن المحرم إذا ذبح الصيد صار ميتة، ولزمه الجزاء، فيجتمع فيه تحريمان، ومن لم يجد إلا آدمياً معصوماً لم يبح له قتله؛ لأنه لا يحل وقاية نفسه بأخيه، ولا يحل له قطع شيء من نفسه ليأكله؛ لأنه يتلفه يقيناً ليحصل ما هو موهوم. وإن وجد آدمياً مباح الدم، فله قتله وأكله؛ لأن إتلافه مباح، وإن وجد ميتاً معصوماً، فالأولى إباحته، لدخوله في عموم الآية؛ ولأن فيه حفظ الحي، فأشبه غير المعصوم، اختار هذا أبو الخطاب. وقال غيره من أصحابنا: لا يباح؛ لأن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي، وإن وجد المضطر خمراً لم يبح شربها؛ لأنها لا تدفع جوعاً ولا عطشاً، ولا فيها شفاء، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» وإن وجد ماء ممزوجاً بخمر يدفع العطش فله الشرب منه؛ لأنه يدفع به الهلاك. وإن غُص بلقمة، ولم يجد مائعاً يدفعها به، وخاف الهلاك فله دفعه بها لأنه يحصل بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 فصل: ومن مر بثمرة لا حائط لها، ولا ناطر، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: أنه يأكل ولا يحمل، لما روي عن أبي زينب، قال: سافرت مع أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي برزة، فكانوا يمرون بالثمار، فيأكلون في أفواههم. وقال عمر: يأكل ولا يتخذ خبنة. والثانية: يباح ما سقط، ولا يرمي بحجر ولا يضرب، لما روى رافع أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترم وكُلْ ما وقع» حديث صحيح. والثالثة: له الأكل إن كان جائعاً، ولا يأكل إن لم يكن جائعاً، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه سئل عن الثمر المعلق، فقال: ما أصاب منه ذي الحاجة، غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه، ومن خرج منه بشيء فعليه غرامة مثليه، والعقوبة» هذا حديث حسن وفي الزرع روايتان: إحداهما: هو كالثمرة؛ لأن العادة جارية بأكل الفريك والباقلاء ونحوهما. والثانية: لا يباح؛ لأن الفاكهة خلقت للأكل رطبة والنفوس إليها أميل بخلاف الزرع، وما كان محوطاً أو له ناطر، فليس له الدخول بحال؛ لقول ابن عباس: إذا كان عليها حائط، فهو حريم، فلا تأكل، وإن لم يكن حائط فلا بأس. وفي لبن الماشية روايتان: إحداهما: هو كالثمرة، لما روى الحسن عن سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية فيها صاحبها، فليستأذنه فإن أذن، فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثاً، فإن لم يجب، فليحتلب وليشرب، ولا يحمل» حديث صحيح. والثانية: لا يحل له الحلب؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 [ كتاب البيع ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب البيع البيع حلال، لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وهو نوعان. أحدهما: الإيجاب والقبول، فيقول البائع: بعتك أو ملكتك أو لفظاً بمعناهما، ثم يقول المشتري: ابتعت أو قبلت أو نحوهما، فإن تقدم القبول الإيجاب بلفظ الماضي، فقال: ابتعت هذا منك بكذا، فقال: بعتك صح، لأن المعنى حاصل، فأشبه التعبير بلفظ آخر، وإن تقدم بلفظ الطلب، فقال: بعني، فقال: بعتك صح، لأنه تقدم القبول، أشبه لفظ الماضي. وعنه: لا يصح، لأنه لو تأخر عن الإيجاب لم يصح، فلم يصح متقدماً، كلفظ الاستفهام. وإن أتى بلفظ الاستفهام، فقال: أبعتني ثوبك؟ فقال: بعتك، لم يصح متقدماً، ولا متأخراً، لأنه ليس بقبول ولا استدعاء. الثاني: المعاطاة مثل أن يقول: أعطني بهذا خبزاً، فيعطيه ما يرضيه، أو يقول: خذ هذا الثوب بدينار، فيأخذه فيصح، لأن الشرع ورد بالبيع، وعلق عليه أحكاماً، ولم يعين له لفظاً، فعلم أنه ردهم إلى ما تعارفوه بينهم بيعاً، والناس في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك. وحكي عن القاضي: أنه يصح في الأشياء اليسيرة دون الكثيرة، لأن العرف إنما جرى به في اليسير، والحكم في الهبة والهدية والصدقة، كالحكم في البيع، وذلك لاستواء الجميع في المعنى. فصل ويشترط له الرضى، لقول الله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 إلا فيما يجب، فإن أكره على بيع غير واجب، لم يصح لعدم الرضى المشترط، وإن أكره على بيع واجب صح، لأنه قول حمل عليه بحق، فصح كإسلام المرتد. ولا يصح من غير عاقل، كالطفل والمجنون والسكران، والنائم والمبرسم، لأنه قول يعتبر له الرضى، فلم يصح من غير عاقل كالإقرار. [ باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز ] كل عين مملوكة يباح نفعها واقتناؤها من غير ضرورة يجوز بيعها، كالمأكول والمشروب، والملبوس والمركوب، والعقار والعبيد والإماء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وقد «اشترى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جابر بعيراً» ، «ومن أعرابي فرساً» . «ووكل عروة بن الجعد في شراء شاة» ، وباع مدبراً وحلساً وقدحاً، وأقر أصحابه على بيع هذه الأعيان وشرائها. ويجوز بيع دود القز وبزره، لأنه منتفع به، وبيع النحل في كوارته ومنفرداً عنها إذا رئي وعلم قدره، وبيع الطير الذي يقصد صوته كالهزار والبلبل والببغة، لأنه يشتمل على منفعة مباحة، أشبه الأنعام. ويجوز بيع الهر وسباع البهائم، والطير التي تصلح للصيد، كالفهد والبازي ونحوهما غير الكلب في إحدى الروايتين، وهي اختيار الخرقي والأخرى: لا يجوز وقال أبو بكر وابن أبي موسى: لا يجوز بيعها لنجاستها، فأشبهت الكلب والأول أصح، لأنه حيوان أبيح نفعه واقتناؤه من غير وعيد في جنسه، فجاز بيعه، كالحمار وبهذا يبطل ما ذكراه ويجوز بيع الجحش الصغير، والفهد الصغير، وفرخ البازي، لأنه يصير إلى حال ينفع، فأشبه طفل العبيد. وما ينفع من بيض الطير لمصيره فرخاً فهو كفرخه، لأن مآله إلى النفع. وقال القاضي: لا يجوز بيعه، لعدم نفعه في الحال. قال أحمد: أكره بيع القرد، قال ابن عقيل: هذا محمول على بيعه للإطافة به واللعب وأما بيعه لحفظ المتاع فيجوز، لأنه منتفع به. وقال أحمد: أكره بيع لبن الآدميات، فيحتمل التحريم، لأنه مائع خارج من آدمية، أشبه العرق ويحتمل كراهية التنزيه، لأنه طاهر منتفع به، أشبه لبن الشاة. فصل: ويجوز بيع العبد المرتد، لأنه مملوك منتفع به، وخشية هلاكه لا يمنع بيعه كالمريض، فإن علم المشتري حاله، فلا شيء له، لأنه رضي بعيبه، وإن لم يعلم فله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 الرد أو الأرش، قتل أو أسلم كالمعيب. ويصح بيع العبد الجاني عمداً أو خطأ على النفس أو ما دونها، لأنه حق تعلق برقبته غير متحتم، فأشبه القتل بالردة، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فهي كالردة، وإن كانت موجه للمال فهو على السيد، لأنه رضي بالتزام ما عليه، فإن كان معسراً فللمجني عليه رقبة العبد، إن شاء فسخ العقد ورجع به، وإن شاء رجع على البائع بالأرش. وإن كان قاتلاً في المحاربة، فكذلك في قول بعض أصحابنا، لأنه ينتفع به إلى قتله ويعتقه، فيجر ولاء ولده، فصح بيعه كالزمن وحكمه حكم المرتد. وقال القاضي: لا يصح بيعه، لأنه متحتم القتل، فلا منفعة فيه، فأشبه الميت. فصل: وفي بيع رباع مكة وإجارتها روايتان: إحداهما: يجوز لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى من صفوان بن أمية داراً بأربعة آلاف، واشترى معاوية من حكيم بن حزام دارين بمكة، ولأنها أرض حية لم ترد عليها صدقة محرمة، فجاز بيعها كغيرها. والثانية: لا يجوز، لأنها فتحت عنوة، ولم تقسم بين الغانمين، فصارت وقفاً على المسلمين، فحرم بيعها كسواد العراق. والدليل على فتحها عنوة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» . متفق عليه. وقالت أم هانئ: «يا رسول الله إني أجرت حموين لي، فزعم ابن أم هانئ علي أنه قاتلهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد أجرنا من أجرت» حديث صحيح وقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة، ولو فتحت صلحاً لم يجز قتل أهلها. فصل: ولا يجوز بيع الشام، وسواد العراق ونحوهما مما فتح عنوة، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقفه على المسلمين، وأقره في يد أربابه بالخراج الذي ضربه يكون أجرة له في كل عام، ولم يقدر مدتها لعموم المصلحة فيها، وقد اشتهر ذلك في قصص نقلت عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وعن أحمد: أنه كره بيعها، لأنه يأخذ ثمن الوقف، وأجاز شراءها، لأنه كالاستنقاذ لها، فجاز كشراء الأسير، وتجوز إجارتها لأنها مستأجرة في يد أربابها، وإجارة المستأجر جائزة، فأما المساكن في المدائن فيجوز بيعها، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة في زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبنوها مساكن، وتبايعوها من غير نكير فكان إجماعاً. فصل: قال أحمد: لا أعلم في بيع المصحف رخصة، ورخص في شرائه وقال: هو أهون، وذلك لأن ابن عمر وابن عباس وأبا موسى كرهوا بيعه، ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى، فيجب صيانته عن الابتذال، والشراء أسهل، لأنه استنقاذ له فلم يكره كشراء الأسير. وقال أبو الخطاب: يجوز بيعها مع الكراهة، وفي شرائها وإبدالها روايتان، فإن بيعت لكافر لم يصح رواية واحدة، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى على المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم» حديث صحيح متفق عليه فلم يجز تمليكهم إياه، وتمكينهم منه، ولأنه يمنع من استدامة ملكه، فمنع ابتداء، كنكاح المسلمة. فصل: ولا يجوز بيع الخمر والميتة، والخنزير والأصنام. لما روى جابر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «إن الله ورسوله حرم بيع الخمرة والميتة، والخنزير والأصنام» متفق عليه. ولا يجوز بيع ما لا نفع فيه، كالحشرات، وسباع البهائم، والطير التي لا يصاد بها، وما لا يؤكل من الطير، ولا بيضه، لأنه لا نفع فيها، فأشبهت الخنزير. ولا يجوز بيع الحر لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ذكر منهم رجلاً باع حراً، فأكل ثمنه» . رواه البخاري. ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك، كالمباحات قبل حيازتها، لأنها غير مملوكة أشبهت الحر. ولا يجوز بيع الدم، ولا السرجين النجس، لأنه مجمع على تحريمه، ونجاسته، أشبه الميتة. ولا يجوز بيع شحم الميتة، لأنه منها. وفي حديث جابر قيل: «يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه تدهن بها الجلود، وتطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 حرام» . متفق عليه وما نجس من الأدهان كالزيت، فظاهر المذهب تحريم بيعها قياساً على شحم الميتة، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» رواه أبو داود وعنه: يباع لكافر، ويعلم بحاله، لأنه يعتقد حله. وفي جواز الاستصباح بها روايتان: إحداهما: لا يجوز لأنه دهن نجس، أشبه شحم الميتة. والثانية: يجوز، لأنه أمكن الانتفاع بها من غير ضرر، أشبه الانتفاع بالجلد اليابس. قال أبو الخطاب: ويتخرج على جواز الاستصباح بها جواز بيعها. قال القاضي: ولا تطهر بالغسل، لأنه لا يتأتى فيها العصر، ويتخرج أنها تطهر بصبها في ماء كثير، ثم تُترك حتى تطفو فتؤخذ، والعصر: إنما يعتبر فيما يتأتى العصر فيه، بدليل الخشب والأحجار، اختاره أبو الخطاب، فأما غير الأدهان، كالخل، واللبن، فلا تطهر وجهاً واحداً. فصل: ولا يجوز بيع الكلب، وإن كان معلماً، لما روى أبو مسعود الأنصاري، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب» ، وقال «ثمن الكلب خبيث» متفق عليهما. ولا غرم على قاتله، لأنه لا قيمة له، وقد أساء من قتل كلباً يباح اقتناؤه، ولا يباح اقتناء كلب، إلا لصيد، أو حفظ ماشية، أو حرث، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية، أو صيد، أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراط» متفق عليه. ويجوز تربية الجرو الصغير لذلك، لأنه قصد به ما يباح، فيأخذ حكمه، كالجحش الصغير، ولأنه لو لم يقتن غير المعلم، لم يمكن تعليمه، وتعذر اقتناء المعلم وفيه وجه آخر، أنه لا يجوز اقتناؤه، لأنه ليس من الثلاثة، فإن اقتنى كلب الصيد، من لا يصيد به جاز للحديث. وفيه وجه آخر أنه لا يجوز، لأن اقتناءه لغير حاجة أشبه من اقتناه للماشية، ولا ماشية له. فصل: ولا يجوز بيع معدوم، لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 رواه مسلم. وبيع المعدوم بيع غرر، ولأن تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، تنبيه على تحريم بيعها قبل وجودها، فلا يجوز بيع الثمرة قبل خلقها، ولا بيع الماء العد الذي له مادة، كماء العيون والآبار، لأنه بيع لما يتجدد، وهو في الحال معدوم. فصل: ولا يجوز بيع ما لا يُقدر على تسليمه، كالطير في الهواء، والسمك في الماء، والعبد الآبق، والجمل الشارد، والفرس العائر، والمغصوب في يد الغاصب، لحديث أبي هريرة. وقال ابن مسعود: لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر. ولأن القصد بالبيع تمليك التصرف، ولا يمكن ذلك فيما لا يقدر على تسليمه، فإن باع طيراً له في برج مغلق الباب، أو سمكاً له في بركة معدة للصيد وكان معروفاً بالرؤية مقدوراً على تناوله بلا تعب جاز بيعه، لعدم الغرر فيه. وإن اختل بعض ذلك لم يجز. وإن باع الآبق لقادر عليه، أو المغصوب لغاصبه، أو لقادر على أخذه منه جاز لذلك وإلا فلا. فصل: ولا يجوز بيع ما تُجهل صفته، كالحمل في البطن، واللبن في الضرع والبيض في الدجاج، والنوى في التمر، لحديث أبي هريرة: وروى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المجر» والمجر: شراء ما في الأرحام. وعن أبي هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المضامين والملاقيح» قال أبو عبيدة: الملاقيح: ما في البطون، وهي الأجنة، والمضامين: ما في أصلاب الفحول. وما سواه يقاس عليه. وروي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يباع صوف على ظهر، أو لبن في ضرع» رواه ابن ماجة. وعنه: في بيع الصوف على الظهر روايتان: إحداهما: لا يجوز للخبر، ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع، كأعضائه. والثانية: يجوز بشرط جزه في الحال، لأنه معلوم ممكن تسليمه، فجاز بيعه كالزرع في الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 فصل: ولا يجوز بيع الأعيان من غير رؤية أو صفة يحصل بها معرفة المبيع في ظاهر المذهب، لحديث أبي هريرة، ولأنه مجهول عند العاقد، فلم يصح بيعه، كالنوى في التمر، فعلى هذا يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع، كداخل الثوب، وشعر الجارية. وعنه: يجوز لأنه عقد معاوضة، فأشبه النكاح، فعلى هذا هل يثبت له خيار الرؤية؟ فيه روايتان: إحداهما: لا خيار له لأنه عقد معاوضة صح من الغيبة، فأشبه النكاح. والثانية: يثبت له الخيار عند الرؤية في الفسخ والإمضاء، لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه» ويكون خياره على الفور، للحديث، وقيل: يتقيد بالمجلس، لأنه خيار ثابت بمقتضى العقد، فتقيد بالمجلس، كخيار المجلس، فإن اختار إمضاء العقد قبل الرؤية لم يلزم، لأنه تعلق بالرؤية، ولأنه يؤدي إلى إلزام العقد في مجهول الصفة. وإن اختار الفسخ انفسخ، لأن الفسخ يصح في مجهول الصفة، ويعتبر لصحة العقد الرؤية من المتعاقدين جميعاً، لأن الرضا معتبر منهما، فتعتبر الرؤية التي هي مظنة له منهما جميعاً. فصل: فإن رأيا المبيع، ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه صح في صحيح المذهب. وعنه: لا يصح، لأن ما كان شرطاً يعتبر وجوده حال العقد كالشاهدة في النكاح. ولنا أنه معلوم عندهما، أشبه ما لو شاهداه حال العقد، أو اشترى منه داراً كبيرة، وهو في طرفها، والشرط العلم، وهو مقارن للعقد، ثم إن وجد المبيع لم يتغير لزم، وإن وجده ناقصاً فله الخيار لأن ذلك كالعيب، وإن اختلفا في التغيير فالقول قول المشتري، لأن الثمن يلزمه، فلا يلزمه إلا ما اعترف به. وإن عقدا بعد الرؤية بزمن يفسد فيه ظاهراً، لم يصح لأنه غير معلوم. وإن احتمل الأمرين، ولم يظهر التغير فالعقد صحيح، لأنه الأصل سلامته. فصل: ويصح البيع بالصفة في صحيح المذهب إذا ذكر أوصاف السلم، لأنه لما عدمت المشاهدة للمبيع وجب استقصاء صفاته كالسلم، وإذا وجد على الصفة لزم العقد، وإن وجده على خلافها فله الفسخ، فإن اختلفا في التغير فالقول قول المشتري لما ذكرناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وعنه: لا يصح البيع بالصفة، لأنه لا يمكن استقصاؤها. والمذهب الأول، لأنه مبيع معلوم بالصفة، فصح بيعه كالمسلم فيه. وبيع الأعمى، وشراؤه بالصفة كبيع البصير بها، فإن عدمت الصفة، وأمكنه معرفة المبيع بذوق أو شم صح بيعه وإلا لم يصح، لأنه مجهول في حقه. فصل: ولا يجوز بيع عبد من عبيد ولا شاة من قطيع، ولا ثوب من أثواب ولا أحد هذين العبدين، لأنه غرر، فيدخل في الخبر، ولأنه يختلف فيفضي إلى التنازع ويجوز بيع قفيز من صبرة، ورطل زيت من دن أو ركوة، لأن أجزاءه لا تختلف، فلا يفضي إلى التنازع، فإن باع جريباً من ضيعة يعلمان جربانها صح، وكان المبيع مشاعاً منها، وإن كانت عشرة أجربة فالمبيع عشرها، وإن لم يعلما جربانها لم يصح، لأنه لا يعلم قدره منها، فيكون مجهولاً. فصل: وما لا تختلف أجزاؤه، كصبر الطعام، وزق الزيت، يكتفى برؤية بعضه، لأنها تزيل الجهالة، لتساوي أجزائه، ولأنه تتعذر رؤية جميعه فاكتفي ببعضه كأساسات الحيطان، وما تشق رؤيته، كالذي مأكوله في جوفه يكتفى برؤية ظاهره لذلك وكذلك أساسات الحيطان وطي الآبار وشبهها ويجوز بيع الباقلا والجوز واللوز في قشريه والحب في سنبله، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحب حتى يشتد» رواه أبو داود. فمفهومه جواز بيع المشتد، ولأنه مستور بما خلق فيه فجاز بيعه، كالذي مأكوله في جوفه، ولأن قشره الأعلى من مصلحته، لأنه يحفظ رطوبته، وادخار الحب في سنبله أبقى له، فجاز بيعه فيه، كالسلت والأرز، وما لا تشق رؤية جميعه ويشترط رؤية جميعه على ما أسلفناه. فصل: إذا قال: بعتك هذه الصبرة صح، وإن لم يعلم قدرها، لأن ابن عمر قال: «كنا نبتاع الطعام من الركبان جزافاً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. ولأن غرر ذلك مُنْتَفٍ بالمشاهدة فاكتفي بها. وإن باعه نصفها أو ثلثها أو جزءاً منها مشاعاً صح لأن من عرف شيئاً عرف جزأه. وإن قال: بعتكها كل قفيز بدرهم صح، لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، والثمن معلوم لإشارته إلى من يعلم مبلغه بجهة، لا تتعلق بالمتعاقدين، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 كيل الصبرة فجاز كما لو باعه مرابحة لكل عشرة درهم. ولو قال: بعتك بعض هذه الصبرة لم يصح، لأنه البعض مجهول. ولو قال: بعتك منها كل قفيز بدرهم لم يصح، لأنه باعه بعضها، ولو قال: بعتكها على أن أزيدك قفيزاً لم يصح، لأن الزائد مجهول، فإن قال: على أن أزيدك قفيزاً من هذه الأخرى صح لأن معناه بعتكها وقفيزاً من هذه، وإن قال على أن أزيدك من هذه أو أنقصك قفيزاً لم يصح، لأنه لا يدري أيزيده أم ينقصه، وإن قال: بعتكها كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزاً من هذه الأخرى، وهما يعلمان قدر قفزانها صح لأنهما إذا علماها عشرة، فمعناه: بعتك كل قفيز، وعشراً بدرهم، وإن لم يعلما قدرها لم يصح لجهالة الثمن، لأنه يصير قفيزاً وشيئاً لا يعلمان قدره بدرهم، لجهلهما بكمية قفزانها، وكذلك إن قال: على أن أنقصك قفيزاً. وإن جعلا للقفيز الزائد ثمناً مفرداً صح في الحالين. فصل: ويكتفى بالرؤية فيما لا تتساوى أجزاؤه، كالأرض والثوب، والقطيع من الغنم، لما ذكرنا في الصبرة، وفيه نحو من مسائلها. ولو قال: بعتك من الدار من هاهنا إلى هاهنا جاز، لأنه معلوم. وإن قال: عشرة أذرع ابتداؤها من هاهنا لم يصح، لأنه لا يدري إلى أين ينتهي. ولو قال: بعتك نصف داري مما يلي دارك لم تصح، نص عليه لذلك. وإن قال: بعتك من هذا الثوب من أوله إلى هاهنا صح، لأنه معلوم. وقال القاضي: إن كان ينقصه القطع لم يصح لعجزه عن التسليم إلا بضرر، والأول أصح، لأن التسليم ممكن، والضرر لا يمنع الصحة إذا التزمه، كما لو باعه نصفاً مشاعاً، أو نصف حيوان. فصل: ويشترط لصحة المبيع معرفة الثمن، لأنه أحد العوضين، فيشترط العلم به، كالمبيع ورأس مال السلم. وإن باعه بثمن مطلق في موضع فيه نقد معين انصرف إليه، وإن لم يكن فيه نقد معين لم يصح لجهالته. وإن باعه سلعة برقمها أو بما باع به فلان، وهما لا يعلمان ذلك، أو أحدهما، أو بما ينقطع به السعر لم يصح، لأنه مجهول. وإن قال: بعتك بألف درهم ذهباً وفضة لم يصح، لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما. وإن باعه بعشرة نقداً أو بخمس عشرة نسيئة، أو بعشرة صحاحاً، أو بعشرين مكسرة لم يصح، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين في بيعة» حديث صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وهو هذا. ولأنه لم يعقد على ثمن بعينه، أشبه إذا قال: بعتك أحد هذين العبدين. ويتخرج أنه يصح بناء على قوله في الإجارة، وقيل: معنى " بيعتين في بيعة " أن يقول: بعتك هذا بمائة على أن تبيعني دارك بألف، أو على أن تصرفها لي بذهب. وأياً ما كان فهو غير صحيح. وإن باع بثمن معين تعين، لأنه عوض، فتعين بالتعيين، كالمبيع فعلى هذا إن وجده مغصوباً بطل العقد، وإن وجده معيباً فرده انفسخ العقد لرد المعقود عليه، فأشبه رد المبيع. وعن أحمد: أن الثمن لا يتعين إلا بالقبض، فتنعكس هذه الأحكام. وإن باعه بثمن في الذمة لم يتعين، فإذا قبضه فوجده مغصوباً لم يبطل العقد، وإن رده لم ينفسخ، لأن الثمن في الذمة. فصل: ولا يجوز بيع الملامسة والمنابذة، لما روى أبو سعيد الخدري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين: الملامسة والمنابذة» . والمنابذة: أن يقول: إذا نبذت إلي هذا الثوب فقد وجب البيع. والملامسة: أن يمسه بيده ولا ينشره. متفق عليه. ولأنه إذا علق البيع على نبذ الثوب ولمسه، فقد علقه على شرط، وهو غير جائز. وإذا باعه قبل نشره فقد باعه مجهولاً، فيكون غرراً ولا يجوز بيع الحصاة، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحصاة» . رواه مسلم. وهو أن يقول: ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت، فهو لك بكذا. وقيل: هو أن يقول: بعتك من هذه الضيعة بقدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا. وكلاهما غير صحيح، لأنه غرر، ولا يجوز بيع حبل الحبلة، لما روى ابن عمر قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع حبل الحبلة» متفق عليه. قال أبو عبيدة: هو بيع ما يلد حمل الناقة. وقيل: هو بيع السلعة بثمن إلى أن يلد حمل الناقة، وكلاهما لا يجوز، لأنه على التفسير الأول: بيع معدوم مجهول، وعلى الثاني: بيع بثمن إلى أجل مجهول. ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء المطر، وقدوم زيد، وطلوع الشمس، لأنه غرر، ولأنه عقد معاوضة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل، كالنكاح. فصل: ولا يجوز بيع العنب والعصير لمن يتخذه خمراً، ولا السلاح لأهل الحرب، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 لمن يقاتل به في الفتنة، ولا الأقداح لمن يشرب فيها الخمر، لأنه معونة على المعصية فلم يجز، كإجارة داره لبيع الخمر. ولا يجوز بيع العبد المسلم لكافر، لأنه يمنع من استدامة ملكه عليه فلم يصح عقده عليه، كالنكاح فإن أسلم في يده، أو يد موروثه، ثم انتقل إليه بالإرث أجبر على إزالة ملكه عنه، لأن في تركه في ملكه صغاراً، فإن باعه، أو وهبه لمسلم أو أعتقه جاز. وإن كاتبه ففيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأنه يصير كالخارج عن ملكه في التصرفات. والثاني: لا يجوز، لأنه لا يزيل الملك فلم يقبل، كالتزويج. وإن ابتاع الكافر مسلماً، يعتق عليه بالشراء، ففيه روايتان: إحداهما: لا يصح، لأنه عقد يملك به المسلم. والثانية: يجوز لأن ملكه يزول حال ثبوته، فلا يحصل به صغار، وإن حصل فقد حصل له من الكمال بالحرية، فوق ما لحقه برق لحظة. وإن قال الكافر لمسلم: أعتق عبدك عني وعلي ثمنه ففيه وجهان، بناء على ما ذكرناه، لأنه بقدر بيعه للكافر، وتوكيل البائع في عتقه. فصل: ولا يجوز أن يفرق في البيع بين ذوي رحم محرم قبل البلوغ، لما روى أبو أيوب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» حديث حسن. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «وهب لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما فعل غلامك؟ فأخبرته، فقال: رده رده» رواه الترمذي. وقال حديث حسن. فإن فرق بينهما فالبيع باطل، رضيت الأم ذلك أم كرهته، نص عليه، لأنه فيه إسقاطاً لحق الولد. وهل يجوز التفريق بينهما بعد البلوغ؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يجوز لعموم الخبر. والثانية: يجوز لأن «سلمة بن الأكوع أتى أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بامرأة وابنتها في غزوة فنفله أبو بكر ابنتها، ثم استوهبها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سلمة فوهبها له» . رواه مسلم. وهذا تفريق. ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهديت له أختان مارية وسيرين، فأمسك مارية ووهب أختها لحسان بن ثابت» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 فصل: ولا يجوز أن يبيع عيناً لا يملكها ليمضي ويشتريها ويسلمها، لما روى حكيم بن حزام أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الرجل يأتيني يلتمس من البيع ما ليس عندي، فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تبع ما ليس عندك» حديث صحيح. ولأنه بيع ما لا يقدر على تسليمه أشبه بيع الطير في الهواء فإن باع مال غيره بغير إذنه، ففيه روايتان: إحداهما: لا يصح لذلك. والثانية: يصح، ويقف على إجازة المالك، فإن أجازه جاز، وإن أبطله بطل، لما «روى عروة بن الجعد البارقي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه ديناراً ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، ثم باع إحداهما بدينار في الطريق، قال: فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدينار وبالشاة فأخبرته، فقال: بارك الله لك في صفقة يمينك» رواه الإمام أحمد والأثرم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ولأنه عقد له مجيز حال وقوعه فوقف على إجازته كالوصية. وإن اشترى بعين مال غيره شيئاً بغير إذنه فهو كبيعه، فإن اشترى له شيئاً بغير إذنه بثمن في ذمته، ثم نقد ثمنه من مال الغير صح الشراء لأنه تصرف في ذمته لا في مال غيره، ويقف على إجازة المشتري له، لأنه قصد الشراء له، فإن أجازه لزمه وإن لم يجزه لزم من اشتراه، لأنه لا يلزمه ما لم يأذن فيه، والبيع صحيح فيلزم المشتري، فإن باع مال غيره، وهو حاضر، فلم ينكر ذلك فهو كبيعه في غيبته، فإن السكوت ليس بإذن، فإنه محتمل كغير الإذن، فلا يتعين كونه إذناً والله أعلم. [ باب بيع النجش والتلقي وبيع الحاضر لباد وبيعه على بيع غيره والعينة ] وهي بيوع محرمه، لما روى أبو هريرة أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد» متفق عليه. ومعنى النجش: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغتر به المشتري، ويقتدي به فهو حرام، لأنه خداع، والشراء صحيح. وعنه: أنه باطل، لأن النهي يقتضي الفساد، والأولى أصح لأن النهي عاد إلى غير العقد، فلم يؤثر فيه، وللمشتري الخيار إن غبن غبناً يخرج عن العادة، سواء كان بمواطأة من البائع، أو لم يكن، لأنه غبن للتغرير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 بالعاقد، فأثبت الخيار، كتلقي الركبان، ولو قال البائع: أعطيت بهذه السلعة كذا كاذباً، فاشتراها المشتري لذلك فالبيع صحيح، وله الخيار لما ذكرناه. فصل: وتلقي الركبان: أن يخرج الرجل من المصر يتلقى الجلب قبل دخوله، فيشتريه، فيحرم للخبر، ولأنه يخدعهم ويغبنهم، فأشبه النجش، والشراء صحيح. وعنه: أنه باطل للنهي، والمذهب الأول، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى السوق فهو بالخيار» رواه مسلم. والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح، ولأن النهي لضرب من الخديعة، أمكن استدراكها بالخيار، فأشبه بيع المصراة وللبائع الخيار إن غبن غبناً يخرج عن العادة، فإن لم يغبن فلا خيار له. ويحتمل أن له الخيار للخبر، والأول المذهب، لأنه إنما يثبت لدفع الضرر عن البائع، ولا ضرر مع عدم الغبن، والحديث يحمل على هذا، وجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له الخيار إذا هبط السوق يفهم منه الإشارة إلى معرفته بالغبن، فإن خرج لحاجة غير قصد التلقي، فقال القاضي: لا يجوز له الشراء لوجود معنى النهي، ويحتمل الجواز، لعدم دخوله في الخبر. والبيع للركبان كالشراء منهم، لأن النهي عن تلقيهم لدفع الغبن، والشراء والبيع فيه واحد. فصل: وبيع الحاضر للبادي: هو أن يخرج الحاضر إلى جلاب السلع، فيقول أنا أبيع لك، فهو حرام للخبر، ولأن فيه تضييقاً على المسلمين، إذ لو ترك الجالب يبيع متاعه باعه برخص، فإذا تولاه الحاضر لم يبعه برخص، وقد أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك بقوله: «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» . وعنه: لا بأس به، وحمل الخبر على أنه اختص بأول الإسلام، لما كان عليهم من الضيق، والمذهب الأول للخبر والمعنى. قال أصحابنا: إنما يحرم بشروط خمسة: أحدها أن يكون الحاضر قد قصد البادي، ليتولى ذلك، والثاني: أن يكون البادي جاهلاً بالسعر، لأنه إذا كان عالماً به، فهو كالحاضر. والثالث: أن يكون جلب السلعة لبيعها، فإن جلبها ليدخرها، فلا ضرر على الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 في بيع الحاضر له، ذكر الخرقي هذه الثلاثة. وذكر القاضي شرطين آخرين: أن يقصد بيعها بسعر يومها، ويتضرر الناس بتأخير بيعه، فإذا اجتمعت هذه الشروط، فالبيع باطل للنهي عنه. وعنه: أنه صحيح، لأن النهي عنه لمعنى في غيره، فأما شراء الحاضر للبادي فصحيح، لأنه لا ضيق على الناس فيه، وإذا شرع ما يدفع به الضرر عن أهل المصر لا يلزم شرع ما يتضرر به أهل البدو، فإن الخلق في نظر الشارع على السواء. فصل: وأما البيع على بيع أخيه، فهو أن يقول لمن اشترى شيئاً في مدة الخيار: أنا أبيعك مثله بدون هذا الثمن، أو أجود منه بهذا الثمن، فيفسخ العقد، ويشتري سلعته، فيحرم للخبر، ولأن فيه إفساداً أو إنجاشاً. وإن فسخ البيع، واشترى سلعته فالشراء باطل للنهي عنه، وشراؤه على شراء أخيه، كبيعه على بيعه ويحتمل أن البيع صحيح، لأن النهي لمعنى في غير العقد. فصل: فأما سومه على سوم أخيه فننظر فيه، فإن كان البائع أنعم للمشتري البيع بثمن معلوم، حرم على غيره سومه، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يسم الرجل على سوم أخيه» رواه مسلم. وإن لم ينعم له جاز سومها، لما روى أنس «أن رجلاً شكا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشدة والجهد، فقال له: ما بقي لك شيء، قال: بلى قدح وحلس، فأتاه بهما فقال: من يبتاعهما؟ فقال رجل: أنا أبتاعهما بدرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. ولأن «فاطمة بنت قيس ذكرت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن معاوية وأبا جهم خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة» . متفق عليه. فإن ظهرت منه أمارة الرضى منى غير تصريح به، فقال القاضي: لا تحرم المساومة لخبر فاطمة، ويحتمل أن تحرم لعموم النهي، وليس في خبر فاطمة أمارة على الرضى. فصل: فأما بيع العينة فهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن حالاً، فلا يجوز لما روى سعيد، عن غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل قالت: دخلت على عائشة أنا وأم ولد زيد بن أرقم، فقالت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 أم ولد زيد: إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئس ما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن يتوب. ولا تقول مثل هذا إلا توقيفاً سمعته من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، لأنه أدخل السلعة، ليستبيح بيع ألف بخمسمائة والذرائع معتبرة. فإن اشتراها بسلعة، جاز لأنه لا ربا بين الأثمان والعروض إن اشتراها بنقد غير الذي باعها به، فقال أصحابنا: يجوز لأن التفاضل بينهما جائز، ويحتمل التحريم، لأن النساء بينهما محرم، وإن اشتراها من غير المشتري أو اشتراها أبو البائع أو ابنه جاز. وإن نقصت السلعة لتغير صفتها جاز لبائعها شراؤها بأقل من الثمن، لأن نقص الثمن لنقصان السلعة. وإن نقصت لتغير السوق، أو زادت لم يجز شراؤها بأقل لما ذكرناه. فصل: فإن باعها بثمن حال نقده، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة لم يجز نص عليه، لأنها في معنى التي قبلها سواء. فصل: وإن باع طعاماً إلى أجل بثمن، فلما حل الأجل أخذ منه بالثمن طعاماً لم يجز، لأنه ذريعة إلى بيع طعام بطعام نسيئة، فهو في معنى ما تقدم. وكل شيئين حرم النساء فيهما لم يجز أخذ أحدهما عن الآخر قبل قبض ثمنه، وقياس قول أصحابنا في مسألة العينة، أنه يجوز هاهنا أخذ ما يجوز التفاضل بينه وبين الطعام المبيع. فصل: ومن اشترى مكيلاً أو موزوناً لم يجز له بيعه حتى يقبضه في ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والخرقي، وما عداهما يجوز بيعه قبل القبض، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه» . وقال ابن عمر: «رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم» . متفق عليهما. وهذا لا يخلو من كونه مكيلاً أو موزوناً، والحديث يدل بصريحه على منع بيعه قبل قبضه، وبمفهومه على حل بيع ما عداه. وعن أحمد: أن المنع من البيع قبل القبض يخص المطعوم، لاختصاص الحديث به، وما ليس بمطعوم من المكيلات والموزونات يجوز بيعه قبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 القبض. وعنه: أن المنع يختص ما ليس بمتعين، كقفيز من صبرة، ورطل زيت من دن. وما بيع صبرة، أو جزافاً جاز بيعه قبل قبضه، وهو قول القاضي وأصحابه، لأنه يتعلق به حق توفية بخلاف غيره. وعنه: أن كل مبيع لا يجوز بيعه قبل قبضه. لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار» رواه أبو داود. وقال ابن عباس: أحسب كل شيء بمنزلة الطعام. ولأنه لم يتم ملكه عليه أشبه المكيل، والمذهب الأول. وما بيع بصفة أو برؤية متقدمة فهو كالمكيل، لأنه لا يتعلق به حق توفية، فأشبه المكيل والموزون، وما حرم بيعه قبل قبضه لم يجز بيعه لبائعه، لعموم النهي، ولا الشركة فيه، لأنه بيع لبعضه، ولا التولية، لأنه بيع بمثل الثمن الأول. فأما الثمن في الذمة، فيجوز بيعه لمن هو في ذمته لما روى ابن عمر قال: «كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير، ونبيع بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم، فسألنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما شيء» رواه أبو داود، ولا يجوز بيعه لغير من هو في ذمته، لأنه معجوز عن تسليمه، فأشبه بيع المغصوب لغير غاصبه، وما كان من الدين مستقرا كالقرض فهو كالثمن، وما كان غير مستقراً كالمسلم فيه لم يجز بيعه بحال، لا لصاحبه ولا لغيره، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» رواه أبو داود. فصل: وكل عقد ينفسخ بتلف عوضه قبل قبضه كالإجارة، والصلح حكمه حكم البيع فيما ذكرناه، وما لا ينفسخ كالخلع، والعتق على مال والصلح عن دم العمد جاز التصرف في عوضه قبل قبضه، طعاماً كان أو غيره، وكذلك أرش الجناية، وقيمة المتلف، والمملوك بإرث أو وصية أو غنيمة إذا تعين ملكه فيه، لأنه لا يتوهم غرر الفسخ بهلاك المعقود عليه جاز بيعه كالوديعة، والصداق كذلك. قاله القاضي لأنه لا ينفسخ العقد بتلفه، فهو كعوض الخلع. وقال الشريف وأبو الخطاب: هو كالمبيع، لأنه يخشى رجوعه بانفساخ النكاح بالردة فأشبه المبيع. فصل: وقبض كل شيء بحسبه، المكيل المبيع مكايلة قبضه كيله، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله» رواه مسلم. وإن بيع جزافاً فقبضه نقله لما روى ابن عمر قال: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» . رواه مسلم. وقبض الذهب والفضة والجوهر باليد، وسائر ما ينقل قبضه نقله. وقبض الحيوان أخذه بزمامه، أو تمشيته من مكانه، وما لا ينقل قبضه التخلية بين مشتريه وبينه، لا حائل دونه، لأن القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، كالإحياء والإحراز، والعادة ما ذكرناه، وعنه: أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية. مع التميز، لأنه قبض فيما لا ينقل فكان قبضاً في غيره. فصل: وما يعتبر له القبض إذا تلف قبل قبضه إذا انفسخ العقد، وهو من مال البائع، لأنه تلف قبل تمام ملك المشتري عليه، فأشبه ما تلف قبل تمام البيع. وإن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن، لأنه تلف بتصرفه، فاستقر الثمن عليه كما لو قبضه. وإن أتلفه أجنبي لم ينفسخ العقد، لأن له بدلاً يرجع إليه، فلم ينفسخ العقد، كما لو تعيب. ويخير المشتري بين الفسخ والرجوع على البائع بالثمن، لأنه تلف بغير فعل المشتري، أشبه ما لو تلف بفعل الله تعالى، وبين إتمام العقد والرجوع ببدله، لأن الملك له، وإن أتلفه البائع احتمل أن يبطل العقد، لأنه يضمنه إذا تلف في يده بالثمن، فكذلك إذا أتلفه. وقال أصحابنا: الحكم فيه حكم ما لو أتلفه أجنبي، وإن تعيب قبل قبضه، فهو كما لو تعيب قبل بيعه، لأنه من ضمان البائع. فصل: وإذا باع شاة بشعير، فأكلته قبل قبضه ولم تكن يد بائعها عليها انفسخ البيع، لأن الثمن هلك قبل القبض بغير فعل آدمي، فإن كانت يده عليها، فهو كإتلافه له، وإن باعها مشتريها ثم هلك الشعير قبل قبضه انفسخ العقد الأول، ولم يبطل الثاني، لأن ذلك كان قبل فسخ العقد، وعلى بائعها الثاني قيمتها، لأنه تعذر عليه ردها، وهكذا إن كان بدله شقصاً فأخذه الشفيع انفسخ البيع الأول، وعلى المشتري رد قيمة الشقص، ويأخذ من الشفيع قيمة الطعام، لأنه الذي اشترى به الشقص. فصل: وما لا يحتاج إلى قبض إذا تلف، فهو من مال المشتري. لما روى حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه. قال: «مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً، فهو من مال المشتري» . ذكره البخاري. وهذا ينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن يمنعه البائع قبضه فيضمنه، لأنه تلف تحت يد عادية، أشبه ما لو تلف تحت يد الغاصب، وسواء حبسه على قبض الثمن أو غيره إلا أن يكون قد اشترط عليه الرهن في البيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 [ باب تفريق الصفقة ] إذا باع ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه صفقة واحدة، كعبد وحر، وخل وخمر، وعبده وعبد غيره، أو دار له ولغيره ففيه روايتان: إحداهما: تفرق الصفقة، فتجوز فيما يجوز بيعه بقسطه من الثمن، ويبطل فيما لا يجوز، لأن كل واحد منهما، له حكم منفرد، فإذا اجتمعا بقيا على حكمهما، كما لو باع شقصاً وسيفاً. والثانية: يبطل فيهما، لأنه عقد واحد جمع حلالاً وحراماً فبطل، كالجمع بين الأختين، ويحتمل أن يصح فيما يجوز فيما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء، كدار له ولغيره ونحوها، والقفيزين المتساويين، لأن الثمن فيما يجوز بيعه معلوم، ويبطل العقد فيما عدا هذا كالعبدين، لأن ثمن ما يجوز بيعه مجهول، لكون الثمن ينقسم عليهما بالقيمة، وقسط الحلال منهما مجهول لو صرح به، فقال: بعتك هذا العبد بقسطه من الثمن لم يصح، فكذا هاهنا. فإن قلنا يصح، وعلم المشتري الحال فلا خيار له، لأنه دخل على بصيرة ولا خيار للبائع بحال، وإن لم يعلم المشتري الحال فله الخيار، لأن عليه ضرراً في تفريق الصفقة، وإن اشترى معلوماً ومجهولاً بطل العقد فيهما، لأن ما يخص المعلوم من الثمن مجهول. ولو باع قفيزين من الحلال بثمن واحد، فتلف أحدهما قبل قبضه لم ينفسخ العقد في الباقي منهما، سواء كانا من جنس واحد أو جنسين، لأن حدوث الجهل بثمن الباقي منهما لا يوجب جهالة المبيع حال العقد. قال القاضي: ويثبت للمشتري خيار الفسخ، لتفريق الصفقة عليه فأشبه ما قبلها. فصل فإن جمع بين عقدين مختلفي الحكم، كبيع وإجارة، أو صرف بعوض واحد صح فيهما، لأن اختلاف حكم العقدين لا يمنع الصحة، كما لو جمع بين ما فيه شفعة، وما لا شفعة فيه، وفيه وجه آخر لا يصح، لأن حكمهما مختلف، وليس أحدهما أولى من الآخر فبطل فيهما، فإن البيع فيه خيار. ولا يشترط التقابض فيه في المجلس، ولا ينفسخ العقد بتلف المبيع والصرف، ويشترط له التقابض، وينفسخ العقد بتلف العين في الإجارة، وإن جمع بين نكاح وبيع بعوض واحد، فقال: زوجتك ابنتي، وبعتك داري بمائة صح في النكاح، لأنه لا يفسد بفساد العوض، وفي البيع وجهان. وإن جمع بين بيع وكتابة، فقال لعبده: بعتك عبدي هذا، وكاتبتك بمائة بطل البيع وجهاً واحداً، لأنه باع عبده لعبده فلم يصح، كبيعه إياه من غير كتابة، وهل تبطل الكتابة؟ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 فصل ولو باع رجلان عبداً لهما بثمن واحد صح لأن حصة كل واحد منهما من الثمن معلومة. ولو كان لكل واحد منهما قفيز، وكانا من جنس واحد فباعاهما صفقة واحدة صح لذلك. وإن كان المبيع مما لا ينقسم الثمن عليه، مثل إن كان لكل واحد منهما عبد فباعاهما صفقة واحدة، أو وكلا رجلاً فباعهما أو وكل أحدهما الآخر فباعهما بثمن واحد لم يصح، لأن كل واحد منهما مبيع بحصته من الثمن فلم يصح، كما لو صرح به، ويحتمل أن يصح بناء على تفريق الصفقة، أو كما لو كاتب عبدين كتابة واحدة بعوض واحد. [ باب الثنيا في البيع ] باب الثنيا إذا باع حائطاً واستثنى شجرة بعينها، أو قطيعاً واستثنى شاةً بعينها صح لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن الثنيا، إلا أن تعلم» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وهذه معلومة، وإن استثنى شجرة أو شاة يختارها لم يصح للخبر. وإن استثنى آصعاً معلومة أو باع نخلة، واستثنى أرطالاً معلومة، فعنه: أنه يصح للخبر. والمذهب أنه لا يصح، لأن المبيع إنما علم بالمشاهدة، والاستثناء يغير حكم المشاهدة، فإنه لا يدري كم يبقى في حكم المشاهدة، ولو باعه الصبرة إلا قفيزاً لم يصح لذلك. وإن باعه قفيزاً من هذه الصبرة إلا مكوكاً صح، لأن القفيز معلوم، والمكوك منه معلوم. وإن باعه داراً إلا ذراعاً، وهما يعلمان ذرعانها جاز، وكان مشاعاً منها، وإلا لم يجز، كما لو باعه ذراعاً منها، وإن باعه سمسماً إلا كسبه، أو قطناً إلا حبه، أو شاة إلا شحمها، أو فخذها لم يصح، لأنه مجهول فيدخل في الخبر. وإن استثنى حملها، فعنه أن يصح، لأن ابن عمر أعتق جارية، واستثنى ما في بطنها. وعنه: لا يصح، وهو أصح للخبر. فإن باع جارية حاملاً بحر، وقلنا: يصح استثناء الحمل صح هاهنا، وإن قلنا: لا يصح ثم، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح، لأنه استثناه في الحقيقة. والثاني: يصح، لأنه قد يقع مستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه بالشرط، بدليل بيع الأمة المزوجة. وإن باع حيواناً مأكولاً واستثنى رأسه وجلده وسواقطه صح. نص عليه، لأنها ثنيا معلومة وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين هاجر إلى المدينة مر براع فذهب أبو بكر وعامر بن فهيرة، فاشتريا منه شاة، وشرطا له سلبها» . فإن امتنع المشتري من ذبحها لم يجبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وعليه قيمة ذلك لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قضى في رجل اشترى ناقة، وشرط ثنياها فقال: اذهبوا معه إلى السوق، فإن بلغت أقصى ثمنها، فأعطوه حساب ثنياها من ثمنها. وعن الشعبي قال: قضى زيد بن ثابت، وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بقرة باعها رجل، واشترط رأسها بالشروى. يعني أن يعطيه رأساً مثل رأس. فصل: ومن باع شيئاً، واستثنى منفعته مدة معلومة، كجمل اشترط ركوبه إلى موضع معين، وداراً استثنى سكناها شهراً، وعبداً استثنى خدمته سنة صح لما روى جابر: أنه «باع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جملاً واشترط ظهره إلى المدينة» . متفق عليه. ولأنها ثنيا معلومة، فتدخل في خبر أبي هريرة، فإن عرض المشتري على البائع عوضها لم يلزمه قبوله، لأن حقه تعلق بعينها، فأشبه ما لو استأجرها، وإن أراد البائع إجارتها تلك المدة، فقال ابن عقيل: يصح في قياس المذهب، لأنه استحق نفعها فملك إجارتها كالمستأجر. وإن أتلف المشتري العين، فعليه قيمة المنفعة، لتفويته حق غيره. وإن تلف بغير تفريط، فكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي ذلك بعمومه، ويحتمل أن لا يضمن، لأن البائع لم يملك المنفعة من جهة المشتري، فلم يلزمه عوضها له، كما لو تلفت النخلة المبيعة مؤبرة بثمرتها والحائط الذي استثني منه شجرة، ويحمل كلام أحمد على من فرط. وإن باع المشتري العين صح وتكون المنفعة مستثناة في يد المشتري، فإن لم يعلم به فله الخيار، لأنه عيب، فهو كالتزويج في الأمة، ومن باع أمة واستثنى وطأها لم يصح، لأنه لا يحل إلا في تزويج، أو في ملك يمين، ومن استثنى مدة غير معلومة لم يصح للخبر. [ باب الشروط في البيع ] وهي على أربعة أضرب: أحدها: ما هو من مقتضى البيع، كالتسليم والرد بالعيب فهذا لا أثر له، لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد. الثاني: ما هو من مصلحته، كالخيار والأجل والرهن والضمين، فهذا شرط صحيح لازم، ورد الشرع به نذكره في مواضعه. الثالث: شرط ينافي مقتضى العقد وهو نوعان: أحدهما: ما لم يبن على التغليب والسراية، كشرط أن لا يملك، ولا يتصرف، ولا يسلم أو لا يعتق، أو إن أعتق فالولاء له أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 خسر فيه، فعلى البائع فهذا شرط باطل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة لما أرادت شراء بريرة، فاشترط أهلها ولاءها: «اشتريها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق ثم قال: من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط» متفق عليه. وهل يفسد البيع به؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يفسد، لحديث بريرة. والثانية: يفسد، لأنه إذا فسد الشرط وجب رد ما في مقابلته من الثمن، وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولاً. النوع الثاني: أن يشتريه بشرط أن يعتقه ففيه روايتان: إحداهما: الشرط فاسد، لأنه ينافي مقتضى البيع، فأشبه ما قبله. والثانية: يصح لأن عائشة اشترت بريرة لتعتقها، فأجازه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعلى هذا إن امتنع المشتري من العتق أجبر عليه في أحد الوجهين، لأنه عتق مستحق عليه، فأجبر عليه كما لو نذر عتقه. والثاني: لا يجبر عليه لأن الشرط لا يوجب فعل المشروط، كما لو شرط رهناً أو ضميناً لم يجبر، ولكن يثبت للبائع خيار الفسخ كمشترط الرهن، فإن مات العبد رجع البائع على المشتري بما نقصه شرط العتق، وإن كان المبيع أمة فأحبلها أعتقها وأجزأه لأن الرق باق فيها. الرابع: ما لا ينافي مقتضى العقد، ولا هو من مصلحته، وهو نوعان: أحدهما: أن يشرط عقداً آخر، مثل أن يبيعه بشرط أن يبيعه عيناً أخرى أو يؤجره أو يسلفه، أو يشتري منه، أو يستسلف، فهذا شرط فاسد يفسد العقد به، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ونهى عن بيعتين في بيعة وهذا منه. الثاني: أن يشترط المشتري منفعة البائع في المبيع، فيصح إذا كانت معلومة، مثل أن يشتري ثوباً، ويشترط على بائعه خياطه قميصاً، أو فلعة ويشترط حذوها نعلاً، أو حطباً ويشترط حمله، لأن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي جرزة حطب وشرط عليه حملها، واشتهر ذلك فلم ينكر، ولأنه بيع، وإجارة فصح، كما لو باعه عبده وأجره داره في عقد واحد. وقال الخرقي: إن شرط مشتري الرطبة جزها على بائعها بطل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 العقد، فيحتمل أن يخص قوله بهذه الصورة وشبهها لإفضائه إلى التنازع، فإن البائع يريد قطعها من أعلاها، لتبقى له منها بقية، والمشتري يريد، الاستقصاء عليها، ويحتمل أن يعدى حكمها إلى كل عقد شرط فيه منفعة البائع، لأنه شرط عقداً في عقد، فأشبه ما قبله. وقال القاضي: لم أجد بما قال الخرقي رواية في المذهب، والمذهب جوازه. فإن شرط شرطين، مثل أن اشترط خياطة الثوب وقصارته، وفي الحطب حمله وتكسيره، أو اشترط منفعة البائع، واشترط البائع منفعة المبيع مدة معلومة فسد العقد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا شرطان في بيع» وإن شرط منفعة معلومة لم يصح لإفضائه إلى التنازع. فصل: فإن شرط في البيع أنه إن باعه فهو أحق به بالثمن، ففيه روايتان: إحداهما: لا يصح، لأنه شرطان في بيع، لأنه شرط أن يبعه إياه، وأن يعطيه إياه بالثمن ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد، لأنه شرط أن لا يبيعه لغيره. والثانية: يصح، لأنه يروى عن ابن مسعود أنه اشترى أمة بهذا الشرط. وإن قلنا بفساده فهل يفسد [به] البيع؟ فيه روايتان. فصل: وكل موضع فسد العقد لم يحصل به ملك وإن قبض، لأنه مقبوض بعقد فاسد، فأشبه ما لو كان الثمن ميتة، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه، وعليه رده بنمائه المنفصل والمتصل، وأجرة مثله مدة مقامه في يديه، ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن به المغصوب، لأنه ملك غيره حصل في يده بغير إذن الشرع، أشبه المغصوب، ولا حد عليه إن وطئ للشبهة، وعليه مهر مثلها، وأرش بكارتها إن كانت بكراً، والولد حر، لأنه من وطء شبهة، ويلحق نسبة به لذلك، ولا تصير به الجارية أم ولد، لأنها ولدت في غير ملك. وإن حكمنا بفساد الشرط وحده، فقال القاضي: يرجع المشتري بما نقص، لأنه إنما سمح به، لأجل الشرط، فإذا لم يحصل رجع بما سمح به. فصل: ولا يحل البيع بعد النداء للجمعة قبل الصلاة لمن تجب عليه الجمعة، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فإن باع لم يصح للنهي ويجوز ذلك لمن لا تجب عليه الجمعة، لأن الخطاب بالسعي لم يتناوله، فكذلك النهي والنداء الذي تعلق به السعي والنهي هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 الثاني الذي يكون عند صعود الإمام المنبر، لأنه الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتعلق الحكم به، وإنما زاد الأول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وفي النكاح والإجارة وجهان: أحدهما: حكمهما حكم البيع، لأنهما عقدا معاوضة. والثاني: يصحان، لأنهما غير منصوص عليهما وليسا في معنى المنصوص عليه، لأنهما لا يكثران، فلا تؤدي إباحتهما إلى ترك الجمعة بخلاف البيع. فصل: ولا يحل التسعير، لما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله قد غلا السعر فسعر لنا، فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق إني لأرجو أن ألقى الله، وليس أحد يطلبني بمظلمة» قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ولأنه ظلم للبائع بإجباره على البيع سلعته سلعته بغير حق، أو منعه من بيعها بما يتفق عليه المتعاقدان، وهو من أسباب الغلاء، لأنه يقطع الجلب، ويمنع الناس من البيع فيرتفع السعر. فصل: والاحتكار محرم، لما روى سعيد بن المسيب، عن معمر بن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من احتكر فهو خاطئ» رواه مسلم وأبو داود. والاحتكار المحرم: ما جمع أربعة أوصاف، أن يشتري قوتاً يضيق به على الناس في بلد فيه ضيق، فأما الجالب فليس بمحتكر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» ولأنه لا ضرر على الناس على جلبه. ومن استغل من أرضه شيئاً فهو كالجالب. ولا يمنع من احتكار الزيت، وما ليس بقوت، لأن سعيد بن المسيب راوي الحديث كان يحتكر الزيت ومن اشترى في حال الرخص على وجه لا يضيق على أحد، فليس بمحتكر، لأنه لا ضرر فيه، بل ربما كان نفعاً. فصل: وبيع التلجئة: وهو أن يخاف الرجل ظالماً يأخذ ماله، فيواطئ رجلاً يظهر بيعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 إياه ليحتمي بذلك، ولا يردان بيعاً حقيقياً فلا يصح لأنهما ما قصداه فهو كبيع المكره. [ باب الخيار في البيع ] وهو على ضربين: أحدهما: خيار المجلس، فلكل واحد من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما لم يتفرقا بأبدانهما، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البيعان في الخيار ما لم يتفرقا» متفق عليه. والتفرق: أن يمشي أحدهما عن صاحبه بحيث إذا كلمه الكلام المعتاد في المجلس لا يسمعه، لأن ابن عمر كان إذا بايع رجلاً، فأراد أن لا يقيله مشى هنيهة، ثم رجع وهو راوي الحديث، وأعلم بمعناه، ولأن الشرع ورد بالتفرق مطلقاً فوجب أن يحتمل على التفرق المعهود، وهو يحصل بما ذكرناه. فإن لم يتفرقا بل بني بينهما حاجز، أو أرخي بينهما ستر أو نحوه أو ناما أو قاما عن مجلسهما فمشيا معاً، فهما على خيارهما، لأنهما لم يتفرقا. وإن فر أحدهما من صاحبه بطل خيارهما، لأن ابن عمر كان يفارق صاحبه بغير أمره، ولأن الرضى في الفرقة غير معتبر، كما لا يعتبر الرضى في الفسخ، وإن أكرها على التفريق ففيه وجهان: أحدهما: يبطل الخيار، لأنه لا يعتبر الرضى من أحد الجانبين، فكذلك منهما. والثاني: لا يبطل لأنه معنى يلزم به البيع فلا يلزم به مع الإكراه كالتخاير، فعلى هذا يكون الخيار لهما في المجلس الذي زال عنهما الإكراه فيه حتى يفارقاه، فإن أكره أحدهما بطل خيار الآخر، كما لو هرب منه، وللمكره الخيار في أحد الوجهين. فصل: فإن تبايعا على أن لا خيار بينهما، أو قالا: بعد البيع اخترنا إمضاء العقد، أو أجزنا العقد، ففيه روايتان: إحداهما: هما على خيارهما، لعموم الخبر. والثانية: لا خيار لهما، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يخير أحدهما صاحبه، فإن خير أحدهما صاحبه، فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وفي لفظ: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع كان على خيار، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع» متفق عليهما وفي لفظ «أو يقول أحدهما لصاحبه اختر» . رواه البخاري. وهذه زيادة يجب قبولها، فإن قال أحدهما لصاحبه: اختر فسكت، فخيار الساكت بحاله، لأنه لم يوجد منه ما يبطله، وفي خيار القائل وجهان: أحدهما: يبطل للخبر، ولأنه جعل الخيار لغيره، فلم يبقى له شيء. والثاني: لا يبطل كما لو قال لزوجته: اختاري فسكتت لم يبطل خياره في الطلاق. فصل: ويثبت خيار المجلس في كل بيع للخبر، ولأنه شرع للنظر في الحظ، وهذا يوجد في كل بيع. وعنه: لا يثبت في الصرف والسلم، وما يشرط فيه القبض في المجلس، لأنه لا يثبت فيه خيار الشرط. فصل: الضرب الثاني: خيار الشرط، نحو أن يشترط الخيار في البيع مدة معلومة، فيجوز بالإجماع، ويثبت فيما يتفقان عليه من المدة المعلومة، وإن زادت على ثلاث، لأنه حق يعتمد الشرط، فجاز ذلك فيه كالأجل، ويجوز شرطه لأحدهما دون صاحبه، ولأحدهما أكثر من صاحبه، لأنه ثبت بشرطهما فكان على حسبه. ولو اشترى شيئين صفقة واحدة، وشرط الخيار في أحدهما بعينه صح وإن شرطه في غير معين منهما، أو لأحد المتبايعين غير معين لم يصح لأنه مجهول، فأشبه بيع أحد العبدين. وإن شرط الخيار الأجنبي صح، وكان مشترطاً لنفسه موكلاً لغيره فيه، لأنه أمكن تصحيحه على هذا الوجه فتعين. ولمشترط الخيار الفسخ بغير رضى الأجنبي، وللأجنبي الفسخ إلا أن يعزله المشترط، ولو شرط الخيار للعبد المبيع صح لأنه كالأجنبي. وقال القاضي: إن جعل الأجنبي وكيلاً فيه صح. وإن أطلق الخيار لفلان، أو قال: هو لفلان دوني لم يصح، لأن الخيار جعل لتحصيل الحظ للمتعاقدين بنظرهما، فلا يكون لمن لا حظ له. وإن كان العاقد وكيلاً، فشرط الخيار للمالك صح، لأن الحظ له. وإن جعله للأجنبي لم يصح، لأنه ليس له توكيل غيره، وإن شرط لنفسه صح، لأن له النظر في تحصيل الحظ. وإن قال: بعتك على أن أستأمر فلاناً في مدة معلومة صح، وله الفسخ قبل استئماره، لأن ذلك كناية عن الخيار، وإن لم يجعل له مدة معلومة، فهو كالخيار المجهول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 فصل: وإذا شرط الخيار إلى طلوع الشمس أو غروبها، أو إلى الغد، أو إلى الليل صح، لأنه وقت معلوم، ولا يدخل الغد، ولا الليل في مدة الخيار، لأن إلى للغاية وموضوعها لفراغ الشيء وانتهائه. وإن شرطاه ثلاثاً، أو ساعات معلومة فابتدأ مدته من حين العقد، لأنها مدة ملحقة بالعقد، فكان بدؤها منه كالأجل، ولأن جعله من حين التفريق يفضي إلى جهالته، لأنه لا يدرى متى يفترقان، ويحتمل أن يكون بدء مدته من حين التفريق، لأن الخيار ثابت في المجلس حكماً فلا حاجة إلى إثباته بالشرط، فعلى هذا إن جعلا بدأه من العقد صح، لأن بدايته ونهايته معلومان. ويحتمل أن لا يصح، لأن ثبوت الخيار بالمجلس يمنع ثبوته بغيره، وعلى الوجه الأول لو جعلا بدأه من التفريق لم يصح لجهالته. فصل: فإن شرطا خياراً مجهولاً لم يصح، لأنها مدة ملحقة بالعقد، فلم تصح مجهولة كالتأجيل، وهل يفسد العقد به؟ على روايتين. وعنه: أنه يصح مجهولاً لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» رواه الترمذي: وقال حديث حسن صحيح. فعلى هذا إن كان الخيار مطلقاً مثل أن يقول: لك الخيار متى شئت، أو إلى الأبد، فهما على خيارهما أبداً أو يقطعاه، وإن قال: إلى أن يقدم زيد، أو ينزل المطر ثبت الخيار إلى زمن اشتراطه، أو يقطعاه قبله. وإن شرطاه إلى الحصاد أو الجذاذ، ففيه روايتان: إحداهما: هو مجهول، لأن زمن ذلك يختلف، فيكون كقدوم زيد. والثانية: يصح لأن مدة الحصاد تتقارب في العادة في البلد الواحد، فعفي عن الاختلاف فيه. وإن شرطه إلى العطاء يريد وقت العطاء صح لأنه معلوم، وإن أراد نفس العطاء فهو مجهول، لأنه يتقدم ويتأخر، وإن شرط الخيار شهراً يوماً يثبت ويوماً لا ففيه وجهان: أحدهما: يثبت في اليوم لأول، لأنه معلوم يلي العقد، ويبطل فيما بعده، لأنه إذا لزم لم يعد إلى الجواز، ويحتمل أن يبطل الشرط كله، لأنه شرط واحد، فإذا فسد في البعض فسد في الكل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 فصل: ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه، لأنه عقد جعل إلى اختياره، فجاز مع غيبة صاحبه وسخطه، كالطلاق. ومتى انقضت مدته قبل الفسخ لزم العقد على كل حال، لأنها مدة ملحقة بالعقد، فبطلت بانتهائها كالأجل، ويبطل الخيار بالتخاير، كما يبطل خيار المجلس به، ولو ألحقا بالعقد خياراً بعد لزومه لم يلحقه، لأنه عقد لازم، فلم يصر جائزاً بقولهما كالنكاح، وإن فعلا ذلك في مدة الخيار جاز، لأنه جائز فجاز إبقاؤه على جوازه. فصل: وينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس العقد. وعنه: لا ينتقل إلا بعد انقضائه، لأنه عقد قاصر لا يفيد التصرف، فلم ينقل الملك، كالهبة قبل القبض، والأول ظاهر المذهب، لأن البيع سبب لنقل الملك، فنقل عقيبه كالمطلق، ولأنه تمليك، فأشبه المطلق. وليس منع التصرف لقصور السبب، بل لتعلق حق البائع بالمبيع، وما يحصل من غلة المبيع في مدة الخيار، ونمائه المنفصل، فهو للمشتري سواء فسخا العقد أو أمضياه لأنه نماء ملكه الداخل في ضمانه، ولأنه من ضمانه فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخراج بالضمان» وعلى الرواية الأخرى هو للبائع، والحكم في ضمانه كالحكم في ضمان المبيع المطلق. فصل: وليس لواحد من المتبايعين التصرف في المبيع في مدة الخيار، لأنه ليس بملك للبائع، فيتصرف فيه، ولا انقطعت عنه علاقته، فيتصرف فيه المشتري، فإن تصرفا بغير العتق، لم ينفذ تصرفهما لذلك. وعنه في تصرف المشتري: أنه موقوف، إن فسخ البائع بطل، وإن لم يفسخ صح لعدم المبطل له، ذكرها ابن أبي موسى. وإن كان الخيار للمشتري وحده صح لذلك، وإن أعتق المشتري العبد عتق، لأنه عتق من مالك تام الملك، جائز التصرف، فنفذ كما بعد المدة، فإن قلنا: الملك للبائع نفذ عتقه، ولا ينفذ عتق من لا ملك له، لأنه عتق من غير مالك، فأشبه الأجنبي. وفي الوقف وجهان: أحدهما: هو كالعتق، لأنه تصرف يبطل الشفعة، والصحيح: أنه لا ينفذ، لأنه لا يبنى على التغليب، ولا يسري إلى ملك الغير، أشبه البيع. فصل: فإن وطئ المشتري الجارية، فلا حد عليه ولا مهر، وإن ولدت منه فالولد حر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 ولا تلزمه قيمته، وتصير أم ولد، لأنه وطئ مملوكته. وإن وطئ البائع فعليه المهر لأنه وطئ في غير ملك. وإن علم التحريم فولده رقيق، لا يلحقه نسبه كما لو وطئ بعد المدة. وإن جهل التحريم فلا حد عليه، وولده أحرار، وعليه قيمتهم يوم الولادة، لأنه يعتقد أنه يحبلها في ملكه، فأشبه المغرور من أمة، ولا تصير أم ولد بحال. قال بعض أصحابنا: وعليه الحد إن علم التحريم، وأن البيع لا ينفسخ به، وذكر أن أحمد نص عليه، لأن وطأه لم يصادف ملكاً، ولا شبهة ملك. والصحيح أنه لا حد عليه، لأن أهل العلم اختلفوا في ملكه لها، وحل وطئها، وهذه شبهة يدرأ الحد بها. ولأن ملكه يحصل بوطئه، فيحصل تمام وطئه في ملكه، فلا يجب الحد به. وإن قلنا بالرواية الأخرى انعكست هذه الأحكام. فصل: وطء البائع فسخ للبيع، لأنه دليل على الاسترجاع، فأشبه من أسلم على أكثر من أربع، فوطئ إحداهن كان اختياراً لها. ووطء المشتري رضى بالمبيع، وإبطال لخياره لذلك، وسائر التصرفات المختصة بالملك، كالعتق والكتابة والبيع والوقف، والهبة، والمباشرة، واللمس لشهوة، وركوب الدابة لسفر أو حاجة، والحمل عليها، وشرب لبنها، وسكنى الدار وحصاد الزرع ونحوه إن وجد من المشتري بطل خياره، لأنه يبطل بالتصريح بالرضى فبطل بدلالته كخيار المعتقة، يبطل بتمكينها زوجها من وطئها. وإن تصرف البائع بذلك، ففيه وجهان: أحدهما: هو فسخ للبيع لذلك. والآخر لا يكون فسخاً، لأن الملك انتقل عنه، فلم يكن تصرفه استرجاعاً، كمن وجد ماله عند مفلس فتصرف فيه. وقال أبو الخطاب: هل يكون تصرف البائع فسخاً للبيع، وتصرف المشتري رضى بالبيع، وفسخاً لخياره؟ على وجهين. وأما ركوب المشتري الدابة لينظر سيرها، وطحنه على الرحى ليختبرها، فلا يبطل الخيار، لأن الاختيار هو المقصود بالخيار. وإن استخدم العبد ليختبره لم يبطل خياره لذلك، وإن استخدمه لغير ذلك ففيه روايتان: إحداهما: يبطل خياره، لأنه تصرف منه، أشبه الركوب للدابة. والثانية: لا يبطل، لأنه لا يختص الملك، أشبه النظر. وإن قبلت الجارية المشتري لشهوة لم يبطل خياره، لأنها قبلة لأحد المتابعين، فلم يبطل خياره، كقبلتها للبائع، ولأنا لو أبطلنا خياره بهذا أبطلناه من غير رضاه بالمبيع، ولا دلالة عليه. ويحتمل أن يبطل خياره إذا لم يمنعها، لأن إقراره عليه رضى به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 فصل: وإن أعتق المشتري الجارية، أو استولدها، أو أتلفت المبيع، أو تلف في يده لم يبطل خيار البائع، لأنه لم يوجد منه رضى بإبطاله. وله أن يفسخ ويرجع ببدل المبيع، وهو مثله إن كان مثلياً وإلا قيمته يوم أتلفه. وعنه: أن خياره يبطل بذلك، اختارها الخرقي، لأنه خيار فسخ، فبطل بتلف المبيع، كخيار الرد بالعيب. فصل: وإن مات أحد المتبايعين بطل خياره، ولم يثبت لورثته، لأنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه، فلم يورث، كخيار الرجوع في الهبة. ويتخرج أن يورث قياساً على الأجل في الثمن. وإن جن أو أغمي عليه، قام وليه مقامه، لأنه قد تعذر منه الاختيار مع بقاء ملكه. وإن خرس ولم يفهم إشارته، فهو كالمجنون وإن فهمت إشارته قام مقام لفظه. وإن مات في خيار المجلس بطل خياره، وفي خيار صاحبه وجهان: أحدهما: يبطل لأن الموت أعظم الفرق. والثاني: لا يبطل، لأن الفرقة بالأبدان لم تحصل. [ باب الربا ] الربا محرم، لقول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وما بعدها من الآيات، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لعن الله آكل الربا، وموكله وشاهديه وكاتبه» متفق عليه. وهو على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة، والأعيان على الربا فيها ستة مذكورة في حديث عبادة بن الصامت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، والبر بالبر مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، والملح بالملح مثلاً بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 واختلفت الرواية في علة الربا ثلاث روايات. فأشهرهن: أن علته في الذهب والفضة الوزن والجنس، وفي غيرهما الكيل والجنس، لما روي عن عمار أنه قال: العبد خير من العبدين، والثوب خير من الثوبين، فما كان يداً بيد فلا بأس به، إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن. ولأنه لو كانت العلة الطعم لجرى الربا في الماء، لأنه مطعوم، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] فعلى هذا يحرم التفاضل في كل مكيل، أو موزون من جنس، سواء كان مطعوماً كالقطنيات، أو غير مطعوم كالأشنان والحديد. ويجري الربا فيما كان جنسه مكيلاً أو موزوناً، وإن تعذر الكيل فيه أو الوزن، إما لقلته، كالتمرة والقبضة وإما دون الأرزة من الذهب والفضة، وإما لعظمه كالزبرة العظيمة، وإما للعادة كلحم الطير، لأنه من جنس فيه الربا، فجرى فيه الربا كالزبرة العظيمة. وما نسج من القطن والكتان لا ربا فيه نص عليه، لحديث عمار وما عمل من الحديد ونحوه ما كان يقصد وزنه جرى فيه الربا، لأنه تقصد زنته، فجرى فيه الربا، كلحم الطير، وما لا تقصد زنته لا يجري فيه الربا كالثياب. والرواية الثانية: العلة في الذهب والفضة: الثمينة غالباً، وفيها عداهما كونه مطعوم جنس، لما روى معمر بن عبد الله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل» . رواه مسلم. ولأنه لو كان الوزن علة فلم يجز إسلام النقد في الموزنات، لأن اجتماع المالين في أحد وصفي علة ربا الفضل يمنع النساء، بدليل إسلام المكيل في المكيل، فعلى هذه الرواية يحرم التفاضل في كل مطعوم بيع بجنسه من الأقوات، والأدام والفواكه والأدوية والأدهان المطيبة وغيرها. وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً، كالبطيخ والرمان والبيض ونحوها. والرواية الثالثة: العلة كونه مطعوم جنس مكيلاً أو موزوناً، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل» . والمماثلة المعتبرة هي المماثلة في الكيل والوزن، فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن، ولا يحرم فيما لا يطعم كالأشنان والحديد، ولا فيما لا يكال كالبطيخ والرمان. فصل: وما يجري فيه الربا اعتبرت المماثلة فيه في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن، والبر بالبر كيلاً بكيل، والشعير بالشعير كيلاً بكيل» رواه الأثرم. ولا يجوز بيع مكيل بجنسه وزناً، ولا موزون كيلاً للخبر، ولأنه لا يلزم من تساويهما في أحد المعيارين التساوي في الآخر، لتفاوتهما في الثقل والخفة، ولا يجوز بيع بعضه ببعض جزافاً من الطرفين، ولا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 أحدهما، لما روى جابر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الصبرة لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر» رواه مسلم. ولأن المماثلة لا تعلم بدون الكيل من الطرفين، فوجب ذلك. وما لا يكال ولا يوزن يعتبر التماثل فيه بالوزن، لأنه أحصر، ومنه ما لا يتأتى كيله. فصل: والمرجع في الكيل والوزن إلى عادة أهل الحجاز، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة» وما لا عرف له بالحجاز يعتبر بأشبه الأشياء به بالحجاز في أحد الوجهين، لأن الحوادث ترد إلى أقرب الأشياء شبهاً بها وهو القياس. والثاني ترد إلى عرفه في موضعه، لأن ما لا حد له في الشرع يرد إلى العرف، كالقبض والحرز. فصل: والجيد والرديء، والتبر والمضروب، والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع متماثلاً وتحريمه متفاضلاً، للخبر وفي بعض ألفاظه «الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها» رواه أبو داود. وفي لفظ «جيدها ورديئها سواء» . فصل: ولا يحرم التفاضل إلا في الجنس الواحد، للخبر والإجماع، وكل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة فهما جنس، كأنواع التمر وأنواع البر. وإن اختلفا في الاسم من أصل الخلقة فهما جنسان، كالستة المذكورة في الخبر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم الزيادة فيها إذا بيع منها شيء بما يوافقه في الاسم، وأباحها إذا بيع بما يخالفه في الاسم، فدل على أن ما اتفقا في الاسم جنس، وما اختلفا فيه جنسان. وعنه: أن البر والشعير جنس، لأن معمر بن عبد الله قال لغلامه فيهما لا تأخذن إلا مثلاً بمثل، «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل» رواه مسلم. والمذهب الأول، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الأعيان الستة «فإذا اختلفت هذه الأصناف الستة فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» رواه مسلم. وقال «لا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرهما يداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 بيد» . رواه أبو داود وحديث معمر لا بد فيه من إضمار الجنس الواحد. فصل: والمتخذ من أموال الربا معتبر بأصله فما أصله جنس واحد فهو جنس واحد، وإن اختلفت أسماؤه. وما أصله أجناس فهو أجناس، وإن اتفقت أسماؤه، فدقيق الحنطة والشعير جنسان، ودهن اللوز والجوز جنسان، وزيت الزيتون والبطم جنسان، وكذلك خل العنب وخل التمر. وعنه: أنهما جنسان، والأول أصح، لأنهما فرعا أصلين مختلفين، فكانا جنسين كالأدقة، وفي اللحم ثلاث روايات: إحداهن: أنه كله جنس واحد، لأنه اشترك في الاسم الواحد حال حدوث الربا فيه، وكان جنساً واحداً كالتمر. والثانية: أنه أربعة أجناس لحم الأنعام، ولحم الوحش، ولحم الطير، ولحم دواب الماء، لأنها تختلف منفعتها والقصد إلى أكلها، فكانت أجناساً. والثالثة: أنها أجناس، فكانت أجناساً، كالتمر الهندي والبرني، وبهذا ينتقض دليل الرواية الأولى، والثانية لا أصل لها، فعلى هذه الرواية لحم بهيمة الأنعام كلها ثلاثة أجناس، ولحم بقر الوحش والأهلية جنسان، وكل ما انفرد باسم وصفة فهو جنس. وقال ابن أبي موسى: لا خلاف عن أحمد أن لحم الطير والسمك جنسان، وفي الألبان من القول نحو مما في اللحم، لأنها من الحيوانات يتفق اسمها فأشبهت اللحم. فصل: واللحم والشحم والكبد والطحال والرئة والكلية والقلب والكرش أجناس، لأنها مختلفة في الاسم والخلقة. قال بعض أصحابنا: الشحم والألية جنسان لذلك، وقالوا: اللحم الأحمر والأبيض الذي على الظهر والجنبين جنس، لاتفاقهما في الدسم المقصد ويحتمل أن يكون الشحم الذي يذوب بالنار كله جنساً واحداً لاتفاقهما في اللون والصفة والذوب بالنار. وقد قال الله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] . فاستثناه من الشحم. فصل: ولا يجوز بيع ما فيه ربا بعضه ببعض، ومعهما أو مع أحدهما، من غير جنسه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 كمد بر ودرهم بمد ودرهم، أو بمدين أو درهمين. وعنه، ما يدل على الجواز إذا كان مع كل واحد منهما من غير جنسه، أو كان المفرد أكثر ليكون الزائد في مقابلة غير الجنس، والأول المذهب، لما روى فضالة بن عبيد قال: «أتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها بتسعة دنانير، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا حتى تميز بينهما» . رواه أبو داود. ولأن الصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما بدليل ما لو اشترى شقصاً وسيفاً، فإن الشفيع يأخذ الشقص بقسطه من الثمن. وإذا قسم الثمن على القيمة أدى إلى الربا، لأنه إذا باع مداً، قيمته درهمان ودرهماً بمدين، فقيمتهما ثلاثة، حصل في مقابلة الجيد مد وثلث. فأما إذا باع نوعين مختلفي القيمة من جنس بنوع واحد من ذلك الجنس، كدرهم صحيح، ودرهم قراضة بصحيحين، فقال القاضي: الحكم فيها كالتي قبلها لذلك، وقال أبو بكر: يجوز، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الفضة بالفضة مثلاً بمثل» ولأن الجودة ساقطة فيما قوبل بجنسه لما تقدم. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: منع ذلك في النقد وتجويزه في غيره، لأنه لا يمكن التحرز من اختلاط النوعين. فصل: ولا يجوز بيع خالصه بمشروبه، كحنطة فيها شعير، أو زوان بخالصة، أو غير خالصة، أو لبن مشوب بخالص أو مشوب أو عسل في شمعه بمثله إلا أن يكون الخلط يسيراً لا وقع له، كيسير التراب والزوان، ودقيق التراب الذي لا يظهر في الكيل، لأنه لا يخل بالتماثل، ولا يمكن التحرز منه. فصل: وما اشتمل على جنسين بأصل الخلقة، كالتمر فيه النوى، فلا بأس ببيع بعضه ببعض، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح بيع التمر بالتمر، وقد علم أن في كل واحد نوى. ولو نزع النوى، ثم ترك مع التمر صار كمسألة مد عجوة لزوال التبعية، لو نزع من أحدهما نواه، ثم باعه بتمر فيه نواه فكذلك. وإن باع النوى بمثله، والمنزوع بمثله جاز لأنه جنس متماثل. وإن باع المنزوع وحده بالنوى جاز فيه التفاضل، لأنهما جنسان. وإن باع النوى بتمر فيه نواه ففيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، لأنه في مسألة مد عجوة. والثانية: يجوز، لأن ما فيه الربا غير مقصود في أحد الجانبين، فلم يمنع كبيع دار مموه سقفها بذهب، بذهب. وكذلك يخرج في بيع شاة لبون بلبن، أو ذات صوف بصوف، أو لبون بمثلها، فإن كانت محلوبة اللبن جاز وجهاً واحداً، لأن الباقي لا أثر له، فهو كالتمويه في السقف، ويجوز بيع شاة ذات صوف بمثلها وجهاً واحداً، لأن ذلك لو حرم لحرم بيع الغنم بالغنم. قال أبو بكر: يجوز بيع نخلة مثمرة بمثلها وبتمر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 لأن التمر عليها غير مقصود، ومنعه القاضي لكون الثمرة معلومة، يجوز إفرادها بالبيع بخلاف اللبن، ومنع القاضي بيع اللحم بجنسه إلا منزوع العظام لأن العظم من غير جنس اللحم، فأشبه الشمع في العسل ويحتمل الجواز، لأن العظم من أصل الخلقة، فأشبه النوى في التمر بخلاف الشمع. فصل: وما فيه خلط غير مقصود لمصلحته، كالماء في خل التمر والزبيب ودبس التمر، والملح في الخبز. والشيرج في الخبيص ونحوه لا يمنع بيعه بمثله، لأنه لمصلحته، فأشبه رطوبة تمر الرطب. ولا يجوز بيعه بخالص كخل الزبيب بخل العنب والخبز الرطب باليابس كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر. فصل: ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه، لأن النار تذهب برطوبته، وتعقد أجزاءه، فتمنع تساويهما. ويجوز بيع مطبوخه بمثله إذا لم يظهر عمل النار في أحدهما أكثر من الآخر، لتساويهما في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان في ثاني الحال، كالخبز بالخبز، والشواء والسكر والعسل المصفى بالنار بمثله. فصل: ولا يجوز بيع حبه بدقيقه، وعنه: الجواز إذا تساويا وزناً، لأن الدقيق أجزاء الحب، فجاز بيعه به، كما قبل الطحن، والمذهب الأول، لأن البر ودقيقه مكيلان ولا بيع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً، ولا يمكن التساوي في الكيل، لأن الطحن فرق أجزاء الدقيق ونشرها، ويجوز بيع كل واحد من الدقيق والسويق بمثله إذا تساويا في الكيل والنعومة، ولما ذكرنا في المطبوخ بمثله، ولا يجوز إذا تفاوتا في النعومة، لأنه يمنع تساويهما في الكيل إلا على قولنا: يجوز بيع الحب بدقيقه وزناً. فصل: ولا يجوز بيع أصله بعصيره كالزيتون بزيته، والسمسم بالشيرج، والعنب بعصيره، لأنه لا يتحقق التماثل بين العصير، وما في أصله منه. ويجوز بيع العصير بالعصير لما ذكرنا في المطبوخ. ولا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه لما روى سعيد بن المسيب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع اللحم بالحيوان» . رواه مالك في " الموطأ " ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه، فلم يجز كالزيتون بالزيت. وإن باع اللحم بحيوان لا يؤكل جاز لعدم ما ذكر، وإن باعه بحيوان مأكول غير أصله، وقلنا: هما جنس واحد لم يجز وإلا جاز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 فصل: ويجوز بيع اللبن باللبن، حليبين كانا أو رائباً وحليباً، لأن الرائب لبن خالص، إنما فيه حموضة. ولا يجوز بيع لبن بما استخرج منه من زبد وسمن ومخيض، ولا زبد بسمن، لأنه مستخرج منه، أشبه الزيتون بالزيت. وعنه: يجوز بيع الزبد باللبن إذا كان أكثر من الزبد الذي في اللبن، والسمن مثله، وهكذا كمسألة مد عجوة، والظاهر تحريمه. ولا بيع لبن مائع بجامد، لأنهما يتفاضلان ويجوز بيع السمن والزبد والمخيض واللباء والجبن، والمصل بمثله إذا تساويا في الرطوبة والنشافة، ولم ينفرد أحدهما بمس النار له. ويجوز بيع السمن بالمخيض متفاضلاً، لأنه ليس في أحدهما شيء من الآخر. وبيع الزبد بالمخيض نص عليه. لأن اللبن في الزبد يسير غير مقصود، أشبه الملح في الشيرج. ولا يجوز بيع شيء من هذه الأنواع بنوع لم ينزع زبده، كالجبن والمصل، لما ذكرنا في بيعه باللبن. فصل: ولا يجوز بيع رطبه بيابسه، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الرطب بالتمر» . متفق عليه. وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: «أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا نعم، فنهاه عن ذلك» أخرجه أبو داود. فنهى وعلل بأنه ينقص عن يابسه، فدل على أن كل رطب يحرم بيعه بيابسه. ويجوز بيع رطبه برطبه، لأن مفهوم نهيه عن بيع الرطب بالتمر إباحة بيعه بمثله، ولأنهما تساويا في الحال على وجه لا يتفرد أحدهما بالنقصان، فجاز بيعه به، كاللبن باللبن، وذكر الخرقي أن اللحم لا يباع باللحم إلا إذا تناهى جفافه فدل على أن كل رطب لا يجوز بيعه بمثله، اختارها أبو حفص لأنهما لم يتساويا حال الكمال. والمذهب والجواز: وقال القاضي: لم أجد بما قال الخرقي رواية عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فصل: ويجوز بيع العرايا، وهو: بيع الرطب على رؤوس النخل خرصاً بالتمر على وجه الأرض. لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص العرية في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق» متفق عليه. وإنما يجوز بشروط خمسة. أحدها: أن يكون دون خمسة أوسق. وعنه يجوز في الخمسة، لأن الرخصة ثبتت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 في العرية، ثم نهى عما زاد على الخمسة، وشك الراوي في الخمسة، فردت إلى أصل الرخصة. والمذهب الأول، لأن الأصل تحريم بيع الرطب بالتمر فيما دون الخمسة بالخبر، والخمسة مشكوك فيها، فترد إلى الأصل. الثاني: أن يكون مشتريها محتاجا ً إلى أكلها رطباً. لما روى محمود بن لبيد قال: «قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرطب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه، وعندهم فضول من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا [العرية] برخصها من التمر [يأكلونه] رطباً» . متفق عليه. والرخصة الثابتة لحاجة لا تثبت مع عدمها فإن تركها حتى تتمر بطل البيع لعدم الحاجة. الثالث: أن لا يكون له نقد يشتري به للخبر. الرابع: أن يشتريها بخرصها للخبر، ولأن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً» متفق عليه. ولا بد أن يكون التمر معلوماً بالكيل للخبر، وفي معنى الخرص روايتان: إحداهما: أن ينتظر كم يجيء منها تمراً، فيبيعها بمثله، لأنه يخرص في الزكاة كذلك. والثانية: يبيعها بمثل ما فيها من الرطب، لأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال بالكيل، فإذا خولف الدليل في أحدهما، وأمكن أن لا يخالف في الآخر وجب. ولا يجوز بيعها برطب ولا تمر على نخل خرصاً. الخامس: أن يتقابضا قبل تفرقهما، لأن البيع تمر بتمر، فاعتبرت فيه أحكامه إلا ما استثناه الشرع، والقبض فيما على النخل بالتخلية، وفي التمر باكتياله، فإن كان حاضراً في مجلس البيع اكتاله، وإن كان غائباً مشيا إلى التمر فتسلما. وإن قبضه أو لا، ثم مشيا إلى النخلة، فتسلمها جاز. واشترط الخرقي كون النخلة موهوبة لبائعها، لأن العرية اسم لذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 واشترط أبو بكر والقاضي حاجة البائع إلى بيعها، وحديث زيد بن ثابت يرد ذلك مع أن اشتراطه يبطل الرخصة، إذ لا تتفق الحاجتان مع سائر الشروط، فتذهب الرخصة، فعلى قولنا يجوز لرجلين شراء عريتين من واحد وعلى قولهما لا يجوز إلا أن ينقصا بمجموعهما عن خمسة أوسق، ولا يجوز لوحد شراء عريتين فيهما جميعاً خمسة أوسق، لأنه في معنى شرائهما في عقد واحد. فصل: قال ابن حامد: لا يجوز بيع العرايا في غير ثمرة النخل، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمر بخرصه» . وهذا حديث حسن، ولأن غير التمر لا يساويه في كثرة اقتياته، وسهولة خرصه، فلا يقاس عليه غيره. وقال القاضي: يجوز في جميع الثمار، لأن حاجة الناس إلى رطبها كحاجتهم إلى الرطب. ويحتمل الجواز في التمر والعنب خاصة، لتساويهما في وجوب الزكاة فيهما، وورود الشرع بخرصهما وكونهما مقتاتين دون غيرهما. فصل: في ربا النسيئة كل مالين اتفقا في علة ربا الفضل، كالمكلين والموزونين أو المطعومين على الرواية الأخرى لا يجوز بيع أحدهما بالآخر نساء، ولا التفرق قبل القبض، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد» وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الذهب بالورق رباً، إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء» متفق عليه. وما اختلفت علتهما، كالمكيل والموزون إذا لم يتفقا في الطعم جاز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة، وفي النساء فيهما روايتان. وما لم يوجد فيه علة ربا الفضل، كالثياب والحيوان، ففيه روايات أربع. إحداهن: يجوز النساء فيهما، لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: «أمرني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أستسلف إبلاً، فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى مجيء المصدق» . من " المسند ". والثانية: لا يجوز، لما روى سمرة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. والثالثة: يحرم النساء في الجنس الواحد، لهذا الخبر، ويباح في الجنسين عملاً بمفهومه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 والرابعة: يباح مع التساوي، ويحرم مع التفاضل في الجنس الواحد، لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نساء، ولا بأس به يداً بيد» قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن ابن عمر أن رجلاً قال: «يا رسول الله. أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس به إذاً كان يداً بيد» رواه أحمد في " المسند " ولا خلاف في جواز الشراء بالأثمان نساء من سائر الأموال موزوناً أو غيره، لأنها رؤوس الأموال، فالحاجة داعية إلى الشراء بها نساء وناجزاً. فصل: فإن تفرقا قبل القبض، فيما يشترط القبض فيه بطل العقد، فإن تفرقا قبل قبض بعضه بطل في غير المقبوض، وفي المقبوض وجهان بناء على تفريق الصفقة. وما وجب التماثل فيه إذا بيع عيناً بعين، فوجد في أحدهما عيباً من غير جنسه بطل البيع، لأنه يفوت التماثل المشترط، وإن كان البيع في الذمة جاز إبداله قبل التفرق. وهل يجوز بعد التفرق؟ فيه روايتان: إحداهما: يجوز إذا أخذ البدل في مجلس الرد، لأن قبض بدله يقوم مقامه. والثانية: يبطل العقد برده، لأنهما تفرقا قبل العوض، وإن كان عيبه لمعنى لا ينقص ذاته، كالسواد في الفضة، والخشونة فيها فالعقد صحيح، وليس له أخذ الأرش، لأنه يخل بالتماثل، وله الخيار بين فسخ العقد، أو الإمساك، وليس له البدل إن كان البيع عيناً بعين. وإن كان البيع في الذمة فحكمه حكم القسم الذي قبله، فأما ما لا يجب التماثل فيه فله أخذ أرشه، لأن التفاضل فيه جائزة، وحكمه فيما سوى ذلك حكم ما قبله. [ باب بيع الأصول ] من باع نخلاً مؤبراً فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، فتكون له، وإن لم تؤبر، فهي للمشتري إلا أن يشترطها البائع فتكون له، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع» متفق عليه. فجعل المؤبرة للبائع، فدل على أن غير المؤبرة للمبتاع، ولأنها قبل التأبير نماء كامن لظهوره غاية، فتبع الأصل قبل ظهوره ولم يتبعه بعده كالحمل، وطلع الفحال كغيره، ويحتمل أنه للبائع قبل تشققه لأنه يوجد كذلك والطلع ظاهر، فهو كالتين. والصحيح: الأول للخبر، لأن المقصود فيما داخل الطلع للتلقيح ولم يظهر فيتبع الأصل، كطلع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 الإناث. فإن أبر بعض الحائط دون بعض، فما أبر للبائع، وما لم يؤبر للمشتري في ظاهر كلام أحمد وقول أبي بكر للخبر، وقال ابن حامد: الكل للبائع: لأن اشتراكهما في الثمرة يؤدي إلى الضرر، واختلاف الأيدي، فجعلنا ما لم يظهر تبعاً للظاهر، كأساسيات الحيطان تتبع الظاهر منها، ولم يجعل الظاهر تبعاً للباطن، كما لا تتبع الحيطان الأساس في منع البيع للجهالة. وإن كان المبيع حائطين لم يتبع أحدهما صاحبه، لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة، لانفراد أحدهما عن الآخر، وإن أبر نوع من الحائط لم يتبع النوع الآخر في قول القاضي، لأن النوعين يختلفان في التأبير. وقال أبو الخطاب: يتبعه لئلا يفضي إلى سوء المشاركة في الجنس الواحد، وإن أبر بعض ما في الحائط، فأفرد بالبيع ما لم يؤبر فهو للمشتري، لأنه لم يؤبر منه شيء، وإن أبر بعض الحائط فباعه ثم أطلع الباقي في يد المشتري، فالطلع له، لأنه حادث في مكة فكان له، كما لو لم يؤبر منه شيء. فصل: وكل عقد ناقل للأصل، كجعله صداقاً، وعوض خلع، أو أجرة أو هبة، كالبيع فيما ذكرنا، لأنه عقد يزيل الملك عن الأصل، فأزاله عن الثمرة قبل الظهور كالبيع. فصل: وسائر الشجر على ستة أضرب: أحدهما: ما يقصد زهره كالورد، والقطن الذي يبقى أعواماً، فهو كالنخل إن تفتحت أكمامه، وتشقق جوزه فهو للبائع، وإلا فهو للمشتري، كالطلع سواء. الضرب الثاني: ما له ثمرة بارزة كالعنب والتين، فما كان منه ظاهراً فهو للبائع، لأنها ثمرة ظاهرة، فهي كالطلع المؤبر، وما ظهر بعد العقد فهو للمشتري، لأنه حدث في ملكه. الثالث: ما له قشر لا يزال إلا عند الأكل، كالرمان والموز، فهو للبائع إن كان ظهر، لأن قشره من مصلحته، فهو كأجزاء الثمرة. الرابع: ما له قشران، كالجوز واللوز، فهو للبائع بنفس الظهور لأن قشره لا يزايله في الغالب إلا بعد جذاذه، فهو كالرمان، وقال بعض أصحابنا: إن تشقق قشره الأعلى فهو للبائع، وإلا فهو للمشتري، لأنه لا يدخر في قشره الأعلى بخلاف الرمان. الخامس: ما يظهر ثمره في نوره، ثم يتناثر نوره فيظهر كالتفاح والمشمش، فما تناثر نوره فهو للبائع، وما لم يتناثر فهو للمشتري، لأنه لا يظهر إلا بعد تناثر نوره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 فكان كتأبير النخل، ويحتمل أنه للبائع بظهور نوره، لأن استتار الثمرة بالنور، كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بالقشر الأبيض. السادس: ما يقصد ورقه كالتوت، فيحتمل أنه للمشتري بكل حالة قياساً على سائر الورق، ويحتمل أنه إن تفتح فهو للبائع، وإلا فهو للمشتري، لأنه هاهنا كالثمر. فصل: وإذا اشترى شجراً عليه ثمرة للبائع، لم يكلف نقلها إلا أوان جذاذها، لأن نقل المبيع على حسب العادة، ولهذا لو اشترى متاعاً ليلاً لم يكلف نقله حتى يصبح، ولو باع متاعاً كثيراً في دار، لم يكلف تفريغها إلا على العادة، ولم يلزمه جمع دواب البلد لنقله دفعة واحدة، فإذا بلغ الجذاذ كلف نقله، وإن كان بقاؤه أنفع له، لأنه أمكن نقله عادة، وإن أصاب الشجر عطش خيف هلاكه ببقائه عليه، ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزم قطعه، لأنهما دخلا في العقد على ترك الثمرة إلى أوان الجذاذ. والثاني: يلزم قطعه، لأن المشتري رضي بذلك إذا لم يضر به، وهذا فيه ضرر كثير. وإن أراد أحدهما سقي ما له لمصلحته، فله ذلك، وإن أضر بصاحبه، لأنه رضي بالضرر لعلمه أنه لا بد من السقي، وإن سقى لغير مصلحة لم يمكن منه، لأنه سفه. فصل وإن باع أرضاً بحقوقها دخل ما فيها من غراس وبناء في البيع، وإن لم يقل بحقوقها ففيه وجهان: أحدهما: يدخل أيضاً لأنه متصل بها للبقاء فهو كأجزائها. والثاني: لا يدخل، لأن الأرض اسم للعرصة دون ما فيها. وإن قال: بعتك هذا البستان دخل الجميع في البيع، لأن البستان اسم للأرض ذات الشجر. وإن باع الأرض وفيها زرع لا يحصد إلا مرة، كالحنطة والشعير والجزر والفجل لم يدخل في البيع، لأنه نماء ظاهر لفصله غاية فلم يدخل في بيع الأرض كالطلع المؤبر وسواء كان نابتاً أو بذراً لأن البذر مودع في الأرض فلم يدخل في بيعها، كالركاز، ويكون الزرع مبقى إلى حين الحصاد، كما أن الثمرة تبقى إلى حين الجذاذ، فإن أراد البائع قطعه قبل وقته لينتفع بالأرض لم يكن له ذلك، لأن منفعة الأرض إنما حصلت مستثناة عن مقتضى العقد، ضرورة إبقاء الزرع، فتقدرت ببقائه، كما لو باع داراً فيها متاع لا ينقل في العادة إلا في شهر، فيكلف نقله في يوم، لينتفع بها في بقيته. والحصاد على البائع، وعليه إزالة ما يبقى من عروقه المضرة بالأرض، وتسوية حفره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 لأنه حصل بفعله لاستصلاح ملكه، فأشبه من باع داراً فيها حجر للبائع، فقلعه وتحفرت الأرض، وإن اشترطها المشتري في البيع كانت له، كالثمرة المؤبرة، ولا تضر جهالته، لأنه دخل في البيع تبعاً للأرض، فأشبه الثمرة بعد تأبيرها. وإن لم يعلم المشتري بالبذر فله الخيار، لأنه عيب في حقه لما يفوت عليه من نفع الأرض، فإن قال البائع: أنا أحوله على وجه لا يضر وفعل سقط الخيار، لزوال العيب، وإن اشترى نخلاً إذا طلع مؤبر لم يعلم تأبيره، فله الخيار أيضاً. وإن بذل البائع قطعه لم يسقط الخيار، لأن الضرر لا يزول بقطعه، لأنه يفوت عليها [ثمرتها] عاماً. فصل وإن كان في الأرض ما له أصل يجز، مرة بعد أخرى، فالجزة الظاهرة عند البيع للبائع، والأصول للمشتري، سواء كان مما يبقى عاماً كالهندبا، أو أكثر كالرطبة، لأن أصوله تركت للبقاء، فهي كالشجرة. وما ظهر منه وجرت العادة بأخذه، فهو كالثمرة المؤبرة وعلى البائع قطعه في الحال لأنه لا حد له ينتهي إليه، ولأنه يطول والزيادة للمشتري، وما تتكرر ثمرته مع بقاء أصله كالقثاء، والباذنجان، والبطيخ، أو يقصد زهره كالبنفسج ونحوه فكذلك: الأصول للمشتري، وثمرته الظاهرة وزهره للبائع، لأنه تؤخذ ثمرته مع بقاء أصله، فهو كالبقول. فصل وإن كان في الأرض حجارة مدفونة، أو ركاز لم يدخل في البيع، لأنه ليس من أجزائها، إنما هو مودع فيها للنقل عنها، فهو كالقماش. فإن كانت الأحجار من نفس الأرض، أو أساسات الحيطان، أو كان فيها معدن باطن، كمعدن الذهب والفضة دخل في البيع، لأنه من أجزائها، أو متروك للبقاء فيها فهو كالبناء. فصل وإن باعه داراً دخل فيها ما اتصل بها، كالرفوف المسمرة، والخوابي المدفونة فيها للانتفاع بها، والحجر السفلاني من الرحى المنصوب، والأبواب المنصوبة وفي الحجر الفوقاني والمفتاح وجهان: أحدهما: يدخل، لأنه من مصلحة ما هو داخل في البيع، فهو كالباب. والثاني: لا يدخل، لأنه ينفرد عنه، فهو كالدلو، وما هو منفصل عنها مما ليس من مصلحتها، كالدلو والحبل والبكرة والقفل لم يدخل في البيع، لأنه منفصل عنها غير مختص بمصلحتها، أشبه الفرش التي فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وإن باعه قرية لم تدخل مزارعها في البيع إلا بذكرها، لأن القرية اسم للأبنية دون المزارع. [ باب بيع الثمار ] لا يجوز بيع الثمار والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع. لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» متفق عليه. وفي لفظ: «نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة» رواه مسلم. ولأن في بيعه عزراً من غير حاجة فلم يجز كما لو شرط التبقية، فإن باعها بشرط القطع جاز، لأنه يأخذها قبل تلفها، فيأمن الغرر. وإن باعها لمالك الأصل ففيه وجهان: أحدهما: يصح لأنها تحصل لمالك الأصل فجاز، كما لو باعهما معاً. والثاني: لا يصح، لأنه أفردها بالعقد أشبه ما لو باعها لغيره، وإنما يصح إذا باعهما لأنها تدخل تبعاً كالحمل مع أمه. وإذا بدا الصلاح جاز بيعها بشرط القطع مطلقاً وبشرط التبقية للخبر، ولأنه أمن العاهة، فجاز بيعه كسائر الأموال. فصل: وبدو الصلاح في ثمرة النخل أن يحمر، أو يصفر، وفي العنب أن يسود أو يتموه، وفي الحب أن يشتد أو يبيض، وفي سائر الثمار أن يبدو فيه النضج، أو يطيب أكله، لما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب» . متفق عليه. ونهى عن بيع الثمرة حتى تزهو، قيل: وما تزهو؟ قال: تحمار، أو تصفار. «ونهى عن بيع الحب حتى يشتد، وعن بيع العنب حتى يسود» . رواه الترمذي. وإذا بدا الصلاح في نوع جاز بيع ما في البستان منه وعنه: لا يباع إلا ما بدا صلاحه للخبر. والأول أظهر، لأن ذلك يؤدي إلى الضرر والمشقة وسوء المشاركة، وفي سائر الجنس وجهان. مضى توجيههما في التأبير. ولا يختلف المذهب أن بدو الصلاح في بعض الشجرة صلاح لجميعها، وأن بدو صلاح جنس ليس بصلاح لجنس آخر، لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة، وإن بدا صلاح ثمرة بستان لم يكن صلاحاً لثمرة غيره، وعنه: يكون صلاحاً فيما قاربه، لأنهما يتقاربان في الإدراك، والمذهب: الأول، لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة وإن بدا الصلاح في ثمرة بستان، فأفرد بالبيع ما لم يبد صلاحه لم يجز، لأنه لم يبد صلاح شيء من المبيع، أشبه البستان الآخر وفيه وجه آخر: أنه يجوز، لأنه يجوز بيعه مع غيره، فجاز منفرداً كالذي بدا صلاحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 فصل: وإذا ابتاع ثمراً أو زرعاً بعد صلاحه لم يكلف قطعه قبل أوان الحصاد والجذاذ، لأن ذلك العادة في نقله فحمل البيع عليه، لما ذكرنا في الثمرة المؤبر، وإن احتاجت إلى سقي لزم البائع سقيها، لأن عليه تسليمها في أوان حصادها ولا يحصل إلا بالسقي فلزمه، بخلاف ثمرة البائع المؤبرة على أصول المشتري لا يلزمه سقيها لأنه لا يلزمه تسليمها وإن تلفت بجائحة من السماء، فهي من ضمان البائع لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح» . وفي لفظ قال: «إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟» رواهما مسلم. ولأنها تؤخذ حالاً فحالاً فكانت من ضمان البائع، كالمنافع في الإجارة. والجائحة: ما لا صنع لآدمي فيها. فإن أتلفها آدمي، فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن، وبين الإمساك ومطالبة المتلف بالقيمة، وظاهر المذهب أنه لا فرق بين القليل والكثير، إلا أن يكون التالف يسيراً جرت العادة بتلف مثله. قال أحمد: لا أقول في عشر تمرات، ولا عشرين تمرة، ولا أدري ما الثلث وذلك لأن الشرع أمر بوضع الجوائح، ولم يجعل له حداً فوجب رده إلى ما يتعارفه الناس جائحة. وعنه: أن ما دون الثلث من ضمان المشتري، لأن الثمرة لا بد من تلف شيء منها فلا بد من حد فاصل. والثلث يصلح ضابطاً، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والثلث كثير» ، وإن بلغت الثمرة أو الزرع أوان الحصاد فلم ينقل حتى هلك، فهو من ضمان المشتري، لأنه لزمه النقل فكان التفريط منه فاختص الضمان به. وإن اختلفا في التلف أو في قدره فالقول قول البائع، لأنه غارم، ولأن الأصل السلامة. ولو اشترى الثمرة من الشجرة، أو الزرع مع الأرض زال الضمان عن البائع بمجرد العقد، لأنه حصل التسليم الكامل بتسليم الأصل، فأشبه بيع الدار. فصل: وإذا اشترى ثمرة شجرة فحدثت ثمرة أخرى، فاختلطتا ولم تتميزا، أو حنطة فانثالت عليها أخرى لم يبطل البيع، لأن المبيع باق انضاف إليه غيره فأشبه ما لو اشتبه العبد المبيع بغيره، ويشتركان كل واحدة بقدر ماله إن علم قدره، وإلا وقف حتى يصطلحا، ويحتمل أن يبطل العقد لتعذر تسليم المستحق، فأشبه تلف المبيع. ولو باع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 الأصل وعليه ثمرة له، فحدثت للمشتري ثمرة اختلطت بها لم يبطل العقد، لأن المبيع هو الشجرة. ولم يختلط بغيره، ويشتركان في الثمرة كما بينا. ولو باع ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، وتركها حتى بدا صلاحها، أو جزة من الرطبة فطالت حيلة فالعقد باطل من أصله. نص عليه لأن الحيل لا تجوز في الدين، وإن لم تكن حيلة، ففيه روايتان: إحداهما: يبطل العقد، لأن البقية معنى حرم اشتراطه لحق الله تعالى، فأبطل العقد حقيقته، كالنسيئة في الربويات. والثانية: لا يبطل، لأنها زيادة في عين المبيع فلم يبطل بها البيع، كسمن العبد. قال القاضي: والزيادة للمشتري لذلك. وعن أحمد: أنهما يشتركان في الزيادة على كلتا الروايتين، لحصولها في ملك المشتري، بسبب الأصل الذي للبائع. وعنه: يتصدقان بها، قال القاضي: هذا على سبيل الاستحباب، لاشتباه الأمر فيها فينظر كم قيمتها قبل بدو صلاحها وبعده؟ فيشتركان فيها أو يتصدقان بها، وإن جهلت القيمة وقف الأمر حتى يصطلحا. فصل: وإذا كانت شجرة تحمل حملين، فباع أحدهما عالماً أنه يحدث الآخر فيختلط بالأول فالبيع باطل، لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه، لأن العادة فيه الترك، فيختلط بالآخر ويتعذر التسليم. فصل: ولا يجوز بيع الرطبة ونحوها مما يثبت أصله في الأرض، ويؤخذ ما يظهر منه بالقطع دفعة بعد أخرى، إلا أن يبيع الظاهر بشرط القطع في الحال، لأن ما في الأرض مغيب، وما يحدث منه معدوم، فلم يجز بيعه، كالذي يحدث من الثمرة. وإذا باع القثاء والباذنجان ونحوها لقطة لقطة جاز، ويكون للمشتري جميع اللقطة، وما حدث للبائع. قال القاضي: ويجوز بيع أصولها، صغاراً كانت أو كباراً، مثمرة أو غير مثمرة، لأنه أصل تكرر منه الثمر فأشبه الشجر يكون حكمه حكم الشجر في أن ما كان من ثمرته ظاهراً عند البيع، فهو للبائع، وما لم يظهر فهو للمشتري. ولا يجوز بيع الفجل والجزر نحوهما في الأرض، لأن المقصود منها مغيب فأشبه بيع النوى في التمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 [ باب بيع المصراة ] لا يحل بيع المصراة، فإن باعها فالبيع صحيح، فإن كانت من بهيمة الأنعام ولم يعلم المشتري ثم علم، فهو مخير بين إمساكها وردها، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاع فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر» . متفق عليه. ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن به، فأثبت الخيار كتسويد الشعر. قال أبو الخطاب: متى علم التصرية فله الخيار، لأنه علم سبب الرد فملكه، كما لو علم العيب. وقال القاضي: لا يثبت له الرد إلا عند انقضاء ثلاثة أيام، لأن اللبن قد يختلف لاختلاف المكان، وتغير العلف فإذا مضت الثلاثة بانت التصرية، ويثبت الخيار على الفور. وقال ابن أبي موسى: إذا علم التصرية فله الخيار إلى تمام ثلاثة أيام من حين البيع، لما روى أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر» . رواه مسلم. فصل : ويلزمه مع ردها صاعاً من تمر بدلاً عن اللبن الموجود حال العقد للخبر. ويكون جيداً غير معيب، لأنه واجب بإطلاق الشرع، فأشبه الواجب في الفطرة، وإن ردها قبل حلبها لم يلزمه شيء، لأنه بدل اللبن، ولم يأخذه، وإن ردها بعد حلبها، ولبنها موجود غير متغير ففيه وجهان: أحدهما: يرده ولا شيء عليه، لأنه بحاله لا عيب فيه. والثاني: عليه صاع تمر، ولا يلزم البائع قبول اللبن، لأنه يسرع إليه التغير، وكونه الضرع أحفظ له، فإن تغير اللبن فعليه الثمن، ولا يلزم البائع قبول اللبن لتغيره. وقال القاضي: يلزمه قبوله لأن النقص فيه حصل باستعلام المبيع. فإن لم يقدر على التمر، فقيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد، لأنه بمنزلة عين أتلفها، ولو رضي بالتصرية وأصاب عيناً سواها فله ردها، لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد بما سواه وعليه مع الرد صاع تمر، لأنه عوض للبن التصرية، فيكون عوضاً له مطلقاً ويحتمل أن لا يلزمه هاهنا إلا مثل اللبن، لبن الأصل وجوب ضمان اللبن بمثله خولف فيما إذا رد المصراة من أجل التصرية للخبر، ففيما إذا ردها لعيب آخر يبقى على الأصل كما لو كانت غير مصراة وفيها لبن. وإن اشترى شاة غير مصراة، فحدث لها لبن فاحتلبه، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 ردها بعيب، فلا شيء عليه، لأن اللبن حدث في ملكه، وإن كان فيها لبن يسير لا يخلو الضرع من مثله، فلا شيء فيه، لأن مثل هذا لا عبرة به. وإن كان كثيراً فعليه مثله، لأن الأصل ضمان اللبن بمثله، فلا يبطل بمخالفته في لبن التصرية، وإن كان باقياً انبنى على رد لبن التصرية، لما ذكرنا، فإن قلنا: لا يرده فبقاؤه كتلفه. وهل له رد المبيع؟ يخرج على الروايتين فيمن اشترى ثوباً فقطعه، ثم علم عيبه. فصل : فإن كانت المصراة أمة، أو أتاناً، ففيه وجهان: أحدهما: لا رد له، لأن لبنها لا عوض له، ولا يقصد قصد لبن الأنعام. والثاني: له الرد، لأن الثمن يختلف بذلك، لأن لبن الأمة يحسن ثدييها، ويرغب فيها ظئراً، ولبن الأتان يراد لولدها، فإن حلبها فلا شيء عليه للبنها، لأنه لا قيمة له. فصل : وكل تدليس بما يختلف به الثمن يثبت خيار الرد قياساً على التصرية، كتجعيد شعر الجارية، وتسويده وتحمير وجهها، وجمع الماء على الرحى وقت عرضها وعلى المشتري. فإن حصل ذلك بغير قصد، كاجتماع اللبن في الضرع بغير تصرية واحمرار وجه الجارية لخجل، أو تعب فهو كالتدليس، لأن الخيار ثبت لدفع الضرر عن المشتري، فلم يختلف بالقصد وعدمه، كالعيب. وإن رضي المشتري بالمدلس، فلا أرش له، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير بين إمساك المصراة بغير شيء، وردها مع التمر. فصل : وإن دلس بما لا يختلف به الثمن، كتبييض الشعر، وتسبيطه، فلا خيار للمشتري، لأنه لا ضرر في ذلك. وإن علف شاة فظنها المشتري حاملاً، أو سود أنامل العبد ليظنه كاتباً، أو حداداً، أو كانت الشاة عظيمة الضرع خلقة، فظنها كثيرة اللبن فلا خيار له، لأن ذلك لا ينحصر فيما ظنه المشتري، فإن سواد الأنامل قد يكون لولع، أو خدمة كاتب، أو حداد، أو شروعه في ذلك، وانتفاخ البطن قد يكون للأكل، فظن المشتري غير ذلك طمع لا يثبت له خياراً. [ باب الرد بالعيب ] من علم بسلعته عيباً لم يحل له بيعها حتى يبينه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بينه له» رواه ابن ماجة. فإن باع ولم يبين فالبيع صحيح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صحح بيع المصراة مع نهيه عنه. وحكي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 عن أبي بكر: أن البيع باطل لظاهر النهي، ومن اشترى معيباً أو مصراة أو مدلساً يعلم حاله، فلا خيار له، لأنه بذل الثمن فيه راضياً به عوضاً، فأشبه ما لا عيب فيه. وإن لم يعلم فله الخيار بين رده وأخذ الثمن، لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له، فثبت له الرجوع بالثمن، كما في المصراة - وبين إمساكه المعيب وأخذ أرشه، لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن. فإذا لم يسلم له كان له ما يقابله. كما لو تلف في يده. ومعنى الأرش: أن ينظر بين قيمته سليماً ومعيباً فيؤخذ قدره من الثمن. فإذا نقصه العيب عشر قيمته فأرشه عشر ثمنه لأن ذلك هو المقابل للجزء الفائت. فصل فإن نما المبيع المعيب نماء متصلاً كالسمن والكبر، والتعلم والحمل والثمرة قبل الظهور، وأراد الرد، رده بزيادته، لأنها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلم يجز رده دونها. وإن كانت منفصلة، كالكسب واللبن وما يوهب له، والولد المنفصل، والثمرة الظاهرة رد الأصل وأمسك النماء. وعنه: ليس له رده دون نمائه، والأول المذهب لما روت عائشة: «أن رجلاً ابتاع غلاماً فاستغله ما شاء الله ثم وجد به عيباً فرده. فقال يا رسول الله: إنه استغل غلامي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الخراج بالضمان» رواه أبو داود. إلا أن الولد إن كان لآدمية لم يملك ردها دونه، لأن فيه تفريقاً بينهما، وذكر الشريف: أن له ردها، لأنه موضع حاجة، أشبه من ولدت حراً فباعها دونه، والأول أولى، لأن الجمع ممكن بأخذ الأرش أو ردهما معاً. فإن كان المبيع حاملاً فولدت عند المشتري، ثم ردها رد الولد معها، لأنه من جملة المبيع، والولادة نماء متصل. فصل وإن تعيب المبيع عند المشتري ففيه روايتان: إحداهما: له أرش العيب وليس له رده، لأن في رده ضرراً، فلا يزال الضرر بالضرر. والثانية: يرده، وأرش العيب الحادث عنده، ويأخذ الثمن، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر برد المصراة بعد أخذ لبنها، ورد عوضه، ولأن جواز الرد كان ثابتاً، فلا يزول إلا بدليل، ولا نص في منع الرد، ولا قياس فيبقى بحاله. فإن دلس البائع العيب فتعيب عند المشتري، أو تلف بفعله أو غيره، فالمنصوص أنه يرجع بالثمن ولا شيء عليه، لأنه مغرور، والقياس يقتضي التسوية بين المدلس وغيره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب على مشتري المصراة عوض لبنها مع التدليس، وجعل الخراج بالضمان، ولم يفرق بين مدلس وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وعن أحمد: في المبيع إذا كان صانعاً، أو كاتباً فنسي عند المشتري يرده بالعيب، ولا شيء معه. وهذا يحتمل أن يكون فيمن دلس العيب دون غيره، لأن الصناعة والكتابة متقومة تضمن في الغصب. وعلله القاضي: أنه ليس بنقص في العين، ويمكن تذكره فيعود. فصل وما تعيَّب قبل قبضه، وهو مما يدخل في ضمان المشتري، فهو كالعيب الحادث في يده. وإن كان مما ضمانه على البائع، فهو كالعيب القديم، لأن من ضمن جملة المبيع ضمن أجزاءه. فصل وإن وطئ المشتري الأمة ففيه روايتان: إحداهما: ليس له ردها وله الأرش، لأن الوطء يجري مجرى الجناية، لا يخلو من عقر أو عقوبة. والثانية: له ردها إن كانت ثيباً ولا شيء معها، لأنها معنى لا ينقص عينها، ولا قيمتها، ولا يتضمن الرضاء بالعيب، فأشبه الاستخدام. وإن كانت بكراً فهو كتعيبها عنده، فإن ردها رد أرش نقصها كما لو عابت عنده. فصل فإن لم يعلم بالعيب حتى هلك المبيع بقتل أو غيره أو أعتقه أو وقفه، أو أبق أو باعه، أو وهبه فله الأرش، لأنه تعذر عليه الرد. وإن فعل ذلك مع علمه بالعيب فلا أرش له، لرضاه به معيباً. ذكره القاضي. وقال أبو الخطاب في المبيع والهبة: رواية أخرى: له الأرش، ولم يعتبر علمه، وهو قياس المذهب، لأننا جوزنا له إمساكه بالأرش، وتصرفه فيه كإمساكه. وإن باعه قبل العلم، ثم رجع إليه ببيع أو غيره فله رده أو أرشه، لأن ذلك امتنع عليه، لخروجه من ملكه، وبرجوعه إليه عاد الإمكان. فصل وإن باع بعضه أو وهبه فله أرش الباقي، فأما أرش ما باع فينبني على ما قلنا في بيع الجميع وفي جواز رد الباقي بحصته من الثمن روايتان: إحداهما: يجوز. ذكره الخرقي، لأن رده ممكن. والأخرى: لا يجوز. لأن فيه تبعيض الصفقة على البائع فلم يجز. كما لو كان المبيع عينين ينقصهما التفريق. ولو اشترى شيئين فوجد بأحدهما عيباً، فله ردهما معاً أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 إمساكهما، وأخذ الأرش، فإن أراد رد المعيب وحده ففيه الروايتان، إلا أن يكونا مما ينقصهما التفريق، كمصراعي باب، وزوجي خف، أو ممن لا يحل التفريق بينهما، كالأخوين فليس له إلا ردهما أو إمساكهما مع الأرش، لأن في رد أحدهما تفريقاً محرماً، أو إضراراً بالبائع، لنقصان قيمة المردود بالتفريق. وإن تلف أحد المبيعين ووجد بالآخر عيباً، فعلى الروايتين. وإن اختلفا في قيمة التالف فالقول قول المشتري، لأنه كالغارم، فهو كالمستعير والغاصب، وإن كانا معيبين باقيين، فأراد رد أحدهما وحده، فهي كالتي قبلها. وقال القاضي: ليس له رد أحدهما، لأنه أمكنه ردهما معاً. ولو كان المبيع عيناً واحدة فأراد رد بعضها، لم يملك ذلك وجهاً واحداً، لأن فيه تشقيص المبيع على البائع، وإلحاقاً لضرر الشركة به. فصل وإن اشترى اثنان شيئاً فوجداه معيباً فرضيه أحدهما، ففيها روايتان: إحداهما: للآخر رده نصيبه، لأنه جميع ما ملكه بالعقد فملك رده بذلك، كما لو انفرد. والأخرى: ليس له رد، لأن المبيع خرج عن ملك البائع كاملاً فلم يملك المشتري رده مشقصاً. كما لو اشترى العين كلها ثم رد بعضها. ولو ورث اثنان خيار عيب في سلعة، فرضي أحدهما سقط رد الآخر، لأن العقد عليها واحد، بخلاف شراء الاثنين، فإنه عقدان. وإن اشترى واحد من اثنين شيئاً، فوجده معيباً، فله رد نصيب أحدهما عليه منفرداً، لأنه يرد عليه جميع ما باعه. فصل ومن اشترى معيباً فزال عيبه قبل رده، مثل أن يشتري أمة مزوجة فطلقها الزوج، فلا خيار له، نص عليه أحمد، لأن الضرر زال. ولو اشترى مصراة فصار لبنها عادة، فلا خيار له. وإن قال البائع: أنا أزيل العيب، مثل أن يشتري أرضاً فيها حجارة تضرها، فقال البائع: أنا أقلعها في مدة لا [أجرة] لها، أو اشترى أرضاً فيها بذر للبائع، فقال: أنا أحوله سقط الرد، لأن الضرر يزول من غير ضرر. فصل ذكر القاضي ما يدل على أن في خيار العيب روايتين: إحداهما: هو على التراخي، لأنه خيار لدفع الضرر المتحقق، فكان على التراخي، كخيار القصاص. فعلى هذا هو على خيار ما لم يوجد منه ما يدل على الرضى من التصرف على ما ذكرنا في باب الخيار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 والثانية: هو على الفور، لأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فأشبه خيار الشفعة. ولو حلب لبنها الحادث أو ركبها ليردها أو ليختبرها لم يكن رضى، لأنه حق له إلى أن يرد، فلم يمنع منه. فصل وله الرد من غير رضى صاحبه ولا حضوره، لأنه رفع عقد جعل إليه فلم يعتبر ذلك فيه، كالطلاق. ويجوز من غير حكم حاكم، لأنه مجمع عليه، فلم يحتج إلى حاكم، كفسخ المعتقة للنكاح. فصل والعيوب هي النقائص المعدودة عيباً، فما خفي منها رجع إلى أهل الخبرة به. فمن العيوب في الخلقة المرض، والجنون والجذام والبرص والعمى والعور، والعرج والعفل والقرع، والصمم والخرس، والأصبع الزائدة والناقصة، والحول والخوص والسبل، وهو زيادة في الأجفان والبخر والخصا والتخنيث، وكونه خنثى والحمق البات، والتزوج في الرقيق. فأما عدم الختان فليس بعيب في الصغير، لأنه لم يفت وقته، ولا في الكبير المجلوب، لأن ذلك عادتهم، وهو عيب في الكبير المولود في الإسلام، لأن عادتهم الختان والكبير يخاف عليه، فأما العيوب المنسوبة إلى فعله كالسرقة والإباق والبول في الفراش، فإن كانت من مميز جاوز العشر فهي عيب، لأنه يذهب بمال سيده أو يفسد فراشه، وليس عيباً في الصغير، لأنه لا يكون لضعف بنيته أو عقله والزنا عيب. لأنه يوجب الحدود وكذلك شرب المسكر، والحمل عيب في الأمة، لأنه يخاف منه عليها، وليس بعيب في غيرها، لعدم ذلك. والثيوبة وكون الأمة لا تحيض ليس بعيب، لأن الإطلاق لا يقتضي وجود ذلك ولا عدمه، وكذلك كونها محرمة على المشتري بنسب أو رضاع أو إحرام أو عدة، لأن ما يختص بالمشتري لا ينقص ثمنها، وسائر ذلك يزول عن قرب. ومعرفة الغناء والحجامة ليس بعيب، لأن النقص فعل ذلك لا العلم به. والكفر وكونه ولد زنا ليس بعيب، لأن الأصل في الرقيق الكفر، ولا يقصد فيهم النسب، وكون الجارية لا تحسن الطبخ والخبز ليس بعيب، لأن هذه صناعة، والجهل به كالجهل بسائر الصنائع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 فصل وإن شرط في المبيع صفة مقصودة، مثل أن شرط الأمة بكراً أو جعدة أو العبد كاتباً أو ذا صناعة أو فحلاً، أو خصياً أو مسلماً، أو الدابة هملاجة، أو الفهد صيوداً، أو الشاة لبوناً، فبان خلاف ذلك فله الرد، لأنه لم يسلم له ما بذل الثمن فيه، فملك الرد، كما لو وجده معيباً. وإن شرط الأمة سبطة أو جاهلة، فبانت جعدة أو عالمة فلا خيار له، لأنها زيادة، وإن شرطها ثيباً فبانت بكراً فكذلك، ويحتمل أن له الخيار، لأنه قد يشترط الثيوبة لعجزه عن البكر، وإن شرطها كافرة فبانت مسلمة، ففيه وجهان: أحدهما: لا خيار له، لأنها زيادة. والثاني: له الخيار، لأنه يتعلق به غرض صحيح، وهو صلاحها للمسلم والكافر، وإن شرطها حاملاً صح. وقال القاضي: قياس المذهب أنه لا يصح، لأن الحمل لا حكم له، والصحيح الأول، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حكم في الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها» . ولأن الحمل يثبت الرد في المعيبة، ويوجب النفقة للمبتوتة، ويمنع كون الدم فيه حيضاً، والطلاق فيه بدعة، ويجوز الفطر في رمضان للخوف عليه، ويمنع إقامة الحد والقصاص. وإن شرط في الطير أنه مصوت، أو في الديك أنه يصيح في وقت من الليل صح، لأن ذلك عادة له، فجرى مجرى الصيد في الفهد، وقال بعض أصحابنا: لا يصح، لأنه يجوز أن يوجد وأن لا يوجد. وإن شرط أن يجيء من مسافة ذكرها صح، لأن ذلك عادة، وفيه قصد صحيح لتبليغ الأخبار، فهو كالصيد في الفهد. وقال القاضي: لا يصح، لأنه تعذيب للحيوان. وإن شرط الغناء في الأمة، وفي الكبش أنه مناطح، وفي الديك أنه مقاتل لم يصح لأنه منهي عنه، فهو كالزنا في الأمة. فصل وإذا اشترى ما مأكوله في جوفه فوجده معيباً فله الرد. وعنه: لا شيء له، لأنه لا تدليس من البائع، ولا يمكنه معرفة باطنه، والأول: أصح، لأن عقد البيع اقتضى السلامة، فإذا بان معيباً ملك رده كالعبد. وإن كان مما لا قيمة له، كبيض الدجاج، والجوز الخرب، والرمان الفاسد رجع بالثمن كله، لأن هذا ليس بمال فبيعه فاسد، كالحشرات. وإن كان الفساد في بعضه رجع بقسطه. وإن كان مما لمكسوره قيمة، كجوز الهند وبيض النعام، فقال الخرقي: يرجع بالثمن وعليه أرش الكسر، كما لو كان المبيع ثوباً فقطعه، واختار القاضي: أنه إن كان الكسر لا يزيد على ما يحصل به استعلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 المبيع، رده ولا شيء عليه، لأن ذلك حصل ضرورة استعلام المبيع، والبائع سلطه عليه فلم يمنع الرد، كحلب لبن المصراة، وإن زاد على ذلك خرج فيه روايتان، كسائر المعيب الذي يعيب عنده. فصل وإن اشترى ثوباً لا ينقصه نشره فنشره فله رده بالعيب، وإن كان ذلك ينقصه فهو كجوز الهند. وإن صبغ الثوب ثم وجده معيباً فله الأرش لا غير. وعنه: يرده ويكون شريكاً للبائع بقيمة الصبغ. وعنه: يرده ويأخذ زيادته بالصبغ. والأول: المذهب، لأن إجبار البائع على بذل ثمن الصبغ إجبار على المعاوضة، فلم يجز لقول الله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] . فصل وإذا اشترط البائع البراءة من كل عيب لم يبرأ لأن البراءة مرفق في البيع لا يثبت إلا بالشرط، فلم يثبت مع الجهالة كالأجل، وعنه: يبرأ، إلا أن يكون البائع علم بالعيب فكتمه، لما روي أن ابن عمر باع عبداً من زيد بن ثابت بشرط البراءة بثمانمائة درهم، فأصاب به عيباً، فأراد رده على ابن عمر، فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان، فقال عثمان لابن عمر: أتحلف أنك لم تعلم بهذا العيب، فقال: لا، فرده عليه. وهذه القصة اشتهرت فلم تنكر، فكانت إجماعاً، ويتخرج أن يبرأ مطلقاً بناء على قوله في صحة البراءة من المجهول، ولأنه إسقاط حق من مجهول لا تسليم فيه، فصح كالعتاق. وإن قلنا بفساد الشرط فالبيع صحيح، لأن ابن عمر باع بشرط البراءة، فأجمعوا على صحته، ويتخرج فساده بناء على الشروط الفاسدة. [ باب بيع المرابحة والمواضعة والتولية والإقالة ] بيع المرابحة: أن يخبر برأس ماله ثم يبيع به ويربح، فيقول: رأس مالي فيه مائة، بعتكه بها وربح عشرة، فهذا جائز غير مكروه، لأن الثمن معلوم. وإن قال: بعتك بها وربح درهم في كل عشرة، أو قال ده يازده، أو ده دواز ده، فهو صحيح أيضاً جائز غير مكروه لأن الثمن معلوم. فهي كالتي قبلها، لكن كرهه أحمد، لأن ابن عمر وابن عباس كرهاه، لأنه بيع الأعاجم ولأن الثمن قد لا يعلم في الحال. فصل: ولا يخبر إلا بما يلزم من الثمن، وما يزاد فيه في مدة الخيار يخبر به، لأنه من الثمن. وما حط عنه في الخيار نقصه لذلك. وما كان بعد لزوم العقد لا يخبر به، لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 تبرع من أحد المتعاقدين لا يلزمه، فلم يخبر به كما لو وهبه شيئاً. وإن تمت العين ولم يزد على رأس المال، فإن كان النماء منفصلاً لم تنقص به العين، فله أخذه ويخبر برأس المال، لأنه في مقابلة العين دون نمائها. وعنه: أنه يبين ذلك، لأنه أبعد من اللبس. وإن عمل في العين عملاً من قصارة، أو خياطة أو حمل، أخبر بالحال على وجهه، سواء عمله بنفسه أو بالأجرة، قال أحمد: يبين ما اشتراه به وما لزمه. فإن ضم ذلك إلى رأس المال وأخبر أنه اشترى به لم يجز، لأنه كذب، وإن قال: تحصل علي بكذا لم يجز فيما عمله بنفسه، لأنه كذب. وجاز فيما استأجر عليه في أحد الوجهين، لأنه صادق، والآخر: لا يجوز، وهو ظاهر كلام أحمد، لأن فيه تلبيساً فلعل المشتري لو علم الحال لم يرغب فيه، لكون ذلك العمل مما لا حاجة به إليه، فأشبه ما أنفق عليه في مؤنته وكسوته، فإنه لا يجوز الإخبار به، وجهاً واحداً وكذلك كري مخزنه وحافظه، إلا أن يخبر بالحال على وجهه، فإن ذلك لا يزيد في ثمنه. فصل: فإن نقص المبيع لمرض، أو تلف جزء، أو تعيب أو وجد به عيباً، أو جني عليه فأخذ أرشه، أخبر بالحال على وجهه. وقال أبو الخطاب: يحط الأرش من الثمن، ويخبر بما بقي، فيقول: تقوم علي بكذا. والأول أولى، لأنه أبعد من اللبس والفرق بين الأرش والكسب أن الأرش عوض ثمن، فهو كثمن جزء بيع منه، والكسب لم ينقص به المبيع. ولو جنى العبد ففداه المشتري لم يرد ذلك في رأس المال، لأنه ليس من الثمن ولا زاد به المبيع. وإن نقص المبيع لتغير الأسعار فقال أصحابنا: لا يلزمه الخبر به، لأنه صادق بدونه. والأولى: أنه يلزمه، لأن المشتري لو علم ذلك لم يرضى به، فجرى مجرى نقصه بعيب. وإن حط بعض رأس المال، وأخبر بالباقي لم يجز، لأنه كذب وتغرير بالمشتري. فصل: فإن اشترى اثنان شيئاً وتقاسماه، فقال أحمد: لا يبيع أحدهما مرابحة، إلا أن يقول: اشتريناه جماعة ثم تقاسمناه. وإن اشترى شيئين بثمن واحد، ثم أراد بيع أحدهما، أو اشترى شجرة مثمرة، فأخذ ثمرتها، أو شاة فأخذ صوفها، أو لبنها الذي كان فيها، ثم أراد بيع الأصل مرابحة أخبر بالحال على وجهه، ولا يجوز بيعه بحصته من الثمن، لأن قسمة الثمن طريقه الظن، واحتمال الخطأ فيه كثير، ومبنى المرابحة على الأمانة فلم يجز هذا فيه. فإن كان المبيع مما ينقسم الثمن عليه بالأجزاء، كالمكيل والموزون من جنس جاز بيعه بحصته من الثمن، لأنه ينقسم على أجزائه، وجزؤه معلوم يقيناً. وإن أسلم في ثوبين صفقة واحدة ثمناً واحداً، فأخذهما على الصفة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 فالقياس جواز بيع أحدهما بحصته من الثمن، لأن الثمن منقسم عليهما نصفين، وما زاد على الصفة في أحدهما لم يقابله شيء من الثمن، فجرى مجرى النماء الحادث بعد الشراء. فصل: فإن اشتراه من أبيه، أو ممن لا تقبل شهادته له لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره، لأنه متهم في حقهم أنه يحابيهم، وإن اشتراه من غلام دكانه أو غيره حيلة لم يجز بيعه مرابحة، وإن لم يكن حيلة جاز، لأنه لا تهمة في حقه. فصل: وإن اشترى شيئاً ثم باعه بربح، ثم اشتراه، فأعجب أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يخبر بالحال على وجهه، أو يطرح الربح من الثمن الثاني، ويخبر بما بقي، لأن هذا مذهب ابن سيرين، ولأن الربح أحد نوعي النماء، فيخبر به في المرابحة كالولد والثمرة، ولعل هذا من أحمد على سبيل الاستحباب، لأنه أبلغ في البيان. ويجوز الإخبار بالثمن الثاني وحده، لأنه الثمن الذي حصل به هذا الملك، فجاز الخبر به وحده كما لو خسر فيها. فصل: فإن بان للمشتري أن البائع أخبر بأكثر من رأس المال فالبيع صحيح لأنه زاد في الثمن فلم يمنع صحته كالتصرية، ويرجع عليه بالزيادة وحظها بالربح، لأنه باع برأس ماله وما قرره من الربح. فإذا بان رأس المال كان معيباً به وبقدره من الربح. وإن اختار المشتري رد المبيع، وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له، لأنه رضي المبيع بثمن حصل له بدونه، فلم يكن له خيار، كما لو اشترى معيباً فبان صحيحاً، فأما البائع فلا خيار له، لأنه باع برأس ماله وقدره من الربح، وحصل به ما عقد به، وفي سائر ما يلزمه الإخبار بالحال على وجهه، فلم يفعل يخير المشتري بين أخذه بما اشترى به وبين الفسخ، لأنه ليس للمبيع ثمن غير ما عقد به، وإن اشتراه بثمن مؤجل فلم يتبين، فعنه أنه مخير بين الفسخ، وأخذه بالثمن حالا لأن البائع لم يرض بذمة المشتري، فلا يلزمه الرضى بها، وعنه: يخير بين الفسخ وأخذه بالثمن مؤجلاً، لأنه الثمن الذي اشترى به البائع، والتأجيل صفة له فأشبه المخبر بزيادة في القدر، وإن علم ذلك بعد تلف المبيع، حبس المال بقدر الأجل. فصل: وإن أخبر بالثمن ثم قال غلطت والثمن أكثر، ففيه ثلاث روايات: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 إحداهن: لا يقبل قوله إلا ببينة، لأنه مقر على نفسه فلم يقبل قوله في الغلط إلا ببينة، كالمضارب يقر بربح. والثانية: إن كان معروفاً بالصدق قبل قوله وإلا فلا، لأنه لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه، والقول قول الأمين مع يمينه. والثالثة: لا يقبل قوله، وإن أقام بينة ما لم يصدقه المشتري لإقراره ابتدأ بكذب بينته، فأشبه ما لو أقر بدين. فإن قلنا بقبول بينته، فقال المشتري: أحلفوه أنه وقت البيع لم يعلم أن ثمنها أكثر، فعلى البائع اليمين، فإن نكل أو أقر لم يكن له غير ما وقع عليه العقد، لأنه عقد بهذا الثمن عالماً، فلم يكن له غيره، كالمشتري إذا علم العيب حال الشراء، وإن حلف خير المشتري بين فسخ العقد، لأنه لم يرضه بأكثر مما بذله وبين قبوله مع إعطائه ما غلط به حظه من الربح، لأن البائع إنما باعها بهذا الثمن ظناً أنه رأس المال، فعليه ضرر بالنقصان منه. فإذا أخذها المشتري بذلك فلا خيار للبائع، لأنه قد زال عنه الضرر بالتزام المشتري ما غلط به، وإن اختار الفسخ فقال البائع: أنا أسقط الزيادة عنك سقط الفسخ، لأنه قد بذلها له بالثمن الذي وقع عليه العقد وتراضيا به. فصل: وبيع التولية: هو البيع بمثل الثمن الذي اشترى به، وحكمه حكم المرابحة فيما ذكرنا، ويصح بلفظ البيع، ولفظ التولية، لأنه مؤد لمعناه. قال أحمد: ولا بأس ببيع الرقم، وهو الثمن الذي يكتب على الثوب، ولا بد من علمه حال العقد، ليكون معلوماً. فإن لم يعلم فالبيع باطل، لأن الثمن مجهول. وقال: المساومة عندي أسهل من المرابحة، لأن بيع المرابحة يعتبر به أمانة واسترسال من المشتري، ويحتاج إلى تحري الصدق واجتناب الريبة. وقال في رجلين اشتريا ثوباً بعشرين، ثم اشترى أحدهما من صاحبه باثنين وعشرين: فإنه يخير في المرابحة بإحدى وعشرين، لأنه اشترى نصفه بعشرة، ونصفه بأحد عشر. فصل: وبيع المواضعة: أن يخبر برأس المال، ثم يبيع به ووضعه كذا، أو يقول: ووضيعة درهم من كل عشرة. وحكمه حكم المرابحة في تفصيله، فإذا قال: رأس مالي فيه مائة بعتك بها ووضيعة درهم من كل عشرة، فالثمن تسعون. لأن المحطوط العشر، وعشر المائة عشرة، وإن قال بوضيعة درهم لكل عشرة، كان الحط من كل أحد عشرة درهماً، درهماً، والباقي تسعون وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، لأنه إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 قال: لكل عشرة درهم، كان الدرهم من غيرها، فيكون من كل أحد عشرة درهماً درهم، وإذا قال: من كل عشرة كان الحط منها فيكون عشرها. فصل: وإذا اشترى نصف عبد بعشرة، واشترى آخر نصفه بعشرين، ثم باعاه بثمن واحد مساومة، فالثمن بينهما نصفان، لأنه عوض عنه فيكون بينهما على حسب ملكيهما فيه. وإن باعاه مرابحة، فكذلك في إحدى الروايتين لذلك. والأخرى: هو بينهما على قدر رؤوس أموالهما، لأن بيع المرابحة يقتضي كون الثمن في مقابلة كل واحد منهما، وقيل: المذهب رواية واحدة أنه بينهما نصفان. والقول الآخر وجه خرجه أبو بكر. فصل: وإقالة النادم في البيع مستحبة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» أخرجه أبو داود. وهي فسخ في أصح الروايتين. وعنه: أنها بيع، لأنها نقل الملك بعوض على وجه التراضي فكانت بيعاً، كالأول، والأولى أولى، لأن الإقالة في السلم تجوز إجماعاً. وبيع السلم لا يجوز قبل قبضه، ولأن الإقالة الرفع والإزالة، ومنه: أقاله الله عثرته. وذلك هو الفسخ، ولأنها تتقدر بالثمن الأول، وتحصل بلفظ لا ينعقد به البيع فكانت فسخاً كالرد بالعيب. فعلى هذا تجوز في المبيع قبل قبضه، ولا تجب بها شفعة، وتتقدر بالثمن الأول، ومن حلف لا يبيع، فأقال لا يحنث، وعلى الأخرى تنعكس هذه الأحكام، إلا بمثل الثمن، فإنه على وجهين أصحهما أن تتقدر به، لأنها خصت بمثل الثمن كالتولية، فإن قال بأكثر منه لم يصح وكان الملك باقياً للمشتري، لأنهما تفاضلا فيما يعتبر فيه التماثل، فلم يصح كبيع درهم بدرهمين. [ باب اختلاف المتبايعين ] إذا اختلفا في قدر الثمن والسلعة قائمة تحالفا. لما روى ابن مسعود عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة والبيع قائم بعينه، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع» رواه ابن ماجة. وفي لفظ «تحالفا» وكان البائع يدعي عقداً بثمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 كثير ينكره المشتري، والمشتري يدعي عقداً ينكره البائع، والقول قول المنكر مع يمينه. ويبدأ بيمين البائع، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل القول ما قال البائع، وكان جنبته أقوى، لأنهما إذا تحالفا رجع المبيع إليه، فكانت البداية به أولى. كصاحب اليد. ويجب الجمع في اليمين بين النفي والإثبات، لأنه يدعي عقداً وينكر آخر فيحلف عليهما، ويقدم النفي فيقول: والله ما بعته بكذا، ولقد بعته بكذا، لأن الأصل في اليمين أنها للنفي، ويكفيه يمين واحدة، لأنه أقرب إلى فصل القضاء فإن نكل أحدهما لزمه ما قال صاحبه، وإن رضي أحدهما بما قال الآخر فلا يمين. وإن حلفا ثم رضي أحدهما بما قال الآخر أجبر على القبول، لأنه قد وصل إليه ما ادعاه، وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما الفسخ، ويحتمل أن الفسخ للحاكم، لأن العقد صحيح، وإنما يفسخ لتعذر إمضائه في الحكم فأشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان. والأول: المذهب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو يترادان البيع» فجعله إليهما. وفي سياقه أن ابن مسعود رواه للأشعث بن قيس. وقد اختلف في ثمن مبيع، فقال الأشعث: فإني أرى أن أرد البيع. ولأنه فسخ لاستدراك الظلامة، أشبه رد المعيب. فصل وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الفسخ ينفذ ظاهراً وباطناً، لأنه فسخ لاستدراك الظلامة، فأشبه رد المعيب. واختار أبو الخطاب أن المشتري إن كان ظالماً، ففسخ البائع ينفذ ظاهراً وباطناً، لعجزه عن استيفاء حقه فملك الفسخ، كما لو أفلس المشتري. وإن كان البائع ظالماً لم ينفذ فسخه باطناً، لأنه يمكنه إمضاء العقد فلم ينفذ فسخه، ولم يملك التصرف في المبيع، لأنه غاصب. فصل وإن اختلفا بعد تلف المبيع ففيه روايتان: إحداهما: يحالفان ويفسخان البيع، لأن المعنى الذي شرع له التحالف حال قيام السلعة موجود حال تلفها فيشرع، ويجب رد قيمة السلعة، فإن اختلفا في قيمتها وجب قيمة مثلها، موصوفاً بصفاتها، وإن زادت على ما ادعاه البائع، لأن الثمن سقط ووجبت القيمة. فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشتري مع يمينه، لأنه غارم. والثانية: القول قول المشتري مع يمينه، اختارها أبو بكر، لقوله في الحديث: «فالبيع قائم بعينه» . فمفهومه أن لا يشرع التحالف مع تلفها، ولأنهما اتفقا على انتقال المبيع إلى المشتري بثمن، واختلفا في الزائد الذي يدعيه البائع وينكره المشتري، والقول قول المنكر، وإنما ترك هذا مع قيام السلعة لإمكان التراد، ولا يمكن رد السلعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 بعد تلفها، وإن تقايلا المبيع، أو رد بعيب، ثم اختلفا في الثمن، فقال البائع: هو قليل، وقال المشتري: هو كثير، فالقول قول البائع، لأن البيع قد انفسخ والبائع منكر لما يدعيه المشتري لا غير. وإن مات المتبايعان، فورثتهما بمنزلتهما، لأنها يمين في المال، فقام الوارث فيها مقام الموروث، كاليمين في الدعوى. وإن كان المبيع بين وكيلين تحالفا لأنهما عاقدان، فتحالفا كالمالكين. فصل وإن اختلفا في قدر المبيع، فقال: بعتك هذا العبد بألف، فقال: بل هو والجارية، فالقول قول البائع نص عليه، لأنه ينكر بيع الجارية فاختصت اليمين به. كما لو اختلفا في أصل العقد. وإن قال: بعتك هذا العبد، فقال: بل بعتني هذا الثوب، حلف كل واحد منهما على ما أنكره خاصة، ثم إن كان العبد في يد البائع فليس للمشتري أخذه، لأنه لا يدعيه، وإن كان في يد المشتري فليس للبائع أخذه لذلك، إلا أن يتعذر عليه ثمنه فيفسخ البيع ويأخذه، والثوب يقر في يد البائع، ويرد إليه إن كان عند المشتري. وإن قامت بينة بالعقدين ثبتا. وإن قامت بينة أحدهما ثبت، ويحلف المنكر للآخر ويبطل حكمه. فصل وإن اختلفا في صفة الثمن رجع إلى نقد البلد، نص عليه، فإن كان فيه نقود رجع إلى أوسطها، وعلى من القول قوله اليمين، لأن الظاهر صدقه، فكان القول قوله، كالمنكر، وقال القاضي: يتحالفان. فصل وإن اختلفا في أجل، أو شرط، أو رهن، أو ضمين ونحوه، ففيه روايتان: إحداهما: القول قول من ينكره مع يمينه، لأنه منكر فأشبه منكر العقد من أصله. والثانية: يتحالفان لأنهما اختلفا في صفة العقد، فأشبه ما لو اختلفا في قدر الثمن، وإن اختلفا فيما يفسد العقد فالقول قول من ينفيه، لأن ظاهر حال المسلم تعاطي الصحيح. وإن قال أحدهما: كنت مكرهاً، أو مجنوناً فالقول قول الآخر، لأن الأصل معه، وإن قال: كنت صغيراً فكذلك، نص عليه، لأنهما اختلفا فيما يفسد العقد، فقدم قول من يدعي صحته، ويحتمل أن القول قول مدعي الصغر، لأنه الأصل، وإن قال عبد: بعتك بغير إذن سيدي، فأنكره المشتري، فالقول قول المشتري، لأن الأصل الصحة، وإن أنكره السيد فالقول قوله، لأن الأصل معه، ولا دليل على خلافه. وإن قال أحد المتصارفين: تفرقنا قبل القبض، أو ادعى فسخ العقد، وأنكره الآخر، فالقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 قول مدعي الصحة، لأن الأصل معه. وإن اختلفا في عيب يحدث مثله، فادعى كل واحد منهما أنه حدث عند صاحبه، ففيه روايتان: إحداهما: القول قول البائع، لأن الأصل عدم العيب. والثاني: القول قول المشتري، لأن الأصل عدم القبض للجزء الفائت، وعدم استحقاق ما يقابله من الثمن. وإن رد بعيب، فقال البائع: ليس هذا المبيع فالقول قوله، لأن الأصل سلامة المبيع وبقاء العقد. وإن قبض المسلم فيه أو المبيع بالكيل، ثم قال: غلطت علي في الكيل، ففيه وجهان: أحدهما: القول قول البائع، لأن الأصل السلامة من الغلط. والثاني: القول قول المشتري، لأن الأصل عدم القبض لما أنكر قبضه، وإن كان قبضه جزافاً، فالقول قوله في قدره، وجهاً واحداً. فصل وإن باعه بثمن معين، وقال: كل واحد منهما لا أسلم ما بعته حتى أقبض عوضه، جعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما معاً، لأنهما سواء في تعلق حقوقهما بالعين، وإن كان البيع بثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع أولاً، لتعلق حق المشتري بعينه، فقدم على ما تعلق بالذمة، كأرش الجناية مع الدين، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن. فإن كان معسراً أو ماله غائب في مسافة القصر، فللبائع فسخ المشتري على تسليم الثمن. فإن كان معسراً أو ماله غائب في مسافة القصر، فللبائع فسخ البيع، لأن عليه ضرراً في تأخير الثمن، فجاز له الرجوع إلى عين ماله، كما لو أفلس المشتري. وإن كان الثمن حاضراً أجبر على دفعه في الحال، وإن كان في داره أو دكانه حجر عليه في المبيع، وفي سائر ماله حتى يسلمه، لئلا يتصرف في المبيع، فيضر بالبائع. وإن كان غائباً دون مسافة القصر ففيه وجهان: أحدهما: جاز له الفسخ، لأنه تعذر الثمن للإعسار أشبه الفلس. والثاني: لا يفسخ، ولكن يحجر على المشتري، لأنه في حكم الحاضر، أشبه الذي في البلد. والصحيح عندي أنه لا يجب عليه تسليم المبيع ما لم يحضر الثمن ويمكن أخذه لأن في تسليمه بدون ذلك ضرراً وخطراً بفوات الثمن عليه يلزمه تسليم عوضه قياساً على العوض الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 [ كتاب السلم ] السلم: أن يسلم عيناً حاضرة في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، وهو نوع من البيع ينعقد بلفظ البيع والسلف، وتعتبره في شروط البيع، ويزيد بشروط ستة: أحدهما: أن يكون مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهراً، لأنه بيع بالصفة فيشترط إمكان ضبطها، فيصح السلم في المكيل والموزون والمزروع لما روى ابن عباس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قدم المدينة، وهم يسلفون الثمار السنتين والثلاث، فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم إلى أجل معلوم» متفق عليه. وقال عبد الله بن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى: «كنا نصيب المغانم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب فقيل: أكان لهم زرع أم لم يكن؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك» . رواه البخاري. فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر، وقسنا عليه ما يضبط بالصفة، لأنه في معناه، ويصح في الخبر واللبأ والشواء، لأن عمل النار فيه معتاد ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة فصح السلف فيه، كالمجفف بالشمس وقال القاضي: لا يصح الشواء واللحم المطبوخ، لأن عمل النار فيه فيختلف فلا ينضبط. فصل: ولا يصح فيما لا ينضبط، كالجوهر واللؤلؤ والزبرجد والياقوت والعقيق ونحوها، لأنها تختلف اختلافاً متبايناً بالكبر والصغر، وحسن التدوير، وزيادة ضوئها، ولا يمكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 تقديرها ببيض العصفور ونحوه، لأنها تختلف. وفي الحوامل من الحيوان، والشاة اللبون، والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط وجهان: أحدهما: لا يصح أن يسلم فيه، لأن الصفة لا تأتي عليه، والولد واللبن مجهول. والثاني: يصح، لأن الحمل واللبن لا حكم لهما مع الأم بدليل البيع، والأواني يمكن ضبطها بسعة رأسها وأسفلها، وعلو حائطها فهي كالأواني المربعة، وما فيه خلط من غيره ينقسم أربعة أقسام: أحدها: ما خلطه لمصلحته، وهو غير مقصود في نفسه، كالإنفحة في الجبن، والملح في الخبز والشيرج، والماء في خل التمر فيصح السلم فيه لأنه يسير للمصلحة. الثاني: أخلاط متميزة مقصودة كثوب منسوج من شيئين فيصح السلم فيه لأن ضبطه ممكن، وفي معناه النبل والنشاب. وقال القاضي: لا يصح السلم فيهما، لأن فيه أخلاطاً ويختلف طرفاه ووسطه، فأشبه القسي، والأول أصح، لأن أخلاطه متميزة ممكن ضبطها، والاختلاف فيه يسير معلوم بالعادة، فهو كالثياب من جنسين بخلاف القسي. الثالث: المغشوش كاللبن المشوب، والحنطة فيها الزوان فلا يصح السلم فيه، لأن غشه يمنع العلم المقصود فيه، فيكون فيه غرر. الرابع: أخلاط مقصودة غير متميزة، كالغالية والند والمعاجين فلا يصح السلم فيه، لأن الصفة لا تأتي عليه، وفي معناه القسي المشتملة على الخشب والقرن والقصب والغزل والتوز فلا يصح السلم فيها للعجز عن مقادير ذلك، وتميز ما فيه منها، وفيه وجه آخر أنه يصح السلم فيها كالثياب. [ فصل في السلم في الحيوان ] فصل: وفي الحيوان روايتان: أظهرهما: صحة السلم فيه، لأن أبا رافع قال: «استسلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رجل بكراً» رواه مسلم. ولأنه يثبت في الذمة صداقاً، فصح السلم فيه كالثياب. والثانية: لا يصح، لأنه يختلف اختلافاً متبايناً مع ذكر أوصافه الظاهرة، فربما تساوى العبدان في الصفات المعتبرة، وأحدهما يساوي أمثال صاحبه. وإن استقصى صفاته كلها تعذر تسليمه. وفي المعدود من الجوز والبيض، والبطيخ والرمان والبقل ونحوه روايتان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 إحداهما: لا يصح لذلك. والثانية: يصح لأن التفاوت يسير، ويمكن ضبطه بعضه بالصغر والكبر، وبعضه بالوزن. وفي الرؤوس والأطراف والجلود من الخلاف مثل ما ذكرنا فيما قبله. فصل: الشرط الثاني: معرفة قدره بالكيل إن كان مكيلاً، وبالوزن إن كان موزوناً، وبالذرع إن كان مذروعاً، لحديث ابن عباس، لأنه عوض غير مشاهد، يثبت في الذمة، فاشترط معرفة قدره كالثمن. ويجب أن يكون ما يقدر به معلوماً عند العامة، فإن قدره بإناء، أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح، لأنه قد يهلك، فيجهل قدره، وهذا غرر لا يحتاج العقد إليه. وإن أسلم في المكيل وزناً، وفي الموزون كيلاً، فعنه: لا يصح، لأنه مبيع اشترط معرفة قدره، فلم يجز بغير ما هو مقدر كالربويات. وعنه: ما يدل على الجواز، لأنه يخرجه عن الجهالة وهو الغرض، ولا بد من تقدير المذروع بالذرع، فأما المعدود فيقدر بالعدد، وقيل بالوزن، لأنه يتباين، والأولى أولى، لأنه يقدر به عنده العامة، والتفاوت يسير، ويضبط بالصغر والكبر، ولهذا لا تقع القيمة بين الجوزتين والبيضتين. فإن كان يتفاوت كثيراً، كالرمان والبطيخ والسفرجل والبقول قدره بالوزن، لأنه أضبط لكثرة تفاوته وتباينه، ولا يمكن ضبطه بالكيل، لتجافيه في المكيال، ولا بالحزم، لأنه يختلف، ويمكن حزم الكبير والصغير، فتعين بالوزن لتقديره. فصل: الشرط الثالث: أن يجعلا له أجلاً معلوماً، فإن أسلم حالاً لم يصح، لحديث ابن عباس، ولأن السلم إنما جاز رخصته للمرافق، ولا يحصل المرفق إلا بالأجل، فلا يصح بدونه، كالكتابة، فإن كان بلفظ البيع صح حالاً، قال القاضي: ويجوز التفرق قبل قبض رأس المال، لأنه بيع، ويحتمل أن لا يجوز لأنه بيع دين بدين. ويشترط في الأجل ثلاث أمور: أحدها: كونه معلوماً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] وللخبر. فإن جعله إلى المحرم أو يوم منه، أو عيد الفطر ونحوها، جاز لقول الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] وإن قدره بغير ذلك مما يعرفه الناس، ككانون وعيد للكفار يعرفه المسلمون، جاز لأنه معلوم لا يختلف. وقال ابن أبي موسى: لا يصح، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ؛ لأنه لا يعرفه كثير من الناس. وإن كان مما لا يعرفه المسلمون، كالشعانين وعيد الفطر، لم يصح، وجهاً واحداً؛ لأن المسلمين لا يعرفونه، ولا يجوز تقليد أهل الذمة، فبقي مجهولاً. وإن جعلا الأجل إلى مدة معلومة كشهر معين تعلق بأولها. ولو قال: محله في رمضان، فكذلك؛ لأنه لو قال لزوجته: أنت طالق في رمضان، طلقت في أوله، ولو احتمل غير الأول لم يقع الطلاق بالشك. وإن جعله اسماً يتناول شيئين كربيع، تعلق بأولها كما لو علقه بشهر، وإن قال: ثلاثة أشهر، انصرف إلى الهلالية؛ لأنها الشهور في لسان الشرع، فإن كان أثناء شهر، كمل بالعدد ثلاثين، والباقي بالأهلة. الأمر الثاني: أن يكون مما لا يختلف، فإن جعله إلى الحصاد والجذاذ والموسم، لم يصح؛ لأن ابن عباس قال: لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم. ولأن ذلك يختلف ويقرب ويبعد، فلم يجز جعله أجلاً، كقدوم زيد. وعنه: أنه قال: أرجو أن لا يكون به بأس؛ لأن ابن عمر كان يبتاع إلى العطاء، ولأنه لا يتفاوت تفاوتاً كثيراً، فإن أسلم إلى العطاء يريد به وقته، وكان معلوماً، جاز، وإن أراد نفس العطاء، لم يصح؛ لأنه يختلف. الأمر الثالث: أن تكون مدة لها وقع في الثمن، كالشهر ونصفه ونحوه فأما اليوم ونحوه، فلا يصح التأجيل به؛ لأن الأجل إنما اعتبر ليتحقق المرفق ولا يتحقق إلا بمدة طويلة. فإن أسلم في جنس إلى أجلين أو آجال، مثل أن يسلم في خبز أو لحم، يأخذ كل يوم أرطالاً معلومة، جاز؛ لأن كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى آجال، كبيوع الأعيان. ويجوز أن يسلم في جنسين إلى أجل واحد كما ذكرنا. فصل الشرط الرابع: أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله، مأمون الانقطاع فيه؛ لأن القدرة على التسليم شرط ولا تتحقق إلا بذلك، فلو أسلم في العنب إلى شباط، لم يصح؛ لأنه لا يوجد فيه إلا نادراً. ولا يصح السلم في ثمرة بستان بعينه، ولا قرية صغيرة، لما روي «أن زيد بن سعنة أسلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانين ديناراً في تمر مكيل مسمى من تمر حائط بني فلان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى» رواه ابن ماجه. ولأنه لا يؤمن تلفه، فلم يصح، كما لو قدره بمكيال معين، ولا يصح السلم في عين لذلك، ولأن الأعيان لا تثبت في الذمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فصل الشرط الخامس: أن يضبط بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهراً، فيذكر الجنس والنوع، والجودة والرداءة، والكبر والصغر، والطول والقصر والعرض والسمك، والنعومة والخشونة، واللين والصلابة، والرقة والصفاقة، والذكورية والأنوثية، والسن والبكارة، والثيوبة واللون والبلد، والرطوبة واليبوسة، ونحو ذلك مما يقبل هذه الصفات، ويختلف بها، ويرجع فيما لا يعلم منها تفسير أهل الخبرة، فإن شرط الأجود منها، لم يصح؛ لأنه يتعذر عليه الوصول إليه، فإن وصل إليه كان نادراً. وإن شرط الأردأ ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح لذلك. والثاني: يصح؛ لأنه يمكنه تسليم السلم، أو خير منه من جنسه، فيلزم المسلم قبوله. وإن أسلم في جارية وابنتها، لم يصح؛ لأنه يتعذر وجودهما على ما وصف، وإن استقصى صفات السلم بحيث يتعذر وجوده، لم يصح؛ لأنه يعجز تسليمه. فصل الشرط السادس: أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد قبل تفرقهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم» والإسلاف: التقديم، ولأنه إنما سمي سلماً وسلفاً، لما فيه من تقديم رأس المال، فإذا تأخر لم يكن سلماً، فلم يصح، ولأنه يصير بيع دين بدين، فإن تفرقا قبل قبضه، بطل. وإن تفرقا قبل قبض بعضه. بطل فيما لم يقبض، وفي المقبوض وجهان، بناء على تفريق الصفقة، ويجوز أن يكون في الذمة، ثم يعينه في المجلس ويسلمه. ويجب أن يكون معلوماً، كالثمن في البيع، فإن كان معيناً، فظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي برؤيته؛ لأنه عوض معين، أشبه ثمن المبيع. وقال القاضي: لا بد من وصفه، لقول أحمد: ويصف الثمن، ولأنه عقد لا يمكن إتمامه، وتسليم المعقود عليه في الحال، ولا يؤمن انفساخه، فوجب معرفة رأس المال بالصفات، ليرد بدله، كالقرض في الشركة، فعلى هذا لا يجوز أن يكون رأس المال إلا ما يجوز أن يكون مسلماً فيه؛ لأنه يعتبر ضبط صفاته، فأشبه المسلم فيه. [ ما يجوز فيه السلم وما لا يجوز ] فصل وكل مالين جاز النساء بينهما، جاز إسلام أحدهما في الآخر، وما لا فلا، فعلى قولنا يجوز النساء في العروض، يصح إسلام عرض في عرض وفي ثمن، فإن أسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 عرضاً في آخر بصفته، فجاءه به عند المحل، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه قبوله؛ لأنه أتاه بالمسلم فيه على صفته، فلزمه قبوله كغيره. والثاني: لا يلزمه قبوله؛ لأنه يفضي إلى كون الثمن هو المثمن. وإن أسلم صغيراً في كبير، فحل السلم، وقد صار الصغير على صفته الكبير، فعلى الوجهين. فصل ولا يشترط وجود المسلم فيه قبل المحل، لا حين العقد ولا بعده؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فلم ينههم عنه، وفي الثمار ما ينقطع في أثناء السنة، فلو حرم لبينه، ولأنه يثبت في الذمة ويوجد عند المحل، فصح السلم فيه، كالموجود في جميع المدة. فصل ولا يشترط ذكر مكان الإيفاء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر في حديث ابن عباس، ولا في حديث زيد بن سعنة، ولأنه عقد معاوضة، أشبه البيع. ويكون الإيفاء في مكان العقد، كالبيع، فإن كان السلم في موضع لا يمكن الوفاء فيه، كالبرية، تعين ذكر مكان الإيفاء، ولأنه لا بد من مكان، ولا قرينة تعين، فوجب تعيينه بالقول. وإن كان في موضع يمكن الوفاء فيه، فشرطه كان تأكيداً، وإن شرطا مكاناً سواه، ففيه روايتان: إحداهما: لا يصح؛ لأنه ينافي مقتضى العقد. والثانية: يصح؛ لأنه عقد بيع، فصح شرط مكان الإيفاء فيه كالبيع، وبهذا ينتقض دليل الأولى. فصل ويجب تسليم السلم عند المحل على أقل ما وصف به، سليماً من العيوب والغش، فإن كان في البر قليل من تراب، أو دقيق تبن لا يأخذ حظاً من الكيل، وجب قبوله؛ لأنه دون حقه. وإن أحضره بصفته، وجب قبوله، وإن تضمن ضرراً؛ لأنه حقه، فوجب قبوله كالوديعة، فإن امتنع دفعه إلى الحاكم، وبرئ لذلك، فإن كان أجود من حقه في الصفة، لزم قبوله؛ لأنه زاده خيراً، وإن طلب عن الزيادة عوضاً لم يجز؛ لأنها صفة، ولا يجوز إفراد الصفات بالبيع. وإن جاءه بأردأ من حقه، لم يجب قبوله، وجاز أخذه، وإن أعطاه عوضاً عن الجودة الفائتة، لم يجز لذلك، ولأنه بيع جزء من السلم قبل قبضه. وإن أعطاه غير المسلم فيه، لم يجز أخذه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 غيره» رواه أبو داود. ولأنه بيع للسلم قبل قبضه، فلم يجز كما لو أخذ عنه ثمناً، وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى فيمن أسلم في بر، فرضي مكنه شعيراً مثل كيله: جاز، ولعل هذا بناء على رواية كون البر والشعير جنساً، والصحيح غيرها. وإن أعطاه غير نوع السلم، جاز قبوله، ولا يلزم. وقال القاضي: يلزم قبوله إذا لم يكن أدنى من النوع الذي شرطه؛ لأنه من جنسه، فأشبه الزائد في الصفة من نوع واحد، والأول أصح؛ لأنه لم يأتِ بالشروط، فلم يلزم قبوله كالأدنى بخلاف الزائد في الصفة، فإنه أحضر المشروط مع زيادة، ولأن أحد النوعين يصلح لما لا يصلح له الآخر بخلاف الصفة. فصل فإن أحضره قبل محله، أو في مكان الوفاء، فاتفقا على أخذه، جاز. إن أعطاه عوضاً عن ذلك أو نقصه من السلم، لم يجز؛ لأنه بيع الأجل والحمل. وإن عرضه عليه، فأبى أخذه لغرض صحيح، مثل أن تلزمه مؤنة لحفظه أو حمله أو عليه مشقة، أو يخاف تلفه، أو أخذه منه، لم يلزمه أخذه. وإن أباه لغير غرض صحيح، لزمه؛ لأنه زاد خيراً، فإن امتنع رفع الأمر إلى الحاكم، ليأخذه، لما روي أن أنساً كاتب عبداً له على مال، فجاءه به قبل الأجل، فأبى أن يأخذه، فأتى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأخذه منه، وقال: اذهب فقد عتقت. ولأنه زاده خيراً. فصل وإذا قبضه بما قدره به من كيل أو غيره، برئ صاحبه. وإن قبضه جزافاً، قدره، فأخذ قدر حقه، ورد الفضل، أو طالب بتمام حقه، إن كان ناقصاً. وهل له التصرف في قدر حقه قبل تقديره؟ على وجهين: أحدهما: له ذلك؛ لأنه قدر حقه وقد أخذه، ودخل في ضمانه. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لم يقبضه القبض المعتبر. وإن اختلفا في القبض، فالقول قول المسلم؛ لأنه منكر. وإن اختلفا في حلول الأجل، فالقول قول المسلم إليه؛ لأنه منكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فصل وإن تعذر تسليم السلم عند المحل، فللمسلم الخيار بين أن يصبر إلى أن يوجد، وبين فسخ العقد، والرجوع برأس ماله، إن كان موجوداً، أو مثله، إن كان مثلياً، أو قيمته إن لم يكن مثلياً، وقيل: ينفسخ العقد بالتعذر؛ لأن المسلم في ثمرة هذا العام وقد هلكت، فانفسخ العقد، كما لو اشترى قفيزاً من صبرة، فهلكت. والأول أصح؛ لأن السلم في الذمة لا في عين، وإنما لزمه الدفع من ثمرة هذا العام، لتمكنه من دفع الواجب منها، فإن تعذر البعض، فله الخيرة بين الصبر بالباقي، وبين الفسخ في الجميع. وله أخذ الموجود، والفسخ في الباقي في أصح الوجهين؛ لأنه فسخ في بعض المعقود عليه أشبه البيع، وفي الآخر: لا يجوز؛ لأن السلم يقل فيه الثمن لأجل التأجيل، فإذا فسخ في البعض، بقي البعض بالباقي من الثمن، وبمنفعة الجزء الذي فسخ فيه، فلم يجز، كما لو شرطه في ابتداء العقد. وتجوز الإقالة في السلم كله إجماعاً وتجوز في بعضه؛ لأن الإقالة معروف، جاز في الكل، فجاز في البعض كالإبراء. وعنه: لا يجوز، لما ذكرنا في الفسخ، والأول أصح؛ لأن باقي الثمن يستحق باقي العوض. وإذا فسخ العقد، رجع بالثمن، أو ببدله إن كان معدوماً. وليس له صرفه في عقد آخر قبل قبضه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره» . وقال القاضي: يجوز أخذ العوض عنه؛ لأنه عوض مستقر في الذمة، فأشبه القرض. فعلى هذا يصير حكمه حكم القرض على ما سيأتي. فصل ولا يجوز بيع السلم قبل قبضه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن بيع ما لم يضمن» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ولفظه: لا يحل، ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه، كالطعام قبل قبضه. ولا يجوز التولية فيه، ولا الشركة، لما ذكرنا في الطعام، ولا الحوالة به؛ لأنها إنما تجوز بدين مستقر، والسلم بعوض الفسخ. ولا تجوز الحوالة على من عليه سلم؛ لأنها معاوضة بالسلم قبل قبضه. ولا يجوز بيع السلم من بائعه قبل قبضه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره» ولأنه بيع للمسلم فيه، فلم يجز كبيعه من غيره. فصل وإذا قبضه فوجده معيبا، فله رده وطلب حقه؛ لأن العقد يقتضي السلامة وقد أخذ المعيب عما في الذمة، فإذا رده، رجع إلى ما في الذمة. وإن حدث فيه عيب عنده، فهو كما لو حدث العيب في المبيع بعد قبضه على ما مضى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 [ باب القرض ] ويسمى سلفاً، وأجمع المسلمون على جوازه واستحبابه للمقرض. وروى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة» رواه ابن ماجه. ويصح بلفظ القرض، وبكل لفظ يؤدي معناه. نحو أن يقول: ملكتك هذا على أن ترد بدله، فإن لم يذكر البدل، فهو هبة. وإذا اختلفا، فالقول قول المملك؛ لأن الظاهر معه؛ لأن التمليك بغير عوض هبة، ويثبت الملك في القرض بالقبض؛ لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك عليه، كالهبة. ولا خيار فيه؛ لأن المقرض دخل على بصيرة أن الحظ لغيره، فهو كالواهب. ويصح شرط الرهن فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رهن درعه على شعير أخذه لأهله» متفق عليه. وإن شرط فيه الأجل، لم يتأجل، ووقع حالاً؛ لأن التأجيل في الحال عدة وتبرع، فلا يلزم، كتأجيل العارية. ولو أقرضه تفاريق، ثم طالبه به جملة، لزم المقترض ذلك لما قلناه. فإذا أراد المقرض الرجوع في عين ماله، وبذل المقترض مثله، فالقول قول المقترض؛ لأن الملك قد زال عن العين بعوض. فأشبه البيع اللازم. وإن أراد المقترض رد عين المال، لزم المقرض قبوله؛ لأنه بصفة حقه، فلزمه قبوله. كما لو دفع إليه المثل. [ فصل فيما يصح قرضه ] فصل ويصح قرض كل ما يصح السلم فيه؛ لأنه يُملك بالبيع، ويُضبط بالصفة، فصح قرضه كالمكيل، إلا بني آدم، فإن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كره قرضهم، فيحتمل التحريم. اختاره القاضي؛ لأنه لم ينقل، ولا هو من المرافق، ولأنه يفضي إلى أن يقترض جارية يطؤها، ثم يردها، ويحتمل الجواز؛ لأن السلم فيه صحيح، فصح قرضهم كالبهائم. فأما ما لا يصح السلم فيه، كالجواهر، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز. ذكره أبو خطاب؛ لأن القرض يقتضي رد المثل وهذا لا مثل له. والثاني: يجوز، قاله القاضي؛ لأن ما لا مثل له تجب قيمته. والجواهر كغيرها في القيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 ولا يجوز القرض إلا في معلوم القدر، فإن أقرضه فضة لا يعلم وزنها، أو مكيلاً لا يعلم كيله، لم يجز؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وإذا لم يعلم، لم يتمكن من القضاء. فصل ويجب رد المثل في المثليات؛ لأنه يجب مثله في الإتلاف، ففي القرض أولى. فإن أعوز المثل، فعليه قيمته حين أعوز؛ لأنها حينئذ ثبت في الذمة. وفي غير المثلي وجهان: أحدهما: يرد القيمة؛ لأن ما أوجب المثل في المثلي أوجب القيمة في غيره، كالإتلاف. والثاني: يرد المثل؛ لما روى أبو رافع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف من رجل بَكراً، فقدمت عليه إبل للصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكره، فرجع إليه أبو رافع، فقال: يا رسول الله لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطه إياه، فإن من خير الناس أحسنهم قضاء» رواه مسلم. ولأن ما يثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض كالمثلي، بخلاف الإتلاف، فإنه عدوان، فأوجب القيمة؛ لأنه أحصر. والقرض ثبت للرفق، فهو أسهل. فعلى هذا يعتبر مثله في الصفات تقريباً، فإن قلنا: يرد القيمة اعتبرت حين القرض؛ لأنها حينئذ تجب. فصل ويجوز قرض الخبز، ورد مثله عدداً بغير وزن في الشيء اليسير. وعنه: لا يجوز إلا بالوزن، قياساً على الموزونات. ووجه الأول ما روت «عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، إن الجيران يقترضون الخبز والخمير، ويردون زيادة ونقصاناً. فقال: لا بأس، إنما ذلك من مرافق الناس» وعن «معاذ: أنه سئل عن اقتراض الخبز والخمير فقال: سبحان الله! إنما هذا من مكارم الأخلاق، فخذ الكبير وأعط الصغير، وخذ الصغير وأعط الكبير، خيركم أحسنكم قضاء، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك» . رواهما أبو بكر في الشافي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 فصل فإن أقرضه فلوساً، أو مكسرة، فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها، فعليه قيمتها يوم أخذها، نص عليه؛ لأنه منع إنفاقها، فأشبه تلف أجزائها. فإن لم تترك المعاملة بها، لكن رخصت، فليس له إلا مثلها؛ لأنها لم تتلف، إنما تغير سعرها، فأشبهت الحنطة إذا رخصت. فصل ولا يجوز أن يشترط في القرض شرطًا يجر به نفعاً، مثل أن يشترط رد أجود منه أو أكثر، أو أن يبيعه، أو أن يشتري منه، أو يؤجره، أو يستأجر منه، أو يهدي له، أو يعمل له عملاً ونحوه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع وسلف» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم نهوا عن قرض جر منفعة؛ ولأنه عقد إرفاق، وشرط ذلك يخرجه عن موضوعه. وإن شرط أن يوفيه في بلد آخر، أو يكتب له به سفتجة إلى بلد في حمله إليه نفع، لم يجز لذلك، فإن لم يكن لحمله مؤنة، فعنه: الجواز؛ لأن هذا ليس بزيادة قدر ولا صفة، فلم يفسد به القرض، كشرط الأجل. وعنه: في السفتجة مطلقاً روايتان؛ لأنها مصلحة لهما جميعاً. وإن شرط رد دون ما أخذ، لم يجز لأنه ينافي مقتضاه، وهو رد المثل، فأشبه شرط الزيادة. ويحتمل أن لا يبطله؛ لأن نفع المقترض لا يمنع منه؛ لأن القرض إنما شرع رفقاً به، فأشبه شرط الأجل، بخلاف الزيادة. وكل موضوع بطل الشرط فيه، ففي القرض وجهان: أحدهما: يبطل؛ لأنه قد روي «كل قرض جر منفعة، فهو ربا» . والثاني: لا يبطل؛ لأن القصد إرفاق المقترض. فإذا بطل الشرط، بقي الإرفاق بحاله. فصل وإن وفى خيراً منه في القدر، أو الصفة من غير شرط، ولا مواطأة، جاز؛ لحديث أبي رافع. وإن كتب له به سفتجة، أو قضاه في بلد آخر، أو أهدى إليه هدية بعد الوفاء، فلا بأس لذلك. وقال ابن أبي موسى: إن زاده مرة، لم يجز أن يأخذ في المرة الثانية زيادة، قولاً واحداً. ولا يكره قرض المعروف، لحسن القضاء. وذكر القاضي وجهاً في كراهته؛ لأنه يطمع في حسن عادته. والأول أصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معروفاً بحسن القضاء، فلم يكن قرضه مكروهاً، ولأن خير الناس أحسنهم قضاء، ففي كراهة قرضه تضييق على خير الناس، وذوي المروءات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 فصل وإن أهدى له قبل الوفاء من غير عادة، أو استأجر منه بأكثر من الأجرة، أو أجره شيئاً بأقل، أو استعمله عملاً، فهو خبيث إلا أن يحسبه من دينه، كما روى الأثرم: أن رجلاً كان له على سماك عشرون درهماً، فجعل يهدي إليه السمك ويقومه، حتى بلغ ثلاثة عشر درهماً، فسأل ابن عباس فقال: أعطه سبعة دراهم. وروى ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى إليه، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» فإن كان بينهما عادة بذلك قبل القرض أو كافأه، فلا بأس؛ لهذا الحديث. فصل وإن أفلس غريمه، فأقرضه ليوفيه كل شهر شيئاً منه، جاز؛ لأنه إنما انتفع باستيفاء ما يستحق استيفاؤه. ولو كان له طعام عليه، فأقرضه ما يشتريه به ويوفيه، جاز لذلك. ولو أراد تنفيذ نفقة إلى عياله، فأقرضها رجلاً ليوفيها لهم، فلا بأس؛ لأنه مصلحة لهما، لا ضرر فيه، ولا يرد الشرع بتحريم ذلك. قال القاضي: ويجوز قرض مال اليتيم للمصلحة ، مثل أن يقرضه في بلد ليوفيه في بلد آخر، ليربح خطر الطريق. وفي معنى هذا: قرض الرجل فلّاحه حباً يزرعه في أرضه، أو ثمناً يشتري به بقراً وغيرها؛ لأنه مصلحة لهما. وقال ابن أبي موسى: هذا خبيث. فصل وإذا قال المقرض: إذا مت، فأنت في حل، فهي وصية صحيحة. وإن قال: إن مت، فأنت في حل، لم يصح؛ لأنه إبراء علق على شرط. وإن قال: اقترض لي مائة ولك عشرة، صح؛ لأنها جعالة على ما بذله من جاهه. وإن قال: تكفل عني بمائة ولك عشرة، لم يجز؛ لأنه يلزمه أداء ما كفل به، فيصير له على المكفول، فيصير بمنزلة من أقرضه مائة، فيصير قرضاً جر نفعاً. ولو أقرضه تسعين عدداً بمائة عدداً، وزنهما واحد، وكانت لا تتفق برؤوسها، فلا بأس به؛ لأنه لا تفاوت بينهما في قيمة ولا وزن، وإن كانت تتفق في موضع برؤوسها، لم يجز؛ لأنها زيادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 فصل وإن أقرضه نصف دينار، فأتاه بدينار صحيح، وقال: خذ نصفه وفاء، ونصفه وديعة، أو سلماً، جاز. وإن امتنع من أخذه، لم يلزمه؛ لأن عليه ضرراً في الشركة. والسلم عقد يعتبر فيه الرضى، ولو أقرضه نصفاً قراضة على أن يوفيه نصفاً صحيحاً، لم يجز؛ لأنه شرط زيادة، والله أعلم. [ باب الرهن ] وهو المال يجعل وثيقة بالدين المستوفى منه إن تعذر وفاؤه من المدين ويجوز في السفر؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وفي الحضر؛ لما روت عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] : «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه» متفق عليه؛ ولأنه وثيقة جازت في السفر، فتجوز في الحضر كالضمان والشهادة. فصل ويجوز الرهن بعوض القرض؛ للآية. وبثمن المبيع؛ للخبر. وكل دين يمكن استيفاؤه منه؛ كالأجرة، والمهر، وعوض الخلع، ومال الصلح، وأرش الجناية والعيب، وبدل المتلف. قياساً على الثمن، وعوض القرض وفي دين السلم روايتان: إحداهما: يصح الرهن به للآية والمعنى. والأخرى: لا يجوز؛ لأنه لا يأمن هلاك الرهن بعدوان، فيصير مستوفياً حقه من غير المسلم فيه. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره» . [ الرهن بمال الكتابة ] فصل ولا يجوز الرهن بمال الكتابة؛ لأنه غير لازم. فإن للعبد تعجيز نفسه، ولا يمكن استيفاؤه من الرهن، لأنه لو عجز، صار هو والرهن لسيده. ولا يجوز بما يحمل العاقلة من الدية قبل الحول؛ لأنه لم يجب، ولا يعلم أن مآله إلى الوجوب، فإنه يحتمل حدوث ما يمنع وجوبه. ويجوز الرهن به بعد الحول؛ لأنه دين مستقر. ولا يجوز بالجعل في الجعالة قبل العمل؛ لعدم الوجوب، ويجوز بعده. وقال القاضي: يحتمل جواز الرهن به قبل العمل؛ لأن مآله إلى الوجوب. ولا يصح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 الرهن بما ليس بثابت في الذمة، كالثمن المتعين، والأجرة المتعينة، والمنافع المعينة. نحو أن يقول: أجرتك داري هذه شهراً؛ لأن العين لا يمكن استيفاؤها من الرهن، ويبطل العقد بتلفها. وقياس هذا أنه لا يصح الرهن بالأعيان المضمونة، كالمغصوب والعارية والمقبوض على وجه السوم؛ لتعذر استيفاء العين من الرهن. وإن جعله بقيمتها كان رهناً بما لم يجب. ولا يعلم أن مآله إلى الوجوب. وقال القاضي: قياس المذهب صحة الرهن بها؛ لصحة الكفالة بها. فصل ويصح الرهن بالحق بعد ثبوته. لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . ومع ثبوته وهو أن يشترط الرهن في عقد البيع أو القرض؛ لأن الحاجة داعية إليه. فإنه لو لم يشترطه، لم يلزم الغريم الرهن. وإن رهن قبل الحق، لم يصح في ظاهر المذهب. اختاره أبو بكر والقاضي؛ لأنه تابع للدين، فلا يجوز قبله كالشهادة. واختار أبو الخطاب: صحته. فإذا دفع إليه رهناً على عشرة دراهم يقرضه إياه، ثم أقرضه، لزم الرهن؛ لأنه وثيقة بحق، فجاز عقدها قبله كالضمان. فصل ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن؛ لأن العقد لِحَظِّهِ وحده، فكان له فسخه كالمضمون له. ويلزمه من جهة الراهن؛ لأن الحظ لغيره فلزمه من جهته، كالضمان في حق الضامن، ولأنه وثيقة فأشبه الضمان. ولا يلزم إلا بالقبض؛ لقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . ولأنه عقد إرفاق، فافتقر إلى القبض كالقرض. وعنه في غير المكيل والموزون: أنه يلزم بمجرد العقد، قياساً على البيع. والأول: المذهب؛ لأن البيع معاوضة، وهذا إرفاق، فهو أشبه بالقرض. وإذا كان الرهن في يد الراهن، لم يجز قبضه إلا بإذنه؛ لأنه له قبل القبض، فلا يملك المرتهن إسقاط حقه بغير إذنه، كالموهوب. وإن كان في يد المرتهن، فظاهر كلامه لزومه، بمجرد العقد؛ لأن يده ثابتة عليه، وإنما يعتبر الحكم فقط، فلم يحتج إلى قبض، كما لو منع الوديعة صارت مضمونة. وقال القاضي وأصحابه: لا يلزمه حتى تمضي مدة يتأتى قبضه فيها، ولو كان غائباً، لا يصير مقبوضاً حتى يوافيه هو أو وكيله، ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها؛ لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 العقد يفتقر إلى القبض، ولا يحصل القبض إلا بفعله، أو إمكانه، ثم هل يفتقر إلى إذن الراهن في القبض، على وجهين: أحدهما: لا يفتقر إليه؛ لأن إقراره عليه كإذنه فيه. والثاني: يفتقر؛ لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم، فافتقر إلى الإذن كما لو لم يكن في يده. فصل وإذا أذن في القبض، ثم رجع عنه قبل القبض، أو قبل مضي مدة يتأتى القبض فيها، لما في يده، فهو كمن لم يأذن؛ لأن الإذن قد زال. وإن أذن فيه ثم جن أو أغمي عليه، زال الإذن؛ لخروجه عن كونه من أهله. ويقوم ولي المجنون مقامه، إن رأى الحظ في القبض، أذن فيه، وإلا فلا. وإن تصرف الراهن في الرهن قبل قبضه، بعتق أو هبة أو بيع أو جعله مهراً، بطل الرهن؛ لأن هذه التصرفات تمنع الرهن، فانفسخ بها. وإن رهنه، بطل الأول؛ لأن المقصود منه ينافي الأول. وإن دبره، أو أجره أو زوج الأمة، لم يبطل الرهن؛ لأن هذه التصرفات لا تمنع البيع، فلا تمنع صحة الرهن. وإن كاتب العبد ـ وقلنا: يصح رهن المكاتب ـ لم يبطل بكتابته؛ لأنه لا ينافيها. وإن قلنا: لا يصح رهنه، بطل بها لتنافيها. فصل وإن مات أحد المتراهنين، لم يبطل الرهن؛ لأنه عقد لا يبطله الجنون، أو مآله إلى اللزوم، فلم يبطله الموت كبيع الخيار. ويقوم وارث الميت مقامه في الإقباض والقبض، فإن لم يكن على الراهن دين سوى دين الرهن، فلوارثه إقباضه. وإن كان عليه دين سواه، فليس له إقباضه؛ لأنه لا يملك تخصيص بعض الغرماء برهن. وعنه: له إقباضه؛ لأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة، بخلاف غيره. والأول أولى؛ لأن حقوق الغرماء تعلقت بالتركة قبل لزوم حقه، فلم يجز تخصيصه بغير رضاهم، كما لو أفلس الراهن، فإن أذن الغرماء في إقباضه، جاز؛ لأن الحق لهم، فإذا قبضه، لزم، سواء مات قبل الإذن في القبض أو بعده. فصل وإن حجر على الراهن قبل القبض، لم يملك إقباضه فإن كان الحجر لسفه، قام وليه مقامه كما لو جن، وإن كان لفلس، لم يجز لأحد إقباضه إلا بإذن الغرماء؛ لأن فيه تخصيص المرتهن بثمنه دونهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 فصل ومتى امتنع الراهن من إقباضه، وقلنا: إن القبض ليس بشرط في لزومه أجبره الحاكم. وإن قلنا: هو شرط، لم يجبره، وبقي الدين بغير رهن. وهكذا إن انفسخ الرهن قبل القبض، إلا أن يكون مشروطاً في بيع، فيكون للبائع الخيار بين فسخ البيع وإمضائه؛ لأنه لم يسلم له ما شرط، فأشبه ما لو شرط صفة في المبيع فبان بخلافها. وإن قبض الرهن، فوجد معيباً، فله الخيار؛ لأنه لم يسلم له ما شرطه. فإن رضيه معيباً، فلا أرش له؛ لأن الرهن إنما لزم فيما قبض دون الجزء الفائت. وإن حدث العيب، أو تلف الرهن في يد المرتهن، فلا خيار له؛ لأن الراهن وفى له بما شرط، فإن تعب عنده، ثم أصاب به عيباً قديماً، فله رده، وفسخ البيع؛ لأن العيب الحادث عنده لا يجب ضمانه على المرتهن وخرجه القاضي على الروايتين في البيع. وإن علم بالعيب بعد تلفه، لم يملك فسخ البيع؛ لأنه قد تعذر عليه رد الرهن، لهلاكه. فصل ولا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي جميع ديونه؛ لأنه وثيقة به، فكان وثيقة بكل جزء منه كالضمان. فإن رهن شيئا من رجلين، أو رهن رجلان رجلاً شيئاً، فبرئ أحدهما، أو برئ الراهن من دين أحدهما، انفك نصف الراهن؛ لأن الصفقة التي في أحد طرفيها عقدان فلا يقف انفكاك أحدهما على فكاك الآخر، كما لو فرق بين العقدين. وإن أراد الراهن مقاسمة المرتهن في الأولى، أو أراد الراهنان القسمة في الثانية ولا ضرر فيها، كالحبوب والأدهان، أجبر الممتنع عليها، وإن كان فيها ضرر، لم يجبر عليها، كغير الرهن، ويبقى الرهن مشاعاً. فصل واستدامة القبض كابتدائه في الخلاف في اشتراطه للآية، ولأنها إحدى حالتي الرهن، فأشبهت الابتداء، فإن قلنا باشتراطه، فأخرجه المرتهن عن يده باختياره إلى الراهن، زال لزومه، وبقي كالذي لم يقبض، مثل أن أجره إياه، أو أودعه، أو أعاره أو غير ذلك. فإن رده الراهن إليه، عاد اللزوم بحكم العقد السابق؛ لأنه أقبضه باختياره، فلزم به كالأول. وإن أزيلت يد المرتهن بعدوان، كغضب ونحوه، فالرهن بحاله؛ لأن يده ثابتة حكماً، فكأنها لم تزل. فصل والرهن أمانة في يد المرتهن، إن تلفت بغير تعد منه، لم يضمنه، ولم يسقط شيء من دينه؛ لما روى الأثرم عن سعيد بن المسيب قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرهن لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 يغلق، والرهن ممن رهنه» . ولأنه وثيقة بدين ليس بعوض عنه، فلم يسقط بهلاكه كالضامن. وإن كان الرهن فاسداً، لم يضمنه؛ لأن ما لا يضمن بالعقد الصحيح، لا يضمن بالعقد الفاسد. وإن وقت الرهن، فتلف بعد الوقت، ضمنه؛ لأنه مقبوض بغير عقد. وإن رهنه مغصوباً، لم يعلم به المرتهن، فهل للمالك تضمين المرتهن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يضمنه؛ لأنه دخل على أنه أمين. والثاني: يضمنه؛ لأنه قبضه من يد ضامنه، فإذا ضمنه رجع على الراهن في أحد الوجهين؛ لأنه غره. والثاني: لا يرجع؛ لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه، وإن ضمن الراهن، فهل يرجع على المرتهن؟ على وجهين إن قلنا: يرجع المرتهن، لم يرجع الراهن، وإن قلنا: لا يرجع ثم رجع هاهنا وإن انفك الرهن بقضاء أو إبراء، بقي الرهن أمانة؛ لأن قبضه حصل بإذن مالكه، لا لتخصيص القابض بنفعه فأشبه الوديعة. فصل إذا حل الدين فوفاه الراهن، انفك الرهن. وإن لم يوفه وكان قد أذن في بيع الرهن، بيع واستوفي الدين من ثمنه. وما بقي فله. وإن لم يأذن، طولب بالإيفاء أو ببيعه، فإن أبى أو كان غائباً، فعل الحاكم ما يراه من إجباره على البيع، أو القضاء، أو بيع الرهن بنفسه، أو بأمينه، والله أعلم. [ باب ما يصح رهنه وما لا يصح ] يصح رهن كل عين يصح بيعها؛ لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين باستيفائه من ثمنه عند تعذر استيفائه من الراهن، وهذا يحصل مما يجوز بيعه. ويصح رهن المتاع؛ لأنه يجوز بيعه، فجاز رهنه كالمفرز، ثم إن اتفقا على جعله في يد المرتهن، أو يد عدل وديعة للمالك، أو بأجرة، جاز. وإن اختلفا، جعله الحاكم في يد عدل وديعة لهما، أو يؤجره لهما محبوساً قدر الرهن للمرتهن، وإن رهن نصيبه من جزء من المشاع وكان مما لا ينقسم، جاز. وإن جازت قسمته، احتمل جواز رهنه؛ لأنه يصح بيعه، واحتمل أن لا يصح؛ لاحتمال أن يقتسماه، فيحصل المرهون في حصة الشريك. ويصح رهن العبد المرتد والجاني؛ لأنه يجوز بيعهما. وفي رهن القاتل في المحاربة وجهان، بناء على بيعه. ويصح رهن المدبر في ظاهر المذهب، لظهوره في بيعه. ويصح رهن من علق عتقه بصفة توجد بعد حلول الدين، لإمكان استيفائه من ثمنه. وإن كانت الصفة توجد قبل حلول الدين، لم يجز رهنه؛ لأنه لا يمكن استيفاؤه من ثمنه. وإن كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 تحتمل الأمرين، احتمل أن يصح رهنه؛ لأن الأصل بقاء العقد، والعتق قبله مشكوك فيه، فهو كالمدبر واحتمل أن لا يصح رهنه؛ لأنه يحتمل العتق قبل حلول الحق، وهذا غرر لا حاجة إليه. فإن مات سيد المدبر وهو يخرج من الثلث، أو وجدت الصفة، عتق، وبطل الرهن. ولا يصح رهن المكاتب؛ لتعذر استدامة قبضه. ويتخرج أن يصح إن قلنا: استدامة القبض غير مشترطة، وأنه يصح بيعه، ويكون ما يؤديه من نجوم كتابته، رهناً معه. وإن عتق، بقي ما أداه رهناً، كالقن إذا مات بعد الكسب، وجميع هذه المعاني عيوب، لها حكم غيرها من العيوب. فصل ويصح رهن ما يسرع إليه الفساد؛ لأنه مما يجوز بيعه، وإيفاء الدين من ثمنه، فأشبه الثياب، فإن كان الدين يحل قبل فساده، بيع وقضي من ثمنه. وإن كان يفسد قبل الحلول، وكان مما يمكن إصلاحه بالتجفيف، كالعنب، جفف. ومؤنة تجفيفه على الراهن؛ لأنه من مؤنة حفظه، فأشبه نفقة الحيوان. وإن كان مما لا يجفف، فشرطا بيعه، وجعل ثمنه رهناً، فعلا ذلك. وإن لم يشرطاه، ففيه وجهان: أحدهما: يصح الرهن ويباع كما لو شرطاه؛ لأن الحال يقتضي ذلك لكون المالك لا يعرض ملكه للتلف، فحمل مطلق العقد عليه، كما يحمل على تجفيف العنب. والثاني: لا يصح؛ لأن البيع إزالة ملكه قبل حلول الحق، فلم يجبر عليه كغيره. وإن شرط أن لا يباع، فسد وجهاً واحداً؛ لأنه إن وفى بشرطه، لم يمكن إيفاء الدين من ثمنه، وإن رهنه عصيراً، صح لذلك، فإن تخمر خرج من الرهن؛ لأنه لا قيمة له. فإن عاد خلاً، عاد رهناً لأن العقد كان صحيحاً، فلما طرأ عليه معنى أخرجه عن حكمه، ثم زال المعنى، عاد الحكم كما لو ارتد أحد الزوجين، ثم عاد في العدة عادت الزوجية. وإن كان استحالته قبل القبض، لم يعد رهناً؛ لأنه ضعيف، فأشبه الردة قبل الدخول. فصل ويصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع الأخضر مطلقاً وبشرط التبقية؛ لأن الغرر يقل فيه، لاختصاصه بالوثيقة مع بقاء الدين بحاله، بخلاف البيع، قال القاضي: ويصح رهن المبيع المكيل والموزون قبل قبضه؛ لأن قبضه مستحق للمشتري، فيمكنه قبضه، ثم يقبضه. وإنما منع من بيعه، لئلا يربح فيما لم يضمنه وهو منهي عنه. وإن رهن ثمرة إلى محل تحدث فيه أخرى لا تتميز، فالرهن باطل؛ لأنه مجهول حين حلول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الحق، فلا يمكن إمضاء الرهن على مقتضاه. وإن رهنها بدين حال، أو شرط قطعها عند خوف اختلاطها، جاز؛ لأنه لا غرر فيه، فإن لم يقطعها حتى اختلطت، لم يبطل الرهن؛ لأنه وقع صحيحاً، لكن إن سمح الراهن ببيع الجميع، أو اتفقا على قدر منه، جاز. وإن اختلفا وتشاحا، فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأنه منكر. فصل ويصح رهن الجارية دون ولدها؛ لأن الرهن لا يزيل الملك، فلا يحصل التفريق فيه. فإن احتيج إلى بيعها، بيع ولدها معها؛ لأن التفريق بينهما محرم، والجمع بينهما في البيع جائز، فتعين. وللمرتهن من الثمن بقدر قيمة الجارية منه، وكونها ذات ولد عيب؛ لأنه ينقص من ثمنها. فصل ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه، غير ما ذكرنا، كالوقف وأم الولد، والكلب ونحوها؛ لأنه لا يمكن إيفاء الدين منه وهو المقصود. ولا يصح رهن ما لا يقدر على تسليمه. ولا المجهول الذي لا يجوز بيعه؛ لأن الصفات مقصودة في الرهن لإيفاء الدين، كما تقصد في البيع للوفاء بالثمن. ولا رهن مال غيره بغير إذنه، ويتخرج جوازه ويقف على إجازة مالكه، كبيعه. فإن رهن عيناً يظنها لغيره وكانت ملكه، ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه صادف ملكه. والثاني: لا يصح؛ لأنه عقده معتقداً فساده. ولا يصح رهن الرهون من غير إذن المرتهن؛ لأنه لا يملك بيعه في الدين الثاني، فإن رهنه عند المرتهن بدين آخر، مثل أن رهنه عبداً على ألف، ثم استدان منه ديناً آخر، وجعل العبد رهناً بهما، لم يصح؛ لأنه رهن مستحق بدين، فلم يجز رهنه بغيره كما لو رهنه عند غير المرتهن. فصل ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه من أرض الشام والعراق ونحوهما مما فتح عنوة في ظاهر المذهب؛ لأنها وقف. وما فيها من بناء من ترابها، فحكمه حكمها. وما جدد فيها من غراس وبناء من غراس وبناء من غير ترابها، إن أفرده بالرهن، ففيه روايتان: إحداهما: لا يصح؛ لأنه تابع لما لا يجوز رهنه، فهو كأساسات الحيطان. والثانية: يجوز؛ لأنه مملوك غير موقوف، وإن رهنه مع الأرض، بطل في الأرض، والغراس والبناء وجهان بناء على تفريق الصفقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فصل وفي رهن المصحف، روايتان، كبيعه. وإن رهنه أو رهن كتب الحديث، أو عبداً مسلماً لكافر، لم يصح؛ لأنه لا يصح بيعه له، ويحتمل أن يصح إذا شرطا كونه في يد مسلم، ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالكه؛ لأن الرهن لا ينقل الملك إلى الكافر، بخلاف البيع، ولا يجوز رهن المنافع؛ لأنها تهلك إلى حلول الحق. ولو رهنه أجرة داره شهراً، لم يصح؛ لأنه مجهول. ولو رهن المكاتب من يعتق عليه، لم يصح؛ لأنه لا يملك بيعه. [ باب ما يدخل في الرهن وما يملكه الراهن وما يلزمه ] باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن، وما لا يملكه وما يلزمه وما لا يلزمه جميع نماء الرهن المنفصل يدخل في الرهن ويباع معه؛ لأنه عقد وارد على الأصل، فثبت حكمه في نمائه كالبيع، أو نماء حادث من غير الرهن، أشبه المتصل. ولو ارتهن أرضاً، فنبت فيها شجر، دخل في الرهن؛ لأنه من نمائها، سواء نبت بنفسه أو بفعل الراهن. ويدخل فيه الصوف واللبن الموجودان، والحادثان، لدخولهما في البيع. وإن رهنه أرضاً ذات شجر، أو شجراً مثمراً، فحكمه في ذلك حكم البيع. وإن رهنه داراً فخربت، فأنقاضها رهن؛ لأنها من أجزائها. وإن رهنه شجراً، لم تدخل أرضه في الرهن؛ لأنها أصل فلا تدخل تبعاً. فصل ولا يملك الراهن التصرف في الرهن، باستخدام ولا سكنى، ولا إجارة ولا إعارة، ولا غيرها بغير رضى المرتهن، ولا يملك المرتهن ذلك بغير رضى الراهن. فإن لم يتفقا على التصرف، كانت منافعه معطلة تهلك تحت يد المرتهن حتى يفك؛ لأن الرهن عين محبوسة على استيفاء حق، فأشبهت المبيع المحبوس على ثمنه. وإن اتفقا على إجارته أو إعارته، جاز في قول الخرقي وأبي الخطاب؛ لأن يد المستأجر والمستعير نائبة عن يد المرتهن في الحفظ، فجاز، كما لو جعلاه في يد عدل. ولا فائدة في تعطيل المنافع؛ لأنه تضييع مال نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه. وقال أبو بكر: لا يجوز إجارته. فإن فعلا بطل الرهن؛ لأن الرهن يقتضي الحبس عند المرتهن أو نائبه. فمتى وجد عقد يقتضي زوال الحبس، بطل الرهن. وقال ابن أبي موسى: إن أجره المرتهن، أو أعاره بإذن الراهن، جاز. وإن فعل ذلك الراهن بإذن المرتهن، فكذلك في أحد الوجهين. وفي الآخر يخرج من الرهن؛ لأن المستأجر قائم مقام الراهن، فصار كما لو سكنه الراهن. فصل ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن، كمداواته بما لا يضر، وفصده وحجمه عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 حاجته إليه، وودج الدابة وتبزيغها، وإطراق الإناث عند حاجتها؛ لأنه إصلاح لماله من غير ضرر، فلم يمنع منه كالعلف. وإن أراد قطع شيء من بدنه، لخبيثة فيه، وقال أهل الخبرة: الأحوط قطعها، فله فعله. وإن ساووا الخوف في قطعها، وتركها، فامتنع أحدهما من قطعها، فله ذلك؛ لأن فيه خطراً بحقه. وللراهن مداواة الماشية من الجرب بما لا ضرر فيه، كالقطران بالزيت اليسير، وإن خيف ضرره كالكثير لم يملكه. وليس له قطع الأصبع الزائدة والسلعة؛ لأنه يخاف منه الضرر، وتركها لا يضر، وليس له الختان إن كان لا يبرأ منه قبل محل الحق؛ لأنه ينقص ثمنه، وإن كان يبرأ قبله والزمان معتدل، لم يمنع منه؛ لأنه يزيد به الثمن، ولا يضر المرتهن. وليس للمرتهن فعل شيء من ذلك بغير رضى الراهن. فصل ولا يملك الراهن بيع الرهن، ولا هبته، ولا جعله مهراً، ولا أجرة ولا كتابة العبد، ولا وقفه؛ لأنه تصرف يبطل به حق المرتهن من الوثيقة، فلم يصح من الراهن بنفسه، كالفسخ. وفي الوقف وجه آخر: أنه يصح؛ لأنه يلزم لحق الله تعالى، أشبه العتق. والأول: الصحيح؛ لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير، فلم يصح كالهبة. ولا يصح تزويج الرقيق. وقال القاضي: له تزويج الأمة. ويمنع الزوج وطأها، والأول: أصح؛ لأنه ينقص ثمنها فلم يصح، كتزويج العبد. فصل ولا يجوز له عتق الرهن؛ لأن فيه إضراراً بالمرتهن، وإسقاط حقه اللازم، فإن فعل، نفذ عتقه، نص عليه؛ لأنه محبوس، لاستيفاء حق فنفذ فيه عتق المالك، كالمحبوس على ثمنه. وعنه: لا ينفذ عتق المعسر؛ لأنه عتق في ملكه، يبطل به حق غيره، فاختلف فيه الموسر والمعسر، كالعتق في العبد المشترك. فإن أعتق الموسر، فعليه قيمته تجعل مكانه رهناً؛ لأنه أبطل حق الوثيقة بغير إذن المرتهن، فلزمته قيمته، كما لو قتله. وإن أعتق المعسر، فالقيمة في ذمته، إن أيسر قبل حلول الحق، أخذت منه رهناً، وإن أيسر بعد حلول الحق، طولب به خاصة؛ لأن ذمته تبرأ به من الحقين معاً وتعتبر القيمة حين الإعتاق؛ لأنه حال الإتلاف. فصل وليس للراهن وطء الجارية. وإن كانت لا تحبل؛ لأن من حرم وطؤها يستوي فيه من تحبل، ومن لا تحبل، كالمستبرأة. فإن وطئ فلا حد عليه لأنها ملكه. فإن نقصها لكونها بكراً أو أفضاها، فعليه ما نقصها، إن شاء جعله رهناً، وإن شاء جعله قصاصاً من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 الحق. وإذا لم تحمل منه، فهي رهن بحالها، كما لو استخدمها. وإن ولدت منه، فولده حر، وصارت أم ولد له؛ لأنه أحبلها بحر في ملكه. وتخرج من الرهن، موسراً كان، أو معسراً رواية واحدة؛ لأن الإحبال أقوى من العتق، ولذلك ينفذ إحبال المجنون، دون عتقه. وعليه قيمتها يوم إحبالها؛ لأنه وقت إتلافها. وإن تلفت بسبب الحمل، فعليه قيمتها؛ لأنها تلفت بسبب كان منه. فصل وكل ما منع الراهن منه، لحق المرتهن، إذا أذن فيه، جاز له فعله؛ لأن المنع لحقه، فجاز بإذنه، فإن رجع عن الإذن قبل الفعل، سقط حكم الإذن. فإن لم يعلم بالرجوع حتى فعل، فهل يسقط الإذن؟ فيه وجهان؛ بناء على عزل الوكيل بغير علمه. فإن تصرف بإذنه فيما ينافي الرهن من البيع والعتق ونحوهما، صح تصرفه وبطل الرهن؛ لأنه لا يجتمع مع ما ينافيه، إلا البيع، فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يبيعه بعد حلول الحق فيتعلق حق المرتهن بالثمن، ويجب قضاء الدين منه إلا أن يقضيه غيره؛ لأن مقتضى الرهن بيعه، واستيفاء الحق من ثمنه. الثاني: أن يبيعه قبل حلول الحق بإذن مطلق، فيبطل الرهن ويسقط حق المرتهن من الوثيقة؛ لأنه تصرف في عين الرهن تصرفاً لا يستحقه المرتهن، فأبطله كالعتق. والثالث: أن يشترط جعل الثمن رهناً، ويجعل دينه من ثمنه، فيصح البيع والشرط؛ لأنه لو شرط ذلك بعد حلول الحق، جاز، فكذلك قبله. وإن أذن له في الوطء والتزويج، جاز؛ لأنه منع منه لحقه، فجاز بإذنه، فإن فعل لم يبطل الرهن؛ لأنه لا ينافيه. فإن أفضى إلى الحمل أو التلف، فلا شيء على الراهن؛ لأنه مأذون في سببه، وإن أذن له في ضربها، فتلفت به، فلا ضمان عليه؛ لأنه تولد من المأذون فيه، كتولد الحمل من الوطء. فصل ويلزم الراهن مؤنة الرهن كلها، من نفقة وكسوة وعلف، وحرز وحافظ وسقي، وتسوية وجذاذ وتجفيف. لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه» وهذا من غرمه. ولأنه ملكه فكانت نفقته عليه، كالذي في يده. فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 احتاج إلى دواء، أو فتح عرق، لم يلزمه؛ لأن الشفاء بيد الله تعالى، وقد يحيا بدونه، بخلاف النفقة، ولا يجبر على إطراق الماشية؛ لأنه ليس مما يحتاج إليه لبقائها، وليس عليه ما يتضمن زيادة الرهن. فإن احتاجت إلى راع لزمه؛ لأنه لا قوام لها بدونه. فإن أراد السفر بها ليرعاها ولها في مكانها مرعى تتماسك به، فللمرتهن منعه؛ لأن فيه إخراجها عن يده ونظره، وإن أجدب مكانها، فللراهن السفر بها لأنه موضع حاجة. فإن اتفقا على السفر بها، واختلفا في مكانها، قدمنا قول من يطلب الأصلح، فإن استويا، قدم قول المرتهن؛ لأنه أحق باليد. فصل وليس للمرتهن أن ينتفع من الرهن بشيء بغير إذن الراهن، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه» ومنافعه من غنمه، ولأن المنافع ملك للراهن، فلم يجز أخذها بغير إذنه، كغير الرهن، إلا ما كان مركوباً أو محلوباً ففيه روايتان: إحداهما: هو كغيره لما ذكرناه. والثانية: للمرتهن الإنفاق عليه، ويركب ويحلب بقدر نفقته، متحرياً للعدل في ذلك، سواء تعذر الإنفاق من المالك أو لم يتعذر. لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن يركب بنفقته، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه البخاري. وفي لفظ: «فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته، ويركب» . فإن أنفق متبرعاً، فلا شيء له. رواية واحدة. وليس له استخدام العبد بقدر نفقته. وعنه: له ذلك إذا امتنع مالكه من الإنفاق عليه، كالمركوب والمحلوب. قال أبو بكر: خالف حنبل الجماعة. والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء؛ لأن القياس يقتضي ذلك، خولف في المركوب والمحلوب للأثر، ففي غيره يبقى على القياس. فصل وإن أنفق المرتهن على الرهن متبرعاً، لم يرجع، وإن أنفق بإذن الراهن بنية الرجوع، رجع بما أنفق؛ لأنه نائب عنه، فأشبه الوكيل، وإن أنفق بغير إذنه، معتقداً للرجوع نظرنا، فإن كان مما لا يلزم الراهن، كعمارة الدار، لم يرجع بشيء؛ لأنه تبرع بما لا يلزمه، فلم يرجع به كغير المرتهن، وإن كان مما يلزمه، كنفقة الحيوان، وكفن العبد، فهل يرجع به؟ على روايتين، بناء على من قضى دينه بغير إذنه. فصل فإذا أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع به بغير عوض، والرهن في قرض، لم يجز؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 لأنه يصير قرضاً منفعة، وإن كان في غير قرض، جاز لعدم لذلك. وإن أذن له في الانتفاع بعوض، مثل أن أجره إياه، فإن حاباه في الأجرة، فهو كالانتفاع بغير عوض، وإن لم يحابه فيها، جاز في القرض وغيره، لكونه ما انتفع بالقرض، إنما انتفع بالإجارة. وقال القاضي: ومتى استأجره المرتهن أو استعاره، خرج من الرهن في مدتهما؛ لأنه طرأ عليه عقد أوجب استحقاقه في الإجارة برضاهما، فإذا انقضى العقد عاد الرهن بحكم العقد السابق، والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن الرهن؛ لأن القبض مستدام فلا تنافي بين العقدين، لكنه في العارية، يصير مضموناً، لكون العارية مضمونة. فصل وإن انتفع به بغير إذن الراهن، فعليه أجرة ذلك في ذمته. فإن كان الدين من جنسها تقاصت هي وقدرها من الدين وتساقطا، وإن تلف الرهن ضمنه؛ لأنه تعدى فيه فضمنه كالوديعة. [ باب جناية الرهن والجناية عليه ] إذا جنى الرهن على أجنبي، تعلق حق المجني عليه برقبته، وقدم على المرتهن؛ لأنه يقدم على المالك، فأولى أن يقدم على المرتهن. فإن سقط حق المجني عليه بعفو أو فداء، بقي حق المرتهن؛ لأنه لم يبطل دائماً، وإنما قدم حق المجني عليه لقوته؛ فإذا زال، ظهر حق المرتهن، وإن كان الحق قصاصاً في النفس، اقتص منه، وبطل الرهن، وإن كان في الطرف، اقتص له وبقي الرهن في باقيه. وإن كان مالاً أو قصاصاً، فعفي عنه إلى مال فأمكن إيفاء حقه، ببيع بعضه، بيع منه بقدر ما يقضي به حقه، وباقيه رهن. وإن لم يمكن إلا ببيع جميعه، بيع، فإن استغرق ثمنه، بطل الرهن، وإن فضل منه شيء، تعلق به حق المرتهن. وإن كان أرش الجناية عليه أكثر من ثمنه، فطلب المجني عليه تسليمه للبيع، وأراد الراهن فداءه، فله ذلك؛ لأن حق المجني عليه في قيمته لا في عينه، ويفديه بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش جنايته في أحد الوجهين؛ لأن ما يدفعه عوض عنه، فلم يلزمه أكثر من قيمته، وفي الآخر يلزمه أرش الجناية كلها أو تسليمه؛ لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته، وفي الآخر يلزمه أرش الجناية كلها أو تسليمه؛ لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته فينتفع به المجني عليه. وإن أبى الراهن فداءه، فللمرتهن فداؤه بمثل ما يفديه به الراهن، وحكمه في الرجوع بذلك حكم ما يقضي به دينه، فإن شرط جعله رهناً بالفداء مع الدين الأول، لم يصح؛ لأنه رهن فلم يجز رهنه بدين سواه، وأجازه القاضي؛ لأن المجني عليه يملك إبطال الرهن بالبيع، فصار كالجائز قبل القبض. والزيادة في دين الرهن قبل لزومه جائزة. ولأن الحق متعلق به، وإنما ينتقل من الجناية إلى الرهن. بخلاف غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 فصل فإن جنى على سيده جناية لا توجب قصاصاً، فهي هدر؛ لأنه مال لسيده فلا يثبت له في ماله، كما لو لم يكن رهناً. وإن كانت موجبة للقود فيما دون النفس، فعفي على مال، سقطت مطلقاً لذلك. وإن أحب القصاص، فله ذلك؛ لأن القصاص يجب للزجر، والحاجة تدعو إلى زجره عن سيده. وإن كانت على النفس، فللورثة القصاص. وليس لهم العفو على مال في أحد الوجهين، لما ذكرنا في السيد، ولأنهم يقومون مقام الموروث، ولم يكن له العفو على مال، فكذلك وارثه، والثاني: لهم ذلك؛ لأن الجناية حصلت في ملك غيرهم فأشبه الجناية على أجنبي. فصل فإن جنى على موروث سيده، ولم ينتقل الحق إلى سيده، فهي جناية على أجنبي، وإن انتقل إليه، وكانت الجناية موجبة للقصاص في طرف، فمات المجني عليه، فللسيد القصاص والعفو على مال؛ لأن المجني عليه ملك ذلك فملكه وارثه. وإن كانت على النفس فكذلك في أحد الوجهين. والثاني: ليس له العفو على مال، كما لو كانت الجناية على نفسه. وأصلهما: هل يثبت للموروث ثم ينتقل إلى الوارث، أم للوارث ابتداء؟ فيه روايتان. فإن قلنا: يثبت للموروث ابتداء، فليس له العفو على مال كالجناية على طرف نفسه، وإن قلنا: يثبت للموروث فله العفو على مال؛ لأن الحق ينتقل إليه على الصفة التي كان لموروثه، لكون الاستدامة أقوى من الابتداء. وإن كانت الجناية موجبة للمال، أو كان الموروث قد عفي على مال، ثبت ذلك للسيد. لذلك فيقدم به على المرتهن. فصل وإن جنى على عبد لسيده غير مرهون، فحكمه حكم الجناية على طرف سيده. وإن كان مرهوناً عند مرتهن القاتل بحق واحد، والجناية موجبة للمال، أو عفا السيد على مال، ذهب هدراً. كما لو مات حتف أنفه. وإن كان رهناً بحق آخر، تعلق دين المقتول برقبة القاتل. إن كانت قيمة المقتول أكثر من قيمة القاتل، أو مساوية لها. وإن كانت أقل تعلق برقبة القاتل بقدر قيمة المقتول، فأي الدينين حل أولاً، بيع فيه، فيستوفى من ثمنه، وباقيه رهن بالآخر، وإن كان المقتول رهناً عند غير مرتهن القاتل، وكانت الجناية موجبة للقصاص، فللسيد الخيرة بين القصاص والعفو على مال؛ لأنه يتعلق به حق غيره، ويثبت المال في رقبة العبد. فإن كان لا يستغرق قيمته، بيع منه بقدر أرش الجناية ويكون رهناً عند مرتهن المجني عليه، وباقيه رهن بدينه. وإن لم يمكن بيع بعضه، بيع كله، وقسم ثمنه بينهما على حسب ذلك، وإن كانت الجناية تستغرق قيمته، فالثاني أحق به. وهل يباع، أو ينقل فيجعل رهناً عنده؟ فيه وجهان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 أحدهما: لا يباع لعدم الفائدة في بيعه. والثاني: يباع؛ لأنه ربما زاد فيه مزايد فاشتراه بأكثر من قيمته، فكل موضع قلنا: للسيد القصاص أو لوارثه، فاقتص، فقال بعض أصحابنا: عليه قيمته، تجعل مكانه، لأنه أتلف الرهن باختياره، ويحتمل أن لا يجب عليه شيء؛ لأنه اقتص بإذن الشارع، فلم يلزمه شيء، كالأجنبي. فصل وجنايته بإذن سيده كجنايته بغير إذنه، إلا أن يكون صبياً، أو أعجمياً لا يعلم تحريم الجناية، فيكون السيد هو الجاني يتعلق به القصاص والدية، كالمباشر لها، ولا يباع العبد فيها، وقيل: يباع إذا كان معسراً؛ لأنه باشر الجناية والأول أصح؛ لأن العبد آلة، ولو تعلقت به الجناية، بيع فيها وإن كان سيده موسراً. فصل وإن جنى على الرهن، فالخصم الراهن؛ لأنه مالكه ومالك بدله، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص، فله أن يقتص، أو يعفو، فإن اقتص، ففيه وجهان: أحدهما: عليه قيمته تجعل مكانه؛ لأنه أتلف مالاً استحق بسبب إتلاف [الرهن] فغرم قيمته، كما لو كانت الجناية موجبة للمال. والثاني: لا شيء عليه؛ لأنه لم يجب بالجناية مال، ولا استحق بحال، وليس على الراهن السعي للمرتهن في اكتساب مال، وإن عفا على مال، أو كانت الجناية موجبة للمال، كان رهناً مكانه. فإن عفا الراهن عن المال، لم يصح عفوه؛ لأنه محل تعلق به حق المرتهن، فلم يصح عفو الراهن عنه. كما لو قبضه المرتهن، وقال أبو الخطاب: يصح وتؤخذ منه قيمته وتكون رهناً؛ لأنه أتلفه بعفوه. وقال القاضي: تؤخذ قيمته من الجاني، فتجعل مكانه، فإذا زال الرهن، ردت إلى الجاني، كما لو أقر على عبده المرهون بالجناية، وإن عفا الراهن عن الجناية الموجبة للقصاص إلى غير مال، انبنى على موجب العمد. فإن قلنا: أحد شيئين، فهو كالعفو عن المال، وإن قلنا: القصاص، فهو كالاقتصاص، فيه وجهان. فصل إذا أقر الراهن أن العبد كان جنى قبل رهنه، فكذبه المرتهن، وولي الجناية، لم يسمع قوله، وإن صدقه ولي الجناية وحده، قبل إقراره على نفسه دون المرتهن، فيلزمه أرش الجناية؛ لأنه حال بين المجني عليه، وبين رقبة الجاني بفعله، فأشبه ما لو قتله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 فإن كان معسراً، فمتى انفك الرهن، كان المجني عليه أحق برقبته، وعلى المرتهن اليمين أنه لا يعلم ذلك، فإن نكل، قضي عليه. وفيه وجه آخر، أنه يقبل إقرار الراهن؛ لأنه غير متهم؛ لأنه يقر بما يخرج الرهن من ملكه، وعليه اليمين؛ لأنه يبطل بإقراره حق المرتهن فيه، وإن أقر أنه كان أعتقه، عتق؛ لأنه يملك عتقه، فملك الإقرار به، فيخرج العبد من الرهن، ويؤخذ من الراهن قيمته، تجعل مكانه، ولا يقبل قوله في تقديم عتقه؛ لأنه يسقط به حق المرتهن من عوضه. فصل وإن أقر رجل بالجناية على الرهن، فكذبه الراهن والمرتهن، فلا شيء لهما. وإن صدقه الراهن وحده فله الأرش، ولا حق للمرتهن فيه لإقراره بذلك. وإن صدقه المرتهن وحده، أخذ الأرش فجعل رهناً عنده، فإذا خرج من الرهن، رجع إلى الجاني، ولا حق للراهن فيه. والله سبحانه وتعالى أعلم. [ باب الشروط في الرهن ] يصح شرط جعل الرهن في يد عدل، فيقوم قبضه مقام قبض المرتهن؛ لأنه قبض في عقد، فجاز التوكيل فيه، كقبض الموهوب، وما دام العدل حاله، فليس لأحدهما، ولا للحاكم نقله عن يده؛ لأنهما رضياه ابتداء، وإن اتفقا على نقله، جاز؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما. وإن تغيرت حاله بفسق، أو ضعف عن الحفظ، أو عداوة لهما، أو لأحدهما، فمن طلب نقله منهما فله ذلك؛ لأنه متهم في حقه، ففي بقائه في يده ضرر، ثم إن اتفقا على من يضعانه عنده، جاز، وإن اختلفا، وضعه الحاكم في يد عدل، وإن اختلفا في تغير حاله، بعث الحاكم وعمل بما يظهر له، وإن مات العدل، لم يكن لوارثه إمساكه إلا بتراضيهما؛ لأنهما ما ائتمناه، وإن رده العدل عليهما، لزمهما قبوله؛ لأنه متطوع بحفظه، فلم يلزمه المقام عليه، فإن امتنعا أجبرهما الحاكم، فإن تغيبا، أو كانا غائبين، نصب الحاكم أميناً يقبضه لهما؛ لأن للحاكم ولاية على الغائب الممتنع من الحق، وإن دفعه الحاكم إلى أمين من غير امتناعهما، ولا غيبتهما، ضمن الحاكم والأمين معاً؛ لأنه لا ولاية له على غير الممتنع والغائب، فإن امتنعا، أو غابا، فلم يجد الحاكم ضمن؛ لأنه يقوم مقامهما. وكذلك لو أودعه من غير امتناعهما، ولا غيبتهما، ضمن هو والقابض معاً. وإن امتنع أحدهما، ولم يجد حاكماً، لم يكن له دفعه إلى الآخر، فإن فعل ضمن؛ لأنه يمسكه لنفسه. والعدل يمسكه لهما، فإن رده إلى يده، زال الضمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 فصل وإن شرط جعله في يد اثنين، صح الشرط، ولم يكن لأحدهما الانفراد بحفظه؛ لأن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما معاً، فلم يجز لأحدهما الانفراد به، كالوصيين، فإن سلمه أحدهما إلى صاحبه، ضمن نصفه؛ لأنه القدر الذي تعدى فيه، فإن مات أحدهما أو تغير حاله، أقيم مقامه عدل. فصل وكل من جاز توكيله، جاز جعل الرهن على يديه، مسلماً كان أو كافراً، عدلاً أو فاسقاً، ذكراً أو أنثى؛ لأنه جاز توكيله في غير الرهن، فجاز فيه، كالعدل. ولا يجوز أن يكون صبياً أو مجنوناً؛ لأنه غير جائز التصرف، فإن فعلا، كان قبضه له وعدمه واحداً. وإن كان عبداً، فله حفظه بإذن سيده، ولا يجوز بغير إذنه؛ لأن منافعه لسيده، فلا يجوز تضييعها في الحفظ من غير إذنه، وإن كان مكاتباً وكان بغير جعل، لم يجز؛ لأنه ليس له التبرع، وإن كان بجعل جاز؛ لأن له الكسب بغير إذن سيده، فإن لم يشرط جعله في يد أحد، فهو في يد المرتهن؛ لأنه المستوجب للعقد، فكان القبض له كالمتهب، فإن قبضه ثم تغيرت حاله في الثقة، أو الحفظ، أو حدث بينهما عداوة، فللراهن دفعه إلى الحاكم، ليزيل يده، ويجعل في يد عدل؛ لأنه لم يرض بحفظه في هذه الحال. وإن اختلفا في تغير حاله، بحث الحاكم، وعمل بما بان له، وإن مات المرتهن، نقل عن الوارث إلى عدل؛ لأن الراهن لم يرض بحفظه. فصل إذا شرط أن يبيعه المرتهن، أو العدل عند حلول الحق، صح شرطه؛ لأن ما صح توكيل غيرهما فيه، صح توكيلهما فيه، كبيع عين أخرى. فإن عزلهما الراهن، صح عزله؛ لأن الوكالة عقد جائز، فلم يلزم المقام عليهما، كما لو وكل غيرهما، أو وكلهما في بيع غيره، ولو مات المرتهن، لم يكن لوارثه البيع؛ لأنه لم يؤذن له، ويتخرج أنه لا يملك عزلهما؛ لأنه يفتح باب الحيلة، فإن عزل المرتهن العدل عن البيع، لم يملكه إلا في الحال الذي يملكه الراهن؛ لأنه وكيله خاصة، وإن أذنا له في بيع الرهن، فتلف بجناية قيمته مكانه، فقال القاضي: قياس المذهب أن له بيعها؛ لأنه يجوز له بيع نمائه تبعاً، فبيع قيمته أولى، والصحيح أنه لا يملك بيعها؛ لأنه لم يؤذن له فيه، ولا هي تبع لما أذن فيه، بخلاف النماء. فصل وإن أذنا له في البيع بنقد، لم يكن له خلافهما؛ لأنه وكيلهما، وإن أطلقا أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 اختلفا، باع بنقد البلد؛ لأن الحظ فيه، فإن كان فيه نقود، باع بأغلبها، فإن تساوت، باع بما يرى الحظ فيه؛ لأن الغرض تحصيل الحظ، فإن تساوت، باع بجنس الدين؛ لأنه يمكن القضاء منه، فإن لم يكن فيها جنس الدين، عين له الحاكم ما يبيع به. وحكمه حكم الوكيل في وجوب الاحتياط في الثمن على ما سنذكره، فإذا باع وقبض الثمن، فتلف في يده من غير تعد، فلا ضمان عليه؛ لأنه أمين وهو من ضمان الراهن؛ لأنه ملكه. فإن أنكر الراهن تلفه، فالقول قول العدل مع يمينه؛ لأنه أمين فهو كالمودع. فإن قال: ما قبضته من المشتري، فالقول قول العدل لذلك، ويحتمل أن لا يقبل قوله؛ لأن هذا إبراء للمشتري. وإن خرج الرهن مستحقاً، فالعهدة على الراهن دون العدل؛ لأنه وكيل، وإن استحق بعد تلف الثمن في يد العدل، رجع المشتري على الراهن دون العدل؛ لأنه قبض منه على أنه أمين في قبضه، وتسليمه إلى المرتهن، وإن كان الثمن باقياً في يد العدل، أو المرتهن، رجع المشتري فيه؛ لأنه عين ماله قبض بغير حق، وإن وجد المشتري بالمبيع عيباً فرده بعد قبض المرتهن ثمنه، لم يرجع عليه؛ لأنه قبضه بحق ولا على العدل؛ لأنه أمين، ويرجع على الراهن، إلا أن يكون العدل لم يعلم المشتري أنه وكيل، فيكون رجوعه عليه، ثم يرجع هو على الراهن، فإن تلف المبيع في يد المشتري، ثم بان مستحقاً، فلمالكه تضمين من شاء من الراهن والعدل والمرتهن؛ لأن كل واحد منهم قبض ماله بغير حق، ويستقر الضمان على المشتري؛ لأن التلف حصل في يده، ويرجع على الراهن بالثمن الذي أخذ منه، وإذا باع العدل الرهن بيعاً فاسداً، وجب رده، فإن تعذر رده، فللمرتهن تضمين من شاء من العدل والمشتري أقل الأمرين، من قيمة الرهن، أو قدر الدين؛ لأنه يقبض ذلك مستوفياً لحقه، لا رهناً، فلم يكن له أكثر من دينه، وما بقي للراهن يرجع به على من شاء منهما، وإن وفى الراهن المرتهن، رجع بقيمته على من شاء منهما، ويستقر الضمان على المشتري، لحصول التلف في يده. فصل وإذا ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن، فأنكره، ففيه وجهان: أحدهما: القول قول العدل؛ لأنه أمين. فإذا حلف برئ ويرجع المرتهن على الراهن. والثاني: القول قول المرتهن؛ لأنه منكر. والعدل إنما هو أمينه في الحفظ، لا في دفع الثمن إليه. فإذا حلف، رجع على من شاء منهما، فإذا رجع على العدل، لم يرجع العدل على الراهن؛ لأنه يقر ببراءة ذمته منه، ويدعي أن المرتهن ظلمه وغصبه. وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 رجع على الراهن، رجع الراهن على العدل، لتفريطه في القضاء بغير بينة، إلا أن يكون قضاؤه بحضرة الراهن، أو ببينة فماتت، أو غابت فلا يرجع عليه، لعدم تفريطه، وعنه: لا يرجع على العدل بحال؛ لأنه أمين، ولو غصب المرتهن الرهن من العدل ثم رده إليه، زال الضمان؛ لأنه رده إلى وكيل الراهن في إمساكه، فأشبه ما لو أذن له في دفعه إليه. ولو كان الرهن في يده، فتعدى فيه، ثم زال التعدي، لم يزل الضمان؛ لأن استئمانه زال بذلك، فلم يعد بفعله. فصل وإذا رهن أمة رجلاً، وشرط جعلها في يد امرأة، أو ذي رحم لها، أو ذي زوجة أو أمة، جاز؛ لأنه لا يفضي إلى الخلوة بها. وإن لم يكن كذلك، فسد الرهن، لإفضائه إلى خلوة الأجنبي بها، ولو اقترض ذمي من مسلم مالاً، ثم رهنه خمراً، لم يصح؛ لأنها ليست مالاً، وإن باعها الذمي أو وكيله، وأتاه بثمنها، فله أخذه، فإن امتنع، لزمه، وقيل له: إما أن تقبض، أو أن تبرئ؛ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة، جرى مجرى الصحيح. فصل فإن شرط ما ينافي مقتضى الرهن، نحو أن يشترط أن لا يسلمه، أو لا يباع عند الحلول، أو لا يستوفى الدين من ثمنه، أو شرط أن يبيعه بما شاء، أو لا يبيعه إلا بما يرضيه، فسد الشرط؛ لأن المقصود مع الوفاء به مفقود. وإن شرط أنه متى حل الحق، ولم توفني، فالرهن لي بالدين، أو بثمن سماه، فسد؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يغلق الرهن» رواه الأثرم. ومعناه: استحقاق المرتهن له لعجز الراهن عن فكاكه، ولأنه علق البيع على شرط مستقبل، فلم يصح، كما لو علقه على قدوم زيد. وإن قال: أرهنك على أن تزيدني في الأجل، لم يصح؛ لأن الدين الحال لا يتأجل، وإذا لم يثبت الأجل فسد الرهن؛ لأنه في مقابلته. وإن شرط أن ينتفع المرتهن بالرهن في دين القرض، لم يجز، وإن كان بدين مستقر في مقابلة تأخيره عن أجله، لم يجز؛ لأنه بيع للأجل، وإن كان في بيع، فعن أحمد جوازه إذا جعل المنفعة معلومة، كخدمة شهر ونحوه، فيكون بيعاً وإجارة. وإن لم تكن معلومة، بطل الشرط للجهالة، وبطل البيع لجهالة ثمنه، وما عدا هذا، فهو إباحة لا يلزم الوفاء به، وإن قال: رهنتك ثوبي هذا يوماً، ويوماً لا أوقته، فالرهن فاسد؛ لأن ينافي مقتضاه، وكل شرط يسقط به دين الرهن يفسده، وما لا يؤثر في ضرر أحدهما كاشتراط جعل الأمة في يد أجنبي عزب، لا يفسده. وفي سائر الشروط الفاسدة وجهان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 أحدهما: يفسد بها الرهن. والآخر: لا يفسد بناء على الشروط الفاسدة في البيع، ويحتمل أن ما ينقص المرتهن، يبطله وجهاً واحداً، وفي سائرها وجهان: أحدهما: يبطل الرهن؛ لأنه شرط فاسد، فأبطله كالأول. والثاني: لا يبطله؛ لأنه زائد، فإذا بطل، بقي العقد بأحكامه. [ باب اختلاف المتراهنين ] إذا قال: رهنتني كذا فأنكر، أو اختلفا في قدر الدين، أو قدر الرهن، فقال: رهنتني هذين، قال: بل هذا وحده، أو قال: رهنتني هذا بجميع الدين قال: بل نصفه، أو قال: رهنتنيه بالحال، قال: بل بالمؤجل، فالقول قول الراهن؛ لأنه منكر. والأصل عدم ما أنكره، ولأن القول قوله في أصل العقد، فكذلك في صفته، فإن قال: رهنتني عبدك هذا. قال: بل ثوبي هذا؛ لم يثبت الرهن في الثوب؛ لرد المرتهن له، وحلف الراهن على العبد، وخرج بيمينه. وإن قال: أرسلت وكيلك فرهن عبدك على ألفين قبضها مني، فقال: ما أذنت له في رهنه إلا بألف، سئل الرسول، فإن صدق الراهن، حلف على أنه ما رهنه إلا بألف، ولا قبض غيرها، ولا يمين على الراهن؛ لأن الدعوى على غيره. وإن صدق المرتهن، حلف الراهن، وعلى الرسول ألف؛ لأنه أقر بقبضها، ويبقى العبد رهناً على ألف واحدة. ومن توجهت عليه اليمين فنكل، فهو كالمقر سواء. فصل فإن قال: رهنتني عبدك هذا بألف، فقال: بل بعتكه بها، أو قال: بعتنيه بألف، فقال: بل رهنتكه بها، حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعى عليه، فسقط، ويأخذ السيد عبده، وتبقى الألف بغير رهن. فصل وإن قال الراهن: قبضت الرهن بغير إذني فقال: بل بإذنك، فالقول قول الراهن؛ لأنه منكر. وإن قال: أذنت لك، ثم رجعت قبل القبض، فأنكر المرتهن، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الرجوع، وإن كان الرهن في يد الراهن، فقال المرتهن: قبضته ثم غصبتنيه، فأنكر الراهن، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن أقر بتقبيضه، ثم قال: أحلفوه لي أنه قبض بحق، ففيه وجهان: أحدهما: يحلف؛ لأن ما ادعاه محتمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 والثاني: لا يحلف؛ لأنه مكذب لنفسه. وإن رهنه عصيراً، ثم وجد خمراً، فقال المرتهن: إنما أقبضني خمراً، فلي فسخ البيع. وقال الراهن: بل كان عصيراً، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فالقول قول الراهن؛ لأنه يدعي سلامة العقد، وصحة القبض، فظاهر حال المسلم استعمال الصحيح، فكان القول قول من يدعيه، كما لو اختلفا في شرط يفسد المبيع. ويحتمل أن القول قول المرتهن بناء على اختلاف المتبايعين في حدوث العيب. ولو كان الرهن حيواناً فمات، واختلفا في حياته وقت الرهن، أو القبض، فحكمه حكم العصير. وإن أنكر المرتهن قبضه، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن وجده معيباً واختلفا في حدوثه، ففيه وجهان مبنيان على الروايتين في البيع. فصل إذا كان لرجل على آخر ألف برهن، وألف بغير رهن، فقضاه ألفاً وقال: قضيت دين الرهن، فقال: هي عن الألف الآخر، فالقول قول الراهن، سواء اختلفا في لفظه أو نيته؛ لأنها تنتقل منه، فكان القول قوله في صفة النقل، وهو أعلم بنيته. ولو دفعها بغير لفظ ولا نية، فله صرفها إلى أيهما شاء، كما لو دفع زكاة أحد الألفين، فإن أبرأه المرتهن من أحدهما، فالقول قول المرتهن لذلك. وإن أطلق، فله صرفها إلى أيهما شاء. ذكره أبو بكر. فصل وإن كان عليه ألفان لرجلين، فادعى كل واحد منهما أنه رهنه عبده بدينه فأنكرهما، حلف لهما. وإن صدق أحدهما، أو قال: هو السابق، سلمه إليه وحلف للآخر. وإن نكل والعبد في يد أحدهما، فعليه للآخر قيمته تجعل رهناً؛ لأنه فوته على الثاني بإقراره للأول، أو بتسليمه إليه. وقال القاضي: هل يرجح صاحب اليد أو المقر له؟ يحتمل وجهين. فإن قال: لا أعلم المرتهن منهما، أو السابق، حلف على ذلك، والقول قول من هو في يده منهما مع يمينه. وإن كان في أيديهما، أو يد غيرهما، فالحكم في ذلك كالحكم فيما إذا ادعيا ملكه. فصل فإن ادعى على رجلين أنهما رهناه عبدهما بدينه فأنكراه، فالقول قولهما. وإن شهد كل واحد منهما على الآخر، قبلت شهادته؛ لأنه لا يجلب بهذه الشهادة نفعاً، ولا يدفع بها ضرراً. وإن أقر أحدهما وحده، لزم في نصيبه، وتسمع شهادته على صاحبه لما ذكرناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 فصل وإن ادعى المرتهن هلاك الرهن بغير تفريط، فالقول قوله؛ لأنه أمين فأشبه المودع. وإن ادعى الرد، ففيه وجهان: أحدهما: يقبل قوله لذلك. والثاني: لا يقبل؛ لأنه قبضه لنفسه، فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر. وإن أعتق الراهن الجارية، أو وطئها، فادعى أنه بإذن المرتهن فأنكره، فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل معه، فإن نكل، قضى عليه. وإن صدقه فأتت بولد، فأنكر المرتهن مدة الحمل، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمها، وإن وطئها المرتهن بإذن الراهن، وادعى الجهالة، وكان مثله يجهل ذلك، فلا حد عليه؛ لأن الحد يدرأ بالشبهات. ولا مهر؛ لأنه حق للسيد فسقط بإذنه، والولد حر يلحق نسبه؛ لأنه من وطء شبهة، ولا تصير أم ولد؛ لأنه لا ملك له فيها. وإن لم تكن له شبهة، فعليه الحد والمهر وولده رقيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 [ كتاب التفليس ] ومن لزمه دين مؤجل، لم يجز مطالبته به؛ لأنه لا يلزمه أداؤه قبل أجله، ولا يجوز الحجر عليه به؛ لأنه لا يستحق المطالبة به، فلم يملك منعه من ماله بسببه، فإن أراد سفراً يحل دينه قبل قدومه منه، فلغريمه منعه، إلا برهن أو ضمين مليء؛ لأنه ليس له تأخير الحق عن محله، وفي السفر تأخيره. وإن لم يكن كذلك، ففيه روايتان: إحداهما: له منعه؛ لأن قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر، فملك منعه منه كالأول. والثانية: ليس له منعه؛ لأنه لا يملك المطالبة به في الحال، ولا يعلم أن السفر مانع منها عند الحلول، فأشبه السفر القصير. وإن كان الدين حالاً، والغريم معسراً، لم تجز مطالبته، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ولا يملك حبسه ولا ملازمته؛ لأنه دين لا يملك المطالبة به، فلم يملك به ذلك، كالمؤجل. فإن كان ذا صنعة، ففيه روايتان: إحداهما: يجبر على إجارة نفسه؛ لما «روي أن رجلاً دخل المدينة، وذكر أن وراءه مالاً، فداينه الناس، ولم يكن وراءه مال، فسماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرقا، وباعه بخمسة أبعر» ، وروى الدارقطني نحوه وفيه أربعة أبعرة. والحر لا يباع، فعلم أنه باع منافعه، ولأن الإجارة عقد معاوضة، فجاز أن يجبر عليه، كبيع ماله، وإجارة أم ولده. والثانية: لا يجبر؛ لما روى أبو سعيد: «أن رجلاً أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تصدقوا عليه فتصدقوا عليه، فلم يبلغ وفاء دينه، فقال النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» رواه مسلم. ولأنه نوع تكسب، فلم يجبر عليه كالتجارة. فصل وإن كان موسراً، فلغريمه مطالبته، وعليه قضاؤه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» متفق عليه. فإن أبى، فله حبسه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لي الواجد يحل عقوبته وعرضه» من المسند. فإن لم يقضه، باع الحاكم ماله وقضى دينه، لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سابق الحاج، فادان معرضاً، فمن كان له عليه مال فليحضر، فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه رواه مالك في الموطأ بنحوه، فإن غيب ماله، حبسه وعزره حتى يظهره. ولا يجوز الحجر عليه مع إمكان الوفاء، لعدم الحاجة إليه. وإن تعذر الوفاء، وخيف من تصرفه في ماله، حجر عليه إذا طلبه الغرماء، لئلا يدخل الضرر عليهم. فصل فإن ادعى الإعسار من لم يعرف له مال، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدمه. وإن عرف له مال، أو كان الحق لزمه في مقابلة مال، كثمن مبيع، أو قرض، لم يقبل قوله إلا ببينة؛ لأن الأصل بقاء المال، ويحبس حتى يقيم البينة. فإن قال: غريمي يعلم إعساري، فعلى غريمه اليمين أنه لا يعلم ذلك. وإن أقام البينة على تلف المال، فعليه اليمين معها أنه معسر؛ لأنه صار بهذه البينة كمن لم يعرف له مال. وإن شهدت بإعساره، فادعى غريمه أن له مالاً باطناً، لم يلزمه يمين؛ لأنه أقام البينة على ما ادعى، وتسمع البينة على التلف. وإن لم يكن ذا خبرة باطنة؛ لأنه أمر يعرف بالمشاهدة ولا تسمع على الإعسار إلا من أهل الخبرة بحاله؛ لأنه من الأمور الباطنة. فإن كان في يده مال فأقر به لغيره، سئل المقر له، فإن كذبه، بيع في الدين، وإن صدقه، سلم إليه. فإن قال الغريم: أحلفوه أنه صادق لم يستحلف؛ لأنه لو رجع عن الإقرار، لم يقبل منه. وإن طلب يمين المقر له؛ لأنه لو رجع قبل رجوعه. فصل فإن كان ماله لا يفي بدينه، فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه، لزمته إجابتهم؛ لما روى «كعب بن مالك: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ، وباع ماله» رواه سعيد بن منصور بنحوه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، ولأن فيه دفعاً للضرر عن الغرماء، فلزم ذلك كقضائهم. ويستحب الإشهاد على الحجر، ليعلم الناس حاله، فلا يعاملوه إلا على بصيرة، ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 أحدها: منع تصرفه في ماله، فلا يصح بيعه ولا هبته، ولا وقفه، ولا غير ذلك؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فمنع تصرفه، كالحجر للسفه. وفي العتق روايتان: إحداهما: لا يصح لذلك، ولأن حق الغرماء تعلق بماله، فمنع صحة عتقه، كما لو كان مريضاً. والثانية: يصح؛ لأنه عتق من مالك رشيد صحيح، أشبه عتق الراهن. وإن أقر بدين، أو عين في يده، كالقصار والحائك يقر بثوب، لم يقبل إقراره لذلك، ويلزم في حقه، يتبع به بعد فك الحجر عنه، وإن توجهت عليه يمين فنكل عنها، فهو كإقراره. وإن تصرف في ذمته بشراء، أو اقتراض أو ضمان، أو كفالة، صح؛ لأنه أهل للتصرف، والحجر إنما تعلق بماله دون ذمته. ولا يشارك أصحاب هذه الديون الغرماء؛ لأن من علم منهم بفلسه فقد رضي بذلك، ومن لم يعلم، فهو مفرط. ويبيعونه بعد فك الحجر عنه كالمقر له، وهل للبائع والمقرض الرجوع في أعيان أموالهما إن وجداها؟ على وجهين: أحدهما: لهما ذلك، للخبر، ولأنه باعه في وقت الفسخ، فلم يسقط حقه منه، كما لو تزوجت المرأة معسراً بنفقتها. والثاني: لا فسخ لهما؛ لأنهما دخلا على بصيرة بخراب الذمة، أشبها من اشترى معيباً يعلم عيبه. وإن جنى المفلس جناية توجب مالاً، لزمه وشارك صاحبه الغرماء؛ لأنه حق ثبت بغير رضى مستحقه، فوجب قضاؤه من المال كجناية عبده وإن ثبت عليه حق بسبب قبل الفلس ببينة، شارك صاحبه الغرماء؛ لأنه غريم قديم، فهو كغيره. فصل الحكم الثاني: أنه يتعلق حقوق الغرماء بعين ماله، فليس لبعضهم الاختصاص بشيء منه سوى ما سنذكره. ولو قضى المفلس أو الحاكم بعضهم وحده، لم يصح. لأنهم شركاؤه فلم يجز اختصاصه دونهم. ولو جنى عليه جناية أوجبت مالاً، أو ورث مالا تعلقت حقوقهم به. وإن أوجبت قصاصاً لم يملكوا إجباره على العفو إلى مال؛ لأن فيه ضرراً بتفويت القصاص الواجب لحكمة الإحياء، ولا يجبر على قبول هبة، ولا صدقة، ولا قرض عرض عليه، ولا المرأة على التزوج؛ لأنه فيه ضرراً بلحوق المنة، أو التزوج من غير رغبة. ولو باع بشرط الخيار، لم يجبر على ما فيه الحظ من رد، أو إمضاء؛ لأن الفلس يمنعه إحداث العقود، لا إمضاؤها وليس للغرماء الخيار؛ لأن الخيار لم يشرط لهم. وإن وهب هبة بشرط الثواب، لزم قبوله؛ لأنه عوض عن مال، فلزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 قبوله، كثمن المبيع. ولا يملك إسقاط ثمن مبيع ولا أجرة، ولا أخذه رديئاً، ولا قبض المسلم فيه صفته، إلا بإذن الغرماء، لما ذكرناه. وإن ادعى مالاً له به شاهد، حلف وثبت المال، وتعلقت حقوقهم به، وإن نكل لم يكن للغرماء أن يحلفوا؛ لأن دعواهم لهذا المال غير مسموعة، فلا يثبت بأيمانهم، كالأجانب، ولأنهم لو حلفوا لحلفوا على إثبات مال لغيرهم، وكذلك الحكم في غرماء الميت، إذا لم يحلف الوارث، لم يحلفوا لما ذكرنا. فصل والحكم الثالث: أن للحاكم بيع ماله، وقضاء دينه. ويستحب أن يحضره عند البيع؛ لأنه أعرف بثمن ماله، وجيده ورديئه، فيتكلم عليه، وهو أطيب لقلبه، ويحضر الغرماء؛ لأنه أبعد من التهمة، ربما رغب بعضهم بشراء شيء، فزاد في ثمنه، أو وجد عين ماله فأخذها، فإن لم يفعل جاز؛ لأن ذلك موكول إليه، ويقيم منادياً ينادي على المتاع. فإن عين المفلس والغرماء منادياً ثقة، أمضاه الحاكم. وإن لم يكن ثقة رده؛ لأن للحاكم نظراً، فإنه ربما ظهر غريم آخر. وإن اختلفوا في المنادي، قدم الحاكم أوثقهما وأعرفهما، فإن تطوع بالنداء ثقة، لم يستأجر؛ لأن فيه بذل الأجرة من غير حاجة، وإن عدم، بذلك الأجرة من مال المفلس؛ لأن البيع حق عليه، ويقدم على الغرماء بها؛ لأنه لو لم يعط، لم يناد. وكذلك أجرة من يحفظ المتاع والثمن، ويحمله ويباع كل شيء في سوقه؛ لأن أهل السوق أعرف بقيمة المتاع وأرغب، وطلابه فيه أكثر. فإن باعه في غيره بثمن مثله، جاز؛ لأنه ربما أداه اجتهاده إلى ذلك لمصلحة فيه، ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد؛ لأن في تأخيره هلاكه، ثم بالحيوان؛ لأنه يحتاج إلى العلف، ويخشى عليه التلف، ثم بالأثاث؛ لأنه يخشى تلفه، وتناله اليد، ثم بالعقار؛ لأنه أبعد تلفاً، وتأخيره أكثر لطالبيه، فيزداد ثمنه. ومن وجد من الغرماء عين ماله، فهو أحق بها. ومن اكترى من المفلس داراً، أو ظهراً بعينه قبل الحجر عليه، فهو أحق به؛ لأنه استحق عينه قبل إفلاسه، فأشبه ما لو اشترى منه عبداً. وإن اكترى منه ظهراً في الذمة، فهو أسوة الغرماء؛ لأن دينه في الذمة أشبه سائر الغرماء، وإن كان في المتاع رهن أو جان، قدم الراهن والمجني عليه بثمنه؛ لأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة، بخلاف سائر الغرماء، وحق المجني عليه يقدم على حق المرتهن، فعلى غيره أولى. وإن فضل منه فضل، رده على التركة، وإن لم يف بحقهما، فلا شيء للمجني عليه؛ لأنه لا حق له في غير الجاني، ويضرب المرتهن مع الغرماء بباقي دينه؛ لأن حقه متعلق بالذمة مع تعلقه بالعين، وإن بيع له متاع، فهلك ثمنه، أو استحق المبيع، رجع المشتري بثمنه. وهل يقدم على الغرماء؟ فيه وجهان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 أحدهما: يقدم؛ لأن في تقديمه مصلحة، فإنه لو لم يقدم، تجنب الناس شراء ماله خوفاً من الاستحقاق، فيقل ثمنه، فقدم به، كأجرة المنادي. والثاني: لا يقدم؛ لأنه حق لزمه بغير رضى صاحبه، أشبه أرش جنايته، ثم يقسم ما اجتمع من ماله بين الغرماء على قدر ديونهم. فإن ظهر غريم بعد القسمة، نقضت وشاركهم؛ لأنه غريم، لو كان حاضراً لشاركهم، فإذا ظهر بعد ذلك، قاسمهم كما لو ظهر للميت غريم بعد قسم ماله. وإن أكرى داره عاماً، وقبض أجرتها فقسمت، ثم انهدمت الدار، رجع المكتري على المفلس بأجرة ما بقي وشاركهم فيما اقتسموه؛ لأنه دين وجب بسبب قبل الحجر، فشارك به الغرماء كما لو انهدمت قبل القسمة. فصل الحكم الرابع: أن من وجد عين ماله عنده، فهو أحق به؛ لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجد متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس، فهو أحق به» متفق عليه. وله الخيار بين أخذه أو تركه، وله أسوة الغرماء، سواء كانت السلعة مساوية لثمنها، أو أقل أو أكثر؛ لأن الإعسار ثبت للفسخ فلا يوجبه كالعيب، ولا يفتقر إلى حاكم؛ للخبر، ولأنه فسخ ثبت بنص السنة، فلم يفتقر إلى حاكم، كفسخ النكاح بالعتق تحت العبد. وفيه وجهان: أحدهما: أن الخيار على التراخي؛ لأنه رجوع لا يسقط إلى عوض، كان على التراخي كالرجوع في الهبة. والثاني: هو على الفور. اختاره القاضي؛ لأن في تأخيره إضراراً بالغرماء، لتأخير حقوقهم، ولأنه خيار يثبت في المبيع، لنقص في العوض، أشبه الرد بالعيب، فإن حكم حاكم بسقوط الخيار، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ينقض حكمه؛ لأنه يخالف صريح السنة، ويحتمل أن لا ينقض؛ لأنه مختلف فيه. ولو بذل الغرماء لصاحب السلعة ثمنها ليتركها، لم يلزمه قبول؛ للخبر، ولأنه تبرع بدفع الحق من غير من هو عليه، فلم يجبر المستحق على قبوله، كما لو أعسر بنفقة زوجته فبذلها غيره. وسواء ملكها المفلس ببيع أو قرض، لعموم الخبر. ولو أصدق امرأة مالاً، وأفلست قبل دخوله بها، ثم ارتدت أو طلقها، ووجد عين ماله فهو أحق بها. ولو استأجر شيئاً فأفلس قبل مضي شيء من المدة، فللمؤجر الرجوع فيه؛ لأنه وجد عين ماله، وإن كان بعد مضي المدة، فهو غريم بالأجرة، وإن كان بعد مضي شيء منها، فهو غريم؛ لأن المدة كالمبيع، ومضي بعضها، كتلف بعضه. وقال القاضي: له الفسخ. فإن كان للمفلس زرع فعليه تبقيته بأجرة مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 فصل ولا يملك الرجوع إلا بشروط خمسة: أحدها: أن يجدها سالمة. فإن تلف بعضها، أو باعه المفلس، أو وهبه، أو وقفه، فله أسوة الغرماء؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أدرك متاعه بعينه فهو أحق به» والذي تلف بعضه لم توجد عينه. فإن كان المبيع عبدين، أو ثوبين، فتلف أحدهما أو بعضه، ففي السالم منهما روايتان: إحداهما: له الرجوع فيه بقسطه؛ لأنه وجده بعينه. والثانية: لا يرجع؛ لأنه لم يجد المبيع بعينه، أشبه العين الواحدة. وإن كان المبيع شجرة مثمرة، فتلفت ثمرتها، فله أسوة الغرماء؛ لأنهما كالعين الواحدة، إلا أن تكون الثمرة مؤبرة حين البيع، فاشترطها المبتاع، فهما كالعينين؛ لأن الثمرة لا تتبع الأصل، فهي كالولد المنفصل. وإن نقص المبيع صفة، مثل أن هزل، أو نسي صناعة، أو كبر، أو كان ثوباً فخلق، لم يمنع الرجوع؛ لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين المال، فيتخير بين أخذه ناقصاً، أو يكون أسوة الغرماء بكل الثمن. وإن فقئت عينه، فهو كتلف بعضه، وإن شج، أو جرح، أو افتضت البكر، فكذلك في قول أبي بكر؛ لأنه نقص جزء ينقص قيمته، فأشبه ما لو فقئت عينه. وقال القاضي: قياس المذهب أن له الرجوع؛ لأنه فقد صفة، فهو كالهزال، ثم إن كان لا أرش له لكونه حصل بفعل الله تعالى، أو فعل المفلس، فلا شيء للبائع مع الرجوع، وإن كان له أرش، فللبائع إذا رجع أن يضرب مع الغرماء بحصة ما نقص من ثمنه، فينظر ما نقص من قيمته فيرجع بقسطه من الثمن؛ لأنه مضمون على المشتري للبائع بالثمن والأرش للمفلس على الجاني. فصل فإن كان المبيع زيتاً، فخلطه بزيت آخر، أو لت به سويقاً، أو صبغاً فصبغ به ثوباً، أو مسامير فسمر بها باباً، أو حجراً فبنى به، أو لوحاً فجعله في سفينة، أو سقف أو نحو ذلك، لم يكن له الرجوع؛ لأنه لا يقدر على أخذ عين ماله في بعض الصور، ولا يقدر في بعضها إلا بإتلاف مال المفلس، ولا يزال الضرر بالضرر. وإن كانت حنطة، فطحنها أو زرعها، أو دقيقاً فخبزه، أو زيتاً فعمله صابوناً، أو غزلاً فنسجه، أو ثوباً فجعله قميصاً، أو حباً فصار زرعاً، أو بيضاً فصار فرخاً، أو نوى فنبت شجراً، أو نحوه مما يزيل اسمه، فلا رجوع له؛ لأنه لم يجد متاعه بعينه، لتعذر اسمه وصفته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 فصل وإن اشترى ثوباً فصبغه أو قصره، أو سويقاً فلته بزيت، فلصاحبهما الرجوع فيهما؛ لأن عين مالهما قائمة مشاهدة، لم يتغير اسمها، ولا صفتها، ويصير المفلس شريكهما بما زاد عن قيمتهما؛ لأن ما حصل من زيادة القيمة بالصبغ وغيره، فهي للمفلس؛ لأنها حصلت بفعله في ملكه. وإن نقص الثوب، لم يمنع الرجوع؛ لأنه نقص صفة، فهو كالهزال. وإن لم يزد بالقصارة، سقط حكمها، لعدم أثرها في الزيادة. وإن اشترى أرضاً فزرعها، ثم أفلس، فللبائع الرجوع فيها، لما ذكرنا، ويكون الزرع مبقى إلى الحصاد بغير أجرة؛ لأن العوض في مقابلة الأرض، لا في مقابلة المنفعة فإذا فسخ، عادت إليه الرقبة دون المنفعة المستثناة شرعاً، كما لو باعه أمة فزوجها ثم رجع فيها دون منفعة بضعها. فصل الشرط الثاني: أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئاً، فإن قبض بعضه، فلا رجوع له، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيما رجل باع سلعة، فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس، ولم يكن قبض من ثمنها شيئاً، فهي له، وإن كان قد قبض من ثمنها شيئاً، فهو أسوة الغرماء» رواه أبو داود، ولأن في الرجوع بالباقي تبعيض الصفقة على المفلس، فلم يجز، كما لو لم يقبض شيئاً. فصل الشرط الثالث: أن لا يتعلق بها حق غير المفلس، فإن خرجت عن ملكه ببيع أو غيره، لم يرجع؛ لأنه تعلق بها حق غيره، أشبه ما لو أعتقها. وإن رهنها، سقط الرجوع لذلك، وإن تعلق بها أرش جناية، سقط الرجوع؛ لأنه يقدم على حق المرتهن، فهو أولى بالمنع، ويتوجه أن لا يمنع؛ لأنه لا يمنع تصرف المشتري بخلاف الرهن، فعلى هذا إن شاء رجع فيه ناقصه بعيب الجناية، وإن شاء فله أسوة الغرماء، فإن كان دين الرهن، أو أرش الجناية بقدر بعضه، منع الرجوع في الجميع؛ لأنه معنى منع الرجوع في بعضها، فمنعه في جميعها، كبيع بعضها. وقال القاضي: يرجع في باقيها بقسطه؛ لأنه لا مانع فيه، وإن كان المبيع شقصاً مشفوعاً، ففيه وجهان: أحدهما: للبائع الرجوع، اختاره ابن حامد؛ للخبر، ولأنه إذا رجع فيه، عاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 الشقص إليه، فزال الضرر عن المبيع، لعدم شركه غير البائع. والثاني: الشفيع أحق؛ لأن حقه آكد بدليل أنه ينزع الشقص من المشتري، وممن نقله إليه المشتري، بخلاف البائع. وإن باعه المفلس أو وهبه، ثم عاد إليه، ففيه وجهان: أحدهما: له الرجوع للخبر، ولأنه وجد عين ماله خالياً عن حق غيره، أشبه إذا لم يبعه. والثاني: لا يرجع؛ لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه، فلم يملك فسخه. وإن كان المبيع صيداً، فوجده البائع بعد أن أحرم، سقط الرجوع؛ لأنه تملك للصيد، فلم يجز مع الإحرام كشرائه. فصل الشرط الرابع: كون المفلس حياً، فإن مات فالبائع أسوة الغرماء، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فإن مات فصاحب المتاع أسوى الغرماء رواه أبو داود. وفي لفظ: «أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه، اقتضى من ثمنه شيئاً، أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء» رواه ابن ماجه. ولأن الملك انتقل عن المفلس، فسقط الرجوع فيه كما لو باعه. فصل الشرط الخامس: أن لا يزيد زيادة متصلة، كالسمن والكبر، وتعلم صنعة، فإن وجد ذلك، منع الرجوع، ذكره الخرقي؛ لأنه فسخ بسبب حادث، فمنعته الزيادة المتصلة، كالرجوع في الصداق للطلاق قبل الدخول. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: له الرجوع للخبر، ولأنه فسخ فلم تمنعه الزيادة، كالرد بالعيب. فأما الزيادة المنفصلة، كالولد والثمرة الظاهرة والكسب، فلا يمنع الرجوع؛ لأنه يمكن الرجوع في العين دونها، والزيادة للمفلس في ظاهر المذهب؛ لأنها نماء ملكه المنفصل، فكانت له، كما لو ردها بعيب، ورجعت إلى الزوج بالطلاق، ولأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» رواه أبو داود. يدل على أن النماء للمشتري، لكون الضمان عليه. وقال أبو بكر: هي للبائع قياساً على المتصلة، والفرق ظاهر؛ لأن المتصلة تتبع في الفسوخ دون المنفصلة. فصل فإن باعها حائلاً فحملت، فالحمل زيادة متصلة؛ لأنه يتبع أمه في العقود والفسوخ، ولا يمكن الرجوع فيها دونه، فهو كالسمن، ويحتمل أن يرجع فيها دون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ولدها، يتربص به حتى تضع؛ لأنه جزء لانفصاله غاية، فأشبه الثمرة. وإن أفلس بعد وضعها، فهو زيادة منفصلة، له الرجوع في الأم دون الولد، إلا أن تكون أمة، فلا يجوز التفريق بينهما، ويخير بين دفع قيمة الولد ليملكهما، وبين بيعهما معاً، فيكون له من الثمن ما يخص الأم. وإن باعها حاملاً، فلم تزد قيمتها، فله الرجوع، وإن زادت القيمة لكبر الحمل أو وضعه، فهي زيادة متصلة. وإن زاد أحدهما خرج على الروايتين فيما إذا كان المبيع عينين، فتلفت إحداهما. وقال القاضي: له الرجوع فيهما على كل حال. ومن جعل الحمل لا حكم له، جعل حكمها حكم المبيعة حائلاً سواء. فصل فإن باع نخلاً حائلاً فأطلعت، ثم أفلس المشتري قبل تأبيرها، فالطلع زيادة متصلة؛ لأنها تتبع في البيع. وقال ابن حامد: حكمها حكم المنفصل؛ لأنه يمكن فصله، وإفراده بالبيع بخلاف السمن، وإن أفلس بعد تأبيرها، فهي زيادة منفصلة، تكون للمفلس متروكة إلى الجذاذ، كما لو اشترى النخل، وكذلك الحكم في سائر الشجر، وفي الأرض ينبت فيها الزرع، فإن اتفق المفلس والغرماء على تبقيته أو قطعه، فلهم ذلك، وإن اختلفوا، وله قيمته مقطوعاً، قدم قول من طلب القطع؛ لأنه أقل عذراً، ولأن الطالب للقطع، إما غريم يطلب حقه، أو مفلس يطلب تبرئة ذمته، فإن أقر المفلس للبائع بالطلع، لم يقبل إقراره؛ لأنه يسقط به حق الغرماء، فلم يقبل كإقراره بغريم آخر، وعلى الغرماء اليمين؛ لأنهم لا يعلمون برجوع البائع قبل التأبير؛ لأن اليمين تثبت في جنبهم ابتداء. وإن أقر الغرماء، لم يقبل؛ لأن الملك للمفلس، ويحلف المفلس، ويثبت الطلع له، ينفرد به دونهم، لإقرارهم أنه لا حق لهم فيه، وله تخصيص بعضهم به، وقسمته بينهم، فمن أباه قيل له: إما أن تأخذه أو تبرئه؛ لأنه للمفلس حكماً، فقد قضاهم ما ثبت له، فلزمهم، قبوله، كما لو أدى المكاتب نجومه، فادعى سيده تحريمه. فإن قبضوا الثمرة بعينها، لزمهم ردها إلى البائع لإقرارهم له بها، وإن قبضوا ثمنها، لم يلزمهم رده؛ لأنهم إنما اعترفوا له بالعين له بالثمن. وإن شهد الغرماء للبائع بالطلع، وهم عدول، قبلت شهادتهم لأنهم غير متهمين. فصل وإن اشترى أرضاً فغرسها، أو بنى فيها، ثم أفلس، فللبائع الرجوع في الأرض، ثم إن طلب المفلس والغرماء، قلع الغراس والبناء، فلهم ذلك، وعليهم ضمان ما نقصها القلع وتسوية الحفر؛ لأنه نقص حصل بفعلهم، لتخليص ملكهم، فأشبه المشتري مع الشفيع. وإن أبوا القلع، فللبائع دفع قيمته ويملكه؛ لأنه حصل لغيره في ملكه بحق، فملك ذلك، كالشفيع، فإن أبى ذلك سقط الرجوع؛ لأن فيه ضرراً على المشتري، ولأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 عين ماله مشغولة بملك غيره، أشبه الحجر المبني عليه، هذا قول ابن حامد. وقال القاضي: يحتمل أن له الرجوع؛ لأن شغل ملكه بملك غيره لا يمنع الرجوع إذا كان أصلاً، كالثوب إذا صبغ، فإذا رجع، فاتفق الجميع على البيع، بيع، وأعطي كل واحد حقه، وإن أبى بعضهم احتمل أن يجبر عليه؛ لأنه معنى ينفصل به أحدهما عن صاحبه، أشبه بيع الثوب المصبوغ، واحتمل أن لا يجبر صاحب الأرض، ويباع الشجر وحده؛ لأنه ممكن بخلاف الصبغ. فصل وإن اشترى غراساً فغرسه، ثم أفلس فلم يزد، فللبائع الرجوع فيه، ويقلعه، ويضمن النقص، فإن أتى قلعه فبذل المفلس والغرماء قيمته ليملكوه، فلهم ذلك كالتي قبلها، وإن أرادوا قلعه، فلهم ذلك، ولا ضمان عليهم؛ لأن المفلس اشتراه مقلوعاً، فلم يلزمهم مع رده لذلك شيء آخر، ولا إبقاءه في أرضهم بغير استحقاق. وإن زاد سقط الرجوع في قول الخرقي، وعلى رواية الميموني يحتمل ذلك أيضاً؛ لأن النماء فيه قد حصل من أرض المفلس، فلم يملك البائع أخذه، ويحتمل أن له الرجوع، كما لو سمن العبد من طعامه. وإن اشترى من رجل أرضاً، ومن آخر غرساً، فغرسه فيها، فلصاحب الأرض الرجوع، وفي صاحب الغرس التفصيل الذي ذكرناه، فإن رجعا معاً، فالحكم فيهما، كما لو كان الغرس في أرض المفلس. فصل وإن أفلس، وعليه دين مؤجل لم يحل؛ لأنه التأجيل حق له، فلم يبطل بفلسه، كسائر حقوقه، قال القاضي: لا يحل رواية واحدة. وقال أبو الخطاب: فيه رواية أخرى أنه يحل؛ لأن الفلس معنى يوجب تعلق الدين بماله، فأسقط الأجل كالموت، فإن قلنا: لا يحل اختص أصحاب الديون الحالة بماله دونه؛ لأنه لا يستحق استيفاء حقه قبل أجله، وإن حل دينه قبل القسمة، شاركهم لمساواته إياهم في استيفائه، فأشبه من تجدد له دين بجناية المفلس عليه، وإن أدرك بعض المال، شاركهم فيه لذلك، فإن كان المؤجل برهن خص به؛ لأن حقه تعلق بعينه، فإن وجد عين ماله، فقال أحمد: يكون موقوفاً إلى أن يحل فيختار الفسخ أو الترك؛ لأن حقه تعلق بالعين، فقدم على غيره كالمرتهن، فإن كان ماله سلماً، فأدرك عين ماله، رجع فيها، وإن لم يدركها، وحل دينه قبل القسمة، ضرب بالمسلم فيه، وأخذ بقسطه من جنس حقه إن كان في المال وإلا اشترى به من جنس حقه، ودفع إليه، ولا يجوز أن يأخذ غير ما أسلم فيه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» رواه ابن ماجه وأبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 فصل فإن مات إنسان، وعليه دين مؤجل، ففيه روايتان: إحداهما: لا يحل، اختارها الخرقي، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك حقاً فلورثته» والتأجيل حق له. فينتقل إلى ورثته؛ لأنه لا يحل به ماله، فلا يحل ما عليه كالجنون. والثاني: يحل؛ لأن بقاءه ضرر على الميت لبقاء ذمته مرتهنة به، وعلى الوارث لمنعه التصرف في التركة، وعلى الغريم تأخير حقه، وربما تلفت التركة، وعلى كلتا الروايتين يتعلق الحق بالتركة، كتعلق الأرش بالجاني، ويمنع الوارث التصرف فيها إلا برضى الغريم، أو توثيق الحق بضمين مليء، أو رهن يفيء بالحق إن كان مؤجلاً، فإنهم قد يكونون أملياء، فيؤدي تصرفهم إلى فوات الحق، فإن تصرفوا قبل ذلك، صح تصرفهم كتصرف السيد في الجاني، ويلزمهم أقل الأمرين من قضاء الدين، أو قيمة التركة؛ لأنه لا يلزمهم أكثر من وفاء الدين، ولا أكثر من التركة، ولهذا لو كانت باقية، لم يلزمهم أكثر من تسليمها. وإن تلفت التركة قبل التصرف فيها والتوثيق منها، سقط الحق كما لو تلف الجاني. وإن قضى الورثة الدين من غير التركة أو منها، جاز. وإن أبى الجميع، باع الحاكم من التركة ما يقضي به الدين. وإن مات المفلس وعليه دين مؤجل، فوثق الورثة للمؤجل، اختص أصحاب الحالة بالتركة، وإن أبوا ذلك، حل دينه فشاركهم، لئلا يفضي إلى إسقاط دينه بالكية. فصل وإذا حجر على المفلس، وهو ذو كسب يفيء بمؤنته ومؤنة من تلزمه مؤنته، فلذلك في كسبه؛ لأن ماله لا يخرج فيما لا حاجة إلى إخراجه فيه. وإن لم يف كسبه بمؤنته، كملناها من ماله. وإن لم يكن ذا كسب، أنفق عليه وعلى من تلزمه مؤنته من ماله بالمعروف في مدة الحجر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وفيمن يعوله من تكون نفقته ديناً، كالزوجة. وإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة، وجب تقديمها على سائر الديون، ولأن تجهيز الميت يقدم على دينه اتفاقاً، فنفقة الحي أولى؛ لأن حرمته آكد من حرمة الميت. ويقدم نفقة من تلزمه مؤنته من أقاربه؛ لأنهم جروا مجراه، وكذلك عتقوا عليه إذا ملكهم. وكذلك نفقة زوجته؛ لأنها آكد من نفقة أقاربه، وتجب كسوتهم أيضاً؛ لأن ذلك مما لا بد منه، ويكون ذلك من أدنى ما ينفق على مثلهم، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 يكتسي مثلهم، فإن كانت له ثياب هي أرفع من كسوة مثله، بيعت واشتري لهم كسوة مثلهم، ورد الفضل على الغرماء. وإن مات منهم ميت، كفن من ماله؛ لأنه يجري مجرى كسوة الحي، ويكفن في ثلاثة أثواب كغيره، ويحتمل أن يكفن في ثوب واحد؛ لأن الزائد فضل يستغنى عنه. ولا تباع داره التي لا غناء له عن سكناها؛ لأنه لا بد منه أشبه الكسوة، فإن كانت واسعة، يكفيه بعضها بيع الفاضل منها إن أمكن وإلا بيعت كلها، واشتري له مسكن مثله، وإن لم يكن له مسكن، استؤجر له مسكن؛ لأن ذلك مما لا بد منه. ورد الفضل على الغرماء ولا يباع خادمه الذي لا يستغني عن خدمته. وإن كان مسكنه وخادمه وثيابه أعيان أموال الناس، أفلس بها ووجدوها، فلهم أخذها؛ للخبر، ولأن حقوقهم تعلقت بالعين، فكانت أقوى من غيرها. ويحتمل أن من لم يكن له مسكن، ولا خادم، فاستدان ما اشتراهما به، وأفلس بذلك الدين أن يباع مسكنه وخادمه؛ لأنهما بأموال الغرماء، فتبقيتهما له إضرار بهم، وفتح باب الحيلة للمفاليس في استدانة ما يشترون به ذلك فيبقى لهم. فصل وإذا قسم ماله بين غرمائه، ففيه وجهان: أحدهما: يزول الحجر عنه؛ لأن المعنى الذي حجر عليه من أجله حفظ المال، وقد زال ذلك، فيزول الحجر، لزوال سببه. والثاني: لا يزول إلا بفك الحاكم له؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم فلا يزول إلا به، كالحجر على السفيه. وإذا فك الحجر عنه فلزمته ديون ثم حجر عليه ثانياً، شارك غرماء الحجر الأول غرماء الحجر الثاني، إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم، والآخرون يضربون بجميع ديونهم. [ باب الحجر ] يحجر على الإنسان لحق نفسه لثلاثة أمور: صغر، وجنون، وسفه؛ لقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 فدل على أن لا تسلم إليهم قبل الرشد، وقوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] . ولأن إطلاقهم في التصرف يفضي إلى ضياع أموالهم، وفيه ضرر عليهم. ويتولى الأب مال الصبي والمجنون؛ لأنها ولاية على الصغير، فقدم فيها الأب، كولاية النكاح. ثم وصيه بعده؛ لأنه نائبه. فأشبه وكيله في الحياة، ثم الحاكم؛ لأن الولاية من جهة القرابة قد سقطت، فثبت للسلطان، كولاية النكاح. ولا تثبت لغيرهم؛ لأن المال محل الخيانة، ومن سواهم قاصر الشفقة، غير مأمون على المال، فلم يله كالأجنبي. ومن شرط ثبوت الولاية العدالة بلا خلاف؛ لأن في تفويضها إلى الفاسق تضييعاً لماله، فلم يجز، كتفويضها إلى سفيه. [ تصرفات الولي في مال المحجور عليه ] فصل وليس لوليه التصرف في ماله بما لا حظ له فيه، كالعتق والهبة والتبرعات والمحاباة، لقول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار» من المسند. وفي هذه إضرار، فلا يملكه ولا يأكل من ماله إن كان غنياً؛ لقوله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] . ومن كان فقيراً جاز لقول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وليس له إلا أقل الأمرين من أجرته، أو قدر كفايته؛ لأنه لا يستحقه بالعمل والحاجة معاً، فلم يملك إلا ما وجدا فيه. ثم إن كان أباً، فلا شيء عليه؛ لأن له أن يأخذ من مال ولده، وإن كان غيره ففيه روايتان: إحداهما: يضمن عوض ما أكله إذا أيسر؛ لأنه استباحة للحاجة، فلزمه عوضه كالمضطر. والثانية: لا شيء عليه؛ لأن الله تعالى أمر بالأكل ولم يذكر عوضاً، ولأنه أجيز له الأكل بحق الولاية، فلم يضمنه، كرزق الإمام من بيت المال. وإذا كان خلط مال اليتيم بماله أرفق له، مثل أن يكون ألين في الخبز، وأمكن في الأدم، خلطه. وإن كان إفراده خيراً له أفرده؛ لقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 فصل وله أن يتجر بماله؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولي يتيماً فليتجر بماله، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» رواه الترمذي. ولأنه أحظ لليتيم؛ لتكون نفقته من ربحه، كما يفعل البالغ في ماله، ولا يتجر إلا في المواضع الآمنة. لئلا يغرر بماله، والربح كله لليتيم؛ لأن المضارب إنما يستحق بعقد، وليس له أن يعقد مع نفسه لنفسه. فإن أعطاه لمن يضارب له به، جاز؛ لأن العلاء بن عبد الرحمن روى عن أبيه عن جده: أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة. ولأن ذلك يفعله الإنسان في مال نفسه طلباً للحظ، وللمضارب من الربح ما وافقه الولي عليه؛ لأن الولي نائبه فيما فيه مصلحته، وهذا من مصلحته، فجاز كفعله له في ماله. فصل ويجوز أن يشتري له العقار؛ لأن الحظ فيه يحصل منه الفضل ويبقى الأصل، فهو أحظ من التجارة، وأقل غرراً، وله أن يبنيه؛ لأنه في معنى الشراء، قال أصحابنا: ويبنيه بالآجر والطين، ليسلم الآجر عند انهدامه. والصحيح أنه يبنيه بما جرت عادة أهل بلده؛ لأنه أحظ وأقل ضرراً. ولا يجوز تحمل ضرر عاجل، لتوهم نفع عند الهدم فالظاهر أنه لا ينهدم إلا بعد زوال ملكه عنه. ولا يجوز بيع عقاره لغير حاجة، لما فيه من تفويت الحظ الحاصل به، ويجوز للحاجة. قال أصحابنا: لا يجوز إلا لحاجة إلى نفقة، أو قضاء دين، أو غبطة لزيادة كثيرة في ثمنه، كالثلث فما فوقه، والمنصوص: أن للوصي بيعه إذا كان نظراً لهم من غير تقييد بهذين. وقد يكون الحظ في بيعه لغير هذا، لكونه في مكان لا غلة له، أو له غلة يسيرة، فيبيعه ويشتري بثمنه ما يكثر عليه، أو يكون له عقاران، يعمر أحدهما بثمن الآخر، فلا وجه لتقييده بهذين. فصل ولا يجوز أن يودع ماله إلا لحاجة، ولا يقرضه إلا لحظه، مثل أن يخاف هلاكه، أو نقصانه ببقائه، فيقرضه ليستوفيه كاملاً، لا يقرضه إلا لمليء يأمن جحده، أو مطله. ويأخذ بالعوض رهنا استيثاقاً له، وإن لم يأخذ، جاز في ظاهر كلامه، وإن أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بماله؛ لأنه يخاطر به، لكنه يقرضه، أو يودعه أميناً، والقرض أولى؛ لأنه مضمون بخلاف الوديعة. فصل وله كتابة رقيقه وعتقه على مال، للحظ فيه، مثل أن يكاتبه، أو يعتقه بمثلي قيمته؛ لأنها معاوضة فتجوز للحظ فيها كالبيع، ولا يجوز ذلك بمثل قيمته؛ لأنه لا حظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 فيه. قال أبو بكر: يتوجه جواز العتق بغير عوض للحظ، مثل أن يكون له جارية وابنتها تساويان مائة؛ لأجل اجتماعهما، وتساوي إحداهما مفردة مائتين، فتساوي قيمة الباقية مثلي قيمتها مجتمعتين. فصل وينفق عليه نفقة مثله بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] . ويقعده في المكتب بغير إذن الحاكم، ويؤدي أجرته؛ لأن من مصالحه العامة فجرى مجرى نفقته. ويشتري له الأضحية إن كان موسراً؛ لأن فيه توسعة للنفقة عليه في يوم جرت فيه العادة بها، وتطييباً لقلبه، فجرى مجرى رفيع الثياب لمن عادته ذلك. فصل وللأب بيع ماله بماله؛ لأنه غير متهم عليه، لكمال شفقته، وليس ذلك للوصي ولا للحاكم؛ لأنهما متهمان في طلب الحظ لأنفسهما، فلم يجز ذلك لهما. [ فصل في اختلاف الولي والحجور عليه ] فصل وإذا زال الحجر عنه فادعى وليه الإنفاق عليه، أو تلف ماله، فالقول قوله؛ لأنه أمين عليه، فقبل قوله، كالمودع. وإن ادعى أنه لا حظ له في بيع عقار لم يقبل إلا ببينة. وإن قال الولي: أنفقت عليك عامين، فقال: ما مات أبي إلا منذ عام، فالقول قول الغلام؛ لأن الأصل حياة أبيه، وقد اختلفا فيما ليس الوصي أميناً فيه، فكان القول قول مدعي الأصل. [ فصل فيما ينفك به الحجر ] فصل وإن بلغ الصبي، وعقل المجنون، ورشد، انفك الحجر عنهما من غير حاكم، ولا يفك قبل ذلك، لقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وقسنا عليهم المجنون؛ لأنه في معناهم. والبلوغ للغلام بأحد ثلاثة أشياء: أحدها: إنزال المني، لقول الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] . وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 يحتلم» . رواه أبو داود. والثاني: كمال خمسة عشر سنة؛ لما روى «ابن عمر قال: عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني في القتال، وعرضت عليه وأنا ابن خمسة عشر فأجازني» متفق عليه. والثالث: إنبات الشعر الخشن حول القبل؛ لما روى «عطية القرظي. قال: عرضت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم قريظة، فشكوا في فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينظر إلي هل أنبت؟ فنظروا فلم يجدوني أنبت، فخلوا عني وألحقوني بالذرية.» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح. ولأنه خارج يلازمه البلوغ غالبا يستوي فيه الذكر والأنثى، فكان بلوغاً كالاحتلام، وبلوغ الجارية بهذه الثلاث. وتزيد بشيئين: الحيض؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار.» رواه الترمذي. وقال: حديث حسن، ولأنه خارج يلازم البلوغ غالباً، أشبه المني. والثاني: الحمل؛ لأنه لا يكون إلا من المني. فإذا ولدت المرأة، حكمنا ببلوغها حين حكمنا بحملها. فإن كان خنثى مشكل، فحيضه علم على بلوغه، وكونه امرأة، وخروج المني من ذكره، علم على بلوغه، وكونه رجلاً؛ لأن الحيض من الرجل ومني الرجل من المرأة مستحيل، أو نادر. وقال القاضي: ليس ذلك بدليل، لجواز أن يكون من خلقة زائدة، لكن إن اجتمعا، فقد بلغ؛ لأنه إن كان رجلاً فقد أمنى، وإن كانت امرأة فقد حاضت. فصل ويستوي الذكر والأنثى في أنه ينفك عنه الحجر برشده وبلوغه، للآية؛ ولأن المرأة أحد نوعي الآدميين، فأشبهت الرجل. وعنه: لا يدفع إليها مالها حتى تلد، أو تتزوج ويمضي عليها حول في بيت الزوج؛ لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن لم تتزوج، فقال القاضي: عندي أن يدفع إليها مالها إذا عنست، وبرزت للرجال. [ فصل في تعريف الرشد وما يعرف به ] فصل والرشد: الصلاح في المال؛ لأن ابن عباس قال في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 قال: إصلاحاً في أموالهم، ولأن الحجر عليه، لحفظ ماله، فيزول بصلاحه، كالعدل. ولأن الفسق معنى، لو طرأ بعد الرشد، لم يوجب الحجر، فلم يمنع من الرشد، كالمرض. فإن كان فسقه يؤثر في تلف ماله، كشراء الخمر ودفعها في الغناء والقمار، فليس برشيد؛ لأنه مفسد لماله. فصل وإنما يعرف رشده باختباره؛ لقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] . يعني: اختبروهم. واختبارهم: تفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثالهم إليهم، من تجارة أو نيابة. ويفوض إلى المرأة ما يفوض إلى ربة البيت، من استئجار الغزالات، وتوكيلها في شراء الكتان، والاستيفاء عليهن. ووقت الاختيار قبل البلوغ في ظاهر المذهب؛ لقوله سبحانه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] . ولأن تأخيره يؤدي إلى الحجر على البالغ الرشيد حتى يختبره، ولا يختبر إلا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء، فإذا تصرف بإذن وليه، صح تصرفه؛ لأنه متصرف بأمر الله تعالى، فصح تصرفه كالرشيد. وفيه رواية أخرى لا يختبر إلا بعد البلوغ؛ لأنه قبله ليس بأهل للتصرف؛ لأنه لم يوجد البلوغ الذي هو مظنة العقل، فكان عقله بمنزلة المعدوم. وفي تصرف الصبي المميزة بإذن وليه روايتان. بناء على هذا. فأما غير المأذون، فلا يصح تصرفه إلا في الشيء اليسير؛ لأن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله. فصل ومن لم يؤنس منه رشد، لم يدفع إليه ماله، ولم ينفك الحجر عنه، وإن صار شيخاً، للآية. ولأنه غير مصلح لماله، فلم يدفع إليه، كالمجنون. وإن فك الحجر عنه فعاود السفه، أعيد عله الحجر؛ لما روى عروة بن الزبير: أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعاً، فأتى الزبير فقال: إني قد ابتعت بيعاً، وإن علياً يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر علي، فقال الزبير: أنا شريكك في البيع، فأتى علي عثمان فقال: إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه، فقال الزبير: أنا شريكه، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير؟ وهذه قصة يشتهر مثلها، ولم تنكر فتكون إجماعاً. ولأن السفه يقتضي الحجر لو قارن، فيقتضيه إذا طرأ، كالجنون. ولا يحجر عليه إلا الإمام، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 نائبه؛ لأن علياً سأل عثمان الحجر على ابن جعفر، ولم يفعله بنفسه. ولأن معرفة التبذير تحتاج إلى نظر؛ لأن الغبن قد يكون تبذيراً، وقد يكون غير تبذير، فيحتاج إلى نائب الإمام، كالحجر للفلس، ولأنه مختلف فيه، أشبه الحجر للفلس، ولا يلي عليه إلا الإمام، أو نائبه؛ لأنه حجر ثبت به، فكان هو الولي، كحجر المفلس. فصل ويستحب الإشهاد عليه والجهار بالحجر، لتجتنب معاملته. فمن عامله ببيع، أو قرض، لم يصح، ولم يثبت به الملك. فإن وجد المعامل له مالاً، أخذه. وإن أتلفه السفيه، فهو من ضمان مالكه، علم أو لم يعلم؛ لأنه سلطه عليه برضاه. وإن غصب مالاً أو أتلفه، ضمنه؛ لأن صاحبه لم يرض ذلك، ولأن الحجر على الصبي والمجنون لا يسقط عنهما ضمان المتلف، فهذا أولى. وإن أودع مالاً فتلف، لم يضمنه، سواء فرط في الحفظ أو لم يفرط؛ لأنه تلف بتفريط صاحبه بتسليمه إليه. وإن أتلفه، ففيه وجهان: أحدهما: يضمنه؛ لأن صاحبه لم يرض إتلافه، أشبه المغصوب. والثاني: لا يضمنه؛ لأن صاحبه فرط في التسليم إليه. وإن أقر بمال، لم يلزمه حال حجره؛ لأنه حجر عليه لحظه، فلم يقبل إقراره بالمال، كالصبي والمجنون. ولأن قبول إقراره يبطل معنى الحجر؛ لأنه يداين الناس، ويقر لهم. قال أصحابنا: ويلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه، كالمفلس. وفيه نظر؛ لأن الحجر عليه لعدم رشده، فهو كالصبي. ولأن ثبوت إقراره في ذمته لا يفيد الحجر معه إلا تأخير الضرر إلى أكمل حالتيه إلا أن يريدوا أن يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى: فإن ما كان ثابتاً في ذمته لا يسقط بالحجر عليه. وإن أقر بحد أو قصاص، لزمه؛ لأنه محجور عليه في ماله لا في نفسه. فإن عفا ولي القصاص إلى ماله، ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن من ثبت له القصاص ثبتت له الخبرة. كما لو ثبت ببينة. والثاني: لا يصح، لئلا يواطئ من يقر له بالقصاص، ليعفو على مال يأخذه. وإن أقر بنسب قبل؛ لأنه ليس بمال، وينفق على الغلام من بيت المال؛ لأن إقرار السفيه بما يوجب المال غير مقبول. وإن طلق امرأته، صح؛ لأن الحجر يحفظ المال، والطلاق يوفره ولا يضيعه. فإن خالع، جاز؛ لأنه إذا جاز الطلاق بغير مال فبالمال أولى ولا تدفع المرأة إليه المال، فإن فعلت، لم يصح القبض، ولم تبرأ منه إلا بالدفع إلى وليه. وإن تلف، كان من ضمانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 [ فصل في تصرفات المحجور عليه ] فصل وإن أذن له في النكاح، صح منه؛ لأن حاجته تدعوه إلى ذلك. وليس بآلة للتبذير. وقال القاضي: يصح من غير إذن الولي؛ لما ذكرنا. وإن أذن له في البيع، ففيه وجهان: أحدهما: يصح منه؛ لأنه عقد معاوضة فصح منه بالإذن. كالنكاح. والثاني: لا يصح؛ لأن المقصود منه المال وهو محجور عليه فيه. ولأن الحجر عليه لتبذيره، فالإذن له إذن فيما لا مصلحة فيه. وإن حلف، انعقدت يمينه؛ لأنه مكلف. ويكفر بالصوم؛ لأنه ممنوع من التصرف في المال فأشبه العبد. وإن أحرم بالحج، صح. لأنه من أهل العبادات، فإن كان فرضاً، لزمه إتمامه ويجب الإنفاق عليه إلى أن يفرغ منه؛ لأنه مال يحتاج إليه لأداء الفرض فوجب. وإن كان تطوعاً لا تزيد نفقته على نفقة الإقامة، أو تزيد وله كسب، إذا أضافه إليه، أمكنه الحج، لزمه إتمامه. وإن لم يكن كذلك، ففيه وجهان: أحدهما: على الولي تحليله؛ لأن في إتمامه تضييعاً للمال فيما لا يلزمه. والثاني: ليس له تحليله، بناء على إحرام العبد بغير إذن سيده، ويتحلل بالصوم كالعبد. فصل وإن وجب له القصاص، فله استيفاؤه؛ لأن القصد التشفي ودرك الثأر، وله العفو على مال؛ لأنه تحصيل. فإن عفا إلى غير مال، وقلنا: الواجب القصاص عيناً، سقط إلى غير شيء. وإن قلنا: الواجب أحد شيئين، وجبت الدية؛ لأنه ليس له إسقاط المال. فصل ولا ينفذ عتقه؛ لأنه إتلاف لماله. وحكي عنه: أنه يصح؛ لأنه مكلف مالك، أشبه الراهن. ويصح تدبيره ووصيته؛ لأنه محض مصلحة، لتقربه به إلى الله تعالى عند غناه عن المال. وإن نذر عبادة بدنية انعقد نذره؛ لأنه لا حجر عليه في بدنه. وإن نذر صدقة مال، لم يصح، ويكفر عن نذره بالصيام. وقياس قول أصحابنا: أنه يلزمه الوفاء به عند فك حجره كالإقرار. فصل وهل للمرأة الرشيدة التبرع من مالها بغير إذن زوجها؟ فيه روايتان: إحداهما: لها ذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن» وقبوله لصدقتهن حين تصدقن، ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده، نفذ تصرف فيه بغير إذن غيره كالرجل. وعنه: لا تهب شيئاً إلا بإذن زوجها، ولا ينفذ عتقها؛ لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها» . رواه أبو داود، وكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عام في القليل والكثير. وقال أصحابنا: لها التبرع بالثلث فما دون، وما زاد فعلى روايتين. فصل وهل لها الصدقة من ماله بالشيء اليسير بغير إذنه؟ فيه روايتان: إحداهما: لها ذلك؛ لأن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها، وله مثله بما كسب، ولها بما أنفقت، وللخازن مثل ذلك من غير أن ينتقص من أجورهم شيء» وعن «أسماء أنها قالت: يا رسول الله، ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير، فهل علي جناح أن أرضخ مما أدخل علي؟ قال: ارضخي ما استطعت، ولا توعي، فيوعي الله عليك» متفق عليهما. ولأن العادة السماح بذلك، فجرى مجرى صريح الإذن. والثانية: لا يجوز؛ لما روى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام، قال: ذلك أفضل أموالنا» رواه سعيد والترمذي. ولأنه تبرع بمال غيرها، فلم يجز، كالصدقة بثيابه والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 [ كتاب الصلح ] وهو ضربان: أحدهما: الصلح في الأموال وذلك نوعان: أحدهما: الصلح على الإنكار. مثل أن يدعي على إنسان عيناً في يده، أو ديناً في ذمته، لمعاملة أو جناية، أو إتلاف أو غصب، أو تفريط في وديعة، أو مضاربة ونحو ذلك، فينكره ثم يصالحه بمال، فإنه يصح إذا كان المنكر معتقداً بطلان الدعوى، فيدفع المال افتداءً ليمينه، ودفعاً للخصومة عن نفسه. والمدعي يعتقد صحتها، فيأخذه عوضاً عن حقه الثابت له؛ لأنه يصح مع الأجنبي، فيصح بين الخصمين، كالصلح في الإقرار ويكون بيعاً في حق المدعي؛ لأنه يأخذ المال عوضاً عن حقه. فيلزمه حكم إقراره، حتى لو كان العوض شقصاً، وجب الشفعة. وإن وجد به عيباً، فله رده ويكون إبراء في حق المنكر، لاعتقاده أن ملكه للمدعى لم يتجدد بالصلح، وأنه إنما دفع المال افتداء لنفسه لا عوضاً، فلو كان المدعى شقصاً، لم تجب فيه شفعة. ولو وجد به عيباً، لم يملك رده، كمن اشترى عبداً قد أقر بحريته، فإن كان أحدهما يعلم كذب نفسه فالصلح باطل في الباطن، وما يأخذه بالصلح حرام؛ لأنه يأكل مال أخيه بباطله، ويستخرجه منه بشره، وهو في الظاهر صحيح؛ لأن ظاهر حال المسلمين الصحة والحق، فإن صالح عن المنكر أجنبي، صح. فإن كان بإذنه، فهو وكيله وقائم مقامه. وإن كان بغير إذنه، فهو افتداء له، وإبراء لذمته من الدين أو الدعوى، وذلك جائز بغير إذنه، بدليل أن أبا قتادة قضى دين الميت. ولا إذن له. لكن إن كان بغير إذنه لم يرجع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 عليه؛ لأن الدين لم يثبت عليه، ولأنه أدى عنه ما يلزمه أداؤه، فكان متبرعاً، وإن كان بإذنه، رجع عليه. لأنه وكيله. وإن صالح الأجنبي عن نفسه ليصير الحق له من غير اعتراف للمدعي بصحة الدعوى، لم يصح؛ لأنه يشتري ملك غيره. وإن اعترف بصحة دعواه، والمدعى دين، لم يصح؛ لأن بيع الدين لا يصح مع الإقرار، فمع الإنكار أولى. وإن كان عيناً لا يقدر المصالح على تخليصها، لم يصح؛ لأن بيعها لا يصح مع الإقرار، فمع الإنكار أولى. وإن كان يقدر على استنقاذها، صح؛ لأنه اشترى منه ماله الممكن تسلمه، فصح كما قلنا في بيع المغصوب. ثم إن قدر على انتزاعها، استقر الصلح، وإن عجز، فله الفسخ؛ لأنه لم يسلم له المعقود عليه، فرجع في بدله. فإن قال الأجنبي للمدعي: أنا وكيل المنكر في صلحك، وهو معترف لك في الباطن، جاحد في الظاهر فصالحه، لم يصح؛ لأن الصلح في هذه الحال لا يصح من المنكر، فكذلك من وكيله. وقال القاضي: يصح. ومتى صدقه المنكر، ملك العين، ولزمه ما أدى عنه. وإن أنكر، حلف وبرئ. وإن دفع المدعي إلى المنكر مالاً ليقر له ففعل، ثبت الحق، وبطل الصلح؛ لأنه يجب عليه الإقرار بالحق. فلم يحل له أخذ العوض عما وجب عليه. ولو صالح امرأة لتقر له بالزوجية، أو بالرق، لم يصح لذلك، ولأنه يحرم عليها بذل نفسها لمن يطأها بعوض. وإن بذلت عوضاً للمدعي عن دعواه، صح؛ لأنها تدفع شره عن نفسها، ويأخذ العوض عن حقه فيها، كعوض الخلع. وقيل: لا يصح في الزوجية؛ لأن الزوج لا يأخذ عوضاً عن الزوجية في غير الخلع. ولو صالح شاهداً ليترك الشهادة عليه، أو سارقاً، لئلا يرفعه إلى السلطان، فالصلح باطل؛ لأنه لا يحل أخذ العوض عن ترك الشهادة الواجبة، وليس رفعه إلى السلطان حقاً يجوز الاعتياض عنه. فصل النوع الثاني: الصلح مع الاعتراف، وهو ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعترف له بدين فيبرئه من بعضه، ويستوفي باقيه، فلا بأس بذلك؛ لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه، ولا من استيفائه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولو شفع فيه شافع، لم يأثم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلم غرماء جابر، فوضعوا عنه الشطر. وكلم كعب بن مالك، فوضع عن غريمه الشطر. ويجوز للقاضي فعل ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله. وإن أمكن الغريم الوفاء، فامتنع حتى أبرئ من بعضه، لم يجز؛ لأنه هضم للحق، وأكل مال بالباطل. ولو قال الغريم: أبرأتك من بعضه، بشرط أن توفيني بقيته، أو على أن توفيني، أو لتوفيني باقيه لم يصح؛ لأنه جعل إبراءه عوضاً عما أعطاه، فيكون معاوضاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 لبعض حقه ببعض، ولا يصح بلفظ الصلح؛ لأن معنى صالحني عن المائة بخمسين، أي بعني، وذلك غير جائز، لما ذكرنا، ولأنه ربا. ولو صالحه عن مائة مؤجلة بخمسين حالة، لم يجز لذلك؛ لأن بيع الحلول غير جائز. وإن صالحه عن الحالة بأقل منها مؤجلة، لم يصح؛ لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل، وما يسقطه لا مقابل له، إلا أن يسقطه اختياراً منه بغير عوض، ولو اعترف له بداره، فصالحه على أن يسكنه فيها مدة، أو يبني عليها غرفة، ونحو ذلك، لم يصح؛ لأنه لا عوض له. فصل القسم الثاني: أن يعترف له بعين في يده، فيهب له بعضها، ويستوفي باقيها، فيصح، لما ذكرنا في الإبراء إذا فعل هذا اختياراً من غير منع الغريم، ووهب له بغير شرط، كما ذكرنا في الإبراء. فصل القسم الثالث: أن يعترف له بعين، أو دين، فيصالحه على غيره. وذلك ثلاثة أضرب: أحدها: أن يعترف له بنقد، فيصالحه على نقد، فهذا صرف يعتبر له شروطه. الثاني: أن يعترف له بنقد، فيصالحه على عرض، أو بعرض فيصالحه على نقد أو عرض، فهذا بيع تثبت فيه أحكامه كلها. الثالث: أن يعترف له بنقد أو عرض، فيصالحه على منفعة كسكنى دار، أو خدمة، فهذا إجارة تثبت فيه أحكامها. ولو تلفت العين التي صالح عليها، بطل الصلح. فإن كان قد مضى بعض المدة، بطل فيما بقي بقسطه. ولو اعترفت المرأة بدين فصالحته على أن تزوجه نفسها، صح، وكان صداقاً لها، ولو اعترفت له بعيب في مبيع، فصالحته على نكاحها، صح. فإن زال العيب، رجعت بأرشه؛ لأنه الصداق ولم يسم الخرقي الصلح في الإنكار صلحاً. فصل وإذا اعترف له بشيء، لم يجز أن يصالح بأكثر منه من جنسه؛ لأن الزائد لا مقابل له. ولو اعترف بقتل خطأ فصالحه بأكثر من الدية من جنسها، لم يجز. وإن كان من غير جنسها، جاز؛ لأنه معاوضة. ولو أتلف شيئاً قيمته مائة، فصالحه على مائة وعشرة، لم يجز لذلك. وإن صالحه على عرض جاز، وإن كثر؛ لأنه بيع. ولو أجل العوض الواجب بالإتلاف، لم يصر مؤجلاً بتأجيله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 [ فصل في صلح المكاتب والمأذون له من العبيد والصبيان ] فصل وصلح المكاتب والمأذون له، من العبيد والصبيان من دين لهم ببعضه، لا يصح إلا إذا كان لهم به بينة، أو أقر لهم به؛ لأنه تبرع وليس لهم التبرع. فإن كان على الإنكار، صح؛ لأن استيفاءهم للبعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه. [ فصل في الصلح عن المجهول ] فصل ويصح الصلح عن المجهول الذي لا سبيل إلى معرفته، عيناً كان أو ديناً؛ لما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في رجلين اختصما إليه في مواريث درست: استهما وتوخيا الحق، وليحلل أحدكما صاحبه» رواه أبو دواد. وسواء كان الجهل من الجانبين كالحقوق الدارسة، أو ممن عليه الحق، لأن الحاجة تدعو إليه. فأما ما يمكن معرفته، فلا يجوز، قال أحمد: إن صالحوا امرأة من ثمنها، لم يصح. ولو قال الوارث لبعضهم: نخرجك عن الميراث بألف، أكره ذلك، حتى يعرفه. ويعلم ما هو؟ إنما يصالح الرجل عن الشيء لا يعرفه، ولا يدري ما هو؟ أو يكون رجلاً يعلم ماله على الآخر، والآخر لا يعرفه فيصالحه. فأما إذا علم فلم يصالحه إنما يريد أن يهضم حقه. ولأن هذا لا حاجة إليه، فلم يجز كبيع المجهول. [ باب الصلح فيما ليس بمال ] يصح الصلح عن دم العمد بما يزيد على الدية وينقص عنها؛ لأن المال لم يتعين فإن خرج العوض حراً أو مستحقاً، رجع بقيمته. ولو صالح عن دار فخرج العوض مستحقاً، رجع في الدار؛ لأنه بيع، فإذا فسد عوضه تبينا فساده، والصلح في الدم إسقاط، فلم يعد بعد سقوطه، ورجع ببدل العوض وهو القيمة. [ فصل حقوق الارتفاق والجوار ] فصل وإذا أراد أن يجري في أرض غيره ماء، له غنى عن إجرائه فيها، لم يجز إلا برضاه لأن فيه تصرفاً في أرض غيره بغير إذنه، فلم يجز، كالزرع فيها، فإن صالحه على موضع القناة، جاز، إذا بينا موضعها وطولها وعرضها لأنه بيع لموضع من أرضه، ولا حاجة إلى بيان عمقها؛ لأن قرارها لمشتريها يعمق ما شاء، وإن شرط أن أرضهما لرب الأرض، كان إجارة، يفتقر إلى معرفة عمقها، ومدتها كإجارتها للزرع، فإن كان رب الأرض مستأجراً لها، جاز أن يصالح على إجراء ماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تتجاوز مدة إجارته، وليس له حفر ساقية؛ لأنه إحداث شيء لم تتناوله الإجارة، وكذلك إن كانت الأرض وقفاً عليه. وإن صالح رجلاً على أن يجري على سطحه، أو أرضه ماء المطر، جاز، إذا كان السطح الذي يجري ماؤه معلوماً؛ لأن الماء يختلف بصغره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وكبره، ومعرفة موضع الميزاب الذي يجري الماء إليه؛ لأن ضرره يختلف. ولا يفتقر إلى ذكر المدة؛ لأن الحاجة تدعو إلى هذا، ولأن هذا لا يستوفي به منافع السطح، بخلاف الساقية. ومن كانت له أرض، لها ماء، لا طريق له، إلا في أرض جاره، وفي إجرائه ضرر بجاره، لم يجز إلا بإذنه؛ لأنه لا يملك الإضرار به، بالتصرف في ملكه، بغير إذنه، وإن لم يكن فيه ضرر، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، لما تقدم. والثانية: يجوز؛ لما روي أن الضحاك بن خليفة، ساق خليجاً من العريض، فأراد أن يمر به على محمد بن مسلمة فمنعه، فقال له عمر: لم تمنع جارك ما ينفعه ولا يضرك، تشربه أولاً وآخراً؟ فقال له محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يمر به، ففعل. رواه سعيد بن منصور. ولأنه نفع لا ضرر فيه، فأشبه الاستظلال بحائطه. فصل ولا يجوز أن يشرع إلى الطريق النافذ جناحاً، وهو الروشن، على أطراف خشب مدفونة في الحائط، ولا ساباطاً، وهو المستولي على هواء الطريق على حائطين؛ لأنه بناء في ملك غيره، بغير إذنه، فلم يجز، كالبناء في أرض الطريق، ولا ميزاباً، ولا يبني فيها دكة لذلك، ولأنه يضر بالمارة، أشبه بناء بيت، ولا يباح ذلك بإذن الإمام؛ لأنه ليس له الإذن فيما يضر المسلمين، وسواء أضر في الحال، أو لم يضر؛ لأن هذا يراد للدوام، وقد يحدث الضرر فيه. وقال ابن عقيل: يجوز أن يأذن الإمام فيما لا ضرر فيه؛ لأنه نائب عن المسلمين، فجرى مجرى إذنه في الجلوس. فصل ولا يجوز أن يفعل هذا في ملك إنسان، ولا درب غير نافذ، إلا بإذن أهله؛ لأنه حقهم، فلم يجز التصرف فيه بذلك، بغير إذنهم، فإن صالحه المالك، أو أهل الدرب بشيء معلوم، جاز؛ لأنه يجوز بإذنهم بغير عوض، فجاز بعوض، كما في القرار. وقال القاضي: لا يصح الصلح عن الجناح والساباط؛ لأنه بيع للهواء دون القرار. فصل وإذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره، فطالبه بإزالتها، لزمه ذلك؛ لأن هواء ملكه ملكه، فإن لم يزله، فلمالك الأرض إزالتها، بالقطع وغيره، كما لو دخلت بهيمة جاره داره، ملك إخراجها، فإن صالحه على تركها بعوض، جاز عند ابن حامد، وابن عقيل؛ لأن الجهالة هاهنا لا تمنع التسليم، فلم تمنع الصحة، كالصلح عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 المواريث الدارسة، ولأن هذا مما يحتاج إليه، ويسامح فيه، فجرى سمن المستأجر للركوب، وهزاله. وقال القاضي: يصح في اليابس، المعتمد على حائط، ولا يصح في الرطب؛ لأنه يزيد ويتغير، ولا في غير المعتمد؛ لأنه لا قرار له. وقال أبو الخطاب: لا يصح في الجميع؛ لأن الرطب يزيد ويتغير، واليابس ينقص ويذهب. وإن صالحه بجزء من ثمرتها معلوم، ففيه وجهان: أحدهما: المنع؛ للجهالة فيه وفي عوضه. والثاني: يجوز؛ لأن هذا يكثر في الأملاك المتجاورة، وفي القطع إتلاف وإضرار، فدعت الحاجة إلى الصلح بجزء من الثمرة؛ لأنه أسهل، ولو امتدت عروق شجرة، حتى أثرت في بناء غيره، أو بئره، فعليه إزالته؛ لأن قرار ملك الإنسان ملكه، فهو كهوائه، ولو مال حائطه إلى ملك جاره، أو طريق، لزمه إزالته. فصل ليس للإنسان أن يفتح في حائط جاره طاقاً، ولا يغرز فيه وتداً، ولا مسماراً، ولا يحدث عليه حائطاً، ولا سترة بغير إذنه؛ لأنه يصرف في ملك غيره، بما يضر به، فلم يجز، كهدمه. وليس له وضع خشبة عليه، إن كان يضر بالحائط، أو يضعف عن حمله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» وإن كان لا يضر، وبه غنى عنه، لم يجز عند أكثر أصحابنا؛ لأنه تصرف في ملك غيره، بما يستغني عنه، فلم يجز، كفتح الطاق، وغرز المسمار، وأجازه ابن عقيل لخبر أبي هريرة. ولأن ما أبيح لا تعتبر له حقيقة الحاجة، كانتزاع الشقص المشفوع، والفسخ بالعيب. وإن احتاج إليه، بحيث لا يمكنه التسقيف إلا به جاز؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنع أحدكم جاره، أن يضع خشبة على جداره» متفق عليه. ولأنه انتفاع، لا ضرر فيه، دعت الحاجة إليه، فوجب بذله، كفضل الماء لبهائم غيره، وذكر القاضي، وأبو الخطاب: أنه لا يجوز، إلا لمن ليس له إلا حائط واحد، ولجاره ثلاثة، وقد يتعذر التسقيف على الحائطين غير المتقابلين، فالتفريق تحكم، فأما وضع الخشب في حائط المسجد مع الشرطين، ففيه روايتان: إحداهما: يجوز؛ لأن تجويزه في ملك الآدمي المبني حقه على الضيق، تنبيه على جوازه في حق الله، المبني على المسامحة والسهولة. والثانية: المنع، اختارها أبو بكر؛ لأن الأصل المنع، خولف في الآدمي المعين، فيبقى فيما عداه على مقتضى الأصل، ويتخرج من هذه الرواية، أن يمنع من وضعه في ملك الجار إلا بإذنه؛ لما ذكرنا للرواية الأولى، فإن صالحه المالك على وضع خشبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 بعوض في الموضع الذي يجوز له وضعه، لم يجز؛ لأنه يأخذ عوض ما يجب عليه بذله، وإن كان في غيره، جاز، سواء كانت إجارة في مدة معلومة، أو على التأبيد، بشرط كون الخشب معلوماً برؤية، أو صفة، والبناء معلوم، والآلة معلومة، ومتى زال الخشب، لسقوط الحائط أو غيره، فله إعادته؛ لأنه استحق بقاءه بعوض، ولو كان له رسم طرح خشب، فصالحه المالك بعوض، على أن لا يعيده عليه، أو ليزيله عنه، جاز؛ لأنه لما جاز أن يصالح على وضعه، جاز على نزعه. فصل فإن كان له دار، بابها في زقاق غير نافذ، وظهرها إلى الشارع، فله فتح باب إلى الشارع؛ لأن له حقاً في الاستطراق فيه، وإن كان بابها إلى الشارع لم يكن له فتح باب إلى الزقاق للاستطراق؛ لأنه لا يجوز له أن يجعل لنفسه حق الاستطراق، في مكان مملوك لأهله، لاحق له فيه، ويحتمل الجواز لما نذكره في الفصل الذي يليه، وله أن يفتح مكاناً للضوء والنظر لا يصلح للاستطراق؛ لأن له رفع جميع حائطه، فرفع بعضه أولى. وإن فتحه باباً، يصلح للاستطراق، وقال: لا أجعله طريقاً، بل أغلقه وأسمره، ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لما ذكرنا. والثاني: لا يجوز؛ لأن الباب دليل على الاستطراق فيجعل لنفسه حقاً. وإن كان له داران، باب إحداهما أو بابهما في زقاقين غير نافذين، بينهما حائط، فأنفذ إحداهما إلى الأخرى، جاز في أحد الوجهين؛ لأن رفع الحائط من بينهما، وجعلهما داراً واحدة، فرفع بعضه أولى. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يجعل الزقاقين، ويجعل الاستطراق في كل واحد منهما من دار، لاحق لها فيه. وكل موضع لا يجوز إذا صالح أهل الدرب بعوض، أو أذنوا له بغير عوض، جاز لأن المنع لحقهم، فجاز لهم أخذ العوض عنه، كسائر حقوقهم. فصل فإن كان بابه في زقاق، غير نافذ، فأراد تقديمه نحو أوله، جاز؛ لأنه يترك بعض حقه، وإن قدمه نحو آخره، لم يجز؛ لأنه يجعل لنفسه الاستطراق في موضع، لم يكن له ويحتمل الجواز؛ لأن له رفع حائطه كله، فيملك رفع بعضه، ولأن ما يلي حائطه فيئاً له، فملك فتح الباب فيه، كحالة ابتداء البناء، فإن له في ابتداء البناء جعل بابه حيث شاء، فتركه له لا يسقط حقه منه. ولو تنازع صاحبا البابين في الدرب، ففيه وجهان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 أحدهما: يحكم بالدرب من أوله إلى الباب الأول لهما؛ لأن يدهما عليه، واستطراقهما فيه، وسائر الدرب للآخر؛ لأن اليد له لاستطراقه وحده. والثاني: هو بينهما؛ لأن لهما جميعا يداً وتصرفاً، فعلى الوجه الأول لصاحب الباب الصدراني جعل آخر الدرب دهليزاً يختص به عن سائر أهل الدرب؛ لأنه ملكه خاصة، وعلى الثاني لا يجوز؛ لأنه مشترك بين الجميع. فصل إذا كان بينهما حائط مشترك، فانهدم، فدعا أحدهما صاحبه إلى عمارته فأبى، أجبر؛ لأنه إنفاق على ملك مشترك يزيل الضرر عنهما، فأجبر عليه كإطعام العبد المشترك، ولأن في تركه ضرراً فأجبر عليه كالقسمة، فإن لم يفعل، باع الحاكم ماله، وأنفق عليه، فإن لم يكن له مال، اقترض عليه وأنفق، وإن أنفق الشريك بإذنه، أو إذن الحاكم، رجع عليه بالنفقة والحائط بينهما، كما كان قبل انهدامه، وعنه: لا يجبر؛ لأنه إنفاق على ملك لا يجب لو انفرد به، فلم يجب مع الاشتراك، كزرع الأرض، وإن أراد شريكه بناءه، لم يمنع؛ لأنه يعيد رسماً في مشترك، فلم يمنع كوضع الخشب الذي له رسم، فإن بناه بآلته، عاد بينهما كما كان برسومه وحقوقه؛ لأنه عاد بعينه، وليس للباني فيه إلا أثر تأليفه، وإن بناه بآلة من عنده، فهو للباني ليس لشريكه الانتفاع به، وللباني نقضه إن شاء؛ لأنه ملكه خاصة. ولو بذل له شريكه نصف قيمته لئلا ينقضه، لم يجبر على قبولها؛ لأنه لما لم يجبر على إنشائه، لم يجبر على إبقائه، وعلى الرواية الأولى يجبر على تركه؛ لأنه يجبر على إنشائه، فيجبر على إبقائه. فإن كان للشريك على الحائط رسم انتفاع قلنا للباني: إما أن تأخذ منه نصف القيمة، وتمكنه من إعادة رسمه، وأما أن تأخذ بناءك ليبني معك؛ لأن القرار مشترك بينهما، فلم يجز أن يسقط حق شريكه. فصل وإن كان السفل لأحدهما، والعلو للآخر، فانهدم السقف الذي بينهما، فالحكم فيه كالحائط المشترك سواء؛ لأنه ينفعهما فهو كالحائط بينهما، وأيهما هدم الحائط أو السقف، فعليه إعادته إلا أن يخاف سقوطه، ويجب هدمه، فيصير كالمنهدم بنفسه. وإن انهدمت حيطان صاحب السفل، لم يملك صاحبه إجبار صاحب العلو على مباناته؛ لأنه ملكه خاصة، وعنه: يجبر؛ لأنهما ينتفعان به، فأشبه الحائط المشترك. وهل لصاحب العلو إجبار صاحب على بنائه؟ على روايتين. وليس لصاحب السفل منع صاحب العلو من بنائه إن أراده، فإن بناه بآلته، فهو على ما كان لا يملك أحدهما نقضه، وإن بناه بغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 آلته، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا ينتفع به صاحب السفل حتى يؤدي القيمة، فيحتمل أن ليس له السكنى؛ لأن فائدة الحيطان أكثرها للسكنى، ويحتمل أنه ليس له طرح الخشب، ونصب الوتد ونحوه دون السكنى؛ لأن ذلك هو الانتفاع بالحائط مباشرة ولبانيه نقضه لأنه ملكه، ولا يجبر على إبقائه بالقيمة؛ لأنه لا يجبر على ابتدائه. فصل فإن كان بينهما دولاب، أو ناعورة يحتاج إلى عمارة، فذلك كالحائط المنهدم سواء. وإن كان بينهما قناة أو عين، ففي إجبار الممتنع من عمارتها روايتان. فإن بناها أحدهما، لم يملك منع صاحبه من نصيبه؛ لأنه ليس له فيها إلا أثر الفعل. فصل ليس للمالك التصرف في ملكه بما يضر جاره، نحو أن يبنيه حماماً بين الدور، أو مخبزاً بين العطارين، أو يجعله دار قصارة تهز الحيطان، أو يحفر بئراً تجتذب ماء بئر جاره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» رواه ابن ماجه والدارقطني بنحوه، ولأنه تصرف يضر بجيرانه، فمنع منه، كالدق الذي يهز الحيطان. وليس له سقي أرضه بما يهدم حيطانهم، وإن كان له سطح أعلى من سطح جاره، فعلى الأعلى بناء سترة بين ملكيهما، ليدفع عنه ضرر نظره إذا صعد سطحه. [ باب الحوالة ] وهو نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. وهي عقد إرفاق منفرد بنفسه ليست بيعاً، بدليل جوازها في الدين بالدين وجواز التفرق قبل القبض، واختصاصها بالجنس الواحد واسم خاص، فلا يدخلها خيار؛ لأنها ليست بيعاً ولا في معناه؛ لكونها لم تبن على المغابنة. والأصل فيها قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» متفق عليه. ولا تصح إلا بشروط أربعة: أحدها: أن يحيل على دين مستقر؛ لأن مقتضاها إلزام المحال عليه الدين مطلقاً، ولا يثبت ذلك فيما هو بعرض السقوط، ولا يعتبر استقرار المحال به، لجواز أداء غير المستقر. فلا تجوز الحوالة بدين السلم ولا عليه؛ لأنه لا تجوز المعاوضة عنه به، ولا عنه. ولو أحال الزوج زوجته قبل الدخول بصداقها، صح، وإن أحالت المرأة به عليه، لم يصح؛ لأنه غير مستقر. وإن أحال المشتري البائع بثمن المبيع في مدة الخيار، صح، وإن أحال البائع به عليه، لم يصح لذلك. وإن أحال الكاتب سيده بنجم، فدخل عليه، صح، وإن أحال سيده به عليه، لم يصح لذلك. وإن أحيل على المكاتب بدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 غير مال الكتابة، صح؛ لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات. وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه. فهو توكيل في الاقتراض، وإن أحال على من له عليه دين، فهو كتوكيل في الاستيفاء، وإن أحال من عليه دين على من لا عليه دين، فهو ملتمس إيفاء دينه وليس شيء من ذلك حوالة؛ إذ الحوالة تحول الحق وانتقاله، ولا حق هاهنا يتحول، وإنما جاز التوكيل بلفظ الحوالة لاشتراكهما في معنى، وهو تحول المطالبة من الموكل إلى الوكيل، كتحولها من المحيل إلى المحتال. فصل الشرط الثاني: تماثل الحقين؛ لأنها تحويل الحق، فيعتبر تحوله على صفته، ويعتبر التماثل في ثلاثة أشياء: الجنس، فلو أحال من عليه أحد النقدين بالآخر، لم يصح. والصفة، فلو أحال عن المصرية بأميرية، أو عن المكسرة بصحاح، لم يصح. والحلول والتأجيل، فإن كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، أو أجل أحدهما مخالفاً لأجل الآخر، لم يصح. وإن صحت الحوالة، فتراضيا على خير مما أحيل به، أو دونه أو تعجيله، تأخيره، أو الاعتياض عنه، جاز؛ لأنه دين ثابت، فجاز فيه ذلك كغير المحال به. فصل الشرط الثالث: أن يكون بمال معلوم على مال معلوم؛ لأنه يعتبر فيهما التسليم والتماثل والجهالة تمنعها. ولا يصح فيما لا يصح السلم فيه؛ لأنه لا يثبت في الذمة، وإنما تجب قيمته بالإتلاف. ويصح في كل ما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف، من الأثمان والحبوب والأدهان، وفيما يصح السلم فيه غير ذلك، كالمذروع والمعدود وجهان: أحدهما: لا تصح الحوالة به؛ لأن المثل لا يتحرر فيه، ولهذا لا يضمن بمثله. والثاني: يصح؛ لأنه يثبت في الذمة، ويحتمل أن يبنى الحكم فيه على القرض، إن قلنا: يقضى في هذا بمثله، صحت الحوالة به؛ لأنه يثبت في الذمة بغير السلم، وإلا فلا؛ لأنه لا يثبت في الذمة إلا بالسلم، ولا تصح الحوالة في السلم. وإن كان عليه إبل من قرض وله مثل ذلك على آخر، صحت الحوالة بها؛ لأنه إن ثبت في الذمة مثلها صحت الحوالة، وإن ثبت قيمتها فالحوالة بها صحيحة. وإن كان له إبل من دية، فأحال بها على من له عليه مثلها، من دية أخرى، صح ويلزمه إعطاؤه أدنى ما يتناوله الاسم. وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر، أنه لا يصح. وإن كان عليه إبل من الدية، وله مثلها قرضاً، فأحال بها، ففيه وجهان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 أحدهما: يصح؛ لأن الخيرة في التسليم إلى المحيل، وقد رضي بتسليم ما له في ذمة المقترض. والثاني: لا يصح؛ لأن الواجب في القرض في إحدى الروايتين القيمة، فقد اختلف الجنس. وإن أحال المقرض من له الدية بها، لم يصح، وجهاً واحداً؛ لأننا إن قلنا: الواجب القيمة، فالجنس مختلف، إن قلنا: يجب المثل، فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته وقيمته، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك. فصل الشرط الرابع: أن يحيل برضاه؛ لأن الحق عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة بعينها، ولا يعتبر رضى المحال عليه؛ لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه، كما لو وكله في الاستيفاء منه. وأما المحتال، فإن كان المحال عليه مليئاً، وهو الموسر غير المماطل، لم يعتبر رضاه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» ولأن للمحيل إيفاء الحق بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحال عليه مقامه في الإيفاء، فلم يكن للمحتال الامتناع. وإن لم يكن مليئاً، لم يلزمه أن يحتال؛ للحديث. ولأن عليه ضرراً في قبولها، فلم يلزمه. كما لو بذل له دون حقه في الصفة، فإن رضي بها مع ذلك، صحت، كما لو رضي بدون حقه. [ فصل في آثار الحوالة ] فصل إذا صحت الحوالة برئ المحيل من الدين. لأنه قد تحول من ذمته، فإن تعذر الاستيفاء من المحال عليه، لموت أو فلس حادث، أو مطل، لم يرجع على المحيل، كما لو أبرأه. وإن كان مفلساً حين الحوالة، ولم يرض المحتال بالحوالة، فحقه باق على المحيل؛ لأنه لا يلزمه الاحتيال على مفلس. وإن رضي مع العلم بحاله، لم يرجع؛ لأن الذمة برئت من الحق، فلم يعد إلى الشغل، كما لو كان مليئاً. وإن رضي مع الجهل بحاله، ففيه روايتان: إحداهما: لا يرجع، لذلك. والثانية: يرجع؛ لأن الفلس عيب في المحال عليه، فكان له الرجوع كما لو اشترى معيباً ثم علم عيبه. وإن شرط ملاءة المحال عليه، فله شرطه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» رواه أبو داود " والمسلمون " ولأنه شرط شرطاً مقصوداً، فإذا بان خلافه، ملك الرد. كما لو شرطه في المبيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فصل إذا اشترى عبداً، فأحال البائع بثمنه، أو أحال البائع عليه بثمنه، فبان حراً أو مستحقاً، فالحوالة باطلة؛ لأن البيع باطل، ولا دين على المشتري يحيل به ولا يحال به عليه، فإن اتفق المحيل والمحال عليه على ذلك، وكذبهما المحتال، لم يسمع قولهما، كما لو باعا عبداً ثم أقرا بحريته، ولا تسمع لهما بينة؛ لأنهما أكذباها بدخولهما في البيع، وإن أقامها العبد سُمِعَتْ، وبطلت الحوالة. وإن صدقهما المحتال في حرية العبد، وادعى أن الحوالة بدين آخر، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل صحة الحوالة، فكان صدقه أظهر، فإن أقاما بينة بذلك، سمعت؛ لأنهما لم يكذباها. فصل وإن اشترى عبداً وأحال البائع بثمنه، ثم وجده معيباً فرده قبل قبض المحتال من المحال عليه، بطلت الحوالة لأنها بالثمن، وقد سقط بالفسخ، ذكره القاضي. ويحتمل أن لا يبطل؛ لأن المشتري نقل حقه إلى ما في ذمة المحال عليه، فلم يبطل بالفسخ، كما لو أعطاه عن الثمن ثوباً ثم فسخ العقد، لم يرجع في الثوب. وإن كان الرد بعد قبض المحتال، لم تبطل؛ لأن ذمة المحال عليه برئت بالقبض منه، ويرجع المشتري على البائع، وإن اشترى عبداً فأحال البائع عليه أجنبياً بالثمن، فرده المشتري بعيب، لم تبطل الحوالة؛ لأن ذمة المشتري برئت بالحوالة من البائع، فصار كأنه قبض منه، وتعلق به هاهنا حق غير المتعاقدين، وهو المحتال بخلاف التي قبلها، ويرجع المشتري على البائع بالثمن. فصل وإذا أمر رجلاً بقبض دين له من غريمه، ثم اختلفا، فقال أحدهما: كانت وكالة بلفظها، وقال الآخر: كانت حوالة بلفظها، فالقول قول مدعي الوكالة؛ لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان، وينكر انتقاله. وإن اتفقا على أنه قال: أحلتك بالألف، وقال أحدهما: كانت حوالة حقيقية، وقال الآخر: كانت وكالة بلفظ الحوالة، ففيه ووجهان: أحدهما: القول قول مدعي الوكالة لذلك. والثاني: القول قول مدعي الحوالة؛ لأن الظاهر معه، لموافقته الحقيقة، ودعوى الآخر المجاز، وإن قال: أحلتك بدينك، فهي حوالة بكل حال. فصل وإذا قال المدين لغريمه: قد أحلت بدينك فلاناً فأنكر، فالقول قوله مع يمينه. فإن أقام المدين بينة بذلك، سمعت ليسقط عنه حق المحيل. فإن كانت بحالها، فادعى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 أجنبي على المدين أن رب الدين أحاله به، فأنكره فأقام الأجنبي بينة، ثبت في حقه وحق الغائب؛ لأن البينة يقضى بها على الغائب، ولزم دفع الدين إليه، فإن لم تكن له بينة، فاعترف المدين له بصحة دعواه، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه الدفع إليه؛ لاعترافه له بوجوب حقه عليه، وانتقال دينه إليه، فأشبه ما لو قامت به بينة. والثاني: لا يلزمه الدفع إليه؛ لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه، فكان له الاحتياط في تخليص نفسه، كما لو ادعى الوكالة، فإن دفعه إليه، ثم أنكر المحيل الحوالة، وحلف ورجع على المحال عليه، فأخذ منه، لم يرجع المحال عليه على المحتال؛ لأنه معترف له أنه استوفى حقه، وإنما المحيل ظلمه. وإن أنكر المدين الحوالة، انبنى على الوجهين، إن قلنا: يلزمه الدفع مع الإقرار، لزمته اليمين على الإنكار، وتكون على العلم؛ لأنها على نفي فعل الغير. وإن قلنا: لا يلزمه الدفع مع الإقرار، لم تلزمه اليمين مع الإنكار، لعدم فائدتها. وليس للمحتال الرجوع على المحيل، لاعترافه ببراءة ذمته، ويسأل المحيل، فإن صدق المحتال، ثبتت الحوالة؛ لأن رضى المحال عليه غير معتبر، وإن كذبه، حلف له، وسقطت الحوالة. وإن نكل المحال عليه عن اليمين فقضى عليه، واستوفى منه، ثم أنكر المحيل الحوالة، فله أن يستوفي من المحال عليه؛ لأنه معترف له بالألف، مدع أن المحتال ظلمه. فصل فإن كان عليه دين، فادعى رجل أنه وكيل ربه في قبضه، فصدقه، لم يلزمه دفعه إليه لما ذكرنا في الحوالة. وإن أنكر، لم تلزمه اليمين؛ لأنه لا يلزمه الدفع مع الإقرار، فلم تلزمه اليمين مع الإنكار. فإن دفعه إليه، فأنكر رب الدين الوكالة، حلف ورجع على الدافع، ثم رجع الدافع على الوكيل، إن لم يكن اعترف بصدقه؛ لأنه لم يثبت أنه وكيل، وإن كان اعترف له، لم يرجع عليه؛ لأنه اعترف بصحة دعواه، وأن الموكل ظلمه، فلم يرجع على غير ظلمه وإن كان المدفوع وديعة، فوجده ربها، أخذها، وإن تلفت في يد الوكيل تلزمه مطالبة من شاء منهما، فإن طالب الوكيل، لم يرجع على أحد؛ لأن التلف حصل في يده، فاستقر الضمان عليه. وإن طالب المودع، وكان قد اعترف بالوكالة، لم يرجع على أحد لما ذكرناه في الدين، وإن لم يكن اعترف للوكيل رجع عليه. فصل فإن كان عند رجل دين أو وديعة، فجاء رجل، فادعى أنه وارث صاحبهما، وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 مات ولا وارث له سواه، فصدقه، لزمه الدفع إليه، لأنه لا يخشى تبعة، وإن كذبه، فعليه اليمين أنه لا يعلم ذلك؛ لأنه لزمه الدفع مع الإقرار، فلزمته اليمين مع الإنكار. فصل فإن كان لرجل ألف على اثنين، كل واحد منهما ضامن لصاحبه، فأحاله أحدهما بها، برئا منها؛ لأن الحوالة كالتقبيض. وإن أحال صاحب الألف به على أحدهما، صحت الحوالة؛ لأنها مستقرة في ذمة كل واحد منهما. وإن أحال عليهما جميعاً، ليستوفي من كل واحد منهما نصفها، صحت؛ لأن ذلك للمحيل، فملك الحوالة به، وإن أحل عليهما ليستوفي من أيهما شاء، صحت أيضاً؛ لأنه لا فضل في نوع ولا عدد ولا أجل، وإنما هو زيادة استيثاق، فأشبه حوالة المعسر على المليء، ولهذا لو أحالاه على واحد، صح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 [ كتاب الضمان ] وهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام دينه، فإذا قال لرجل: أنا ضامن ما لك على فلان، أو أنا به زعيم أو كفيل أو قبيل أو حميل، أو هو علي، صار ضامناً له، وثبت في ذمته مع بقائه في ذمة المدين، ولصاحب الدين مطالبة من شاء منهما؛ لقول الله تعالى: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» حديث حسن رواه أبو داود والترمذي، وروى سلمة بن الأكوع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ برجل ليصلي عليه فقال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران، قال: هل ترك لهما وفاء فقالوا: لا فتأخر فقيل: لم لا تصلي عليه؟ فقال: "ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة إلا إن قام أحدكم فضمنه" فقام أبو قتادة فقال: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي» . رواه البخاري، ولا يبرأ المضمون عنه بمجرد الضمان في الحياة، رواية واحدة، وفي الميت روايتان: إحداهما: يبرأ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على الميت حين ضمنه أبو قتادة. والثانية: لا يبرأ، وهي أصح لما روى جابر، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل أبا قتادة عن الدينارين اللذين ضمنهما، فقال: قد قضيتهما، فقال: الآن بردت جلدته» . رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه وثيقة بدين، فلم يسقطه كالرهن، وكحال الحياة، ومتى برئ الغريم بأداء أو إبراء، برئ الضامن؛ لأنه تبع، فزال بزوال أصله كالرهن، وإن أبرأ الضامن، لم يبرأ المضمون عنه؛ لأن الوثيقة انحلت من غير استيفاء، فلم يسقط الدين كالرهن. [ فصل فيمن يصح منه الضمان ] فصل: ولا يصح إلا من جائز التصرف، فأما المحجور عليه لصغر أو جنون أو سفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 فلا يصح ضمانه؛ لأنه تبرع بالتزام مال، فلم يصح منهم، كنذر الصدقة، وخرج بعض أصحابنا ضمان الصبي بإذن وليه، على الروايتين في صحة بيعه، وقال القاضي: يصح ضمان السفيه، ويتبع به بعد فك حجره، وهذا بعيد؛ لأن الضمان مجرد ضرر وتضييع مال، فلم يصح منهما كالعتق، ولا يصح ضمان العبد والمكاتب بغير إذن سيدهما؛ لأنه التزام مال، فلم يصح منهما بغير إذن كالنكاح. ويصح بإذنه؛ لأن المنع لحقه، فزال بإذنه، ويؤديه المكاتب مما في يده، وهل يتعلق برقبة العبد أو بذمة سيده؟ على وجهين. [ فصل فيما يصح ضمانه ] فصل: ويصح ضمان دين الميت المفلس وغيره، لحديث أبي قتادة، ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه، للخبر، ولا معرفة الضامن لهما؛ لأنه لا يعتبر رضاهما، فأشبها الأجانب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسأل أبا قتادة عن معرفتهما، ويحتمل أن تعتبر معرفتهما، ليؤدي إلى أحدهما، ويرجع على الآخر بما غرم عنه، ويحتمل أن تعتبر معرفة المضمون له؛ ليؤدي إليه، ولا تعتبر معرفة المضمون عنه، لعدم المعاملة بينه وبينه، ولا يصح إلا برضى الضامن؛ لأنه التزام مال، فلم يصح من غير رضى الملتزم كالنذر. فصل: ويصح ضمان الدين اللازم، لخبر أبي قتادة، وضمان الجعل في الجعالة، لقول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وضمان كل حق مالي لازم، أو مآله إلى اللزوم، كالثمن في مدة الخيار وبعدها، والأجرة والصداق قبل الدخول وبعده، وأرش الجناية نقداً أو حيواناً؛ لأنها حقوق مالية لازمة، أو مآلها إلى اللزوم، فصح ضمانها كالدين والجعل، ويصح ضمان الأعيان المضمونة، كالغصوب والعواري؛ لأنها مضمونة على من هي في يده، فأشبهت الدين، ويصح ضمان عهدة المبيع عن كل واحد منهما لصاحبه، وهو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، وإن ظهر فيه عيب أو استحق أو وجد ذلك في البيع، غرمه الضامن؛ لأن ذلك لازم، فإنه إنما يتعلق بالضامن حكم لعيب أو غصب ونحوهما، وهذا كان موجوداً حال الضمان، فصح ضمانه كالدين، وإن استحق الرجوع لأمر حادث، كتلف المبيع قبل قبضه، أو أخذه بشفعة، فلا شيء على الضامن، وإن ضمن البائع أو غيره للمشتري قيمة ما يحدثه من بناء أو غراس، أو ما يلزمه من أجرة إن خرج المبيع مستحقاً، صح، ويرجع على الضامن بما لزمه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 ذلك؛ لأنه يستند إلى أمر وجودي، ويصح أن يضمن الضامن ضامن ثالث؛ لأن دينه ثابت، فصح كالأول، ويصير الثاني فرعاً للضامن، حكمه معه حكم الضامن مع الأصيل. فصل: ولا يصح ضمان الأمانات كالوديعة ونحوها؛ لأنها غير مضمونة على من هي في يده، فكذلك على ضامنه، وإن ضمن لصاحبها ما يلزم بالتعدي، فيها صح، نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنها تصير مضمونة على المضمون عنه، ولا يصح ضمان مال الكتابة، وعنه: يصح؛ لأنه يجوز أن يضمن عنه دين آخر، والمذهب الأول؛ لأن مال الكتابة غير لازم، ولا يفضي إلى اللزوم، ولأنه يملك تعجيز نفسه، ولأن الضمان لتوثيق الحق، وما لا يلزم لا يمكن توثيقه، وفي ضمان مال السلم روايتان: إحداهما: يصح؛ لأنه دين لازم فأشبه القرض. والثانية: لا يصح؛ لأنه يُفضي إلى استيفائه من غير المسلم إليه، فأشبه الحوالة. فصل: ويصح ضمان المعلوم والمجهول قبل وجوبه وبعده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وحمل البعير يختلف، فهو غير معلوم، وقد ضمنه قبل وجوبه، ولأنه التزام حق من غير معاوضة، فأشبه النذر، وإن قال: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه صح؛ لأنه استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح، فصح كقوله: اعتق عبدك وعلي ثمنه. فصل: ويصح ضمان الحالّ مؤجلاً؛ لأن الغريم يلزمه أداؤه في جميع الأزمنة، فجاز للضامن التزام ذلك في بعضه، كبعض الدين، وإن ضمن المؤجل حالاً لم يلزمه؛ لأنه لا يلزم الأصيل، فلا يلزم الضامن، ويقع الضمان مؤجلاً على صفته في ذمة الضامن، وإن ضمن الدين المؤجل، وقلنا: إن الدين يحل بالموت فمات أحداهما، حل عليه الدين، وبقي في ذمة الآخر إلى أجله، ولا يملك ورثة الضامن الرجوع على المضمون عنه قبل الأجل؛ لأنه لم يحل. فصل: وإذا قضى الضامن الدين بإذن المضمون عنه، رجع عليه؛ لأنه قضى دينه بإذنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 فهو كوكيله، وإن ضمن بإذنه، رجع عليه؛ لأنه تضمن الإذن في الأداء، فأشبه ما لو أذن فيه صريحاً، وإن ضمن بغير إذنه وقضى بغير إذنه معتقداً للرجوع، ففيه روايتان: إحداهما: يرجع أيضاً؛ لأنه قضاء مبرئ من دين واجب لم يتبرع به، فكان على من هو عليه، كما لو قضاه الحاكم عند امتناعه. والثانية: لا يرجع؛ لأنه تبرع فلم يرجع به، كما لو بنى داره أو علف دابته بغير إذنه، فإن اختلفا في الإذن، فالقول قول من ينكره؛ لأن الأصل عدمه. فصل: ويرجع الضامن بأقل الأمرين مما قضى، أو قدر الدين؛ لأنه إن قضاه بأقل منه، فإنما يرجع بما غرم، وإن أدى أكثر منه، فالزائد لا يجب أداؤه، فقد تبرع به، وإن دفع عن الدين عرضاً، رجع بأقل الأمرين عن قيمته، أو قدر الدين، وإن قضى المؤجل قبل أجله، لم يرجع قبل الأجل؛ لأنه تبرع بالتعجيل، وإن أحال به الغريم، رجع بأقل الأمرين مما أحال به أو دينه، سواء قبض الغريم من المحال عليه أم لم يقبض؛ لأن الحوالة كالتقبيض، وإن ضمن الضامن ضامن آخر، فقضى الدين، رجع على الضامن، ثم رجع الضامن على المضمون عنه، وإن قضاه الضامن، رجع على الأصيل وحده، فإن كان الأول، ضمن بلا إذن، والثاني ضمن بإذن، رجع الثاني على الأول، ولم يرجع الأول على أحد في إحدى الروايتين. فصل: وإن ضمن بإذنه، فطولب بالدين، فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه؛ لأنه لزمه الأداء بأمره، ولا يملك المطالبة قبل ذلك؛ لأنه لا يملك الرجوع قبل الغرامة، فلا يملك المطالبة قبل أن يطالب، وإن ضمن بغير إذنه، لم يملك المطالبة به؛ لأنه لا دين له، ولا هو وكيل صاحب الدين، ولا لزمه الأداء بإذن الغريم، فأشبه الأجانب. فصل: وإذا دفع المضمون عنه قدر الدين إلى الضامن عوضاً عما يقضيه في الثاني، لم يصح؛ لأنه جعله عوضاً عما يجب عليه في الثاني فلم يصح، كما لو دفع إليه شيئاً عن بيع لم يعقده، ويكون ما قبضه مضموناً عليه؛ لأنه قبضه على وجه البدل، فأشبه المقبوض ببيع فاسد، وفيه وجه أنه يصح؛ لأن الرجوع بسببين، ضمان وغرم، فإذا وجد أحدهما، جاز تعجيل المال، كتعجيل الزكاة. فإن قضى الدين، استقر ملكه على ما قبض، وإن برئ قبل القضاء، وجب رد ما أخذ، كما يجب رد الثمن إذا لم يتم البيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 [ فصل في اختلاف الضامن والمضمون عنه ] فصل: وإذا ادعى الضامن القضاء، فأنكره المضمون له، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل معه، وله مطالبة من شاء منهما. فإن استوفى من الضامن، لم يرجع على المضمون عنه إلا بأحد القضاءين؛ لأنه يدعي أن المضمون عنه ظلمه بالأخذ الثاني، فلا يرجع به على غيره، وفيما يرجع به وجهان: أحدهما: بالقضاء الأول؛ لأنه قضاء صحيح، والثاني ظلم. والوجه الثاني: يرجع بالقضاء الثاني؛ لأنه الذي أبرأ الذمة ظاهراً، فأما إن استوفى من المضمون عنه، فهل للضامن الرجوع عليه؟ ينظر، فإن كذبه المضمون عنه في القضاء، لم يرجع؛ لأنه لم يثبت صدقه، وإن صدقه وكان قد فرط في القضاء، لم يرجع بشيء؛ لأنه أذن له في قضاء مبرئ لم يوجد، وإن لم يفرط رجع، وسنذكر التفريط في الوكالة إن شاء الله. فإن اعترف المضمون له بالقضاء، فأنكر المضمون عنه لم يلتفت إلى إنكاره؛ لأن الدين حق للمضمون له، فإذا أقر أنه صار للضامن، ولأنه يثبت القضاء بالإقرار، فملك الرجوع به، كما لو ثبت ببينة، وفيه وجه آخر: أن القول قول المضمون عنه لأنه منكر. [ باب الكفالة ] تصح الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحاكم بحق يصح ضمانه؛ لأنه حق لازم، فصحت الكفالة به كالدين، ولا تصح بمن عليه حد أو قصاص؛ لأنها تراد للاستيثاق بالحق، وهذا مما يدرأ بالشبهات، ولا تصح بالمكاتب؛ لأنه لا يلزمه الحضور، فلا يلزم غيره إحضاره كالأجانب وتصح الكفالة بالأعيان المضمونة، كالغصوب والعواري؛ لأنه يصح ضمانها، ولا تصح في الأمانات إلا بشرط التعدي فيها كضمانها سواء. فصل: وإذا صحت الكفالة، فتعذر إحضار المكفول به، لزمه ما عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» ولأنها أحد نوعي الكفالة، فوجب الغرم بها كالضمان. فإن غاب المكفول به، أمهل كفيله قدر ما يمضي إليه فيعيده؛ لأن ما لزم تسليمه لم يلزم إلا بمكان التسليم، فإن مضى زمن الإمكان، ولم يفعل، لزمه ما عليه، أو بذل العين التي كفل بها، فإن مات، أو تلفت العين بفعل الله تعالى، سقطت الكفالة؛ لأن الحضور سقط عن المكفول به، فبرئ كفيله، كما يبرأ الضامن ببراءة المضمون عنه، ويحتمل أن لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 يسقط، ويطالب بما عليه، وإن سلم المكفول نفسه، أو برئ من الحق بأداء، أو إبراء، برئ كفيله؛ لأن الحق سقط عن الأصيل، فبرئ الكفيل كالضمان، وإن أبرأ الكفيل، صح كما يصح إبراء الضامن، ولا يبرأ المكفول به كالضمان، وإن قال رجل: أبرئ الكفيل، وأنا كفيل بمن تكفل به، ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه نقل الضمان إلى نفسه، فصح، كما لو أحال الضامن المضمون له على آخر. والثاني: لا يصح؛ لأنه شرط في الكفالة أن يبرئ الكفيل، وهو شرط فاسد، فمنع صحة العقد. فصل: وإذا قال: أنا كفيل بفلان، أو بنفسه، أو بدنه، أو وجهه، صحت الكفالة، وإن كفل ببعض جسده، فقال القاضي: لا يصح؛ لأن ما لا يسري إذا خص به بعض الجسد، لم يصح كالبيع، وقال غيره: إن كفل بعضو لا تبقى الحياة بدونه، كالرأس والقلب والظهر، صحت؛ لأنه لا يمكن تسليمه بدون تسليم البدن، فأشبه الوجه، وإن كفل بغيرها، كاليد والرجل، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن تسليمه بدون البدن ممكن. والثاني: يصح لأنه لا يمكن تسليمه على صفته، دون البدن، فأشبه الوجه. [ تعليق الكفالة على شرط أو إضافتها لوقت ] فصل: إذا علق الكفالة والضمان على شرط، أو وقتهما، فقال: أنا كفيل بفلان شهراً، أو إن قدم الحاج، أو زيد، فأنا كفيل بفلان، أو ضامن ما عليه، فقال القاضي: لا يصح؛ لأنه إثبات حق لآدمي، فلم يجز ذلك فيه، كالبيع. وقال أبو الخطاب والشريف أبو جعفر: يصح؛ لأنه ضمان أو كفالة، فصح تعليقه على شرط، كضمان العهدة، فعلى هذا لو قال: كفلت بفلان، على أني إن جئت به، وإلا فأنا كفيل بفلان، أو ضامن ما عليه، صح فيهما عندهما، ولم يصح عند القاضي؛ لأن الأول مؤقت، والثاني معلق على شرط. [ فصل في الكفالة بالبدن ] فصل: وتصح الكفالة ببدن الكفيل، كما يصح ضمان دين الضامن، وتجوز حالة ومؤجلة كالضمان، ولا تجوز إلى أجل مجهول؛ لأنه حق لآدمي، فلم يجز إلى أجل مجهول كالبيع، وتجوز الكفالة مطلقة ومقيدة بالتسليم في مكان بعينه، فإن أطلق، ففي أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 موضع أحضره سلمه إليه على وجه لا ضرر فيه برئ. إن كان عليه ضرر لم يبرأ بتسليمه، وكذلك إذا سلمه قبل المحل، قياساً على من سلم المسلم فيه قبل محله، أو غير مكانه، وإن كفل واحد لاثنين، فسلمه إلى أحدهما، أو أبرأه أحدهما لم يبرأ من الآخر؛ لأنه حق لاثنين فلم يبرأ بأداء حق أحدهما، كالضمان، وإن كفل اثنان لرجل فأبرأ أحدهما، لم يبرأ الآخر كما في الضمان، وإن سلمه أحدهما لم يبرأ الآخر؛ لأنه برئ من غير استيفاء الحق، فلم يبرأ صاحبه، كما لو برئ بالإبراء، ويحتمل أن يبرأ، كما لو أدى أحد الضامنين الدين، وإن قال الكفيل أو الضامن: برئت مما كفلت به، لم يكن إقراراً بقبض الحق؛ لأنه قد يبرأ بغير ذلك. فصل: إذا طولب الكفيل بإحضار المكفول به، لزمه أن يحضر معه؛ لأنه وكيل في إحضاره، فإن أراد إحضاره من غير طلب، والكفالة بإذنه، لزمه الحضور معه؛ لأنه شغل ذمته من أجله بإذنه، فكان عليه تخليصه، كما لو استعار عبده فرهنه، وإن كفل بغير إذنه، لم يلزمه الحضور معه؛ لأنه لم يشغل ذمته، ولا له قبله حق. فصل: إذا كفل إنساناً أو ضمنه، ثم قال: لم يكن عليه حق، فالقول قول خصمه؛ لأن ذلك لا يكون إلا بمن عليه حق، فإقراره به إقرار بالحق، وهل يلزم الخصم اليمين؟ فيه وجهان، مضى توجيههما فيمن أقر بتقبيض الرهن، ثم أنكره، وطلب يمين المرتهن، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 [ كتاب الوكالة ] يصح التوكيل في الشراء؛ لقول الله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] ولما روى عروة بن الجعد قال: «أعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ديناراً أشتري له به شاة» رواه البخاري أو أضحية، ولأن الحاجة داعية إليها، فإنه لا يمكن كل أحد شراء ما يحتاج إليه، فدعت الضرورة إليها، وتجوز في سائر عقود المعاملات، قياساً على الشراء، وفي تملك المباحات، كإحياء الموات والاصطياد؛ لأنه تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز التوكيل فيه كالشراء، وتجوز في عقد النكاح؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمر بن أمية الضمري، فتزوج له أم حبيبة،» وتجوز في الطلاق والعتاق والخلع والرجعة؛ لأنها في معنى النكاح، ويجوز في إثبات الأموال والحكومة فيها، حاضراً كان الموكل أو غائباً؛ لما روي أن علياً وكل عقيلاً عند أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقال: وما قضي عليه فعلي، وما قضي له فلي، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان وقال: إن للخصومة قحماً، يعني: مهالك وهذه قضايا في مظنة الشهرة، ولم تنكر فكانت إجماعاً، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، بأن يكون له حق، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 عليه، ولا يحسن الخصومة، أو لا يحب حضورها، ويجوز التوكيل في الإقرار؛ لأنه إثبات حق، فأشبه البيع، ويجوز في إثبات القصاص، وحد القذف، واستيفائهما في حضرة الموكل وغيبته؛ لأنه حق آدمي أشبه المال. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز استيفاؤهما في غيبته، وقد أومأ إليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بأنه يجوز أن يعفو الموكل، فيكون ذلك شبهة، ويجوز التوكيل في حقوق الله تعالى المالية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها، وفي إثبات الحدود واستيفائها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» متفق عليه، ولا تجوز في العبادات البدنية؛ لأن المقصود، فعلها ببدنه، فلا تحصل من فعل غيره إلا في الحج، لما سبق في بابه. فصل: ولا تجوز في الأيمان والنذور، ولأنها تتعلق بعين الحالف، فلا تدخلها النيابة، ولا في الإيلاء واللعان والقسامة؛ لأنها أيمان، ولا في الشهادة؛ لأن غيره لا يقوم مقامه في مشاهدته، ولا في الاغتنام؛ لأنه يتعلق بالحضور، فإذا حضر النائب كان السهم له، ولا في الالتقاط؛ لأنه بأخذه يصير لملتقطه. فصل: ولا يصح التوكيل في شيء مما لا يصح تصرفه فيه؛ لأن من لا يملك التصرف بنفسه، فبنائبه أولى. فلا يصح توكيل طفل ولا مجنون ولا سفيه لذلك، ولا توكيل المرأة في النكاح، ولا الفاسق في تزويج ابنته، ولا المسلم لذمي في شراء خمر لذلك. فأما من يتصرف بالإذن، كالعبد والصبي والوكيل، فإن أذن لهم في التوكيل جاز، وإن نهوا عنه، لم يجز، وإن أطلق لهم الإذن، فلهم التوكيل فيما لا يتولون مثله بأنفسهم، أو يعجزون عنه لكثرته؛ لأن تفويضه إليهم مع العلم بهذا، إذن في التوكيل، وفيما سوى ذلك روايتان: إحداهما: لا يجوز لهم التوكيل؛ لأنهم يتصرفون بالإذن، فاختص بما أذن فيه، ولم يؤذن في التوكيل. والثانية: يجوز؛ لأنهم يملكون التصرف بأنفسهم، فملكوه بنائبهم كالمالك الرشيد. فإن قال لوكيله: اصنع ما شئت، ملك التوكيل؛ لأنه مما يشاء، وولي اليتيم كالوكيل فيما ذكرناه، ويملك الولي في النكاح التوكيل فيه من غير إذن المرأة؛ لأن ولايته من غير جهتها، فلم يعتبر إذنها في توكيله كالأب، وخرج القاضي ولايته الإجبار على الروايتين في الوكيل، والفرق بينهما ظاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 فصل: ومن ملك التصرف لنفسه، جاز له أن يتوكل فيه، ومن لا فلا فيجوز توكيل الفاسق في قبول النكاح، ولا يجوز في الإيجاب؛ لأنه يجوز أن يقبل النكاح لنفسه، وقال القاضي: لا يجوز فيهما؛ لأن من لا يجوز أن يكون وكيلاً في إيجابه لا يكون لا يكون وكيلاً في قبوله كالمرأة، ويجوز توكيل المرأة في الطلاق؛ لأنه يجوز توكيلها في طلاق نفسها، فجاز في غيرها ولا يجوز للعبد والمكاتب التوكيل إلا بإذن سيدهما، ولا الصبي إلا بإذن وليه، وإن كان مأذوناً له في التجارة؛ لأن التوكيل ليس من التجارة، فلا يحصل الإذن فيه إلا بالإذن فيهما. فصل: وتصح الوكالة بكل لفظ دل على الإذن، وبكل قول أو فعل دل على القبول، مثل أن يأذن له في بيع شيء فيبيعه، ويجوز القبول على الفور والتراخي، نحو أن يبلغه أن فلاناً وكله منذ عام، فيقول: قبلت؛ لأنه إذن في التصرف، فجاز ذلك فيه، كالإذن في الطعام، ويجوز تعليقها على شرط، نحو أن يقول: إذا قدم الحاج، فأنت وكيلي في كذا، أو فبع ثوبي. فصل: ولا تصح إلا في تصرف معلوم، فإن وكله في كل قليل وكثير، لم يصح؛ لأنه يدخل فيه كل شيء، فيعظم الغرر، وإن كان وكله في بيع ماله كله، أو ما شاء منه، أو قبض ديونه كلها، أو الإبراء منها أو ما شاء منها صح؛ لأنه يعرف ماله ودينه، فيعرف أقصى ما يبيع ويقبض، فيقل الغرر، وإن قال: اشتر لي ما شئت، أو عبداً بما شئت، فقال أبو الخطاب: لا يصح حتى يذكر النوع وقدر الثمن؛ لأن ما يمكن شراؤه يكثر فيكثر الغرر: وإن قدر له أكثر الثمن وأقله، صح؛ لأنه يقل الغرر، وقال القاضي: إذا ذكر النوع، لم يحتج إلى تقدير الثمن؛ لأنه إذن في أعلاه، وقد روي عن أحمد فيمن قال: ما اشتريت من شيء فهو بيننا، إن هذا جائز، وأعجبه، وهذا توكيل في شراء كل شيء، ولأنه إذن في التصرف، فجاز من غير تعيين، كالإذن في التجارة. فصل: ولا يملك من التصرف إلا ما يقتضيه إذن الموكل نطقاً أو عرفاً؛ لأن تصرفه بالإذن، فاختص ما تناوله الإذن، فإن وكله في الخصومة، لم يملك الإقرار ولا الإبراء ولا الصلح؛ لأن إذنه لا يقتضي شيئاً من ذلك، وإن وكله في تثبيت حق، لم يملك قبضه؛ لأنه لم يتناوله النطق ولا العرف، فإنه قد يرضى للتثبت من لا يأمنه على القبض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وإن وكل في القبض، فهل يملك تثبيته؟ فيه وجهان: أحدهما: يملكه؛ لأنه طريق القبض، فكان التوكيل في القبض توكيلاً فيه. والثاني: لا يملكه، لما ذكرنا في التي قبلها، وإن وكله في البيع، لم يملك الإبراء من ثمنه، ويملك تسليم المبيع؛ لأن العرف يتناوله، ولأنه من تمام العقد وحقوقه، ولا يتهم فيه، ولا يملك قبض الثمن؛ لأن اللفظ لا يتناوله، وقد يرضى للبيع من لا يرضاه للقبض، إلا أن تقتضيه الحال، بأن يكون بحيث لو ترك ضاع. فصل: فإن وكله في البيع في وقت، لم يملكه قبله، ولا بعده؛ لأنه قد يختص غرضه به في زمن لحاجته فيه، وإن وكله في بيعه لرجل، ولم يملك بيعه لغيره؛ لأنه قد يقصد نفعه، أو نفع المبيع بإيصاله إليه، وإن وكله في بيعه في مكان، الثمن فيه أكثر وأجود، لم يملكه في غيره؛ لأنه قد يفوت غرضه، وإن تساوت الأمكنة، أو قدر له ثمن، ملك ذلك؛ لأن الغرض فيهما واحد، فالإذن في أحدهما إذن في الآخر، وإن وكله في بيع فاسد، لم يملكه؛ لأنه منهي عنه، ولا يملك الصحيح؛ لأنه لم يأذن له فيه، وإن قدر له الثمن في البيع لم يملك البيع بأقل منه؛ لأنه لا يأذن له فيه نطقاً ولا عرفاً، ويملك البيع بأكثر منه، وسواء كانت الزيادة من جنس الثمن أو غيره؛ لأنه مأذون فيه عرفاً؛ لأنها تنفعه ولا تضره، وإن باع بعضه بدون ثمن جميعه، لم يجز، وإن باعه بجميعه، صح، لما ذكرناه، وله بيع باقيه؛ لأنه إذن فيه، ويحتمل أن لا يملكه؛ لأنه حصل غرضه ببيع بعضه، فلا يبقى الإذن في باقيه، وإن وكله في شراء شيء، لم يملك شراء بعضه؛ لأن اللفظ لا يقتضيه، وإن قال له: بعه بمائة درهم، فباعه بعرض يساوي أكثر منها، لم يجز؛ لأنه لم يأذن فيه نطقاً ولا عرفاً، وإن باعه بمائة دينار، أو بتسعين درهماً وعشرة دنانير، ففيه وجهان: أحدهما: لا ينفذ؛ لأنه خالفه في الجنس، كالتي قبلها. والثاني: ينفذ؛ لأنه مأذون فيه عرفاً؛ لأنه يرضى الدينار مكان الدرهم عرفاً، وإن وكله في بيع عبيد أو شرائهم، ملك ذلك صفقة واحدة وصفقات؛ لأن العرف جار بكلا الأمرين، وإن أمره بصفقة واحدة، لم يملك التفريق. فإن اشتراهم صفقة واحدة من رجلين جاز؛ لأن الصفقة من جهته واحدة. فصل: وإن وكله في البيع وأطلق، لم يملك البيع بأقل من ثمن المثل؛ لأن إذنه تقيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 بذلك عرفاً، لكون غير ذلك تضييعاً لماله، وهو لا يرضاه، ولو حضر من يطلبه بأكثر من ثمن المثل، لم يجز بيعه بثمن المثل؛ لأنه تضييع لمال أمكن تحصليه، وإن باع بثمن المثل، فحضر من يزيد في مدة الخيار، لم يلزمه الفسخ؛ لأنها زيادة منهي عنها، ولا يأمن رجوع صاحبها عنها، فإن باع بأقل من ثمن المثل أو بأقل مما قدر له، فعنه: البيع باطل؛ لأنه غير مأذون فيه، وعنه: يصح، ويضمن الوكيل النقص؛ لأنه فوته، ويصح البيع؛ لأن الضرر يزول بالتضمين، ولا عبرة بما يتغابن الناس به، كدرهم في عشرة؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، وهل يلزم الوكيل جميع النقص أم بين ما يتغابن الناس به، وما لا يتغابنون به؟ على وجهين، وكل موضع قلنا: لا يملك البيع والشراء، فحكمه فيه حكم الأجنبي، وقد ذكرناه؛ لأن هذا غير مأذون فيه. فصل: وإن وكله في الشراء فأطلق، لم يجز أن يشتري بأكثر من ثمن المثل، لما ذكرنا، وإن اشترى بأقل من ثمن المثل، أو أقل مما قدر له، صح؛ لأنه مأذون فيه عرفاً. فإن قال: لا تشتره بأقل من مائة، لم يملك مخالفته؛ لأن نصه مقدم على دلالة العرف، وإن قال: اشتره بمائة، ولا تشتره بخمسين، فله شراؤه بما فوق الخمسين؛ لأنه باق على دلالة العرف، وإن قال: اشتر لي عبداً وصفه بمائة، فاشتراه بدونها جاز، وإن خالف الصفة، لم يلزم الموكل، وإن لم يصفه، فاشترى عبداً يساوي مائة بأقل منها، جاز، وإن لم يساو المائة، لم يلزم الموكل، وإن ساوى ما اشتراه به؛ لأنه خالف غرضه، وإن قال: اشتر لي شاة بدينار، فاشترى شاتين تساوي إحداهما ديناراً، صح؛ لحديث عروة، ولأنه ممتثل للأمر بإحداهما، والثانية زيادة نفع، وإن لم تساو ديناراً، لم يصح. فإن باع الوكيل شاة، وبقيت التي تساوي ديناراً، فظاهر كلام أحمد صحته، لحديث عروة، ولأنه وفى بغرضه فأشبه إذا زاد على ثمن المثل. فصل: وإن وكله في الشراء نسيئة، فاشترى نقداً، لم يلزم الموكل؛ لأنه لم يؤذن له فيه، وإن وكله في الشراء بنقد، فاشترى بنسيئة أكثر من ثمن النقد، لم يجز لذلك، وإن كان بمثل ثمن النقد، وكان فيه ضرر، مثل أن يستضر بحفظ ثمنه، فكذلك، وإن لم يستضر به، لزمه؛ لأنه زاده خيراً، وإن أذن له في البيع بنقد لم يملك بيعه نسيئة، وإن أذن له في البيع نسيئة، فباع بنقد، فهي كمسألة الشراء سواء، وإن عين له نقداً، لم يبع إلا به، وإن أطلق، لم يبع إلا بنقد البلد؛ لأن الإطلاق ينصرف إليه. فإن كان فيه نقدان، باع بأغلبهما، وإن قدر له أجلاً، لم تجز الزيادة عليه؛ لأنه لم يرض بها، وإن أطلق الأجل، جاز، وحمل على العرف في مثله؛ لأن مطلق الوكالة يحمل على المتعارف، ولا يملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 الوكيل في البيع والشراء شرط الخيار للعاقد معه؛ لأنه لا حظ للموكل فيه، وله شرط الخيار لنفسه ولموكله، ولأنه احتياط له. فصل: إذا قال: اشتر لي بعين هذا الثمن، فاشترى له في ذمته، لم يقع للموكل؛ لأنه لم يرض بالتزام شيء في ذمته، فلم يجز إلزامه، وإن قال: اشتر لي في ذمتك، ثم انقد هذا فيه، فاشتراه بعينه، صح للموكل؛ لأنه أمره بعقد يلزمه به دينار مع بقاء الدينار وتلفه، فعقد له عقداً لا يلزمه مع تلفه، فزاده خيراً، ويحتمل أن لا يصح؛ لأنه أراد عقداً لا يبطل باستحقاقه، ولا تلفه ففوت ذلك، وإن أطلق، فله الأمران؛ لأن العرف جار بهما. فصل: وإن وكله في شراء موصوف، لم يجز أن يشتري معيباً؛ لأن إطلاق البيع يقضي السلامة، ولذلك يرد بالعيب، فإن اشترى معيباً يعلم عيبه، لم يقع للموكل؛ لأنه مخالف له، وإن لم يعلم بالعيب، فالبيع صحيح، كما لو اشترى لنفسه، فإن علم الموكل فرضي به، فليس للوكيل رده؛ لأن الرد لحقه، فسقط برضاه، وللوكيل الرد قبل علمه؛ لأنها ظلامة حصلت بعقده، فملك دفعها، كالمشتري لنفسه، ولا يلزمه التأخير؛ لأنه حق تعجل له، وله أن يرضى به، ويسقط خياره، فإذا حضر الموكل، فرضي به، استقر العقد، وإن اختار الرد، فله ذلك؛ لأن الشراء له، ولم يرض بالعيب، فإن أنكر البائع كون الشراء للموكل، فالقول قوله، ويرد المبيع على الوكيل في أحد الوجهين؛ لأنه اتباع المعيب، ومنعه الرد لرضاه بعينه، والثاني: ليس له الرد عليه؛ لأنه غير البائع، وللمشتري أرش العيب؛ لأنه فات الرد به من غير رضاه. فإن تعذر ذلك من البائع، لزم الوكيل؛ لأنه ألزمه المبيع، وإن قال البائع: موكلك قد علم بالعيب فرضي به، فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ أنه لا يعلم ذلك؛ لأن الأصل عدمه، فإن قال: أخر الرد حتى يعلم موكلك، لم يلزمه التأخير. فإن أخر، وقلنا: الرد على الفور لم يسقط خياره، ذكره القاضي؛ لأنه لم يرض به، ويحتمل أن يسقط لتركه الرد مع إمكانه، فإن رده، فقال الموكل: قد كنت رضيته معيباً: فصدقه البائع، انبنى على عزل الوكيل قبل علمه؛ لأن هذا كذلك، وإن أنكره البائع، فالقول قوله، أنه لا يعلم ذلك، وإن وكله في شراء شيء عينه، فاشتراه فوجده معيباً ففيه وجهان: أحدهما: يملك الرد؛ لأنه معيب لم يرض به العاقد. والثاني: لا يملكه بغير رضى الموكل؛ لأنه قطع نظره واجتهاده بالتعيين. فإن قلنا: يملكه فحكمه حكم غير المعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فصل: إذا وكله في قبض حقه من زيد، فمات زيد، لم يملك القبض من وارثه؛ لأنه لم يتناوله إذنه نطقاً؛ لأنهم غيره، ولا عرفاً؛ لأنه قد يرضى بقاء حقه عندهم دونه، وإن قال: اقبض حقي الذي قبل زيد، فله القبض من وارثه؛ لأن لفظه يتناول قبض الحق من غير تعرض للمقبوض منه، وإن وكل وكيلين في تصرف، لم يكن لأحدهما الانفراد به؛ لأنه لم يرض بأحدهما، وإن وكله في قضاء دين تقيد بالإشهاد؛ لأنه لا يحصل الاحتياط إلا به، فإن قضاه بغير بينة، فأنكر الغريم، ضمن لتفريطه، وإن شهد ببينة عادلة، فماتت أو غابت، لم يضمن؛ لأنه لا تفريط منه، وإن قضاه بحضرة الموكل من غير إشهاد، ففيه وجهان: أحدهما: يضمن؛ لأنه ترك التحفظ. والثاني: لا يضمن؛ لأنه إذا كان المؤدى عنه حاضراً، فهو التارك للتحفظ، وإن قضاه ببينة مختلف فيها، ففيه وجهان: أحدهما: يضمن؛ لأنه ترك التحفظ. والثاني: لا يضمن؛ لأنها بينة شرعية، أشبهت المجمع عليها. فصل: إذا اشترى لموكله، ثبت الملك للموكل؛ لأنه قبل العقد لغيره، فوجب أن ينقل الملك إلى ذلك الغير، كما لو تزوج لغيره، ويثبت الثمن في ذمته أصلاً، وفي ذمة الوكيل تبعاً، وللبائع مطالبة من شاء منهما، كالضمان في أحد الوجهين، وفي الآخر لا يثبت إلا في ذمة الموكل، وليس له مطالبة غيره. فإن دفع الثمن فوجد به البائع عيباً، فرده على الوكيل، فتلف في يده، فلا شيء عليه؛ لأنه أمين، وللبائع المطالبة بالثمن؛ لأنه دين له، فأشبه سائر ديونه، وللوكيل المطالبة به؛ لأنه نائب للمالك فيه. فصل: والوكالة عقد جائز من الطرفين، لكل واحد منهما فسخها؛ لأنه إذن في التصرف، فملك كل واحد منهما إبطاله، كالإذن في أكل طعامه، وإن أذن لوكيله في توكيل آخر، فهما وكيلان للموكل، لا ينعزل أحدهم بعزل الآخر، ولا يملك الأول عزل الثاني؛ لأنه ليس بوكيله، وإن أذنه في توكيله عن نفسه، فالثاني وكيل الوكيل ينعزل ببطلان وكالة الأول وعزله له؛ لأنه فرعه. فثبت فيه ذلك، كالوكيل مع موكله، وللموكل عزله وحده؛ لأنه متصرف له فملك عزله كالأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 فصل: وإذا خرج الموكل عن أهلية التصرف، لموت أو جنون أو حجر أو فسق في ولاية النكاح، بطلت الوكالة؛ لأنه فرعه، فيزول بزوال أصله. فإن وجد ذلك أو عزل الوكيل، فهل ينعزل قبل علمه؟ فيه روايتان: إحداهما: ينعزل؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضاه، فلم يفتقر إلى علمه كالطلاق. والثانية: لا ينعزل؛ لأنه أمر فلا يسقط قبل علمه بالنهي، كأمر الشارع، وإن أزال الموكل ملكه عن ما وكله فيه، بإعتاق أو بيع أو طلاق التي وكله في طلاقها، بطلت الوكالة؛ لأنه أبطل محليته، وإن وطئ الزوجة، أو دبر العبد أو كاتبه، بطلت الوكالة؛ لأن ذلك يدل على رجوعه، إذ لا يجتمع مقصود هذه التصرفات مع البيع، والوطء يدل على رغبته في زوجته، وإن وكله في الشراء بدينار فتلف، بطلت الوكالة، فإن تلف بتفريطه فغرمه هو أو غيره، لم يملك الشراء ببدله؛ لأن الوكالة بطلت بتلفه. فصل: ولا تبطل بالنوم والسكر والإغماء؛ لأنه تثبت الولاية عليه، ولا بالردة لأنها لا تمنع ابتداء وكالته، فلا تمنع استدامتها، ولا بالتعدي فيما وكل فيه، كلبس الثوب، وركوب الدابة؛ لأن العقد يتضمن أمانة وتصرفاً. فإذا بطلت الأمانة، بقي التصرف كالرهن المتضمن وثيقة وأمانة، وإن وكله في بيع عبد، ثم باعه المالك بيعاً فاسداً، لم تبطل الوكالة؛ لأن ملكه فيه لم يزل، ولا يؤول إلى الزوال وإن وكل زوجته ثم طلقها، لم تنعزل؛ لأن الطلاق لا ينافي الوكالة، ولا يمنع ابتداءها، وإن وكل عبده ثم أعتقه، أو باعه، فكذلك، ويحتمل أن ينعزل؛ لأن أمره لعبده استخدام، وليس بتوكيل في الحقيقة. فصل: ويجوز التوكيل بجعل؛ لأنه تصرف لغيره لا يلزمه، فجاز أخذ العوض عنه، كرد الآبق، وإذا وكله في البيع بجعل فباع، استحق الجعل قبل قبض الثمن؛ لأن البيع يتحقق قبل قبضه. فإن قال في التوكيل: فإذا سلمت إلي الثمن، فلك كذا، وقف استحقاقه على التسليم إليه، لاشتراطه إياه، وإن قال: بع هذا بعشرة، فما زاد فهو لك، صح وله الزيادة؛ لأن ابن عباس كان لا يرى بذلك بأساً. فصل: وليس للوكيل في بيع شيء بيعه لنفسه، ولا للوكيل في الشراء أن يشتري من نفسه؛ لأن العرف في العقد أن يعقد مع غيره، فحمل التوكيل عليه، ولأنه تلحقه تهمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 ويتنافى الغرضان، فلم يجز كما لو نهاه، وعنه: يجوز؛ لأنه امتثل أمره، وحصل غرضه، فصح كما لو باع أجنبياً، وإنما يصح بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، ويتولى النداء غيره لتنتفي التهمة. قال القاضي: ويحتمل أن لا يشترط ذلك، وكذلك الحكم في بيعه لوكيله، أو طفل يلي عليه أو ولده أو والده، أو مكاتبه أو تزويجه لابنته إذا وكله أن يتزوج له؛ لأنه يتهم في حقه، ويترك الاستقصاء عليهم، وإن أذن له الموكل في هذا، جاز لانتفاء التهمة مع صريح الإذن، وإن وكله رجل في بيع عبده، ووكله آخر في شرائه، فله أن يتولى طرفي العقد، كما يجوز للأب ذلك في حق ولده الصغير. فصل: فإذا وكل عبداً في شراء عبد من سيده، جاز لأنه يجوز أن يشتري من غير سيده، فجاز منه كالأجنبي، وإن وكله في شراء نفسه، جاز لأنه يجوز أن يشتري غيره، فجاز أن يشتري نفسه، كالأجنبي، فإن قال السيد: ما اشتريت نفسك إلا لنفسك، عتق لإقرار سيده بحريته، والقول قول السيد في الثمن؛ لأن الظاهر ممن باشر العقد أنه له، ولو وكله سيده في إعتاق نفسه، أو وكل غريمه في إبراء نفسه، صح؛ لأنه وكيله في إسقاط حق نفسه، فجاز كتوكيل الزوجة في طلاقها، وإن وكل غريمه في إبراء غرمائه، لم يملك إبراء نفسه، كما لو وكله في حبسهم لم يملك حبس نفسه، وإن وكله في تفرقة صدقة، لم يملك صرفها إلى نفسه؛ لأنه مأمور بإعطاء غيره، قال أصحابنا: لا يملك إعطاء ولده ووالده؛ لأنهم كنفسه، ويحتمل جواز ذلك؛ لأن لفظه يعمهم، ولا قرينة تخرجهم. فصل: والوكيل أمين لا ضمان عليه فيما تلف تحت يده بغير تفريط، بجعل وبغير جعل؛ لأنه نائب المالك، أشبه المودع، والقول قوله فيما يدعيه من تلف، وعدم تفريط وخيانة لذلك، والقول قوله في الرد، إن كان متطوعاً؛ لأنه قبض المال لنفع مالكه، فهو كالمودع، وإن كان بجعل، ففيه وجهان: أحدهما: يقبل قوله؛ لأنه أمين أشبه المودع. والثاني: لا يقبل؛ لأنه قبضه لنفع نفسه، أشبه المستعير. وإن قال: بعت وقبضت الثمن، فتلف في يدي، ففيه وجهان، ذكرناهما في الرهن، وإن اختلفا في أصل الوكالة، فالقول قول من ينكرها؛ لأن الأصل عدمها، وإن اختلفا في دفع المال إلى الوكيل، فالقول قوله لذلك، فإن أنكره، ثم اعترف به، ثم ادعى تلفه أو رده، لم يقبل؛ لأن خيانته ثبتت بجحده، وكذلك الحكم في المودع، وإن أقام بدعواه ببينة، ففيه وجهان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 أحدهما: تقبل؛ لأنها شهدت بما لو أقر به لثبت، فقبلت: كما لو لم ينكر. والثاني: لا تقبل؛ لأنه مكذب بها بجحده، فإن كان جحوده: إنك لا تستحق علي شيئاً، لتلفه أو رده، وإن اختلفا في صفة الوكالة، فقال: وكلتني في بيع هذا، فقال: بل في بيع هذا، أو قال: وكلتني في بيعه بعشرين، قال: بل بثلاثين، أو قال: وكلتني في بيعه نسيئة، قال: بل نقداً، فالقول قول الموكل؛ لأنه منكر للعقد الذي يدعيه الوكيل، فأشبه ما لو أنكر أصل الوكالة، ولأنهما اختلفا في صفة قول الموكل، فكان القول قوله، كما لو اختلف الزوجان في صفة الطلاق، ونص أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المضارب على أن القول قوله، والوكيل في معناه؛ لأنه أمين في التصرف، فكان القول قوله في صفته، كما لو اختلفا في بيع الثوب المأذون في بيعه، وإن قال: اشتريت هذا لك بعشرة قال: بل بخمسة، فالحكم فيه كذلك، وإن قال: اشتريت هذه الجارية لك بإذنك بعشرة فأنكر الإذن في شرائها، فالقول قول الموكل، فيحلف ويبطل البيع إن كان بعين المال، ويرد الجارية على البائع إن صدق الوكيل في أنه وكيل، وإن أنكر الشراء لغيره، فالقول قوله، وعلى الوكيل غرامة الثمن لموكله، وتبقى الجارية في يده، ولا تحل له؛ لأنها ليست ملكاً له، فإذا أراد استحلالها، اشتراها ممن هي له في الباطن، فإن أبى بيعها استحب للحاكم أن يرفق به، ليبيعه إياها، ولا يجبر؛ لأنه عقد مراضاة، فإن أبى فقد حصلت في يده لغيره، وله في ذمة صاحبها ثمنها، فأقرب الوجوه فيها أن يأذن الحاكم له في بيعها، ويوفيه حقه من ثمنها؛ لأن الحاكم باعها في وفاء دينه، فإن قال صاحبها: إن كانت لي، فقد بعتكها بعشرين، فقال القاضي: لا يصح؛ لأنه بيع معلق على شرط، ويحتمل أن يصح؛ لأن هذا شرط واقع يعلمانه، فلا يضر جعله شرطاً، كما لو قال: إن كانت جارية فقد بعتكها. فصل: فإن قال: تزوجت لك فلانة بإذنك فصدقته المرأة، وأنكره، فالقول قول المنكر؛ لأن الأصل معه ولا يستحلف؛ لأن الوكيل يدعي حقاً لغيره، وإن ادعته المرأة، استحلف؛ لأنها تدعي صداقها عليه فإن حلف، برئ من الصداق، ولم يلزم الوكيل في أحد الوجهين؛ لأن حقوق العقد تتعلق بالموكل، فإن كان الوكيل ضمنه لها، فلها مطالبته به، وليس لها نكاح غيره، لاعترافها أنها زوجته، فتؤخذ بإقرارها، ولا يكلف الطلاق؛ لأنه لم يثبت في حقه نكاح، ويحتمل أن يكلفه، لإزالة احتمال؛ لأنه يحتمل صحة، دعواها، فينزل منزلة النكاح الفاسد، ولو مات أحدهما، لم يرثه الآخر؛ لأنه لم يثبت صداقها فترث، وهو ينكر أنها زوجته فلا يرثها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 [ باب الشركة ] يجوز عقد الشركة في الجملة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يقول الله تعالى: أنا ثالث الشركين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه، خرجت من بينهما» رواه أبو داود. وتكره شركة الذمي إلا أن يكون المسلم يتولى البيع والشراء، لما روى الخلال بإسناده عن عطاء قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مشاركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون البيع والشراء بيد المسلم» ولأنه لا يأمن معاملتهم بالربا، والعقود الفاسدة. فصل: والشركة على أربعة أضرب: أحدها: شركة العنان، وهو أن يشترك اثنان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما، والربح بينهما، فإذا صحت، فما تلف من المالين، فهو من ضمانهما، وإن خسرا، كانت الخسارة بينهما على قدر المالين؛ لأنهما صارا كمال واحد في ربحه، فكذلك في خسرانه، والربح بينهما على ما شرطاه؛ لأن العمل يستحق به الربح، وقد يتفاضلان فيه؛ لقوة أحدهما وحذقه، فجاز أن يجعل له حظ من الربح كالمضارب. فصل: وتصح الشركة على الدراهم والدنانير؛ لأنهما أثمان البياعات، وقيم الأموال، ولا تصح بالعروض في إحدى الروايتين؛ لأن قيمة أحدهما ربما تزيد قبل بيعه، فيشاركه الآخر في نماء العين التي هي ملكه، والثانية: تصح الشركة بها ويجعل رأس المال قيمتها وقت العقد؛ لأن مقصودها نفوذ تصرفهما في المال المشترك، وكون ربحه بينهما، وهذا ممكن في العروض، والحكم في النقرة والمغشوش والفلوس، كالحكم في العروض؛ لأن قيمتها تزيد وتنقص، فأشبهت العروض، ولا تجوز الشركة بمجهول ولا جزاف؛ لأنه لا يمكن الرجوع به عند المفاضلة، ولا بدين ولا غائب؛ لأنه مما لا يجوز والتصرف فيه، وهو مقصود الشركة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 فصل: ويجوز في المختلفين، فيكون لأحدهما دنانير وللآخر دراهم، ولأحدهما صحاح، وللآخر مكسرة، أو لأحدهما مائة، والآخر مائتان؛ لأنهما أثمان، فصحت الشركة بهما كالمتفقين، ويرجع كل واحد منهما عند المفاضلة بمثل ماله، نص عليه؛ لأنها أثمان، فيجب الرجوع بمثلها كالمتفقين، وتجوز الشركة، وإن لم يخلطا المالين؛ لأنه يقصد بها كون الربح بالمالين، فلم يشترط خلط المال كالمضاربة. فصل: ومبناها على الوكالة والأمانة؛ لأن كل واحد منهما بتفويض المال إلى صاحبه أمنه، وبإذنه له في التصرف وكله، ولكل واحد منهما العمل في المالين بحكم الملك في حصته، والوكالة في حصة شريكه، وحكمها في جوازها وانفساخها حكم الوكالة، لتضمنها للوكالة، فإن عزل أحدهما صاحبه قبل أن ينض المال، فذكر القاضي: أن ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا ينعزل حتى ينض، كالمضارب إذا عزله رب المال، وقال أبو الخطاب: ينعزل؛ لأنها وكالة. فإذا عزله فطلب أحدهما البيع، والآخر القسمة، أجيب طالب القسمة؛ لأنه يستدرك ما يحصل من الربح بالقسمة، فلم يجبر على البيع بخلاف المضارب، وهذا إنما يصح إذا كان الربح على قدر المالين، فإن زاد ربح أحدهما عن ماله، لم يستدرك ربحه بالقسمة، فيتعين البيع كالمضاربة. فصل: فإن مات أحدهما، فلوارثه إتمام الشركة، فيأذن للشريك، ويأذن له الشريك في التصرف؛ لأن هذا إتمام للشركة، وليس بابتداء لها، فلا تعتبر شروطها، وكذلك إن مات رب المال في المضاربة، فلوارثه إتمامها في ظاهر كلامه، ويحتمل أن لا يجوز إتمامها إلا أن يكون المال ناضاً؛ لأن العقد قد بطل بالموت، وهذا ابتداء عقد، فلا يجوز بالعروض، وإن مات عامل الضاربة، لم يجز إتمامها إلا على الوجه الذي يجوز ابتداءها؛ لأنه لم يخلف أصلاً يبنى عليه، ولو كان مال الشركة والمضاربة موصى به، والموصى له كالوارث في هذا، فإن كانت الوصية لغير معين، كالفقراء، فليس للموصي الإذن في التصرف؛ لأنه قد وجب دفعه إليهم. فصل: ولكل واحد من الشريكين أن يبيع ويشتري مساومة ومرابحة وتولية ومواضعة، ويقبض المبيع والثمن، ويقبضهما ويطالب بالدين، ويخاصم فيه، ويرد بالعيب في العقد الذي وليه هو أو صاحبه، ويحيل ويحتال ويستأجر، ويفعل كل ما هو من مصلحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 التجارة بمطلق الشركة؛ لأن هذا عادة التجار، وقد أذن له في التجارة، وهل لأحدهما أن يبيع نساء أو يبضع أو يودع أو يسافر بالمال؟ يخرج على روايتين: إحداهما: له ذلك؛ لأنه عادة التجار، ولأن المقصود الربح، وهو في هذه أكثر. والأخرى: لا يجوز؛ لأن فيه تغريراً بالمال، وهل له التوكيل؟ يخرج على الروايتين في الوكيل؛ لأنه وكيل، وإذا وكل أحدهما، فللآخر عزله؛ لأنه وكيله، وهل له أن يرهن ويرتهن؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن الرهن يراد للإيفاء والارتهان يراد للاستيفاء، وهو يملكهما، فيملك ما يراد لهما. والثاني: لا يجوز؛ لأن فيه خطراً، وفي الإقالة وجهان. أصحهما: أنه يملكها؛ لأنه إن كانت بيعاً فقد أذن فيه، وإن كانت فسخاً، ففسخ البيع المضر من مصلحة التجارة فملكه، كالرد بالعيب، والآخر لا يملكها؛ لأنها فسخ فلا تدخل في الإذن في التجارة. فصل: وليس له أن يكاتب رقيقه، ولا يزوجه، ولا يعتقه بمال، ولا يقرض ولا يحابي؛ لأن ذلك ليس بتجارة، وليس له المشاركة بمال الشركة، ولا المضاربة به، ولا خلطه بماله، ولا مال غيره؛ لأنه يثبت في المال حقوقاً، وليس هو من التجارة المأذون فيها، ولا يأخذ به سفتجة ولا يعطيها؛ لأن فيه خطراً، ولا يستدين على مال الشركة، ولا يشتري ما ليس عنده ثمنه؛ لأنه يؤدي إلى الزيادة في مال الشركة، ولم يؤذن فيه، فإن فعل، فعليه ثمن ما اشتراه ويختص بملكه وربحه وضمانه، وكذلك ما استدانه أو اقترضه، ويجوز أن يشتري نساء ما عنده ثمنه؛ لأنه لا يفضي إلى الزيادة فيها، وإن أقر على مال الشركة، قبل في حقه دون صاحبه، سواء أقر بعين أو دين؛ لأن الإقرار ليس من التجارة، وقال القاضي: يقبل إقراره على مال الشركة، ويقبل إقراره بعيب في عين باعها، كما يقبل إقرار الوكيل على موكله به، نص عليه؛ لأنه تولى بيعها، فقبل إقراره بالعيب، كمالكها. فإن رد عليه المعيب فقبله، أو دفع أرشه، أو أخر ثمنه، أو حط بعضه لأجل العيب، جاز؛ لأن العيب يجوز الرد، وقد يكون ما يفعله من هذا أحظ من الرد، فأما إن حط بعض الثمن ابتداء، أو أسقط ديناً عن غريمهما، أو أخره عليه، لزم في حقه دون صاحبه؛ لأنه تبرع فجاز في حقه دون شريكه كالصدقة. فإن قال له: اعمل برأيك فله عمل ما يقع في التجارة من الرهن والارتهان والبيع نساء، والإبضاع بالمال، والمضاربة به والشركة، وخلطه بماله، والسفر به وإيداعه، وأخذ السفتجة ودفعها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ونحوه؛ لأنه فوض إليه الرأي في التصرف في التجارة، وقد يرى المصلحة في هذا، وليس له التبرع والحطيطة والقرض وكتابة الرقيق، وعتقه وتزويجه؛ لأنه ليس بتجارة، وإنما فوض إليه العمل برأيه في التجارة. فصل: الضرب الثاني: شركة الأبدان، وهو أن يشترك اثنان فيما يكتسبانه بأبدانهما، كالصانعين يشتركان على أن يعملا في صناعتهما أو فيما يكتسبان من مباح كالحشيش والحطب والمعادن، والتلصص على دار الحرب، فما رزق الله فهو بينهما، فهو جائز، لما روى عبد الله بن مسعود قال: «اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فلم أجئ أنا وعمار بشيء، وجاء سعد بأسيرين» . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، واحتج به أحمد، ومبناها على الوكالة؛ لأن كل واحد منها وكيل صاحبه، وما يتقبله كل واحد من الأعمال، فهو من ضمانهما، يطالب به كل واحد منهما، ويلزمه عمله. قال القاضي: ويحتمل أن لا يلزم كل واحد منهما ما لزم صاحبه، كالوكيلين، ويصح مع اتفاق الصنائع واختلافها؛ لأنهما اتفقا في مكسب واحد، كما لو اتفقت الصنائع، وقال أبو الخطاب: لا تصح مع اختلافها؛ لأن الشركة تقتضي أن ما يتقبله أحدهما يلزم صاحبه، ولا يمكن أن يلزمه عمل صناعة لا يحسنها. فصل: والربح بينهما، على ما شرطاه من مساواة أو تفاضل؛ لأنهما يستحقان بالعمل، والعمل يتفاضل، فجاز أن يكون الربح متفاضلاً، وما لزم أحدهما من ضمان لتعديه وتفريطه، فهو عليه خاصة؛ لأن ذلك لا يدخل في الشركة، ولكل واحد منهما طلب الأجرة، وللمستأجر دفعها إلى أيهما شاء، وإن تلفت في يد أحدهما بغير تفريط، فلا ضمان عليه؛ لأنه وكيل. فصل: وإن عمل أحدهما دون صاحبه، فالكسب بينهما، لحديث ابن مسعود حين جاء سعد بأسيرين وأخفق الآخران، وإن ترك أحدهما العمل لعجز أو غيره، فللآخر مطالبته بالعمل، أو بإقامة من يعمل عنه أو يفسخ. فصل: إذا كان لرجلين دابتان، فاشتركا على أن يحملا عليهما، فما رزق الله تعالى من الأجرة، فهو بينهما صح. ثم إن تقبلا حمل شيء في ذمتهما فحملاه عليهما، صح، والأجرة على ما شرطاه؛ لأن تقبلهما الحمل أثبته في ذمتهما وضمانهما، والشركة تنعقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 على الضمان كشركة الوجوه، وإن أجراهما على حمل شيء، اختص كل واحد منها بأجرة دابته، ولا شركة؛ لأنه لم يجب الحمل في ذمته، وإنما استحق المكتري منفعة هذه البهيمة التي استأجرها، ولهذا تنفسخ الإجارة بموتها، ولا يصح أن يكون كل واحد منهما وكيل صاحبه في إجارة دابة نفسه، ولهذا لو قال: أجر دابتك وأجرها بيني وبينك، لم يصح. فإن أعان أحدهما صاحبه في التحميل، فله أجرة مثله؛ لأنها منافع وفاها بشبهة عقد. فصل: فإن دفع دابته إلى رجل يعمل عليها، أو عبده ليكتسب، ويكون ما يحصل بينهما نصفين، أو أثلاثاً، صح، نص عليه؛ لأنها عين تنمى بالعمل عليها، فجاز العقد عليها ببعض نمائها، كالشجر في المساقاة، ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي الفرس على نصف الغنيمة: أرجو أن لا يكون به بأس، ووجهه ما ذكرناه، وإن دفع ثياباً إلى خياط ليخيطها ويبيعها، وله جزء من ربحها، أو غزلاً لينسجه ثوباً بثلث ثمنه، أو ربعه، جاز، وإن جعل معه دراهم، لم يجز، وعنه: الجواز، والأول المذهب؛ لأنه لا يجوز أن يشترط في المساقاة دراهم معلومة، وإنما أجاز أحمد ذلك تشبيهاً بالمساقاة، قال: نراه جائزاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى خيبر على الشطر. فصل: وإن دفع رجل بغلة، وآخر راوية إلى رجل، ليستقي وما رزقهم الله بينهم، فقياس المذهب صحته؛ لأن كل واحدة منها عين تنمى بالعمل عليها، فصح دفعها بجزء من النماء كالتي قبلها، وقال القاضي: لا يصح، لأن المشاركة بالعروض لا تصح، والأجرة للعامل؛ لأنه ملك الماء باغترافه في الإناء، ولصاحبيه أجرة المثل؛ لأنه استوفى منافع ملكهما بشبه عقد، ولو اشترك صانعان على أن يعملا بأداة أحدهما في بيت الآخر، والكسب بينهما، صح؛ لأن الأجرة على عملهما، وبه يستحق الربح، ولا يستحق بالآلة والبيت شيء، إنما يستعملانها في العمل، فصارا كالدابتين في الشركة، ولو اشترك صاحب بغل وراوية على أن يؤجراهما، والأجرة بينهما، لم يصح؛ لأن حاصله أن كل واحد منهما يؤجر ملكه، ويعطي الآخر من أجرته، وليس بصحيح، والأجرة كلها لمالك البهيمة؛ لأنه صاحب الأصل، والآخر أجرة مثله. فصل: الضرب الثالث: شركة الوجوه وهو: أن يشترك رجلان فيما يشتريان بجاههما، وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن ما اشترياه فهو بينهما على ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 اتفقا عليه من مساواة، أو تفاضل، ويبيعان فما رزق الله تعالى من الربح، فهو بينهما على ما اتفقا عليه، فهو جائز، سواء عين أحدهما لصاحبه ما يشتريه، أو قال: ما اشتريت من شيء فهو بيننا، نص عليه، والربح بينهما على ما اشترطاه، وقال القاضي: الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشترى، ولنا أنهما شريكان في المال فجاز تفاضلهما في الربح، مع تساويهما في الملك. كشركي العنان، والوضيعة على قدر ملكيهما في المشترى؛ لأنه رأس المال، ومبناها على الوكالة؛ لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه فيما يشتريه ويبيعه، وحكمهما في جواز ما يجوز لكل واحد منهما، أو يمنع منه حكم شركة العنان. فصل: الضرب الرابع: شركة المفاوضة، وهو أن يشتركا في كل شيء يملكانه، وما يلزم كل واحد منهما من ضمان غصب، أو جناية أو تفريط، وفي ما يجدان من ركاز أو لقطة، فلا يصح؛ لأنه يكثر فيها الغرر، ولأنها لا تصح بين المسلم والكافر، فلا تصح بين المسلمين، كسائر العقود المنهي عنها، ولأنه يدخل فيها أكساب غير معتادة، وحصول ذلك وهم لا يتعلق به حكم. [ باب المضاربة ] وهو أن يدفع إنسان ماله إلى آخر يتجر فيه، والربح بينهما، وهي جائزة بالإجماع، يروى إباحتها عن عمر وعلي وابن مسعود وحكيم بن حزام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في قصص مشتهرة، ولا مخالف لهم فيكون إجماعاً، وتسمى مضاربة وقراضاً، وتنعقد بلفظهما، وبكل ما يؤدي معناهما؛ لأن القصد المعنى، فجاز بما دل عليه كالوكالة، وحكمها حكم شركة العنان في جوازها وانفساخها، وفي ما يكون رأس المال فيها، وما لا يكون، وما يملكه العالم، وما يمنع منه، وكون الربح بينهما على ما شرطاه؛ لأنها شركة، فيثبت فيها ذلك، كشركة العنان. فصل: ويشترط تقدير نصيب العامل، ونصيب كل واحد من الشريكين في الشركة بجزء مشاع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها، والمضاربة في معناها. فإن قال: خذه مضاربة والربح بيننا، صح وهو بينهما نصفين؛ لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة من غير ترجيح لأحدهما، فاقتضى التسوية، كقوله: هذه الدار بيني وبينك، وإن قال: على أن لك ثلث الربح، صح، والباقي لرب المال؛ لأنه يستحقه، لكونه نماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 ماله، فلم يحتج إلى شرطه، وإن قال: على أن لي ثلث الربح، ولم يذكر نصيب العامل، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن العامل إنما يستحق بالشرط ولا شرط له. والثاني: يصح، والباقي للعامل؛ لأنه يدل بخطابه على ذلك كقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] دل على أن باقيه للأب، وإن قال: لي النصف ولك الثلث، وترك السدس، فهو لرب المال؛ لأنه يستحقه بماله، وإن قال: خذه مضاربة بالثلث، صح، وهو للعامل؛ لأن الشرط يراد من أجله، ورب المال يأخذه بماله لا بالشرط، ومتى اختلفا لمن الجزء المشروط، فهو للعامل لذلك، واليمين على مدعيه. فصل: وإن لم يذكر الربح، أو قال: لك جزء من الربح، أو شركة، لم تصح المضاربة؛ لأن الجهالة تمنع تسليم الواجب، وإن قال: لك مثل ما شرط لفلان وهما يعلمانه، صح، وإن جهلاه أو أحدهما، لم يصح، ولا يجوز أن يشرط لأحدهما دراهم معلومة؛ لأنه يحتمل أن لا يربحها، أو لا يربح غيرها. فيختص أحدهما بجميع الربح، ولو شرط لأحدهما ربح أحد الألفين، أو أحد الكيسين، أو أحد العبدين، وللآخر ربح الآخر، أو جعل حقه في عبد يشتريه، أو أنه إذا اشترى عبداً، أخذه برأس المال، لم يصح، لإفضائه إلى اختصاص أحدهما بالربح. فصل: وإن قال: خذه مضاربة والربح كله لك، أو قال: لي، لم يصح؛ لأن موضوعها على الاشتراك في الربح، فشرطه كله له. ينافي مقتضى العقد، فبطل، وإن قال: خذه فاتجر به، والربح كله لك، فهو قرض؛ لأن اللفظ يصلح للقرض، وقد قرن به حكمه، فتعين له، وإن قال: والربح كله لي، فهو إبضاع؛ لأنه قرن به حكمه. فصل: فإن قال لغريمه: ضارب بالدين الذي عليك، لم يصح؛ لأن ما في يد الغريم، لنفسه لا يصير لغريمه إلا بقبضه. فإن عزل شيئاً واشترى به، فالشراء له؛ لأنه اشترى بماله، ويحتمل أن تصح المضاربة؛ لأنه اشترى له بإذنه، ودفع المال إلى من أذن له، في دفعه إليه، فبرئت به ذمته، وإن كانت له وديعة، فقال للمودع: ضارب بها، صح؛ لأنه عين ماله، وإن كان عرضاً فقال: بعه وضارب بثمنه، صح؛ لأن الثمن عين مال رب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 المال، وإن قال: اقبض ما لي على فلان، فضارب به ففعل، صح لأنه وكيل في قبضه فيصير كالوديعة. فصل: ويصح أن يشرط على العامل أن لا يسافر بالمال، ولا يتجر به إلا في بلد بعينه، أو نوع بعينه أو لا يعامل إلا رجلاً بعينه؛ لأنه إذن في التصرف فجاز ذلك فيه كالوكالة، ويصح توقيتها، فيقول: ضاربتك بهذه الدراهم سنة لذلك، نص عليه، وعنه: لا يصح، اختارها أبو حفص؛ لأنه عقد يجوز مطلقاً، فلم يجز توقيته كالنكاح، ويصح أن يشرط نفقة نفسه حضراً وسفراً قياساً على الوكيل. فصل: ولا يصح أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد، نحو أن يشرط لزوم المضاربة، أو لا يعزله مدة بعينها، أو لا يبيع إلا برأس المال، أو أقل، أو يوليه ما يختار من السلع؛ لأنه يفوت المقصود من العقد، وإن شرط أن يتجر له في مال آخر مضاربة، أو بضاعة أو خدمة في شيء، أو يرتفق بالسلع، أو شرط على العامل الضمان، أو الوضيعة أو سهماً منها، أو متى باع سلعة، فهو أحق بها بالثمن، فالشرط فاسد؛ لأنه ليس في مصلحة العقد ولا مقتضاه. فصل: وكل شرط يؤثر في جهالة الربح يبطل المضاربة؛ لأنه يمنع التسليم الواجب، وما لا يؤثر فيه، لا يبطلها في قياس قوله، لنصه فيما إذا شرط سهماً من الوضيعة أن المضاربة صحيحة؛ لأنه إذا حذف الشرط، بقي الإذن بحاله ويحتمل البطلان؛ لأنه إنما رضي بالعقد بهذا الشرط، فإذا فسد، فات الرضى به ففسد، كالمزارعة إذا شرط البذر من العامل، وكالشروط الفاسدة في البيع، ومتى فسدت، فالتصرف صحيح؛ لأنه بإذن رب المال والوضيعة عليه؛ لأن كل عقد لا ضمان في صحيحه لا ضمان في فاسده، والربح لرب المال؛ لأنه نماء ماله، وإنما يستحق بالشرط وهو فاسد ها هنا لا يستحق به شيء، وللعامل أجر مثله؛ لأنه بذل منافعه بعوض لم يسلم له، وإن فسدت الشركة، قسم الربح على رؤوس أموالهما، ورجع كل واحد منهما على الآخر بأجر عمله، لما ذكرنا، وقال الشريف أبو جعفر: الربح بينهما على ما شرطاه؛ لأنه عقد يجوز أن يكون عوضه مجهولاً، فوجب المسمى في فاسده كالنكاح. فصل: وعلى العامل عمل ما جرت العادة بعمله له، من نشر وطي، وإيجاب وقبول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وقبض ثمن، ووزن ما خف، كالنقود والمسك والعود؛ لأن إطلاق الإذن يحتمل على العرف، والعرف أن هذه الأمور يتولاها بنفسه، وإن استأجر من يفعلها، فعليه الأجرة في ماله؛ لأنه بذلها عوضاً عما يلزمه، وما جرت العادة أن يستنيب فيه، كحمل المتاع، ووزن ما يثقل والنداء، فله أن يستأجر من مال القراض من يفعله؛ لأنه العرف. فإن فعله بنفسه ليأخذ أجرة لم يستحقها، نص عليه؛ لأنه تبرع بفعل ما لم يلزمه، فلم يكن له أجر كالمرأة التي تستحق على زوجها خادماً إذا خدمت نفسها، ويتخرج أن له الأجر؛ لأنه فعل ما يستحق الأجر فيه، فاستحقه كالأجنبي. فصل: وليس له أن يشتري بأكثر من رأس المال؛ لأن الإذن لم يتناول غيره. فإن كان ألفاً فاشترى عبداً بألف، فهو للمضاربة؛ لأنه مأذون فيه. فإن اشترى آخر، لم يدخل في المضاربة؛ لأنه غير مأذون فيه، وحكمه حكم ما لو اشترى لغيره شيئاً بغير إذنه. فإن تلف الألف قبل نقده في الأول، فعلى رب المال الثمن؛ لأن الشراء بإذنه، ويصير رأس المال الثمن الثاني؛ لأن الأول تلف قبل تصرفه فيه، وإن تلف قبل الشراء، لم يدخل المشتري في المضاربة؛ لأنها انفسخت قبل الشراء، لتلف رأس المال وزوال الإذن. فصل: وليس له التصرف إلا على الاحتياط، كالوكيل؛ لأنه وكيل رب المال إلا أن له شراء المعيب؛ لأن مقصودها الربح، وقد يربح في المعيب بخلاف الوكالة فإن الشراء فيها يراد للقنية. فإن اشترى شيئاً فبان معيباً، فله رده، فإن اختلف هو ورب المال في رده، فعل ما فيه النظر؛ لأن مقصود الحظ لهما، فإذا اختلفا، قدم الأحظ. فصل: فإن اشترى من يعتق على رب المال، صح؛ لأنه مال متقوم قابل للعقود فصح شراؤه، كالذي نذر رب المال عتقه، ويعتق، وعلى العامل الضمان، علم أو لم يعلم؛ لأن مال المضاربة تلف بتفريطه، وفي قدر ما يضمن وجهان: أحدهما: ثمنه؛ لأنه فات فيه. والثاني: قيمته؛ لأنها التالفة، وقال أبو بكر: إن لم يعلم، لم يضمن؛ لأنه معذور، فلم يضمن، كما لو اشترى معيباً لم يعلم عيبه، ويتخرج أن لا يصح شراؤه؛ لأن الإذن تقيد بالعرف لما يمكن بيعه والربح فيه، فلا يتناول غيره، ولأنه تقيد بما يظن الحظ فيه، وهذا لا حظ للتجارة فيه، ولهذا جعلناه مفرطاً، وألزمناه الضمان، وإن اشترى زوجة رب المال، أو زوج ربة المال، صح وانفسخ النكاح لملكه إياه فإن كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 قبل الدخول، فعلى العامل نصف الصداق؛ لأنه أفسد نكاحه فأشبه من أفسده بالرضاع. فصل: فإن اشترى من يعتق على نفسه، ولا ربح في المال، لم يعتق، وإن ظهر فيه ربح، وقلنا: لا يملك العامل إلى بالقسمة، لم يعتق أيضاً، وإن قلنا: يملكه بالظهور، عتق عليه قدر حصته منه، وسرى إلى باقيه إن كان موسراً، وغرم قيمته، وإن كان معسراً، لم يعتق عليه إلى ما ملك، وقال أبو بكر: لا يعتق بحال؛ لأنه لم يتم ملكه في الربح، لكونه وقاية لرأس المال. فصل: وليس له وطء جارية من المال، فإن فعل، فعليه المهر؛ لأنها مملوكة غيره ويعزر، نص عليه، ولا حد عليه لشبهة حقه فيها، وقال القاضي: عليه الحد إن لم يظهر ربح؛ لأنه لا ملك له فيها، والأول أولى؛ لأن ظهور الربح ينبني على التقويم، وهو غير متحقق فيكون شبهة. فإن ولدت منه، ولم يظهر ربح، فالولد مملوك، ولا تصير به الجارية أم ولد؛ لأنها علقت به في غير ملك، وإن ظهر ربح، فالولد حر، وأمه أم ولد، وعليه قيمتها، ويسقط من القيمة والمهر قدر حصة العامل منها، وإن أذن له رب المال في التسري فاشترى جارية، خرجت من المضاربة، وصار ثمنها قرضاً؛ لأن استباحة البضع لا تكون إلا بملك أو نكاح؛ لقول الله تعالى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] . فصل: وليس لرب المال وطء جارية من المضاربة؛ لأن لغيره فيها حقاً، فإن فعل، فلا حد عليه؛ لأنها ملكه. وإن لم تعلق منه، فالمضاربة بحالها، وإن علقت منه، فالولد حر، وتصير أم ولد له، وتخرج من المضاربة، وتحسب عليه قيمتها، ويأخذ المضارب حصته من الربح مما بقي. فصل: وليس له دفع المال مضاربة؛ لأنه إنما دفع إليه المال ليضارب به، وبهذا يخرج عن كونه مضارباً، فإن فعل فهو مضمون على كل واحد منهما، على الأول لتعديه، وعلى الثاني لأخذه مال غيره بغير إذنه، فإن غرم الأول، ولم يعلم الثاني بالحال، لم يرجع عليه؛ لأنه دفعه إليه أمانة، وإن علم، رجع عليه، وإن غرم الثاني مع علمه، لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 يرجع على أحد، وإن لم يعلم فهل يرجع على الأول؟ على وجهين، بناء على المشتري من الغاصب، وإن ربح، فالربح لرب المال؛ لأنه نماء ماله ولا أجرة لواحد منهما؛ لأن الأول لم يعمل، والثاني عمل في مال غيره بغير إذنه، فأشبه الغاصب، وعنه: له أجرة مثله؛ لأنه عمل في المال بشبهة المضارب، فأشبه المضاربة الفاسدة، ويحتمل أنه إن اشترى في الذمة، كان الربح له، فأما إن دفعه إلى غيره بإذن رب المال، صح، ويصير الثاني هو المضارب. فإن شرط الدافع لنفسه شيئاً من الربح، لم يستحق شيئاً؛ لأن الربح يستحق بمال، أو عمل، وليس له واحد منهما، فإن قال له رب المال: اعمل برأيك، فعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جواز دفعه مضاربة كما ذكرنا في الشركة. فصل: إذا تعدى المضارب بفعل ما ليس له، فهو ضامن؛ لأنه تصرف بغير إذن المالك فضمن كالغاصب، والربح لرب المال ولا أجرة له؛ لأنه عمل بغير إذن، أشبه الغاضب، وعنه له أجرة مثله ما لم تحط بالربح، كالإجارة الفاسدة، وعنه: له أقل الأمرين من أجرته أو ما شرط له؛ لأنه رضي بما جعل له فلا يستحق أكثر منه، ولا يستحق أكثر من أجرة المثل؛ لأنه لم يفعل ما جعل له الربح فيه، وقال القاضي: إن اشترى في الذمة، ثم نقد المال، فكذلك، وإن اشترى بعين المال، فالشراء باطل في رواية، والنماء للبائع، وفي رواية يقف على إجازة المالك، فإن لم يجزه، فالبيع باطل أيضاً، وإن أجازه، صح والنماء له، وإن أخذ الربح، كان إجازة منه للعقد؛ لأنه دل على رضاه، وفي أجرة المضارب ما ذكرناه. فصل: ونفقة العامل على نفسه حضراً وسفراً؛ لأنها تختص به فكانت عليه كنفقة زوجته، ولأنه دخل على أن له جزءاً مسمى فلم يستحق غيره، كالمساقي، وإن اشترط نفقته، فله ذلك؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» ويستحب تقديرها؛ لأنه أبعد من الغرر، فإن أطلق، جاز؛ لأن لها عرفاً تنصرف إليه، فأشبه إطلاق الدينار في بلد له فيه عرف. قال أحمد: ينفق على ما كان ينفق غير متعد بالنفقة، ولا مضر بالمال، وله نفقة من المأكول خاصة، إلا أن يكون سفره طويلاً يحتاج إلى تجديد كسوة، فله أن يكتسي، فإن كان معه مال آخر، فالنفقة على المالين بالحصص؛ لأن النفقة للسفر، والسفر لهما، وإن مات لم يجب تكفينه؛ لأنه لم يبق عاملاً، وإن لقيه رب المال في السفر، ففسخ المضاربة، فلا نفقة له لرجوعه لذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 فصل: وللمضارب أن يأخذ مضاربة أخرى، إذا لم يكن فيه ضرر على الأولى؛ لأنه عقد لا يملك به منافعه كلها، فلم يملك عقدا آخر كالوكالة. فإن كانت الثانية، تشغله عن الأولى، لم يجز؛ لأنه تصرف يضر به، فلم يجز كالبيع بغبن، فإن فعل ضم نصيبه من الربح في الثاني إلى ربح الأول، فاقتسماه؛ لأن ربحه الثاني حصل بالمنفعة التي اقتضاها العقد الأول، وإن فعل ذلك بإذن الأول، جاز؛ لأن الحق له فجاز بإذنه. فإن أخذ مالين من رجلين، واشترى بكل مال عبداً فاشتبها عليه، ففيه وجهان: أحدهما: يكونان شريكين فيهما، كما لو اشتركا في عقد البيع. والثاني: يأخذهما العامل، وعليه رأس المال؛ لأنه تعذر ردهما بتفريطه، فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما. فصل: وإذا دفع إليه ألفاً، ثم دفع إليه ألفاً آخر، لم يجز له ضم أحدهما إلى الآخر؛ لأنه أفرد كل واحد بعقد له حكم، فلم يملك تغييره، فإن أمره بضمهما قبل التصرف فيهما، أو بعد أن نضا، جاز وصارا مضاربة واحدة، وإن كان بعد التصرف قبل أن ينضا، لم يجز؛ لأن حكم ما تصرف فيه قد استقر، فصار ربحه وخسرانه مختصاً به، فضم الآخر إليه يوجب جبر وضيعة أحدهما بربح الآخر، فلم يجز. فصل: وليس للمضارب ربح حتى يوفي رأس المال؛ لأن الربح هو الفاضل عن رأس المال. فلو ربح في سلعة، وخسر في أخرى، أو في سفرة، وخسر في أخرى جبرت الوضيعة من الربح، وإن تلف بعض المال قبل التصرف، فتلفه من رأس المال؛ لأنه تلف قبل التصرف، أشبه التالف قبل القبض، وإن تلف بعد التصرف، حسب من الربح؛ لأنه دار في التجارة، فإن اشترى عبدين بمائة، فتلف أحدهما، وباع الآخر بخمسين، فأخذ منها رب المال خمسة وعشرين بقي رأس المال خمسين؛ لأن رب المال أخذ نصف المال الموجود، فسقط نصف الخسران، ولو لم يتلف العبد، وباعهما بمائة وعشرين، فأخذ رب المال ستين، ثم خسر العامل فيما معه عشرين، فله من الربح خمسة؛ لأن سدس ما أخذه رب المال ربح، للعامل نصفه، وقد انفسخت المضاربة فيه، فلا يجبر به خسران الباقي، وإن اقتسما العشرين الربح خاصة، ثم خسر عشرين، فعلى العامل رد ما أخذه، وبقي رأس المال تسعين؛ لأن العشرة الباقية مع رب المال تحسب من رأس المال، ومهما بقي العقد على رأس المال، وجب جبر خسرانه من ربحه وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 قسما الربح قال أحمد: إلا أن يقبض رأس المال صاحبه، ثم يرده إليه، أو يحتسبا حساباً كالقبض، وهو أن يظهر المال، ويجئ به فيحتسبان عليه، فإن شاء صاحبه قبضه، ولا يكون ذلك إلا في الناض، دون المتاع؛ لأن المتاع قد يتغير سعره، وأما قبل ذلك، فالوضيعة تجبر من الربح، ولذلك لو طلب أحدهما قسمة الربح دون رأس المال، لم يلزم الآخر إجابته؛ لأنه لا يأمن الخسران في الثاني، وإن اتفقا على قسمه أو قسم بعضه، أو على أن يأخذ كل واحد منهما كل يوم قدراً معلوماً، جاز؛ لأن الحق لهما، ولو تبين للمضارب ربح، لم يجز له أخذ شيء منه إلا بإذن رب المال. فصل: ويملك العامل الربح بالظهور، وعنه: لا يملكه؛ لأنه لو ملكه اختص بربحه، والأول المذهب؛ لأنه يملك المطالبة بقسمه فملكه كالمشتري، وإنما لم يختص بربحه؛ لأنه وقاية لرأس المال. فصل: ولكل واحد منهما فسخ المضاربة؛ لأنها عقد جائز. فإذا فسخ والمال عرض فاتفق على قسمه، أو بيعه، جاز، وإن طلب العامل البيع وأبى رب المال وفيه ربح، أجبر عليه؛ لأن حقه في الربح لا يظهر عليه إلا بالبيع، وإن لم يكن فيه ربح، لم يجبر؛ لأنه لا حق له فيه، وإن طلب رب المال البيع، وأبى العامل، أجبر في أحد الوجهين؛ لأنه يستحق عليه رد المال كما أخذه، والآخر لا يجبر؛ لأنه متصرف لغيره بحكم عقد جائز، فلم يلزمه التصرف كالوكيل، وإن كان ديناً، لزم العامل تقاضيه؛ لأن المضاربة تقتضي رد المال على صفته. فصل: ويجوز أن يدفع المال إلى اثنين مضاربة، فإن شرط لهما جزءاً من الربح، ولم يبين كيف هو بينهما، فهو بينهما نصفين؛ لأن إطلاق لفظ: لهما، يقتضي التسوية، وإن شرط لأحدهما ثلث الربح، وللآخر سدسه، صح لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان، وإن قارض اثنان واحداً بألف لهما، جاز، وكان بمنزلة عقدين، فإذا شرطا له جزءاً من الربح، والباقي لهما على قدر ملكيهما، فإن كان بينهما نصفين، فشرط أحدهما للمضارب نصف ربح نصيبه وشرط له الآخر الثلث، والباقي بينهما نصفين، لم يجز لأن كل وحد منهما يستحق ما بقي من الربح بعد شرطه، فإذا شرطا التسوية، فقد شرط أحدهما جزءاً من ربح مال صاحبه بغير عمل، وإن دفع إليه ألفاً، وقال: أضف إليها ألفاً من مالك، والربح بيننا، لك ثلثاه ولي ثلثه، جاز، وكان شركة وقراضاً، وللعامل النصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 بماله، والسدس بعمله، وإن قال: والربح بيننا نصفين نظرنا في لفظه، فإن قال: خذه مضاربة، فسد؛ لأنه جعل ربح ماله كله له، وذلك ينافي مقتضى المضاربة، وإن لم يقل مضاربة، صح، وكان إبضاعاً، وإن قال: ولي الثلثان، فسد؛ لأنه يشرط لنفسه جزءاً من ربح مال صاحبه بغير عمل. فصل: وإن أخرج ألفاً وقال: أتجر أنا وأنت فيها والربح بيننا، صح، نص عليه، وذكره الخرقي بقوله: أو بدنان بمال أحدهما، وقال ابن حامد والقاضي: لا يصح؛ لأن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى العامل، وهذا الشرط ينفي ذلك، والأول أظهر؛ لأن العمل أحد ما تتم به المضاربة، فجاز انفراد أحدهما به، كالمال، ومقتضى المضاربة إطلاق التصرف في المال والمشاركة في الربح، وهذا لا ينفيه. فإن شرط المضارب أن يعمل معه غلام رب المال، فهو أولى بالجواز؛ لأن عمل الغلام يصح أن يكون تابعاً لعمل العامل، كالحمل على بهيمته، وقال القاضي: لا يجوز؛ لأن يد العبد كيد سيده. فصل: والعامل أمين لا ضمان عليه فيما تلف بغير تعد؛ لأنه متصرف في المال بإذن المالك لا يختص بنفعه، فأشبه الوكيل، والقول قوله فيما يدعيه من تلف، أو يدعي عليه من جناية لذلك. إن قال: هذا اشتريته لنفسي، أو للمضاربة، أو اختلفا في نهي رب المال له عن شرائه، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم النهي، وهو أعلم بنيته في الشراء، وإن اختلفا في رد المال، فالقول قول المالك؛ لأنه قبض المال لنفع نفسه، فلم يقبل قوله في الرد، كالمستعير، وإن اختلفا فيما شرط له من الربح، ففيه روايتان: إحداهما: القول قول المالك؛ لأن الأصل عدم ما اختلفا فيه. والثانية: إن ادعى العامل أجرة المثل، أو قدراً يتغابن الناس به، فالقول قوله؛ لأن الظاهر صدقه، وإن ادعى أكثر، فالقول قول المالك؛ لأن الظاهر صدقه، فأشبها الزوجين إذا اختلفا في المهر. فصل: وإن أقر بربح ثم قال: خسرته، أو تلف، قبل قوله، وإن قال: غلطت أو نسيت، لم يقبل؛ لأنه مقر بحق لآدمي، فلم يقبل رجوعه، كالمقر بدين، ولو اقترض العامل شيئاً، تمم به رأس المال، ثم عرضه على رب المال فأخذه، لم يقبل رجوع العامل، ولم يملك المقرض مطالبة رب المال؛ لأن العامل ملكه بالقرض، وأقر به لرب المال، ويرجع المقرض على العامل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 فصل: فإن قال المالك: دفعت إليك المال قرضاً، قال: بل قراضاً، أو بالعكس، أو قال: غصبتنيه قال: بل أودعتنيه، أو بالعكس. أو قال: أعرتكه قال: أجرتنيه، أو بالعكس، فالقول قول المالك؛ لأنه ملكه، فالقول قوله في صفة خروجه عن يده، وإن قال المضارب: شرطت لي النفقة فأنكره، فالقول قول رب المال؛ لأن الأصل عدمه، وإن اتفقا على الشرط، فقال المضارب: إنما أنفقت من مالي، فالقول قوله؛ لأنه أمين فقبل قوله في الإنفاق، كالوصي، وله الرجوع سواء كان المال في يده أو لم يكن. فصل: وإن اشترى رب المال شيئاً من مال المضاربة، لم يصح في إحدى الروايتين؛ لأنه ملكه، فلم يجز له شراؤه، كماله الذي مع وكيله، والثانية: يصح؛ لأنه قد تعلق به حق غيره، فأشبه مال مكاتبه، ويصح أن يشتري المضارب من مال المضاربة لنفسه؛ لأنه ملك غيره، فصح شراؤه له، كشراء الوكيل من موكله، ولا يصح شراء السيد من عبده، المأذون؛ لأنه ماله، ويحتمل أن يصح إذا ركبته الديون، وإن اشترى أحد الشريكين من مال الشركة، بطل في نصيبه، وفي الباقي وجهان بناء على تفريق الصفقة، ويحتمل أن يصح في الجميع، بناء على شراء رب المال من مال المضاربة، وإن استأجر أحد الشريكين من شريكه داراً ليحرز فيها مال الشركة، أو غرائر، صح، نص عليه، وإن استأجره أو غلامه أو دابته لنقل المتاع، ففيه روايتان: إحداهما: يجوز قياساً على الدار. والثانية: لا يجوز؛ لأن الحيوان لا تجب له الأجرة إلا بالعمل ولا يمكن إبقاؤه في المشترك لعدم تميز نصيب أحدهما من الآخر، بخلاف الدار، فإن الواجب موضع العين من الدار، فيمكن تسليم العقود عليه. فصل: ولا يجوز قسمة الدين في الذمم؛ لأنها لا تتكافأ، والقسمة بغير تعديل بيع، ولا يجوز بيع دين بدين وعنه: يجوز؛ لأن الاختلاف لا يمنع القسمة قياساً على اختلاف الأعيان، ولا يمكن قسمة الدين في ذمة واحدة؛ لأن معناها إفراز الحق، ولا يتصور في ذمة واحدة. فصل: إذا كان لاثنين دين في ذمة رجل بسبب واحد، فقبض أحدهما منه شيئاً فهو بينهما، إذ لا يجوز أن يكون المقبوض نصيب من قبضه، لما فيه من قسمة الدين في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 ذمة واحدة، وللشريك القابض مطالبته بنصيبه منه لذلك، وله مطالبة الغريم؛ لأنه لم يبرأ من حقه بتسليمه إلى غيره بغير إذنه، ومن أيهما أخذ، لم يرجع على الآخر؛ لأن حقه ثبت في أحد المحلين. فإذا اختار أحدهما، سقط حقه من الآخر، وإن هلك المقبوض في يد القابض تعين حقه فيه، ولم يضمنه للغريم؛ لأنه قدر حقه فما تعدى بالقبض، وإنما كان لشريكه مشاركته لثبوته مشتركاً، وإن أبرأ أحدهما الغريم، برئ من نصيبه، ولم يرجع عليه الآخر بشيء؛ لأنه كتلفه، وإن أبرأه من نصف حقه ثم قبضا شيئاً، اقتسماه أثلاثاً، وإن أخر أحدهما حقه، جاز؛ لأنه يملك إسقاطه فتأخيره أولى، وإن اشترى بنصيبه شيئاً، فهو كما لو اشترى بعين مال مشترك بينهما، وإن كان الحق ثابتاً بسببين، كعقدين، أو إتلافين، فلا شركة بينهما، ولكل واحد استيفاء حقه مفرداً، فلا يشاركه الآخر فيه. فصل: إذا ملكا عبداً، فباعه أحدهما بأمر الآخر، فادعى المشتري أنه قبض ثمنه، فأنكر البائع وصدقه الآخر، برئ من نصف ثمنه لاعتراف صاحبه بقبض وكيله له، والقول قول البائع مع يمينه في أنه لم يقبض؛ لأن الأصل عدمه، ولا تقبل شهادة شريكه عليه؛ لأن له فيها نفعاً، فإذا حلف، قبض نصيبه من المشتري، ولم يشاركه شريكه فيه؛ لأنه يدعي أنه يأخذه ظلماً، وإن كان البائع ادعى أن شريكه قبض الثمن كله فأنكر، لم تبرأ ذمة المشتري؛ لأنه لم يوكله في القبض، وليس للبائع مطالبة المشتري بأكثر من نصيبه، لاعترافه بأن ذمته برئت من نصيب صاحبه. فإذا قبض نصيبه، فلصاحبه مشاركته فيه؛ لأن دينهما واحد. فإذا رجع عليه، لم يكن للمقبوض منه مطالبة المشتري بشيء آخر، لاعترافه بقبضه لجميع حقه، وأن ما يأخذه صاحبه منه ظلم، ويحتمل أنه ليس لصاحبه مشاركته؛ لأنه ملك لاثنين، وعقد الواحد مع الاثنين كعقدين. [ باب العبد المأذون ] لا يجوز للعبد التجارة بغير إذن مولاه؛ لأن منافعه مملوكة له، فلا يملك التصرف فيها بغير إذنه، فإن رآه يتجر فسكت، لم يصر مأذوناً له؛ لأنه بيع يفتقر إلى الإذن، فلم يكن السكوت إذناً فيه كبيع مال الأجنبي، وإن اشترى في ذمته، لم يصح؛ لأنه عقد معاوضة، فأشبه النكاح. فإن قبض المبيع فتلف في يده، تعلقت برقبته، كجنايته؛ لأنه تلف، في يده على وجه يلزمه ضمانه فأشبه ما لو أتلفه. فصل: وإذا أذن له المولى، جاز؛ لأن الحجر لحقه فملك إزالته، ولا يملك التجارة إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 فيما أذن فيه؛ لأن تصرفه بالإذن فلم يملك إلا ما دخل فيه، كالوكيل. فإن عين له نوعاً أو قدراً، لم يملك التجارة في غيره، وإن أذن له في التجارة مطلقاً، جاز ولم يكن له أن يؤجر نفسه ولا يتوكل؛ لأنه عقد على نفسه فلم يملكه، كبيع نفسه وتزوجه، ولا ينصرف إلا على النظر والاحتياط كالمضارب؛ لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف، وهو ما قلناه، ولا يبطل الإذن الإباق؛ لأنه لا يمنع ابتداء الإذن فلا يقطع استدامته كما لو غصبه غاصب. فصل: ولا يجوز تبرع المأذون له بالدراهم والكسوة؛ لأنه ليس بتجارة ولا من توابعها، فلم يدخل في الإذن فيها، وتجوز هديته المأكول، واتخاذ الدعوة وإعارة دابته ما لم يسرف لما «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يجيب دعوة المملوك» ولأن العادة جارية به بين التجار، فجاز، كصدقة المرأة بالكسرة من بيت زوجها. فصل: وما كسب العبد من المباح، أو وهب له فقبله، ملكه مولاه؛ لأنه كسب ماله فملكه، كصيد فهده، وإن ملكه سيده مالاً، ملكه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع وله مال، فماله للبائع» ولأنه يملك البضع فملك المال، كالحر، وعنه: لا يملك؛ لأنه مال فلم يملك المال كالبهيمة. فإن ملكه سيده جارية لم يملك وطأها قبل الإذن فيه؛ لأن ملكه غير تام، فإن أذن له فيه، ملكه. قال أبو بكر: على كلتا الروايتين؛ لأنه يملك الاستمتاع بالنكاح، فملكه بالشراء كالحر، وقال القاضي: بل هذا بناء على الرواية التي يملك المال، ولا يملك ذلك على الأخرى؛ لقول الله تعالى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] وإن لزمته كفارة، فكفارته الصيام لا غير إن لم يأذن له سيده في التكفير بالمال، وإن أذن له فيه، انبنى على الروايتين في ملكه. فإن قلنا: لا يملك، لم يكفر بغير الصيام، وإن قلنا: يملك، فله التكفير بالإطعام والكسوة، وفي العتق وجهان: أحدهما: يملكه، قياساً على الإطعام والكسوة. والثاني، لا يملكه؛ لأنه يتضمن الولاء، والعبد ليس من أهله. فعلى الأول إن أذن له في التكفير بإعتاق نفسه فهل يجزئه؟ على وجهين، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 [ باب المساقاة ] تجوز المساقاة على النخل، وسائر الشجر بجزء معلوم، يجعل للعامل من الثمر، لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» متفق عليه، ولأنه مال ينمى بالعمل عليه، فجازت المعاملة عليه ببعض نمائه، كالأثمان، ولا تجوز على ما لا يثمر. كالصفصاف؛ لأن موضوعها على أن للعامل جزءاً من الثمرة، وفي المساقاة بعد ظهور الثمرة روايتان، حكاهما أبو الخطاب. إحداهما: الجواز إذا بقي من العمل ما تزيد به الثمرة؛ لأنها جازت في المعدومة، مع كثرة الغرر، فمع قلته أولى. والثانية: المنع، لإفضائها إلى أن يستحق جزءاً من النماء الموجود قبل العمل، فلم يصح، كالمضاربة بعد الربح، وإن ساقاه على شجر يغرسه، ويعمل عليه حتى يحمل، فيكون له جزء من الثمرة، جاز. نص عليه؛ لأن الثمرة تحصل بالعمل عليها كما تحصل على النخل المغروس، ولا تصح إلا على شجر معين معلوم برؤية، أو صفة؛ لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان، فأشبهت المضاربة، ولو قال: ساقيتك على أحد هذين الحائطين، لم يصح. فصل: وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنها عقد جائز، لما روي عن ابن عمر «أن اليهود سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن يقرهم بخيبر على أن يعملوها ويكون لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نقركم على ذلك ما شئنا» رواه مسلم. فلو كانت لازمة، لقدر مدتها، ولم يجعل إخراجهم إليه إذا شاء، ولأنه عقد على مال بجزء من نمائه، فكان جائزاً كالمضاربة فلذلك لا يفتقر إلى ضرب مدة، وإن وقتاها، جاز، كالمضاربة، وتنفسخ بموت كل واحد منها وجنونه، وفسخه لها. فإن انفسخت بعد ظهور الثمرة، فهي بينهما؛ لأنها حدثت على ملكهما، وعلى العامل تمام العمل، كعامل المضاربة إذا انفسخت قبل أن ينض المال، وإن انفسخت قبل ظهورها، بفسخ العامل، فلا شيء له؛ لأنه رضي بإسقاط حقه، وإن انفسخت بغير ذلك، فللعامل أجرة مثله؛ لأنه منع إتمام عمله الذي يستحق به العوض، فصار كعامل الجعالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وقال بعض أصحابنا: هو لازم؛ لأنه عقد معاوضة فكان لازماً، كالإجارة، فعلى هذا يفتقر إلى تقدير مدتها كالإجارة، ويجب أن تكون المدة تكمل الثمرة في مثلها؛ لأن المقصود اشتراكهما في الثمرة. فلا يحصل بدون ذلك. فإن شرطا مدة لا تكمل الثمرة فيها، فعمل العامل، ففيه وجهان: أحدهما: لا شيء له؛ لأنه رضي بالعمل بغير عوض، فأشبه المتطوع. والثاني: له أجرة مثله؛ لأنه يقتضي العوض، فلم يسقط بالرضى بتركه، كالوطء في النكاح، وإن جعلا مدة تحمل في مثلها، فلم يتحمل، فلا شيء له؛ لأنه عقد صحيح، فيه مسمى صحيح، فلم يستحق غيره. كعامل المضاربة إذا لم يربح، وإن جعلا مدة قد تكمل فيها، وقد لا تكمل، ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنها مدة يُرجى وجود الثمرة فيها، فصح العقد عليها، كالتي قبلها. والثاني: لا يصح؛ لأنه عقد على معدوم ليس الغالب وجوده، فلم يصح، كالسلم في مثله. فعلى هذا، إن عمل استحق الأجر؛ لأنه لم يرض بالعمل بغير عوض، ولم يسلم له، فرجع إلى بدله، كالإجارة الفاسدة. فصل: ويجوز عقد المساقاة والإجارة على مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها، وإن طالت؛ لأنه عقد يجوز عاماً، فجاز أكثر منه، كالكتابة. فإذا عقدها على أكثر من عام، لم يجب ذكر قسط كل سنة، كما لو اشترى أعياناً بثمن واحد، وإن قدر قسط كل سنة، جاز، وإن اختلفت، نحو أن يقول: ساقيتك ثلاثة أعوام على أن لك نصف ثمرة العام الأول، وثلث الثانية، وربع الثالثة. فإن انقضت المدة قبل طلوع ثمرة العام الآخر، فلا شيء للعامل منها؛ لأنها حدثت بعد موته، وإن ظهرت في مدته تعلق حقه بها لحدوثها في مدته. فصل: وحكم المساقاة والمزارعة حكم المضاربة في الجزء المشروط للعامل في كونه معلوماً مشاعاً من جميع الثمرة، وفي الاختلاف في قدره وفساد العقد بجهله، وشرط دراهم لأحدهما، أو ثمرة شجر معين، أو عمل رب المال، أو غلمانه، في ملكه للنماء بالظهور؛ لأنه عقد على العمل في مال ببعض نمائه، فأشبه المضاربة، ولو شرط له ثمرة عام غير الذي عامله فيه، لم يصح، كما لو شرط للمضارب ربح غير مال المضاربة، وإن قال: إن سقيته سيحاً، فلك الثلث، وإن سقيته بنضح، فلك النصف، وإن زرعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 في الأرض حنطة فلك النصف، وإن زرعت شعيراً، فلك الثلث، لم يصح؛ لأنه عقد على مجهول، فلم يصح، كبيعتين في بيعة، ويتخرج أن يصح بناء على قوله في الإجارة: إن خطته رومياً، فلك درهم، وإن خطته فارسياً، فلك نصف درهم. فصل: وإن ساقاه على بستانين بالنصف من هذا، والثلث من الآخر صح، أو على أنواع جعله له من كل نوع قدراً، أو جعل له في المزارعة نصف الحنطة وثلث الشعير، وهما يعلمان قدر كل نوع، أو كان البستان لاثنين، فساقياه على نصف ثمرة نصيب أحدهما، وثلث ثمرة الآخر، وهم يعلمونه، صح؛ لأنه معلوم فصح، كما لو كانا في عقدين، وإن لم يعلموا، لم يصح؛ لأنه مجهول، ولو قال: ما زرعت فيها من حنطة فلك نصفه، وما زرعت من شعير فلك ثلثه، لم يصح؛ لأنه مجهول. فصل: وينعقد بلفظ المساقاة؛ لأنه موضوعها، وبما يؤدي معناه؛ لأنه المقصود المعنى، ولا يثبت فيها خيار الشرط، وإن قلنا بلزومها؛ لأنه لا يمكن رد المعقود عليه إذا فسخ، وفي خيار المجلس وجهان: أحدهما: لا يثبت؛ لأنه لا يثبت فيها خيار الشرط، فأشبه النكاح. والثاني: يثبت؛ لأنه عقد لازم يقصد به المال، فأشبه البيع. فصل: ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها، كالحرث وآلته وبقره واستقاء الماء، وإصلاح طرقه وقطع الشوك، والحشيش المضر، واليابس من الشجرة، وزبار الكرم، وتسوية الثمرة، والحفظ والتشميس، وإصلاح موضعه، ونحو ذلك، وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل، كسد الحيطان وإنشاء الأنهار، وحفر بئر الماء، وعمل الدولاب ونصبه، قال أصحابنا: والثور الذي يديره؛ لأن هذا يراد لحفظ الأصل، ولهذا من أراد إنشاء بستان، عمل هذا كله، وقيل: ما يتكرر من كل عام، فعلى العامل، وما لا يتكرر فعلى رب المال، والجذاذ والحصاد واللقاط على العامل، نص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع خيبر إلى يهود، على أن يعملوها من أموالهم، وهذا من العمل مما لا تستغني عنه الثمرة، أشبه التشميس، وعنه: إن الجذاذ عليهما؛ لأنه يوجد بعد تكامل الثمر، وهذا ينتقض بالتشميس، فإن شرط على أحدهما ما يلزم الآخر، فقد نص أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: على الجذاذ عليهما، ويصح شرطه على العامل، فيخرج في سائر العمل مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 ذلك، قياساً عليه، وقال القاضي: تفسد المساقاة؛ لأنه ينافي مقتضاها، أشبه ما لو شرط عمل المضاربة على رب المال. فصل: والعامل أمين، والقول قوله فيما يدعيه من تلف، أو يدعى عليه من خيانة، أو تفريط، وإن ثبتت خيانته، ضم إليه من يشرف عليه، ولا تزال يده عن العمل؛ لأنه يمكن استيفاؤه منه، فإن لم ينحفظ، استؤجر من ماله من يعمل عنه؛ لأنه تعذر استيفاؤه منه، فاستوفى بغيره، وإن هرب، فهو كفسخه إن قلنا بجواز العقد، وإن قلنا بلزومه، رفع الأمر إلى الحاكم، ليستأجر من ماله من يعمل عنه. فإن لم يكن له مال، اقترض عليه، فإن لم يجد، فللمالك الفسخ؛ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه، فأشبه ما لو استأجر داراً فتعذر تسليمها، ثم إن فسخ قبل ظهور الثمرة فلا شيء للعامل؛ لأن الفسخ لأمر من جهته، وإن كانت ظاهرة، فهي بينهما، وإن لم يفسخ رب المال، استأذن الحاكم في الإنفاق، ثم رجع بما أنفق، فإن لم يجد حاكماً، أشهد على الإنفاق بشرط الرجوع، ورجع به؛ لأنه حال ضرورة، وإن أنفق من غير استئذان الحاكم مع إمكانه، ففي الرجوع وجهان، بناء على قضاء دينه بغير إذنه، وإن عجز العامل عن العمل، لضعفه أو عن بعضه، أقام مقامه من يعمله، فإن لم يفعل، فهو كهربه، وإن استأذن رب المال، فأنفق بإذنه، رجع عليه. فصل: فإن مات العامل، أو رب المال، وقلنا: يلزم العقد، قام الوارث مقامه؛ لأنه عقد لازم، أشبه الإجارة. فإن كان الميت العامل، فأبى الوارث الإتمام، أو لم يكن وارث، استؤجر من التركة من يعمل، فإن لم يجد، تركة، فلرب المال الفسخ، ولا يقترض عليه؛ لأنه لا ذمة له، وإذا فسخ، فالحكم على ما ذكرنا. فصل: فإن بان الشجر مستحقاً، رجع العامل على من ساقاه بالأجرة؛ لأنه لم يسلم له العوض، فرجع على من استعمله. فإن كانت الثمرة باقية، أخذها ربها، وإن كانت تالفة، ضمنها لمن شاء منهما، فإن ضمنها للغاصب، ضمنه جميعها؛ لأنه حال بينه وبينه، وإن ضمنها العامل، ضمنه النصف؛ لأنه لم يحصل في يده غيره، ويحتمل أن يضمنه الجميع؛ لأن يده ثبتت عليه، وعمل فيه، فضمنه، كالعامل في القراض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 [ باب المزارعة ] وهي: دفع الأرض إلى من يزرعها بجزء من الزرع، وتجوز في الأرض البيضاء والتي بين الشجر، لخبر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وما ذكرنا في المساقاة، وأيهما أخرج البذر، جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع خيبر معاملة، ولم يذكر البذر، وفي ترك ذكره دليل على جوازه من أيهما كان، وفي بعض لفظ الحديث ما يدل على أنه جعل البذر عليهم؛ لقول ابن عمر: «دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نخل خيبر وأرضها إليهم على أن يعملوها من أموالهم» . رواه مسلم، وفي لفظ: «على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها» وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كان يدفع الأرض على أن من أخرج البذر، فله كذا، ومن لم يخرجه، فله كذا، وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه يشترط كون البذر من رب الأرض؛ لأنه عقد يشترك رب المال والعامل في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال من رب المال، كالمساقاة والمضاربة، فإن شرطه على العامل أو شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي، فسدت المزارعة، ومتى فسدت، فالزرع لصاحب البذر؛ لأنه من عين ماله، ولصاحبه عليه أجرة مثله. فصل: فإن دفع بذراً إلى ذي أرض؛ ليزرعه فيها بجزء، لم يصح؛ لأن البذر لا من العامل ولا من رب الأرض. فإن قال: أنا أزرع أرضي ببذري وعواملي على أن سقيها من مائك بجزء، لم يصح؛ لأن المزارعة معاملة على الأرض، فيجب أن يكون العمل فيها من غير صاحبها، وعنه: أنه يصح، اختارها أبو بكر؛ لأنه لما جاز أن يكون عوض العمل جزءاً مشاعاً، جاز أن يكون عوض الماء كذلك، وإن كانوا ثلاثة، من أحدهم الأرض، ومن آخر العمل، ومن آخر البذر، والزرع بينهم، فهي فاسدة، لما ذكرنا في أول الفصل. فصل: فإن قال: أجرتك هذه الأرض بثلث الخارج منها. فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يصح، واختلف أصحابه، فقال أكثرهم: هي إجارة صحيحة، يشترط فيها شروط الإجارة، وقال أبو الخطاب: هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فيشترط فيها شروط المزارعة، وحكمها حكمها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له أرض، فليزرعها أو فليزرعها أخاه ولا يكريها بثلث، ولا بربع، ولا بطعام» مسمى رواه أبو داود، ولأن هذا مجهول فلم يجز أن يكون عوضاً في الإجارة. كثلث نماء أرض أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فصل: وحكم المزارعة حكم المساقاة فيما ذكرناه، ومن الجواز واللزوم، وما يلزم العامل ورب الأرض وغير ذلك من أحكامها؛ لأنها معاملة على الأرض ببعض نمائها، وإن كانت الأرض شجر فقال: ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف، أو قال: ساقيتك على الشجر بالنصف، وزارعتك الأرض بالثلث، جاز؛ لأنهما عقدان يجوز إفرادهما، فجاز جمعهما، كعينين. فصل: ومتى سقط من الحب شيء، ثم نبت في عام آخر، أو سقط من حب المستأجر، ثم نبت في عام آخر، فهو لصاحب الأرض؛ لأن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف، بدليل أن لكل أحد التقاطه، فسقط، كما لو سقط النوى، فنبت شجراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 [ كتاب الإجارة ] وهي بيع المنافع، وهي جائزة في الجملة؛ لقول الله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] . الآيتين، وقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، فلما جاز عقد البيع على الأعيان، وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع، وينعقد بلفظ الإجارة والكري؛ لأنه لفظ موضوع لها، وفي لفظ البيع وجهان: أحدهما: ينعقد به؛ لأنها صنف منه. والثاني: لا تنعقد به؛ لأنها تخالفه في الاسم والحكم، فلم تنعقد بلفظه، كالنكاح. فصل: وتجوز إجارة الظئر للرضاع، والراعي لرعاية الغنم، للآيتين، واستئجار الدليل، ليدل على الطريق؛ لأنه ثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر استأجرا رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً والخريت الماهر بالهداية وهو على دين كفار قريش، وأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا» . رواه أحمد والبخاري، وإجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقاء عينها دائماً، قياساً على المنصوص عليه، وتجوز إجارة النقود للتحلي والوزن، واستئجار شجر ليجفف عليها الثياب، والغنم لتدوس الزرع والطين؛ لأنها منفعة مباحة يجوز أخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 العوض عنها في غير هذه الأعيان، فجاز فيها، كالبيع، ولا يجوز عقدها على ما لا نفع فيه، مثل أن يستأجر للزرع سبخة لا تنبت، أو لا ماء لها يكفي. فإن كان لها ماء معتاد، كماء العيون والأنهار، والمد بالبصرة، والمطر في موضع يكتفى به، جاز، وإن كانت الأرض على نهر يستقى بزيادته، كالنيل والفرات، وتسقيها الزيادة المعتادة، جازت إجارتها؛ لأن الغالب وجودها، فهي كالمطر لغيرها، وإن كان لا يسقيها إلا زيادة نادرة، فاستأجرها بعد الزيادة، صح؛ لأنها معلومة، وإن استأجرها قبلها، لم يصح؛ لأنه لا يعلم وجودها، فهي كبيع الطير في الهواء، وإن استأجرها، ولم يذكرها للزراعة، وكانت تصلح لغيرها، صح، وإن لم تصلح لغيرها، لم يصح؛ لأن نفعها معدوم، وإن غرقت الأرض فاكتراها لزرع ما لا ينبت في الماء، كالحنطة، وللماء مغيض يمكن فتحه فينحسر الماء، ويمكن زرعها، صح؛ لأنه يمكن زرعها بفتحه، كما يمكن سكنى الدار بفتحها، وإن علم أنه ينحسر عادة، صح؛ لأنه يعلم بالعادة إمكان الانتفاع. فإن لم يعلم هل ينحسر أو لا؟ لم يصح، لما ذكرنا، وإن اكترى أرضاً على نهر تغرق بزيادته المعتادة، لم يصح؛ لأنه غير منتفع بها عادة. فإن كانت بخلاف ذلك، صح. فصل: ولا يجوز عقد الإجارة على المنافع المحرمة، كالغناء والنياحة والزمر، ولا إجارة داره لمن يتخذها كنيسة، أو بيت نار، أو يبيع فيها الخمر ونحوه؛ لأنه محرم، فلم تجز الإجارة لفعله، كإجارة الأمة للزنا، ولا يجوز استئجار رجل ليكتب له غناء أو نوحاً، أو شيئاً محرماً لذلك، ولا يجوز استئجاره ليحمل خمراً، ليشربها لذلك، وعنه: فيمن حمل خنزيراً، أو ميتة لنصراني، أكره أكل كرائه، ولكن يقضى له بالكراء، وإذا كان لمسلم، فهو أشد. قال القاضي: هذا محمول على أنه استأجره ليرقيها، أما للشرب، فمحظور، لا يحل أخذ الأجرة عليه، وإن استأجر حجاماً ليحجمه، جاز، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجمه أبو طيبة، فأعطاه أجره صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه» . متفق عليه. قال ابن عباس: ولو كان حراماً ما أعطاه أجره، ويكره للحر أكل أجره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كسب الحجام خبيث: وقال: أطعمه عبدك أو خادمك» وقال القاضي: لا تصح إجارته لهذا الحديث. فصل: ولا تجوز إجارة الفحل للضراب، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن عسب الفحل» . أخرجه البخاري، ولأن المقصود منه الماء الذي يخلق منه الولد، وهو محرم، لا قيمة له، فلم يجز أخذ عوضه، كالدم، ولا يجوز إجارة النقود، ليجمل بها الدكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 لأنها لم تخلق لذلك، ولا تراد له، فبذل العوض فيه من السفه، وأخذه من أكل المال بالباطل، وكذلك استئجار الشمع للتجميل به، أو ثوب ليوضع على سرير الميت لا يجوز ذلك. فصل: ولا يجوز عقد الإجارة على ما تذهب أجزاؤه بالانتفاع به، كالمطعوم والمشروب، والشمع ليسرجه، والشجر يأخذ ثمرته، والبهيمة يحلبها؛ لأن الإجارة عقد على المنافع، فلا تجوز لاستيفاء عين، كما لو استأجر ديناراً لينفقه إلا في الظئر تجوز للرضاع؛ لأن الضرورة تدعو إليه، لبقاء الآدمي، ولا يقوم غيرها مقامها. فصل: ولا تجوز إجارة ما يسرع فساده، كالرياحين؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها دائماً، فجرت مجرى المطعوم، فإن كانت مما تبقى عينه دائماً كالعنبر، جازت إجارته للشم، لما تقدم. فصل: وما يخص فاعله أن يكون من أهل القربة، وهم المسلمون، كالحج وتعليم القرآن، ففيه روايتان: إحداهما: يجوز الاستئجار عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» . رواه البخاري، وأباح أخذ الجعل عليه، ولأنه فعل مباح، فجاز أخذ الأجرة عليه، كتعليم الفقه. والثانية: لا يجوز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان بن أبي العاص: «واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» رواه أبو داود، ولأنه لا يقع إلا قربة لفاعله، فلم يجز أخذ العوض عليه كالصلاة. فأما الاستئجار لتعليم الفقه والشعر المباح فيجوز؛ لأن فاعله لا يختص أن يكون من أهل القربة، فجاز كبناء المساجد، وفي إجارة المصحف وجهان، بناء على بيعه. فصل: قال بعض أصحابنا: لا يجوز إجارة المشاع لغير الشريك، إلا أن يؤجراه معاً؛ لأنه لا يمكنه تسليم حصته إلى المستأجر، إلا بموافقة الشريك، وقال أبو حفص: يجوز؛ لأنه يصح بيعه ورهنه، فصحت إجارته، كالمفرد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فصل: ولا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي، نص عليه؛ «لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجر نفسه يهودياً، يسقي له كل دلو بتمرة، وأخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكره» وأكل أجرته، ولا يؤجر نفسه لخدمته؛ لأنه يتضمن إذلال المسلم للكافر فلم يجز، كبيعه إياه، ويتخرج الجواز؛ لأنه عاوضه عن منفعة، فجاز، كإجارته لعمل شيء. فصل: والإجارة على ثلاثة أضرب. إجارة عين معينة، كالدور، وموصوفة في الذمة، كبعير للركوب، وعقد على عمل في الذمة، كخياطة ثوب وحمل متاع؛ لأن البيع يقع في عين حاضرة وموصوفة، ومقدر معلوم، كقفيز من صبرة، فكذلك الإجارة. فإن كانت الإجارة لعين معينة، اشترط معرفتها برؤية أو صفة إن كانت تنضبط بالصفات، كالحيوان، فإن لم تنضبط كالدار، والأرض، فلا بد من رؤيتها، كما يشترط ذلك في البيع، وفي استئجار عين لم يرها، ولم توصف له وجهان، بناءً على بيعها، ويشترط معرفة المنفعة، فإن كان لها عرف، كسكنى الدار، لم يحتج إلى ذكرها؛ لأنها لا تكترى إلا لذلك، فاستغنى عن ذكرها، كالبيع بثمن مطلق، في موضع فيه نقد معروف، وإن اكترى أرضاً، احتاج إلى ذكر ما يكتري له، من غراس أو بناء، أو زرع؛ لأنها تكترى لذلك كله، وضرره يختلف، فوجب بيانه، وإن أجرها للزرع مطاقاً صح، وله زرع ما شاء؛ لأنه يجوز أن يستأجرها لأعظم الزرع ضرراً، فإذا أطلق العقد تناوله بإطلاقه، ودخل فيه ما دونه، وإن قال: لتزرعنها ما شئت، فهو أولى بالصحة، لتصريحه بذلك، وإن اكتراها لزرع معين، فله زرعه ومثله في الضرر ودونه؛ لأن الزرع إنما ذكر لتقدير منفعة الأرض، فلم يتعين، كما لو اكترى للسكنى، كان له أن يسكن غيره، وإن قال: لتزرعها أو تغرسها لم يصح؛ لأنه لم يعين، أشبه ما لو باعه أحد هذين العبدين، وإن قال: لتزرعها وتغرسها ما شئت، صح، وله ما شاء منهما؛ لأنه جعلهما له، فملكهما كالنوع الواحد. فصل: وإن اكترى ظهراً للركوب، اشترط معرفته، برؤية أو صفة لأنه يصح بيعه بهما، وذكر المهملج والقطوف من الخيل؛ لأن سيرهما يختلف، ومعرفة ما يركب به من سرج أو غيره؛ لأنه يختلف بالمركوب والراكب، ولا يحتاج إلى ذكر الذكورية والأنوثية؛ لأن التفاوت بينهما يسير، وقال القاضي: يفتقر إلى معرفته لتفاوتهما، ولا بد من معرفة الراكب برؤية أو صفة، ذكره الخرقي؛ لأن الصفة تكفي في بيع مثله، وقال الشريف: لا يجزئ فيه إلا الرؤية؛ لأن الصفة لا تأتي عليه، ولا بد من معرفة المحامل والأغطية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 والأوطئة والمعاليق، كالقدر والسطيحة ونحوهما، إما برؤية أو صفة أو وزن، وإن اكترى ظهراً لعمل في مدة، كالحراثة والدياس والسقي والطحن، اشترط معرفة الظهر بالتعيين أو الصفة؛ لأن العمل يختلف باختلافه، وإن استأجره على عمل معين، كحراثة قدر من الأرض، ودياس زرع معين، وطحن قفزان معلومة، لم يحتج إلى معرفة الظهر؛ لأنه لا يختلف، ويحتاج في الطحن إلى معرفة الحجر، وفي السقي إلى معرفة البئر، والدولاب؛ لأنه يختلف، وإن اكترى لحمل متاع، لم يحتج إلى ذكر جنس الظهر، لعدم الغرض في معرفته ويشترط معرفة المتاع برؤية أو صفة، فيذكر جنسه من حديد أو قطن أو نحوه؛ لأن ضرره يختلف، وقدره بالوزن إن كان موزوناً، أو بالكيل إن كان مكيلاً؛ لأن البيع يصح بكلا الطريقين، وإن ذكر وزن المكيل، فهو أحصر. وإن دخلت الظروف في وزن المتاع، استغني عن ذكرها، وإن لم تدخل وكانت معروفة لا تختلف كثيراً، صح من غير تعيينها؛ لأن تفاوتها يسير، وإن اختلفت كثيراً، اشترط معرفتها بالرؤية، أو الصفة لذلك، ولو اكترى ظهراً ليحمل عليه ما شاء، لم يصح؛ لأنه يدخل في ذلك ما يقتل البهيمة، وإن شرط أن يحمل عليها طاقتها، لم يصح؛ لأنه لا ضابط له. فصل: وإن استأجر راعياً مدة، صح؛ لأن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أجر نفسه لرعاية الغنم ثماني سنين، ويشترط معرفة الحيوان؛ لأن لكل جنس تأثيراً في إتعاب الراعي، ويجوز أن يكون على معين، وعلى موصوف في الذمة، فإن كان على موصوف في الذمة اشترط ذكر العدد؛ لأن العمل يختلف به، وإن استأجر ظئراً، اشترط معرفة الصبي بالتعيين؛ لأن الرضاع يختلف به، ولا تأتي عليه الصفة، وإن استأجر رجلاً ليحفر له بئراً، أو نهراً، اشترط معرفة الأرض؛ لأن الغرض يختلف باختلافها ومعرفة الطول والعرض، والعمق؛ لأن الغرض يختلف بذلك كله، وإن استأجره لبناء حائط، اشترط ذكر طوله وعرضه وعلوه، وآلته من لبن أو طين أو غيره؛ لأن الغرض يختلف بذلك كله، وإن استأجره لضرب لبن، اشترط معرفته الماء والتراب والطول والسمك والعرض والعدد، وعلى هذا جميع الأعمال التي يستأجر عليها. فإن كان في ما يختلف فيها الغرض ما لا يعرفه، رجع فيه إلى أهل الخبرة به، ليعقد على شرطه، كما لو أراد النكاح، من لا يعرف شروطه، رجع إلى من يعرفه ليعرفه شروطه، وإن عجز عن معرفته، وكل فيه من يعرفه ليعقده. فصل: ويشترط معرفة قدر المنفعة؛ لأن الإجارة بيع، والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر، ولمعرفتها طريقان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 أحدهما: تقدير العمل، كخياطة ثوب معين، والركوب، أو حمل شيء معلوم إلى مكان معين. والثاني: تقدير المدة كسكنى شهر، فإن كانت المنفعة لا تتقدر بالعمل، كالتطيين والتجصيص، فإن مقداره يختلف في الغلظ والرقة، وما يروي الأرض من الماء، يختلف باختلاف الأرض واحتياجها إلى الماء، وما يشبع الصبي في الرضاع، يختلف باختلاف الصبيان، والأحوال، والسكنى ونحوها، فلا يجوز تقديره إلا بالمدة، لتعذر تقديره بالعمل، وما يتقدر بالعمل، كاستئجار الظهر للحرث والحمل والطحن والدياس، والعبد للخدمة، جاز تقديره بالعمل، فإن شرط تقديره بالعمل والمدة فقال: استأجرتك لتحرث لي هذه الأرض في شهر، لم يصح؛ لأنه إن حرثها في أقل من شهر، أو فرغ الشهر قبل حرثها، فطولب بتمام ما بقي، كان زيادة على المشروط، وإن لم يتمم، كان نقصاً، وعن أحمد ما يدل على الصحة؛ لأن الإجارة معقودة للعمل، والمدة مذكورة للتعجيل، فجاز كالجعالة، ويشترط فيما قدر بمدة، معرفة المدة؛ لأنها الضابطة للمعقود عليه، فإن قدرها بسنة أو شهر، كان ذلك بالأهلة؛ لأنها المعهودة في الشرع، فوجب حمل المطلق عليها، فإن كان ذلك في أثناء شهر، عد باقيه، ثم عد أحد عشر شهراً بالهلال، ثم كمل الأول بالعدد ثلاثين يوماً؛ لأنه تعذر إتمامه بالهلال فكمل بالعدد، وحكي فيه رواية أخرى: أنه يستوفي الجميع بالعدد؛ لأنه يجب إتمام الشهر مما يليه، فيصير ابتداء الثاني في أثنائه، وكذلك ما بعده، وإن عقد على سنة رومية، وهي: ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع، وهما يعلمان ذلك، جاز، وإن جهلاها أو أحدهما، لم يصح؛ لأن المدة مجهولة عنده، والحكم في مدة الإجارة، كالحكم في مدة السلم على ما مضى فيه. فصل: وتجوز الإجارة مدة لا تلي العقد، مثل أن يؤجره شهر رجب وهو في صفر، سواء كانت فارغة أو مؤجرة مع المستأجر، أو غيره؛ لأنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها، فجاز عليها مفردة، كالتي تلي العقد، ويحتاج إلى ذكر ابتدائها؛ لأنها أحد طرفي المدة، فاحتيج إلى معرفتها كالانتهاء، فإن كانت تلي العقد فابتداؤها منه، ولا يحتاج إلى ذكرها؛ لأنها معلومة. فصل: فإن قال: أجرتكها كل شهر بدرهم، فالمنصوص أنه صحيح، وذهب إليه الخرقي والقاضي؛ لكن تصح في الشهر الأول بإطلاق العقد؛ لأنه معلوم يلي العقد وأجرته معلومة، وما بعده يصح العقد فيه بالتلبس به، ولكل واحد منهما الفسخ عند تقضي كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 شهر؛ «لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة، وجاء به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأكل منه» وذهب أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى بطلانه؛ لأن العقد على كل الشهور، وهي مبهمة مجهولة، فلم يصح، كما لو جعل أجرتها في الجميع شيئاً واحداً. فصل: ويشترط في صحة الإجارة ذكر الأجرة؛ لأنه عقد يقصد فيه العوض فلم يصح من غير ذكره كالبيع، ويشترط أن تكون معلومة لذلك، ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة كالبيع، ويشترط أن تكون معلومة لذلك، ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة كالبيع، وفي وجه آخر، لا بد من ذكر قدره وصفته؛ لأنه ربما انفسخ العقد، ووجب رد عوضه بعد تلفه، فاشترط معرفة قدره ليعلم بكم يرجع، كرأس مال السلم، وقد ذكرنا وجه الوجهين في السلم، وتجوز بأجرة حالة ومؤجلة؛ لأن الإجارة كالبيع، وذلك جائز فيه، فإن أطلق العقد وجبت به حالة، ويجب تسليمها بتسليم العين؛ لأنها عوض في معاوضة، فتستحق بمطلق العقد كالثمن، وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة، استحق استيفاء الأجرة عند انقضاء العمل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» ولأنه أحد العوضين، فلزم تسليمه عند تسليم الأجر كالبيع، وإن شرطا تأجيلها، جاز إلا أن يكون العقد على منفعة في الذمة، ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه عوض في الإجازة، فجاز تأجيله، كما لو كان على عين. والثاني: لا يجوز؛ لأنه عقد على ما في الذمة، فلم يجز تأجيل عوضه كالسلم. فصل: ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته، سواء جعل ذلك جميع الأجرة أو بعضها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله أخي موسى، أجر نفسه ثماني سنين، على طعام بطنه وعفة فرجه» رواه ابن ماجة ولأن العادة جارية به من غير نكير، فأشبه الإجماع. فإن قدر الطعام والكسوة، فحسن، وإن أطلق، جاز، ويرجع في القوت إلى الإطعام في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 الكفارة، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله، ولأن لذلك عرفاً في الشرع، فحمل الإطلاق عليه. فصل: وإذا استوفى المنفعة، استقرت الأجرة؛ لأنه قبض المعقود عليه، فاستقر بدله، كما لو قبض المبيع، وإن سلم إليه العين مدة يمكن الاستيفاء فيها، استقرت الأجرة عليه؛ لأن المعقود عليه تلف تحت يده، فأشبه تلف المبيع تحت يده، وإن عرض عليه العين ومضت مدة، يمكن الاستيفاء فيها، استقرت الأجرة؛ لأن المنافع تلفت باختياره، فأشبه تلف المبيع بعد عرضه على المشتري، وإن كان العقد على عمل في الذمة، لم تستقر الأجرة إلا باستيفاء العمل؛ لأنه عقد على ما في الذمة، فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه وإن كان العقد فاسداً، لم يستقر ببذل التسليم، كما لا يستقر ببذل المبيع، ويجب باستيفائها؛ لأنه استوفاها بشبهة عقد، وإن قبض العين ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجب شيء؛ لأنه عقد فاسد على منفعة لم يستوفها، فلم يجب العوض كالنكاح. والثانية: يجب أجر المثل؛ لأن البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل، فكذلك الإجارة. فصل: ويجوز أن يكتري الرجلان ظهراً، يتعاقبان عليه، وأن يكتري الرجل عقبة يركب في بعض الطريق إذا كان ذلك معلوماً؛ لأنه يجوز العقد على جميعه، فجاز على بعضه، كالزمان، فإن كان في طريق فيه عادة في الركوب والنزول، جاز العقد مطلقاً، وحمل على العادة، كالنقد في البيع، وإن لم يكن فيه عادة، اشترط بيان ما يركب؛ لأنه غير معلوم، فوجب بيانه كالثمن، وإن اختلفا في البادئ منهما، أقرع بينهما؛ لأنهما تساويا في الملك، فقدم أحدهما بالقرعة، كما في القسمة. فصل: إذا دخل حماماً، أو قعد مع ملاح في سفينة، فعليه أجرهما وإن لم يعقدا معه إجارة؛ لأن العرف جار بذلك، فجرى مجرى الشرط، كنقد البلد، وكذلك إن دفع ثوبه إلى خياط، أو قصار، منتصبين لذلك، أو مناد، أو رجل معروف بالبيع بالأجر ليبيعه، فلهم أجر أمثالهم لذلك، وإن دفع كتاباً إلى رجل ليحمله إلى صاحب له بأجر، فحمله فوجد صاحبه غائباً فله الأجر للذهاب؛ لأنه فعل ما استأجره عليه، وللرد؛ لأنه بإذنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 تقديراً إذ ليس سوى رده إلا تضييعه، وقد علم أنه لا يرضى تضييعه، فتعين رده. فصل: إذا آجره مدة تلي العقد، لم يجز شرط الخيار؛ لأنه يمنع التصرف فيها أو في بعضها فينقص عما شرطاه، وفي خيار المجلس وجهان: أحدهما،: لا يثبت لذلك. والثاني: يثبت لأنه يسير، وإن كانت لا تلي العقد، ثبت فيها الخياران؛ لأنها بيع ولا مانع من ثبوته فيها، وكذلك إن كانت على عمل في الذمة، أو على منفعة عين في الذمة ثبتا فيها لذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم. [ باب ما يجوز فسخ الإجارة وما يوجبه ] وهي: عقد لازم ليس لواحد منهما فسخها؛ لأنها بيع فأشبهت بيوع الأعيان، إلا أن يجد العين معيبة، فيملك الفسخ بما يحدث من العيب؛ لأن المنافع لا يحصل قبضها إلا بالاستيفاء، فهي كالمكيل يتعيب قبل قبضه، فإن بادر المكتري إلى إزالة العيب من غير ضرر يلحق المستأجر، كدار تشعثت فأصلحها، فلا خيار للمستأجر لعدم الضرر، وإلا فله الفسخ، فإن سكنها مع عيبها، فعليه الأجرة علم أو لم يعلم؛ لأنه استوفى جميع المعقود عليه معيباً، مع علمه به، فلزمه البدل، كالمبيع المعيب إذا رضيه، وإن كان العقد على موصوف في الذمة فرد بعيب، لم ينفسخ العقد، ويطالب ببدله، فإن تعذر بدله، فله الفسخ، لتعذر المعقود عليه، كما لو وجد بالسلم عيباً فرده، والعيب ما تنقص به المنفعة، كانهدام حائط الدار، وتعيبه وانقطاع ماء بئرها أو تغيره، وانقطاع ماء الأرض أو نقصه، وتغير الظهر في المشي، وعرجه الفاحش وربضه، وكونه عضوضاً أو جموحاً، وضعف بصر الأجير في الخدمة ومرضه. فأما كون الظهر خشن المشي، فليس بعيب؛ لأن المنفعة فيه كاملة، وإن اختلفا في العيب، رجع فيه إلى أهل الخبرة. فصل: وإن تلفت العين في يده، انفسخت الإجارة، كما لو تلف المكيل قبل قبضه، وإن تلفت قبل مضي شيء من المدة فلا أجرة عليه؛ لأنه لم يقبض شيئاً من المعقود عليه، وإن تلفت بعد مضي شيء منها، فعليه من الأجرة بقدر ما استوفى، ويسقط بقدر ما بقي، فإن كان أجرها في بعض المدة أكثر، قسمت على القيمة، وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة، لم تنفسخ بالتلف، وله البدل كما لو تعيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 فصل: إذا اكترى أرضاً للزرع، فانقطع ماؤها، أو داراً فانهدمت، انفسخ العقد في أحد الوجهين؛ لأن المنفعة المقصودة منها تعذرت، فأشبه تلف العبد، والآخر: لا ينفسخ؛ لأنه يمكن الانتفاع بها كالسكنى في خيمة، أو يجمع فيها حطباً أو متاعاً، لكن له الفسخ؛ لأنها تعيبت، وإن ماتت المرضعة، انفسخت الإجارة، وعن أبي بكر: لا تنفسخ ويجب في مالها أجر رضاعه والمذهب الأول؛ لأن المعقود عليه تلف، فأشبه تلف عبد الخدمة، وإن مات المرتضع، انفسخ العقد؛ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه؛ لأن غيره لا يقوم مقامه لاختلافهم في الرضاع، ولذلك وجب تعيينه، ولم استأجر رجلاً ليقلع ضرسه فبرئ، أو ليكحل عينه فبرئت، أو ليقتص له فمات المقتص منه، أو عفي عنه، انفسخ العقد؛ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ، كما لو تعذر بالموت، وإن استأجر للحج فمات، ففيه وجهان: أحدهما: تنفسخ الإجارة؛ لأنه تعذر الاستيفاء بموته، أشبه موت المرتضع. والثاني: لا تنفسخ، ويقوم وارثه مقامه، كما لو كان المستأجر داراً، وإن لم يمت لكن تلف ماله، لم تنفسخ الإجارة؛ لأن المعقود عليه سليم. فصل: فإن غصبت العين المستأجرة، فللمستأجر الفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه، فإن فسخ، فالحكم فيه كالفسخ بتلف العين، وإن لم ينفسخ حتى انقضت المدة، خير بين الفسخ والرجوع على المؤجر بالمسمى، ويرجع المؤجر على الغاصب بأجر المثل، وبين إمضاء العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل؛ لأن المنافع تلفت في يد الغاصب، فأشبه ما لو أتلف المبيع أجنبي، وإن كان العقد على موصوف في الذمة، طولب المؤجر بإقامة عين مقامها، فإن تعذر، فله الفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه. فصل: فإن أجر نفسه ثم هرب، أو اكترى عيناً ثم هرب بها، فللمستأجر الخيار بين الصبر والفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه، فأشبه ما لو اشترى مكيلاً فمنعه قبضه، وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة، استؤجر من ماله من يعمله، كما لو هرب قبل تسليم المسلم فيه، فإن لم يكن، فللمستأجر الخيار بين الفسخ والصبر إلى أن يقدر عليه فيطالبه بالعمل، كما لو تعذر تسليم المسلم فيه، وإن كانت الإجارة على مدة انقضت في هربه، بطلت الإجارة؛ لأنه أتلف المعقود عليه، فأشبه ما لو باعه مكيلاً فأتلفه قبل تسليمه. فصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وإن أجر عبده، ثم أعتقه، لم تنفسخ الإجارة؛ لأنه عقد على المنفعة فلم تنفسخ بالعتق، كالنكاح، ولا يرجع العبد بشيء؛ لأن منفعته استحقت بالعقد قبل العتق، فلم يرجع ببدله، كما لو زوج أمته، ثم أعتقها، ونفقته على سيده؛ لأنه يملك بدل منفعته، فهو كالباقي على ملكه. فصل: وإن أجر عيناً، ثم باعها، صح البيع؛ لأنه عقد على المنفعة، فلم يمنع البيع كالنكاح، ولا تبطل الإجارة قياساً على النكاح، وإن باعها من المستأجر، صح لذلك، وفي الإجارة وجهان: أحدهما: تبطل لأنها عقد على المنفعة، فأبطلها ملك الرقبة كالنكاح، فعلى هذا يسقط من الأجرة بقدر ما بقي من المدة. والثاني: لا تبطل؛ لأنه عقد على الثمرة، فلم تبطل بملك الأصل، كما لو اشترى ثمرة شجرة ثم ملك أصلها، ومتى وجد المستأجر عيباً ففسخ به، رجع على المؤجر؛ لأن عوض الإجارة له، فالرجوع عليه، وإن كان المستأجر هو المشتري فكذلك، إن قلنا: لا تنفسخ الإجارة، وإن قلنا: تنفسخ، لم يرجع على أحد. فصل: ولا تنفسخ الإجارة بموت المتكاريين، ولا موت أحدهما؛ لأنه عقد لازم، فلا يبطل بموت المتعاقدين مع سلامة المعقود عليه كالبيع، وإن أجر عيناً موقوفة عليه، ثم مات ففيه وجهان: أحدهما: لا تبطل؛ لأنه أجر ما له إجارته شرعاً، فلم تبطل بموته كما لو أجر ملكه، ولكن يرجع البطن الثاني في تركة المؤجر بأجر المدة الباقية، إن كان قبضها؛ لأن المنافع لهم فاستحقوا أجرتها. والثاني: تبطل فيما بقي من المدة؛ لأننا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره، فإن المنافع بعد موته لغيره بخلاف المالك، فإن ورثته إنما يملكون ما خلفه، وما خرج عن ملكه بالإجارة في حياته، غير مخلف فلم يملكوه، والأمر إلى من انتقل إليه الوقف في إجارته أو تركه، فعلى هذا يرجع المستأجر على المؤجر بأجرة بقية المدة، وإن أجر الولي الصبي، أو ماله مدة فبلغ في أثنائها، ففيه وجهان أيضاً كهذين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 [ باب ما يلزم المتكاريين وما لهما فعله ] يجب على المكري ما يحتاج إليه من التمكين، من الانتفاع، كمفتاح الدار، وزمام الجمل والقتب والحزام، ولجام الفرس وسرجه؛ لأن عليه التمكين من الانتفاع، ولا يحصل إلا بذلك، وما تلف من ذلك في يد المكتري، لم يضمنه، كما لا يضمن العين، وعلى المكري بدله، لأن التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفي المكتري المنفعة. فأما ما يحتاج إليه لكمال الانتفاع، كالحبل والدلو والمحمل والغطاء، والحبل الذي يقرن به بين المحملين فهو على المكتري؛ لأن ذلك يراد لكمال الانتفاع فأشبه بسط الدار. فصل: وعلى المكري رفع المحمل وحطه، ورفع الأحمال وسوق الظهر وقوده؛ لأن ذلك العادة، فحمل العقد عليه. وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض؛ لأنه لا يمكن فعله راكباً، وليس ذلك عليه للأكل والنفل؛ لأنه ممكن على الظهر، وعليه أن يبرك الجمل للمرأة وللمريض والضعيف، وإن كانت الإجارة على تسليم الظهر، لم يكن عليه شيء من ذلك، فأما أجرة الدليل، فإن كانت الإجارة على تحصيل الراكب في البلد فعلى المكري؛ لأنه من مؤنة التحصيل، وإن كانت على تسليم الظهر، أو على مدة، فهو على المكتري؛ لأن الذي على المكري تسليم الظهر وقد فعل، وعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش والبالوعة؛ لأنه من التمكن، فإن امتلأ في يد المكتري، فعليه كسحه؛ لأنه ملأه فكان عليه إزالته، كتنظيف الدار، وعلى المكري إصلاح ما انهدم من الدار، وتكسر من خشب؛ لأنه من التمكين وإذا استأجر ظئراً للرضاع وشرط الحضانة، وهي خدمة الصغير وغسل خرقه لزمها، وإن لم يشترطه عليها، لم يلزمها إلا الرضاع؛ لأنهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى، فلم تلزم إحداهما بالعقد على الأخرى، وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن ويصلح به، وللمكتري مطالبتها به؛ لأنه من التمكين، ويضر الصبي تركه. فصل: وعلى المكتري علف الظهر وسقيه؛ لأنه من التمكين، فإن هرب، وترك جماله، رفع الأمر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال بالعلف، فإن لم يجد له مالاً، اقترض عليه، فإن اقترض من المكتري، أو أذن له في الإنفاق عليها قرضاً، جاز؛ لأنه موضع حاجة، وإن كان في الجمال فضل عن المكتري، باعه وأنفق منه، فإذا رجع الجمال، أو اختلفا في النفقة، فالقول قول المنفق؛ لأنه أمين إذا كانت دعواه لقدر النفقة بالمعروف، وما زاد لا يرجع به؛ لأنه متطوع، فإن أنفق من غير إذن الحاكم مع إمكانه، وأشهد على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 ذلك، فهل يرجع به؟ على وجهين بناء على من ضمن دينه بغير إذنه، وإن لم يجد من يشهد فأنفق، ففي الرجوع وجهان. أصحهما: يرجع به؛ لأنه موضع ضرورة فأشبه ما لو أنفق على الآبق في رده، وإذا وصل دفع الجمال إلى الحاكم، ليوفي المنفق نفقته منها، ويفعل في سائرها ما يرى الحظ فيه لصاحبها، من بيعها وحفظ ثمنها، أو بيع بعضها، وإنفاقه على باقيها. فصل: وليس على المكتري مؤنة رد العين؛ لأنها أمانة، فلم يلزم مؤنة ردها كالوديعة، ويحتمل أن يلزمه؛ لأنه غير مأذون له في إمساكها بعد انقضاء مدتها، فلزمه مؤنة ردها كالعارية. فصل: وللمكتري استيفاء المنفعة بالمعروف؛ لأن إطلاق العقد يقتضي المتعارف، فصار كالمشروط، فإذا استأجر داراً للسكنى، فله وضع متاعه فيها؛ لأنه متعارف في السكنى، ويترك فيها من الطعام ما جرت عادة الساكن به لذلك، وليس له جعلها مخزناً للطعام؛ لأنه غير متعارف وفيه ضرر؛ لأن الفأر تنقب الحيطان للحصول إليه، ولا يجوز أن يربط، فيها الدواب، ولا يطرح فيها الرماد والتراب؛ لأنه غير متعارف به، وإن اكترى قميصاً ليلبسه، لم يكن له أن ينام فيه ليلاً، وله ذلك نهاراً؛ لأن العادة الخلع لنوم الليل دون النهار، وليس له أن يتزر به؛ لأنه يعتمد عليه أكثر من اللبس، وله أن يرتدي به في أحد الوجهين؛ لأنه أخف، والآخر ليس له ذلك؛ لأنه غير المتعارف في لبس القميص، وإن اكترى ظهراً في طريق، العادة السير فيه زمناً دون زمن لم يسر إلا فيه؛ لأنه المتعارف، وإن كانت العادة النزول للرواح، وكان رجلاً قوياً، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه ذلك؛ لأنه المتعارف. والثاني: لا يلزمه؛ لأنه اكترى للركوب في جميع الطريق، فلم يلزمه تركه في بعضه، وإن اكتره إلى مكة، لم يجز أن يحج عليه؛ لأنه زيادة، وإن اكتراه ليحج عليه، فله الركوب إلى منى، ثم إلى عرفة، ثم إلى مكة، وهل له أن يركبه عائداً إلى منى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد حل من الحج. والثاني: له ذلك؛ لأنه من تمام الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 فصل: وله ضرب الظهر، وكبحه باللجام، وركضه برجله للمصلحة؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب جمل جابر حين ساقه» ولأنه لا يتوصل إلى استيفاء المنفعة إلا به، فملكه كركوبه، وإن شرط حمل أرطال من الزاد، فله إبدال ما يأكل؛ لأن له غرضاً في أن يشتري الزاد من الطريق، ليخفف عليه حمله فملك بدله، كالذي يشرب من الماء. فصل: وله أن يستوفي النفع المعقود ومثله ودونه في الضرر، ولا يملك فوقه، ولا ما يخالف ضرر ضرره، لأنه يأخذ فوق حقه، أو غير حقه. فإن اكترى ظهراً في طريق، فله ركوبه إلى ذلك البلد في مثله، ودونه في الخشونة، والمسافة والمخافة، ولا يركبه في أخشن منه، ولا أبعد، ولا أخوف، وإن اكترى أرضاً للغراس والبناء، فله زرعها؛ لأنه أقل ضرراً، وإن استأجرها لأحدهما لم يملك الآخر؛ لأن ضرر كل واحد منهما يخالف ضرر الآخر، وإن استأجرها للزرع لم يغرس، ولم يبين؛ لأنهما أضر منه، وإن استأجرها لزرع الحنطة، فله زرعها، وزرع ما ضرره كضررها أو أدنى، كالشعير، والبقلاء، ولا يملك زرع الدخن والذرة والقطن؛ لأن ضررها أكثر، وإن اكترى ظهراً ليحمل عليه قطناً، لم يجز أن يحمل عليه حديداً؛ لأنه أضر على الظهر لاجتماعه وثقله، وإن اكتراه للحديد، لم يحمل عليه قطناً؛ لأنه أضر لتجافيه، وهبوب الريح فيه، وإن اكتراه ليركبه، لم يحمل عليه؛ لأن الراكب يعين الظهر بحركته، وإن اكتراه للحمل، لم يملك ركوبه؛ لأن الراكب يقعد في موضع واحد، والحمل يتفرق على جنبيه، وإن شرط ركوبه عرياناً، لم يركب بسرج؛ لأنه زيادة، وإن شرط ركوبه بسرج، لم يركبه عرياناً؛ لأنه يضر بظهر الحيوان، والعارية كالإجارة في هذا؛ لأنها تمليك للمنفعة، فأشبهت الإجارة. فصل: وله أن يستوفي المنفعة بنفسه وبمثله، فإن اكترى داراً، فله أن يسكنها مثله، ومن هو دونه في الضرر، ولا يسكنها من هو أضر منه، وإن اكترى ظهراً يركبه، فله أن يركبه مثله، ومن هو أخف منه، لما ذكرنا في الفصل قبله، فإن شرط أن لا يستوفي غير المنفعة بنفسها، ولا يستوفي مثلها، ولا دونها، ولا يستوفيها بمثله، ولا بدونه، صح الشرط؛ لأنه يملكه المنافع، فلا يملك إلا ما ملكه، ويحتمل أن لا يصح؛ لأنه ينافي موجب الإجارة، ولا يبطل العقد؛ لأن الشرط لا يؤثر المؤجر، فلغي وبقي العقد على مقتضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 فصل: وله أن يؤجر العين؛ لأن الإجارة كالبيع، وبيع المبيع جائز، وكذلك إجارة المستأجر، ويجوز أن يؤجرها للمؤجر وغيره، كما يجوز بيع المبيع للبائع وغيره، فإن أجرها قبل قبضها، لم يجز، ذكره القاضي؛ لأنها لم تدخل في ضمانه، فلم تجز إجارتها، كبيع الطعام قبل قبضه، ويحتمل الجواز؛ لأن المنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين، فلم يؤثر قبض العين فيها، ويحتمل أن تجوز إجارتها للمؤجر؛ لأنها في قبضه، ولا تجوز من غيره لعدم ذلك، وتجوز إجارتها بمثل الأجرة وزيادة، كالبيع برأس المال وزيادة، وعنه: إن أحدث في العين زيادة، جازت إجارتها بزيادة، وإن لم يفعل لم يؤجرها بزيادة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن ربح ما لم يضمن» فإن فعل تصدق بالزيادة، وعنه: يجوز بإذن المالك، ولا يجوز بغير إذنه، والمذهب الأول. فصل: فإن استوفى أكثر من المنفعة بزيادة متميزة مثل إن اكترى إلى مكان، فجاوزه، أو ليحمل قفيزاً فحمل اثنين لزمه المسمى، لما عقد عليه، وأجرة المثل للزيادة؛ لأنه استوفى المعقود عليه، فاستقر المسمى ولزمته أجرة الزيادة، كما لو اشترى قفيزاً، فقبض اثنين، وإن كانت الزيادة لا تتميز، كرجل اكترى أرضاً ليزرع حنطة فزرع دخناً فكذلك قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ينظر ما يدخل على الأرض من النقصان، ما بين الحنطة والشعير، فيعطي رب الأرض، فأوجب المسمى وزيادة؛ لأنه لما عين الحنطة تعلق العقد بما يماثله في الضرر، فصار مستوفياً للمعقود عليه وزيادة كالتي قبلها، وقال أبو بكر: عليه أجرة المثل للجميع؛ لأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره، فلزمته أجرة المثل، كما لو زرع غير الأرض، ولرب الأرض منع المستأجر من زرع الأرض، فإن زرع فحكمه في ذلك حكم الغاصب على ما سيأتي. فصل: فإن اكترى أرضاً للزرع مدة، فليس له زرع ما لا يستحصد فيها؛ لأن عليه تسليمها، فارغة عند انتهائها، وهذا يمنع ذلك، وللمالك منعه من زرعه لذلك، فإن فعل، لم يجبر، على قلعه في المدة؛ لأنه مالك لمنفعة الأرض، فإذا انقضت ولم يحصد، خير المالك بين أخذه، ودفع نفقته، وبين تركه بالأجرة لأنه تعدى بزرعه، فأشبه الغاصب، وإن كان بقاؤه بغير تفريط، إما لشدة برد، أو قلة مطر ونحوه، فعلى المؤجر تركه بالأجرة؛ لأنه زرعه بحق، فكان عليه المسمى للمدة، وأجرة المثل للزائد لا غير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 فصل: فإن اكتراها مدة ليزرع فيها زرعاً لا يكمل فيها، وشرط قلعه في آخرها، صح العقد والشرط؛ لأنه قد يكون له غرض صحيح فيه، وإن شرط تبقيته حتى يكمل فسد العقد لجهل المدة، ولأن شرط تبقيته تنافي تقدير مدته، وللمؤجر منعه من الزرع؛ لأن العقد فاسد، فإن زرعه، لزم إبقاؤه بشرطه؛ لأنه زرعه بإذن المالك، وإن أطلق العقد، صح؛ لأن الانتفاع بالأرض في هذه المدة ممكن، فإذا انقضت، والزرع باق، احتمل أن يكون حكمه حكم المفرط لزرعه في مدة الإجارة ما لا يكمل فيها، واحتمل أن يكون حكمه حكم غير المفرط لتفريط المؤجر بإجارة مدة لا يكمل فيها. فصل: وأن استأجرها للغراس مدة، جاز، وله الغرس فيها، ولا يغرس بعدها؛ لأن العقد، يقتضي التصرف في المدة دون ما بعدها، فإن غرس، فانقضت المدة، وكان مشروطاً عليه القلع عند انقضائها، أخذ بما شرطه، ولم يلزمه تسوية الحفر؛ لأنه لما شرط القلع، مع علمه بأنه يحفر الأرض كان راضياً، وإن لم يكن شرط القلع، لم يجب؛ لأن تفريغ المستأجر على حسب العادة، والعادة ترك الغراس حتى ييبس، وللمستأجر قلع غرسه؛ لأنه ملكه، فإن قلعه، لزمه تسوية الحفر؛ لأنه حفرها لتخليص ملكه من ملك غيره بغير إذنه، وإن لم يقلعه، فللمؤجر دفع قيمته ليملكه؛ لأن الضرر يزول عنهما به، أشبه الشفيع في غراس المشتري، وإن أراد قلعه، وكان لا ينقص بالقلع، أو ينقص لكنه يضمن، أرش النقص، فله ذلك؛ لأن الضرر يزول عنهما به، وإن اختار إقراره بأجرة مثله، فله ذلك؛ لأن الضرر يزول عنهما به، ولصاحب الشجر بيعه للمالك ولغيره، فيكون بمنزلته؛ لأن ملكه ثابت عليه، فأشبه الشقص المشفوع، والبناء كالغراس في جميع ما ذكرنا. [ باب تضمين الأجير واختلاف المتكاريين ] الأجير على ضربين: خاص ومشترك، فالخاص: هو الذي يؤجر نفسه مدة، فلا ضمان عليه فيما يتلف في يده بغير تفريط، مثل أن يأمره بالسقي، فيكسر الجرة، أو بكيل شيء، فيكسر الكيل، أو بالحرث، فيكسر آلته نص عليه، أو بالرعي، فتهلك الماشية بغير تفريطه، والمشترك: الذي يؤجر نفسه على عمل، فظاهر كلام الخرقي، أنه يضمن ما تلف بعمله، ونص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حائك دفع إليه غزل، فأفسد حياكته يضمن، والقصار ضامن لما يتخرق من مده ودقه وعصره وبسطه، والطباخ ضامن لما أفسد من طبخه، لما روى جلاس بن عمرو: أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كرم الله وجهه: كان يضمن الأجير، ولأنه قبض العين لمنفعة من غير استحقاق، فكان ضامناً لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 كالمستعير، وقال القاضي وأصحابه: إن كان يعمل في ملك المستأجر، كخياط أو خباز، أخذه إلى داره ليستعمله فيها، فلا ضمان عليه ما لم يتعد فيه، مثل أن يسرف في الوقود أو يلزقه قبل وقته، أو يتركه بعد وقته فيضمن؛ لأنه أتلفه بعدوانه، وما لا فلا ضمان عليه؛ لأنه سلم نفس إلى صاحب العمل، فأشبه الخاص، وإن كان العمل في غير ملك المستأجر، ضمن ما جنت يداه لما ذكرناه، ولا ضمان عليه فيما تلف من حرزه؛ لأنها أمانة في يده، فأشبه المودع، وإن حبسها على أجرتها فتلفت، ضمنها؛ لأنه متعد بإمساكها إذ ليست رهناً ولا عوضاً عن الأجرة. فصل: ولا ضمان على المستأجر في العين المستأجرة إن تلفت بغير تفريط؛ لأنه قبضها ليستوفي ما ملكه فيها، فلم يضمنها كالزوجة، والنخلة التي اشتراها ليستوفي ثمرتها، وإن تلفت بفعله بغير عدوان، كضرب الدابة وكبحها، لم يضمن؛ لأنها تلفت من فعل مستحق، فلم يضمنها، كما لو تلفت تحت الحمل، وإن تلفت بعدوان، كضربها من غير حاجة، أو لإسرافه فيه، ضمن؛ لأنه جناية على مال الغير، وإن اكترى إلى مكان، فتجاوزه، فهلك الظهر، ضمنه؛ لأنه متعد، أشبه الغاصب، وإن هلك بعد نزوله عنه، وتسليمه إلى صاحبه، لم يضمنه؛ لأنه برئ بتسليمه إليه إلا أن يكون هلاكه، لتعب الحمل فيضمنه؛ لأنه هلك بعدوانه، وإن حمل عليه أكثر مما استأجره، فتلف، ضمنه لذلك، وإن اكترى دابة ليركبها فركب معه آخر بغير إذن فتلفت، ضمانها الآخر كلها؛ لأن عدوانه سبب تلفها فضمنها، كمن ألقى حجراً في سفينة موقرة فغرقها، وإن تلفت الدابة، بعد عودها إلى المسافة، ضمنها؛ لأن يده صارت ضامنة، فلم يسقط عنه ذلك إلا بإذن جديد، ولم يوجد. فصل: ولو قال لخياط: إن كان هذا يكفيني قميصاً فاقطعه فقطعه، فلم يكفه، ضمنه؛ لأنه إنما أذن له في قطعه بشرط الكفاية ولم يوجد، وإن قال: هو يكفيك قميصاً فقال: اقطعه، فقطعه، فلم يكفه لم يضمنه؛ لأنه قطعه بإذن مطلق. فصل: ومن أجر عيناً فامتنع من تسليمها فلا أجرة له؛ لأنه لم يسلم المعقود عليه، فلم يستحق عوضه، كالمبيع إذا لم يسلمه، وإن سلمه بعض المدة، ومنعه بعضاً، فقال أصحابنا: لا أجرة له؛ لأنه لم يسلم ما تناوله العقد، فأشبه الممتنع من تسليم الجميع، ويحتمل أن يلزمه عوض ما استوفاه، كما باعه مكيلاً فسلم إليه بعضه، ومنعه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 باقيه، وإن أجر نفسه على عمل، وامتنع من إتمامه، فكذلك، وإن أجر عبده فهرب، أو دابة فشردت في بعض المدة فله من الأجرة بقدر ما استوفي من المدة؛ لأن الامتناع بغير فعله، فأشبه ما لو مات، وإن تلف الثوب في يد الصانع بغير تفريطه، فلا أجرة له فيما عمل؛ لأنه لم يسلمه إلى المستأجر، فلم يستحق عوضه، وإن تلف بتفريطه خير المالك بين تضمنه إياه معمولاً، ويدفع إليه أجرته، وبين تضمينه إياه غير معمول ولا أجرة له، وإن استأجر الأجير المشترك أجيراً خاصاً، فأتلف الثوب، فلا ضمان على الخاص، ويضمنه المشترك. فصل: وإذا اختلف المتكاريان في قدر الأجرة أو المنفعة، تحالفا؛ لأنه عقد معاوضة، أشبه البيع، ثم الحكم في فسخ الإجارة، كالحكم في فسخ البيع؛ لأنها بيع، وإن اختلفا في العدوان، فالقول قول المستأجر؛ لأن الأصل عدم العدوان، والبراءة من الضمان، وإن اختلفا في رد العين، ففيه وجهان: أحدهما: القول قول المؤجر؛ لأن الأصل عدم الرد، ولأن المستأجر قبض العين لنفسه، أشبه المستعير. والثاني: القول قول الأجير؛ لأنه أمين، فأشبه المودع، وإن هلكت العين، فقال الأجير: هلكت بعد العمل، فلي الأجرة، فأنكره المستأجر، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم العمل، وإن دفع ثوباً إلى خياط، فقطعه قباء، وقال: بهذا أمرتني، فلي الأجرة، ولا ضمان علي وقال صاحبه: إنما أمرتك بقطعه قميصاً، فالقول قول الأجير، نص عليه؛ لأنه مأذون له في القطع، والخلاف في صفته، فكان القول قول المأذون له كالمضارب ولأن الأصل عدم وجوب الغرم، فكان القول قول من ينفيه، ويتخرج أن يقبل قول المالك؛ لأن القول قوله في أصل الإذن، فكذلك في صفته، ولأن الأصل عدم ما ينفيه، فكان القول قوله فيه. [ باب الجعالة ] وهي أن يجعل جعلاً لمن يعمل له عملاً من رد آبق أو ضالة، أو بناء، أو خياطة، وسائر ما يستأجر عليه من الأعمال فيجوز ذلك؛ لقول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ} [يوسف: 72] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 {بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ولما روى أبو سعيد «أن ناساً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتوا حياً من أحياء العرب، فلم يقروهم، فبينا هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل، أو تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيع شياه، فجعل رجل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقة ويتفل فبرئ الرجل، فأتوهم بالشياه، فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: وما أدراك أنها رقية خذوها واضربوا لي منها بسهم» . متفق عليه. ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك في رد الضالة ونحوها، فجاز كالإجارة، ويجوز عقد الجعالة لعامل غير معين، وعمل مجهول، فيقول: من رد ضالتي فله كذا للآية، ولأن الحاجة داعية إليه مع الجهل، فجاز كالمضاربة، ولا يجوز إلا بعوض معلوم؛ لأنه عقد معاوضة، فاشترط العلم بعوضه كالإجارة، فإن شرط مجهولاً فسد، وله أجرة المثل؛ لأنه عقد يجب المسمى في صحيحه، فوجبت أجرة المثل في فاسده كالإجارة. فصل: وهي عقد جائز؛ لأنها تنعقد على مجهول، فكانت جائزة كالمضاربة، وأيهما فسخ قبل الشروع في العمل فلا شيء للعامل، وإن فسخه العامل قبل تمام العمل، فلا شيء له، لأنه إنما يستحق بعد الفراغ من عمله وقد تركه، وإن فسخه الجاعل بعد التلبس به، فعليه أجرة ما عمل العامل؛ لأنه إنما عمل بعوض لم يسلم له، وإن تم العمل، لزم العقد ووجب الجعل؛ لأنه استقر بتمام العمل، فأشبه الربح في المضاربة، وإن زاد في الجعل، أو نقص منه قبل الشروع في العمل، جاز؛ لأنه عقد جائز، فجازت الزيادة فيه والنقصان قبل العمل كالمضاربة. فصل: ولا يستحق الجعل إلا بعد فراغه من العمل؛ لأنه كذا شرط، وإن جعل له جعلاً على رد آبق فرده إلى باب الدار، فهرب، أو مات قبل تسليمه لم يستحق شيئاً؛ لأنه لم يأت بما جعل الجعل فيه، وإن قال: من رده من مصر فله دينار، فرده من نصف طريقها، أو قال: من رد عبدي، فله دينار، فرد أحدهما، فله نصف الدينار؛ لأنه عمل نصف العمل، وإن رده من أبعد من مصر، لم يستحق إلا الدينار؛ لأنه لم يضمن لما زاد شيئاً، وإن رده جماعة اشتركوا في الدينار؛ لأنهم اشتركوا في العمل. فإن جعل لواحد في رده ديناراً، ولآخر اثنين، ولآخر ثلاثة، فلكل واحد منهم ثلث جعله، وإن جعل لواحد منهم ثوباً، فله ثلث أجرة المثل؛ لأنه عوض مجهول، فاستحق ثلث أجرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 المثل، وإن جعل لواحد جعلاً، فأعانه آخر، فالجعل كله للمجعول له؛ لأن العمل كله له. فإن قال الآخر: شاركته لأشاركه في الجعل، فللعامل نصف الجعل؛ لأنه عمل نصف العمل ولا شيء للآخر؛ لأنه لم يشرط له شيء. فصل: ومن عمل لغيره عملاً بغير جعل، فلا شيء له؛ لأنه بذل منفعته بغير عوض، فلم يستحقه، وإن التقط لقطة قبل الجعل، ثم بلغه الجعل لم يستحقه؛ لأنه وجب عليه ردها بالتقاطها، فلم يجز له أخذ العوض عن الواجب، وإن التقطها بعد الجعل، ولم يعلم بذلك لم يستحقه؛ لأنه تطوع بالالتقاط، وإن نادى غير صاحب الضالة: من ردها، فله دينار، فردها رجل، فالدينار على المنادي؛ لأنه ضمن العوض وإن قال في النداء: قال فلان: من رد ضالتي فله دينار، فردها رجل، لم يضمن المنادي؛ لأنه لم يضمن، إنما حكى قول غيره. فصل وإن اختلفا في الجعل أو في قدره، أو في المجعول فيه الجعل، فالقول قول المالك؛ لأنه منكر ما يدعى عليه والأصل عدمه. فصل: وإن رد آبقاً من غير شرط، ففيه روايتان: إحداهما: لا جعل له فيما ذكرنا. والثانية: له الجعل؛ لأن ذلك يروى عن عمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة، ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه جعل في الآبق إذا جاء به خارجاً من الحرم ديناراً» ولأن في ذلك حثاً على رد الإباق، وصيانة عن الرجوع إلى دار الحرب، وردتهم عن دينهم، فينبغي أن يكون مشروعاً، وقدر الجعل ديناراً أو اثني عشر درهماً، لما روينا، ولأن ذلك يروى عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه إن رده من خارج المصر فله أربعون درهماً، وإن رده من المصر، فله دينار؛ لأنه يروى عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسواء كان ذلك كقيمة العبد أو أقل أو أكثر، فإن مات السيد، استحق الجعل في تركته، وما أنفقه على الآبق في قوته، رجع به على سيده، سواء رده أو هرب منه في بعض الطريق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 [ باب المسابقة ] تجوز المسابقة على الأقدام والدواب وبالسهام والحراب والسفن وغيرها، لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق» متفق عليه، «وسابق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على قدميه» وسابق سلمة بن الأكوع رجلاً من الأنصار بين يديه، «ومر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوم يربعون حجراً أي يرفعونه بأيديهم ليعلم الشديد منهم، فلم ينكر عليهم» ولا يجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» رواه أبو داود. فتعين حمله على المسابقة بعوض جمعاً بينه وبين ما روينا، والمراد بالحافر الخيل خاصة، وبالخف الإبل، وبالنصل السهام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله» ولأن غير الخيل والإبل لا تصلح للكر والفر والقتال، وغير السهام لا يعتاد الرمي بها، فلم تجز المسابقة عليها كالبقر والتراس. فصل: والمسابقة بعوض جعالة فيه؛ لأنه عقد على ما لا يعلم القدرة على تسليمه، فأشبه رد الآبق، ولكل واحد منهما فسخها قبل الشروع في المسابقة، وما لم يظهر فضل أحدهما، فإن ظهر، فللفاضل الفسخ والنقصان والزيادة ولا يجوز للمفضول، لئلا يفوت غرض المسابقة، فإنه متى بان له أنه مسبوق، فسخ، وذكر القاضي وجهاً آخر، أنها عقد لازم؛ لأن من شرطها العلم بالعوضين فكانت لازمة كالإجارة، ويجوز بذل العوض من بيت المال، ومن السلطان، ومن المتسابقين وآحاد الرعية؛ لأنه إخراج مال لمصلحة، فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله، فإن بذل العوض فيها تحريض على التعلم، والاستعداد للجهاد، ومن شرط العوض كونه معلوماً لما ذكرنا في الجعالة له. فصل: ولا تجوز المسابقة بين جنسين، كالخيل والإبل؛ لأن تفاضل الجنسين معلوم. فأما النوعان كالعربي والهجين، والبختي والعرابي، فقال القاضي: تجوز المسابقة بينهما؛ لأن الجنس يشملهما، فأشبها النوع الواحد، وقال أبو الخطاب: لا تصح؛ لأنهما يختلفان في الجري عادة، فأشبها الجنسين، وكذا الخلاف في المناضلة بنوعين من القسي، كالعربي والفارسي وقوس الجرح وقوس النبل لذلك. فصل: ويشترط تعيين المركوبين؛ لأن القصد جوهرهما، وتعيين الراميين؛ لأن القصد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 معرفة حذقهما، ولا يعتبر تعيين الراكبين ولا القوسين؛ لأنهما آلة للمقصود فلم يعتبر تعيينهما، كسرج الدابة، ويعتبر تحديد المسافة، لحديث ابن عمر، ولأنهما إذا أجريا إلى غير غاية، لم يؤمن ألا يسبق أحدهما حتى يعطبا أو أحدهما، ولا يجوز إجراؤهما إلا بتدبير الراكبين؛ لأنهما إذا جريا لأنفسهما، تنافرا ولم يمضيا إلى الغاية، ولا يجوز أن يستبقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام، فهو السابق؛ لأن هذا لا ينضبط، فإن الفرسين لا يقفان عند الغاية ليقدر ما بينهما. فصل: وإذا كان الجعل من غيرهم فقال: من سبق منكم، فله عشرة، صح، فإن سبق واحد، فهي له؛ لأنه سبق، وإن سبق اثنان أو أكثر، اشتركوا في السبق، وإن جاء الكل معاً، فلا شيء لهم؛ لأنهم لا سابق فيهم، وإن جعل السبق للمصلي وحده، أو فضله عن السابق، لم يصح؛ لأن كل واحد منهم يجتهد أن لا يسبق فيفوت الغرض، وكذلك إن جعل للسابق عشرة وللثالث أربعة، ولم يجعل للمصلي شيئاً، لم يصح؛ لأن من عدا السابق يجتهد أن لا يسبق صاحبه، وإن سوى بين السابق والمصلي، ولا ثالث معهما، لم يصح لفوات الغرض به، وإن كان معهما ثالث نقص عنهما، صح؛ لأن كل واحد منهم يجتهد في أن لا يكون الثالث، وإن جعل للمجلي وهو الأول مائة، وللمصلي وهو في الثاني تسعين، وللمسلي وهو الثالث ثمانين، وللتالي وهو الرابع سبعين، وللمرتاح وهو الخامس ستين، وللعاطف وهو السادس خمسين، وللحظي وهو السابع أربعين، وللمؤمل وهو الثامن ثلاثين، وللطيم وهو التاسع عشرين، وللحظي وهو العاشر عشرة، وللفسكل وهو الأخير خمسة، صح؛ لأن الغرض حاصل وكل واحد يجتهد في سبق الآخر، لينال أعلى من رتبته، وإن جعل كل رتبة يشترك فيه جميع من بلغها، احتمل أن يصح لذلك، واحتمل أن لا يصح؛ لأنه قد يشترك في السبق جماعة، وينفرد المصلي فيفضلهم بكثرة ما جعل له فيفوت الغرض، وإن قال: من بلغ الغاية فله عشرة، لم يكن ذلك مسابقة؛ لأن مقصود المسابقة التحريض على السبق وتعلم الفروسية، وهذا يفوت بالتسوية، ولكنه جعالة محضة؛ لأنه بذل العوض في أمر فيه غرض صحيح، وكذلك إن قال: ارم عشرة اسهم، فإن كانت إصابتك أكثر من خطئك، فلك كذا، أو قال: إن أصبت بهذا السهم، فلك كذا، صح ولم يكن مناضلة لذلك. فصل: وإن أخرج الجعل أحد المتسابقين، جاز؛ لأن فيهما من يأخذ ولا يعطي، فلا يكون قماراً. فإن سبق من أخرج، أحرز سبقه، ولم يأخذ من صاحبه شيئاً، وإن سبق الآخر، أحرز الجعل؛ لأنه سابق، وإن جاءا معاً فالجعل لصاحبه؛ لأنه لا سبق فيهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وإن أخرجا معاً، لم يجز؛ لأنه يكون قماراً؛ لأنه ليس فيهما إلا من يأخذ إذا سبق، ويعطي إذا سبق، إلا أن يدخلا معهما ثالثاً يساوي فرسه فرسيهما، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق، فليس بقمار، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق، فهو قمار» رواه أبو داود، ولأنه مع وجود المحلل المكافئ فيهم من يأخذ ولا يعطي، فيخالف القمار. فإن كان لا يكافئهما، فوجوده كعدمه؛ لأنه معلوم أنه لا يأخذ شيئاً، وسواء كان المحلل واحداً أو أكثر، والمسابقة بين اثنين أو حزبين؛ لأن الغرض الخروج من القمار وقد حصل على أي صفة كان. فإذا تسابقوا فجاءوا معاً، أو جاء المستبقان معاً قبل المحلل، أحرز كل واحد منهما سبقه، ولا شيء للمحلل؛ لأنه لم يسبق ولم يسبق أحدهما صاحبه، وإن سبقهما المحلل أخذ سبقيهما؛ لأنه سبقهما، وإن سبق أحد المستبقين وحده، أحرز السبقين لسبقه، ولم يأخذ من المحلل شيئاً، وإن سبق أحدهما مع المحلل، أحرز المستبق سبق نفسه؛ لأنه غير مسبوق، وكان سبق الآخر بينه وبين المحلل نصفين، لاشتراكهما في سبقه. فصل: وترسل الفرسان معاً من أول المسافة في حال واحدة، ولا يجوز لأحدهما أن يجنب مع فرسه فرساً يحرضه على العدو، ولا يصلح به ولا يجلب عليه، لما روى عمران بن حصين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب ولا جنب في الرهان» رواه أبو داود، وروى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا» فإن استوى الفرسان في طول العنق فسبق أحدهما برأسه، فهو سابق، وإن اختلفا في طول العنق، أو كان بعيرين اعتبر السبق بالكتف، فمن سبق به أو ببعضه، فهو سابق، ولا عبرة بالعنق، وإن عثر أحدهما، أو ساخت قوائمه في الأرض، أو وقف لعلة، فسبقه الآخر لم يحكم له بالسبق؛ لأن سبقه إياه للعارض، لا لفضل جريه. فصل: وإن مات أحد المركوبين، بطلت المسابقة؛ لأن العقد تعلق بعينه، فأشبه تلف المعقود عليه في الإجارة، وإن مات الراكب، لم تبطل؛ لأنه غير المعقود عليه، وللوارث أن يقوم مقامه، وله أن لا يفعل؛ لأن العقد جائز، ومن جعله لازماً، ألزمه. أن يقوم مقامه، كالإجارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 [ باب المناضلة ] وهي المسابقة بالرمي وتجوز بين اثنين وحزبين، لما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خرج على أصحاب له يتناضلون فقال: ارموا وأنا مع بني فلان، فأمسك الآخرون، فقالوا: يا رسول الله، كيف نرمي وأنت معهم فقال: ارموا وأنا معكم كلكم» رواه البخاري ولأنه إذا جاز على اثنين، جاز على ثلاثة كسباق الخيل. فصل: ويشترط لصحتها شروط ثمانية: أحدهما: تعيين الرماة؛ لأن الغرض معرفة الحذق في الرمي، فلا يتحقق مع عدم التعيين، كسباق الخيل، فإن عقد اثنان نضالاً على أن يكون مع كل واحد منهما ثلاثة لم يصح لذلك، وإن عقد جماعة نضالاً ليتناضلوا حزبين، احتمل أن لا يصح؛ لأن التعيين لا يتحقق قبل التفاضل، وقال القاضي: يصح ويجعل لكل حزب رئيس، فيختار أحدهما واحداً، ويختار الآخر آخر كذلك حتى يتناضلوا، فإن اختلفا في المبتدئ منهما بالخيار، أقرع بينهما، ولا يجوز أن يقتسموا بالقرعة؛ لأنها ربما وقعت على الحذاق في أحد الحزبين، ولا يجوز أن يجعل زعيم الحزبين واحداً؛ لأنه قد يميل إلى أحدهما فتلحقه التهمة، ولا يجوز أن يجعل الخيرة في تمييز الحزبين إلى واحد، ولا يجوز أن يجعل إلى واحد، والسبق عليه؛ لأنه يختار الحذاق فيبطل معنى النضال. فصل: الشرط الثاني: تعيين نوع القسي؛ لأن الأغراض تختلف باختلافها، فقد يكون الرامي أحذق بنوع منه بالنوع الآخر، وإن لم يكن في البلد إلا نوع واحد، لم يحتج إلى التعيين؛ لأن الإطلاق ينصرف إليه كالنقد، فإن عقدا على نوع، فأراد أحدهما أن ينتقلا إلى غيره، أو ينتقل أحدهما، لم يجز لما ذكرناه وإن عقدا على قوس بعينه، فانتقل أحدهما إلى غيره من نوعه، جاز؛ لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الأعيان. وإن شرط عليه أن لا ينتقل خرج على الوجهين فيما إذا شرط في الإجارة أن لا يستوفي المنفعة بمثله. فصل: الشرط الثالث: أن يرميا غرضاً، وهو ما يقع فيه السهم المصيب من جلد أو ورق أو نحوه، وإن قالا: السبق لأبعدنا رمياً لم يصح؛ لأن القصد بالرمي الإصابة لا الإبعاد، فلم يجز أخذ العوض من غير المقصود، والسنة أن يكون لهما غرضان في هدفين متقابلين يرميان من أحدهما الآخر، ثم يرميان من الآخر الأول، فإن أصحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك كانوا يرمون، فروي عن حذيفة، وابن عمر أنهما كانا يشتدان بين الغرضين، إذا أصاب أحدهما خصلة قال: أنا بها في قميص رواه سعيد. ويروى أن «ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة» . والهدف: اسم لما ينصب الغرض فيه. فصل: الشرط الرابع: أن يكون قدر الغرض معلومًا طوله وعرضه وانخفاضه وارتفاعه؛ لأن الإصابة تختلف باختلافه، فوجب علمه كتعيين النوع. فصل: فإن أطلقا العقد، حمل على إصابته أي موضع كان من الغرض من أطرافه وعراه وغيرها، وإن أصاب علاقته، لم يحسب له؛ لأن العلاقة ما يعلق به، والغرض: هو المعلق. وإن شرطا إصابة موضع من الغرض، كالدارة التي في وسطه، أو الخاتم الذي في الدارة، لم يحتسب بإصابة غيره، ويستحب أن يصفا الإصابة، فيقولا: خواصل، وهو اسم للإصابة كيفما كانت، أو خوارق، وهو ما ثقب الغرض، أم خواسق، وهو ما ثقبه وثبت فيه، أو موارق، وهو ما ثقبه ونفذ منه، أو خوارم وهو ما قطع طرفه. فإن أطلقا الإصابة حمل على الخواصل، والقرع كالخصل، فإن أصاب سهمًا في الغرض قد عرق إلى فوقه حسب له؛ لأنه لولاه لوقع السهم في الغرض، وإن كان السهم معلقًا بنصله، وباقيه خارج من الغرض، لم يحسب له ولا عليه؛ لأن بينه وبين الغرض طول السهم، فلا يدري أكان يصيب أم لا؟ فإن أطارت الريح الغرض، فأصاب السهم موضعه، حسب له، وإن وقع في الغرض في الموضع الذي انتقل إليه حسب عليه في الخطأ؛ لأنه أخطأ في الرمي، وإنما أصاب بفعل الريح، وإن عرضت ريح شديدة، لم يحسب له السهم في إصابة ولا خطأ؛ لأن ذلك من أجل الريح، وإن كانت لينة حسب في الإصابة والخطأ؛ لأنها لا تمنع. وإن وقع السهم دون الغرض، ثم ازدلف فأصابه حسب خاطئًا؛ لأن هذا لسوء رميه، وإن عرض عارض، من كسر قوس، أو انقطاع وتر، أو ريح في يده، فأصاب، حسب له؛ لأن إصابته مع اختلال الآلة أدل على حذقه، وإن أخطأ لم يحسب عليه؛ لأنه للعارض، وقال القاضي: يحسب له؛ لأنه لا يحسب عليه في الخطأ، فلا يحسب له في الإصابة كما في الريح الشديدة. وإن انكسر السهم فوقع دون الغرض، لم يحسب عليه؛ لأنه لعارض، وإن أصاب بنصله حسب له لما ذكرناه، وإن أصاب بغيره، لم يحسب له، وإن أعرق الرامي في النزع حتى أخرج السهم من الجانب الآخر، احتسب له وعليه؛ لأنه لسوء رميه أخطأ، ولحذقه أصاب، ولأن ما حسب عليه في الخطأ حسب له في الإصابة كغيره، وإن مرت بهيمة بين يديه، وتشوش رميه، لم يحسب عليه في الخطأ؛ لأنه لذلك العارض، وإن خرقه وأصاب، حسب له؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 لأن هذا لقوة نزعه، وسداد رميه، وإن شرطا الخسق، فأصاب الغرض، وثبت فيه، حسب له، فإن سقط بعد، لم يؤثر، كما لو نزعه إنسان، وإن ثقب ولم يثبت، ففيه وجهان: أحدهما: لا يحسب له؛ لأن الخاسق ما ثبت، ولم يوجد. والثاني: يحسب له؛ لأنه ثقب ما يصلح له، فالظاهر أنه لم يثبت لعارض من سعة الثقب، أو غلظ لقيه، وإن مرق منه، حسب له؛ لأنه لقوة رميه، وإن خدشه، ولم يثبت فيه لمانع من حجر، أو غلظ الأرض، فعلى الوجهين، لكن إن لم يحسب له لم يحسب عليه؛ لأن العارض منعه، وإن لم يكن مانع حسب عليه، فإن اختلفا في العارض، وعلى موضع السهم، وفيه مانع، فالقول قول صاحب السهم، وإلا فالقول قول رسيله، ولا يمين؛ لأن الحال تشهد بصدق المدعي، وإن لم يعلم موضع السهم، ولم يوجد وراء الغرض مانع، فالقول قول رسيله لذلك، وإن كان وراءه مانع، فقال الرسيل: لم يثقب موضع المانع، أو أنكر الثقب، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم ما يدعيه صاحبه، لكنه محتمل فأحلفناه لذلك، وإن كان في الغرض خرق، أو موضع بال، فوقع السهم فيه، وثبت في الهدف، وكان صلابته كصلابة الغرض، حسب له؛ لأنه لولا الخرق لثبت في الغرض، وإن لم يكن كذلك، لم يحسب له ولا عليه؛ لأننا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض أو لا؟ وإن ثبت في الهدف، فوجد في نصله قطعة من الغرض، فقال الرامي: هذا الجلد قطعه سهمي لقوته، وقال رسيله: بل هذه جلدة كانت منقطعة من قبل، فالقول قول الرسيل؛ لأن الأصل عدم الخسق، والله أعلم. فصل: الشرط الخامس: أن يكون مدى الغرض معلومًا مقدرًا بما يصيب مثلهما، وفي مثله عادة؛ لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد، فاشترط العلم به كالنوع، وإن جعلاه قدرًا لا يصيبان في مثله، أو لا يصيبان إلا نادرًا، كالزائد على ثلاثمائة ذراع، لم يجز؛ لأن الإصابة تندر في مثل هذا، فيفوت الغرض. فصل: الشرط السادس: أن يكون الرشق معلومًا، والرشق بكسر الراء: عدد الرمي؛ لأن الحذق في الرمي لا يعلم إلا بذلك. فصل: الشرط السابع: أن يكون عدد الإصابة معلومًا، كخمسة من عشرين ونحوها، ويعتبر أن يكون إصابة لا يندر مثلها، فإن شرطا إصابة الجميع، أو تسعة من عشرة، لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 يصح؛ لأن هذا يندر، فيفوت الغرض. ويستحب أن يبينا حكم الإصابة هل هي مبادرة أو محاطة؟ والمبادرة: أن يقولا: من سبق إلى إصابتين أو نحوهما، فهو السابق، فأيهما سبق إليهما مع تساويهما في الرمي، فهو السابق، فإذا رمى كل واحد عشرة، فأصاب أحدهما إصابتين دون الآخر، فهو السابق. ولا يلزم إتمام الرمي؛ لأن المقصود قد حصل، وإن أصاب كل واحد منهما من العشرة إصابتين، فلا سابق فيهما، وبطل النضال؛ لأن الزيادة على عدد الإصابة غير معتد بها، فإن رميا العشرين، فلم يصب واحدًا منهما إصابتين، أو أصاباهما معًا، فلا سابق فيهما. وأما المحاطة، فهي أن يشترطا حط ما تساويا فيه من الإصابة، ثم من فضل صاحبه بإصابة معلومة، فقد سبق، فإن شرطا فضل ثلاث إصابات، فرميا خمسة عشر، أصابها أحدهما كلها، أو أخطأها الآخر، فالمصيب سابق، ولا يجب إتمام الرمي، لعدم الفائدة فيه؛ لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب المخطئ الخمسة الباقية، ويخطئها الأول، ولا يخرج الثاني بذلك عن كونه مسبوقًا، وإن كان في إتمامه فائدة مثل أن يكون الثاني أصاب من الخمسة عشر تسعة، فإذا أصاب الخمسة الباقية، وأخطأها الأول، لم يكن مسبوقًا، وجب إتمام الرمي، فإن أطلقا العقد، انصرف إلى المبادرة؛ لأن العقد على المسابقة، والمبادر سابق، ذكر هذا القاضي، وقال أبو الخطاب: يشترط بيان ذلك في المسابقة؛ لأن الغرض يختلف به، فمن الناس من تكثر إصابته في الأول دون الثاني، فوجب اشتراطه، كقدر مدى الغرض. فصل: الشرط الثامن: التسوية بين المتناضلين في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي، فإن تفاضلا في شيء منه، أو شرطا أن يكون في يد أحدهما من السهام أكثر أو أن يرمي أحدهما والشمس في وجهه، أو يحسب له خاصل بخاسق، أو لا يحسب عليه سهم خاطئ، لم يصح؛ لأن القصد معرفة حذقهما، ولا يعرف مع الاختلاف؛ لأنه ربما فضله بشرطه لا بحذقه، وإن شرطا بحسب خاسق كل واحد منهما بخاصلين، أو يسقط القريب من إصابة أحدهما ما هو أبعد منها من رمي الآخر، فمن فضل بعد بثلاث إصابات فهو السابق صح؛ لأنه لا فضل لأحدهما في عدد ولا صفة، وهذه نوع محاطة، فصحت كاشتراط حط ما تساويا فيه. فصل: وإن كان الرماة حزبين، اشترط كون الرشق يمكن قسمته عليهم، إن كان كل حزب ثلاثة، وجب أن يكون له ثلث صحيح؛ لأنه يجب التسوية بينهما في عدد الرمي، ولا يمكن إلا بذلك، فوجب. وإذا نضل أحد الحزبين صاحبه، فالجعل بين الناضلين سواء من أصاب ومن لم يصب، ويحتمل أن يكون بينهما على قدر إصابتهم؛ لأنهم بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 يستحقون، والجعل على المنضولين بالسوية وجهًا واحدًا؛ لأنه لزمهم بالتزامهم لإصابتهم بخلاف الناضلين. فصل: فإن كان في أحد الحزبين من لا يحسن الرمي، بطل العقد فيه؛ لأنها لا تنعقد على من لا يحسن الرمي، ويخرج من الحزب الآخر بإزائه، كما إذا بطل البيع في بعض المبيع، بطل في ثمنه، وهل يبطل العقد في الباقين؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة، فإن قلنا: لا يبطل، فلهم الخيار في الفسخ والإمضاء؛ لأن الصفقة تفرقت عليهم، فإن اختاروا إمضاءه، ورضوا بمن يخرج بإزائه وإلا انفسخ العقد. فصل: ويرمي واحد بعد الآخر؛ لأن رميهما يفضي إلى التنازع بالمصيب، فإن اتفقا على المبتدئ منهما جاز، وإن كان بينهما شرط عمل به، وإن اختلفا ولا شرط بينهما، قدم المخرج، فإن كان المخرج غيرهما، اختار منهما، فإن لم يختر أقرع بينهما، وإذا بدأ أحدهما في وجه، بدأ الآخر في الثاني تعديلًا بينهما، فإن شرطا البداية لأحدهما في كل الوجوه، لم يصح؛ لأنه تفضيل، وإن فعلاه بغير شرط جاز؛ لأنه لا أثر له في إصابة، ولا تجويد رمي، ويرميان مراسلة سهمًا وسهمًا، أو سهمين وسهمين. وإن اتفقا على غير هذا، جاز لعدم تأثيره في مقصود المناضلة. فصل: وإن مات أحد الراميين، أو ذهبت يده، بطل العقد؛ لأن المعقود عليه تلف، فأشبه موت الفرس في السباق، وإن مرض أو رمد لم تبطل؛ لأنه يمكن الاستيفاء بعد زوال العذر، وله الفسخ؛ لأن فيه تأخير المعقود عليه، فملك الفسخ كالإجارة، وإن عرض مطر، أو ريح، أو ظلمة؛ أخر إلى زوال العارض، وإن أراد أحدهما التأخير لغير عذر، فله ذلك إن قلنا: هي جعالة؛ لأنها جائزة، وليس له ذلك إن قلنا: هي إجارة، ويكره للأمين مدح أحدهما أو زجره؛ لأن فيه كسر قلبه أو قلب صاحبه. [ باب اللقطة ] وهي المال المضاع عن ربه وهي ضربان: ضال وغيره، فأما غير الضال فيجوز التقاطه بالإجماع، وهو نوعان: يسير يباح التصرف فيه بغير تعريف؛ لما روى جابر قال: «رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به» رواه أبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 ولا تحديد في اليسير إلا أنه ينبغي أن يعفى عما رخص فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث وشبهه، وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما كان مثل التمرة والكسرة والخرقة، وما لا خطر له؛ فلا بأس، ويحتمل أن لا يجب تعريف ما لا يقطع فيه السارق؛ لأنه تافه. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه. والنوع الثاني: الكثير؛ فظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ترك التقاطه أفضل؛ لأنه أسلم من خطر التفريط، وتضييع الواجب من التعريف، فأشبه ولاية اليتيم، واختار أبو الخطاب: أن أخذه أفضل إذا وجد بمضيعة، وأمن نفسه عليه، لما فيه من حفظ مال المسلم، فكان أولى كتخليصه من الغرق، ولا يجب أخذه؛ لأنه أمانة، فلم يجب كالوديعة، ومن لم يأمن نفسه عليه، ويقوى على أداء الواجب، لم يجز له أخذه؛ لأنه تضييع لمال غيره، فحرم كإتلافه. فصل: إذا أخذها، عرف عفاصها، وهو: وعاؤها. ووكاءها وهو: الذي تشد به، وجنسها وقدرها؛ لما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لقطة الذهب والورق فقال: «اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف، فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه» متفق عليه. نص على الوكاء والعفاص، وقسنا عليهما القدر والجنس، ولأنه إذا عرف هذه الأشياء، لم تختلط بغيرها، وعرف بذلك صدق مدعيها، أو كذبه، وإن أخر معرفة صفتها إلى مجيء مدعيها، أو تصرفه فيها جاز؛ لأن المقصود يحصل، وقد جاء ذلك في حديث أبي. ولا يحل له التصرف فيها إلا بعد معرفة صفتها؛ لأن عينها تذهب، فلا يعلم صدق مدعيها إلا من حفظ صفتها، ويستحب أن يشهد عليها، نص عليه؛ لما روى عياض بن حمار: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجد لقطة فليشهد ذا عدل، أو ذوي عدل، ولا يكتم ولا يغيب» رواه أبو داود. ولأن فيه حفظها من ورثته إن مات وغرمائه إن أفلس، وصيانته من الطمع فيها، ولا يجب ذلك لتركه في حديث زيد، ولأنه أمانة فلا يجب الإشهاد عليها كالوديعة، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا يبين في الإشهاد كم هي، لكن يقول: أصبت لقطة. فصل: ويجب تعريفها، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، ولأنه طريق وصولها إلى صاحبها فوجب كحفظها، ويجب التعريف حولًا من حين التقاطها متواليًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر به عند وجدانها، والأمر يقتضي الفور، ولأن الغرض وصول الخبر وظهور أمرها، وإنما يحصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 بذلك؛ لأن صاحبها إنما يطلبها عقيب ضياعها، ويكون التعريف في مجامع الناس، كالأسواق وأبواب المساجد، وأوقات الصلوات؛ لأن المقصود إشاعة أمرها، وهذا طريقه، ويكثر منه في موضع وجدانها، وفي الوقت الذي يلي التقاطها، ولا يعرفها في المسجد؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله تعالى عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا» رواه مسلم. ويقول: من ضاع منه كذا، يذكر جنسها: أو يقول: شيء ولا يزيد في صفتها؛ لئلا يفوت طريق معرفة صاحبها، وأجرة المعرف على الملتقط؛ لأن التعريف عليه، ولأنه سبب تملكها، فكان على متملكها، قال أبو الخطاب: إن التقطها للحفظ لصاحبها لا غير، فالأجرة على مالكها يرجع بها عليه. وقاله ابن عقيل فيما لا يملك بالتعريف. فصل: فإذا جاء مدعيها، فوصفها بصفاتها المذكورة، لزم دفعها إليه؛ لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، ولأنها لو لم تدفع بالصفة لتعذر وصول صاحبها إليها، لتعذر إقامة البينة، فإن وصفها اثنان، أقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف وسلمت إليه، كما لو ادعى الوديعة اثنان، وقال أبو الخطاب: تقسم بينهما، وإن وصفها أحدهما وللآخر بينة، قدم ذو البينة؛ لأنها أقوى من الوصف، فإن كان الواصف سبق فأخذها نزعت منه، وإن تلفت في يده، فلصاحبها تضمين من شاء منهما؛ لأن الواصف أخذ مال غيره بغير إذنه، والملتقط دفعه إليه بغير إذن مالكه، ويستقر الضمان على الواصف؛ لأن التلف حصل في يده، فإن ضمن لم يرجع على أحد، وإن ضمن الملتقط رجع عليه، إلا أن يكون الملتقط دفعها بحكم حاكم، فلا يضمن؛ لأنها تؤخذ منه قهرًا. وإن أتلفها الملتقط، فغرمه الواصف عوضها، ثم جاء صاحب البينة، لم يرجع إلا على الملتقط؛ لأن الواصف إنما أخذ مال الملتقط ولم يأخذ اللقطة، ثم يرجع الملتقط على الواصف. فصل: فإن لم تعرف، دخلت في ملك الملتقط عند الحول حكمًا، كالميراث؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث زيد: «وإن لم تعرف فاستنفقها» وفي لفظ: «وإلا فهي كسبيل مالك» ولأنه كسب مال بفعل، فلم يعتبر فيه اختيار التملك كالصيد. واختار أبو الخطاب: أنه لا يملكها إلا باختياره؛ لأنه تملك مال ببدل، فاعتبر فيه اختيار التملك، كالبيع. والغني والفقير سواء في هذا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق، ولأنه تملك مال بعوض، أشبه البيع. فصل: وما جاز التقاطه ووجب تعريفه، ملك به، نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 الصياد يقع في شبكته الكيس والنحاس يعرفه سنة، فإن جاء صاحبه، وإلا فهو كسائر ماله. وهذا ظاهر كلام الخرقي. وقال أكثر أصحابنا: لا يملك غير الأثمان؛ لأن الخير ورد فيها، ومثلها لا يقوم مقامها من كل وجه؛ لعدم تعلق الغرض بعينها، فلا يقاس عليها غيرها، وقال أبو بكر: ويعرفها أبدًا، وقال القاضي: هو مخير بين ذلك، وبين دفعها إلى الحاكم. وقال الخلال: كل من روى عن أبي عبد الله أنه يعرفها سنة، ثم يتصدق بها، والذي نقل عنه أنه يعرفها أبدًا، قول قديم رجع عنه، والأول أولى؛ لما روى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «أتى رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، كيف ترى في متاع يوجد في الطريق الميتاء، أو في قرية مسكونة؟ قال: عرفه سنة، فإن جاء صاحبه، وإلا فشأنك به» رواه الأثرم. «وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في عيبة - والعيبة: هي وعاء من أدم توضع فيه الثياب -: عرفها سنة، فإن عرفت وإلا، فهي لك. أمرنا بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، ولأنه مال يجوز التقاطه، ويجب تعريفه فملك به، كالأثمان وقد دل الخبر على جواز أخذ الغنم مع تعلق الغرض بعينها، فيقاس عليها غيرها. فصل: ولقطة الحرم تملك بالتعريف في ظاهر كلامه، لظاهر الخبر، ولأنه أحد الحرمين أشبه المدينة، وعنه: لا تملك بحال، ويجب تعريفها أبدًا أو يدفعها إلى الحاكم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة: «لا تحل ساقطتها إلا لمنشد» متفق عليه. فصل: واللقطة مع الملتقط قبل تملكها أمانة، عليه حفظها بما يحفظ به الوديعة، وإن ردها إلى موضعها، ضمنها؛ لأنه ضيعها، وإن تلفت بغير تفريط، لم يضمنا؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولتكن الوديعة وديعة عندك» ولأنه يحفظها لصاحبها بإذن الشرع، أشبه الوديعة، وإن جاء صاحبها، أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة؛ لأنها ملكه، وإن جاء بعد تملكها أخذها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه» ويأخذها بزيادتها المتصلة؛ لأنها تتبع في الفسوخ، وزيادتها المنفصلة بعد تملكها لملتقطها؛ لأنها حدثت على ملكه، فأشبه نماء المبيع في يد المشتري، فإن تلفت بعد تملكها، ضمنها؛ لأنها تلفت من ماله، وإن نقصت بعد التملك، فعليه أرش نقصها، وإن باعها أو وهبها بعد تملكها، صح؛ لأنه تصرف صادف ملكه، فإن جاء صاحبها في مدة الخيار، وجب فسخ البيع وردها إليه؛ لأنه يستحق العين، وقد أمكن ردها إليه، وإن جاء بعد لزوم البيع، فهو كتلفها؛ لأنه تعذر ردها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 فصل: الضرب الثاني: الضوال، وهي الحيوانات الضائعة، وهى نوعان: أحدهما: ما يمتنع من صغار السباع إما بقوته: كالإبل والخيل، أو بجناحه: كالطير، أو بسرعته: كالظباء، أو بنابه: كالفهد، فلا يجوز التقاطه؛ لما روى زيد بن خالد: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ضالة الإبل، فقال: ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها ربها» متفق عليه. وللإمام أخذها، ليحفظها لأربابها؛ لأن للإمام ولاية في حفظ أموال المسلمين، ولهذا كان لعمر حظيرة يحفظ فيها الضوال، فإذا أخذها، وكان له حمى ترعى فيه، تركها، وأشهد عليها، ورسمها بسمة الضوال، وإن لم يكن له حمى، خلاها وحفظ صفاتها، ثم باعها، وحفظ ثمنها لصاحبها؛ لأنها تحتاج إلى علف، فربما استغرق ثمنها، وإن أخذها غير الإمام أو نائبه ضمنها ولم يملكها، وإن عرفها، فإن دفعها إلى الإمام برئ من ضمانها؛ لأنه دفعها إلى من له الولاية عليها، أشبه دفعها إلى صاحبها، وإن ردها إلى موضعها، لم يبرأ؛ لأن ما لزمه ضمانه، لا يبرأ منه إلا برده إلى صاحبه أو نائبه كالمسروق. فصل: النوع الثاني: ما لا ينحفظ عن صغار السباع، كالشاة وصغار الإبل والبقر ونحوها، فعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز التقاطها؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يئوي الضالة إلا ضال» رواه أبو داود. ولأنه حيوان أشبه الإبل. والمذهب جواز التقاطها؛ لما روى زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الشاة، فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب» متفق عليه. وهذا يخص عموم الحديث الآخر، ولأنه يخشى عليها التلف، أشبه غير الضالة، وسواء وجدها في المصر أو في مهلكة؛ لأن الحديث عام فيهما، ولأنه مال يجوز التقاطه، فاستويا فيه، كالأثمان، والعبد الصغير، كالشاة في جواز التقاطه؛ لأنه لا ينحفظ بنفسه، فأما الحمر فألحقها أصحابنا في النوع الأول؛ لأن لها قوة، فأشبهت البقر، وظاهر حديث زيد إلحاقها بالغنم؛ لأنه علل أخذ الشاة بخشية الذئب عليها، والحمر مثلها في ذلك، وعلل المنع من الإبل بقوتها على ورود الماء، وصبرها بقوله: «معها سقاءها» والحمر بخلافها. ومتى التقط هذا النوع خير بين أكله في الحال، وحفظه لصاحبه وبيعه، وحفظ ثمنه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هي لك» ولم يأمر هـ بحفظها، ولأن إبقاءها يحتاج إلى غرامة، ونفقة دائمة فيستغرق قيمتها، فإن اختار إبقاءها وحفظها لصاحبها، فهو الأولى متفق عليه. وينفق عليها؛ لأن به بقاءها، فإن لم يفعل ضمنها؛ لأنه فرط فيها، وإن أنفق عليها متبرعًا، لم يرجع على صاحبها، وإن نوى الرجوع على صاحبها، وأشهد على ذلك، ففي الرجوع به روايتان، بناء على الوديعة، وإن اختار أكلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 أو بيعها، لزمه حفظ صفتها، ثم يعرفها عامًا، فإذا جاء صاحبها، دفع إليه ثمنها، أو غرمه له إن أكلها، ولا يلزمه عزل ثمنها إذا أكلها؛ لأنه لا يخرج من ذمته بعزله، فلم يلزمه كسائر ما يلزمه ضمانه، وإن أراد بيعها، فله أن يتولى ذلك بنفسه؛ لأن ما ملك أكله، فبيعه أولى. فإذا عرفها حولًا، ولم تعرف، ملكها إن كانت باقية، أو ثمنها إن باعها؛ لأن حديث زيد يدل على ملكه لها؛ لأنه أضاف إليها بلام التمليك، ولأنه مال يجوز التقاطه، فيملك بالتعريف، كالأثمان. وعنه: لا يملكها، والمذهب الأول. فصل: فإن التقط ما لا يبقى عامًا، كالبطيخ والطبيخ، لم يجز تركه ليتلف، فإن فعل ضمنه؛ لأنه فرط في حفظه، فإن كان مما لا يبقى بالتجفيف، كالبطيخ خير بين بيعه وأكله، وإن كان يبقى بالتجفيف، كالعنب والرطب، فعل ما فيه الحظ لصاحبه من بيعه وأكله وتجفيفه، فإن احتاج في التجفيف إلى غرامة، باع بعضه فيها، وإن أنفقها من عنده، رجع بها؛ لأن النفقة هاهنا لا تتكرر بخلاف نفقة الحيوان، فإنها تتكرر، فربما استغرقت قيمته، فلا يكون لصاحبها حظ في إمساكها إلا بإسقاط النفقة عنه، وإن أراد بيعها، فله البيع بنفسه لما ذكرنا في الضوال. وعنه: له بيع اليسير، وأما الكثير، فإنه يرفعه إلى السلطان، والقول في تعريفه، وسائر أحكامه كالقول في الشاة. فصل: قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من اشترى سمكة، فوجد في بطنها درة، فهي للصياد، وإن وجد دراهم، فهي لقطة؛ لأنها لا تبتلع الدراهم إلا بعد ثبوت اليد عليها، وقد تبتلع درة من البحر مباحة، فيملكها الصياد بما فيها، فإن باعها ولم يعلم بالدرة، لم يزل ملكه عن الدرة، كما لو باع دارًا له فيها مال لم يعلم به. فصل: فإن وجد اللقطة اثنان، فهي بينهما؛ لأنهما اشتركا في السبب، فاشتركا في الحكم، وإن ضاعت من واجدها، فوجدها آخر ردها على الأول؛ لأنه قد ثبت له الحق فيها، فوجب ردها إليه كالملك، وإن رآها اثنان، فرفعها أحدهما فهي له؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو له» وإن رآها أحدهما فقال للآخر: ارفعها ففعل، فهي لرافعها؛ لأنه مما لا يصح التوكيل فيه. فصل: فإن التقطها صبي أو مجنون أو سفيه، صح التقاطه؛ لأنه كسب بفعل، فصح منه كالصيد، فإن تلفت في يده بغير تفريط لم يضمنها؛ لأنه أخذ ماله، وإن تلفت بتفريط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ضمنها، ومتى علم وليه بها، لزمه نزعها منه وتعريفها؛ لأنها أمانة، والمحجور عليه ليس من أهلها، فإن تم تعريفها، دخلت في ملك واجدها حكمًا، كالميراث. فصل: ويصح التقاط العبد بغير إذن سيده؛ لعموم الخبر، ولما ذكرنا في الصبي، ويصح تعريفه لها؛ لأن له قولًا صحيحًا، فصح تعريفه كالحر، فإذا تم تعريفها ملكها سيده؛ لأنها كسب عبده، ولسيده انتزاعها منه قبل تعريفها؛ لأن كسب عبده له، ويتولى تعريفها أو إتمامه، وله إقرارها في يد عبده الأمين، ويكون مستعينًا به في حفظها وتعريفها، ولا يجوز إقراراها في يد من ليس بأمين؛ لأنها أمانة وإن فعل، فعليه الضمان، وإن علم العبد أن سيده غير مأمون عليها، لزمه سترها عنه، وتسليمها إلى الحاكم ليعرفها، ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان، وإن أتلفها العبد، فحكم ذلك حكم جنايته، وإن عتق العبد بعد الالتقاط، فلسيده أخذها؛ لأنها كسبه. فصل: والمكاتب كالحر؛ لأن كسبه لنفسه، والمدبر وأم الولد كالقن، ومن نصفه حر فلقطته بينه وبين سيده ككسبه، فإن كانت بينهما مهايأة، لم تدخل في المهايأة في أحد الوجهين؛ لأنهما من الأكساب النادرة، فأشبهت الميراث، والآخر تدخل؛ لأنها من كسبه فهي كصيده، وفي الهدية والوصية وسائر الأكساب النادرة وجهان كاللقطة. فصل: والذمي كالمسلم للخبر، ولأنه كسب يصح من الصبي، فصح من الذمي كالصيد، والفاسق كالعدل لذلك، لكن إن أعلم الحاكم بهما، ضم إليه أمينًا يحفظها، ويتولى تعريفها؛ لأنها أمانة، فلا يؤمن خيانته فيها، فإذا عرفها، ملكها ملتقطها. فصل: ومن التقط لقطة لغير التعريف، ضمنها ولم يملكها، وإن عرفها؛ لأنه أخذها على وجه يحرم عليه، فلم يملكها كالغاصب، ومن ترك التعريف في الحول الأول، لم يملكها وإن عرفها بعد؛ لأن السبب الذي يملكها به قد فات، ولم يبرأ منها إلا بتسليمها إلى الحاكم. فصل: ومن ترك دابة بمهلكة، فأخذها إنسان، فخلصها ملكها؛ لما روى الشعبي قال: حدثني غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ومن وجد دابة عجز عنها أهلها فسيبوها، فأخذها فأحياها فهي له» ولأن فيه إنقاذا للحيوان من الهلاك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 مع نبذ صاحبه له، فأشبه السنبل الساقط، فإن كان مكانها عبدًا، لم يملكه؛ لأنه في العادة يمكنه التخلص، وإن كان متاعًا، لم يملكه؛ لأنه لا حرمة له في نفسه. [ باب اللقيط ] وهو الطفل المنبوذ، والتقاطه فرض على الكفاية؛ لأنه إنجاء آدمي من الهلاك فوجب، كتخليص الغريق، وهو محكوم بحريته؛ لما روى سنين أبو جميلة قال: وجدت ملقوطًا، فأتيت به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته، رواه سعيد في سننه. ولأن الأصل في الآدميين الحرية، ويحكم بإسلامه في دار الإسلام إذا كان فيها مسلم؛ لأنه اجتمع الدار وإسلام من فيها، وإن وجد في بلد فيه كفار، ولا مسلم فيه فهو كافر؛ لأن الظاهر أنه ولد كافرين، وإن وجد في بلد الكفار، وفيه مسلمون، ففيه وجهان: أحدهما: هو كافر، لأنه في دارهم. والثاني: هو مسلم تغليبًا لإسلام المسلم الذي فيه. فصل: وما يوجد عليه من ثياب أو حلي، أو تحته من فراش أو سرير أو غيره، أو في يده من نفقة أو عنان دابة، أو مشدودا في ثيابه، أو ببعض جسده، أو مجعولًا فيه، كدار وخيمة، فهو له؛ لأنه آدمي حر فما في يده له كالبالغ، وإن كان مطروحًا بعيدًا منه، أو قريبًا مربوطًا بغيره، لم يكن له؛ لأنه لا يد له عليه، وكذلك المدفون تحته؛ لأن البالغ لو جلس على دفين، لم يكن له. وقال ابن عقيل: وإن كان الحفر طريًا فهو له؛ لأن الظاهر أنه حفر النابذ له، وإن وُجِدَ بقربه مال موضوع، ففيه وجهان: أحدهما: هو له إن لم يكن له غيره؛ لأن الإنسان يترك ماله بقربه. والثاني: ليس هو له؛ لأنه لا يد له عليه. فصل: وينفق عليه من ماله؛ لأنه حر فينفق عليه من ماله كالبالغ، ويجوز للولي الإنفاق عليه من غير إذن الحاكم؛ لأنه ولي فملك ذلك، كولي اليتيم، ويستحب استئذانه؛ لأنه أنفى للتهمة، فإن بلغ واختلفا في النفقة، فالقول قول المنفق. وإن لم يكن له مال فنفقته في بيت المال؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعلينا نفقته، ولأنه آدمي حر له حرمة، فوجب على السلطان القيام به عند حاجته كالفقير، وليس على الملتقط نفقته؛ لحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 عمر، ولأنه لا نسب بينهما، ولا ملك فأشبه الأجنبي. وإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال، فعلى من علم حاله الإنفاق عليه فرض كفاية؛ لأن به بقاءه فوجب، كإنقاذ الغريق، فإن اقترض الحاكم ما أنفق عليه، ثم بان رقيقًا، أو له أب موسر، رجع عليه؛ لأنه أدى الواجب عنه، فإن لم يظهر له أحد، وفي من بيت المال. فصل: فإن كان الملتقط أمينًا حرًا مسلمًا، أقر في يده؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه لا بد له من كافل، والملتقط أحق للسبق، وفي الإشهاد عليه وجهان: أحدهما: لا يجب، كما لا يجب في اللقطة. والثاني: يجب؛ لأن القصد به حفظ النسب والحرية فوجب، كالإشهاد في النكاح، وإن التقطه فاسق، نزع منه؛ لأنه ليس في حفظه إلا الولاية، ولا ولاية لفاسق. قال القاضي: هذا المذهب، وظاهر قول الخرقي، أنه يُقَرّ في يده؛ لقوله: إن لم يكن من وجد اللقيط أمينًا منع من السفر به. فعلى هذا يضم إليه أمين يشارفه، ويشهد عليه، ويشيع أمره، لينحفظ بذلك، وليس لكافر التقاط محكوم بإسلامه؛ لأنه لا ولاية لكافر على مسلم، فإن التقطه، نزع منه، وله التقاط المحكوم بكفره، ويقر في يده؛ لثبوت ولايته عليه، وليس للعبد الالتقاط إلا بإذن سيده، فتكون الولاية للسيد، والعبد نائب عنه. فصٍٍل: فإن أراد الملتقط السفر به، وهو ممن لم تختبر أمانته في الباطن، نزع منه؛ لأنه ما لا يؤمن أن يدعي رقه. وإن علمت أمانته باطنًا فأراد نقله من الحضر إلى البدو، منع منه؛ لأنه ينقله إلى العيش في الشقاء ومواضع الجفاء. وإن أراد النقلة إلى بلد آخر يقيم فيه، ففيه وجهان: أحدهما: يقر في يده لأنهما سواء فيما ذكرنا. والثاني: يمنع منه؛ لأن بقاءه في بلده أرجى لظهور نسبه، وإن كان اللقيط في بدو، فله نقله إلى الحضر؛ لأنه أرفق به، وله الإقامة به في البدو. وفي حلة لا تنتقل عن مكانها؛ لأن الحلة كالقرية، وإن كان متنقلًا، ففيه وجهان: أحدهما: يقر في يده؛ لأنه أرجى لكشف نسبه. والثاني: ينزع منه؛ لأنه يشقى بالتنقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 فصل: فإن التقطه موسر ومعسر، قدم الموسر؛ لأنه أحظ للطفل، فإن تساويا وتشاحا، أقرع بينهما؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] ، ولأنهما تساويا في الحق، فأقرع بينهما، كالعبدين في العتق، وإن ترك أحدهما نصيبه، كلفه الآخر، والرجل والمرأة في هذا سواء؛ لأن المرأة أجنبية، والرجل يحضنه بأجنبية، فهما سواء. فصل: فإن اختلفا في الملتقط، وهو في يد أحدهما، فالقول قوله، وهل يستحلف؟ فيه وجهان. وإن كان في يديهما، قدم أحدهما بالقرعة. وهل يستحلف؟ على وجهين. وإن لم يكن في يد واحد منهما، سلمه السلطان إلى من يرى منهما، أو من غيرهما؛ لأنه لا يد لأحدهما. وإن كان لأحدهما بينة، قضى بها؛ لأنها أقوى، فإن كانت لكل واحد منهما بينة، قدم أسبقهما تاريخًا؛ لأنه يثبت بها السبق إلى الالتقاط، وإن تساويا وهو في يد أحدهما انبنى على بينة الداخل والخارج، وإن تساويا في اليد أو عدمها، سقطتا وأقرع بينهما، فقدم بها أحدهما. فصل: وإن ادعى نسبه رجل لحق به؛ لأنه أقر له بحق لا ضرر فيه على أحد فقبل، كما لو أقر له بمال، ويأخذ من الملتقط إن كان من أهل الكفالة؛ لأن الوالد أحق بكفالة ولده، وإن كان كافرًا، لم يتبعه في الدين؛ لأنه محكوم بإسلامه بالدار، فلا يزول ذلك بدعوى كافر، ولا يدفع إليه؛ لأنه لا ولاية لكافر على مسلم، ويثبت نسبه منه؛ لأن الكافر كالمسلم في ثبوت النسب منه، ولا ضرر على أحد في انتسابه إليه، وإن كانت له بينة بولادته على فراشه، ألحق به نسبًا ودينًا؛ لأنه ثبت أنه ابنه ببينة، ذكره بعض أصحابنا، وقياس المذهب أنه لا يلحقه في الدين إلا أن تقوم البينة أنه ولد كافرين حيين؛ لأن الطفل يحكم بإسلامه بإسلام أحد أبويه أو موته، وإن ادعت امرأة نسبه، ففيها ثلاث روايات: إحداهن: يقبل قولها؛ لأنها أحد الأبوين، فثبت النسب بدعواها كالأب، ويلحق بها دون زوجها. والثانية: إن كان لها زوج، لم تقبل دعواها؛ لأنه يؤدي إلى أن تلحق بزوجها نسبًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 لم يقر به، أو ينسب إليها ما تتعد به وإن لم يكن، قبل لعدم ذلك. والثالثة: إن كان لها إخوة ونسب معروف، لم تقبل دعوتها؛ لأن ولادتها لا تخفى عليهم وإن لم يكن قبلت. والأمة كالحرة، إلا أننا إذا ألحقنا النسب بها، لم يثبت رق ولدها؛ لأنه محكوم بحريته، فلا يثبت رقه بمجرد الدعوى، كما لم يثبت كفره. فصل: فإن ادعى نسبه رجلان، ولأحدهما بينة، فهو ولده؛ لأن له حجة، فإن كان لهما بينتان، أو لا بينة لهما، عرض على القافة معهما، أو من عصبتهما عند فقدهما، فإن ألحقته بأحدهما، ألحق به؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززًا المدلجي نظر آنفًا إلى زيد وأسامة، وقد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» متفق عليه. فلولا أن ذلك حق، لما سر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن ألحقته بهما لحقهما، لما روى سليمان بن يسار: عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه، فجعله عمر بينهما رواه سعيد. وعن علي مثله. قال أحمد: ويرثهما ويرثانه، ونسبه من الأول قائم لا يزيله شيء، قال: ويلحق بثلاثة، وينبغي أن يلحق بمن ألحقه منهم وإن كثروا؛ لأن المعنى في الاثنين موجود فيما زاد فيقاس عليه، وقال القاضي: لا يلحق بأكثر من ثلاثة. وقال ابن حامد: لا يلحق بأكثر من اثنين؛ لأننا صرنا إلى ذلك للأثر، فيجب أن نقتصر عليه. فإن لم توجد قافة، أو أشكل عليهم، أو نفته عنهما، أو تعارضت أقوالهما، فقال أبو بكر: يضيع نسبه؛ لأنه لا دليل لأحدهما، فأشبه من لم يدع نسبه أحد. وقال ابن حامد: يترك حتى يبلغ، ويؤاخذان بنفقته؛ لأن كل واحد منهما مقر به، فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه؛ لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن الطبع يميل إلى الوالد ما لا يميل إلى غيره. فإذا تعذرت القافة، رجعنا إلى اختياره. ولا يصح انتسابه قبل بلوغه؛ لأنه قول يتعين به النسب، وتلزم به الأحكام، فلا يقبل من الصبي، كقول القائف. وسواء كان المدعيان مسلمين حرين، أو كافرين رقيقين، أو مسلمًا وكافرًا، وحرًا وعبدًا؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد صحت دعواه؛ فإن ادعاه امرأتان، وقلنا بصحة دعوتيهما، فهما كالرجلين، إلا أنه لا يلحق بأكثر من واحدة؛ لأنه يستحيل ولد من أنثيين، وإن كانت إحداهما تسمع دعواها دون الأخرى، فهي كالمنفردة به، وإن ألحقته القافة بكافر وأمة، لم يحكم برقه ولا كفره؛ لأنه ثبت إسلامه وحريته بظاهر الدار، فلا يزول ذلك بظن ولا شبهة، كما لم تزل بمجرد الدعوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 فصل: فإن كان لامرأتين وابن وبنت، فادعت كل واحدة أنها أم الابن، احتمل أن يعرض معهما على القافة، واحتمل أن يعرض لبنهما على أهل الخبرة، فمن كان لبنها لبن ابن، فهو ابنها. وقد قيل: إن لبن الابن ثقيل، ولبن البنت خفيف، فيعتبر ذلك. ٍفصل: والقافة: قوم من العرب عرفت منهم الإصابة في معرفة الأنساب، واشتهر ذلك في بني مدلج رهط مجزز، وسراقة بن مالك بن جعشم، ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون ذكرًا عدلًا مجربًا في الإصابة؛ لأن ذلك يجري مجرى الحكم، فاعتبر ذلك فيه. قال القاضي: يترك الغلام مع عشرة غير مدعيه، ويرى القائف، فإن ألحقه بأحدهم سقط قوله، وإن نفاه عنهم، جعلناه مع عشرين فيهم مدعيه. فإن ألحقه بمدعيه، علمت إصابته. وهل يكتفى بواحد؟ فيه وجهان: أحدهما: يكتفى به؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُرَّ بقول مجزز وحده؛ لأنه بمنزلة الحاكم يجتهد ويحكم، كما يجتهد الحاكم ويحكم. والثاني: لا يقبل إلا اثنان؛ لأنه حكم بالشبه والخلقة، فلا يقبل من واحد، كالحكم بالمثل في جزاء الصيد. فصل: فإن ادعى رجل رقه لم يقبل؛ لأن الأصل الحرية، فإن شهدت له بينة بالملك قبلت، وإن لم يذكر السبب، كما لو شهدت له بملك مال. وإن شهدت باليد للملتقط، لم يحكم له بالملك؛ لأن سبب يده قد علم. وإن شهدت بها لغيره ثبت. والقول قوله في الملك مع يمينه كما لو كان في يده مال فحلف عليه. فصل: ومن حكمنا بإسلامه لإسلام أحد أبويه، أو موته، أو إسلام سابيه، فحكمه حكم سائر المسلمين في حياته وموته، ووجوب القود على قاتله قبل البلوغ أو بعده، وإن كفر بعد بلوغه، فهو مرتد يستتاب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه محكوم بإسلامه يقينًا، فأشبه غيره من المسلمين، ومن حكمنا بإسلامه للدار وهو اللقيط فكذلك؛ لأنه محكوم بإسلامه ظاهرًا، فهو كالثابت يقينًا، وذكر القاضي وجهًا آخر: أنه يقر على كفره؛ لأنه لم يثبت إسلامه يقينًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 فصل: فإن بلغ اللقيط فقذفه إنسان، أو جنى عليه، أو ادعى رقه، فكذّبه اللقيط، فالقول قول اللقيط؛ لأنه حر في الحكم، ويحتمل أن يقبل قول المدعي في درء حد القذف خاصة؛ لأنه مما يدرأ بالشبهات، بخلاف القصاص. فصل: وإن بلغ فتصرف، ثم ثبت رقه، فحكم تصرفه حكم تصرف العبيد؛ لأنه ثبت أنه مملوك، وإن أقر بالرق على نفسه بعد أن كان أقر بالحرية، لم يقبل إقراره بالرق؛ لأنه قد لزمه بالحرية أحكام من العبادات والمعاملات، فلم يملك إسقاطها، وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية، وكذبه المقر له، بطل إقراره؛ لأنه لا يثبت رقه لمن لا يدعيه، فإن أقر بعده لغيره قبل، كما لو أقر له بمال، ويحتمل أن لا يقبل؛ لأن في إقراره الأول اعترافًا بأنه ليس لغيره، فلم يقبل رجوعه عنه، كما لا يقبل رجوعه عن الحرية، وإن صدقه الأول، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأنه محكوم بحريته، فلا يقبل إقراره بما يبطلها، كما لو أقر بها. والثاني: يقبل؛ لأنه مجهول الحال أقر بالرق فقبل، كما لو قدم رجلان من دار الحرب، فأقر أحدهما لصاحبه بالرق، فعلى هذا يحتمل أن يقبل إقراره في جميع أحكامه؛ لأنه معنى يثبت الرق، فأثبته في جميع أحكامه كالبينة، ويحتمل أن يقبل فيما عليه دون ما له؛ لأنه أقر بما يوجب حقًا له وعليه، فيثبت ما عليه دون ما له، كما لو قال: لفلان علي ألف على رهن لي عنده، فإن قلنا بالأول وكان قد نكح، فهو فاسد، حكمه حكم ما لو تزوج العبد أو الأمة بغير إذن سيده. وإن تصرف بغير النكاح، فسدت عقوده كلها، وترد الأعيان إلى أربابها إن كانت باقية، وإن كانت تالفة، ثبتت قيمتها في ذمته؛ لأنها ثبتت برضا أصحابها، وإن قلنا: لا يقبل في ما له وهي أمة، فنكاحها صحيح، ولا مهر لها إن كان قبل الدخول، وإن كان بعده، فلها الأقل من المسمى، أو مهر المثل، ولزوجها الخيار بين المقام معها على أنها أمة، أو فراقها إن كانت ممن يجوز له نكاح الأمة؛ لأنه قد ثبت كونها أمة في المستقبل، وإن كان المقر ذكرًا، فسد نكاحه، لإقراره أنه عبد، نكح بغير إذن سيده، وحكمه حكم الحر في وجوب المسمى، أو نصفه إن كان قبل الدخول، ولا تبطل عقوده، وما عليه من الحقوق والأثمان، يؤدى مما في يده، وما فضل ففي ذمته، وما فضل معه فلسيده. وإن جنى جناية توجب القصاص، اقتص منه، حرًا كان المجني عليه أو عبدًا. وإن كانت خطأ تعلق أرشها برقبته؛ لأنه عبد، وإن جنى عليه حر، فلا قود؛ لأنه عبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 [ باب الوديعة ] قبول الوديعة مستحب لمن علم من نفسه الأمانة، لما فيه من قضاء حاجة أخيه ومعونته، وقد أمر الله تعالى ورسوله بهما. وإن كان عاجزًا عن حفظها، أو خائفًا من نفسه عليها، لم يجز له قبولها؛ لأنه يغرر بها إلا أن يخبر ربها بذلك فيرضاه، فإن الحق له، فيجوز بذله، ولا يجوز قبولها إلا من جائز التصرف في المال، فإن استودع من صبي غير مأذون له، أو سفيه، أو مجنون ضمن؛ لأنه أخذ ماله من غير إذن شرعي فضمنه كما لو غصبه. ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى وليه، كما لو غصبه إياه. فإن خاف أنه إن لم يأخذ منهم أتلفوه، لم يضمنه إن أخذه؛ لأنه قصد تخليصه من الهلاك فلم يضمنه، كما لو وجده في سيل فأخرجه منه. فصل: والوديعة أمانة إذا تلفت من غير تفريط، لم يضمن المودع بالإجماع؛ لما روى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المستودع ضمان» فإن تلفت من بين ماله، ففيها روايتان؛ أظهرهما: لا يضمن للخبر، ولأنه أمين لم تظهر منه خيانة، فلم يضمن، كما لو ذهب معها شيء من ماله. والأخرى: يضمن؛ لأنه روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ضمن أنسًا وديعة، ذهبت من بين ماله. فصل: فإن لم يعين لها صاحبها الحرز؛ لزمه حفظها في حرز مثلها، فإن أخر إحرازها فتلفت ضمنها؛ لتركه الحفظ من غير عذر، وإن تركها في دون حرز مثلها ضمن؛ لأن الإيداع يقتضي الحفظ، فإذا أطلق، حمل على المتعارف، وهو حرز المثل، وإن أحرزها في حرز مثلها أو فوقه لم يضمن؛ لأن من رضي بحرز مثلها رضي بما فوقه. فصل: فإن عين له الحرز، فقال: أحرزها في هذا البيت، فتركها فيما دونه ضمن؛ لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 لم يرضه، وإن تركها في مثله، أو أحرز منه فقال القاضي: لا يضمن؛ لأن من رضي شيئًا رضي مثله وفوقه. وظاهر كلام الخرقي: أنه يضمن؛ لأنه خالف أمره لغير حاجة، فأشبه ما لو نهاه؛ فإن قال: احفظها في هذا البيت ولا تنقلها عنه، فنقلها لغير حاجة، ضمنها سواء نقلها إلى مثله، أو أحرز منه؛ لأنه خالف نص صاحبها، وإن خاف عليها نهبًا أو هلاكًا وأخرجها، لم يضمنها؛ لأن النهي للاحتياط عليها، والاحتياط في هذه الحال نقلها، فإن تركها فتلفت ضمنها؛ لأنه فرط في تركها. ويحتمل أن لا يضمن؛ لأنه امتثل أمر صاحبها، فإن قال: لا تخرجها، وإن خفت عليها، فأخرجها لخوفه عليها، لم يضمن؛ لأنه زاده خيرًا، وإن تركها فتلفت لم يضمن؛ لأن نهيه مع خوف الهلاك إبراء من الضمان، فأشبه ما لو أمره بإتلافها فأتلفها، فإن أخرجها فتلفت، فادعى أنني أخرجتها خوفًا عليها، فعليه البينة على ما ادعى وجوده من تلك الناحية؛ لأنه مما لا يتعذر إقامة البينة عليه، ثم القول قوله في خوفه عليها، وفي التلف مع يمينه لتعذر إقامة البينة عليها، فإن قال: لا تقفل عليها قفلين، ولا تنم فوقها فخالفه؛ فالمذهب أنه لا يضمن؛ لأنه زاد في الحرز، فأشبه ما لو قال له: اتركها في صحن الدار، فتركها في البيت، ويحتمل أن يضمن؛ لأنه نبه اللص عليها وأغراه بها. فصل: فإن أودع نفقة، فربطها في كمه، لم يضمن، وإن تركها فيها بغير رباط، وكانت خفيفة لا يشعر بسقوطها ضمن لتفريطه. وإن كانت ثقيلة يشعر بها لم يضمن، وإن تركها في جيبه أو شدها على عضده لم يضمنها؛ لأن العادة جارية بالإحراز بهما. وإن قال: اربطها في كمك، فأمسكها في يده ضمن؛ لأن اليد يسقط منها الشيء بالنسيان، ويحتمل أن لا يضمن؛ لأن اليد لا يتسلط عليها الطرار بالبط. وقال القاضي: اليد أحرز عند المغالبة، والكم أحرز عند غيرها، فإن تركها في يده عند المغالبة، فلا ضمان عليه؛ لأنه زادها احتياطًا، وإلا ضمنها لنقلها إلى أدنى مما أمره به، وهذا صحيح. وإن قال: اجعلها في كمك، فتركها في جيبه، لم يضمن؛ لأنه أحرز، لأنه ربما نسي، فسقطت من الكم، وإن قال: اجعلها في جيبك، فتركها في كمه، ضمن، وإن قال: اتركها في بيتك فشدها في ثيابه، وأخرجها معه ضمن؛ لأن البيت أحرز، وإن شدها على عضده مما يلي جنبه لم يضمن؛ لأنه أحرز من البيت، فإن شدها مما يلي الجانب الآخر ضمن؛ لأن البيت أحرز منه، ولأنه ربما يبطها الطرار. وإن قال: احفظها في البيت، ودفعها إليه في غيره، فمضى بها إليه في الحال لم يضمن، وإن قعد وتوانى ضمنها؛ لأنه توانى عن حفظها فيما أمر به مع الإمكان، فإن قال: احفظ هذا الخاتم في البنصر، فجعله في الخنصر ضمن؛ لأنه دون البنصر، فالخاتم فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 أسرع إلى الوقوع، وإن جعله في الوسطى، وأمكن إدخاله في جميعها لم يضمن؛ لأنها أغلظ، فهي أحفظ، وإن انكسر أو بقي في رأسها، ضمن لتعديه فيه، وإن قال: لا تدخل أحدًا البيت الذي فيه الوديعة، فخالفه فسرقت ضمن؛ لأن الداخل ربما دل السارق عليها. فصل: وإذا أراد المودع السفر، أو عجز عن حفظها، ردها على صاحبها أو وكيله، ولم يجز دفعها إلى الحاكم؛ لأنه لا ولاية للحاكم على حاضر، فإذا سافر بها في طريق مخوف، أو إلى بلد مخوف، أو نهاه المالك عن السفر بها ضمن؛ لأنه مفرط أو مخالف، وإن لم يكن كذلك لم يضمن؛ لأنه نقلها إلى موضع مأمون، أشبه ما لو نقلها في البلد، وإن لم يرد السفر بها، ولم يجد مالكها، دفعها إلى الحاكم؛ لأنه متبرع بالحفظ، فلا يلزمه ذلك في الدوام، والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته، فإن دفعها إلى غيره مع قدرته عليه ضمنها؛ لأنه كصاحبها عند غيبته، وإن لم يجد حاكمًا أودعها ثقة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يهاجر أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن، ولأنه موضع الحاجة. وعنه: يضمن، قال القاضي: يعني إذا أودعها من غير حاجة، فإن دفنها في الدار، وأعلم بها ثقة يده على المكان، فهو كإيداعها إياه، وإن لم يعلم بها أحد، فقد فرط؛ لأنه لا يأمن الموت في سفره، وإن أعلم بها من لا يد له على المكان، فكذلك؛ لأنه ما أودعها، وإن أعلم بها غير ثقة ضمنها؛ لأنه عرضها للذهاب، وإن حضره الموت، فهو كسفره؛ لأنه يعجز عن حفظها. فصل: ولا يجوز أن يودع الوديعة عند غيره لغير حاجة؛ لأن صاحبها لم يرض أمانة غيره، فإن فعل، فتلفت عند الثاني مع علمه بالحال، فله تضمين أيهما شاء؛ لأنهما متعديان، ويستقر ضمانها على الثاني؛ لأن التلف حصل عنده، وقد دخل على أنه يضمن، وإن لم يعلم الحال، فقال القاضي: يضمن أيهما شاء، ويستقر ضمانها على الأول؛ لأن الثاني يدخل على أنه أمين. وظاهر كلام أحمد أنه لا يملك تضمين الثاني لذلك. وإن دفعها إلى من جرت عادته بحفظ ماله، كزوجته وأمته وخازنه لم يضمن؛ لأنه حفظها بما يحفظ به ماله، فأشبه حفظها بنفسه، وإن استعان بغيره في حملها، ووضعها في الحرز، وسقي الدابة وعلفها، لم يضمن؛ لأن العادة جارية بذلك، أشبه فعله بنفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 فصل: وإن خلطها بما لا تتميز منه ضمنها؛ لأنه لا يمكنه رد أعيانها، وإن خلطها بما تتميز منه، كصحاح بمكسرة، وسود ببيض لم يضمن؛ لأنها تتميز من ماله، أشبه ما لو تركها مع أكياس له في صندوقه، وعنه فيمن خلط بيضًا بسود: يضمن، وهذا محمول على أن السود تؤثر في البيض، فيضمنها لذلك، وخرج أبو الخطاب من هذه الرواية: أنه يضمنها إذا خلطها مع التمييز. وإن أودعه دراهم في كيس مشدود، فحله أو خرق ما تحت الشد، أو كسر الختم ضمن ما فيه؛ لأنه هتك الحرز لغير عذر، فإن كانت من غير وعاء، فأخذ منها درهمًا، ضمنه وحده؛ لأنه تعدى فيه وحده، فإن رده إليها، لم يزل ضمانه؛ لأنه ثبت بتعديه فيه، فلم يزل إلا برده إلى مالكه، وإن رد بدله، وكان متميزًا لم يضمن غيره لذلك، وإن لم يتميز، ضمن الكل لخلطه الوديعة بما لا يتميز، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يضمن غيره؛ لأنه لا يعجز عن ردها، ورد ما يلزمه رده معها، ومن لزمه الضمان بتعديه، فترك التعدي، لم يبرأ من ضمانها؛ لأن الضمان تعلق بذمته، فلم يبرأ بترك التعدي، كما لو غصب شيئًا من دار، ثم رده إليها، وإن ردها إلى صاحبها، ثم ردها صاحبها إليه برئ؛ لأن هذا وديعة ثانية، وإن أبرأه من الضمان برئ؛ لأن الضمان حقه، فبرئ منه بإبرائه كدينه. فصل: فإن أودع بهيمة، فلم يعلفها، ولم يسقها حتى ماتت ضمنها؛ لأن في ذلك هلاكها، فأشبه ما لو لم يحرزها، وإن نهاه المالك عنه فتركه، أثم لحرمة الحيوان، ولم يضمن؛ لأن مالكها أذن في إتلافها، فأشبه ما لو أمره بقتلها، والحكم في النفقة والرجوع كالحكم في نفقة البهائم المرهونة؛ لأنها أمانة مثلها. فصل: وإذا أخرج الوديعة من حرزها لمصلحتها، كإخراج الثياب للنشر، والدابة للسقي والعلف على ما جرت به العادة لم يضمن؛ لأن الإذن المطلق يحمل على الحفظ المعتاد، وإن نوى جحد الوديعة، أو إمساكها لنفسه، أو التعدي فيها، ولم يفعل، لم يضمن؛ لأن النية المجردة معفو عنها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم به أو تعمل به» رواه البخاري ومسلم بمعناه. وإن أخرجها لينتفع بها ضمنها؛ لأنه تصرف فيها بما ينفي مقتضاها فضمنها، كما لو أحرزها في غير حرزها، إن أخذت منه قهرًا لم يضمن؛ لأنه غير مفرط، أشبه ما لو تلفت بفعل الله تعالى، وإن أكره حتى سلمها لم يضمن؛ لأنه مكره، أشبه الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 فصل: وإن طولب بالوديعة فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمها، وإن أقر بها وادعى ردها، أو تلفها بأمر خفي، قبل قوله مع يمينه؛ لأنه قبضها لنفع مالكها. وإن كان بأمر ظاهر، فعليه إقامة البينة بوجوده في تلك الناحية، ثم القول قوله مع يمينه. فصل: وإن طالبه برد الوديعة، فأخره لعذر لم يضمن؛ لأنه لا تفريط من جهته، وإن أخره لغير عذر، ضمنها لتفريطه، ومؤنة ردها على مالكها؛ لأن الإيداع لحظة. [ باب العارية ] وهي هبة المنافع، وهي مندوب إليها؛ لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، ولأن فيها عونًا لأخيه المسلم، وقضاء حاجته " «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» ، وتصح في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها، " لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من أبي طلحة فرسًا فركبها، «واستعار من صفوان بن أمية أدراعًا» رواه أبو داود. وسئل عن حق الإبل فقال: «إعارة دلوها، وإطراق فحلها» فثبتت إعارة ذلك بالخبر، وقسنا عليه سائر ما ينتفع به مع بقاء عينه، فيجوز إعارة الفحل للضراب للخبر، والكلب للصيد قياسًا عليه. فصل: ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر؛ لأنه لا يجوز أن يستخدمه، ولا الصيد لمحرم؛ لأنه لا يجوز له إمساكه، ولا الجارية الجميلة لغير ذي محرم منها على وجه يفضي إلى خلوته بها؛ لأنه لا يؤمن عليها، فإن كانت شوهاء، أو كبيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس؛ لأنه يؤمن عليها، ويكره استعارة والديه للخدمة؛ لأنه يكره له استخدامهما فكره استعارتهما لذلك. فصل: فإن قبض العين ضمنها؛ لما روى صفوان بن أمية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 أدراعًا يوم حنين، فقال: أغصبًا يا محمد؟ قال: «بل عارية مضمونة» ، وروي: «مؤداة» رواه أبو داود. ولأنه قبض مال غيره لنفع نفسه، لا للوثيقة. فضمنه كالمغصوب، وعليه مؤنة ردها لذلك، فإن شرط نفي الضمان، لم ينتف؛ لأن ما يضمن لا ينتفي بالشرط، وقال أبو حفص العكبري: يبرأ؛ لأن الضمان حقه، فسقط بإسقاطه، كالوديعة التي تعدى فيها، فإن استخلق الثوب، أو نقصت قيمتها لم يضمن؛ لأنه مأذون فيه؛ لدخوله فيما هو من ضرورته. ولو تلفت ضمنها بقيمتها يوم تلفها؛ لأن نقصها قبل ذلك غير مضمون، بدليل أنه لو ردها، لم يضمنه، فإن تلفت أجزاؤها بالاستعمال كخمل المنشفة، ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمنه، لما ذكرنا. والثاني: يضمنه؛ لأنه من أجزائها فيضمنه كسائر أجزائها، وإن تلف ولد العارية، ففيه وجهان: أحدهما: يضمنه؛ لأنه تابع لما يجب ضمانه، فيجب ضمانه، كولد المغصوب. والثاني: لا يضمن؛ لأنه لم يدخل في العارية، فلم يدخل في الضمان، بخلاف المغصوب، فإن ولدها داخل في الغصب. فصل: والعارية عقد جائز لكل واحد منهما فسخها؛ لأنها إباحة، فأشبهت إباحة الطعام، وعليه ردها إلى المعير، أو من جرت عادته أن يجري ذلك على يديه كرد الدابة إلى سائسها، فإن ردها إلى غيرهما، أو دار المالك، أو إصطبله، لم يبرأ من الضمان؛ لأن ما وجب رده، لم يبرأ برده إلى ذلك، كالمغصوب. فصل: ومن استعار شيئًا، فله استيفاء نفعه بنفسه، ووكيله؛ لأنه نائب عنه. وليس له أن يعيره؛ لأنها إباحة فلا يملك بها إباحة غيره، كإباحة الطعام؛ فإن أعاره فتلف عند الثاني، فللمالك تضمين أيهما شاء، ويستقر الضمان على الثاني؛ لأنه قبضه على أنه ضامن له، وتلف في يده، فاستقر الضمان عليه، كالغاصب من الغاصب. فصل: وتجوز العارية مطلقة ومعينة؛ لأنها إباحة، فأشبهت إباحة الطعام، فإن أطلقها، فله أن ينتفع بها في كل ما يصلح له، فإن كانت أرضًا، فله أن يبني ويغرس ويزرع؛ لأنها تصلح لذلك كله، وإن عين نفعًا، فله أن يستوفيه ومثله ودونه، وليس له استيفاء أكثر منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 على ما ذكرنا في الإجارة. فصل: وتجوز مطلقة ومؤقتة، فإن أعارها لغراس سنة، لم يملك للغرس بعدها، فإن غرس بعدها، فحكمه حكم غرس الغاصب؛ لأنه بغير إذنه، وإن رجع قبل السنة، لم يملك الغرس بعد الرجوع؛ لأن الإذن قد زال، فأما ما غرسه بالإذن، فإن كان قد شرط عليه قلعه لزمه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم» حديث حسن صحيح. وإن شرط عليه تسوية الحفر لزمه للخبر، وإلا لم يلزمه؛ لأنه أذن في حفرها باشتراطه القلع، ولم يشترط تسويتها، وإن لم يشترط عليه قلعه لكن لا تنقص قيمته بقلعه، لزم قلعه؛ لأنه أمكن رد العارية فارغة من غير ضرر فوجب، وإن نقصت قيمته بالقلع فاختار المستعير، فله ذلك؛ لأنه ملكه فملك نقله، وعليه تسوية الأرض؛ لأن القلع باختياره لو امتنع منه، لم يجبر عليه؛ لأنه فعله لاستخلاص ملكه من ملك غيره فلزمته التسوية، كالمشتري مع الشفيع إذا أخذ غرسه. وقال القاضي: لا تلزمه التسوية؛ لأن المعير دخل على هذا بإذنه في الغراس الذي لا يزول إلا بالحفر عليه، وإن أبى قلعه فبذل المعير قيمته ليملكه، أجبر على قبولها؛ لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق، فأشبه الشفيع مع المشتري، ولو بذل المستعير قيمة الأرض ليملكها مع غرسه، لم يجبر المعير عليه؛ لأن الغرس يتبع الأرض في الملك، بخلاف الأرض، فإنها لا تتبع للغرس، فإن بذل المعير أرش النقص الحاصل بالقلع، أجبر المستعير على قبوله؛ لأنه رجوع في العارية من غير إضرار، وإن لم يبذل القيمة، ولا أرش النقص، وامتنع المستعير من القلع، لم يقلع؛ لأنه إذن له فيما يتأبد، فلم يملك الرجوع على وجه يضر به، كما لو أذن له في وضع خشبة على حائطه، ولم يذكر أصحابنا عليه أجرة؛ لأن بقاء غرسه بحكم العارية، وهي انتفاع بغير أجرة، كالخشب على الحائط، وذكروا في الزرع أن عليه الأجرة لمدة بقاء الزرع من حين الرجوع؛ لأنه لا يملك الانتفاع بأرض غيره بعد الرجوع بغير أجرة، وهذا يقتضي وجوب الأجرة على صاحب الغراس بعد الرجوع، وللمعير دخول أرضه كيف شاء؛ لأن بياضها له، لا حق للمستعير فيها، وللمستعير دخولها، للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة؛ لأن الإذن في الغراس إذن بما يعود في صلاحه، وأخذ الثمرة، وليس له دخولها للتفرج ونحوه، ولا يمنع واحد منهما من بيع ملكه لمن شاء يكون بمنزلته؛ لأنه ملكه على الخصوص فملك بيعه، كالشقص المشفوع. فصل: وإن رجع في العارية وفي الأرض، زرع مما يحصد قصيلًا، حصده؛ لأنه أمكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 الرجوع من غير إضرار، وإن لم يمكن، لزم المعير تركه بالأجرة إلى وقت حصاده؛ لأنه لا يملك الرجوع على وجه يضر بالمستعير، وإن حمل السيل بذر رجل إلى أرض آخر فنبت فيه، ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم العارية؛ لأنه بغير تفريط من ربه، إلا أن عليه أجرة الأرض؛ لأنه لا يجوز استيفاء نفع أرش إنسان بغير إذنه من غير أجرة، فصار كزرع المستعير بعد رجوع المعير، وقال القاضي: ليس عليه أجرة؛ لأنه حصل بغير تفريطه، أشبه مبيت بهيمته في دار غيره. والثاني: حكمه حكم الغصب؛ لأنه حصل في ملكه بغير إذنه. فصل: وإن أعاره حائطًا ليضع عليه أطراف خشبه، لم يكن له الرجوع ما دام الخشب على الحائط؛ لأن هذا يراد للبقاء، وليس له الإضرار بالمستعير، فإن بذل المالك قيمة الخشب ليملكه، لم يكن له؛ لأن معظمه في ملك صاحبه، فإن أزيل الخشب لتلفه أو سقوطه أو هدم الحائط، لم يجز رده إلا بإذن مستأنف؛ لأن الإذن تناول الوضع الأول، فلا يتعدى إلى غيره، وإن وجدت أخشاب على حائط لا يعلم سببها، ثم نقلت جاز إعادتها؛ لأن الظاهر أنها بحق ثابت، وإن استعار سفينة، فحمل متاعه فيها، لم يملك صاحبها الرجوع فيها حتى ترسي. وإن أعاره أرضًا للدفن، لم يملك الرجوع فيها ما لم يبل الميت لما ذكرنا. فصل: وإن استعار شيئًا يرهنه مدة معلومة على دين معلوم صح؛ لأنه نوع انتفاع. فإن أطلق الإذن من غير تعيين صح؛ لأن العارية لا يشترط في صحتها تعيين النفع، فإن عين فخالفه، فالرهن باطل؛ لأنه رهنه بغير إذن مالكه، وإن أذن له في رهنه بمائة، فرهنه بأقل منها صح؛ لأن من أذن في شيء فقد أذن في بعضه؛ وإن رهنه أكثر منها بطل في الكل في أحد الوجهين؛ لأنه مخالف، أشبه ما لو خالف في الجنس، وفي الآخر: يصح في المأذون، ويبطل في الزائد، كتفريق الصفقة. وللمعير مطالبة الراهن بفكاكه في الحال، سواء أجله أو أطلق؛ لأن العارية لا تلزم، وإن حل الدين قبل فكاكه بيع واستوفى الدين من ثمنه؛ لأن هذا مقتضى الرهن، ويرجع المعير على المستعير بقيمته أو مثله إن كان مثليًا؛ لأن العارية مضمونة بذلك، ولا يرجع بما بيع به إن كان أقل من القيمة؛ لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها. وإن بيع بأكثر من قيمته، رجع به؛ لأن ثمن العين ملك لصاحبها، وقيل: لا يرجع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 بالزيادة. وإن تلف في يد المرتهن، رجع المعير على المستعير، ويرجع المستعير على المرتهن إن كان تعدى، وإلا فلا. فإن قضى المعير الدين وفك الرهن بإذن الراهن، رجع عليه، وإن كان بغير إذنه متبرعًا، لم يرجع. وإن قضاه محتسبًا بالرجوع، ففيه روايتان، بناء على قضاء دينه بغير إذنه. فصل: إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال: أعرتنيها فقال: بل أجرتكها عقيب العقد، والدابة قائمة، فالقول قول الراكب؛ لأن الأصل عدم الإجارة وبراءة ذمته من الأجرة، وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة، فالقول قول المالك؛ لأنهما اختلفا في صفة نقل ملكه إلى غيره، فأشبه ما لو اختلفا في العين، فقال: وهبتنيها وقال: بل بعتكها، فيحلف المالك، ويجب له المسمى في أحد الوجهين؛ لأنه ادعاه وحلف عليه. والآخر تجب أجرة المثل؛ لأنهما لو اتفقا على الإجارة، واختلفا في قدر الأجرة، لم يجب أكثر من أجرة المثل، فمع الاختلاف أولى. وإن قال: أكريتنيها. قال: بل أعرتكها، بعد تلفها أو قبله، فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأنهما اختلفا في صفة القبض، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «على اليد ما أخذت حتى ترده» حديث حسن. والقول قول الراكب في قدر القيمة مع يمينه، وإن قال: غصبتنيها. قال: بل أعرتنيها أو أكريتنيها، فالقول قول المالك لذلك، ولأن الراكب يدعي انتقال المنافع إلى ملكه بالعارية أو الكراء. والمالك ينكر ذلك والأصل معه. [ باب الغصب ] وهو استيلاء الإنسان على مال غيره بغير حق، وهو محرم بالإجماع، وقد روى جابر: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبته يوم النحر: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا» رواه مسلم، ومن غصب شيئًا، لزمه رده؛ لما روى سمرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «على اليد ما أخذت حتى ترده» وإن نقصت لتغير الأسعار لم يضمنها؛ لأن حق المالك في العين، وهي باقية لم تتغير صفتها، فلا حق له في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 القيمة مع بقاء العين، وإن نقصت القيمة لنقص المغصوب نقصًا مستقرًا، كثوب استخلق، أو تخرق، وإناء تكسر أو تشقق، وشاة ذبحت، وحنطة طحنت، فعليه رده وأرش نقصه؛ لأنه نقص عين نقصت به القيمة، فوجب ضمانه، كذراع من الثوب، وإن طالب المالك ببدله، لم يملك ذلك؛ لأن عين ماله باق، فلم يملك المطالبة ببدله، كما لو قطع من الثوب جزءًا، وإن كان النقص غير مستقر، كطعام ابتل أو عفن، فله بدله في قول القاضي؛ لأنه يتزايد فساده إلى أن يتلف، وقال أبو الخطاب: يخير بين ذلك وبين تركه حتى يستقر فيه الفساد، ويأخذه مع أرشه؛ لأن عين ماله باقية، فلا يمنع من أخذها مع أرشها، كالثوب الذي تخرق. فصل: فإن كان النقص في الرقيق مما لا مقدر فيه، كنقصه لكبر، أو مرض، أو شجة دون الموضحة، ففيه ما نقص مع الرد لذلك، وإن كان أرشه مقدرًا، كذهاب يده، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه ضمان مال، أشبه ضمان البهيمة. والأخرى: يرده وما يجب بالجناية؛ لأنه ضمان للرقيق فوجب فيه المقدر، كضمان الجناية، فإن قطع الغاصب يده، فعلى هذه الرواية الواجب نصف قيمته، كغير المغصوب. وعلى الأولى عليه أكثر الأمرين من نصف قيمته، أو قدر نصفه؛ لأنه قد وجدت اليد والجناية، فوجب أكثرهما ضمانًا، وإن غصب عبدًا، فقطع أجنبي يده، فللمالك تضمين أيهما شاء، فعلى الأولى: إن ضمن الغاصب، ضمنه أكثر الأمرين، ويرجع الغاصب على القاطع بنصف قيمته لا غير؛ لأن ضمانه ضمان الجناية، وإن ضمن الجاني، ضمنه نصف القيمة، وطالب الغاصب بتمام النقص، وعلى الثانية: يطالب أيهما شاء، ويستقر الضمان على القاطع؛ لأنه المتلف فيكون الرجوع عليه. فصل: وروي عن أحمد فيمن قلع عين فرس: أنه يضمنها بربع قيمتها؛ لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والصحيح أن يضمنها بنقصها؛ لأنها بهيمة فلم يكن فيها مقدر، كسائر البهائم أو كسائر أعضائها، ويحمل ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أن عين الدابة التي قضى فيها نقصها ربع القيمة، ولو غصب دابة قيمتها مائة، فزادت فصارت قيمتها ألفًا، ثم جنى عليها جناية نقصت نصف قيمتها، لزمه خمسمائة؛ لأن الواجب قيمة ما أتلف يوم التلف، وقد فوت نصفها، فضمن خمسمائة. فصل: فإن نقصت العين دون القيمة، وكان الذاهب يضمن بمقدر، كعبد خصاه وزيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 أغلاه، فذهب نصفه، ولم تنقص قيمته، فعليه قيمة العبد، ومثل ما نقص من الزيت مع ردهما؛ لأن الواجب فيهما مقدر بذلك، فإن لم يكن مقدرًا، كعبد سمين هزل فلم تنقص قيمته، لم يلزمه أرش هزاله؛ لأن الواجب فيه ما نقص من القيمة، ولم تنقص. فإن أغلى عصيرًا فنقص، فهو كالزيت؛ لأنه في معناه، ويحتمل أن لا يضمن؛ لأن الغليان عقد أجزائه وجمعها، وأذهب مائيته فقط، بخلاف الزيت، فإن نقصت عينه وقيمته، فعليه مثل ما نقص من العين وأرش نقص الباقي في العصير والزيت؛ لأن كل واحد من النقصين مضمون منفردا، فكذلك إذا اجتمعا، ولو شق ثوبًا ينقصه الشق نصفين، ثم تلف أحدهما، رد الباقي وتمام قيمة الثوب قبل قطعه، وإن غصب خفين، فتلف أحدهما، فكذلك في أحد الوجهين؛ لأن نقص الباقي بسبب تعديه. والآخر. لا يلزمه إلا رد الباقي، وقيمة التالف؛ لأنه لم يتلف إلا أحدهما. فصل: وإن غصب عبدًا فمرض، أو ابيضت عينه ثم برئ، لم يلزمه إلا رده؛ لأن نقصه زال، فأشبه ما لو انقلعت سنه، ثم عادت. وإن هزل ثم سمن، أو نسي صناعته ثم علمها، فكذلك في أحد الوجهين؛ لأن نقصه زال، فأشبهت التي قبلها. والآخر: يضمن النقص؛ لأن السمن الثاني غير الأول، فلا يسقط به ما وجب بزوال الأول، فعلى هذا الوجه، لو سمن ثم هزل، ضمنهما معًا؛ لأن الثاني غير الأول، وعلى الوجه الأول، يضمن أكثر السمنين قيمة؛ لأن عود السمن أسقط ما قابله من الأرش، فإن كانت الزيادة الثانية، من غير جنس الأولى، كعبد هزل فنقصت قيمته، ثم تعلم فعادت قيمته، ضمن الأولى؛ لأن الثانية من غير جنس الأولى، فلا تنجبر بها، وإن نسي الصناعة أيضًا، ضمن النقصين جميعًا، لما ذكرنا. فصل: فإن جنى العبد المغصوب، لزم الغاصب ما يستوفي من جنايته؛ لأنه بسبب كان في يده، وإن أقيد منه في الطرف، فحكمه حكم ذهابه بفعل الله تعالى؛ لكونه ضمانًا وجب باليد لا بالجناية، فإن القطع قصاصًا ليس بجناية، وأن تعلق الأرش برقبته، فعليه فداؤه؛ لأنه حق تعلق برقبته في يده، فلزمه تخليصه منه. وإن جنى على سيده، ضمن الغاصب جنايته؛ لأنها من جملة جناياته، فأشبه الجناية على أجنبي. فصل: وإن زاد المغصوب في يده، كجارية سمنت، أو ولدت، أو كسبت، أو شجرة أثمرت، أو طالت، فالزيادة للمالك مضمونة على الغاصب؛ لأنها حصلت في يده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 بالغصب، فأشبهت الأصل، وإن ألقت الولد ميتًا، ضمنه بقيمته، يوم الوضع لو كان حيًا؛ لأنه غصب بغصب الأم. وإن صاد العبد والجارية صيدًا، فهو لمالكهما؛ لأنه من كسبهما. وهل تجب أجرة العبد الكاسب أو الصائد في مدة كسبه، أو صيده؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تجب؛ لأن منافعه صارت إلى سيده، فأشبه ما لو كان في يده. والثاني: تجب؛ لأن الغاصب أتلف منافعه، وإن غصب فرسًا، أو قوسًا، أو شركًا، فصاد به، ففيه وجهان: أحدهما: هو لصاحبه؛ لأن صيده حصل به، أشبه صيد الجارحة. والثاني: للغاصب؛ لأنه الصائد، وهذه آلة. وإن غصب منجلًا، فقطع به حطبًا، أو خشبًا، أو حشيشًا، فهو للغاصب؛ لأن هذا آلة، فهو كالحبل يربطه به. فصل: وإن غصب أثمانًا، فاتجر بها، فالربح لصاحبها؛ لأنه نماء ماله، وإن اشترى في ذمته، ثم نقدها فيه، فكذلك في إحدى الروايتين. والأخرى: هو للغاصب؛ لأن الثمن ثبت في ذمته، فكان الشراء له، والمبيع ربحه له؛ لأنه بذل ما وجب عليه، وقياس المذهب: إنه إذا اشترى بعينه كان الشراء باطلًا، والسلعة للبائع. فصل: وإن غصب عينًا، فاستحالت، كبيض صار فرخًا، وحب صار زرعًا، وزرع صار حبًا، ونوى صار شجرًا، وجب رده؛ لأنه عين ماله، فإن نقصت قيمته، ضمن أرش نقصه؛ لحدوثه في يده، وإن زاد، فالزيادة لمالكه، ولا شيء للغاصب بعمله فيه؛ لأنه غير مأذون فيه، وإن غصب عصيرًا فتخمر، ضمن العصير بمثله؛ لأنه تلف في يده، فإن عاد خلًا، رده وما نقص من قيمة العصير؛ لأنه عين العصير، أشبه النوى يصير شجرًا. فصل: فإن عمل فيه عملًا، كثوب قصره، أو فصله وخاطه، أو قطن غزله، أو غزل نسجه، أو خشب نجره، أو ذهب صاغه، أو ضربه، أو حديد جعله إبرًا، فعليه رده؛ لأنه عين ماله، ولا شيء للغاصب؛ لأنه عمل في ملك غيره بغير إذنه، فلم يستحق شيئًا، كما لو أغلى الزيت. وإن نقص بذلك، فعليه ضمان نقصه؛ لأنه حدث بفعله. وعنه: أنه إن زاد يكون شريكًا للمالك بالزيادة؛ لأن منافعه أجريت مجرى الأعيان، أشبه، ما لو صبغ الثوب، والأول أصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 فصل: فإن غصب شيئًا، فخلطه بما يتميز منه، كحنطة بشعير، أو زبيب أحمر بأسود، فعليه تمييزه ورده؛ لأنه أمكن رده، فوجب، كما لو غصب عينًا فبعدها، وإن خلطه بمثله مما لا يتميز، كزيت بزيت، لزمه مثل كيله منه؛ لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه، فلم ينتقل إلى البدل في الجميع، كما لو غصب شيئًا، فتلف بعضه. وهذا ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه نص على أنه شريك إذا خلطه بغير جنسه، فنبه على الشركة إذا كان مثله. وقال القاضي: قياس المذهب أنه يلزمه مثله، إن شاء الغاصب منه أو من غيره؛ لأنه تعذر رد عينه، أشبه ما لو أتلفه. وإن خلط بأجود منه، لزمه مثله من حيث شاء الغاصب، فإن دفع إليه منه، لزمه أخذه؛ لأنه أوصل إليه خيرًا من حقه من جنسه. وإن خلطه بدونه، لزمه مثله، فإن اتفقا على أخذ المثل منه جاز، وإن أباه المالك، لم يجبر؛ لأنه دون حقه. وإن طلب ذلك، فأباه الغاصب، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجبر؛ لأن الحق انتقل إلى ذمته، فكانت الخيرة إليه في التعيين. والثاني: يلزمه؛ لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه من غير ضرر، فلزمه، كما لو كان مثله. وإن خلطه بغير جنسه، كزيت بشيرج، لزمه مثله من غيره، وأيهما طلب الدفع منه، فأبى الآخر لم يجبر، وقد قال أحمد في رجل له رطل زيت اختلط برطل شيرج لآخر: يباع الدهن كله، ويعطى كل واحد منهما قدر حصته، فيحتمل أن يختص هذا بما لم يخلطه أحدهما، ويحتمل أن يعم سائر الصور؛ لأنه أمكن أن يصل إلى كل واحد بدل عين ماله، فأشبه ما لو غصب ثوبًا فصبغه. فإن نقص ما يخصه من الثمن عن قيمته مفردًا، ضمن الغاصب نقصه؛ لأنه بفعله، وإن خلطه بما لا قيمة له، كزيت بماء وأمكن تخليصه، وجب تخليصه ورده مع أرش نقصه، وإن لم يمكن تخليصه، أو كان ذلك يفسده، وجب مثله؛ لأنه أتلفه. ولو أعطاه بدل الجيد أكثر منه رديئًا، أو أقل منه وأجود صفة، لم يجز؛ لأنه ربا، إلا أن يكون اختلاطه بغير جنسه فيجوز؛ لأن الربا لا يجوز في جنسين. فصل: فإن غصب ثوبًا فصبغه، فلم تزد قيمة الثوب والصبغ ولم تنقص، فهما شريكان يباع الثوب ويقسم ثمنه بينهما؛ لأن الصبغ عين مال، له قيمة، فلم يسقط حقه فيها باتصالها بمال غيره. وإن زادت قيمتهما فالزيادة بينهما؛ لأنها نماء مالهما. وإن نقصت القيمة، ضمنها الغاصب؛ لأن النقص حصل بسببه، وإن زادت قيمة أحدهما لزيادة قيمته في السوق، فالزيادة لمالك ذلك؛ لأنها نماء ماله. وإن بقيت للصبغ قيمة، فأراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 الغاصب إخراجه، وضمان النقص، فله ذلك؛ لأنه عين ماله، أشبه ما لو غرس في أرض غيره، ويحتمل أن لا يملك ذلك؛ لأنه يضر بملك المغصوب منه لنفع نفسه، فمنع منه، بخلاف الأرض، فإنه يمكن إزالة الضرر بتسوية الحفر، ولأن قلع الغرس معتاد، بخلاف قلع الصبغ، وإن أراد المالك قلعه، ففيه وجهان: أحدهما: يملكه ولا شيء عليه، كما يملك قلع الشجر من أرضه. والآخر: لا يملكه؛ لأن الصبغ يهلك به، أشبه قلع الزرع، وإن بذل المالك قيمة الصبغ ليملكه، لم يجبر الغاصب عليه؛ لأنه بيع ماله، ويحتمل أن يجبر. كما يملك أخذ زرع الغاصب بقيمته، وكالشفيع يأخذ غرس المشتري، وإن وهبه الغاصب لمالكه، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه قبوله؛ لأنه صار صفة للعين، فأشبه قصارة الثوب. والآخر: لا يلزمه؛ لأن الصبغ عين يمكن إفرادها فأشبه الغراس، فإن أراد المالك بيع الثوب، فله ذلك؛ لأنه ملكه، فلم يمنع بيعه، وإن طلب الغاصب بيعه، فأباه المالك لم يجبر؛ لأن الغاصب متعد، فلم يستحق بتعديه إزالة ملك صاحب الثوب عنه، كما لو طلب الغارس في أرض غيره بيعها. ويحتمل أن يجبر، ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه، وإن غصب ثوبًا وصبغًا من رجل فصبغه به، فعليه رده وأرش نقصه إن نقص؛ لأنه بفعله والزيادة للمالك؛ لأنه عين ماله ليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل. وإن صبغه بصبغ غصبه من غيره، فهما شريكان في الأصل والزيادة، وإن نقص، فالنقص من الصبغ؛ لأنه تبدد، ويرجع صاحبه على الغاصب؛ لأنه بدده. وإن غصب عسلًا ونشاء، فعمله حلواء، فحكمه كحكم غصب الثوب وصبغه سواء. فصل: وإن غصب أرضًا فغرسها، أو بنى فيها، لزمه قلعه؛ لما روى سعيد بن زيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس لعرق ظالم حق» قال الترمذي: هذا حديث حسن. ولأنه شغل ملك غيره، بملك لا حرمة له في نفسه فلزمه تفريغه، كما لو ترك فيها قماشًا، وعليه تسوية الحفر، ورد الأرض إلى ما كانت عليه، وضمان نقصها إن نقصت؛ لأنه حصل بفعله. وإن بذل له المالك قيمة غرسه، وبنائه، ليملكه، فأبى إلا القلع، فله ذلك؛ لأنها معاوضة، فلم يجبر عليها. وإن وهبه الغاصب الغراس، أو البناء، لم يجبر على قبوله، إن كان له غرض في القلع؛ لأنه يفوت غرضه، وإن لم يكن فيه غرض، احتمل أن يجبر؛ لأنه يتخلص كل واحد منهما من صاحبه بغير ضرر، واحتمل أن لا يجبر؛ لأن ذلك عين يمكن إفرادها، فلم يجبر على قبولها، كما لو يكن في أرضه، وإن غرسها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 ملك صاحب الأرض فطالبه بالقلع، وله فيه غرض لزمه؛ لأنه فوت عليه غرضًا بالغرس، فلزمه رده، كما لو ترك فيها حجرًا، وإن لم يكن فيه غرض، لم يجبر عليه؛ لأنه سفه، ويحتمل أن يجبر؛ لأن المالك محكم في ملكه، وإن أراد الغاصب قلعه، فللمالك منعه؛ لأنه ملكه، وليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل. فصل: فإن حفر فيها بئرًا، فطالبه المالك بطمها لزمه؛ لأنه نقل ملكه، وهو التراب من موضعه، فلزمه رده، وإن طلب الغاصب طمها لدفع ضرر، مثل إن جعل ترابها في غير أرض المالك، فله طمها؛ لأنه لا يجبر على إبقاء ما يتضرر به، كإبقاء غرسه، وإن جعل التراب في أرض المالك، لم يبرئه من ضمان ما يتلف بها، فله طمها؛ لأنه يدفع ضرر الضمان عنه، وإن أبرأه من ضمان ما يتلف بها، ففيه وجهان: أحدهما: يبرأ؛ لأنه لما سقط الضمان بالإذن في حفرها، سقط بالإبراء منها، فعلى هذا لا يملك طمها؛ لأنه لا غرض فيه. والثاني: لا يبرأ بالإبراء؛ لأنه إنما يكون من واجب، ولم يجب بعد شيء فعلى هذا يملك طمها لغرضه فيه. فصل: وإن زرعها، وأخذ زرعه، فعليه أجرة الأرض، وما نقصها، والزرع له؛ لأنه عين بذره نما، وإن أدركها ربها، والزرع قائم، فليس له إجبار الغاصب على القلع، ويخير بين تركه إلى الحصاد بالأجرة، وبين أخذه، ويدفع إلى الغاصب نفقته؛ لما روى رافع بن خديج قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته» قال الترمذي: هذا حديث حسن. ولأنه أمكن الجمع بين الحقين بغير إتلاف، فلم يجز الإتلاف، كما لو غصب لوحًا، فرقع به سفينة ملججة في البحر، وفارق الغراس؛ لأنه لا غاية له ينتظر إليها. وفيما يرده من النفقة روايتان: إحداهما: القيمة؛ لأنه بدل عنه، فتقدرت به، كقيم المتلفات. والثانية: ما أنفق من البذر ومؤنة الزرع في الحرث وغيره؛ لظاهر الحديث، ولأن قيمة الزرع زادت من أرض المالك، فلم يكن عليه عوضها، وإن أدرك رب الأرض شجر الغاصب مثمرًا، فقال القاضي: للمالك أخذه، وعليه ما أنفقه الغاصب من مؤنة الثمرة كالزرع؛ لأنه في معناه، وظاهر كلام الخرقي: أنه للغاصب؛ لأنه ثمر شجره، فكان له كولد أمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 فصل: وإن جصص الدار، وزوقها، فالحكم فيه كالحكم في البناء سواء، وإن وهب ذلك لمالكها، ففي إجباره على قبول الهبة وجهان، كالصبغ في الثوب. فصل: وإن غصب عينًا فبعدت بفعله أو بغيره، فعليه ردها، وإن غرم أضعاف قيمتها؛ لأنه بتعديه. وإن غصب خشبة، فبنى عليها فبليت، لم يجب ردها، ووجبت قيمتها؛ لأنها هلكت فسقط ردها. وإن بقيت على جهتها، لزم ردها، وإن انتقض البناء؛ لأنه مغصوب يمكن رده، فوجب كما لو بعدها. وإن غصب خيطًا فخاط به ثوبًا، فهو كالخشبة في البناء. وإن خاط به جرحه، أو جرح حيوان يخاف التلف بقلعه، أو ضررًا كثيرًا، لم يقلع؛ لأن حرمة الحيوان آكد من حرمة مال الغير، ولهذا جاز أخذ مال الغير بغير إذنه لحفظ الحيوان دون غيره، إلا أن يكون الحيوان مباح القتل كالمرتد والخنزير فيجب رده؛ لأنه لا حرمة للحيوان. وإن كان الحيوان مأكولًا للغاصب، فيجب رده؛ لأنه يمكن ذبح الحيوان والانتفاع بلحمه، ويحتمل ألا يقلع؛ لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذبح الحيوان لغير مأكله. وإن كان الحيوان لغير الغاصب لم يقلع بحال؛ لأن فيه ضررًا بالحيوان وبصاحبه، وإن مات الحيوان، وجب رد الخيط، إلا أن يكون آدميًا؛ لأن حرمته باقية بعد موته، والحكم فيما إذا بلع الحيوان جوهرة كالحكم في الخيط سواء. فصل: وإن غصب لوحًا فرقع به سفينة، وخاف الغرق بنزعه، لم ينزع؛ لأنه يمكنه رده بغير إتلاف ماله، بأن تخرج إلى الشط، فلم يجز إتلافه، سواء كان فيها ماله، أو مال غيره. فصل: وإن ادخل فصيلًا أو غيره إلى داره، فلم يمكن إخراجه إلا بنقض الباب نقض، كما ينقض البناء لرد الخشبة، وإن دخل الفصيل من غير تفريطه، فعلى صاحب الفصيل ما يصلح به الباب؛ لأنه نقض لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الباب، وهكذا الحكم إن وقع الدينار في محبرة إنسان بتفريط أو غيره. فصل: وإن غصب عبدًا فأبق، أو دابة فشردت، فللمغصوب منه المطالبة بقيمته؛ لأنه تعذر رده فوجب بدله، كما لو تلف. فإذا أخذ البدل، ملكه؛ لأنه بدل ماله، كما يملك بدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 التالف. ولا يملك الغاصب المغصوب؛ لأنه لا يصح تمليكه بالبيع، فلا يملكه بالتضمين كالتالف، فإذا قدر عليه، رده وأخذ القيمة؛ لأنها استحقت بالحيلولة، وقد زالت، فوجب ردها، وزيادة القيمة المتصلة للغاصب؛ لأنها تتبع الأصل، والمنفصلة للمغصوب منه؛ لأنها لا تتبع الأصل في الفسخ بالعيب، وهذا فسخ، فأما المغصوب فيرد بزيادته المتصلة والمنفصلة؛ لأن ملك صاحبه لم يزل عنه. فصل: وإن غصب أثمانًا، فطالبه مالكها بها في بلد آخر، لزم ردها إليه؛ لأن الأثمان قيم الأموال، فلم يضر اختلاف قيمتها، وإن كان المغصوب من المتقومات، لزم دفع قيمتها في بلد الغصب، وإن كان من المثليات وقيمته في البلدين واحدة، أو هي أقل في البلد الذي لقيه فيه، فله مطالبته بمثله؛ لأنه لا ضرر على الغاصب فيه. وإن كانت أكثر فليس له المثل؛ لأننا لا نكلفه النقل إلى غير البلد الذي غصبه فيه، وله المطالبة بقيمته في بلد الغصب، وفي جميع ذلك متى قدر على المغصوب، أو المثل في بلد الغصب، رده وأخذ القيمة كما لو كان عبدًا فأبق. فصل: إذا تلف المغصوب، وهو مما له مثل، كالأثمان والحبوب والأدهان، فإنه يضمن بمثله؛ لأنه يماثله من حيث الصورة والمشاهدة والمعنى والقيمة مماثلة من طريق الظن والاجتهاد، فكان المثل أولى، كالنص مع القياس، فإن تغيرت صفته كرطب صار تمرًا، أو سمسم صار شيرجًا، ضمنه المالك بمثل أيهما شاء؛ لأنه قد ثبت ملكه على واحد من المثلين، فرجع بما شاء منهما. وإن وجب المثل وأعوز وجبت قيمته يوم عوزه؛ لأن يسقط بذلك المثل، وتجب القيمة، فأشبه تلف المتقومات. وقال القاضي: تجب قيمته يوم قبض البدل؛ لأن التلف لم ينقل الوجوب إلى القيمة، بدليل ما لو وجد المثل بعد ذلك، وجب رده، وإن قدر على المثل بأكثر من قيمته، لزمه شراؤه؛ لأنه قدر على أداء الوجوب فلزمه، كما لو قدر على رد المغصوب بغرامة. فصل: فإن كان مما لا مثل له، وجبت قيمته؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق شركًا له في عبد، فكان له ما يبلغ ثمن العبد، قوم وأعطي شركاؤه حصصهم» متفق عليه. فأوجب القيمة؛ لأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن، لاختلاف الجنس الواحد، فكانت القيمة أقرب إلى إبقاء حقه. فإن اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف نظرت، فإن كان ذلك لمعنى فيه وجبت قيمته أكثر ما كانت؛ لأن معانيه مضمونة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 مع رد العين، فكذا مع تلفها، وإن كان لاختلاف الأسعار، فالواجب قيمته يوم تلف؛ لأنها حينئذ ثبتت في ذمته، وما زاد على ذلك، لا يضمن مع الرد، فكذلك مع التلف، كالزيادة في القيمة. وتجب القيمة من نقد البلد الذي تلف فيه؛ لأنه موضع الضمان، وإن كان المضمون سبيكة، أو نقرة أو مصوغًا، ونقد البلد من غير جنسه، أو قيمته كوزنه، وجبت؛ لأن تضمينه بها لا يؤدي إلى الربا، فأشبه غير الأثمان. وإن كان نقد البلد من جنسه وقيمته مخالفة لوزنه، قوم بغير جنسه كي لا يؤدي إلى الربا. وإن كانت الصياغة محرمة، فلا عبرة بها؛ لأنها لا قيمة لها شرعًا. وذكر القاضي: أن ما زادت قيمته لصناعة مباحة، جاز أن يضمن بأكثر من وزنه؛ لأن الزيادة في مقابل الصنعة، فلا يؤدي إلى الربا. فصل: وإذا كانت للمغصوب منفعة مباحة تستباح بالإجارة فأقام في يده مدة لمثلها أجرة، فعليه الأجرة. وعنه: إن منافع الغصب لا تضمن، والمذهب الأول؛ لأنه يطلب بدلها بعقد المعاينة، فتضمن بالغصب كالعين. وسواء رد العين أو بدلها؛ لأن ما وجب مع ردها، وجب مع بدلها، كأرش النقص. فإن تلفت العين، لم تلزمه أجرتها بعد التلف؛ لأنه لم يبق لها أجرة، ولو غصب دارًا فهدمها، أو عرصة فبناها، أو دارًا فهدمها ثم بناها وسكنها، فعليه أجرة عوضه؛ لأنه لما هدم البناء لم يبق لها أجرة لتلفها، ولما بنى العرصة كان البناء له، فلم يضمن أجرة ملكه، إلا أن يبنيها بترابها، أو آلة للمغصوب منه فيكون ملكه؛ لأنها أعيان ماله، وليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل، فتكون أجرتها عليه. وكل ما لا تستباح منافعه بالإجارة أو تندر إجارته، كالغنم، والشجر، والطير، فلا أجرة له. ولو أطرق فحلًا، أو غصب كلبًا لم تلزمه أجرة لذلك؛ لأنه لا يجوز أخذ العوض من منافعه بالعقد، فلا يجوز بغيره. فصل: وإن غصب ثوبًا فلبسه وأبلاه، فعليه أجرته وأرش نقصه؛ لأن كل واحد منهما يضمن منفردًا فيضمن مع غيره، ويحتمل أن يضمن أكثر الأمرين من الأجرة وأرش النقص؛ لأن ما نقص حصل بالانتفاع الذي أخذ المالك أجرته، ولذلك لا يضمن المستأجر أرش هذا النقص، وإن كان الثوب مما لا أجرة له كغير المخيط، فعليه أرش نقصه حسب. وإن كان المغصوب عبدًا فكسب، ففي أجرة مدة كسبه وجهان، كذلك وإن أبق العبد فغرم قيمته، ثم وجده فرده، ففي أجرته من حين دفع قيمته إلى رده وجهان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 أحدهما: لا يلزمه؛ لأن المغصوب منه ملك بدل العين، فلا يستحق أجرتها. والثاني: يلزمه؛ لأن منافع ماله تلفت بسبب كان في يد الغاصب، فلزمه ضمانها، كما لو لم يدفع القيمة. وإن غصب أرضًا فزرعها، فأخذ المالك زرعها، لم تكن على الغاصب أجرة؛ لأن منافع ملكه عادت إليه، إلا أن يأخذه بقيمته، فتكون له الأجرة إلى وقت أخذه؛ لأن القيمة زادت بذلك للغاصب، فكان نفعها عائدًا إليه. فصل: وإذا غصب عينًا فباعها لعالم بالغصب، فتلفت عند المشتري، فللمالك تضمين أيهما شاء، قيمتها وأجرتها مدة مقامها في يد المشتري فيضمن الغاصب لغصبه، والمشتري لقبضه ملك غيره بغير إذنه، فإن ضمن الغاصب، رجع على المشتري، وإن ضمن المشتري، لم يرجع على أحد؛ لأنه غاصب تلف المغصوب في يده، فاستقر الضمان عليه، كالغاصب إذا تلف تحت يده. فأما أجرتها أو نقصها قبل بيعها، فعلى الغاصب وحده، ولا شيء على المشتري منه، وإن كان جارية فوطئها، لزمه الحد والمهر، وردها مع ولدها، وأجرتها، وأرش نقصها، وولده رقيق؛ لأن وطأه زنا، فأشبه الغاصب، وإن لم يعلم المشتري بالغصب، فلا حد عليه، وولده حر، وعليه فداؤه بمثله يوم وضعه؛ لأنه مغرور، فأشبه ما لو تزوجها على أنها حرة، وللمالك تضمين أيهما شاء، لما ذكرنا، فإن ضمن الغاصب، رجع على المشتري بقيمة العين، ونقصها، وأرش بكارتها؛ لأنه دخل مع البائع، على أن يكون ضامنًا لذلك بالثمن، فلم يغره فيه، ولا يرجع عليه ببدل الولد إذا ولدت منه ونقص الولادة؛ لأنه دخل معه على أن لا يضمنه فغره بذلك، فأما ما حصلت له به منفعة، ولم يلتزم ضمانه، كالأجرة والمهر، ففيه روايتان: إحداهما: لا يرجع به؛ لأن المشتري دخل معه في العقد على أن يتلفه بغير عوض، فقد غره فاستقر الضمان على الغاصب، كعوض الولد. والثانية: يرجع به؛ لأن المشتري استوفى بدل ذلك، فتقرر ضمانه عليه، وإن ضمن المشتري، رجع على الغاصب بما لا يرجع به الغاصب عليه؛ لأنه استقر ضمانه على الغاصب، ولم يرجع بما يرجع به الغاصب عليه؛ لأنه لا فائدة في رجوعه عليه بما يرجع به الغاصب عليه. فصل: وإن وهب المغصوب لعالم بالغصب، أو أطعمه إياه، استقر الضمان على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 المتهب، ولم يرجع على أحد؛ لما ذكرنا في المشتري، وإن لم يعلم، رجع بما غرم على الغاصب؛ لأنه غره بدخوله معه، على أنه لا يضمن. وعنه: فيما إذا أكله أو أتلفه: لا يرجع به؛ لأنه غرم ما أتلف، فعلى هذا إن غرم الغاصب، رجع على الأكل؛ لأنه أتلف، فاستقر الضمان عليه، وإن أجر الغاصب العين، ثم استردها المالك، رجع على من شاء منهما بأجرتها، ويستقر الضمان على المستأجر علم أو جهل؛ لأنه دخل في العقد على أن يضمن المنفعة، ويسقط عنه المسمى في الإجارة، وإن تلفت العين فغرمها، رجع به على الغاصب إذا لم يعلم؛ لأنه دخل معه، على أنه لا يضمن، وإن وكل رجلًا في بيعها، أو أودعها، فللمالك تضمين من شاء، لما ذكرنا. وإن ضمنهما، رجعا بما غرما على الغاصب، إلا أن يعلما بالغصب، فيستقر الضمان عليهما. وإن أعارها، استقر الضمان على المستعير، علم أو جهل؛ لأنه دخل معه، على أنها مضمونة عليه، وإن غرمه الأجرة، ففيه وجهان. مضى توجيههما في المشتري. فصل: وإن أطعم المغصوب لمالكه فأكله عالمًا به، برئ الغاصب؛ لأنه أتلف ماله برضاه، عالمًا به، وإن لم يعلم، فالمنصوص أنه يرجع. قيل لأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل له قبل رجل تبعة فأوصلها إليه على سبيل صدقة أو هدية، ولم يعلم، فقال: كيف هذا؟ هذا يرى أنه هدية. ويقول هذا: لك عندي هدية؛ لأنه بالغصب أزال سلطانه، وبالتقديم إليه لم يعد ذلك السلطان، فإنه إباحة لا يملك بها التصرف في غير ما أذن له فيه. ويتخرج أن يبرأ؛ لأنه رد إليه ماله فبرئ، كما لو وهبه إياه. ويحمل كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، على أنه أوصل إليه بدله، فأما إذا وهبه إياه، فالصحيح أنه يبرأ؛ لأنه قد تسلمه تسليمًا صحيحًا، ورجع إليه سلطانه به، وزالت يد الغاصب بالكلية، وكذلك إن باعه إياه، وسلمه إليه. فأما إن أودعه إياه، أو أعاره أو أجره إياه، فإن علم أنه ماله، برئ الغاصب؛ لأنه عاد إلى يده وسلطانه وإن لم يعلم، لم يبرأ؛ لأنه لم يعد إليه سلطانه، وإنما قبضه على الأمانة، وقال بعض أصحابنا: يبرأ؛ لأنه عاد إلى يده. فصل: وأم الولد تضمن بالغصب؛ لأنها تضمن في الإتلاف بالقيمة، فتضمن في الغصب، كالقن، ولا يضمن الحر بالغصب؛ لأنه ليس بمال، فلم يضمن باليد. وإن حبس حرًا فمات، لم يضمنه لذلك إلا أن يكون صغيرًا، ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن؛ لأنه حر أشبه الكبير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 والثاني: يضمنه؛ لأنه تصرف له في نفسه، أشبه المال، فإن قلنا: لا يضمنه فكان عليه حلي، فهل يضمن الحلي؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يضمنه؛ لأنه تحت يده، أشبه ثياب الكبير. والثاني: يضمنه؛ لأنه استولى عليه، فأشبه ما لو كان منفردًا، وإن استعمل الكبير مدة كرهًا، فعليه أجرته؛ لأنه أتلف عليه ما يتقوم، فلزمه ضمانه، كإتلاف ماله. وإن حبسه مدة لمثلها أجرة، ففيه وجهان: أحدهما: تلزمه الأجرة؛ لأنها منفعة تضمن بالإجارة، فضمنت بالغصب، كنفع المال. والثاني: لا يلزمه؛ لأنها تلفت تحت يده، فلم تضمن، كأطرافه. فصل: وإن غصب كلبًا يجوز اقتناؤه، لزمه رده؛ لأن فيه نفعًا مباحًا، وإن غصب خمر ذمي، لزمه ردها إليه؛ لأنه يقر على اقتنائها وشربها، وإن غصبها من مسلم، وجبت إراقتها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإراقة خمر الأيتام، وإن أتلفها لمسلم أو ذمي لم يضمنها؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه» ولأنها يحرم الانتفاع بها فلم تضمن، كالميتة. وإن غصبه منهما، فتخلل في يده، لزمه رده إلى صاحبه؛ لأنها صارت خلًا على حكم ملكه. فإن تلف ضمنه؛ لأنه مال تلف في يد الغاصب، فإن أراقه صاحبه، فجمعه إنسان فتخلل، لم يلزمه رده؛ لأن صاحبه أزال ملكه عنه بتبديده. فصل: فإن غصب جلد ميتة، ففي وجوب رده وجهان، مبنيان على طهارته بالدباغ، إن قلنا: يطهر، وجب رده؛ لأنه يمكن التوصل إلى تطهيره، أشبه الثوب النجس. وإن قلنا: لا يطهر، لم يجب رده، ويحتمل أن يجب، إذا قلنا: يجوز الانتفاع به في اليابسات، ككلب الصيد. وإن أتلفه، لم يضمنه؛ لأنه لا قيمة له. فصل: وإن كسر صليبًا أو مزمارًا لم يضمنه؛ لأنه لا يحل بيعه، فأشبه الميتة. وإن كسر أواني الذهب والفضة لم يضمنها؛ لأن اتخاذها محرم، وإن كسر آنية الخمر، ففيه روايتان: إحداهما: يضمنها؛ لأنه مال غير محرم، ولأنها تضمن إذا كان فيها خل، فتضمن إذا كان فيها خمر، كالدار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 والثانية: لا تضمن لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بتشقيق زقاق الخمر» رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المسند. فصل: ومن أتلف مالًا محترمًا لغيره ضمنه؛ لأنه فوته عليه فضمنه، كما لو غصبه فتلف عنده. وإن فتح قفص طائر فطار، أو حل دابة فشردت، أو قيْدَ عبد فذهب، أو رباط سفينة فغرقت، ضمن ذلك كله؛ لأنه تلف بسبب فعله فضمنه، كما لو نفر الطائر أو الدابة. وإن فعل ذلك، فلم يذهب حتى جاء آخر فنفرهما، فالضمان على المنفر؛ لأن فعله أخص، فاختص الضمان به كالدافع مع الحافر، وإن وقف طائر على جدار، فنفره إنسان فطار لم يضمنه؛ لأن تنفيره لم يكن سبب فواته؛ لأنه كان فائتًا قبله، وإن طار في هواء داره فرماه فقتله ضمنه؛ لأنه لا يملك منع الطائر الهواء، فأشبه ما لو قتله في غير داره. فصل: وإن حل زقاق فاندفق، أو خرج منه شيء، بل أسفله فسقط، أو سقط بريح، أو زلزلة، أو كان جامدًا فذاب في الشمس فاندفق ضمنه؛ لأنه تلف بسببه فضمنه، كما لو دفعه، وقال القاضي: لا يضمنه إذا سقط بريح، أو زلزلة؛ لأن فعله غير ملجئ، فلا يضمنه، كما لو دفعه إنسان آخر. ولنا أنه لم يتخلل بين فعله وتلفه مباشرة يمكن إحالة الضمان عليه، فيجب أن يضمنه، كما لو جرح إنسانًا فأصابه الحر فمات به، فأما إن بقي واقفًا، فجاء إنسان فدفعه، ضمن الثاني؛ لأنه مباشر، وإن كان يخرج قليلًا قليلًا، فجاء إنسان فنكسه فاندفق، ضمن الثاني ما خرج بعد التنكيس؛ لأنه مباشر له، فهو كالذابح بعد الجارح، ويحتمل أن يشتركا فيما بعد التنكيس، وإن فتح زقًا فيه جامد، فجاء آخر فقرب إليه نارًا فأذابه فاندفق؛ ضمنه الثاني؛ لأنه باشر الإتلاف. وإن أذابه الأول، ثم فتحه الثاني، فالضمان على الثاني؛ لأن التلف حصل بفعله. فصل: وإن أجج في سطحه نارًا، فتعدت فأحرقت شيئًا لجاره، وكان ما فعله يسيرًا جرت العادة به، لم يضمن؛ لأنه غير متعد، وإن أسرف فيه لكثرته، أو كونه في ريح عاصف ضمن. وكذلك إن سقى أرضه فتعدى إلى حائط آخر. فصل: وإن أطارت الريح إلى داره ثوبًا، لزمه حفظه؛ لأنه أمانة حصلت في يده، فلزمه حفظها كاللقطة. فإن عرف صاحبه، لزمه إعلامه، فإن لم يفعل، ضمنه كاللقطة إذا ترك تعريفها، وإن دخل طائر داره، لم يلزمه حفظه، ولا إعلام صاحبه؛ لأنه محفوظ بنفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 فإن أغلق عليه بابًا ليمسكه ضمنه؛ لأنه أمسكه لنفسه، فضمنه كالغاصب، فإن لم ينو ذلك لم يضمنه؛ لأنه يملك التصرف في داره، فلم يضمن ما فيها. فصل: إذا اختلف المالك والغاصب في تلف المغصوب، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يعتذر إقامة البينة على التلف، ويلزمه البدل؛ لأنه بيمينه تعذر الرجوع إلى العين، فوجب بدلها، كما لو أبق العبد المغصوب. وإن اختلفا في قيمة المغصوب، فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة المختلف فيها، فأشبه من ادعى عليه بدين، فأقر ببعضه وجحد باقيه، وإن قال المالك: كان كاتبًا قيمته ألف، وقال الغاصب: كان أميًا قيمته مائة، فالقول قول الغاصب؛ لما ذكرناه. وإن قال الغاصب: كان سارقًا فقيمته مائة، وقال المالك: لم يكن سارقًا فقيمته ألف، فالقول فقول المالك؛ لأن الأصل عدم السرقة، وإن غصبه طعامًا وقال: كان عتيقًا فلا يلزمني حديث، وأنكره المالك فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته من الحديث، ويأخذ المغصوب منه العتيق؛ لأنه دون حقه، وإن اختلفا في الثياب التي على العبد المغصوب هل هي للغاصب أو للمالك؟ فهي للغاصب؛ لأنها والعبد في يده، فكان القول قوله فيها. وإن غصبه خمرًا، فقال المالك: استحالت خلًا، فأنكره الغاصب، فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل عدم الاستحالة. فصل: إذا اشترى رجل عبدًا، فادعى رجل أن البائع غصبه إياه، فأنكره المشتري وصدقه البائع، حلف المشتري، والعبد له، وعلى البائع قيمته، ولا يملك مطالبة المشتري بالثمن؛ لأنه لا يدعيه، أما أن يغرم قيمته مطالبته بأقل الأمرين، من قيمته، أو ثمنه؛ لأنه يدعي القيمة، والمشتري يقر بالثمن فيكون له أقلهما، وللمالك مطالبة المشتري؛ لأنه مقر بالثمن للبائع، والبائع يقر به لمالكه، فإن قلنا بصحة تصرف الغاصب، فله مطالبته بجميع الثمن. وإن قلنا: لا يصح، فله أقل الأمرين، لما تقدم. وإن صدقه المشتري، فأنكره البائع، حلف البائع وبرئ، ويأخذ المدعي عبده، لما روى سمرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به» وإن كان المشتري أعتق العبد، فصدق البائع والمشتري المالك، غرم أيهما شاء قيمته، ويستقر الضمان على المشتري؛ لأنه أتلف العبد بعتقه، وإن وافقهما العبد على التصديق فكذلك، ولم يبطل العتق؛ لأنه حق الله تعالى، فلا يقبل قولهم في إبطاله. وفيه وجه آخر: أنه يبطل العتق إذا صدقوه كلهم، ويعود العبد رقيقًا للمدعي؛ لأنه إقرار بالرق على وجه لا يبطل به حق أحد فقبل، كإقرار مجهول الحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 [ كتاب الشفعة ] وهي استحقاق انتزاع الإنسان صحة شريكه من مشتريها مثل ثمنها، وهي ثابتة بالسنة والإجماع؛ أما السنة فما روى جابر قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل شرك لم يقسم، ربعة، أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن شاء، أخذ. وإن شاء ترك، فإن باع ولم يستأذنه، فهو أحق به» رواه مسلم. وأجمع المسلمون على ثبوت الشفعة في الجملة، ولا تثبت إلا بشروط سبعة. أحدها: أن يكون المبيع أرضًا للخبر، ولأن الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك، بخلاف غيره، فأما غير الأرض فنوعان: أحدهما: البناء والغراس. فإذا بيعا مع الأرض، ثبتت الشفعة فيه؛ لأنه يدخل في قوله حائط، وهو البستان المحوط، ولأنه يراد للتأبيد، فهو كالأرض، وإن بيع منفردًا، فلا شفعة فيه؛ لأنه ينقل ويحول، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن فيه شفعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم» ولأن في الأخذ بها رفع ضرر الشركة، فأشبه الأرض، والمذهب الأول؛ لأن هذا مما لا يتباقى ضرره، فأشبه المكيل. وفي سياق الخبر ما يدل على أنه أراد الأرض؛ لقوله: فإذا طرقت الطرق، فلا شفعة. النوع الثاني: الزرع والثمرة الظاهرة، والحيوان وسائر المبيعات، فلا شفعة فيه تبعًا ولا أصلًا؛ لأنها لا تدخل في البيع تبعًا، فلا تدخل في الشفعة تبعًا، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الشفعة في كل ما لا ينقسم، كالحجر والسيف والحيوان وما في معناه، ووجه الروايتين ما ذكرناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 فصل: الشرط الثاني: أن يكون المبيع مشاعًا؛ لما روى جابر قال: «قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة» رواه البخاري. ولأن الشفعة، ثبتت لدفع الضرر الداخل عليه بالقسمة من نقص قيمة الملك، وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق، ولا يوجد هذا في المقسوم. فصل: الشرط الثالث: أن يكون مما تجب قسمته عند الطلب، فأما ما لا تجب قسمته كالرحى والبئر الصغيرة والدار الصغيرة، فلا شفعة فيه؛ لما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا شفعة في بئر ولا نخل، ولأن إثبات الشفعة إنما كان لدفع الضرر الذي يلحق بالمقاسمة، وهذا لا يوجد فيما لا يقسم، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن الشفعة تثبت فيه؛ لعموم الخبر، ولأنه عقار مشترك، فثبتت فيه الشفعة، كالذي يمكن قسمته. والمذهب الأول. فأما الطريق في درب مملوك. فإن لم يكن للدار طريق سواها، فلا شفعة فيها؛ لأنه يضر بالمشتري لكون داره تبقى بلا طريق. وإن كان لها غيرها، ويمكن قسمتها بحيث يحصل لكل واحد منهم طريق، ففيها الشفعة؛ لوجود المقتضي لها، وعدم الضرر في الأخذ بها، وإن لم يمكن قسمتها، خرج فيها روايتان كغيرها. فصل: الشرط الرابع: أن يكون الشقص منتقلًا بعوض، فأما الموهوب والموصى به فلا شفعة فيه؛ لأنه انتقل بغير بدل، أشبه الموروث، والمنتقل بعوض نوعان: أحدهما: ما عوضه المال كالمبيع، ففيه الشفعة بالإجماع، والخبر ورد فيه. الثاني: ما عوضه غير المال: كالصداق، وعوض الخلع، والصلح عن دم العمد، وما اشتراه الذمي بخمر، أو خنزير، فلا شفعة فيه في ظاهر المذهب؛ لأنه انتقل بغير مال، أشبه الموهوب، ولأنه لا يمكن الأخذ بمثل العوض، أشبه الموروث. وقال ابن حامد: فيه الشفعة؛ لأنه عقد معاوضة، أشبه البيع، فعلى قوله يأخذ الشقص بقيمته، لأن أخذه بمهر المثل يفضي إلى تقويم البضع في حق الأجانب، ذكره القاضي. وقال الشريف: يأخذه بمهر المثل؛ لأنه ملكه ببدل لا مثل له، فيجب الرجوع إلى قيمته، كما لو اشتراه بعوض، ولا تجب الشفعة بالرد بالعيب. والفسخ بالخيار أو الاختلاف؛ لأنه فسخ للعقد وليس بعقد، ولا برجوع الزوج في الصداق، أو نصفه قبل الدخول لذلك، ولا بالإقالة إذا قلنا: هي فسخ لذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فصل: الشرط الخامس: الطلب بها على الفور ساعة العلم، فإن أخرها مع إمكانها سقطت الشفعة. قال أحمد: الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة كحل العقال» رواه ابن ماجه. ولأن إثباتها على التراخي يضر بالمشتري، لكونه لا يستقر ملكه على المبيع، ولا يتصرف فيه بعمارة، خوفًا من أخذ المبيع وضياع عمله. وقال ابن حامد: تتقدر بالمجلس وإن طال؛ لأنه كله في حكم حالة العقد، بدليل صحة العقد بوجود القبض؛ لما يشترط قبضه فيه. وعن أحمد: أنه على التراخي، ما لم توجد منه دلالة على الرضا، كقوله: بعني أو صالحني على مال أو قاسمني؛ لأنه حق لا ضرر في تأخيره، أشبه القصاص. والمذهب الأول، لكن إن أخره لعذر، مثل أن يعلم ليلًا فيؤخره إلى الصباح، أو لحاجته إلى أكل أو شرب، أو طهارة، أو إغلاق باب، أو خروج من الحمام، أو خروج لصلاة أو نحو هذا، لم تبطل شفعته؛ لأن العادة البداءة بهذه الأشياء، إلا أن يكون حاضرًا عنده فيترك المطالبة، فتبطل شفعته؛ لأنه لا ضرر عليه في الطلب بها، وإن لقيه الشفيع فبدأه بالسلام، لم تبطل شفعته؛ لأن البداءة بالسلام سنة، وكذلك إن دعا له فقال: بارك الله لك في صفقة يمينك؛ لاحتمال أن يكون دعا له في صفقته؛ لأنها أوصلته إلى شفعته. وإن أخر الطلب لمرض، أو حبس، أو غيبة، لم يمكنه فيه التوكيل ولا الإشهاد، فهو على شفعته؛ لأنه تركه لعذر. وإن قدر على إشهاد من تقبل شهادته، فلم يفعل، ولم يسر في طلبها من غير عذر، بطلت شفعته؛ لأنه قد يترك الطلب زهدًا، أو للعذر، فإذا أمكنه تبيين ذلك بالإشهاد، فلم يفعل، بطلت شفعته، كترك الطلب في حضوره، وإن لم يشهد وسار عقيب علمه؛ ففيه وجهان: أحدهما: تبطل؛ لأن السير قد يكون لطلبها أو لغيره، فوجب بيان ذلك بالإشهاد، كما لو لم يسر. والثاني: لا تبطل؛ لأن سيره عقيب علمه ظاهر في طلبها، فاكتفي به، كالذي في البلد، وإن أشهد ثم أخر القدوم لم تبطل شفعته؛ لأن عليه في العجلة ضررًا؛ لانقطاع حوائجه. وقال القاضي: تبطل إن تركه مع الإمكان، وإن كان له عذر، فقدر التوكيل فلم يفعل، ففيه وجهان: أحدهما: تبطل شفعته؛ لأنه تارك للطلب مع إمكانه، فأشبه الحاضر. والثاني: لا تبطل؛ لأنه إن كان بجعل، ففيه غرم، وإن كان بغيره ففيه منة، وقد لا يثق به. وإن أخر المطالبة بعد قدومه وإشهاده، ففيه وجهان. بناء على تأخير السير لطلبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 فصل: فإن ترك الطلب لعدم علمه بالبيع، أو لكون المخبر لا يقبل خبره، أو لإظهار المشتري أن الثمن أكثر مما هو، أو أنه اشترى البعض، أو اشترى بغير النقد الذي اشترى به، أو أنه اشتراه لغيره، أو أنه اشتراه لنفسه، وكان كاذبًا فهو على شفعته، ولو عفا عن الشفعة لذلك لم تسقط؛ لأنه قد لا يرضاه بالثمن الذي أظهره، أو لأنه لا يقدر على النقد، وقد يرضى مشاركة من نسب إليه البيع، دون من هو له في الحقيقة، فلم يكن ذلك رضا منه بالبيع الواقع، وإن أظهر الثمن قليلًا فترك الشفعة، وكان كثيرًا، سقطت؛ لأنه من لا يرضى بالقليل، ولا يرضى بأكثر منه. فإن ادعى أنه لم يصدق المخبر، وهو ممن يقبل خبره الديني، سقطت شفعته، رجلًا كان أو امرأة، إذا كان يعرف حاله؛ لأن هذا من باب الإخبار، وقد أخبره من يجب تصديقه، وإن لم يكن المخبر كذلك، فالقول قوله. فصل: فإن باع الشفيع حصته عالمًا بالبيع، بطلت شفعته لأنها ثبتت، لإزالة ضرر الشركة، وقد زال ببيعه، وإن باع قبل العلم فكذلك. عند القاضي: لذلك، ولأنه لم يبق له ملك يستحق به. وقال أبو الخطاب: لا تسقط؛ لأنها ثبتت بوجود ملكه حين البيع، وبيعه قبل العلم لا يدل على الرضا، فلا تسقط. وله أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه، ولمشتريه أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه؛ لأنه كان مالكًا حين البيع الثاني ملكًا صحيحًا، فثبتت له الشفعة. وعلى قول القاضي: للمشتري الأول أخذ الشقص من المشتري الثاني. وإن باع الشفيع البعض، احتمل سقوط الشفعة؛ لأنها استحقت بجميعه. وقد ذهب بعضه فسقط الكل، ويحتمل أن لا تسقط؛ لأنه قد بقي من نصيبه ما يستحق به الشفعة في جميع المبيع. فصل: الشرط السادس: أن يأخذ جميع المبيع، فإن عفا عن البعض، أو لم يطلبه سقطت شفعته؛ لأن في أخذ البعض تفريقًا لصفقة المشتري، وفيه إضرار به، وإنما ثبتت الشفعة على وجه يرجع المشتري بماله، من غير ضرر به، فمتى سقط بعضها، سقطت كلها كالقصاص، فإن كان المبيع شقصين من أرضين فله أخذ أحدهما؛ لأنه يستحق كل واحد منهما بسبب غير الآخر، فجرى مجرى الشريكين، ويحتمل ألا يملك ذلك؛ لأن فيه تفريق صفقة المشتري، أشبه الأرض الواحدة. وإن كان البائع، أو المشتري اثنين من أرض، أو أرضين، فله أخذ نصيب أحدهما؛ لأنه متى كان في أحد طرفي الصفقة اثنان، فهما عقدان، فكان له الأخذ بأحدهما، كما لو كانا متفرقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 فصل: فإن كان للشقص شفعاء، فالشفعة بينهم على قدر حصصهم في الملك، في ظاهر المذهب؛ لأنه حق يستحق بسبب الملك، فيسقط على قدره، كالإجارة والثمرة. وعنه: أنها بينهم بالسوية، اختارها ابن عقيل؛ لأن كل واحد منهم يأخذ الكل لو انفرد، فإن اجتمعوا تساووا، كسراية العتق، فإن عفا بعضهم توفر نصيبه على شركائه، وليس لهم أخذ البعض؛ لأن فيه تفريق صفقة المشتري، وإن جعل بعضهم حصته لبعض شركائه، أو لأجنبي، لم يصح، وكانت لجميعهم؛ لأنه عفو وليس بهبة، وإن حضر بعض الشركاء وحده، فليس له إلا أخذ الجميع؛ لئلا تتبعض صفقة المشتري، فإن ترك الطلب انتظارًا لشركائه، ففيه وجهان: أحدهما: تسقط شفعته، لتركه طلبها مع إمكانه. والثاني: لا تسقط؛ لأن له عذرًا، وهو الضرر الذي يلزمه بأخذ صاحبيه منه، فإن أخذ الجميع، ثم حضره الثاني قاسمه، فإذا حضر الثالث قاسمهما، وما حدث من النماء المنفصل في يد الأول، فهو له؛ لأنه حدث في ملكه، وإن أراد الثاني الاقتصار على قدر حقه، فله ذلك؛ لأنه لا تتبعض الصفقة على المشتري، إنما هو تارك بعض حقه لشريكه، فإذا قدم الثالث فله أن يأخذ ثلث ما في يد الثاني، وهو التسع فيضمه إلى ما في يد الأول، وهو الثلثان تصير سبع أتساع، يقتسمانها نصفين، لكل واحد منهما ثلاثة أتساع ونصف تسع، وللثاني تسعان، ولو ورث اثنان دارًا، فمات أحدهما عن ابنين، فباع أحدهما نصيبه، فالشفعة بين أخيه وعمه؛ لأنهما شريكان للبائع، فاشتركا في شفعته، كما لو ملكا بسبب واحد. فصل: وإن كان المشتري شريكًا، فالشفعة بينه وبين الشريك الآخر؛ لأنهما تساويا في الشركة، فتساويا في الشفعة، كما لو كان الشريك أجنبيًا، فإن أسقط المشتري شفعته ليلزم شريكه أخذ الكل، لم يملك ذلك؛ لأن ملكه استقر على قدر حقه، فلم يسقط بإسقاطه، وإن كان المبيع شقصًا وسيفًا صفقة واحدة، فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن نص عليه. ويحتمل أن لا يجوز، لئلا تتشقص صفقة المشتري، والصحيح الأول؛ لأن المشتري أضر بنفسه، حيث جمع في العقدين فيما فيه شفعة، وما لا شفعة فيه. فصل: الشرط السابع: أن يكون الشفيع قادرًا على الثمن؛ لأن أخذ المبيع من غير دفع الثمن إضرار بالمشتري، وإن عرض رهنًا، أو ضمينًا، أو عوضًا عن الثمن، لم يلزمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 قبوله؛ لأن في تأخير الحق ضررًا، وإن أخذ بالشفعة، لم يلزم تسليم الشقص حتى يتسلم الثمن، فإن تعذر تسليمه، قال أحمد: يصبر يومًا أو يومين، أو بقدر ما يرى الحاكم، فأما أكثر فلا، فعلى هذا إن أحضر الثمن، وإلا فسخ الحاكم الأخذ، ورده إلى المشتري، فإن أفلس بعد الأخذ، خير المشتري بين الشقص وبين أن يضرب مع الغرماء، كالبائع المختار. فصل: ويأخذه بالثمن الذي استقر العقد عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جابر: «فهو أحق به بالثمن» رواه أبو إسحاق الجوزجاني. ولأنه استحقه بالبيع، فكان عليه الثمن كالمشتري. فإن كان الثمن مثليًا كالأثمان والحبوب والأدهان، وجب مثله، وإن كان غير ذلك، وجب قيمته، لما ذكرنا في الغصب، وتعتبر قيمته حين وجوب الشفعة، كما يأخذ بالثمن الذي وجب بالشفعة، فإن حط بعض الثمن عن المشتري، أو زيد عليه في مدة الخيار؛ لحق العقد، ويأخذه الشفيع بما استقر عليه العقد؛ لأن زمن الخيار كحال العقد. وما وجد بعد ذلك من حط أو زيادة، لم تلزم في حق الشفيع؛ لأنه ابتداء هبة، فأشبه غيره من الهبات، وإن كان الثمن مؤجلًا، أخذ به الشفيع إن كان مليًا، وإلا أقام ضمينًا مليًا وأخذ به؛ لأنه تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته، والتأجيل من صفته. وإن كان الثمن عبدًا، فأخذ الشفيع بقيمته، ثم وجد به البائع عيبًا فأخذ أرشه، وكان الشفيع أخذ بقيمته سليمًا، لم يرجع عليه بشيء؛ لأن الأرش دخل في القيمة، وإن أخذ بقيمته معيبًا، رجع عليه بالأرش الذي أخذه البائع من المشتري؛ لأن البيع استقر بعبد سليم، وإن رد البائع العبد قبل أخذ الشفيع، انفسخ العقد ولا شفعة؛ لزوال السبب قبل الأخذ، ولأن في الأخذ بالشفعة إسقاط حق البائع من استرجاع المبيع وفيه ضرر، ولا يزال الضرر بالضرر، وإن رده بعد أخذ الشفيع، رجع بقيمة الشقص، وقد أخذه الشفيع بقيمة العبد، فإن كانتا مختلفتين، رجع صاحب الأكثر على الآخر بتمام القيمة؛ لأن الشفيع يأخذ بما استقر عليه العقد، والذي استقر عليه العقد، قيمة الشقص، وإن أصدق امرأة شقصًا، وقلنا: تجب الشفعة فيه، فطلق الزوج قبل الدخول والأخذ بالشفعة، ففيه وجهان: أحدهما: لا شفعة لما ذكرنا. والثاني: يقدم حق الشفيع؛ لأنه حق أسبق؛ لأنه ثبت بالعقد، وحق الزوج بالطلاق بخلاف البائع، فإن حقه ثبت بالعيب القديم. فصل: فإن اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 العاقد، فهو أعلم بالثمن، ولأن المبيع ملكه، فلا ينزع منه بدعوى مختلف فيها إلا ببينة، وإن قال المشتري: لا أعلم قدر الثمن، فالقول قوله؛ لأنه أعلم بنفسه، فإن حلف، سقطت الشفعة؛ لأنه لا يمكن الأخذ بغير ثمن، ولا يمكن أن يدفع إليه مالًا يدعيه إلا أن يفعل ذلك تحيلًا على إسقاطها، فلا تسقط، ويؤخذ الشقص بقيمته؛ لأن الغالب بيعه بقيمته. وإن ادعى أنك فعلته تحيلًا فأنكر، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه منكر. وإن كان الثمن عرضًا، فاختلفا في قيمته، رجع إلى أهل الخبرة إن كان موجودًا، وإن كان معدومًا، فالقول قول المشتري في قيمته. وإن اختلفا في الغراس والبناء في الشقص، فقال المشتري: أنا أحدثته، وقال الشفيع: كان قديمًا، فالقول قول المشتري مع يمينه. ولو قال: اشتريت نصيبك فلي فيه الشفعة، وأنكر ذلك، فقال: بل اتهبته، أو ورثته، فالقول قوله مع يمينه. فصل: فإن ادعى عليه الشراء، فقال: اشتريته لفلان سئل المقر له، فإن صدقه، فهو له، وإن كذبه، فهو للمشتري، ويؤخذ بالشفعة في الحالين. وإن كان المقر له غائبًا، أخذه الشفيع بإذن الحاكم والغائب على حجته إذا قدم؛ لأننا لو وقفنا الأمر لحضور المقر له، كان ذلك إسقاطًا للشفعة؛ لأن كل مشتر يدعي أنه لغائب. وإن قال: اشتريته لابني الطفل، فهو كالغائب في أحد الوجهين. وفي الآخر: لا تجب الشفعة؛ لأن الملك ثبت للطفل، ولا يثبت في ماله حق بإقرار وليه عليه. فأما إن ادعى عليه الشفعة في شقص فقال: هذا لفلان الغائب، أو الطفل، فلا شفعة فيه؛ لأنه قد ثبت لهما، فإقراره بذلك إقرار إلى غيره، فلا يقبل. فصل: إذا اختلف البائع والمشتري، فقال البائع: الثمن، ألفان، وقال المشتري: هو ألف، فأقام البائع بينة بدعواه، ثبتت، وللشفيع أخذه بألف؛ لأن المشتري يقر أنه لا يستحق أكثر منها، وأن البائع ظلمه، فلا يرجع بما ظلمه على غيره. فإن قال المشتري: غلطت والثمن ألفان، لم يقبل؛ لأنه رجوع عن إقراره فلم يقبل. كما لو أقر لأجنبي. وإن لم يكن بينة تحالفا، وليس للشفيع أخذه بما حلف عليه المشتري؛ لأن فيه إلزامًا للعقد في حق البائع، بخلاف ما حلف عليه. فإن بذل ما حلف عليه البائع، فله الأخذ؛ لأن البائع، مقر له بأنه يستحق الشفعة به، ولا ضرر على المشتري فيه. فصل: وإن أقر البائع بالبيع فأنكره المشتري، ففيه وجهان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 أحدهما: لا تثبت الشفعة؛ لأن الشراء لم يثبت، فلا تثبت الشفعة التابعة له، ولأن البائع إن أقر بقبض الثمن، لم يمكن الشفيع دفعه إلى أحد؛ لأنه لا مدعي له، ولا يمكن الأخذ بغير ثمن، وإن لم يقر البائع بقبضه، فعلى من يرجع الشفيع بالعهدة. والثاني: تثبت الشفعة؛ لأن البائع مقر بحق للمشتري والشفيع، فإذا لم يقبل المشتري قبل الشفيع، وثبت حقه، ويأخذ الشقص من البائع، ويدفع إليه الثمن. وإن لم يكن أقر بقبضه، والعهدة عليه؛ لأن الأخذ منه. وإن أقر بقبض الثمن عرضناه على المشتري، فإن قبله دفع إليه، وإلا أقر في يد الشفيع في أحد الوجوه، وفي الآخر يؤخذ إلى بيت المال. والثالث: يقال له: إما أن تقبض، وأما أن تبرئ، وأصل هذا إذا أقبر بمال في يده لرجل، فلم يعترف به. فصل: وإذا تصرف المشتري في الشقص قبل أخذ الشفيع، لم يخل من خمس أضرب: أحدها: تصرف بالبيع، وما تستحق به الشفعة، فللشفيع الخيار بين أن يأخذ بالعقد الثاني، وبين فسخه، ويأخذ بالعقد الأول؛ لأنه شفيع في العقدين، فملك الأخذ بما شاء منهما، فإن أخذه بالثاني، دفع إلى المشتري الثاني مثل ثمنه، وإن أخذه بالأول، دفع إلى المشتري الأول مثل الذي اشتري به، وأخذ الشقص، ويرجع الثاني على الأول بما أعطاه ثمنًا، وإن كان ثم ثالث، رجع الثالث على الثاني. الثاني: تصرف برد أو إقالة، فللشفيع فسخ الإقالة والرد، ويأخذ الشقص؛ لأن حقه أسبق منهما، ولا يمكنه الأخذ معهما. الثالث: وهبه، أو وقفه، أو رهنه، أو أجره ونحوه، فعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تسقط الشفعة؛ لأن في الأخذ بها إسقاط حق الموهوب الموقوف عليه بالكلية، وفيه ضرر، بخلاف البيع؛ لأنه يوجب رد العوض إلى غير المالك، وحرمان المالك، وقال أبو بكر: تجب الشفعة؛ لأن حق الشفيع أسبق، فلا يملك المشتري التصرف بما يسقط حقه، ولأنه ملك فسخ البيع مع إمكان الأخذ به، فلأن يملك فسخ عقد لا يمكنه الأخذ به أولى، فعلى هذا تفسخ هذه العقود، ويأخذ الشقص، ويدفع الثمن إلى المشتري. الرابع: بناء أو غرس، ويتصور ذلك بأن يكون الشفيع غائبًا، فقاسم المشتري وكيله في القسمة أو رفع الأمر إلى الحاكم فقاسمه أو أظهر ثمنًا كثيرًا أو نحوه، فترك الشفيع الشفعة وقاسمه، فبنى وغرس، ثم أخذ الشفيع بالشفعة، فإن اختار المشتري أخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 بنائه أو غراسه، لم يمنع منه؛ لأنه ملكه، فملك نقله، ولا يلزمه تسوية الحفر، ولا ضمان النقص؛ لأنه غير متعد، ويحتمل كلام الخرقي أنه يلزمه تسوية الحفر؛ لأنه فعله في ملك غيره لتخليص ملكه، فأشبه ما لو كسر محبرة إنسان لتخليص ديناره منها، وإن لم يقلعه، فللشفيع الخيار بين أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء فيملكه، وبين أن يقلعه، ويضمن نقصه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» من المسند، ورواه ابن ماجه، ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك. الخامس: زرع الأرض، فالزرع يبقى لصاحبه حتى يستحصد؛ لأنه زرعه بحق، فوجب إبقاؤه له كما لو باع الأرض المزروعة. فصل: وإن نما المبيع نماء متصلًا، كغراس كبر، وطلع زاد قبل التأبير، أخذ الشفيع بزيادته؛ لأنها تتبع الأصل في الملك، كما تتبعه في الرد، وإن كان نماء منفصلًا كالغلة، والطلع المؤبر، والثمرة الظاهرة، فهي للمشتري؛ لأنها حدثت في ملكه، وليست تابعة للأصل، وتكون مبقاة إلى أوان الجذاذ؛ لأن أخذ الشفيع شراء ثان، فإن كان المشتري اشترى الأصل والثمرة الظاهرة معًا، أخذ الشفيع الأصل بحصته من الثمن، كالشقص والسيف. فصل: وإن تلف بعض المبيع، فهو من ضمان المشتري؛ لأنه ملكه تلف في يده، وللشفيع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن، ويأخذ أنقاضه؛ لأنه تعذر أخذ البعض، فجاز أخذ الباقي كما لو أتلفه الآدمي. وقال ابن حامد: إن تلف بفعل الله تعالى لم يملك الشفيع أخذ الباقي إلا بكل الثمن ويترك؛ لأن في أخذه بالبعض إضرارًا بالمشتري، فلم يملكه كما لو أخذ البعض مع بقاء الجميع. فصل: ويملك الشفيع الأخذ بغير الحاكم؛ لأنه حق ثبت بالإجماع، فلم يفتقر إلى الحكم، كالرد بالعيب، ويأخذه من المشتري، فإن كان في يد البائع، فامتنع المشتري من قبضه، أخذه من البائع؛ لأنه يملك أخذه فملكه، كما لو كان في يد المشتري. وقال القاضي: يجبر المشتري على القبض، ثم يأخذه الشفيع؛ لأن أخذه من البائع يفوت به التسليم المستحق، ولا يثبت للمشتري خيار؛ لأنه يؤخذ منه قهرًا، ولا للشفيع بعد التملك؛ لأنه يأخذه قهرًا، وذلك ينافي الاختيار، ويملك الرد بالعيب؛ لأنه مشتر ثان، فملك ذلك كالأول، وإن خرج مستحقًا، رجع بالعهدة على المشتري؛ لأنه أخذه منه على أنه ملكه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 فرجع عليه، كما لو اشتراه منه، ويرجع المشتري على البائع. فصل: وإذا أذن الشريك في البيع، لم تسقط شفعته؛ لأنه إسقاط حق قبل وجوبه، فلم يصح، كما لو أبرأه مما يجب له، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما هو ببعيد أن لا تكون له شفعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإذا باع ولم يؤذنه، فهو أحق به» رواه مسلم. يفهم منه أنه إذا باعه بإذنه لا حق له، وإن دل في البيع، أو توكل، أو ضمن العهدة، أو جعل له الخيار، فاختار إمضاء البيع، فهو على شفعته. فصل: وإذا كان البيع محاباة، أخذ الشفيع بها؛ لأنه بيع صحيح، فلا يمنع الشفعة فيه كونه مسترخصًا. وإن كان البائع مريضًا، والمحاباة لأجنبي فيما دون الثلث، أخذ الشفيع بها؛ لأنها صحيحة نافذة، وسواء كان الشفيع وارثًا، أو لم يكن؛ لأن المحاباة إنما وقعت للأجنبي، فأشبه ما لو وصى لغريم وارثه، ويحتمل ألا يملك الوارث الشفعة هاهنا؛ لإفضائه إلى جعل سبيل للإنسان إلى إثبات حق لوارثه في المحاباة، وإن كانت محاباة المريض لوارثه، أو لأجنبي لزيادة على الثلث، بطلت كلها في حق الوارث، والزيادة على الثلث في حق الأجنبي، وصح البيع في الباقي، وثبت للمشتري الخيار لتفريق صفقته، وللشفيع الأخذ على ذلك الوجه. فصل: إذا مات الشفيع قبل الطلب، بطلت شفعته، نص عليه؛ لأنه حق فسخ لا لفوات جزء، فلم يورث، كرجوع الأب في هبته، ويتخرج أن يورث؛ لأنه خيار ثبت لدفع الضرر عن المال فيورث، كالرد بالعيب، فإن مات بعد الطلب، لم يسقط؛ لأنها تقررت بالطلب بحيث لم يسقط بتأخيره، بخلاف ما قبله، فإن ترك بعض الورثة حقه، توفر على شركائه في الميراث، كالشفعاء في الأصل. فصل: وإن كان بعض العقار وقفًا، وبعضه طلقًا، فبيع الطلق، فذكر القاضي أنه لا شفعة لصاحب الوقف؛ لأن ملكه غير تام، فلا يستفيد به ملكًا تامًا. وقال أبو الخطاب: هذا ينبني على الروايتين في ملك الوقف، إن قلنا: هو مملوك، فلصاحبه الشفعة؛ لأنه يلحقه الضرر من جهة الشريك، فأشبه الطلق، وإن قلنا: ليس بمملوك، فلا شفعة له، لعدم ملكه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 فصل: ولا شفعة في بيع الخيار قبل انقضائه؛ لأن فيه إلزام البيع بغير رضا المتبايعين، وإسقاط حقهما من الخيار، وقيل: يؤخذ بالشفعة؛ لأن الملك انتقل، فإن كان الخيار للمشتري وحده، فللشفيع الأخذ؛ لأنه يملك الأخذ من المشتري قهرًا، ويحتمل أن لا يملكه؛ لأن فيه إلزام البيع في حق المشتري بغير رضاه. فصل وللصغير الشفعة، ولوليه الأخذ بها إن رأى الحظ فيها، فإذا أخذ فيها لم يملك الصغير إبطالها بعد بلوغه، كما لو اشترى له دارًا. وإن تركها مع الحظ فيها، لم تسقط، وملك الصغير الأخذ بها إذا بلغ، وإن تركها الولي للحظ في تركها، أو لإعسار الصبي، سقطت في قول ابن حامد؛ لأنه فعل ما تعين عليه فعله، فلم يجز نقضه، كالرد بالعيب. وظاهر كلام الخرقي: أنها لا تسقط؛ لأن للشفيع الأخذ مع الحظ وعدمه، فملك طلبها عند إمكانه، كالغائب إذا قدم، والمجنون كالصبي؛ لأنه محجور عليه. وإن باع الولي لأحد الأيتام نصيبًا، فله الأخذ بها للآخر، وإن كان الولي شريكًا، لم يملك الأخذ بها إن كان وصيًا؛ لأنه متهم، وإن كان أبًا، فله الأخذ؛ لأن له أن يشتري لنفسه مال ولده، وهل لرب المال الشفعة على المضارب فيما يشتريه؟ على وجهين بناء على شرائه منه لنفسه. فصل: ولا شفعة لكافر على مسلم؛ لما روى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شفعة لنصراني» رواه الطبراني في الصغير، ولأنه معنى يختص العقار، فلم يثبت للكافر على المسلم كالاستعلاء، وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي، وللذمي على الذمي، للخبر والمعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 [ باب إحياء الموات ] وهي الأرض الداثرة التي لا يعرف لها مالك، وهي نوعان: أحدهما: ما لم يجر عليه ملك، فهذا يملك بالإحياء؛ لما روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» رواه أحمد، والترمذي وصححه. ولا يفتقر إلى إذن الإمام للخبر، ولأنه تملك مباح، فلم يفتقر إلى إذن كالصيد. الثاني: ما جرى عليه ملك، وباد أهله، ولم يعرف له مالك، ففيه روايتان: إحداهما: يملك بالإحياء للخبر، ولما روى طاوس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم بعده» رواه أبو عبيد في الأموال، ولأنه في دار الإسلام فيملك، كاللقطة. والثانية: لا يملك؛ لأنه إما لمسلم، أو لذمي، أو بيت المال، فلم يجز إحياؤه، كما لو تعين مالكه. ويجوز إحياء ما قرب من العامر إذا لم يتعلق بمصالحه، للخبر والمعنى. وعنه: لا يملك؛ لأنه لا يخلو من مصلحة، فأشبه ما تعلق بمصالحه للخبر، والمذهب الأول. فصل: وما تعلقت به مصلحة العامر، كحريم البئر، وفناء الطريق، ومسيل الماء، ويملك بالإحياء، ولا يجوز لغير مالك العامر إحياؤه؛ لأنه تابع للعامر، مملوك لصاحبه، ولأن تجويز إحيائه، إبطال للملك في العامر على أهله، وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع، ومقاعد الأسواق لا يجوز تملكه بالإحياء؛ لأنه ليس بموات، وتجويز إحيائه، تضييق على الناس في أملاكهم وطرقهم، وهذا لا يجوز. فصل: ويجوز الإحياء من كل من يملك المال للخبر، ولأنه فعل يملك به، فجاز ممن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 يملك المال كالصيد. ويملك الذمي بالإحياء، في دار الإسلام لذلك. وقال ابن حامد: لا يملك فيها بالإحياء لخبر طاوس. وليس للمسلم إحياء أرض في بلد صولح الكفار على المقام فيه؛ لأن الموات تابع للبلد، فلم يجز تملكه عليهم كالعامر. فصل: وفي صفة الإحياء روايتان: إحداهما: أن يعمر الأرض لما يريدها له، ويرجع في ذلك إلى العرف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق الإحياء ولم يبين، فحمل على المتعارف. فإن كان يريدها للسكنى، فإحياؤها بحائط جرت عادتهم بالبناء به وتسقف، فإنها لا تصلح للسكنى، إلا بذلك، وإن أرادها حظيرة لغنم أو حطب، فبحائط جرت العادة بمثله، وإن أرادها للزرع، فبسوق الماء إليها من نهر أو بئر، ولا يعتبر حرثها؛ لأنه يتكرر كل عام، فأشبه السكنى، لا يحصل الإحياء به لذلك، وإن كانت أرضًا يكفيها المطر، فإحياؤها بتهيئتها للغرس والزرع، إما بقلع أشجارها، أو أحجارها، أو تنقيتها ونحو ذلك مما يعد إحياءً. وإن كانت من أرض البطائح، فإحياؤها بحبس الماء عنها؛ لأن إحياءها بذلك، ولا يعتبر في الإحياء للسكنى نصب أبواب؛ لأن السكنى ممكنة بدونه، والرواية الثانية: التحويط إحياء لكل أرض؛ لما روى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحاط حائطًا على أرض فهي له» رواه أبو داود. ولأن الحائط حاجز منيع، فكان إحياء، كما لو أرادها حظيرة. فصل: وإذا أحياها ملكها بما فيها من المعادن والأحجار؛ لأنه تملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها، وهذا منها. وإن ظهر فيها معدن جاز، كالقير والنفط والماء، ففيه روايتان: إحداهما: لا يملكه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار» رواه الخلال. وكذلك الحكم في الكلأ والشجر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حمى في الأراك» . والثانية: يملك ذلك كله؛ لأنه نماء ملكه، فملكه كشعر غنمه. فصل: ومن حفر بئرًا في موات، ملك حريمها، والمنصوص عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن حريم البئر البديء خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب. ومن سبق إلى بئر عادية فاحتفرها، فحريمها خمسون ذراعًا من كل جانب؛ لما روي عن سعيد بن المسيب أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 قال: «السنة في حريم البئر العادي خمسون ذراعًا، والبديء خمسة وعشرون ذراعًا» رواه أبو عبيد في الأموال. وروى الخلال والدارقطني عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، وقال القاضي: حريمها ما تحتاج إليه من ترقية الماء منها، كقدر مدار الثور، إن كان بدولاب، وقدر طول البئر إن كان بالسواني، وحمل التحديد في الحديث، وكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المجاز. والظاهر خلافه، فإنه قد يحتاج إلى حريمها لغير ترقية الماء، لموقف الماشية، وعطن الإبل ونحوه. وأما العين المستخرجة، فحريمها ما يحتاج إليها صاحبها، ويستضر بتملكه عليه، وإن كثر. وحريم النهر: ما يحتاج إليه، لطرح كرايته، وطريق شاويه، وما يستضر صاحبه بتملكه عليه، وإن كثر. فصل: ومن تحجر مواتًا، وشرع في إحيائه ولم يتم، فهو أحق به؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» رواه أبو داود. فإن نقله إلى غيره، صار الثاني أحق به؛ لأن صاحب الحق آثره به. فإن مات، انتقل إلى وارثه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك حقًا، أو مالًا فهو لوارثه» وإن باعه ولم يصح؛ لأنه لم يملكه، فلم يصح بيعه، كحق الشفعة، ويحتمل جواز بيعه؛ لأنه صار أحق به، فإن بادر إليه غيره فأحياه، لم يملكه في أحد الوجهين؛ لمفهوم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» ولأن حق المتحجر أسبق، فكان أولى، كحق الشفيع في المشتري. والثاني: يملكه؛ لأنه أحيا أرضًا ميتة، فيدخل في عموم الحديث، ولأن الإحياء يملك به، فقدم على التحجر الذي لا يملك به، وإن شرع في الإحياء وترك، قال له السلطان: إما أن تعمر، وإما أن ترفع يدك؛ لأنه ضيق على الناس في حق مشترك، فلم يمكن منه، كالوقوف في طريق ضيق، فإن سأل الإمهال، أمهل مدة قريبة، كالشهرين ونحوهما، فإن انقضت ولم يعمر، فلغيره إحياؤها وتملكها كسائر الموات. فصل: وإذا كان في الموات معدن ظاهر ينتفع به المسلمون كالملح، وعيون الماء والكبريت والكحل والقار، ومعادن الذهب والفضة والحديد ومقالع الطين ونحوها، لم يجز لأحد إحياؤها. ولا تملك بالإحياء؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع أبيض بن حمال معدن الملح، فلما قيل له: إنه بمنزلة الماء العد رده» رواه أبو داود. وقال: «يا رسول الله، ما يحمى هذا الأراك؟ فقال: ما لم تنله أخفاف الإبل» رواه أبو داود والترمذي، ولأن هذا مما يحتاج إليه. فلو ملك بالاحتجار، ضاق على الناس وغلت أسعاره، وكذلك ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 نضب عنه الماء من الجزائر عند الأنهار الكبار. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه أباح الجزائر وأنا آخذ به، يعني: ما ينبت فيها، ولأن البناء فيها يرد الماء إلى الجانب الآخر فيضر بأهله، ولأنها منبت الكلأ والحطب فأشبهت المعادن. فصل: وكل بئر ينتفع بها المسلمون، أو عين نابعة، فليس لأحد احتجارها؛ لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة، ومن حفر بئرًا لغير قصد التملك، إما لينتفع بها المسلمون، أو لينتفع بها مدة ثم يتركها لم يملكها، وكان أحق بها حتى يرحل عنها، ثم تكون للمسلمين، ومن حفر بئرًا للتملك فلم يظهر ماؤها، لم تملك به؛ لأنه ما تم إحياؤها، وكان كالمتحجر الشارع في الإحياء. فصل: وإن أحيا أرضًا، فظهر فيها معدن ملكه؛ لأنه لم يضيق على الناس به؛ لأنه الذي أخرجه، ولو كان في الموات أرض يمكن فيها إحداث معدن ظاهر، كشط البحر إذا حصل فيه ماؤه، صار ملحًا، ملكه بالإحياء؛ لأنه توسيع على المسلمين لا تضييق. فصل: ومن سبق إلى معدن ظاهر، وهو الذي يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة، كالماء والملح والنفط، أو باطن لا يوصل إلى ما فيه إلا بالعمل، كمعادن الذهب والحديد، كان أحق به للخبر. فإن أقام بعد قضاء حاجته منع منه؛ لأنه يضيق على الناس بغير نفع، فأشبه الوقوف في مشرعة ماء لا يستقى منها وإن طال مقامه للأخذ، ففيه وجهان: أحدهما: لا يمنع؛ لأنه سبق، فكان أحق، كحالة الابتداء. والثاني: يمنع؛ لأنه يضر كالمتحجر. فإن سبق إليه اثنان يضيق المكان عنهما، أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه، وقال بعض أصحابنا: إن كانا يأخذان للتجارة، هايأه الإمام بينهما. وإن كانا يأخذان للحاجة، ففيه أربعة أوجه: أحدها: يهايئاه بينهما. والثاني: يقرع بينهما. والثالث: يقدم الإمام من يرى منهما. والرابع: ينصب الإمام من يأخذ لهما، ويقسم بينهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 فصل: ومن شرع في حفر معدن، ولم يبلغ النيل به، فهو أحق به، كالشارع في الإحياء ولا يملكه، وإن بلغ النيل؛ لأن الإحياء العمارة، وهذا تخريب، فلا يملك به، ولأنه يحتاج في كل جزء إلى عمل، فلا يملك منه إلا ما أخذ. لكن يكون أحق به ما دام يأخذ. وإن حفره إنسان من جانب آخر، فوصل إلى النيل، لم يكن له منعه؛ لأنه لم يملكه. فصل: ويجوز الارتفاق بالقعود في الرحاب والشوارع والطرق الواسعة، للبيع والشراء، لاتفاق أهل الأمصار عليه من غير إنكار، ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار، فلا يمنع منه، كالاجتياز. ومن سبق إليه كان أحق به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى مناخ من سبق» وله أن يظلل عليه بما لا يضر بالمارة؛ لأن الحاجة تدعو إليه من غير ضرر بغيره، وليس له أن يبني دكة ولا غيرها؛ لأنها تضيق، ويعثر بها العابر. فإن قام وترك متاعه، لم يجز لغيره أن يقعد؛ لأن يده لم تزل. وإن طال القعود، ففيه وجهان، سبق توجيههما. وإن سبق إليه اثنان، ففيه وجهان: أحدهما: يقرع بينهما لتساويهما. والثاني: يقدم الإمام أحدهما؛ لأن له نظرًا واجتهادًا. فصل: في القطائع، هي ضربان: إقطاع، إرفاق، وهي مقاعد الأسواق والرحاب، فللإمام إقطاعها لمن يجلس فيها، فيصير كالسابق إليها، إلا أنه أحق بها، وإن نقل متاعه؛ لأن للإمام النظر الاجتهاد. فإن أقطعه، ثبتت يده عليه بالإقطاع، فلم يكن لغيره أن يقعد فيه. الضرب الثاني: موات الأرض، فللإمام إقطاعها لمن يحييها؛ لما «روى وائل بن حجر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطعه أرضًا فأرسل معاوية: أن أعطه إياها، أو أعلمها إياه» حديث صحيح. وأقطع بلال بن الحارث المزني، وأبيض بن حمال المازني، «وأقطع الزبير حضر فرسه» رواه أبو داود. وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن أقطعه الإمام شيئًا، لم يملكه؛ لكن يصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه. ولا يقطع من ذلك إلا ما قدر على إحيائه؛ لأن إقطاعه أكثر منه إدخال ضرر على المسلمين بلا فائدة، وقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث العقيق، فلما كان زمن عمر قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 يقطعك لتحتجره على الناس، فخذ ما قدرت على عمارته ودع باقيه» رواه أبو عبيد في الأموال. فصل: وليس للإمام إقطاع المعادن الظاهرة، لما ذكرنا في إحيائها. وقال أصحابنا: وكذلك المعادن الباطنة؛ لأنها في معناها، ويحتمل جواز إقطاعها؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية، جلسيها وغوريها» رواه أبو داود. ولأنه يفتقر في الانتفاع بها إلى المؤن، فجاز إقطاعه، كالموات. فصل في الحمى: لا يجوز لأحد أن يحمي لنفسه مواتًا يمنع الناس الرعي فيها؛ لما روى الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا حمى إلا لله ولرسوله» متفق عليه، ورواه أبو داود. وقال: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» وللإمام أن يحمي مكانًا لترعى فيه خيل المجاهدين، ونعم الجزية، وإبل الصدقة، وضوال الناس التي يقوم بحفظها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمى النقيع، لخيل المسلمين؛ لأن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حميا، واشتهر في الصحابة، فلم ينكر، فكان إجماعًا. وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله، ما حميت من الأرض شبرًا في شبر رواه أبو عبيد. وليس له أن يحمي قدرًا يضيق به على الناس؛ لأنه إنما جاز للمصلحة ، فلا يجوز ذلك بضرر أكثر منها، وما حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس لأحد نقضه، ولا يملك بالإحياء؛ لأن ما حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص، فلم يجز نقضه بالاجتهاد، وما حماه غيره من الأئمة، جاز لغيره من الأئمة تغييره في أحد الوجهين، وفي الآخر ليس له ذلك، لئلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، والأول أولى؛ لأن الاجتهاد في حماها في تلك المدة دون غيرها، ولهذا ملك الحامي لها تغييرها. وإن أحياه إنسان ملكه؛ لأن حمى الأئمة اجتهاد، وملك الأرض بإحيائها نص، فيقدم على الاجتهاد. [ باب أحكام المياه ] وهي ضربان: مباح وغيره، فغير المباح: ما ينبع في أرض مملوكة، فصاحبه أحق به، لأنه يملكه في رواية، وفي الأخرى: لا يملكه، إلا أنه ليس لغيره دخول أرضه بغير إذنه، وما فضل عن حاجته، لزمه بذله لسقي ماشية غيره؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، منعه الله فضل رحمته» ، ولا يلزمه الحبل والدلو؛ لأنه يتلف بالاستعمال فيتضرر به، فأشبه بقية ماله، وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره، فيه روايتان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 إحداهما: لا يلزمه؛ لأن الزرع لا حرمة له في نفسه. والثانية: يلزمه؛ لما روى إياس بن عبد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع فضل الماء» رواه أبو داود. وإن لم يفضل عنه شيء، لم يلزمه بذله؛ لأن الوعيد على منع الفضل يدل على جواز منع غيره، ولأن ما يحتاج إليه يستضر ببذله، فلم يجب بذله كحبله ودلوه. الضرب الثاني: الماء النابع في الموات، فمن سبق إلى شيء منه، فهو أحق به؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به» ، وإن أراد أن يسقي أرضًا، وكان الماء في نهر عظيم لا يستضر أحد بسقيه، جاز أن يسقي كيف شاء؛ لأنه لا ضرر فيه على أحد، وإن كان نهرًا صغيرًا، أو من مياه الأمطار، بدئ بمن في أول النهر فيسقي، ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب، ثم يرسل إلى الذي يليه، كذلك إلى الآخر؛ لما روى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم: «أنه بلغه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في سيل مهزور ومذينيب: يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل» أخرجه مالك في الموطأ. وعن عبد الله بن الزبير: أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك: فغضب الأنصاري فقال: كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: يا زبير، اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر» متفق عليه. وشراج الحرة: مسايل الماء، جمع شرج، وهو النهر الصغير، ولأن السابق إلى أول النهر كالسابق إلى أول المشرعة، وإن كانت أرض الأول بعضها أنزل من بعض، سقى كل واحدة على حدتها، فإن أراد إنسان إحياء أرض على النهر. بحيث إذا سقاها يستضر أهل الأرض الشاربة منه منع منه؛ لأن من ملك أرضًا كانت له حقوقها ومرافقها، واستحقاق السقي من هذا النهر من حقوقها، فلا يملك غير إبطاله. فصل فإن اشترك جماعة في استنباط عين، اشتركوا في مائها، وكان بينهم على ما اتفقوا عليه عند استخراجها، فإن اتفقوا على سقي أرضهم منها بالمهايأة جاز، وإن أرادوا قسمته بنصب حجر، أو خشبة مستوية في مصدم الماء، فيها نقبان على قدر حق كل واحد منهما جاز، وتخرج حصة كل واحد منهما في ساقيته منفردة، وإن أراد أحدهما أن يسقي نصيبه أرضًا لا حق لها في الشرب منه فله ذلك؛ لأن الماء لا حق لغيره فيه، فكان له التصرف فيه كيف شاء، كما لو انفرد بالعين وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز؛ لأنه يجعل لهذه الأرض رسمًا في الشرب منه، فمنع منه، كما لو كان له داران متلاصقتان في دربين، أراد فتح إحداهما إلى الأخرى، وليس لأحدهما فتح ساقية في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 جانب النهر قبل المقسم، يأخذ حقه فيها، ولا أن ينصب على حافتي النهر رحى تدور بالماء، ولا غير ذلك؛ لأن حريم النهر مشترك، فلم يملك التصرف فيه بغير إذن شريكه. فصل ومن سبق إلى مباح كالسنبل الذي ينتثر من الحصادين، وثمر الشجر المباح، والبلح، وما ينبذه الناس رغبة عنه، فهو أحق به للخبر؛ فإن استبق إليه اثنان، قسم بينهما؛ لأنهما اشتركا في السبب، فاشتركا في المملوك به، كما لو ابتاعاه. [ باب الوقف ] ومعناه: تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة، وهو مستحب؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به من بعده، وولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية» رواه مسلم. ويجوز وقف الأرض؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن عمر أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني فيها؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث قال: فتصدق بها عمر في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقًا بالمعروف، غير متأثل منه أو غير متمول فيه» متفق عليه. ووقف السلاح والحيوان جائز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما خالد فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» متفق عليه. وفي رواية: «وأعتده» ويصح وقف كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها دائمًا، قياسًا على المنصوص عليه. ويصح وقف المشاع؛ لأن في حديث عمر أنه أصاب مائة سهم من خيبر، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوقفها، وهذا صفة المشاع، ولأن القصد تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وهذا يحصل في المشاع، كحصوله من المفرز، ويصح وقف علو الدار، دون سفلها، وسفلها دون علوها؛ لأنهما عينان يجوز وقفهما، فجاز وقف أحدهما كالدارين. فصل ولا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقاء عينه، كالأثمان، والمأكول والمشروب، والشمع؛ لأنه لا يحصل تسبيل ثمرته مع بقائه، ولا ما يسرع إليه الفساد، كالرياحين؛ لأنها لا تتباقى، ولا ما لا يجوز بيعه: كالكلب، والخنزير، ولا المرهون، والحمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 المنفرد، ولا أم الولد؛ لأن الوقف تمليك، فلا يجوز في هذه، كالبيع. ولا يجوز في غير معين، كأحد هذين العبدين، وفرس، وعبد؛ لأنه نقل ملك على وجه القربة، فلم يصح في غير معين كالهبة. فصل ولا يصح الوقف إلا على بر: كالمساجد، والقناطر، والفقراء، والأقارب، أو آدمي معين، مسلمًا كان أو ذميًا؛ لأنه في موضع القربة، ولهذا جازت الصدقة عليه، ولا يصح على غير ذلك، كالبيع وكتب التوراة والإنجيل؛ لأن هذا إعانة على المعصية، ولأن هذه الكتب منسوخة قد بدل بعضها، وقد غضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين رأى مع عمر شيئًا استكتبه منها، ولا على قطاع الطريق؛ لأنه إعانة على المعصية. والقصد بالوقف القربة، ولا على من لا يملك: كالميت، والملك، والجني؛ لأن الوقف تمليك في الحياة، ولا على عبد، أو أم ولد؛ لأنه لا يملك في رواية، وفي أخرى: ملكه غير لازم، والوقف لا يجوز أن يكون متزلزلًا، ولا على حربي أو مرتد؛ لأن ملكهما تجوز إزالته، والوقف يجب أن يكون لازمًا، ولا على غير معين: كرجل أو امرأة؛ لأن تمليك غير المعين لا يصح، فإن قيل: فكيف جاز الوقف على المساجد؟ وهي لا تملك، قلنا: الوقف إنما هو على المسلمين، لكن عين نفعًا خاصًا لهم. فصل ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل؛ لأنه عقد يبطل بالجهالة، فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع، إلا أن يقول: هو وقف بعد موتي فيصح، ويكون وصية يعتبر خروجه من الثلث؛ لأنه تبرع مشروط بالموت فكان وصية، كما لو قال: إذا مت، فهذا صدقة للمساكين. وجعل القاضي وأبو الخطاب: تعليق الوقف على الموت كتعليقه على شرط في الحياة، فلا يصح في الموضعين إلا على قول الخرقي. والأولى التفريق بينهما؛ لأن تعليقه بالموت وصية فجاز. كما لو قال: إذا مات، فداري لفلان، أو أبرأته من ديني عليه، ولا يلزم من جواز ذلك صحة تعليق الهبة والإبراء، على شرط في الحياة، كذا هاهنا، ولا يجوز الوقف إلى مدة؛ لأنه إخراج مال على سبيل القربة، فلم يجز إلى مدة، كالصدقة، فإن شرط فيه الخيار، أو شرط فيه الرجوع إذا شاء، أو يبيعه إذا احتاج، أو لم يدخل فيه من شاء لم يصح؛ لأنه إخراج ملك على سبيل القربة، فلم يصح مع هذه الشروط، كالصدقة. فصل وإن شرط أن يأكل منه أيام حياته، أو مدة يعينها، فله شرطه. نص عليه أحمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واحتج بما روى حجر المدري: «أن في صدقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأكل أهله بالمعروف غير المنكر» ، ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في وقفه: لا جناح على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقًا، وكان الوقف في يده إلى أن مات، ولأنه لو وقف وقفًا عامًا، كالسقاية والمسجد، لكان له أن ينتفع منه، كذلك إذا خصه بانتفاعه. فصل وإن وقف على نفسه ثم على أولاده، ففيه روايتان: إحداهما: لا يصح؛ لأن الوقف تمليك، فلم يصح أن يملك نفسه به كالبيع. والثانية: يصح؛ لأنه لما جاز أن يشترط لنفسه منه شيئًا، جاز أن يختص به أيام حياته كالوصية. فصل ولا يكون الوقف، إلا على سبيل غير منقطع: كالفقراء، والمساكين، وطلبة العلم، والمساجد، أو على رجل بعينه، ثم على ما لا ينقطع، فإن وقفه على رجل بعينه وسكت، صح وكان مؤبدًا؛ لأن مقتضاه التأبيد، فحمل فيما سماه على ما شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد، أو قدم المسمى على غيره. فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقارب الواقف؛ لأنهم أحق الناس بصدقته، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على غير رحمك صدقة، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة» . وعنه: أنه يرجع إلى المساكين؛ لأنها مصارف الصدقات المفروضات، كالزكوات والكفارات. والأول: ظاهر المذهب، وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والخرقي: أنه يرجع إلى الأغنياء، والفقراء من أقاربه؛ لأن الوقف يستوي فيه الغني والفقير، ويحتمل أن يختص الفقراء؛ لأنهم مصرف الصدقات، ويرجع إلى جميع الورثة في إحدى الروايتين؛ لأنه يصرف إليهم ماله عند موته. والثانية: يرجع إلى أقرب عصبة الواقف؛ لأنه مصرف ولاء معتقه، وعليهم عقله، فخصوا بهذا، ويكون وقفًا على من رجع إليه؛ لأنه إنما صرف إليهم بوقف مالكه له، والوقف يقتضي التأبيد، فإذا انقرضوا رجع إلى المساكين، وإن لم يكن له أقارب رجع إلى المساكين ليعيلهم، ولو جعل الانتهاء مما لا يجوز الوقف عليه فقال: وقفت على أولادي، ثم على البيع، فحكمه حكم ما لم يسم له انتهاء؛ لأن ذكر ما لا يجوز كعدمه. وإن قال: وقفت داري ولم يذكر سبلها، صح في قياس المذهب؛ لأنه إزالة ملك على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 سبيل القربة، فصح مطلقًا، كالعتق. وحكمه حكم منقطع الانتهاء. فصل فإن قال: وقفت على هذا العبد، ولم يذكر له مالًا فهو باطل؛ لأنه منقطع الابتداء والانتهاء. وإن جعل له ما لا يجوز الوقف عليه فقال: ثم على المساكين صح؛ لأنه جمع فيه بين ما يجوز وما لا يجوز فصح، كما لو وقفه على أولاده، ثم على البيع، ويحتمل أن يخرج صحته على الروايتين في تفريق الصفقة، فإن قلنا بصحته، وكان من لا يصح الوقف عليه لا يمكن اعتبار انقراضه، كالميت والمجهول، صرف في الحال إلى من يجوز؛ لأن ذكر من لا يجوز كعدمه، وإن أمكن اعتبار انقراضه كعبد معين، احتمل ذلك أيضًا لذلك، واحتمل أن يصرف إلى أقارب الواقف إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه، ثم يصرف إلى من يجوز؛ لأن وقفه على من يجوز مشروط بانقراض من لا يجوز، فكان الوقف قبل ذلك لا مصرف له، فصرف إلى الأقارب، كمنقطع الانتهاء. فصل ويصح الوقف بالقول والفعل الدال عليه، مثل أن يبني مسجدًا، ويأذن للناس في الصلاة فيه، أو مقبرة، ويأذن لهم في الدفن فيها، أو سقاية ويشرع بابها، ويأذن في دخولها؛ لأن العرف جار به، وفيه دلالة على الوقف، فجاز أن يثبت به كالقول، وجرى مجرى من قدم طعامًا لضيفانه، أو نثر نثارًا، أو صب في خوابي السبيل ماء، وأما القول فألفاظه ستة، ثلاثة صريحة، وهي: وقفت، وحبست، وسبلت، متى أتى بواحدة منها صار وقفًا؛ لأنه ثبت لها عرف الاستعمال، وعرف الشرع بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها» فصارت كلفظ الطلاق فيه، وثلاثة كناية، وهي: تصدقت، وحرمت، وأبدت، فليست صريحة؛ لأنها مشتركة بين الوقف وغيره من الصدقات والتحريمات، فإن نوى بها الوقف، أو قرن بها لفظًا من الألفاظ الخمسة، أو حكم الوقف، بأن يقول: صدقة محبسة، أو محرمة، أو مؤبدة، أو صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، صار وقفًا؛ لأنه لا يحتمل مع هذه القرائن إلا الوقف. فصل ولا يجوز التصرف في الوقف بما ينقل الملك في الرقبة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عمر: «لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث» ولأن مقتضى الوقف التأبيد، وتحبيس الأصل، بدليل أن ذلك من بعض ألفاظه، والتصرف في رقبته ينافي ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 فصل والوقف يزيل ملك الواقف؛ لأنه يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة، فأزال ملكه عن الرقبة، كالعتق، ويزيل الملك بمجرد لفظه؛ لأن الوقف يحصل به. وعنه: لا يحصل إلا بإخراجه عن يده. قال أحمد: الوقف المعروف أن يخرجه من يده، ويوكل من يقوم به؛ لأنه تبرع، فلم يلزم بمجرده كالهبة والوصية، والأول المشهور؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث، فلزم بمجرده كالعتق، ولا يفتقر إلى قبول، ويحتمل أنه متى كان على آدمي معين، افتقر إلى القبول؛ لأنه تبرع لآدمي معين، أشبه الهبة، فإن لم يقبل أو رده بطل في حقه، ولم يبطل في حق من بعده، وصار كالوقف على من لا يصح، ثم على من يصح، وعلى الظاهر من المذهب أنه لا يفتقر إلى القبول، ولا يبطل برده؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، أشبه العتق والوقف على غير معين. فصل وينتقل الملك في الوقف إلى الموقوف عليه في ظاهر المذهب؛ لأنه سبب نقل الملك، ولم يخرجه عن المالية وجد إلى من يصح تمليكه، أشبه البيع والهبة. وعنه: لا يملكه، ويكون الملك لله تعالى؛ لأنه حبس للعين، وتسبيل للمنفعة على وجه القربة، فأزال الملك إلى الله سبحانه كالعتق. فصل ويملك الموقوف عليه غلته وثمرته، وصوفه ولبنه؛ لأنه من غلته، فهو كالثمرة، ويملك تزويج الأمة؛ لأنه عقد على نفعها، فأشبه إجارتها، ويملك مهرها؛ لأنه بدل نفعها أشبه أجرتها، وإن ولدت، فولدها وقف معها؛ لأن الوقف حكم ثبت في الأم، فسرى إلى الولد، كالاستيلاد والكتابة، ولا يملك الموقوف عليه وطأها؛ لأن ملكه فيها ضعيف، ولا يؤمن إفضاؤه إلى إخراجها من الوقف فإن وطئها، فلا حد عليه؛ لأنها ملكه، ولا مهر عليه لذلك. وإن لم تلد منه، فهي وقف بحالها، وإن ولدت منه، فالولد حر؛ لأنه من مالكها، وعليه قيمته يوم الوضع؛ لأنه فوت رقه، ويشتري بها عبدًا يكون وقفًا مكانه، وتصير أم ولد له؛ لأنه أحبلها بحر في ملكه، فإذا مات عتقت، ووجبت قيمتها في تركته حينئذ؛ لأنه أتلفها على من بعده، ويشتري بالقيمة جارية تكون وقفًا مكانها، وإن قلنا: ليست ملكًا له، لم تصر أم ولد بوطئه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 فصل وإن أتلف الوقف أجنبي أو الواقف، أو الموقوف عليه، فعليه قيمته يشتري بها مثله يقوم مقامه؛ لأن الموقوف عليه لا يملك التصرف في رقبته، إنما له نفعه، وإن وطئت الجارية بشبهة فولدها حر، وعلى الواطئ قيمته يوم وضعه يشتري بها ما يقوم مقامه، وإن جنى الوقف، تعلقت جنايته بالموقوف عليه؛ لأنه يملكه، ولم تتعلق بالوقف؛ لأن رقبته محلًا للبيع، فتعلقت بمالكه كأم الولد. فصل وتصرف الغلة على ما شرط الواقف من التسوية، والتفضيل، والتقديم، والتأخير، والجمع، والترتيب، وإدخال من أدخله بصفة، وإخراج من أخرجه بصفة؛ لأنه ثبت بوقفه، فوجب أن يتبع فيه شرطه، ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقف أرضه على الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضيف، وجعل لمن وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقًا. ووقف الزبير على ولده، وجعل للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضرًا بها، وإذا استغنت بزوج فلا حق لها فيه. فصل فإذا قال: وقفت على أولادي، دخل فيه الذكر منهم والأنثى والخنثى؛ لأن الجميع أولاد، وهل يدخل فيه ولد الولد؟ فيه روايتان: إحداهما: يدخلون؛ لأنهم دخلوا في قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] ، وفي قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] ، فعلى هذه الرواية يدخل ولد البنين دون ولد البنات؛ لأن ولد البنين هم الذين دخلوا في النص دون ولد البنات. قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأجانب والثانية: لا يدخل ولد الولد؛ لأن ولده حقيقة ولد صلبه، والكلام بحقيقته، إلا أن يقرن به ما يدل على إدخالهم كقوله: وقفت على أولادي، لولد الذكور الثلثان، وولد الإناث الثلث ونحوه. فإن قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرض أولاد أولادي، فهو على المساكين، دخل أولاد الأولاد في الوقف؛ لأن قرينة اشتراط انقراضهم دليل على أنهم أريدوا به، وقيل: لا يدخلون أيضًا؛ لأن اللفظ لا يتناولهم، بل يكون وقفًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 منقطع الوسط، يصرف بعد أولاده إلى مصرف الوقف المنقطع، فإذا انقرض أولاد أولاده، صرف إلى المساكين. وإن وصل لفظه بما يقتضي تخصيص أولاده، فقال: وقفت على ولدي لصلبي، أو قال: على أولادي، ثم على أولادهم، اختص بالولد وجهًا واحدًا، ومتى كان الوقف على الأولاد مطلقًا، سوي فيه بين الذكر والأنثى والخنثى؛ لاقتضاء لفظه التسوية، كقوله تعالى في ولد الأم: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] ، وإن كان في لفظه تفضيل بعضهم، فهو كذلك، وإن كان له حمل، لم يدخل في الوقف حتى ينفصل، ثم يستحق ما يحدث من الغلة بعد انفصاله، دون ما كان موجودًا قبله، كالثمرة المؤبرة، والزرع المدرك؛ لأنه لا يسمى ولدًا قبل الانفصال، وإن نفي ولده بلعان، خرج من الوقف، لخروجه عن كونه ولدًا له. فصل وإن وقف على بنيه، لم يدخل فيه بنت ولا خنثى؛ لأنه لم يعلم كونه ابنًا، وإن وقف على بناته، لم يدخل فيه ذكر ولا خنثى. وإن وقف على ولد فلان أو بنيه أو بناته، فهو كوقفه على ولد نفسه وبنيه وبناته، إلا أن يقف على بني فلان، وهم قبيلة كبني هاشم، فيدخل فيه الذكر والأنثى والخنثى من ولد البنين دون البنات؛ لأن هذا الاسم يقع على القبيلة ذكرهم وأنثاهم، وولد البنات لا يعدون منها. فصل وإن وقف على أولاده وأولاد أولاده، دخل في الوقف أولاده الذكور والإناث والخناثى، وأولادهم الذكور والإناث والخناثى من ولد البنين، فأما ولد البنات، فقال الخرقي: لا يدخلون؛ لأنهم لم يدخلوا في قوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] ، ولا يدخلون في الوقف على ولد فلان وهم قبيلة، فلا يدخلون هاهنا، ولأنهم إنما ينسبون إلى قبيلة آبائهم دون قبيلة أمهاتهم، وقال أبو بكر وابن حامد: يدخلون في الوقف؛ لأنهم أولاد أولاده. وإن قال: وأولاد أولادي المنتسبين إلي، لم يدخلوا وجهًا واحدًا، وإن قال: لولد الذكر سهمان، ولولد الأنثى سهم دخلوا فيه؛ لأنه صرح بدخولهم، ولو وقف على قوم بأعيانهم، ثم على أولادهم، وكانوا ذكورًا وإناثًا، دخل أولاد الإناث في الصحيح؛ لأن اللفظ تناولهم، كتناوله ولد البنين، وإن كان جميعهم إناثًا، دخل في أولادهن؛ لأن لفظه نص فيهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 فصل وإذا شرك بين الولد وولد الولد بالواو، اشترك الجميع فيه، وإن رتب فقال: على أولادي، ثم على أولادهم، أو قال: الأعلى فالأعلى، أو الأقرب فالأقرب، وجب ترتيبه، وإن رتب بطنين، ثم شرك بين الباقين، أو شرك بين بطنين، ثم رتب الباقين، فهو على ما شرطه، وكيفما شرط فالأمر عليه؛ لأن الوقف ثبت بلفظه، فوجب أن يتبع مقتضاه. فصل وإن وقف على قرابته، أو قرابة فلان، فهو لولده وولد أبيه، وجده وجد أبيه الذكر والأنثى. ولا يعطى من بعد ذلك، ولا قرابته من جهة أمه شيئاً، لأن الله تعالى جعل خمس الخمس لذوي قربى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرابته إلى بني هاشم، لم يتجاوزهم، ولم يعط بني زهرة شيئاً. ويحتمل أن يعطي كل من عرف قرابته من الجهتين، لأن الاسم واقع عليهم لغة وعرفاً. وعنه: إن لم يصل قرابته من جهة أمه في حياته، دخلوا فيه، وإلا فلا، لأن صلته لهم في حياته تدل على إرادتهم بصلته هذه، وإن وجدت قرينة لفظية، أو حالية تدل على إرادتهم أو حرمانهم، عمل عليه، وأهل بيته بمثابة قرابته. وقال الخرقي: إذا أوصى لأهل بيته، أعطي من قبل أبيه وأمه. فصل وإن وقف على أقرب الناس إليه، وله أبوان وولد، فهم سواء فيه، لأن كل واحد منهم يليه في القرب من غير حاجز، ولأنه جزء والده، وولده جزؤه، ويحتمل تقديم الابن لتقديمه في التعصيب. وإن عدم بعضهم، فهو للباقين، ويقدم كل واحد من هؤلاء على من سواهم، لأن سواهم يدلي بواسطة. وإن عدموا، فهو لولد الابن، أو الجد أبي الأب، الأقرب منهم فالأقرب، فإن عدموا فهو للإخوة، لأنهم ولد الأب، ويقدم الأخ من الأبوين، ويسوى بين الأخ من الأب، والأخ من الأم، وكذلك الأخوات، فإن عدموا صرف إلى بنيهم على ترتيب آبائهم، ويسوى بين الأخ والجد لاستوائهما في الميراث، ولأن الجد أبو الأب، والأخ ولد الأب، ويحتمل تقديم الجد، لأن له ولادة، وهو أقوى في الميراث، وقيل يقدم الأخ، لأنه ابن الأب، فيكون أقوى من أبيه، لقوة تعصيبه، فإن لم يكن له إخوة، فهو للأعمام، ثم بنيهم على ترتيب الميراث. وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه، صرف إلى ثلاثة منهم، فإن كان بعضهم أقرب من بعض، استوفي ما أمكن من الأقرب، وتمم الباقي من الأبعد، لأنه شرط العدد والأقرب، فوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 اعتبارهما. وإن استوى جماعة في القرب، أعطي الجميع لتساويهم. فصل وإن وقف على عترته فهم عشيرته وولده، قاله ابن قتيبة، وقال ابن الأعرابي وثعلب: هم ذريته، والأول أولى، لأنه يروى عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: نحن عترة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن وقف على مواليه، وله موال من فوق، وموال من أسفل، فهو لجميعهم، لأن الاسم يشملهم حقيقة. وإن وقف على زيد وعمرو والفقراء، فلهما الثلثان وللفقراء الثلث؛ لأنه جعله لثلاث جهات، فوجب قسمته أثلاثا. وإن وقف عليهما، ثم على الفقراء، فمن مات منهما، رجع نصيبه إلى صاحبه، فإذا ماتا، رجع إلى الفقراء، لأنه جعله لهم مشروطاً بانقراضهما. فصل وإن وقف نخلة فيبست، أو جذوعاً فتكسرت، جاز بيعها، لأنه لا نفع في بقائها، وفيه ذهاب ماليتها، فكانت المحافظة على ماليتها ببيعها أولى، لأنه لا يجوز وقف ما لا نفع فيه ابتداء، فلا يجوز استدامة وقفه، لأن ما كان شرطاً لابتداء الوقف، كان شرطاً لاستدامته كالمالية، وإذا بيعت، صرف ثمنها في مثلها، وإن حبس فرساً في سبيل الله، فصارت بحيث لا ينتفع بها فيه، بيعت، لما ذكرنا، وصرف ثمنها في حبيس آخر. وإن وقف مسجداً فخرب، وكان في مكان لا ينتفع به، بيع، وجعل في مكان ينتفع به، لما ذكرنا. وكل وقف خرب ولم يرد شيئاً بيع، واشتري بثمنه ما يرد على أهل الوقف. وإن وقف على ثغر فاختل صرف إلى ثغر مثله، لأنه في معناه. فصل وينفق على الوقف من حيث شرط الواقف؛ لأنه لما اتبع شرط الواقف في سُبُله كذلك في النفقة عليه، فإن لم يشرط النفقة عليه، أنفق عليه من غلته، لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة عليه، فإن لم يكن له غلة، أنفق عليه الموقوف عليه؛ لأنه ملكه. فصل وينظر في الوقف من حيث شرط الواقف، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جعل النظر في وقفه إلى حفصة ابنته، ثم إلى ذوي الرأي من أهلها، ولأن سبله إلى شرطه، فكذلك النظر فيه. وإن لم يشرط الناظر، ففيه وجهان: أحدهما: ينظر فيه الموقوف عليه، لأنه ملكه، وغلته له، فكان نظره إليه كالمطلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 والثاني: إلى حاكم البلد، لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه، ففوض الأمر فيه إلى الحاكم، فإن جعله إلى اثنين من أفاضل ولده، جعل إليهما، فإن لم يوجد فيهما إلا فاضل واحد، ضم الحاكم إليه آخر؛ لأن الواقف لم يرض بنظر واحد. فصل وإن اختلف أرباب الوقف فيه، رجع إلى الواقف، لأن الوقف ثبت بقوله، فإن لم يكن، تساووا فيه، لأن الشركة ثبتت، ولم يثبت التفضيل، فوجبت التسوية، كما لو شرك بينهم بلفظه. [ باب الهبة ] وهي التبرع بتمليك مال في حياته، وهي مستحبة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تهادوا تحابوا» . وهي أفضل من الوصية، لما روى أبو هريرة قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا» رواه البخاري، ومسلم بمعناه. وهبة القريب أفضل، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» . وفي هبة القريب صلته، ولا يجوز تفضيل بعض ولده على بعض في العطية، لما روى النعمان بن بشير قال: «تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد عليها رسول الله، فجاء أبي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليُشهده على صدقتي، فقال: أكل ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة» رواه مسلم، وفي لفظ: «لا تشهدني على جور» متفق عليه. فسماه جوراً، والجور حرام، ولأن ذلك يوقع العداوة، وقطيعة الرحم، فمنع منه، كنكاح المرأة على عمتها، فإن فعل فعليه التسوية بأحد أمرين: إما رد عطية الأول، أو إعطاء الآخر مثله، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره برده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وأمره يقتضي الوجوب، فإن مات، ولم يسو بينهم، ففيه روايتان: إحداهما: يثبت ذلك لمن وهب له، ويسقط حق الرجوع، اختاره الخرقي، ولأنه حق للأب، يتعلق بمال الولد، فسقط بموته، كالأخذ من ماله. والثانية: يجب رده، وهذا اختيار ابن بطة وصاحبه أبي حفص، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه جوراً، والجور يجب رده بكل حال، والتسوية المأمور بها القسمة بينهم على قدر مواريثهم، لأنه تعجيل لما يصل إليهم بعد الموت، فأشبه الميراث. فصل: فإن خص بعض ولده لغرض صحيح، من زيادة حاجة، أو عائلة، أو اشتغاله بعلم، أو لفسق الآخر وبدعته، فقد روي عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يدل على جوازه، لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس به إذا كان في سبيل الحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة. ووجه ذلك، ما روي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لعائشة: كنت قد نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، ووددت أنك حزتيه، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك. ويحتمل المنع، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل بشيراً. فصل: والأم كالأب في التسوية بين الأولاد، لأنها أحد الأبوين، فأشبهت الأب. ولا تجب التسوية بين سائر الورَّاث، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أن لبشير زوجة، فلم يأمره بإعطائها، حين أمره بالتسوية بين أولاده. فصل: وما جاز بيعه من مقسوم، أو مشاع، أو غيره، جازت هبته، لأنه عقد يقصد به تمليك العين، فأشبه البيع. وتجوز هبة الكلب، وما يباح الانتفاع به من النجاسات، لأنه تبرع، فجاز في ذلك، كالوصية. ولا يجوز في مجهول، ولا معجوز عن تسليمه، ولا في المبيع قبل قبضه، لأنه عقد يقصد به التمليك في الحياة، أشبه البيع، ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لذلك. والحكم في الإيجاب والقبول فيها، كالحكم في البيع على ما ذكر في بابه. فصل: ولا يثبت الملك للموهوب له في المكيل والموزون إلا بقبضه، لحديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه، فإن مات الموهوب له قبل القبض، بطلت، لأنه غير لازم، فيبطل بالموت كالشركة. وإن مات الواهب، فعنه ما يدل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 أن الهبة تبطل لذلك، وهو قول القاضي. وقال أبو الخطاب: لا تبطل، لأنه عقد مآله إلى اللزوم، فلا يبطل بالموت، كبيع الخيار. ويقوم الوارث مقام المورثين في التقبيض والفسخ، فإذا قبض، ثبت الملك حينئذ. والخيرة في التقبيض إلى الواهب، لأنه بعض ما يثبت به الملك فكانت الخيرة له فيه، كالإيجاب، ولا يجوز القبض إلا بإذنه، لأنه غير مستحق عليه، فإن قبض بغير إذنه، لم تتم الهبة. وإن أذن، ثم رجع قبل القبض، أو مات بطل الإذن. فصل: وأما غير المكيل والموزون، ففيه روايتان: إحداهما: لا تتم هبته إلا بالقبض، لأنه نوع هبة، فلم تتم قبل القبض، كالمكيل والموزون. والثانية: تتم قبل القبض، لما روي عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: الهبة إذا كانت معلومة، فهي جائزة، قبضت أو لم تقبض، ولأن الهبة أحد نوعي التمليك، فكان منها ما يلزم قبل القبض، كالبيع، وقد ذكرنا اختلاف تفسير أصحابنا للمكيل والموزون في البيع، وإن كان الموهوب في يد المتهب، لم يحتج إلى قبض، لأن قبضه مستدام، وهل يفتقر إلى إذن في القبض؟ فيه روايتان. وذكر القاضي: أنه لا بد من مُضِيّ مدة يتأتى قبضه فيها لما ذكرنا في الرهن. فصل: فإن وهب لابنه الصغير شيئاً، وقبضه له، صح ولزم؛ لأنه وليه، فكان له القبض، كما لو كان الواهب أجنبياً، ويكون حكم القبض حكمه فيما إذا وهب له رجل شيئاً في يده؛ لأنه في يد الأب. فصل: والهبة المطلقة لا تقتضي ثواباً، سواء كانت من مماثل أو أعلى أو أدنى، لأنها عطية على وجه التبرع، فلم تقتض ذلك كالصدقة. وإن شرط ثواباً معلوماً صح، وكانت بيعاً يثبت فيه الخيار والشفعة، وضمان العهدة، وحكي عن أحمد رواية ثانية: أنه يغلب فيها حكم الهبة، فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به. وإن شرط ثواباً مجهولاً، احتمل أنه لا يصح، لأنه عوض مجهول في معاوضة، فلم يصح كالبيع. وعنه: أنه يصح ويعطيه ما يرضيه أو يردها، ويحتمل أن يعطيه قيمتها، فإن لم يفعل فللواهب الرجوع، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من وهب هبة أراد بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 الثواب فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يرض منها. قال أحمد: إذا تغيرت العين الموهوبة بزيادة أو نقصان، ولم يثبه منها، فلا أرى عليه نقصان ما نقص، إلا أن يكون ثوباً لبسه، أو جارية استخدمها أو استعملها، فإن اختلفا، فقال: وهبتك ببدل، فأنكر الآخر، فالقول قول المنكر، لأنه ادعى عليه بدلاً الأصل عدمه. فصل: وإن وهب لغير ولده شيء، وتمت الهبة، لم يملك الرجوع فيه، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «العائد من هبته كالعائد في قيئه» متفق عليه. وروى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وإن وهب الرجل لولده، فله الرجوع للخبر؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بشيراً برد ما وهب لولده النعمان؛ ولأن الأب لا يتهم في رجوعه؛ لأنه لا يرجع إلا لضرورة، أو إصلاح الولد. وليس للجد الرجوع؛ لأن الخبر يتناول الوالد حقيقة، وليس الجد في معناه؛ لأنه يدلي بواسطة، ويسقط بالأب، ولا تسقط الإخوة، فأما الأم فيحتمل أن لا رجوع لها، لأنه لا ولاية لها على ولدها، بخلاف الأب، ويحتمل أن لها الرجوع، لأنها أحد الأبوين، فأشبهت الأب، ولأنه يجب عليها التسوية بين ولدها في العطية، فأشبهت الأب. والهبة والصدقة سواء في ذلك، بدليل أن في حديث النعمان بن بشير: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس للأب الرجوع في هبته أيضاً، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» . فصل: وللرجوع في الهبة شروط أربعة: أحدها: أن تكون باقية في ملكه، لأن الرجوع فيها بعد خروجها عن ملكه إبطال لملك غيره، فإن عادت إلى الابن بفسخ العقد، فله الرجوع فيها، لأنه عاد حكم العقد الأول، وإن عادت بسبب آخر، فلا رجوع له، لأنه ما استفاد هذا الملك بهبة أبيه. الثاني: أن يكون تصرف الابن فيها باقياً. فإن استولد الأمة أو رهنها، أو حجر عليه لفلس، سقط الرجوع لما فيه من إسقاط حق الغرماء والمرتهن، ونقل ملك فيما لا يقبل النقل. فإن زال الحجر والرهن، فله الرجوع لزوال المالك. الثالث: أن لا يزيد زيادة متصلة، كالسمن والتعلم، فإن زادت ففي الرجوع روايتان. كالروايتين في الرجوع على المفلس، وإن كانت منفصلة، لم يمنع الرجوع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 والزيادة للابن؛ لأنها نماء منفصل في ملكه، فكانت له كنماء المبيع المعيب. الرابع: أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد، نحو أن يرغب الناس في تزويجه، فيزوجوه من أجله أو يداينوه، فإن تعلقت بها رغبة، ففيه روايتان: إحداهما: لا رجوع فيها؛ لأنه إضرار بالغير، فلم يجز كالرجوع فيها بعد فلس الابن. والثانية: له ذلك؛ لعموم الحديث؛ ولأن حق الغير لم يتعلق بهذا المال، أشبه ما لو لم يتزوج. فصل: وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع غناه وحاجته بشرطين: أحدهما: أن لا يجحف بالابن، ولا يأخذ ما تعلقت به حاجته. الثاني: أن لا يأخذ من مال أحد ولديه، فيعطيه الآخر؛ لأن تفضيل أحد الولدين غير جائز، فمع تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى، فإذا وجد الشرطان، جاز الأخذ؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» رواه سعيد وابن ماجه. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» رواه سعيد. والترمذي وقال: حديث حسن. ولأنه يتصرف في مال ولده الصغير بغير تولية، أشبه مال نفسه، وليس للابن مطالبة أبيه بدين له عليه لما ذكرنا. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإذا مات بطل دين الابن. قال بعض أصحابنا: يعني ما أخذه على سبيل التملك، فأما إن أخذه على غير ذلك، رجع الابن في تركته، وليس للأم الأخذ من مال ولدها بغير إذنه، ولا للجد، ولا سائر الأقارب، لعدم الخبر فيهم، وامتناع قياسهم على الأب، لما بينهما من الفرق، ويحتمل أن يجوز للأم، لدخول ولدها في عموم قوله: أولادكم. فصل: وإن تصرف الأب بمال ابنه قبل تملكه، لم يصح تصرفه، نص عليه أحمد، فقال: لا يجوز عتقه لعبد ابنه ما لم يقبضه. وكذلك إبراؤه من دينه وهبته لماله، لأن ملك الابن باق عليه، بدليل صحة تصرفه فيه، ووطئه لجواريه، وجريان الربا بينه وبين أبيه، فأشبه مال الأجنبي. وإن وطئ الأب جارية ابنه قبل تملكها، فلا حد عليه للشبهة، وإن لم تلد، فهي على ملك الابن، وإن ولدت، فولده حر، وتصير أم ولد له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 فصل: فصل في العمرى: وهي أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، أو جعلتها لك عمرك، أو عمري. ولها ثلاث صور: إحداهن: أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، ولعقبك من بعدك، فهذه هبة صحيحة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً» رواه أحمد ومسلم. الثانية: أن يقول: أعمرتكها حياتك. ولم يزد، ففيها روايتان: إحداهما: هي كالأولى للخبر، وجاء في لفظ: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرى لمن وهبت له» متفق عليه؛ ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك، وتنتقل إلى الورثة، فلم يكن تقديره بحياته منافياً لحكم الإملاك. والثانية: يرجع بعد موته إلى المعمر، لما روى جابر قال: «إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها» . متفق عليه الثالثة: أن يقول مع ذلك: فإذا مت عادت إلي إن كنت حياً، أو إلى ورثتي، والرقبى مثل ذلك، إلا أنه يقول: إن مت قبلي، عادت إلي، وإن مت قبلك، فهي لك. أو يقول: أرقبتك داري هذه. وقال مجاهد: هي أن يقول: للآخر مني ومنك موتاً، ففيها روايتان: إحداهما: هي لازمة لا تعود إلى الأول؛ لعموم الخبر الأول، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترقبوا، فمن أرقب شيئاً فهو له حياته وموته» ولأنه شرط أن يعود إليه بعدما زال ملكه، فلم يؤثر، كما لو شرطه بعد لزوم العقد. والثانية: ترجع إلى المعمر والمرقب، لحديث جابر، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» وتصح العمرى والرقبى في العقار والثياب والحيوان، لأنها نوع هبة، فجازت في ذلك كله، كسائر الهبات. ولو شرط في الهبة شرطاً منافياً لمقتضاها، نحو أن يقول: وهبتك هذا بشرط ألا تبيعه، أو بشرط أن تبيعه أو تهبه، فسد الشرط. وفي صحة العقد وجهان، بناء على الشروط الفاسدة في البيع، وإن قيدها، فقال: وهبتكها سنة، لم يصح لأنه عقد ناقل للملك في الحياة، أشبه البيع، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 [ كتاب الوصايا ] الوصية: هي التبرع بعد الموت، وهي مستحبة لمن ترك خيراً، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم» . رواه ابن ماجه. وليست واجبة، لأنها عطية لا تجب في الحياة، فلا تجب بعد الموت، كالزائد على الثلث. وحكي عن أبي بكر أنها واجبة للأقارب غير الوارثين، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] . والمستحب فيها الإيصاء بالخمس. وقال القاضي وأبو الخطاب: يستحب لمن كثر ماله الوصية بالثلث لما ذكرنا في الحديث، ووجه ما ذكرنا ما روى عامر بن سعد عن أبيه قال: «مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودني، فقلت: يا رسول الله لي مال كثير، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فبالثلثين؟ قال: لا، قلت: فبالشطر، قال: لا، قلت: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» متفق عليه. يعني يطلبون الناس بأكفهم. فاستكثر الثلث مع إخباره إياه بكثرة ماله وقلة عياله، قال ابن عباس: وددت لو أن الناس غضوا من الثلث، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والثلث كثير» . متفق عليه. وأوصى أبو بكر بالخمس. وقال: رضيت نفسي ما رضي الله به لنفسه. وقال علي: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالثلث. أما قليل المال ذو العيال، فلا تستحب له الوصية، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 فصل: ويستحب لمن رأى موصياً يحيف في وصيته أن ينهاه، لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعداً عن الزيادة في الثلث. وقال بعض أهل التفسير في قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] هو أن يرى المريض يحيف على ولده فيقول له: اتق الله ولا توص بمالك كله. فصل: ولا يجوز لمن له وارث الوصية بزيادة على الثلث، لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعداً عن ذلك، فإن فعل، وقف الزائد على الثلث على إجازة الورثة. فإن أجازوه، جاز. وإن ردوه بطل بغير خلاف، ولأن الحق لهم، فجاز بإجازتهم، وبطل بردهم. وظاهر المذهب أن الإجازة صحيحة. وإجازة الورثة تنفيذ، لأن الإجازة تنفيذ في الحقيقة. ولا خلاف في تسميتها إجازة، فعلى هذا يكتفى فيها بقوله: أجزت، وما يؤدي معناه، وإن كانت عتقاً، فالولاء للموصي يختص به عصباته. وقال بعض أصحابنا: الوصية باطلة، والإجازة هبة يفتقر إلى لفظها، وولاء المعتقين لجميع الورثة، وللمجيز إذا كان أباً للموصى له، الرجوع فيها، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنها، والنهي يقتضي الفساد، ولأنه أوصى بمال غيره فلم يصح، كالوصية بما استقر ملك وارثه عليه. ولا يعتبر الرد والإجازة إلا بعد الموت، لأنه لا حق للوارث قبل الموت، فلم يصح إسقاطه، كإسقاط الشفعة قبل البيع. فأما من لا وارث له، ففيه روايتان: إحداهما: تجوز وصيته بماله كله، لأن النهي معلل بالإضرار بالورثة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» . والثانية: الوصية باطلة، لأن ماله يصير للمسلمين، ولا مجيز منهم. فصل: وإن أوصى بجزء من المال، فأجازها الوارث، ثم قال: إنما أجزتها ظناً مني أن المال قليل، قبل قوله مع يمينه، لأنه مجهول في حقه، فلا تصح الإجازة فيه، ويحتمل أن لا يقبل، لأنه رجوع عن قول يلزمه به حق، فلم يقبل، كالرجوع عن الإقرار، وإن وصى بعبد، فأجازه، ثم قال: ظننت المال كثيراً فأجزته لذلك، ففيه أيضاً وجهان. وقيل: يصح هنا وجهاً واحداً، لأن العبد معلوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 فصل: ويعتبر خروجه من الثلث بعد الموت، لأنه وقت لزوم الوصية واستحقاقها. فلو وصى بثلث ماله، وله ألفان، فصار عند الموت ثلاثة آلاف، لزمت الوصية في الألف. وإن نقصت فصارت ألفاً، لزمت الوصية في ثلث الألف. وإن وصى ولا مال له، ثم استفاد مالاً، تعلقت الوصية به، وإن كان له مال، ثم تلف بعضه بعد الموت، لم تبطل الوصية. [ باب من تصح وصيته والوصية له ومن لا تصح ] من ثبتت له الخلافة، صحت وصيته بها، لأن أبا بكر أوصى بها لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ووصى عمر إلى أهل الشورى، ولم ينكره من الصحابة منكر. ومن تثبت له الولاية على مال ولده، فله أن يوصي إلى من ينظر فيه، لما روى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة قال: أوصى إلى الزبير تسعة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم عثمان، والمقداد، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، فكان يحفظ عليهم أموالهم، وينفق على أبنائهم من ماله. وللولي في النكاح الوصية بتزويج موليته، فتقوم وصيته مقامه، لأنها ولاية شرعية، فملك الوصية لها كولاية المال. وعنه: ليس له الوصية بذلك، لأنها ولاية لها من يستحقها بالشرع، فلم يملك نقلها بالوصية كالحضانة. وقال ابن حامد: إن كان لها عصبة، لم تصح الوصية بها لذلك، وإن لم تكن، صحت، لعدمه. فصل: ومن عليه حق تدخله النيابة، كالدين والحج والزكاة ورد الوديعة، صحت الوصية به، لأنه إذا جاز أن يوصي في حق غيره، ففي حق نفسه أولى. ويجوز أن يوصي إلى من يفرق ثلثه في المساكين وأبواب البر، لذلك. فصل: ومن صح تصرفه في المال، صحت وصيته، لأنها نوع تصرف، ومن لا تمييز له، كالطفل والمجنون والمبرسم، ومن عاين الموت، لا تصح وصيته، لأنه لا قول له، والوصية قول، وتصح وصية البالغ المبذر، لأنه إنما حجر عليه لحفظ ماله له، وليس في وصيته إضاعة له، لأنه إن عاش، فهو له. وإن مات، لم يحتج إلى غير الثواب، وقد حصله. وتصح وصية الصبي المميز لذلك. ولأن عمر أجاز وصية غلام من غسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وقال أبو بكر: إذا جاوز العشر، صحت وصيته. رواية واحدة، ومن دون السبع، لا تصح وصيته، ومن بينهما، ففيه روايتان. ويحتمل أن لا تصح وصية الصبي بحال، لأنه لا يصح تصرفه، أشبه الطفل، فأما السكران، فلا تصح وصيته، لأنه لا تمييز له، ويحتمل أن تصح بناء على طلاقه. فصل: ولا تصح الوصية بمعصية، كالوصية للكنيسة، وبالسلاح لأهل الحرب، لأن ذلك لا يجوز في الحياة فلا يجوز في الممات، وتصح الوصية للذمي، لما روي أن صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصت لأخيها بثلاثمائة ألف، وكان يهودياً، ولأنه يجوز التصدق عليه في الحياة، فجاز بعد الممات. وتصح الوصية للحربي لذلك، ويحتمل أن لا تصح، لأنه لا يصح الوقف عليه. فصل: ولا تجوز الوصية لوارث، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث» وهذا حديث صحيح، فإن فعل صحت في ظاهر المذهب، ووقفت على إجازة الورثة، لما روى ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجوز لوارث وصية، إلا أن يشاء الورثة» فيدل على أنهم إذا شاؤوا كانت وصية جائزة، وقال بعض أصحابنا: الوصية باطلة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية لوارث» فإن وصى لغير وارث فصار عند الموت وارثاً، لم تلزم الوصية. وإن وصى لوارث فصار غير وارث لزمت الوصية، لأن اعتبار الوصية بالموت. فصل: ولا تصح الوصية لمن لا يملك، كالميت والملك والجني، لأنه تمليك فلم يصح لهم، كالهبة. وإن وصى لحمل امرأة، ثم تيقنا وجوده حالة الوصية، بأن تضعه لأقل من ستة أشهر منذ أوصى لغاية أربع سنين، وليست بفراش، صحت الوصية، لأنه ملك بالإرث فملك بالوصية، كالمولود. وإن وضعته لستة أشهر فصاعداً وهي فراش، لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 تصح الوصية، لأنه لا يتيقن وجوده حال الوصية، وإن ألقته ميتاً، لم تصح الوصية له، لأنه لا يرث. وإن أوصى لما تحمل هذا المرأة، لم يصح، لأنه تمليك لمن لا يملك، وإن قال: وصيت لأحد هذين الرجلين، لم يصح، لأنه تمليك لغير معين. وإن قال: أعطوا هذا العبد لأحد هذين، صح، لأنه ليس بتمليك، إنما هو وصية بالتمليك فجاز، كما لو قال لوكيله: بع هذا العبد من أحد هذين. فصل: وإن وصى لعبد بمعين من ماله، أو بمائة، لم يصح، لأنه يصير ملكاً للورثة فيملكون وصيته. وحكي عنه: أن الوصية صحيحة. وإن وصى له بنفسه، صح وعتق، وإن وصى له بمشاع، كثلث ماله، صح وتعينت الوصية فيه، لأنه ثلث المال، أو من ثلثه. وما فضل من الثلث بعد عتقه، فهو له. وإن وصى لمكاتبه، صح، لأنه يملك المال بالعقود، فصحت الوصية له، كالحر. وإن وصى لأم ولده، صح، لأنها حرة عند الاستحقاق، وإن وصى لمدبره، صح، لأنه إما أن يعتق كله أو بعضه، فيملك بجزئه الحر. وإن وصى لعبد غيره، كانت الوصية لمولاه، لأنه اكتساب من العبد فأشبه الصيد، ويعتبر القبول من العبد، فإن قبل السيد، لم يصح، لأن الإيجاب لغيره، فلم يصح قبوله، كالإيجاب في البيع. [ باب ما تجوز الوصية به ] تصح الوصية بكل ما يمكن نقل الملك فيه، من مقسوم، ومشاع، معلوم ومجهول، لأنه تمليك جزء من ماله، فجاز في ذلك، كالبيع. وتجوز بالحمل في البطن، واللبن في الضرع وبعبد من عبيده، وبما لا يقدر على تسليمه، كالطير في الهواء، والآبق، لأن الموصى له يخلف الموصي في الموصى به، كخلاف الورثة في باقي المال، والوارث يخلفه في هذه الأشياء كلها، كذلك الموصى له. وإن وصى بمال الكتابة، صح لذلك. وإن وصى برقبة المكاتب، انبنى على جواز بيعه. فإن جاز، جازت الوصية به، وإلا فلا. وإن وصى له بما تحمل جاريته، أو شاته، أو شجرته، صح، لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية. فصل: وتجوز الوصية بالمنافع، لأنها كالأعيان في الملك بالعقد والإرث، فكذلك في الوصية. وتجوز الوصية بالعين دون المنفعة، وبالعين لرجل والمنفعة لآخر، لأنهما كالعينين، فجاز فيهما ما جاز في العينين. وتجوز بمنفعة، مقدرة المدة ومؤبدة، لأن المقدرة كالعين المعلومة، والمؤبدة كالمجهولة فصحت الوصية بالجميع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 فصل: وتجوز الوصية بما يجوز الانتفاع به من النجاسات، كالكلب، والزيت النجس، لأنه يجوز اقتناؤه للانتفاع، فجاز نقل اليد فيه بالوصية. ولا تجوز بما لا يحل الانتفاع به، كالخمر، والخنزير، والكلب الذي يحرم اقتناؤه، لأنه لا يحل الانتفاع به، فلا تقر اليد عليه. فصل: ويجوز تعليقها على شرط في الحياة، لأنها تجوز في المجهول، فجاز تعليقها على شرط، كالطلاق. ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت، لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة. وإن قال: وصيت لك بثلثي، وإن قدم زيد، فهو له، فقدم زيد في حياة الموصي، فهو له. وإن قدم بعد موته فقال القاضي: الوصية للأول، لأنه استحقها بموت الموصي فلم ينتقل عنه. ويحتمل أنها للثاني، لأنه جعلها له بقدومه وقد وجد. فصل: وإن كانت الوصية لغير معين، كالفقراء، أو لمن لا يعتبر قبوله، كسبيل الله، لزمت بالموت، لأنه لا يمكن اعتبار القبول، فسقط اعتباره. وإن كان لآدمي معين، لم تلزم إلا بالقبول، لأنها تمليك، فأشبهت الصدقة. ولا يصح القبول إلا بعد الموت، لأن الإيجاب لما بعده، فكان القبول بعده. فإذا قبل ثبت له الملك حينئذ، لأن القبول يتم به السبب، فلم يثبت الملك قبله، كالهبة. ويحتمل أنه موقوف، إن قبل، بنينا أن ملكه من حين الموت، لأن ما وجب انتقاله بالقبول وجب انتقاله من جهة الموجب بالإيجاب، كالبيع والهبة، والمذهب الأول. فما حدث من نماء منفصل قبل القبول، فهو للوارث. وإن وصى لرجل بزوجته، فأولدها قبل القبول، فولده رقيق للوارث. وعلى الاحتمال الثاني، يكون النماء للموصى له، وولده حر. فصل: وإن رد الوصية في حياة الموصي، لم يصح الرد، لأنه لا حق له في الحياة، فلم يملك إسقاطه، كالشفيع قبل البيع. وإن ردها بعد الموت قبل القبول، صح، لأن الحق ثبت له فملك إسقاطه، كالشفيع بعد البيع، وإن رد بعد القبول، لم يصح الرد، لأنه ملك ملكاً تاماً فلم يصح رده، كالعفو عن الشفعة بعد الأخذ بها. فإن لم يقبل ولم يرد، فللورثة مطالبته بأحدهما. فإن امتنع، حكمنا عليه بالرد، لأن الملك متردد بينه وبين الورثة، فأشبه من تحجر مواتاً وامتنع من إحيائه، أو وقف في مشرعة ماء يمنع غيره، ولا يأخذ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 فصل: فإن مات الموصى له قبل موت الموصي، بطلت الوصية، لأنه مات قبل استحقاقها. فإن مات بعده قبل القبول، فكذلك في قياس المذهب، واختيار ابن حامد، لأنه عقد يفتقر إلى القبول، فبطل بالموت قبل القبول، كالهبة، والبيع. وقال الخرقي: يقوم الوارث مقام الموصى له في القبول والرد، لأنه عقد لازم من أحد طرفيه فلم يبطل بموت من له الخيار، كعقد الرهن. فإن قبل الوارث، ثبت الملك له، فلو وصى لرجل بأبيه، فمات الموصى له قبل القبول، فقبل ابنه، وقلنا بصحة ذلك، فإن الملك ينتقل إلى الموصى له بموت الموصي، ورث الموصى به من أبيه، السدس، لأنا تبينا أنه كان حراً. وإن قلنا: لا ينتقل إلا بالقبول، لم يرث شيئاً، لأنه كان رقيقاً. [ باب ما يعتبر من الثلث ] ما وصي به من التبرعات، كالهبة والوقف والعتق والمحاباة، اعتبر من الثلث، سواء كانت الوصية في الصحة، أو المرض، لأن لزوم الجميع بعد الموت. وعنه: أن الوصية في الصحة من رأس المال، والأول أصح. فأما الواجبات، كقضاء الدين والحج والزكاة، فمن رأس المال، لأن حق الورثة بعد أداء الدين، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن الدين قبل الوصية» رواه الترمذي. والواجب لحق الله بمنزلة الدين. لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دين الله أحق أن يقضى» فإن وصى بها مطلقاً، أو من رأس ماله، فهي من رأس ماله، فإن قال: أخرجوها من ثلثي، أخرجت من الثلث، وتممت من رأس المال. فإن كان معها وصية بتبرع، فقال القاضي: يبدأ بالواجب، فإن فضل عنه من الثلث شيء، فهو للموصى له بالتبرع، فإن لم يفضل شيء، سقط، إلا أن يجيز الورثة. ويحتمل أن يقسم الثلث بين الوصيين بالحصة، فما بقي من الواجب، تمم من الثلثين، فيدخله الدور، ويحتاج إلى العمل بطريق الجبر، فتفرض المسألة فيمن وصى بقضاء دينه، وهو عشرة، ووصى لآخر بعشرة، وتركته ثلاثون، فاجعل تتمة الواجب شيئاً، ثم خذ ثلث الباقي وهو عشرة إلا ثلث شيء، قسمها بين الوصيين، فحصل لقضاء الدين خمسة إلا سدس شيء، إذا أضفت إليه الشيء المأخوذ كان عشرة، فاجبر الخمسة من الشيء بسدسه، يبقى خمسة دنانير وخمسة أسداس شيء تعدل العشرة، فالشيء ستة، وحصل لصاحب الوصية الأخرى أربعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 فصل: فأما عطيته في صحته، فمن رأس ماله، لأنه مطلق في التصرف في ماله، لا حق لأحد فيه. وإن كان في مرض غير مخوف، فكذلك، لأنه في حكم الصحيح. وإن كان مخوفاً اتصل به الموت، فعطيته من الثلث، لما روى عمران بن حصين: «أن رجلاً أعتق ستة أعبد له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولاً شديداً» . رواه مسلم. ولأنه في هذه الحال لا يأمن الموت، فجعل كحال الموت. فإن برئ ثم مرض ومات، فهو من رأس المال، لأنه ليس بمرض الموت. وإن وهب ما يعتبر قبضه وهو صحيح، وأقبضه وهو مريض، اعتبر من الثلث، لأنه لم يلزم إلا بالقبض الذي وجد بالمرض. فصل: والمرض المخوف كالطاعون، والقولنج، والرعاف الدائم، والإسهال المتواتر، والحمى المطبقة، وقيام الدم، والسل في انتهائه، والفالج في ابتدائه، ونحوها. وغير المخوف، كالجرب ووجع الضرس، والصداع اليسير، والإسهال اليسير من غير دم، والسل قبل تناهيه، والفالج إذا طال. فأما الأمراض الممتدة فإن أضني صاحبها على فراشه، فهي مخوفة، وإلا فلا. وقال أبو بكر: فيها وجه آخر أنها مخوفة على كل حال، فإن أشكل شيء من هذه الأمراض، رجع إلى قول عدلين من أهل الطب، لأنهم أهل الخبرة به. فصل: وإن ضرب الحامل الطلق، فهو مخوف، لأنه من أسباب التلف، وما قبل ستة أشهر فهي في حكم الصحيح. فإن صار له ستة أشهر، فقال الخرقي: عطيتها من الثلث، لأنه وقت لخروج الولد، وهو من أسباب التلف. وقال غيره: هي كالصحيح، لأنه لا مرض بها. وإن وضعت الولد وبقيت معها المشيمة، أو حصل مرض، أو ضربان، فهو مخوف، وإلا فلا، ومن كان بين الصفين حال التحام الحرب، أو في البحر في هيجانه، أو أسير قوم عادتهم قتل الأسرى، أو قدم للقتل، أو حبس له، أو وقع الطاعون ببلده، فعطيته من الثلث، لأنه يخاف الموت خوف المريض وأكثر، فكان مثله في عطيته. قال أبو بكر: وفيه رواية أخرى: أن عطاياهم من جميع المال، لأنه لا مرض بهم. فصل: فأما بيع المريض بثمن المثل، وتزويجه بمهر المثل، فلازم من جميع المال، لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 ليس بوصية، إنما الوصية التبرع، وليس هذا تبرعاً. وإن حابى في ذلك، اعتبرت المحاباة من الثلث، لأنها تبرع، وإن كاتب عبده، اعتبرت من الثلث، لأن ما يأخذه عوضاً من كسب عبده، وهو مال له، فصار كالعتق بغير عوض. وإن وهب له من يعتق عليه، فقبله، عتق من المال كله، لأنه لم يخرج من ماله شيئاً بغير عوض. وإن مات ورثه، لأنه ليس بوصية. فصل: وإن عجز الثلث عن التبرعات، قدمت العطايا على الوصايا، لأنها أسبق، فإن عجز الثلث عن العطايا، بدئ بالأول فالأول، عتقاً كان أو غيره، لأن السابق استحق الثلث، فلم يسقط بما بعده، وإن وقعت دفعة واحدة، تحاصوا في الثلث، وأدخل النقص على كل واحد بقدر عطيته، لأنهم تساووا في الحق، فقسم بينهم كالميراث. وعنه: أن العتق يقدم، لأنه آكد، لكونه مبنياً على التغليب والسراية، فإن كان العتق لأكثر من واحد، أقرع بينهم فكمل العتق في بعضهم، لحديث عمران، ولأن القصد تكميل الأحكام في العبد، ولا يحصل إلا بذلك، وإن قال: إن أعتقت سالماً، فغانم حر، ثم أعتق سالماً، قدم على غانم، لأن عتقه أسبق. وإن قال: إن أعتقت سالماً فغانم حر مع حريته، فكذلك، لأننا لو أعتقنا غانماً بالقرعة، لرق سالم، ثم بطل عتق غانم، لأنه مشروط بعتق سالم، فيفضي عتقه إلى بطلان عتقه، وإن كانت التبرعات وصايا، سوي بين المتقدم والمتأخر، لأنها توجد عقيب موته دفعة واحدة، فتساوت كلها. فصل: وإذا عتق بعض العبد بالقرعة، تبينا أنه كان حراً من حين الإعتاق فيكون كسبه له. وإن عتق بعضه، ملك من كسبه بقدره. فإن أعتق عبداً لا يملك غيره - قيمته مائة - فكسب في حياة سيده مائة، عتق نصفه، وله نصف كسبه، ويحصل للورثة نصفه، ونصف كسبه، وذلك مثلا ما عتق منه، فطريق عملها أن يقول: عتق منه شيء وله من كسبه شيء، وللورثة شيئان، فيقسم العبد وكسبه على أربعة أشياء، فيخرج للشيء خمسون، وهو نصف العبد. ولو كسب مثلي قيمته، لقلت: عتق منه شيء، وله من كسبه شيئان، وللورثة شيئان، فيعتق منه ثلاثة أخماسه، وله ثلاثة أخماس كسبه، وللورثة الخمسان. فصل: وإن وهب المريض مريضاً عبداً قيمته عشرة لا يملك غيره، ثم وهبه الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 للأول، ولا يملك غيره، فقد صحت هبة الأول في شيء، وصحت هبة الثاني في ثلث ذلك الشيء، بقي له ثلثا شيء، ولورثة الأول شيئان، أبسط الجميع أثلاثاً، تكن ثمانية والشيء ثلاثة، فلورثة الأول ستة هي ثلاث أرباع العبد، ولورثة الثاني ربعه. فصل: ولو تزوج المريض امرأة صداق مثلها خمسة، فأصدقها عشرة لا يملك غيرها، فماتت قبله، ثم مات، فقد صح لها بالصداق خمسة وشيء، وعاد إلى الزوج نصف ذلك ديناران ونصف، ونصف شيء، فصار لورثته سبعة ونصف، إلا نصف شيء، تعدل شيئين، أجبرها بنصف الشيء، تصر شيئين ونصف، تعدل سبعة ونصفين، ابسطها، تصر خمسة، تعدل خمسة عشر. فالشيء إذاً ثلاثة، فلورثة الزوج ستة، ولورثتها، أربعة. فصل: وإن باع المريض عبداً لا يملك غيره قيمته ثلاثون، بعشرة، فأسقط الثمن من قيمته، ثم انسب ثلث العبد كله إلى الباقي من ثمنه، يكن نصفه، فيصح البيع في نصفه بنصف ثمنه. ولو اشتراه بخمسة عشر كانت نسبة الثلث إلى باقيه بثلثين، فيصح البيع في ثلثه بثلثي ثمنه. فصل: ومن وصى لرجل بثلث ماله، ومنه حاضر وغائب وعين ودين، فللموصى له ثلث العين الحاضرة، وللورثة ثلثاها، وكلما اقتضى من الدين شيء، أو حضر من الغائب شيء، اقتسموه أثلاثاً، لأنهم شركاء فيه. وإن وصى بمائة حاضرة وله مائتان غائبة، أو دين، ملك الموصى له ثلث الحاضرة، وله التصرف فيه في الحال، لأن الوصية فيه نافذة، فلا فائدة في وقفه، ووقف ثلثيها، فكلما حضر من الغائب شيء أخذه الوارث، واستحق الموصى له من الحاضرة قدر ثلثه، وإن تلفت الغائبة، فالثلثان للورثة، وكذلك لو دبر عبده ومات وله دين مثلاه، عتق ثلثه، ووقف ثلثاه لما ذكرناه. فصل: وإن وصى له بمنفعة عبد سنة، ففي اعتبارها في الثلث وجهان: أحدهما: تقوم المنفعة سنة، ويقوم العبد مسلوب المنفعة سنة على الوارث. والثاني: يقوم العبد كامل المنفعة، ويقوم مسلوب المنفعة سنة، فيعتبر ما بينهما. وإن وصى بنفعه حياته. ففيه وجهان: أحدهما: يقوم العبد بمنفعته،، ثم يقوم مسلوب المنفعة، فما زاد على قيمة الرقبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 المنفردة، فهو قيمة المنفعة. والثاني: يقوم العبد بمنفعته على الموصى له، لأن عبداً لا نفع فيه لا قيمة له. وإن وصى لرجل بنفعه، ولآخر برقبته، اعتبر خروج العبد بمنفعته من الثلث وجهاً واحداً. وإن وصى له بثمرة شجرة أبداً، ففي التقويم الوجهان لما ذكرناه. [ باب الموصى له ] إذا أوصى لجيرانه، صرف إلى أربعين داراً من كل جانب، لما روى أبو هريرة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجار لأربعون داراً، هكذا، وهكذا، وهكذا، وهكذا» . وإن أوصى للعلماء، فهو للعلماء بالشرع دون غيرهم، لأنه لا يطلق هذا الاسم على غيرهم، ولا يستحق من يسمع الحديث ولا معرفة له به، لأن مجرد سماعه ليس بعلم. فصل: وإن أوصى للأيتام، فهو لمن لا أب له غير بالغ، لأن اليتم فقد الأب من الصغر، ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد احتلام» رواه أبو داود. ويدخل فيه الغني والفقير، لشمول الاسم لهم. والأرامل: النساء غير ذوات الأزواج. لأن الاسم لا يطلق في العرف على غيرهن، وتستحق منه الغنية والفقيرة لذلك، فإن قيل: فقد قال الشاعر: هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذه الأرامل الذكر؟ فسمى الذكر أرملاً. قلنا: هذا البيت حجة لنا، فإنه لم يدخل الذكور في لفظ الأرامل، إذ لو دخلوا لكان الضمير ضمير الذكور، فإنه متى اجتمع ضمير المذكر والمؤنث غلب ضمير التذكير، وإنما سمى نفسه أرملاً، تجوزاً، وكذلك وصفه بكونه ذكراً. والعزاب: من لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال: رجل عزب. وامرأة عزبة، والأيامى مثل العزاب سواء. قال الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم ويحتمل أن يختص العزاب بالرجال، والأيامى بالنساء، لأن الاسم في العرف لهم دون غيرهم، ولأنه لو كان الأيم مشتركاً بينهما لاحتيج إلى الفرق بهاء التأنيث، كقائم وقائمة، فلما أطلق على المؤنث بغيرها، دل على اختصاصها به، كطالق وحائض وشبههما. فصل: والغلمان والصبيان: الذكور ممن بلغ، لأن الاسم في العرف لهم دون غيرهم. والفتيان والشبان: اسم للبالغين إلى الثلاثين. والكهول: من جاوز ذلك إلى الخمسين. وقيل في قَوْله تَعَالَى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا} [آل عمران: 46] هو ابن ثلاثين. والشيوخ: من جاوز الخمسين إلى آخر العمر. والعانس من الرجال والنساء: من كبر ولم يتزوج، قال قيس بن رفاعة الواقفي: فينا الذي ما عدا أن طر شاربه ... والعانسون وفينا المرد والشيب فصل: ومن وصى لصنف من أصناف الزكاة، صرف إلى من يستحق الزكاة من ذلك الصنف، ويعطى من الوصية والوقف حسب ما يعطى من الزكاة، إلا الفقراء والمساكين، فإنه إذا وصى لأحد الصنفين، دخل الآخر في الوصية، لأنهما صنفان في الزكاة، وصنف في سائر الأحكام، لشمول الاسم للقسمين وإن وصى لأقاربه، أو أهل قريته، لم يدخل الكافر في الوصية إذا كان الموصي مسلماً، لأنهم لم يدخلوا في وصية الله تعالى للأولاد بالميراث. وإن كان الموصي كافراً. لم يدخل المسلم في وصيته في أحد الوجهين لذلك، ويدخل في الآخر لعموم اللفظ فيه، وكونه أحق بالوصية له من الكافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 فصل: فإن وصى لحمل امرأة فولدت ذكراً وأنثى، فهما سواء، لأنه عطية فاستوى فيها الذكر والأنثى، كالهبة. وإن قال: إن ولدت ذكراً، فله ألف. وإن ولدت أنثى، فلها مائة، فولدت ذكراً وأنثى، فلكل واحد منهما ما عين له. وإن ولدت خنثى، فله مائة لأنه اليقين، ويوقف الباقي حتى يتبين. وإن ولدت ذكرين وأنثيين، شرك بين الذكرين في الألف، وبين الأنثيين في المائة، لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر. ولو قال: إن كان ما في بطنك ذكر، فله ألف، وإن كان أنثى، فله مائة، فولدت ذكراً وأنثى، فلا شيء لواحد منهما. لأنه شرط أن يكون جميع ما في البطن على هذه الصفة ولم توجد. فصل: ومتى كانت الوصية لجمع يمكن استيعابهم، لزم استيعابهم والتسوية بينهم، لأن اللفظ يقتضي التسوية، فأشبه ما لو أقر لهم، وإن لم يمكن استيعابهم، صحت الوصية لهم، وجاز الاقتصار على واحد، لأنه لما أوصى لهم عالماً بتعذر استيعابهم، علم أنه لم يرد ذلك، إنما أراد أن لا يتجاوزهم بالوصية، ويحصل ذلك بالدفع إلى واحد منهم، ويحتمل أن لا يجزئ الدفع إلى أقل من ثلاثة، بناء على قولنا في الزكاة: ويجوز تفضيل بعضهم على بعض، لأن من جاز حرمانه جاز تفضيل غيره عليه، سواء كانت الوصية لقبيلة، أو أهل بلدة، أو الموصوفين بصفة، كالمساكين. فصل: وإن وصى لزيد والمساكين، فلزيد النصف، وللمساكين النصف، لأنه جعلها لجهتين، فوجب قسمها نصفين، كما لو وصى لزيد وعمرو، وإن وصى لزيد والفقراء والمساكين، فلزيد الثلث لذلك. وإن وصى لزيد بدينار، وللفقراء بثلاثة وزيد فقير، لم يعط غير الدينار، لأنه قطع الاجتهاد في الدفع إليه بتقدير حقه بدينار. فصل: وإن قال له: ضع ثلثي حيث يريك الله، لم يملك أخذه لنفسه، لأنه تمليك ملكه بالإذن، فلم يملك صرفه إلى نفسه، كالبيع، ولا إلى ولده، ولا إلى والده، لأنه بمنزلته، ولهذا منع من قبول شهادته له، ويحتمل جواز ذلك لعموم لفظ الموصي فيهم، وله وضعها حيث أراه الله، والمستحب صرفها إلى فقراء أقارب الميت ممن لا يرثه، لأنهم أولى الناس بوصية الميت وصدقته، ونقل المروذي عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن وصى بثلثه في أبواب البر: يجزئ ثلاثة أجزاء في الجهاد، وجزء يتصدق به في قرابته، وجزء في الحج. ويحتمل أن يصرف في أبواب البر كلها، وهي كل ما فيه قربة، لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 لفظه عام ولا نعلم قرينة مخصصة، فوجب إبقاؤه على العموم. فصل: إذا وصى بشيء لله ولزيد، فجميعه لزيد، لأن ذكر الله تعالى للتبرك باسمه،، كقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وإن وصى بشيء لزيد ولمن لا يملك، كجبريل والرياح والميت، فالموصى به كله لزيد، ويحتمل أن له نصف الموصى به، لأنه شريك بينه وبين غيره، فلم يكن له أكثر من النصف، كما لو كان شريكه ممن يملك. وإن أوصى لزيد وعمرو، فبان أحدهما ميتاً، فليس لأحدهما إلا نصف الوصية، لأنه قاصد للتشريك بينهما، لاعتقاده حياتهما. [ باب الوصية بالأنصباء ] إذا وصى لرجل بسهم من ماله، فحكى الخرقي فيها روايتين: إحداهما: للموصى له السدس، لأنه يروى عن ابن مسعود، «أن رجلاً وصى لرجل بسهم من ماله، فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سدس المال» . وقال إياس بن معاوية: السهم في كلام العرب السدس، فإن كان الورثة عصبة، أعطي سدس جميع المال، والباقي للعصبة، وإن كانوا ذوي فرض، أعيلت المسألة بالسدس، فيصير له السبع، وإن أعيلت الفريضة، أعيل سهمه أيضاً، لأنه ليس بأحسن حالاً من الوارث. والثانية: يعطى سهماً مما تصح منه الفريضة مزاداً عليه، لأن وصيته من الفريضة، فيكون سهماً على سهمانها. قال القاضي: ويشترط أن لا يزيد على الثلث، فإن زاد عليه، رد إلى السدس. واختار الخلال وصاحبه: أن يعطى أقل سهم من سهام الورثة، فيكون ذلك بمنزلة الوصية بنصيب وارث. فصل: وإن وصى له بنصيب، أو حظ، أو جزء من ماله، أعطاه الورثة ما شاؤوا، لأن كل شيء يقع عليه اسم ذلك. فصل: وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته، أعطي مثل ما لأقلهم نصيباً، لأنه اليقين، يزاد ذلك على مسألة الورثة. فإن كان له ابن، فله النصف، لأنه سوى بينهما، ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 تحصل التسوية إلا بذلك، وإن كان له ابنان، فللموصى له الثلث. وإن أوصى بنصيب أحدهما، ففيه وجهان: أحدهما: يصح ويكون ذلك كناية عن مثل نصيبه بتقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. والثاني: لا يصح، لأن نصيب الابن له، فلا تصح الوصية به، كما لو وصى بماله من غير الميراث. وإن وصى بمثل نصيب ابنه الكافر، أو الرقيق، فالوصية باطلة، لأنه وصى بمثل نصيب من لا نصيب له. فصل: وإن وصى له بضعف نصيب ابنه، فله مثل نصيبه مرتين، لأن ضعف الشيء مثلاه. وإن وصى له بضعفي نصيب ابنه، فقال أصحابنا: له ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه، وأربعة أمثاله، لأن ضعف الشيء: هو ومثله، وضعفاه: هو مثلاه. وقال ذلك أبو عبيدة. واختياري: أن ضعفي الشيء مثلاه، بمنزلة ضعفه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265] أي مثلين، قاله أهل التفسير. وكذلك: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] وقال هشام بن معاوية النحوي: العربي يتكلم بالضعف مثنى، فيقول: إن أعطيتني درهماً، فلك ضعفاه، أي: مثلاه، قال: وإفراده لا بأس به، والتثنية أحسن، فعلى هذا ثلاثة أضعافه: ثلاثة أمثاله. فصل: وإن وصى لرجل بجزء مقدر من ماله، كثلث أو ربع، أخذته من مخرجه، فدفعته إليه، وقسمت الباقي على مسألة الورثة، إن انقسم، وإلا ضربت مسألة الورثة، أو وفقها في مخرج الوصية، فما بلغ، فمنه تصح. فإن كان أكثر من الثلث، فأجاز الورثة، فكذلك، وإن ردوا، أعطيت الموصى له الثلث، وجعلت للورثة الثلثين، وإن وصى بجزأين، مثل أن يوصي لرجل بثلث ماله، ولآخر بنصفه، أخذت مخرج الوصيتين، وضربت إحداهما في الأخرى، تصير ستة، فأعطيت صاحب النصف ثلاثة، وصاحب الثلث سهمين إن أجاز الورثة، وإن ردوا، قسم الثلث بينهما على خمسة، وضربت ذلك في ثلاثة، تكن خمسة عشر، للوصيين خمسة، وللورثة عشرة، لأن ما قسم متفاضلاً عند اتساع المال، قسم متفاضلاً عند ضيقه، كالمواريث، وإن أجازوا لأحدهما دون الآخر ضربت مسألة الإجازة في مسألة الرد، أو وفقها إن وافقت، وأعطيت المجاز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 له سهامه من مسألة الإجازة مضروبة في مسألة الرد، أو وفقها، وأعطيت الآخر سهامه من مسألة الرد مضروبة في مسألة الإجازة أو وفقها. ولو وصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلثه، قسمت المال على أربعة، لصاحب المال ثلاثة، ولصاحب الثلث سهم، لأن السهام في الوصايا كالسهام في الميراث، تعال بالزائد، وإن لم يجيزوا، قسم الثلث على أربعة، فإن أجازوا لصاحب الكل وحده، فلصاحب الثلث ربع الثلث، لأن ذلك كان له في حال الرد عليهما، وفي صاحب المال وجهان: أحدهما: له الباقي كله، لأنه موصى له به، وإنما امتنع منه في حال الإجازة لهما، لمزاحمة صاحبه له، فإذا زالت المزاحمة في الباقي، كان له. والثاني: ليس له إلا ثلاثة أرباع المال التي كانت له في حال الإجازة لهما، والباقي للورثة، لأنه من نصيب صاحب الثلث. وإن أجازوا لصاحب الثلث وحده، ففيه وجهان: أحدهما: له الثلث كاملاً. والثاني: له الربع، ولصاحب المال الربع، والباقي للورثة، وإن كثرت السهام، كرجل أوصى لرجل بالمال، ولآخر بنصفه، ولآخر بثلثه، ولآخر بربعه، ولآخر بسدسه، أخذت مخرجاً يجمع الكسور فجعلته المال، وهو هنا اثنا عشر، ثم زدت عليه نصفه وثلثه وربعه وسدسه، فبلغ الجميع سبعة وعشرين، فيقسم المال بينهم إن أجيز لهم، أو الثلث إن رد عليهم. فصل: فإن أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بمثل نصيب أحد ورثته، وهما اثنان، ففيها وجهان: أحدهما: أن يعطي الثلث لصاحبه، ويقسم الباقي بين الاثنين، والوصي الآخر على ثلاثة، فتصح المسألة من تسعة، للموصى له بالثلث ثلثه، وللآخر سهمان، ولكل ابن سهمان. وإن ردا قسمت الثلث بين الوصيين على خمسة. والوجه الآخر: أن صاحب النصيب موصى له بثلث المال، لأننا لا نرتب الوصايا بعضها على بعض، فعلى هذا إن أجيز لهما، فللوصين الثلثان، وللابنين الثلث. فإن ردا، فالثلث بينهما على اثنين، والثلثان للابنين. وتصح من ستة. فإن كانت الوصية الأولى بالنصف، ففيه وجه ثالث. وهو: أن تجعل لصاحب النصيب نصيبه من الثلثين وهو ثلثهما، ولصاحب النصف النصف إن أجاز الورثة. وإن ردوا قسمت الثلث بين الوصيين على ثلاثة عشر سهماً، والثلثان للابنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 فصل: وإن وصى لرجل بمثل نصيب أحد ورثته، ولآخر بجزء مما يبقى من المال، كرجل له ثلاثة بنين أوصى بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما بقي، فعلى الوجه الذي نقول لصاحب النصيب في المسألة التي قبلها ثلث المال، له هاهنا ربع المال، ويكون للآخر ربع أيضاً، يبقى سهمان من أربعة لثلاثة بنين، وتصح من اثني عشر سهماً، لكل واحد من الوصيين ثلاثة، ولكل ابن سهمان وإن ردوا عليهما، قسمت الثلث بين الوصيين نصفين، والباقي للبنين، وعلى الوجه الآخر لا يزاد صاحب النصيب على ميراث ابن، لأنه قصد التسوية بينه وبينهم. ولك في عملها طرق: أحدها: أن تضرب مخرج إحدى الوصيتين في الأخرى، وهو هنا ثلاثة في أربعة، تكن اثني عشر، ثم تنقصه سهماً يبقى أحد عشر، فمنه تصح، ثم تأخذ مخرج الجزء وهو ثلاثة تنقصها سهماً يبقى سهمان وهو النصيب. الطريق الثاني: أن تجعل المال ثلاثة أسهم ونصيباً، تدفع النصيب إلى صاحبه، وإلى الوصي الآخر ثلث الباقي سهماً، يبقى سهمان بين البنين لكل واحد ثلثا سهم، فتعلم أن النصيب ثلثا سهم. فإذا بسطتها أثلاثاً كانت أحد عشر. الطريق الثالث: أن تقول: ثلاثة أسهم بقية مال ذهب ثلثه، فرد عليه نصفه وسهماً، صارت خمسة ونصفاً، وإذا بسطتها، كانت أحد عشر. فصل: وإن وصى لرجل بمثل نصيب أحد ورثته، ولآخر بثلث ما بقي من الثلث، فاجعل المال تسعة أسهم وثلاثة أنصباء، ادفع نصيباً إلى صاحبه، وإلى الآخر سهمان، وادفع نصيبين إلى ابنين، يبقى ثمانية أسهم للابن الثالث، فتبين أن النصيب ثمانية أسهم، والمال ثلاثة وثلاثون. فصل: وإن كان له مائتا درهم وعبد قيمته مائة، فأوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بالعبد، فقد أوصى بثلثي ماله، فإن لم يجز الورثة، رددت وصية كل واحد منهما إلى نصفها، فلصاحب العبد نصفه، وللآخر سدس المائتين وسدس العبد، ويحتمل أن يقتسما الثلث على حسب ما يحصل لهما في الإجازة، فيكون بينهما على عشرين، لصاحب العبد تسعة وهي ربع العبد وخمسه، ولصاحب الثلث أحد عشر وهي سدس المال وسدس عشره، وإن أجازوا لهما، فللموصى له بالثلث ثلث المائتين، لأنه لا مزاحم له فيهما، أو يزدحم هو وصاحب العبد فيه، لأنه قد أوصى لأحدهما بجميعه، وللآخر بثلثه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 فيقسم بينهما على أربعة، لصاحبه ثلاثة أرباعه، ولصاحب الثلث ربعه، فإن أجازوا لصاحب الثلث وحده، فله ثلث المائتين. وهل يستحق ثلث العبد أو ربعه؟ على وجهين. ولصاحب العبد نصفه. وإن أجازوا لصاحب العبد وحده، فلصاحب الثلث سدس المائتين وسدس العبد، ولصاحب العبد خمسة أسداس في أحد الوجهين، وفي الآخر ثلاثة أرباعه التي كانت له في حال الإجازة لهما، وباقيه للورثة. فصل: وإن أوصى بنصف ماله لوارثه وأجنبي، فأجيز لهما، فهو بينهما، وإن رد عليهما، أو على الوارث وحده، فللأجنبي السدس، والباقي للورثة، وإن وصى لكل واحد بثلث ماله، فأجيز لهما، جاز لهما، وإن رد عليهما، فقال القاضي: إن عينوا وصية الوارث بالإبطال، فالثلث كله للأجنبي، وإن أبطلوا الزائد على الثلث من غير تعيين، فالثلث الباقي بين الوصيين. وقال أبو الخطاب: فيها وجهان: أحدهما: أن الثلث كله للأجنبي. والثاني: للأجنبي السدس ويبطل الباقي. فصل: وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته إلا جزءاً من المال، مثل أن يوصي لرجل بمثل نصيب أحد بينه - وهم ثلاثة - إلا ربع المال، فاجعل لكل ابن ربع المال، واقسم الباقي بينهم وبين الموصى له على أربعة لا تنقسم، واضرب عددهم في مخرج الربع تكن ستة عشر، له سهم، ولكل ابن خمسة، وإن قال: إلا سدساً، فضلت كل ابن بسدس، وقسمت الباقي بينهم وبين الوصي على ما ذكرناه. فصل: وإن وصى له بنصف نصيب أحدهم إلا ربع ما يبقى بعد النصيب، فرضت المال بقدر مخرج الجزء المستثنى - وهو أربعة - وزدت عليه نصيباً، واستثنيت من النصيب سهماً رددته على السهام، صارت خمسة بين البنين، لكل ابن سهم وثلثان، فهو النصيب، فتبين أن المال خمسة وثلثان، إذا بسطتها تكن سبعة عشر، للموصى له سهمان، ولكل ابن خمسة. فإن كان أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا ربع الباقي بعد الوصية، فرضت أقل من مخرج الجزء الموصى به، وذلك ثلاثة، وزدت نصيباً، ثم استثنيت من النصيب سهماً، وزدته على الثلاثة، صارت أربعة بين البنين، لكل ابن سهم وثلث، فتبين أن النصيب سهم وثلث، إذا بسطتها، صارت ثلاثة عشر سهماً، ومنهما تصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 [ باب جامع الوصايا ] إذا أوصى بعبد من عبيده، ولا عبيد له، أو بعبده الحبشي ولا حبشي له، أو بعبده سالم وليس ذلك له، فالوصية باطلة، لأنه وصى له بما لا يملك، أشبه إذا وصى له بداره ولا دار له، وعن أحمد في رجل قال: أعطوا فلاناً من كيسي مائة، ولم يكن في الكيس مائة: يعطى مائة درهم، فلم تبطل الوصية، فيخرج هاهنا مثله، لأنه لما تعذرت الصفقة، بقي أصل الوصية، فيشترى له عبد. فإن كان له عبيد أعطي واحداً بالقرعة في إحدى الروايتين، لأنهم تساووا بالنسبة إلى استحقاقه، فيصار إلى القرعة، كما لو أعتق واحداً منهم. والثانية: يعطيه الورثة ما شاؤوا من سليم ومعيب، وصغير وكبير، لأنه يتناوله الاسم، فيرجع إلى رأي الورثة، كما لو وصى له بحظ أو نصيب، ولا عرف في هبة الرقيق، فرجع إلى ما يتناوله الاسم، فإن مات رقيقه قبل موته أو بعده، بطلت الوصية، لفوات ما تعلقت به الوصية به من غير تفريط. وإن بقي منهم واحد، تعينت الوصية فيه، لوجوده منفرداً. وإن قتلوا قبل موت الموصي، بطلت الوصية، لأنه جاء وقت الوجوب، ولا رقيق له. وإن قتلوا بعد موته، وجبت له قيمة أحدهم، لأنه بدل ما وجب له، وإن لم يكن له عبيد حين الوصية، فاستحدث عبيداً، احتمل صحة الوصية اعتباراً بحالة الموت، واحتمل أن لا تصح، لأن ذلك يقتضي من عبيده الموجودين حال الوصية. فصل: وإن وصى بعتق عبد، وله عبيد، احتمل أن يجزئ عتق ما وقع عليه الاسم، لعموم اللفظ، واحتمل أن لا يجزئ إلا عتق رقبة تجزئ في الكفارة، لأن للعتق عرفاً شرعياً، فحملت الوصية عليه، وهل يعتق أحدهم بالقرعة، أو يرجع إلى اختيار الورثة؟ على وجهين. وإن عجز الثلث عن عتق رقبة كاملة، عتق منها قدر الثلث، إلا أن يجيز الورثة عتق جميعه. وإن وصى بعتق عبيد، فلم يخرج من الثلث إلا واحد، عتق واحد منهم بالقرعة. وإن وصى أن يشترى بثلثه رقاب يعتقون، فأمكن شراء ثلاث رقاب بثمن رقبتين غاليتين، فعتق الثلاثة أولى، لأنه تخليص لثلاثة، وإن اتسع لرقبتين وبعض أخرى، زيد في ثمن الرقبتين، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أفضل الرقاب. قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها» وإن قال: أعتقوا أحد رقيقي، جاز إعتاق الذكر والأنثى والخنثى، لأنه أحد رقيقه، وإن قال: أعتقوا عبداً من عبيدي، لم يجزئهم عتق الأنثى ولا الخنثى المشكل، لأنه لا يعلم كونه ذكراً، ويجزئ عتق الخنثى المحكوم بذكوريته، لأنه عبد، وإن قال: أعتقوا أمة، لم يجزئهم إلا أنثى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 فصل: وإن قال أعطوه شاة من غنمي، فهو كالوصية بعبد من عبيده، ويتناول الضأن والمعز. وهل يتناول الذكر؟ فيه وجهان: أحدهما: يتناوله، لأن الاسم يقع عليه لغة. والثاني: لا يتناوله، لأنه لا يتناوله الاسم عرفاً. قال أصحابنا: ويتناول الصغيرة، ويحتمل أن لا يتناولها، لأنها لا تسمى شاة عرفاً، فإن لم يكن له إلا ذكران، أو صغار، لم يعط إلا من جنس ماله، لأنه أضافه إليه فاختص به. وإن قال: أعطوه جملاً، لم يعط إلا ذكراً، والبعير كالجمل، لأنه في العرف مختص به. وقال أصحابنا: البعير كالإنسان، يتناول الذكر والأنثى، وإن قال: أعطوه ناقة، لم يعط إلا أنثى، وإن قال: أعطوه ثوراً، فهو الذكر، والبقرة هي الأنثى. وإن وصى له برأس من الإبل، أو البقر، أو الغنم، جاز فيه الذكر والأنثى، لأن ذلك اسم للجنس. فصل: وإن وصى له بدابة، أعطي من الخيل، أو البغال، أو الحمير، لأن اسم الدابة يطلق على الجميع، ويتناول الذكر والأنثى. وإن قال: من دوابي، تعينت الوصية فيما عنده، وإن قرن به ما يصرفه إلى أحدها، تعينت الوصية فيه، فإذا قال: أعطوه دابة يقاتل عليها، فهي فرس، وإن قال: ينتفع بنسلها، خرج منها البغال: وإن قال: أعطوه فرساً، تناول الذكر والأنثى، وإن قال: حصاناً، فهو الذكر، وإن قال: حجرة، فهي الأنثى، وإن قال: حماراً، فهو ذكر، وإن قال: أتاناً، فهي أنثى. فصل: وإن وصى بكلب يباح اقتناؤه، صحت الوصية، لأن فيه نفعاً مباحاً، وتقر اليد عليه، والوصية تبرع، فجازت فيه. وإن كان له كلب، أو لم يكن له إلا كلب هراش، لم تصح الوصية، لأنه لا يمكن شراؤه، وكلب الهراش، لا يباح اقتناؤه، وإن كان له كلاب ينتفع بها، فللموصى له واحد منها، إلا أن تذكر القرينة على واحد منها بعينه، من صيد، أو حفظ غنم، فيدفع إليه ما دلت القرينة عليه، وإن وصى له بثلاثة أكلب لا مال له سواها، ردت الوصية إلى ثلثها، ويعطى واحداً منها بالقرعة في أحد الوجهين، وفي الآخر يعطيه الورثة أيها شاؤوا، وإن لم يكن له إلا كلب واحد، أعطي ثلثه، وإن كان للموصي مال، ففيه وجهان: أحدهما: يدفع جميع الكلاب إلى الموصى له، وإن قل المال، لأن أقل المال خير من الكلاب الكثيرة، فأمضيت الوصية، كما لو وصى له بشاة، تخرج من ثلثه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 والثاني: يدفع إليه ثلث الكلاب، لأنه لا يجوز أن يكون للوصي شيء إلا وللورثة مثلاه، ولا يمكن اعتبار الكلب من ثلث المال، لأنه لا قيمة له فاعتبر بنفسه. فصل: وإن وصى له بطبل من طبوله، وله طبول حرب، أعطي واحداً منها، فإن لم يكن له إلا طبول لهو، فالوصية باطلة، لأنها وصية بمحرم، وإن كان له طبل لهو وطبل حرب، أعطي طبل الحرب، لأن طبل اللهو لا تصح الوصية به، فهو كالمعدوم. وإن وصى له بعود من عيدانه، وله عيدان للقسي والبناء، أعطي واحداً منها، وإن لم يكن له إلا عيدان لهو، فالوصية باطلة، لأنها وصية بمحرم، وإن كان له عيدان للهو ولغيره، ففيه وجهان: أحدهما: الوصية باطلة، لأن العود بإطلاقه ينصرف إلى عود اللهو، ولا تصح الوصية به. والآخر: تصح الوصية ويعطى عوداً مباحاً، لأن الوصية تعينت فيه لتحريم ما سواه، فأشبه ما لو وصى له بطبل، وله طبل لهو، وطبل حرب. فصل: وإن وصى له بقوس وأطلق، انصرف إلى قوس الرمي بالسهام، لأنه الذي يفهم من إطلاق القوس، فإن قال: قوس يرمي عليه، أو يغزو به، كان تأكيداً لذلك، وإن قال: يندف به، أو يتعيش به، انصرف إلى قوس الندف. وإن قال: قوساً من قسيي، وليس له إلا قسي ندف أو بندق، أعطي واحداً منها، لأن الوصية تعينت فيه بإضافتها إلى قسيه، واختصاص قسيه بها. قال القاضي: ويعطى القوس بوتره، لأنه لا ينتفع به إلا به، فجرى مجرى جزئه، ويحتمل أن يعطاه بدون الوتر، لأن الاسم يقع عليه بدونه. فصل: وإن أوصى له بعبد، ولآخر بباقي الثلث، دفع العبد إلى صاحبه، وتمام الثلث للآخر، فإن لم يبق من الثلث شيء، بطلت الوصية بالباقي، لأنه لا باقي ها هنا، فإن رد صاحب العبد وصيته، فوصية الآخر بحالها، فإن مات العبد بعد موت الموصي فكذلك، ويقوم العبد حال الموت. وإن مات قبل موت الموصي، قومت التركة بدون العبد، لأنه معدوم. فصل: فإن وصى لرجل بمائة، ولآخر بتمام الثلث، ولثالث بالثلث، فأجيز لهم، قسم الثلثان بين الأوصياء على ما ذكر الموصي، فإن كان الثلث مائة، سقطت وصية صاحب الباقي، وقسم الثلثان بين الآخرين نصفين، وإن كان الثلث دون المائة، فرد الورثة، قسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 الثلث بينهما بالحصة. فإذا كان الثلث خمسين قسم أثلاثاً، لصاحب المائة ثلثاها، وللآخر ثلثها، وإن كان الثلث أكثر من المائة، فلم يجز الورثة، دفع إلى صاحب الثلث نصفه، وفي باقيه وجهان: أحدهما: يقدم صاحب المائة بها، فإن فضل عنها شيء دفع إلى صاحب الباقي، وإلا فلا شيء له، لأنه حق في الباقي بعد المائة، فلا يأخذ شيئاً قبل استيفائها، كالعصبة، لا تأخذ شيئاً قبل تمام الفرض، ويزاحم صاحب المائة لصاحب الباقي، وإن لم يعطه شيئاً، كما يعال ولد الأبوين لجد بولد الأب، ولا يعطيه شيئاً. والثاني: أن السدس يقسم بين صاحب المائة وصاحب الباقي على قدر وصيتهما، فإذا كان الثلث مائتين، أخذا مائة، فاقتسماها نصفين، لأنه إنما أوصى له بالمائة من كل الثلث، لا من بعضه، فلم يجز أن يأخذ من نصف الثلث ما يأخذه من جميعه، كالوراث إذا زاحمهم أصحاب الوصايا. وإن بدأ فوصى لرجل بثلث ماله، ثم وصى لآخر بمائة، ولآخر بتمام الثلث، ففيه وجهان: أحدهما: هي كالتي قبلها سواء، لأنه إذا أوصى بتمام الثلث بعد وصيته بالثلث، علم أنه لم يرد ذلك الثلث الموصى به، وإنما أراد ثلثاً ثانياً، فصارت كالتي قبلها. والثاني: أن الوصية بتمام الثلث باطلة، لأن الثلث قد استوعبته الوصية الأولى، ولا باقي له، فيكون وجود هذه الوصية كعدمها. فصل: إذا وصى لرجل بمنفعة جارية، ولآخر برقبتها، صح، ولصاحب المنفعة منافعها وأكسابها، وله إجارتها، لأنه عقد على منفعتها، ولا يملك واحد منهما وطأها، لأن الوطء إنما يكون في ملك تام، وليس لواحد منهما ملك تام، ولا يملك أحدهما تزويجها لذلك، فإن اتفقا عليه جاز، لأن الحق لا يخرج عنهما، والولي مالك الرقبة، لأنه مالكها، والمهر له، لأنه بدل منفعة البضع التي لا يصح بذلها، ولا وصية بها، وإنما هي تابعة للرقبة، فتكون لصاحبها. وقال أصحابنا: هو لمالك منفعتها لأنه بدل منفعة من منافعها، فإن أتت بولد، فحكمه حكمها، لأنه جزء من أجزائها، فيثبت فيه حكمها كولد المكاتبة، وأم الولد. وإن زنت، فالحكم في الولد والمهر على ما ذكرنا. وإن وطئت بشبهة، فالمهر على ما ذكرنا، والولد حر تجب قيمته يوم وضعه لمالك الرقبة في أحد الوجهين، وفي الآخر: يشتري بها عبد يقوم مقامه. وإن قتلت وجبت قيمتها، يشترى بها ما يقوم مقامها، وإن قتل ولدها الرقيق، فكذلك، لأن الواجب قائم مقام الأصل، فكان حكمه حكم الأصل. وإن احتاجت إلى نفقة، احتمل أن تجب على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 مالك المنفعة، لأنه يملك نفعها على التأبيد، فكانت النفقة عليه، كالزوج. واحتمل أن تجب على صاحب الرقبة، لأنه مالك رقبتها، فوجب عليه نفقتها، كما لو كانت زمنة. واحتمل أن تجب في كسبها، لأنه تعذر إيجابها على كل واحد منهما، فلم يبق إلا إيجابها في كسبها، فإن لم يف كسبها، ففي بيت المال، فإن أعتقها صاحب الرقبة، عتقت لأنه مالك لرقبتها، وتبقى منافعها مستحقة لصاحب المنفعة يستوفيها في حال حريتها. وإن باعها، احتمل أن يصح، لأن البيع يقع على رقبتها وهو مالك لها، واحتمل أن لا يصح لأن ما لا نفع له لا يصح بيعه، كالحشرات. واحتمل أن يصح بيعها لمالك منفعتها دون غيره، لأنه يجتمع لها رقبتها ونفعها بخلاف غيره. فإن وطئها أحد الوصيين، فمن حكمنا له بالمهر، لا مهر عليه، ومن لم نحكم له بالمهر، فهو عليه لصاحبه، ولا حد عليه، لأن له شبهة الملك فيها. فصل: ومن أوصي له بشيء، فتلف بعضه أو هلك، فله ما بقي إن حمله الثلث. وإن وصى له بثلث ثلاثة دور، فهلك اثنتان، فليس له إلا ثلث الباقية، لأنه لم يوص له منها إلا بثلثها. وإن أوصى له بثلث عبد، فاستحق ثلثاه، فجميع الثلث الباقي للموصى له إذا حمله ثلث المال، لأنه قد أوصى له بجميعه. فصل: إذا أوصى بعتق مكاتبه، أو الإبراء مما عليه، اعتبر من الثلث أقل الأمرين، من قيمته مكاتباً، أو مال كتابته، لأن العتق إبراء، والإبراء عتق، فاعتبر أقلهما، وألغي الآخر، فإن احتمله الثلث، عتق وبرئ، وإن احتمل الثلث بعضه كنصفه، عتق نصفه، وبقي نصفه على الكتابة. وإن لم يكن للموصي سوى المكاتب، عتق ثلثه في الحال، وبقي ثلثاه على الكتابة، إن عجز رق، وإن أدى عتق، وإن قال: ضعوا عن مكاتبي أكثر ما عليه، وضع عنه النصف، وأدنى زيادة، لأنه الأكثر. وإن قال: ضعوا عنه أكثر نجومه، وضع عنه أكثر من نصفها لذلك. وإن قال: ضعوا عنه أكبر نجومه، وضع عنه أكثرها مالاً، وإن قال: ضعوا عنه أوسط نجومه وهي ثلاثة، وضع الثاني. وإن كانت خمسة، وضع الثالث. وإن كانت أربعة، وضع الثاني والثالث. وعلى هذا القياس. فإن كانت أوسط في القدر، وأوسط في المدة وأوسط في العدد، فللوارث وضع أي الثلاثة شاء، لأن الأوسط يقع على الثلاثة. وإن قال: ضعوا عنه ما قل أو كثر، فللوارث وضع ما شاء، لأن الاسم يتناوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 فصل: وإن وصى لرجل بمال الكتابة، ولآخر برقبته، صح، فإن أدى، عتق وبطلت الوصية بالرقبة، وإن عجز رق وكان لمالك الرقبة. وإن كانت الكتابة فاسدة فأوصى بما في ذمة المكاتب، لم يصح، لأنه لا شيء في ذمته. وإن وصى بما يقتضي منه صحت الوصية، لأنه أضافه إلى حال يملكه، فصح، كما لو وصى برقبة المكاتب إذا عجز، وإن وصى له برقبته، صحت الوصية، لأنه وصى بمملوكه. فصل: وإذا قال: حجوا عني بخمسمائة، وهي تخرج من الثلث، وجب صرفها كلها في الحج، وليس للولي أن يصرف إلى من يحج أكثر من نفقة المثل، لأنه أطلق له التصرف في المعاوضة، فاقتضى عوض المثل، كالوكيل في البيع، ويحج عنه من بلده، لأن حج المستنيب من بلده، فكذلك النائب. فإن فضل ما لا يكفي للحج من بلده، أو كان الموصى به لا يكفي للحج من بلده فقال أحمد: يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب، من غير مدينته. وعنه: أنه يعان به في الحج. فإن لم يمكن ذلك، سقطت الوصية لتعذرها، فإن قال الموصي: أحجوا عني حجة بخمسمائة، صرف جميع ذلك إلى من يحج حجة واحدة، لأن الموصي قصد إرفاق الحاج بذلك، فإن عين الحاج تعين. فإن أبى المعين الحج، صرف إلى من يحج عنه نفقة المثل، والباقي للورثة. فإن قال المعين: أعطونى الزائد، لم يقبل منه، لأنه إنما أوصى له بالزيادة بشرط أن يحج، فإذا لم يحج لم يستحق شيئاً. وإن لم يعين أحداً فللوصي صرفها إلى من شاء، لأنه فوض إليه الاجتهاد فيه. وإن قال الموصي: أحجوا عني حجة، ولم يذكر المقدار، لم يدفع إلى من يحج عنه إلا قدر نفقة المثل، إلا أن لا يوجد من يحج بذلك، فيعطى أقل ما يوجد من يحج به، وكذلك إن قال: أحجوا عني، ولم يذكر قدر ما يحج به ولا قدر الحج، لم يحج أكثر من حجة واحدة بقدر نفقة المثل، لأنه اليقين. فصل: وإذا أوصى ببيع عبده، فالوصية باطلة، لأنه لا نفع فيها، وإن قال: بيعوه لفلان، صحت الوصية، لأنه قد يقصد نفع العبد بإيصاله إلى فلان، أو نفع فلان بإيصال العبد إليه، فإن أبى الآخر شراءه، بطلت الوصية. وإن قال: اشتروا عبد زيد بخمسمائة فأعتقوه، فأبى زيد بيعه بخمسمائة، أو بيعه بالكلية، بطلت الوصية. وإن اشتروه بأقل، فالباقي للورثة، لأن المقصود قد حصل، ويحتمل أن تكون الخمسمائة لزيد، لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 يحتمل أنه قصد محاباته، فأشبه ما لو قال: يحج عني فلان بخمسمائة. وإذا أوصى بفرسه في سبيل الله، وألف درهم ينفق عليه، فمات الفرس، فالألف للورثة، لأن الوصية بطلت فيها، لعدم مصرفها. وإن أنفق بعضها، رد الباقي إلى الورثة. [ باب الرجوع في الوصية ] يجوز الرجوع في الوصية، لأنها عطية لم تزل الملك، فجاز الرجوع فيها، كهبة ما يعتبر قبضه قبل قبضه. ويجوز الرجوع فيها بالقول والتصرف، لأنه فسخ عقد قبل تمامه، فجاز بالقول والتصرف، كفسخ البيع في الخيار. فإن قال: رجعت فيها، أو: فسختها، فهو رجوع، لأنه صريح فيه، وإن قال: هو حرام عليه، كان رجوعاً، لأنه لا يكون حراماً وهو وصية. وإن قال: لوارثي، فهو رجوع، لأن ذلك ينافي كونه وصية. فصل: وإن قال: هو تركتي، لم يكن رجوعاً، لأن الموصى به من تركته، وإن أوصى به لآخر، لم يكن رجوعاً، لاحتمال أن يكون ناسياً، أو قاصداً للتشريك بينهما. وإن قال: ما وصيت به لفلان، فهو لفلان، كان رجوعاً، لأنه صرح برده إلى الآخر. فصل: وإن باعه، أو وهبه، أو وصى ببيعه، أو هبته، أو عتقه، أو كاتبه، صار رجوعاً، لأنه صرفه عن الموصى له، وإن دبره كان رجوعاً، لأنه أقوى من الوصية، لكون عتقه ينجز بالموت، وإن عرضه للبيع، أو رهنه، كان رجوعاً، لأنه عرضه لزوال ملكه، وفي الكتابة والتدبير والرهن وجه آخر، أنه ليس برجوع، لأنه لم يخرجه عن ملكه. فصل: وإن أوصى بثلث ماله ثم باع ماله، لم يكن رجوعاً، لأن الوصية بثلث ماله عند الموت، لا بثلث الموجود. وإن زوجه أو أجره أو علمه صناعة، لم يكن رجوعاً، لأنه لا ينافي الوصية به، وإن وطئ الجارية، لم يكن رجوعاً، لأنه استيفاء منفعة أشبه الاستخدام. وإن غسل الثوب ولبسه، أو جصص الدار، أو سكنها، لم يكن رجوعاً، لأنه لا يزيل الاسم، ولا يدل على الرجوع. وإن جحد الوصية، لم يكن رجوعاً، لأنه عقد فلم يبطل بالجحود كسائر العقود، ويحتمل أن يكون رجوعاً، لأنه يدل على إرادة الرجوع. فصل: وإن وصى بطعام معين فخلطه بغيره، كان رجوعاً، لأنه جعله على صفة لا يمكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 تسليمه. وقال أبو الخطاب: ليس برجوع. وإن وصى بقفيز من صبرة، ثم خلط الصبرة بأخرى، لم يكن رجوعاً، لأنه كان مشاعاً، ولم يزل، فهو باق على صفته. فصل: وإن وصى بحنطة فزرعها وطحنها، أو بدقيق فخبزه، أو بخبز فثرده، أو جعله فتيتاً، أو بشاة فذبحها، أو بثوب فقطعه قميصاً، أو بخشب ثم نجره باباً، أو بقطن فغزله، أو بغزل فنسجه، كان رجوعاً، لأنه أزال اسمه وهيأه للانتفاع به. وقال أبو الخطاب: ليس برجوع، لأنه لا يمنع التسليم أشبه غسل الثوب. وإن أوصى له بقطن، ثم حشا به فراشاً، أو مسامير، ثم سمر بها باباً، أو بحجر وبناه في حائط، كان رجوعاً، لأنه شغله بملكه على وجه الاستدامة. وإن أوصى له بعنب فجعله زبيباً، ففيه وجهان: أحدهما: يكون رجوعاً، لأنه أزال اسمه. والثاني: ليس برجوع، لأنه أبقى له وأحفظ على الموصى له. وإن وصى بدار ثم هدمها، كان رجوعاً في أحد الوجهين. وفي الآخر: لا يكون رجوعاً، بناء على ما إذا طحن الحنطة، وإن انهدمت بنفسها فكذلك إذا زال رسمها، وإن لم يزل اسمها، فالوصية ثابتة فيما بقي، وفيما انفصل وجهان. فصل: وإن وصى بأرض ثم زرعها، لم يكن رجوعاً، لأنه لا يراد للبقاء، وقد يحصد قبل الموت. فإن غرسها أو بناها، ففيه وجهان: أحدهما: يكون رجوعاً، لأنه جعلها لمنفعة مؤبدة. والثاني: لا يكون رجوعاً، لأنه استيفاء منفعة أشبه الزراعة. وإن أوصى له بسكنى داره سنة، ثم أجرها فمات قبل انقضاء الإجارة، ففيه وجهان: أحدهما: يسكن سنة بعد انقضاء مدة الإجارة، لأنه موصى له بسنة. والثاني: تبطل الوصية بقدر ما بقي من مدة الإجارة، وتبقى في الباقي. [ باب الأوصياء ] لا تصح الوصية إلا إلى عاقل، فأما المجنون والطفل، فلا تصح الوصية إليهما، لأنهما ليسا من أهل التصرف في مالهما، فلا يجوز توليتهما على غيرهما، ولا تصح الوصية إلى فاسق، لأنه غير مأمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وعنه: تصح ويضم إليه أمين ينحفظ به المال. قال القاضي: هذه الرواية محمولة على من طرأ فسقه بعد الوصية، لأنه يثبت في الاستدامة ما لا يثبت في الابتداء. واختار القاضي: أنه إذا طرأ الفسق أزال الولاية. لأن هذه أمانة، والفاسق ليس من أهلها. وقال الخرقي: إذا كان خائناً، ضم إليه أمين، لأنه أمكن الجمع بين حفظ المال بالأمين، وتحصيل نظر الوصي بإبقائه في الوصية، ولا تصح وصية مسلم إلى كافر، لأنه ليس من أهل الولاية على مسلم. وفي وصية الكافر، إلى الكافر وجهان: أحدهما: يجوز، لأنه يجوز أن يكون ولياً له، فجاز أن يكون وصياً له، كالمسلم. والثاني: لا يجوز، لأنه أسوأ حالاً من الفاسق، وتصح وصيته إلى المسلم، لأن المسلم مقبول الشهادة عليه وعلى غيره. فصل: وتصح وصية الرجل إلى المرأة، لأن عمر أوصى إلى حفصة، ولأنها من أهل الشهادة، فأشبهت الرجل، وإلى الأعمى، لأنه من أهل الشهادة والتصرفات، فأشبه البصير، وإلى الضعيف لذلك، إلا أنه يضم إليه أمين يعينه، وتصح وصية الرجل إلى أم ولده. نص عليه. لأنها حرة عند نفوذ الوصية. وقال ابن حامد: تصح الوصية إلى العبد، سواء كان له أو لغيره، لأنه يصح توكيله، فأشبه الحر، والمكاتب والمدبر والمعلق عتقه بصفة، كالقن، لأنهم عبيد. وفي الوصية إلى الصبي العاقل وجهان: أحدهما: تصح، لأنه يصح توكيله، فأشبه الرجل. والثاني: لا يصح، لأنه ليس من أهل الشهادة، فلا يكون ولياً، كالفاسق. فصل: وتعتبر هذه الشروط حال العقد في أحد الوجهين، لأنها شروط لعقد، فاعتبرت حال وجوده، كسائر العقود. والثاني: تعتبر حال الموت، لأنه حال ثبوت الوصية ولزومها، فاعتبرت الشروط فيها، كالوصية له، ولأن شروط الشهادة تعتبر عند أدائها، لا عند تحملها، فكذلك ها هنا. ولو كانت الشروط موجودة عند الوصية، ثم عدمت عند الموت، بطلت الوصية إليه، لأنه يخرج بذلك كونه من أهل الولاية. فصل: ويجوز أن يوصي إلى نفسين، لما روي أن ابن مسعود كتب في وصيته: إن مرجع وصيتي إلى الله، ثم إلى الزبير وابنه عبد الله، ولأنها استنابة في التصرف، فجازت إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 اثنين، كالوكالة، ويجوز أن يجعل التصرف إليهما جميعاً، وإلى كل واحد منهما منفرداً، لأنه تصرف مستفاد بالإذن، فجاز ذلك فيه، كالتوكيل، فإن جعل إلى كل واحد منهما، فلكل واحد أن ينفرد بالتصرف والحفظ. فإن ضعف أو فسق أو مات، فالآخر على تصرفه، ولا يقام غير الميت مقامه، لأن الموصي رضي بنظر هذا الباقي. وإن جعل التصرف إليهما جميعاً، أو أطلق الوصية إليهما، لم يجز لأحدهما الانفراد بالتصرف، لأنه لم يرض بنظره وحده. وإن فسق أحدهما، أو جن، أو مات، أقام الحاكم مكانه أميناً، لأن الموصي له لم يرض بنظر أحدهما وحده، وليس للحاكم أن يفوض الجميع إلى الباقي؛ لذلك. وإن ماتا معاً، فهل للحاكم تفويض ذلك إلى واحد؟ فيها وجهان: أحدهما: يجوز، لأن حكم وصيتهما سقط بموتهما، فكان الأمر إلى الحاكم، كمن لم يكن له وصي. والثاني: لا يجوز، لأن الموصي لم يرض بنظر واحد. وإن اختلف الوصيان في حفظ المال، جعل في مكان واحد تحت نظريهما، لأن الموصي لم يرض بأحدهما، فلم يجز له الانفراد به، كالتصرف. وإن أوصى إلى رجل، وبعده إلى آخر، فهما وصيان، إلا أن يقول: قد خرجت الأول، أو ما يدل على ذلك، لما ذكرنا في الوصية له. فصل: ويجوز أن يوصي إلى رجل، فإن مات فإلى آخر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جيش مؤتة: «أميركم زيد، فإن قتل فأميركم جعفر، فإن قتل، فأميركم عبد الله بن رواحة» رواه أحمد والنسائي. والوصية في معنى التأمير. ولو قال: أنت وصيي، فإذا كبر ابني، فهو وصيي، صح، لأنه إذن في التصرف، فجاز مؤقتاً، كالتوكيل. ومن أوصي إليه في مدة، لم يكن وصياً في غيرها، لذلك. فإذا أوصى إلى رجل وجعل له أن يوصي إلى من شاء، جاز. وله أن يوصي إلى من شاء من أهل الوصية، لأنه رضي باجتهاده وولاية من ولاه. وإن نهاه عن الإيصاء، لم يكن له أن يوصي، كما لو نهى الوكيل عن التوكيل. وإن أطلق، ففيه روايتان: إحداهما: له أن يوصي، لأنه قائم مقام الأب فملك ذلك كالأب. والثانية: ليس له ذلك. اختاره أبو بكر وهو ظاهر كلام الخرقي، لأنه يتصرف بالتولية، فلم يكن له التفويض من غير إذن فيه، كالتوكيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 فصل: وللوصي التوكيل فيما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه، وهل له التوكيل فيما يتولاه بنفسه؟ على روايتين. فصل: ولا يتم إلا بالقبول، لأنه وصية فلا يتم إلا بالقبول، كالوصية له. ويجوز قبولها وردها في حياة الموصي، لأنه إذن في التصرف، فجاز قبوله عقيب الإذن، كالوكالة. ويجوز تأخير قبولها إلى ما بعد الموت، لأنه نوع وصية، فصح قبولها بعد الموت، كالوصية له. [ فصل في عزل الوصي ] فصل: وللموصي عزل الوصي متى شاء، وللوصي عزل نفسه متى شاء في حياة الموصي، وبعد موته، لأنه إذن في التصرف، فملك كل واحد منهما فسخه كالوكالة. وذكر ابن أبي موسى رواية أخرى: ليس للوصي عزل نفسه بعد موت الموصي، لأنه غره بقبول وصيته، فعزل نفسه إضرار به، والضرر مدفوع شرعاً. فصل: وإذا بلغ الصبي واختلف هو والوصي في النفقة، فالقول قول الوصي، لأنه أمين ويتعذر عليه إقامة البينة عليها، فإذا قال: أنفقت عليك كل سنة مائة، فقال الصبي: بل خمسين، فالقول قول المنفق، إذا كان ما ادعاه قدر النفقة بالمعروف، وإن كان أكثر، ضمن الزيادة لتفريطه بها. وإن قال: أنفقت عليك منذ سنتين، فقال الصبي: ما مات أبي إلا من سنة، فالقول قول الصبي، لأنه لم يثبت كون الوصي أميناً في السنة المختلف فيها، والأصل عدم ذلك. وإن اختلفا في دفع المال إليه بعد بلوغه، فالقول قول الوصي، لأنه أمين في ذلك، فقبل قوله فيه، كالنفقة، وكالمودع. فصل: إذا ملك المريض من يعتق عليه. فحكى الحبرمي عن أحمد أنه يعتق ويرث، لأنه إن ملكهم بغير عوض، فلم يضع في عتقهم شيء من ماله، فلم يحتسب وصية لهم، كما لو ورثهم، وإن ملكهم بعوض فلم يصل إليهم، وإنما أتلفه المريض على ورثته، فهو كما لو بنى به مسجداً. وقال القاضي فيما ملكه بعوض: إن خرج من الثلث عتق وورث، وإلا عتق منه بقدر الثلث، وما ملكه بغير عوض عتق بكل حال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 [ كتاب الفرائض ] وهو علم المواريث. وقد أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتعلمها، وحث عليها على الخصوص. فروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي» رواه ابن ماجة. فإذا مات المرء، بدئ بكفنه. وتجهيزه مقدم على سواه كما يقدم المفلس بنفقته على غرمائه. ثم يقضى دينه، لقول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . قال علي: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن الدين قبل الوصية» . رواه الترمذي وابن ماجة. ولأن الدين تستغرقه حاجته، فقدم، كمؤنة تجهيزه. ثم تنفذ وصيته، للآية، ولأن الثلث بقي على حكم ملكه ليصرف في حاجته، فقدم على الميراث كالدين، ثم ما بقي قسم على الورثة للآيات الثلاث في سورة النساء. [ فصل في أسباب التوارث ] فصل: وأسباب التوارث ثلاثة: رحم، ونكاح، وولاء، لأن الشرع ورد بالتوارث بها، فأما المؤاخاة في الدين، والمولاة في النصرة، وإسلام الرجل على يد الآخر، فلا يورث بها، لأن هذا كان في بدء الإسلام ثم نسخ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 فصل: والمجمع على توريثهم من الذكور عشرة: الابن، وابنه وإن نزل، والأب، وأبوه وإن علا، والأخ من كل جهة، وابن الأخ إلا من الأم، والعم، وابنه كذلك، والزوج، ومولى النعمة. ومن النساء سبع: الأم، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت والزوجة، ومولاة النعمة. والمختلف في توريثهم أحد عشر صنفاً: ولد البنات، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنو الإخوة من الأم، والعمات، والعم من الأم، والأخوال، والخالات، وأبو الأم، وكل جدة أدلت بأب بين أمين، أو بأب أعلى من الجد، فهؤلاء ومن أدلى بهم يسمون ذوي الأرحام، ويرثون عند عدم المجمع على توريثهم، على ما سنذكره إن شاء الله في بابه. فصل: وينقسم الوراث إلى ذوي فرض، وعصبة، وذوي رحم، فالرجال من المجمع عليهم، كلهم عصبة إلا الزوج، والأخ من الأم، والأب، والجد مع الابن، والنساء المنفردات عن إخوتهن، ذوات فرض، إلا مولاة النعمة، والأخوات من البنات، والفرض جزء مقدر، والعصبة يرث المال كله إذا انفرد، فإن كان معه ذو فرض، بدئ به، والباقي للعصبة لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» متفق عليه. وإن استغرقت الفروض المال، سقط. فلو خلفت المرأة زوجاً، وأماً، وإخوة لأم، وإخوة لأبوين أو لأب، كان للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة للأم الثلث، وسقط الباقون، لأن الله فرض هذه الفروض لأهلها، فوجب دفعها إليهم، وجعل للعصبة الباقي، ولم يبق شيء. وهذه المسألة تسمى: المشركة إذا كان الإخوة لأبوين، لأن عمر شرك بين ولد الأم وولد الأبوين في الثلث، وتسمى: الحمارية، لأن بعض الصحابة قال: هب أباهم كان حماراً فما زادهم ذلك إلا قرباً. ويقال: إن بعض ولد الأبوين قال ذلك لعمر وقد أسقطهم، فشرك بينهم. ومذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما قلناه. [ باب أصحاب الفروض ] باب ذوي الفروض وهم عشرة: الزوجان، والأبوان، والجد، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت من كل جهة، والأخ من الأم. فأما الزوج، فله النصف إذا لم يكن للميتة ولد ولا ولد ابن، والربع إذا كان معه أحدهما، وللزوجة والزوجات الربع مع عدم الولد وولد الابن، والثمن مع أحدهما، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] وولد الابن، ولد، بدليل قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] و {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] والأربع من النساء كالواحدة، لعموم اللفظ فيهن. فصل: فأما الأم، فلها ثلاثة فروض: الثلث إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن، أو اثنان من الإخوة والأخوات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقسنا الأخوين على الإخوة، لأن كل فرض تعين بعدد. كان الاثنان فيه بمنزلة الجماعة، كفرض البنات والأخوات. الفرض الثالث: لها ثلث الباقي بعد فرض الزوجين، في زوج وأبوين، وامرأة وأبوين، لأن عمر قضى بهذه القضية، فاتبعه عثمان وابن مسعود، وزيد، وتسمى هاتان المسألتان: العمريتان، لقضاء عمر فيهما، ولأن الفريضة جمعت الأبوين مع ذي فرض واحد، فكان للأم ثلث الباقي، كما لو كان معها بنت. فصل: وللأم حال رابع، وهو: إذا لاعنها زوجها ونفى ولدها وتم اللعان بينهما، انتفى عنه، وانقطع تعصيبه منه، ولم يرثه هو ولا أحد من عصباته، وترث أمه وذوو الفروض منه فروضهم، والباقي لعصبته، وفيه روايتان: إحداهما: أن عصبته عصبة أمه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر» وأولى الرجال به، أقارب أمه. وعن علي أنه لما رجم المرأة، دعا أولياءها فقال: هذا ابنكم ترثونه ولا يرثكم. حكاه أحمد. والرواية الثانية: أن أمه عصبته، وإن لم تكن فعصبتها عصبته، لما روى واثلة بن الأسقع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث، عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» قال الترمذي: هذا حديث حسن، ولأنها قامت مقام أبيه في انتسابه إليها، فقامت مقامه في حيازة ميراثه، فعلى هذه الرواية، لو مات ابن ابن الملاعنة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وخلف أمه وجدته الملاعنة، لكان لأمه الثلث والباقي لجدته. ويعايا بها، فيقال: جدة ورثت مع أم أكثر منها. وإن خلف ابن الملاعنة أمه وأخاه وخاله، فلأمه الثلث، ولأخيه السدس، وباقيه له، لأنه عصبة أمه في إحدى الروايتين، والأخرى: الباقي للأم. وإن لم يكن أخ، فالباقي للخال على إحدى الروايتين. فصل: وللأب ثلاثة أحوال. حال: يرث فيها بالفرض المجرد، وهي مع الابن أو ابنه يرث السدس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] . وحال: يرث فيها بالتعصيب المجرد، وهي مع عدم الولد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . أضاف الميراث إليهما، ثم خص الأم منه بالثلث، دل على أن باقيه للأب. والحال الثالث: يجتمع له الأمران، السدس بالفرض، للآية. والباقي بالتعصيب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر» وهي مع إناث الولد. فصل: وللجد أحوال الأب الثلاثة، وإن اجتمع مع الأم أحد الزوجين، فللأم الثلث كاملاً. وله حال رابع، وهي مع الإخوة من الأبوين، أو من الأب، فإنه لم يسقطهم، لأنهم يدلون بالأب فلم يسقطهم، كأم الأب، ولكنه يقاسمهم، كأخ، ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث، فإن نقصته منه، بأن زاد الإخوة على اثنين، أو الأخوات على أربعة، فله الثلث، والباقي لهم. فإن كان معهم ذو فرض، أخذ فرضه، وجعل للجد الأحظ من ثلاثة أشياء، المقاسمة، كأخ، أو ثلث الباقي، لأن الفرض كالمستحق، فصار الباقي كجميع المال، أو سدس جميع المال، لأن ولد الصلب لا يمنعونه السدس، فولد الأب أولى، ولا يفرض للأخوات مع الجد، لأننا جعلناه كالأخ فيعصب الأخت، كالأخ. ولا تعول مسائله إلا في مسألة واحدة، تسمى: الأكدرية، لتكديرها أصول زيد، حيث أعال مسائل الجد. وفرض للأخت معه، وهي زوج وأم وأخت وجد، فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس. ثم يفرض للأخت النصف، لأنه لم يبق لها شيء، ولا مسقط لها ها هنا، ثم يجمع سدس الجد ونصف الأخت، فيقسم بينهما على ثلاثة، لئلا تفضل الأخت الجد، فتضرب الثلاثة في مسألة وعولها، وهي تسعة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 صارت من سبعة وعشرين، للأم ستة، وللزوج تسعة، وللجد ثمانية، وللأخت أربعة. ولو كانت أم وأخت وجد، فللأم الثلث، والباقي بين الجد والأخت على ثلاثة أسهم، وتسمى: الخرقاء، لكثرة اختلاف الصحابة فيها. ولو كان مكان الأخت أخ، كان المال بينهم أثلاثاً. فصل في المعادة: ولد الأب إذا انفردوا يقومون مقام ولد الأبوين في مقاسمة الجد، فإن اجتمعوا، فإن ولد الأبوين يعادون الجد بولد الأب، لأن من حجب بولد الأبوين وولد الأب إذا انفردوا، حجب بهما إذا اجتمعا، كالأم، وما حصل لولد الأب، أخذه منهم ولد الأبوين، لأنهم أولى بالإرث منهم، ولا شيء لولد الأب إلا أن يكون ولد الأبوين أختاً واحدة، فيردون عليها قدر فرضها، والباقي لهم. ولا يتفق هذا في مسألة فيها فرض إلا أن يكون الفرض السدس. فإن اجتمع أخوان في الجهتين، وجد، اقتسموا أثلاثاً، ثم أخذ الأخ للأبوين ما حصل لأخيه، فإن كان مكان الأخوين أختان، اقتسموا أرباعاً، ثم أخذت الأخت للأبوين ما حصل لأختها، لتستكمل النصف. فإن كان مع التي من قبل الأب، أخوها، اقتسموا أسداساً، ثم أخذت منهما تمام فرضها، يبقى لهما السدس على ثلاثة، وتصح في ثمانية عشر. فإن كان معهم أم، فلها السدس، وتفعل فيما بقي كما فعلت في أصل المال، فتصح في مائة وثمانية. وإن شئت فرضت للجد ثلث الباقي بعد السدس، ولا ثلث له، فتضرب ثلاثة في ستة، تكن ثمانية عشر، للأم ثلاثة، وللجد خمسة، وللأخت النصف تسعة، يبقى سهم بين الأخ وأخته على ثلاثة تضربها في ثمانية عشر، تكن أربعة وخمسين، وتسمى: مختصرة زيد، لاختصارها من مائة وثمانين إلى أربعة وخمسين. ولو كانت: أم، وجد، وأخت لأبوين، وأخوان، وأخت لأب، لصحت في تسعين وتسمى: تسعينية زيد، لصحتها من تسعين على مذهبه. فصل: وللجدة السدس - وإن كثرن، لم يزدن على السدس شيئاً - فرضاً، لما روى قبيصة بن ذؤيب قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر تطلب ميراثها، فقال: ما لك من كتاب الله شيء، وما أعلم لك من سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟ فشهد له محمد بن مسلمة، فأمضاه لها أبو بكر، فلما كان عمر جاءت الجدة الأخرى، فقال عمر: ما لك في كتاب الله شيء، وما كان القضاء الذي قضى به إلا في غيرك، وما أنا بزائد في الفرائض شيئاً، ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما، فهو لكما، وأيكما خلت به، فهو لها.» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 ولا يرث من الجدات أكثر من ثلاث: أم الأم، وأم الأب، وأم الجد، ومن كان من أمهاتهن وإن علت درجتهن، فلهن السدس إذا تحاذين في الدرجة، لما روى سعيد بإسناده، عن إبراهيم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورث ثلاث جدات، ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم.» قال إبراهيم: كانوا يورثون من الجدات ثلاثاً، وهذا يدل على أنه لا يرث أكثر من ثلاث، وأجمع أهل العلم على أن أم أبي الأم لا ترث، وكذلك كل جدة أدلت بأب بين أمين، لأنها تدلي بغير وارث. قال الشعبي: إنما طرحت أم أبي الأم، لأن أبا الأم لا يرث، ولا ترث جدة تدلي بأب أعلى من الجد، لأنها خارجة عن الثلاث اللاتي ورثهن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل كلام الخرقي توريثها، لأنها تدلي بوارث. وإن كان بعض الجدات أقرب من بعض، فالميراث لأقربهن، لأن الجدات أمهات يرثن ميراث الأم، وكذلك سقطن بها. فإذا اقترب بعضهن، أسقطت البعدى، كما لو كانت القربى من جهة الأم. وعنه: أن القربى من جهة الأم تسقط البعدى من جهة الأب، والقربى من جهة الأب لا تسقط البعدى من جهة الأم، لأنها تدلي بمن لا يسقطها، وهو الأب، فأولى أن لا تكون هي مسقطة لها. وترث الجدة وابنها حي، سواء كان أباً أو جداً، لما روى سعيد بن منصور بإسناده عن ابن مسعود: أن أول جدة أطعمت السدس أم أب مع ابنها. ورواه الترمذي، ولفظه قال: «أول جدة أطعمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السدس الجدة مع ابنها، وابنها حي.» وعنه: لا ترث، لأنها تدلي به، فلا ترث معه، كالجد. والجدات المتحاذيات: أم أم أم، وأم أم أب، وأم أبي أب، السدس بينهن أثلاثاً. فإن أدلت جدة بقرابتين، وأخرى بقرابة واحدة، فلذات القرابتين ثلثا السدس في قياس قول أحمد، وللأخرى ثلثه، لأنها شخص ذو قرابتين تورث كل واحدة منهما منفردة، فإذا اجتمعا، ولم يرجح بهما ورث بهما، كابن العم إذا كان أخاً لأم، أو زوجاً. فصل: فأما البنات، فلهن الثلثان وإن كثرن، وللواحدة إذا انفردت النصف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] . وحكم البنتين حكم ما زاد عليهما، لما روى جابر بن عبد الله قال: «جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال. قال: يقضي الله في ذلك. فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعيد الثلثين وأعط أمهما الثمن، فما بقي فهو لك» رواه أبو داود. فصل: وبنات الابن كبنات الصلب سواء. إن لم يكن للميت ولد من صلبه، للواحدة النصف، وللثنتين فصاعداً الثلثان، لأنهن بنات، لأن كل موضع سمى الله فيه الولد دخل فيه ولد الابن. وإن كان من ولد الصلب بنت واحدة، فلها النصف، ولبنات الابن - واحدة كانت أو أكثر - السدس تكملة الثلثين، لأن الله تعالى لم يفرض للبنات إلا الثلثين، وهؤلاء بنات، وقد سبقت بنت الصلب فأخذت النصف، لأنها أعلى درجة منهن، فكان الباقي لهن السدس، ولهذا يسميه الفقهاء تكملة الثلثين. وقد روى الهزيل قال: «سئل أبو موسى عن بنت، وبنت ابن، وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود. فسئل ابن مسعود - وأخبر بقول أبي موسى - فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. أقضي فيها ما قضى رسول الله: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود. فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم» ، رواه أحمد والبخاري. فصل: وللأخت للأبوين النصف، وللبنتين فصاعداً الثلثان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] . وحكم الأخوات من الأب إذا انفردن حكم الأخوات من الأبوين سواء، لدخولهن في لفظ الآية. وإن اجتمع الأخوات من الجهتين، فحكم ولد الأب مع ولد الأبوين، حكم بنات الابن مع بنات الصلب سواء، لأنهن في معناهن. وإن اجتمع الأخوات مع البنات، صار الأخوات عصبة، لهن ما فضل، وليس لهن معهن فريضة مسماة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فشرط في فرضها عدم الولد، فاقتضى ألا يفرض لها مع وجوده، ولما ذكرنا من حديث الهزيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 فصل: فأما ولد الأم، فلواحدهم السدس، ذكراً كان أو أنثى، وللاثنين السدسان. فإن كثروا، فهم شركاء في الثلث، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] يعني ولد الأم بإجماع أهل العلم. وفي قراءة عبد الله وسعد: وله أخ أو أخت من أم. [ باب من يسقط من ذوي الفروض ] تسقط بنات الابن، بالابن. ويسقطن باستكمال البنات الثلثين، إلا أن يكون معهن أو أنزل منهن ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين. وابن ابن الابن يعصب من في درجته، ومن أعلى منه من عماته، وبنات عم أبيه إذا لم يكن لهن فرض، ولا يعصب من أنزل منه. وإذا كان أربع بنات ابن، بعضهن أنزل من بعض. سقطت الثالثة والرابعة، لاستكمال من فرقهما الثلثين. فإن كان مع الرابعة أخوها، أو ابن عمها، فللأولى النصف، وللثانية السدس، والباقي للثالثة والرابعة وأختها وأخيها، بينهم على أربعة، وتصح في اثني عشر. وتسقط الجدات من كل جهة بالأم، لأنهن يرثن من جهتها، لكونهن أمهات، فيسقطن بها كما يسقط الجد بالأب. فصل: ويسقط ولد الأبوين بثلاثة: بالابن، وابن الابن، والأب، لأن الله تعالى شرط في توريثهم عدم الولد، بقوله سبحانه: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فلم يجعل لهما مسمى مع الولد، وإنما أخذت الفاضل عن البنات. والابن لا يفضل عنه شيء فسقطن به، وكذلك ابنه، لأنه ابن. ويسقطون بالأب، لأنهم يدلون به، وكل من أدلى بشخص سقط به، إلا ولد الأم، والجدة من جهة الأب. ويسقط ولد الأب بهؤلاء الثلاثة، لذلك، وبالأخ مع الأبوين، لما روي «عن علي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه» ، أخرجه الترمذي. وتسقط الأخوات من الأب، باستكمال الأخوات للأبوين الثلثين، إلا أن يكون معهن أخ لهن، فيعصبهن في الباقي، للذكر مثل حظ الأنثيين، كبنات الابن مع البنات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 فصل: ويسقط ولد الأم بأربعة: الولد، ذكراً كان أو أنثى، وولد الابن، والأب، والجد، لأن الله تعالى شرط في توريثهم كون الموروث كلالة، بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] والكلالة: من لا ولد له ولا والد في قول بعض أهل العلم، وفي قول بعضهم: هو اسم لمن عدا الولد والوالد من الوارث، فيدل على أنهم لا يرثون مع ولد ولا والد. فصل: ومن لم يرث لمعنى فيه، وهو الرقيق، والقاتل، والمخالف في الدين، لم يحجب غيره، لأنه ليس بوارث، فلم يحجب، كالأجنبي. [ باب أصول سهام الفرائض ] الفروض المذكورة في كتاب الله تعالى: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس، وهي تخرج من سبعة أصول: أربعة لا تعول، وثلاثة تعول، لأن كل فرض انفرد، فأصله من مخرجه. وإن اجتمع معه فرض من جنسه، فأصلهما من مخرج أقلهما، لأنه مخرج الكبير داخل في مخرج الصغير. وإن اجتمع معه فرض من غير جنسه، ضربت مخرج أحدهما في مخرج الآخر إن لم يتوافقا، فما ارتفع فهو أصل لهما، أو وفق أحدهما في جميع الآخر إن توافقا، فلذلك صارت الأصول سبعة، النصف وحده من اثنين. والثلث أو الثلثان من ثلاثة. والربع وحده، أو مع النصف من أربعة. والثمن وحده، أو مع النصف من ثمانية. وهذه الأربعة التي لا تعول، لأن العول فرع ازدحام الفروض، ولا يوجد ذلك هنا. وإن اجتمع مع الفرض من غير جنسه، كالنصف يجتمع مع أحد الثلاثة، السدس أو الثلث والثلثان، فأصلهما من ستة، لأنك إذا ضربت مخرج النصف في مخرج الثلث، صار ستة، ويدخل العول هذا الأصل، لازدحام الفروض فيه. وإن اجتمع مع الربع أحد الثلاثة، فأصلها من اثني عشر، لأنك إذا ضربت مخرج الربع في مخرج الثلث، أو وفق مخرج السدس، كانت اثنتي عشرة. وإن اجتمع مع الثمن سدس أو ثلثان، فأصلها من أربعة وعشرين، لما ذكرنا. وتعول هذه الأصول الثلاثة. ومعنى العول: نقص الفروض لازدحامها وضيق المال عنها، وقسمته بينهم على قدر فروضهم. وطريق العمل فيها، أن تأخذ لكل ذي فرض فرضه من أصل مسألته، ثم تجمع السهام كلها، فتقسم المال عليها، فيدخل النقص على كل ذي فرض بقدر فرضه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 كما تصنع مع الوصايا الزائدة على الثلث وفي قسمة مال المفلس على ديونه. وهذا قول عامة الصحابة، إلا ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فصل: وأصل الستة يتصور عوله إلى عشرة، ولا تعول إلى أكثر منها، ومثال العول: زوج وأخت لأبوين وأخت لأب، أصلها ستة، للزوج النصف، ثلاثة، وللأخت للأبوين ثلاثة، وللأخت للأب، السدس، سهم. عالت إلى سبعة. فإن كان مكان الأخت للأب، أم، فلها الثلث، وعالت إلى ثمانية وتسمى: مسألة المباهلة، لأنها أول مسألة عائلة حدثت في زمن عمر، فجمع الصحابة للمشورة فيها، فقال العباس: أرى أن يقسم المال بينهم على قدر سهامهم، فأخذ به عمر، واتبعه الناس علي ذلك، حتى خالفهم ابن عباس. فقال: من شاء باهلته، إن المسائل لا تعول. إن الذي أحصى رمل عالج عدداً، أعدل من أن يجعل في مال نصفاً، ونصفاً، وثلثاً، هذان نصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ زوج وأم وثلاث أخوات متفرقات، عالت إلى تسعة، وتسمى: مسألة الغراء. فإن كانت الأخوات ستاً، عالت إلى عشرة، وسميت: أم الفروخ، لكثرة عولها، لأنها عالت بثلثيها، فشبهوا أصلها بالأم، والعول بالفروخ. فصل: وأصل اثني عشر، تعول على الأفراد إلى ثلاثة عشر، وخمسة عشر، وسبعة عشر، لا تعول إلى أكثر من ذلك، فتقول في زوج وأم وابنتين: أصلها اثنا عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، فإن كان معهم الأب، عالت إلى خمسة عشر، ثلاث زوجات، وجدتان، وأربع أخوات لأم، وثمان لأب، عالت إلى سبعة عشر، ولكل واحدة سهم. وتسمى: أم الأرامل. وأصل أربعة وعشرين، تعول إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلى أكثر منها، وتسمى النحيلة، لقلة عولها، وسميت: المنبرية، لأن علياً سئل عنها على المنبر فقال: صار ثمنها تسعاً، ومضى في خطبته، يعني: أن كان للزوجة الثمن، ثلاثة من أربعة وعشرين، فصار لها ثلاثة من سبعة وعشرين، وهي تسع. [ باب تصحيح المسائل ] إذا لم تنقسم سهام فريق من الورثة عليهم قسمة صحيحة، ضربت عددهم في أصل المسألة وعولها، إن عالت، فما بلغ، فمنه تصح، إلا أن يوافق عددهم سهامهم، بجزء من الأجزاء، فيجزئك ضرب وفق عددهم في أصل المسألة وعولها، فإذا أردت القسمة، فكل من له شيء من أصل المسألة مضروب في العدد الذي ضربته في المسألة وهو جزء السهم، فما بلغ، فهو له إن كان واحداً، وإن كانوا جماعة، قسمته عليهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 وإن كان الكسر على فريقين، أو أكثر متماثلة، كثلاثة وثلاثة، أجزأك ضرب أحدهما في المسألة، وإن كانت متناسبة. وهو: أن ينتسب القليل إلى الكثير بجزء من أجزائه، كثلاثة أو أربعة، مثل ثلاثة وتسعة، أجزأك ضرب أكثرها في المسألة، وإن كانت متباينة، كثلاثة وأربعة وخمسة، ضربت بعضها في بعض فما بلغ، ضربته في المسألة. وإن كانت متوافقة بجزء من الأجزاء كنصف وثلث، وافقت بين عددين منها، وضربت وفق أحدهما في الآخر وافقت بينه وبين الثلث، وضربت وفق أحدهما في الآخر، فما بلغ، فهو جزء السهم، يضرب في المسألة. وطريق القسمة على ما ذكرنا متقدماً. [ باب الرد في الميراث ] باب الرد وإذا لم تستغرق الفروض المال، وفضلت منه فضلة، ولم يكن عصبة، فالفاضل من ذوي الفروض مردود عليهم على قدر سهامهم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك مالاً فلورثته» رواه أحمد، وأبو داود. إلا على الزوج والزوجة، لأنهما ليسا من أولي الأرحام، فلم يدخلوا في قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وهذا يروى عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وعن أحمد: أنه لا يرد على ولد الأم مع الأم، ولا على الجدة مع ذي سهم، لأنه قول ابن مسعود، والأول المذهب، لعموم الأدلة، ولأنه قول عمر وعلي وابن عباس. وطريق العمل في الرد أن تأخذ سهام أهل الرد من أصل مسألتهم، وكلها تخرج من ستة، إذ ليس في الفروض ما يخرج عن الستة، إلا الربع والثمن، وليسا لغير الزوجين، وليسا من أهل الرد، فيجعل عدد سهامهم أصل مسألتهم، فيقسم المال عليها، وينحصر ذلك في أربعة أصول، فإذا كان معك سدسان، كجدة، وأخ لأم، فأصلهما من اثنين، وإن كان ثلث وسدس، كأم وأخ من أم، فأصلها من ثلاثة، وإن كان نصف وسدس، كابنة وابنة ابن، فأصلها من أربعة، وإن كان نصف وثلث، كأم وأخت، أو ثلثان وسدس، كأختين وأم، أو نصف وسدسان، كثلاث أخوات متفرقات، فهي في خمسة، ولا تزيد أبداً على هذا، لأنها لو زادت سهماً لكمل المال، فإن انكسر سهم فريق عليهم، ضربت عددهم في عدد سهامهم، لأنه أصل مسألتهم، فتقول في ثلاث جدات وأخت: هي من أربعة، للجدات سهم على ثلاثة، تضربها في أربعة، تكن اثني عشر، ومنها تصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فصل: فإن اجتمع مع أهل الرد أحد الزوجين، أعطيته فرضه من أصل مسألته، ثم ضربت مسألته في مسألة أهل الرد، فما بلغ، انتقلت إليه المسألة، ثم تصحح بعد ذلك، فتقول في زوجة وبنت، وبنت ابن، وجدة: للزوجة الثمن من ثمانية، ومسألة أهل الرد في خمسة، تضربها في ثمانية، تكن أربعين، للزوجة الثمن خمسة، يبقى خمسة وثلاثون بين أهل الرد على خمسة، فإن انكسر على بعضهم، ضربته في أربعين، فما بلغ فمنه تصح. [ باب ميراث العصبة من القرابة ] وهم كل ذكر ليس بينه وبين الميت أنثى، وهم الأب والابن، ومن أدلى بهما من الذكور، فأحقهم بالميراث أقربهم، ويسقط به من بعد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر» وأحقهم الابن وابنه وإن نزل، لأن الله تعالى بدأ بهم بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] والعرب تبدأ بالأهم فالأهم. ثم الأب، لأن سائر العصبات يدلون به، ثم الجد أبو الأب، وإن علا، لأنه أب ثم بنو الأب وهم الإخوة، ثم بنوهم، وإن نزلوا، ثم بنو الجد، وهم الأعمام، ثم بنوهم، وإن نزلوا، ثم بنو جد الأب، وهم أعمام الأب، ثم بنوهم وإن نزلوا. وعلى هذا لا يرث بنو أب أعلى من بني أب أقرب منه، وإن نزلت درجتهم. وأولى ولد كل أب أقربهم إليه. فإن استوت درجتهم، فأولاهم من كان لأب وأم، لحديث علي. وليس من فريضة يرث فيها العصبة عول ولا رد، لأن العصبة يأخذ المال كله إذا انفرد، ولقوله تعالى في الأخ: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] أضاف الميراث جميعه إليه، وإن كان معه ذو فرض، أخذ الباقي، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخي سعد بن الربيع: «أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك» وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر» وإن استغرقت الفروض المال، سقط، لأن حقه في الباقي، ولا باقي هنا. فصل: وأربعة من الذكور يعصبون أخواتهم، فيمنعونهن الفرض، ويقتسمون ما ورثوا، للذكر مثل حظ الأنثيين، وهم الابن، وابنه، والأخ من الأبوين، أو من الأب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] ومن عدا هؤلاء من العصبة ينفرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 الذكور بالميراث، دون الإناث، كبني الإخوة والأعمام وبنيهم، لأن أخواتهم من أولي الأرحام. فصل: وإن اجتمع في شخص واحد سببان يقتضيان الإرث، كزوج هو ابن عم، أو ابن عم هو أخ من أم، ورث بهما جميعاً، فإن كان ابنا عم، أحدهما أخ لأم، فللأخ للأم السدس، والباقي بينهما نصفان، وإن كانوا ثلاثة، كبني عم، أحدهم زوج، والآخر أخ لأم، فللزوج النصف، وللأخ السدس، والباقي بينهم أثلاثاً، لأن قرابة الأم يرث بها منفردة، فلم يرجع بها، كالزوجية. [ باب المناسخات في الميراث ] باب المناسخات إذا لم تنقسم تركة الميت الأول حتى مات بعض وراثه، فصحح مسألة الأول، ثم صحح مسألة الثاني، وأقسم سهام الثاني من المسألة الأولى على مسألته، فإن انقسمت صحت المسألتان مما صحت منه الأولى، وإن لم تنقسم وافقت بين مسألتها وبين مسألته، وأخذت وفق مسألته، فضربته في المسألة الأولى، فإن لم يتوافقا، ضربت مسألته كلها بالمسألة الأولى، فما بلغ، فمنه تصح المسألتان. فإذا أردت القسمة، فكل من له شيء من المسألة الأولى مضروب في الثانية، أو في وفقها، وكل من له شيء من الثانية، مضروب في السهام التي مات عنها الثاني أو في وفقها، فإن مات ثالث، صححت مسألته، وقسمت عليها سهامه من المسألتين. فإن انقسم، صحت، وإلا ضربت مسألته أو وفقها فيما صحت منه الأوليان، وتعمل على ما ذكرنا. فصل: فإن خلف الميت تركة معلومة، فانسب سهام كل وارث من المسألة، وأعطه مثل تلك النسبة من التركة، فإن عز عليك ذلك، فاقسم التركة على المسألة، فما خرج بالقسم، فاضربه في سهام كل وارث، فما كان، فهو نصيبه، فإذا خلفت المرأة زوجاً وأماً وأختاً، وأربعين ديناراً، فللأم ربع المسألة، فلها ربع التركة عشرة، وللزوج ربع وثمن، فله خمسة عشر، وللأخت مثل ذلك. وإن قسمت الأربعين على المسألة، فلكل سهم خمسة،، فإذا ضربت سهام كل وارث في خمسة، خرج مثل ما ذكرنا. [ باب ميراث الغرقى ومن عمي موتهم ] وإن مات متوارثان فلم يعلم أيهما مات قبل صاحبه، ورث كل واحد منهما من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 صاحبه من تلاد ماله، دون ما ورثه من الميت معه، لأن ذلك يروى عن عمر وعلي وإياس بن عبد المزني، فتقول في أخوين غرقا، وخلف كل واحد منهما زوجته ومولاه: يقدر أن الأكبر مات أولاً، فلزوجته الربع، والباقي لأخيه الأصغر. ثم مات الأصغر عن ثلاثة أسهم، فلزوجته الربع وباقيه لمولاه، فتضرب أربعة في أربعة، تكن ستة عشر، لزوجة الأكبر أربعة، ولزوجة الأصغر ثلاثة، يبقى تسعة لمولى الأصغر. ثم قدر أن الأصغر مات أولاً، فلزوجته الربع، وباقيه لأخيه الأكبر، ثم تعمل فيها عملك في الأولى، فترث زوجة كل واحد منهما ربع مال زوجها، وثمناً ونصف ثمن من مال أخيه، ويرث مولى كل واحد منهما نصف مال أخي عتيقه، ونصف ثمنه، ولا يرث من مال عتيقه شيئاً، وقد روي عن أحمد فيما إذا ماتت امرأة وابنها، وخلفت زوجاً وأخاً، فقال زوجها: ماتت فورثناها، ثم مات ابني فورثته، وقال أخوها: مات ابنها فورثته، ثم ماتت فورثناها، أن يحلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه، ويكون ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين، وذكرها الخرقي في مختصره. وهذا يدل على أنه لا يرث أحدهما صاحبه، بل يقسم ميراث كل واحد منهما على الأحياء من ورثته، دون من مات معه، لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق وزيد ومعاذ وابن عباس والحسن بن علي، - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، ولأنه لا يعلم أن أحدهما حي حين مات صاحبه، فلم يرثه، كالحمل إذا سقط ميتاً. ولو علم خروج روحيهما معاً، لم يرث أحدهما صاحبه، لأنه من شرط توريثه، كونه حياً حين موت الآخر. [ باب ميراث ذوي الأرحام ] وقد ذكرناهم. ويرثون إذا لم يكن عصبة، ولا ذو فرض من أهل الرد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وقد روي عن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخال وارث من لا وارث له» قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى أبو عبيد بإسناده «أن ثابت بن الدحداح مات، ولم يخلف له إلا ابنة أخ له، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بميراثه لابنة أخيه» ، وقسنا سائرهم على هذين. فصل: وطريق توريثهم بالتنزيل، أن تنزل كل واحد منهم منزلة من يدلي به من الوارث، فتجعل بنت البنت بمنزلة البنت، وبنت بنت الابن بمنزلتها، وبنات الإخوة بمنزلة آبائهن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 وبنو الأخوات وبناتهن بمنزلة أمهاتهن، والخال والخالة وأبو الأم بمنزلة الأم، والعمات والعم من الأم بمنزلة الأب، وعن أحمد رواية أخرى أنه: تنزل العمة منزلة العم، لأنه روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والأول أولى، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن الزهري: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمة بمنزلة الأب إذا لم يكن بينهما أب، والخالة بمنزلة الأم إذا لم يكن بينهما أم» ولأن الأب أقوى جهاتها، فنزلت منزلته، كما أن بنت الأخ تدلي بأبيها لا بأخيها، وبنت العم تدلي بأبيها لا بأخيها. وإذا انفرد ذو رحم، ورث المال كله. وإن اجتمع منهم جماعة، فأدلوا بشخص واحد وكانوا في درجة واحدة، فالمال بينهم على حسب مواريثهم منه. فإن أسقط بعضهم بعضاً، كأبي الأم والأخوال، أسقطت الأخوال بأبي الأم، لأن الأب يسقط الإخوة، وإن كان بعضهم أقرب من بعض، سقط البعيد منهم، كما يسقط بعيد العصبات بقريبهم، وإن لم يسقط بعضهم بعضاً، قسمت المال بينهم على حسب مواريثهم منه. فتقول في ثلاث عمات متفرقات: المال بينهن على خمسة، لأنهن أخوات الأب، فكان ميراثهن كميراث ثلاث أخوات للميت متفرقات. وإن كان ثلاث خالات متفرقات، فكذلك، لأنهن أخوات لأم. فإن اجتمع ثلاث خالات متفرقات، وثلاث عمات متفرقات، فكذلك، لأنهن أخوات لأم. فإن اجتمع ثلاث خالات متفرقات، وثلاث عمات متفرقات، نزلت العمات أباً، والخالات أماً، فجعلت الثلث للخالات على خمسة، والباقي للعمات على خمسة، فتجتزئ بإحدى الخمسين، وتضربها في ثلاثة، تكن خمسة عشر، للخالة التي من قبل الأبوين ثلاثة أسهم، وللخالة من الأب سهم، وللخالة من الأم سهم، وللعمة من الأبوين ستة، وللعمة من الأب سهمان، وللعمة من الأم سهمان. وإن كان ثلاثة أخوال متفرقين، فللخال من الأم السدس، والباقي للخال من الأبوين، كثلاثة إخوة متفرقين. وإن كان أبوهم واحداً وأمهم واحدة، فالذكر والأنثى سواء، لأنهم يرثون بالرحم المجرد، فاستوى ذكرهم وأنثاهم، كولد الأم. وعنه: أنهم يقتسمون للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنهم فرع على ذوي الفروض والعصابات، فثبت فيهم حكمهم. وقال الخرقي: يفضل الخال على الخالة دون سائر ذوي الأرحام. وإن أدلى جماعة بجماعة، فقسم المال بين المدلى بهم على ما توجبه الفريضة، فما صار لكل وارث فهو لمن أدلى به، فإن سبق بعضهم إلى الوارث، فهو أحق بالمال، ويسقط به البعيد، إن كانا من جهة واحدة. وإن كانا من جهتين نزلت البعيد حتى يلحق بوارثه، سواء سقط به القريب، أو لم يسقط، فتقول في بنت بنت بنت، وبنت أخ، لأم: المال، لبنت بنت البنت، والجهات أربع: الأبوة، والبنوة، والأخوة، والأمومة، وإن اجتمعت بنت أخ وعمة، فالمال للعمة، لأنها بمنزلة أب، وهو يسقط الأخ، ومن نزلها عماً، أسقطها ببنت الأخ، لأن الأخ يسقط العم. وإن اجتمع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 بنت أخت وابن، وبنت أخت أخرى، فللواحدة حق أمها النصف، وللأخرى وأخيها حق أمهما النصف، وإن أدلى ذو رحم بقرابتين، ورث بهما، فتقول في بنت ابن أخ لأم، هي بنت بنت أخت لأب، وبنت بنت أخت الأبوين: للأولى الخمسان بقرابتيها، وللثانية ثلاثة أخماس، لأنهما بمنزلة ثلاث أخوات متفرقات. ولا يعول في مسائل الأرحام إلا واحدة، وشبهها. وهي: خال، وبنات ست أخوات متفرقات. فصل: ولا يرث ذو رحم، مع ذي فرض، ولا عصبة، إلا مع الزوج، لأن الرد أولى، والزوج لا يرد عليه، فإن اجتمع معهم زوج، أعطيته فرضه غير محجوب، ولا معاول، وقسمت الباقي بينهم، كما لو انفردوا، فقول في زوج، وبنت بنت، وبنت أخت: للزوج النصف، والباقي بينهما نصفان. امرأة وابنتا بنتين، وابنتا أختين، للزوجة الربع، ولبنتي البنتين ثلثا الباقي، والباقي لبنتي الأختين. [ باب ميراث الخنثى ] وهو الذي له ذكر وفرج امرأة، فيعتبر بمباله، لأنه قد جاء في الأثر: يورث الخنثى من حيث يبول، ولأنها أعم علاماته، لأنها توجد في الصغير والكبير، وقد أجرى الله العادة، أن الذكر يبول من ذكره، والأنثى من فرجها، فاعتبر ذلك. فإن بال من حيث يبول الرجل، فهو ذكر، وإن بال من حيث تبول المرأة، فله حكم المرأة فإن بال منهما، اعتبر بأسبقهما فإن خرجا في حال واحدة، اعتبر أكثرهما، لأن الأكثر أقوى في الدلالة، فإن استويا، فهو مشكل، فإن مات له من يرثه، أعطي هو ومن معه اليقين، ووقف الباقي حتى يبلغ فينكشف الأمر، بأن يظهر فيه علامات الرجال، من خروج المني من ذكره، ونبات اللحية، أو علامات النساء، من تفلك الثدي، والحيض، والحمل، فإن يئس من ذلك، فله نصف ميراث ذكر، ونصف ميراث أنثى، فإن اجتمع ابن وبنت وولد وخنثى، فللذكر أربعة أسهم، وللخنثى ثلاثة، وللبنت سهمان، لأنه يحصل بهذا العمل له نصف ميراث الذكر، ونصف ميراث الأنثى. فإن كان مكان الابن أخ، أو غيره من العصبات، فله السدس، والباقي بين الخنثى والبنت على خمسة. وقال أصحابنا: يعمل المسألة على أنه ذكر، ثم على أنه أنثى، ثم يضرب إحداهما في الأخرى إن تباينتا، أو وفق إحداهما في الأخرى إن اتفقتا، أو يجتزئ بإحداهما إن تماثلتا، أو بأكبرهما إن تناسبتا، وتضرب ذلك في اثنين، فما بلغ، فمنه تصح، ثم كل من له شيء من إحداهما، مضروب في الأخرى، أو في وفقها، أو تجمع مال منهما إن تماثلتا، فتعطيه إياه، ففي هذه المسألة إن قدرناه ذكراً، فهي من خمسة، وإن قدرناه أنثى فهي في أربعة، تضرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 أربعة في خمسة، تكن عشرين، ثم في الحالين تكن أربعين، فللابن اثنان في خمسة، واثنان في أربعة، ثمانية عشر، وللبنت تسعة، وللخنثى سهم في خمسة، وسهمان في أربعة، ثلاثة عشر، لأن للابن الخمسين بيقين، وذلك ستة عشر، وللبنت الخمس بيقين، ثمانية، وللخنثى الربع بيقين، عشرة، فذلك أربعة وثلاثون، يبقى ستة أسهم يدعيها الخنثى كلها، ليتم له سهم ذكر، ويدعي الابن ثلثيها، ليتم له النصف، والبنت تدعي ثلثها، ليتم لها الربع، فقسمناها بينهم على حسب دعاويهم، للخنثى نصفها ثلاثة، وللابن سهمان، وللبنت سهم، فإن كانا خنثيين، نزلتهم على عدد أحوالهم، فتجعل لهما أربعة أحوال في أحد الوجهين، وفي الآخرين تنزلهم حالين، مرة ذكوراً، ومرة إناثاً، والأول أصح، لأنه يعطي كلا بحسب ما فيه من الاحتمال، وعلى الطريق الثاني: يفضي إلى حرمان من يحتمل الاستحقاق. ألا ترى أنه لو اجتمع بنت وولد خنثى وولد ابن خنثى وأخ، فنزلتهم حالين، لم تعط ولد الابن شيئاً، ومن المحتمل أن يكون ذكراً وحده، فيكون له الباقي بعد البنتين، فعلى هذا تنزل الثلاثة، ثمانية أحوال، وللأربعة ستة عشر، وللخمسة اثنان وثلاثون حالاً. [ باب ميراث الحمل ] إذا مات عن حمل يرثه، فطالب بقية الورثة بالقسمة، وقف نصيب ابنين ذكرين، إن كان ميراث الذكور أكثر، وابنتين إن كان أكثر، لأن ما زاد على اثنين نادر جداً، فلم يلتفت إليه، كاحتمال الحمل في الآيسة، ويدفع إلى كل وارث اليقين. فإذا وضعت الحمل، دفع إليه نصيبه، ورد الفضل على من يستحقه، وإن وضعته ميتاً، لم يرث، لأننا لا نعلم أنه كان حياً حين موت موروثه. وإن وضعته واستهل، ورث، وورث، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا استهل المولود ورث» رواه أبو داود. وظاهر كلام أحمد: أنه لا يرث حتى يستهل، وهو الصوت ببكاء أوعطاس أو نحوه، لتقييده في الحديث بالمستهل، ويحتمل أن يلحق بذلك كل من علمت حياته بارتضاع أو نحوه، لأنه ولد حياً، فأشبه المستهل، فأما الحركة والاختلاج، فلا تدل على الحياة، فإن اللحم يختلج، سيما إذا خرج من ضيق إلى سعة، وإن خرج بعضه فاستهل، ثم انفصل باقيه ميتاً، لم يرث، لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا وهو حي. وإن ولدت توأمين، فاستهل أحدهما، أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حكم بأنه المستهل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ولا يرث حمل إلا أن يعلم بأنه كان موجوداً حال الموت، بأن تلده لأقل من ستة أشهر إن كانت ذات زوج، أو لأقل من أربع سنين إن كانت بائناً. [ باب ما يمنع الميراث ] ويمنع الميراث ثلاثة أشياء: اختلاف الدين. فلا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً بحال، لما روى أسامة بن زيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» . متفق عليه. والمرتد لا يرث أحداً، لأنه ليس بمسلم، فيرث المسلمين، ولا يثبت له حكم الدين الذي انتقل إليه، فيرث أهله، ولا يرثه أحد لذلك. وماله فيء. وعنه: يرثه ورثته من المسلمين. وعنه: يرثه أقاربه من أهل دينه الذي اختاره. وعنه: في الميراث بالولاء روايتان: إحداهما: يرث الرجل عتيقه وإن اختلف ديناهما، لأن الولاء شعبة من الرق، واختلاف الدين لا يمنع الرجل أخذ مال رقيقه إذا مات. والثانية: لا يرثه مع اختلاف الدين لعموم الخبر، ولأنه نوع توارث، فمنعه اختلاف الدين، كغيره، ولأنه مانع من الإرث، فمنع الإرث بالولاء، كالقتل. فصل: ومن أسلم على ميراث قبل أن يقسم، قسم له، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أسلم على شيء فهو له» أخرجه سعيد. وعنه: لا يقسم له، لأن المانع من الإرث وجد حين وجد السبب، وهو الموت، فمنع من الإرث كالرق، ومن كان رقيقاً حين موت موروثه، فعتق بعده، لم يرث، لأن العتق ليس من فعله، ولا هو قربة للمعتق، بخلاف إسلامه. ولو ملك ابن عمه، فدبره، فعتق بموته، لم يرثه، لأنه رقيق حين الموت. وإن قال: أنت حر في آخر حياتي، عتق، وورث، لأنه حر حين الموت، ويحتمل أن لا يرث، لأن عتقه وصية له، فيفضي إلى الوصية للوارث. فصل: ويرث الكفار بعضهم بعضاً، وإن اختلفت أديانهم في إحدى الروايتين، لأن مفهوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً» أن الكفار يتوارثون. والثانية: لا يرث أهل ملة أهل ملة أخرى، لما روى عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» رواه أبو داود. ولأن الموالاة منقطعة بينهم، فأشبه اختلافهم بالكفر والإسلام. قال القاضي: والكفر ثلاث ملل، اليهودية ملة، والنصرانية ملة، ودين من عداهم ملة، لاجتماعهم في عدم الكتاب. قال: وقياس المذهب عندي أنه لا يرث حربي ذمياً، ولا ذمي حربياً، لأنه موالاة بينهما، واحتمل أن يتوارثا، لأنهما من أهل ملة واحدة. فصل: وإذا أسلم المجوس، أو تحاكموا إلينا، ورثوا لجميع قراباتهم إذا أمكن ذلك، لأنها قرابات ترث بكل واحدة منفردة ولم ترجح بها، فورث بهما إذا اجتمعا، كابن عم هو زوج، وأخ لأم. فلو تزوج مجوسي بنته، فأولدها بنتاً، ثم مات وخلف أخاً، فلابنتيه الثلثان، والباقي لأخيه. فإن ماتت بعده الكبرى، فمالها لابنتها، نصفه بكونها بنتاً، وباقيه بكونها أختاً من أب، وإن ماتت الصغرى قبل الكبرى، فللكبرى الثلث بكونها أماً، والنصف بكونها أختاً، وباقيه لعمها. فإن كان أولدها بنتين، ثم مات، ثم ماتت إحدى الصغيرتين. فلأختها لأبويها النصف، ولأمها السدس بكونها أماً، والسدس بكونها أختاً لأب، وحجبت نفسها بنفسها، والباقي لعمها، ولا يرثون بنكاح ذوات المحارم، ولا ما يقرون عليه إذا أسلموا، لذلك لم يورث بنت المجوسي الذي تزوجها منه شيئاً. فصل: والثاني من الموانع الرق، فلا يرث العبد قريبه، ولا يورث، لأنه لا ملك له فيورث. وإن ملك فملكه ضعيف يرجع إلى سيده ببيعه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» فكذلك بموته، ولا يرث، لأنه لو ورث شيئاً، لكان لسيده، فيكون التوريث لسيده دونه. فصل: ومن بعضه حر، يرث ويورث، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية، لما روى عبد الله ابن الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في العبد يعتق بعضه: يرث ويورث على قدر ما عتق منه» ولأن هذا قول علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فينظر ما له مع الحرية الكاملة، فيعطيه منه بقدر ما فيه من الحرية الكاملة، ويحجب به بقدر ذلك، فتقول في بنت نصفها حر، وأم حرة، وعم: للبنت الربع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 لأنه نصف ما تستحقه بالحرية الكاملة، وللأم الربع، لأن حرية البنت تحجبها عن السدس، فنصف حريتها يحجبها عن نصفه، والباقي للعم. فإن كان نصف الأم حراً، فلها الثمن، لأنه نصف ما تستحقه بالحرية الكاملة، والباقي للعم. وإن شئت عملتها بالأحوال، كمسائل الخناثى، فتقول: لو كانتا حرتين، فالمسألة من ستة، ولو كانت الأم وحدها حرة، كانت من ثلاثة، وإن كانت البنت وحدها حرة، كانت من اثنين، وإن كانتا رقيقتين، فهي من سهم، فتجزئ بالستة، لأن سائر المسائل داخلة فيها، وتضربها في أربعة تكن أربعة وعشرين، للبنت النصف في حالين، وذلك ستة، وهو الربع، وللأم الثلث في حال، والسدس في حال، وذلك ثلاثة، وهو الثمن، والباقي للعم. فصل: الثالث من الموانع: قتل الموروث بغير حق، يمنع القاتل ميراثه، عمداً كان القتل أو خطأ، لما روي «عن عمر: أنه أعطى دية ابن قتادة المذحجي لأخيه دون أبيه، وكان حذفه بسيف فقتله. وقال عمر: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ليس لقاتل ميراث» رواه مالك في الموطأ. ولأن توريث القاتل ربما أفضى إلى قتل الموروث استعجالاً لميراثه، وكل قتل يضمن بقتل، أو دية، أو كفارة، يمنع الميراث لذلك، وما لا يضمن كالقصاص والقتل في الحد، لا يمنع، لأنه فعل مباح، فلم يمنع الميراث، كغير القتل، ولأن المنع في العدوان كان حسماً لمادة العدوان، ونفياً للقتل المحرم، فلو منع هنا، لكان مانعاً من استيفاء الواجب، أو الحق المباح استيفاؤه. وعنه: لا يرث العادل الباغي إذا قتله. وهذا يدل على أن كل قتل يمنع الميراث، لعموم الخبر، والأول أظهر في المذهب. [ باب ذكر الطلاق الذي لا يمنع الميراث ] إذا طلق الرجل زوجته طلاقاً رجعياً، لم ينقطع الميراث بينهما ما دامت في العدة، سواء كان صحيحاً، أو مريضاً، لأن الرجعية زوجة، وإن أبانها في صحته انقطع التوارث بينهما، لزوال الزوجية التي هي سبب التوارث، وكذلك إن كان في مرض غير مرض الموت، لأن حكمه حكم الصحة، وإن أبانها في مرض موته باختيارها، بأن سألته الطلاق، أو علق طلاقها على فعل لها منه بد، ففعلته، انقطع التوارث لزوال الزوجية بأمر لا يتهم فيه، وكذلك إن علق طلاقها في صحته على شرط وجد في مرضه، لم ترثه كذلك. وعن أحمد: أنها ترثه في هذه المسائل الثلاث لأنه طلاق في مرض موته. ولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 طلقها في مرضه وهي أمة، أو كافرة، فأسلمت أو عتقت، لم ترث، لأنه لا يتهم في طلاقها. وإن أبانها في مرض موته على غير ذلك، لم يرثها، وورثته ما دامت في العدة، لما روي أن عثمان ورث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، وكان طلقها في مرض موته فبتها، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر، فكان إجماعاً، ولأنه قصد قصداً فاسداً في الميراث، فعورض بنقيض قصده، كالقاتل. وهل ترثه بعد انقضاء العدة؟ فيه روايتان: إحداهما: ترثه، لأن عثمان ورث امرأة من عبد الرحمن بعد انقضاء العدة، ولأنه فار من ميراثها فورثته، كالمعتدة. والثانية: لا ترثه، لأن آثار النكاح زالت بالكلية، فلم ترثه، كما لو تزوجت، ولأن ذلك يفضي إلى توريث أكثر من أربع نسوة، بأن يتزوج أربعاً بعد انقضاء عدة المطلقة، وذلك غير جائز، وإن تزوجت لم ترثه، لأنها فعلت باختيارها فعلاً ينافي زوجية الأول فلم ترثه، كما لو تسببت في فسخ النكاح، وهكذا لو ارتدت في عدتها، أو فعلت ما ينافي نكاح الأول، لم ترثه، وإن ارتدت ثم أسلمت في عدتها، ففيه وجهان: أحدهما: ترثه، لأنها مطلقة في المرض، أشبه ما لو لم ترتد. والثاني: لا ترثه لأنها فعلت ما ينافي النكاح، أشبه ما لو تزوجت. فصل: وإن طلق امرأة قبل الدخول فهل ترثه؟ فيه روايتان كالتي انقضت عدتها، ولو قال لزوجته في صحته: إذا مرضت فأنت طالق، فحكم طلاقه حكم طلاق المريض. وإن أقر في مرضه بطلاقها في صحته، فحكمه حكم طلاقها في مرضه، وإن علق طلاقها على فعل لا بد لها منه، كالصلاة، ففعلته، فهو كالطلاق ابتداء. وإن قال لزوجته الذمية، أو الأمة وهو مريض: إذا عتقت، أو أسلمت، فأنت طالق، فعتقت الأمة، وأسلمت الذمية، فهو كطلاقه لحرة مسلمة، وإن قال السيد لأمته: أنت حرة غداً، فطلق الزوج اليوم أو غداً عالماً بعتق السيد، ورثته، لأنه متهم، وإن لم يعلم، لم ترثه، لعدم التهمة. فصل: ولو تسببت الزوجة في فسخ نكاحها في مرضها، برضاع أو غيره، بانت وورثها زوجها، ولم ترثه، لما ذكرنا في طلاق المرض. ولو استكره رجل امرأة أبيه في مرض أبيه على فعل ينفسخ نكاحها به، بانت، ولم يسقط ميراثها لذلك. وإن كان للمريض زوجة أخرى، سقط ميراثها، لأنه غير متهم في قصد توفير نصيبها عليه، لرجوعه إلى الزوجة الأخرى دونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 فصل: وإن تزوج نساء بعضهن عقدهن فاسد، لم تعلم بعينها، أو طلق بعض نسائه لا بعينها، أو علمها وأنسيها، أقرع بينهن. فمن خرجت قرعتها بفساد العقد، أو الطلاق، فلا ميراث لها، لأنه اشتبه المستحق بغيره. فوجب المصير إلى القرعة، كما لو أعتق في مرضه عبيداً، لم يخرج من ثلثه إلا أحدهم. [ باب الإقرار بمشارك في الميراث ] إذا أقر جميع الورثة بمشارك لهم في الميراث، ثبت نسبه وورث، لأن الورثة يقومون مقام الميت في ماله وحقوقه، وهذا من حقوقه، وإن أقروا لمن يسقطهم، كإخوة أقروا بابن، ثبت نسبه وأسقطهم، لأن الجميع ورثة لولا الإقرار، فأشبه ما لو أقروا بمشاركهم. وإن أقر بعضهم، لم يثبت النسب، ودفع المقر إلى المقر له فضل ما في يده عن ميراثه، فإذا خلف ابنين، فأقر أحدهما بأخ، فله ثلث ما في يده، فإن أقر بأخت، فلها الخمس، وإن شئت ضربت مسألة الإقرار أو وفقها في مسألة الإنكار، ودفعت إلى المنكر سهمه من مسألة الإنكار، مضروباً في مسألة الإقرار أو وفقها، وإلى المقر سهمه من مسألة الإقرار، مضروباً في مسألة الإنكار أو وفقها، فما فضل، فهو للمقر به، وإن لم يكن في يد المقر فضل، فلا شيء للمقر به، لأنه يقر على غيره. فإن خلف ابنين فأقر أحدهما بأخوين، فصدقه أخوه في أحدهما، ثبت نسب من اتفقا عليه، فصاروا كثلاثة أقر أحدهم بأخ رابع. فضرب مسألة الإقرار في مسألة الإنكار، تكن اثني عشر، للمقر سهم من مسألة الإقرار في مسألة الإنكار، ثلاثة، وللمنكر سهم في مسألة الإقرار أربعة. ثم إن أقر المتفق عليه بالمختلف فيه، فله مثل سهم المقر، وإن أنكر فله مثل سهم المنكر والفضل للمختلف فيه. وقال أبوالخطاب: إن أقر المتفق عليه بالمختلف فيه، وأنكر المختلف فيه المتفق عليه. فإن المتفق عليه يأخذ من المقرين ربع ما في أيديهما، ويأخذ المختلف فيه من المقر به ثلث ما في يده. وتصح من ثمانية، للمقر بهما سهمان، وللمتفق عليه سهمان، وللمقر بأحدهما ثلاثة، وللمختلف فيه سهم. وإن كان الوارث ابناً فأقر بأخوين بكلام متصل، ثبت نسبهما، سواء تصادقا أو تجاحدا، لأن نسبهم ثبت في حال واحدة بقول الوارث الثابت النسب قبلهم، ويحتمل أن لا يثبت نسبهما إذا تجاحدا، لأنه لم يحصل الإقرار من جميع الورثة، وإن أقر بواحد بعد الآخر، ثبت نسب الأول، وأعطاه نصف ما في يده، ثم إن صدق الثاني بالثالث، ثبت نسبه، ودفعا إليه ثلث ما في أيديهما. وإن أنكره الثاني، لم يثبت نسبه، ودفع إليه المقر ثلث ما في يده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 فصل: وإن أقر من أعيلت له المسألة بمن يسقط العول، كزوج وأم وأخت، فأقرت الأخت بأخ لها، فاضرب وفق مسألة الإقرار في مسألة الإنكار، تكن اثنين وسبعين، للأم ربعها ثمانية عشر، وللزوج ربعها وثمنها سبعة وعشرون، وللأخت سهمان في مسألة الإقرار في نصف مسألة الإنكار، وهي ثمانية، يبقى تسع عشر يدعي المقر له منهما ستة عشر. فإن مضى الزوج على الإنكار، أخذ الأخ ستة عشر، وبقيت ثلاثة يقران بها للزوج وهو ينكرها ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: يدفع إلى بيت المال، لأنه مال لا يدعيه أحد، فهو كالمال الضائع. والثاني: يقر في يد الأخت. والثالث: يترك حتى يصطلحا عليهما، لأنها لا تعدوهما، وقد جهلنا مستحقها منهما. وإن أقر الزوج بالأخ، فهو يدعي تمام النصف تسعة، والأخ يدعي ستة عشر، فالجميع خمس وعشرون، والمقر به من السهام تسعة عشر، لا تنقسم إلى خمسة وعشرين، فاضرب خمسة وعشرين من أصل المسألة، ثم كل من له شيء من أصل المسألة مضروب في خمسة وعشرين، ومن له شيء من خمسة وعشرين مضروب في تسعة عشر، وعلى هذا تعمل ما ورد عليك من هذا. [ باب ميراث المفقود ] إذا غاب الإنسان وخفي خبره، وغالب سفره السلامة، كالتاجر والسائح، انتظر به تمام تسعين سنة من يوم ولد في أشهر الروايتين، وفي الأخرى: ينتظر به أبداً، أو يرجع إلى اجتهاد الحاكم في تقدير المدة، وإن كان غالب سفره الهلاك، كالذي يفقد بين أهله، أو يفقد في طريق الحج، فإنه ينتظر به تمام أربع سنين، لأنها أكثر مدة الحمل، وتعتد زوجته عدة الوفاة، وتحل للأزواج، قال أحمد: إذا أمرت زوجته أن تتزوج، قسمت ميراثه، وقد روي عنه التوقف، وقال: قد هبت الجواب فيها، وكأني أحب السلامة، والأول المذهب. فإن مات للمفقود من يرثه في مدة غيبته، دفع إلى كل وارث اليقين، ووقف نصيب المفقود، فإن بان حياً، دفع إليه. وإن بان ميتاً حين موت مورثه، رد على من يستحقه، وكذلك إن كانت المدة قد مضت، وإن لم تكن مضت ولم يتبين أمره، فحكم نصيبه في الميراث حكم سائر ماله، يقسم على ورثته إذا مضت المدة، لأنه محكوم بحياته، ويجوز أن يصطلحوا على الفاضل من نصيب المفقود في الموقف، لأنه حقهم، ولا يجوز أن يصطلحوا على نصيب المفقود، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 [ باب الولاء ] ومن أعتق مملوكاً، ثبت عليه الولاء، لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما الولاء لمن أعتق» متفق عليه. فإن عتق عليه بتدبير أو كتابة أو استيلاد أو قرابة، أو بيعه عبده نفسه، أو أعتقه عنه غيره بإذنه، فله عليه الولاء، لأنه عتق عليه، فأشبه ما لو باشر عتقه. وسواء أدى المكاتب إلى السيد، أو إلى ورثته، لأن عتقه بكتابته وهي من سيده. فأما إن أعتق عبده عن ميت، أو حي بغير أمره، فالولاء للمعتق، للخبر، ولأنه أعتقه بغير إذن الآخر، فكان ولاؤه للمعتق، كما لو لم ينو، ولو قال: أعتق عبدك عني وعلي ثمنه، ففعل، فالولاء للمعتق عنه، لأنه نائب عنه في العتق فهو كالوكيل. ولو قال: أعتقه والثمن علي، ففعل، فالولاء للمعتق، لأنه لم يعتقه من غيره، فأشبه ما لو لم يجعل له جعلاً. وإن قال: اعتقه عني، ولم يذكر عوضاً، ففيه روايتان: إحداهما: ولاؤه للمعتق، للخبر. والثانية: للمعتق عليه، لأنه أعتقه عنه بأمره، فأشبه ما لو كان بعوض. فصل: ومن أعتق عبده سائبة، أو قال: أعتقتك ولا ولاء لي عليك، أو أعتقه من زكاته، أو كفارته، أو نذره، ففيه روايتان: إحداهما: له عليه الولاء، لعموم الخبر. والثانية: لا ولاء عليه، لأنه جعل ولاءه من السائبة، فصح، كرقه. وفي سائر الصور، العتق بمال لا يستحقه، فلم يكن له ولاء كالوكيل. فعلى هذه الرواية، ما رجع من ولائهم، يرد في مثلهم، ويكون حكم ولائهم كحكم ولاء الأولين. فصل: وإن أعتق مسلم كافراً، أو كافر مسلماً، ثبت له الولاء، للخبر. وهل يرث به؟ فيه روايتان ذكرناهما، فإن قلنا: لا يرث وكان للمعتق عصبة على دين المعتق، ورثه، لأنه يرثه لو كان المعتق ميتاً. وكذلك إذا كان ممنوعاً من ميراثه. وإن أسلم الكافر منهما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 ورث المولى، كما لو أسلم القريب الكافر وورثه قريبه المسلم. فصل: ولا يجوز بيع الولاء ولا هبته، لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الولاء وعن هبته» متفق عليه. ولأن الولاء كالنسب، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» . [ باب الميراث بالولاء ] إذا مات المعتق ولم يخلف وارثاً من نسبه، ورثه مولاه، وإن خلف ذا فرض، فللمولى ما فضل عنه، لما روى عبد الله بن شداد قال: «أعتقت ابنة حمزة مولى لها، فمات وترك ابنته وابنة حمزة، فأعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته النصف، وابنة حمزة النصف» . رواه النسائي وابن ماجة. ولا يرث المولى مع عصبة من النسب، لأنه فرع على النسب، فلا يرث مع وجوده. وإن مات العبد بعد موت مولاه، ورثه أقرب عصبة مولاه دون ذوي الفروض، لأن الولاء كالنسب، والنسب إلى العصبات، ولأنه كنسب المولى من أخ أو عم، فيرثه ابن المولى دون ابنته، كما يرث عمه، ويقدم الأقرب فالأقرب من العصبات، لما روى سعيد بن المسيب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المولى أخ في الدين، وولي النعمة، يرثه أولى الناس بالمعتق» . ولأن عصبات الميت يرث منهم الأقرب فالأقرب، فكذلك عصبات المولى، ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتق، أو أعتق من اعتقن. وعن أبي عبد الله رواية أخرى في بنت المعتق خاصة: أنها ترث، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ورث بنت حمزة من الذي أعتقه حمزة، والصحيح أنها لا ترث، وأنها هي المعتقة للمولى، كما روى عبد الله بن شداد فيما تقدم، ولا يرث منه ذو فرض إلا الأب والجد، يرثان السدس مع الابن وابنه، لأنهما عصبة. فيقسم بينهما كما يقسم مال المعتق بينهما. فإن اجتمع الجد والأخ أو الإخوة، قسم بينهما كما يقسم ميراث المعتق، ولا يعتد بالأخوات، لأنهن لا يرثن منفردات. ويقدم الأخ للأبوين على الأخ للأب، ويعاد الأخ للأبوين الجد بالأخ للأب، لأنه يرث منفرداً، ثم الأقرب فالأقرب. فإذا انقرض عصبات المولى من النسب، فلمولاه إن كان ذا مولى، ثم لأقرب عصباته. ولو اشترى رجل وأخته أباهما، أو أخاهما، فعتق عليهما، ثم اشترى عبداً فأعتقه، ثم مات أبوهما أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 أخوهما، ثم مات عتيقه، فميراثه للرجل دون أخته، لأنه يرثه بنسبه من معتقه، ولا ترث النساء من الولاء بالنسبة شيئاً. فصل: وإذا مات رجل عن ابنين ومولى، فمات أحد الابنين بعده عن ابن، ثم مات المولى، فالميراث لابن المولى، لأن الولاء للكبر، ومعناه أنه يرث به أقرب الناس إلى سيده يوم موت العبد. وذلك لأن الولاء لحمة كلحمة النسب لا يورث، وإنما يورث به مع بقائه للمولى، فوجب أن يكون للكبر، لأنه أقرب. ولو مات المعتق وخلف ابنين ومولى، ومات أحدهما وخلف ابناً، ومات الآخر وخلف تسعة، ثم مات المولى، كان الولاء بينهم على عددهم، لكل واحد منهم عشرة، لما ذكرنا. فصل: وإذا تزوج عبد معتقة قوم فأولدها، فولاء الولد لمولى أمه، لأن الحرية حصلت له بإعتاق الأم والإنعام عليها. فإن أعتق سيد العبد عبده، أنجر ولاء الولد عن مولى الأم إلى مولى العبد، لما روي عن الزبير أنه رأى بخيبر فتية لعساً فأعجبه ظرفهم وجمالهم، فسأل عنهم فقيل له: موالي لرافع بن خديج وأبوهم مملوك لآل الحرقة، فاشترى الزبير أباهم فأعتقه، وقال لأولاده: انتسبوا لي، فإن ولاءكم لي. فقال رافع بن خديج: الولاء لي، لأنهم عتقوا بعتقي أمهم، فاحتكموا إلى عثمان، فقضى بالولاء للزبير، فأجمعت الصحابة عليه. ولأن الولاء فرع النسب، والنسب معتبر بالأب. وإنما ثبت لمولى الأم، لعدم الولاء من جهة الأب، فإذا ثبت الولاء على الأب، عاد الولاء إلى موضعه، كولد الملاعنة إذا اعترف به الزوج. وإن أعتق الجد، لم ينجر الولاء. وعنه: ينجر. والأول المذهب، لأن الأصل بقاء الولاء لمن ثبت له، وإنما خولف هذا الأصل في الأب، لإجماع الصحابة عليه فيبقى فيمن عداه على الأصل. فصل: وإن تزوج عبد أمة فأولدها، فأعتقها سيدها وولدها، ثبت له الولاء عليهم. فإن عتق الأب بعد ذلك، لم ينجر الولاء، لأن الولاء ثبت على الولد بالمباشرة، فكان المنعم عليه بالمباشرة أولى من المنعم على أبيه، وإذا تزوج حر الأصل بمولاة، أو تزوج عبد أو مولى بحرة الأصل، فلا ولاء على ولدهم بحال. وإن تزوج مولى بمولاة، فولاء ولدهما لسيد الأب، لأن الاستدامة أقوى من الابتداء، ثم ابتداء الحرية في الأب يسقط استدامة الولاء لمولى الأم، فلأن يمنع ابتداء الولاء له أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 فصل: إذا تزوج عبد معتقَة قوم، فأولدها ولداً، فاشترى الولد أباه، ثبت له ولاؤه، وولاء أولاده، ويبقى ولاء المعتق لمولى أبيه؛ لأنه لا يمكن أن يجر ولاء نفسه، لاستحالة ثبوت ولاء الإنسان على نفسه، كما يستحيل أن يكون أبا نفسه. وإن لم يشتر أباه، لكن اشترى عبداً فأعتقه، ثم اشترى هذا العبد أبا سيده، فأعتقه، فإنه ينجر إليه ولاء سيده، ويصير كل واحد منهما مولى صاحبه من فوق ومن أسفل، ويصير هذا كحربي أعتق عبداً فأسلم وأسر سيده ثم أعتقه. فصل: ولو تزوج عبد معتقة، فأولدها بنتين، فاشتريا أباهما، عتق عليهما، ولهما عليه الولاء، وتجر كل واحدة منهما إلى نفسها نصف ولاء أختها، لإعتاقها نصف الأب، ويبقى نصف ولاء كل واحدة منهما لمولى أمها. فإن مات الأب، فماله لهما، ثلثاه بالبنوة، وباقيه بالولاء، فإن ماتت إحداهما بعده، فلأختها نصف ما لها بالنسب، ونصف الباقي بكونها مولاة نصفها، ويبقى الربع لمولى أمها. وإن ماتت إحداهما قبل الأب، فمالها لأبيها بالنسب، فإن مات الأب بعدها، فللباقية نصف ميراث أبيها بالنسب، ونصف الباقي بالولاء، يبقى الربع لموالي الميتة، وهم أختها وموالي أمها، لأخيها نصفه، وهو الثمن، صار لها سبعة أثمان المال، ولموالي أم الميتة الثمن، فإذا ماتت هذه بعدهما، فنصف ما لها لموالي أمها بالولاء، ونصفه لموالي أختها الميتة، وهم أختها وموالي أمها، فيكون الربع لموالي أمها، والربع الباقي يرجع إلى هذه الميتة، فهذا الجزء دائر، لأنه خرج من هذه وعاد إليها، فقال القاضي: يجعل في بيت المال، لأنه لا مستحق له، وإن مات الأب بعد موتهما، فلموالي أمهما ثلاثة أرباع ماله، وربع دائر يرجع إلى بيت المال. وذكر أبو عبد الله الرقي: أن قياس قول أحمد: أن هذا السهم يرد إلى موالي الأم، فعلى هذا يكون جميع الميراث لموالي الأم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 [ كتاب العتق ] وهو: قربة مندوب إليها، بدليل ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله: «من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل إرب منها، إرباً منه من النار» رواه مسلم، حتى إنه ليعتق اليد باليد، والرجل بالرجل، والفرج بالفرج. والأفضل عتق من له قوة وكسب، يستغني به، فأما من لا كسب له، فحكي عن أحمد أنه لا يستحب عتقه، لأنه يتضرر بفوات نفقته الواجبة له، وربما صار كَلاً على الناس. فصل: ويحصل العتق بثلاثة، القول، والملك، والاستيلاد، ولا يحصل بالنية المجردة، لأنه إزالة ملك، فلم يحصل بمجرد النية، كالطلاق، وألفاظه تنقسم إلى صريح وكناية، فالصريح: لفظ العتق، والحرية، وما تصرف منهما، لأنه يثبت لهما عرف الشرع والاستعمال، فكانا صريحين، كلفظ الطلاق في الطلاق، فإن أراد بهما غير العتق، كرجل يقول لغلامه: هو حر، يريد أنه عفيف كريم الأخلاق، أو يغالبه فيقول: ما أنت إلا حر، يريد أنك تمتنع من طاعتي امتناع الحر، فقد قال أحمد في رواية حنبل: أرجو أن لا يعتق، وأنا أهاب المسألة، فظاهر هذا أنه لا يعتق، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، فانصرف إليه. كما لو نوى العتق بكنايته. والكناية: نحو قوله: قد خليتك، واذهب حيث شئت، والحق بأهلك، وحبلك على غاربك، ونحوه. فلا يعتق بذلك حتى ينويه، لأنه يحتمل غير العتق، فأشبه كناية الطلاق فيه، وفي قوله: لا سبيل لي عليك، ولا سلطان لي عليك وأنت سائبة، وفككت رقبتك، ولا رق لي عليك، وأنت لله، وأنت مولاي، وملكتك نفسك. فيه روايتان: إحداهما: هو صريح في العتق، لأنها تتضمن العتق، وقد جاء في كتاب الله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] . يعني: العتق، فكانت صريحة، كقوله: أعتقتك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 والثانية: هو كناية، لأنها تحتمل غير العتق. وقال القاضي: قوله: لا رق لي عليك، ولا ملك لي عليك، وأنت لله، صريح. نص عليه أحمد، في: أنت لله، لأن معناه: أنت حر لله. واللفظان الأولان صريحان في نفي الملك، والعتق من ضرورته. وفي قوله لأمته: أنت طالق، أو أنت حرام علي، روايتان: إحداهما: هو كناية، تعتق به إذا نوى به العتق، لأن الرق أحد الملكين في الآدمي، فيزول بلفظ الطلاق، كملك النكاح، والحرية يحصل بها تحريمها عليه، فجاز أن يكون كناية فيه. والثانية: ليس بكناية، لأنه ملك لا يستدرك بالرجعة، فلم يزل بالطلاق، كملك المال. والتحريم صريح في الظهار، فلم يكن كناية في العتق، كقوله: أنت علي كظهر أمي. فصل: ولا يصح العتق إلا من جائز التصرف، ولا يصح من صبي، ولا مجنون ولا سفيه، لأنه تبرع في الحياة، فأشبه الهبة. ولا يصح عتق الموقوف، لأنه فيه إبطالاً لحق البطن الثاني منه، وليس له ذلك. فصل: فإن كان العبد بين شريكين، فأعتق أحدهما نصيبه وهو موسر، عتق كله، ووجب عليه قيمة نصيب شريكه، لما روى ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركاً له في عبد، فإن كان له ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق» متفق عليه. وفي لفظ «وكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل، فهو عتيق» . وفي لفظ «فقد عتق كله» . ويعتق كله حال إعتاق الشريك، للخبر، ولأنه سراية قول، فنفذ في الحال كطلاق بعض الزوجة، فإن أعتقه الشريك عقيب عتق الأول وقبل أخذ القيمة، لم يثبت له فيه عتق، لأنه صار حراً بعتق الأول. ولو لم يؤد القيمة حتى أفلس، كانت ديناً في ذمته، وعتقه ماض، ووقت التقويم وقت العتق، لأنه وقت الإتلاف، فأشبه الجناية، فإن اختلفا في القيمة، فالقول قول المعتق، لأنه غارم. وإن اختلفا في صناعة تزيد بها قيمته، أو عيب تنقص به قيمته، فالقول قول من ينفيه، لأن الأصل عدمه، وسواء كان المعتق مسلماً أو كافراً، لأنه تقويم متلف، فاستوى فيه المسلم والكافر، كتقويم المتلفات. ويحتمل أن لا يسري عتق الكافر في المسلم، لأنه لا يجوز أن يتملكه. وإن كان نصيب الشريك وقفاً، لم يعتق، لأن الوقف لا يعتق بالمباشرة، فبالسراية أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وإن كان المعتق معسراً، عتق نصيبه منه خاصة، وباقيه على الرق، للخبر، ولأن سراية العتق ضرر بالشريك، لتلف ماله بغير رضاه، من غير عوض يجبره. وعنه: يستسعي العبد في قيمة باقيه، ويعتق كله. لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أعتق شقصاً له في مملوكه، فعليه أن يعتقه كله، إن كان له مال، وإلا استسعي العبد غير مشقوق عليه» رواه أبو داود. والأول أصح، لأن خبر ابن عمر أصح، ولأن الإحالة على السعاية، إحالة على وهم، وفيه ضرر بالعبد بإجباره على الكسب من غير اختياره، فإن كان معه قيمة البعض، عتق منه بقدره، لأن ما وجب بالاستهلاك إذا عجز عن البعض وجب بقدر ما قدر عليه، كقيمة المتلف. فصل: فإن أعتق المعسر بعض عبده، عتق كله، لأنه موسر بما يسري إليه، فأشبه ما لو أعتق بعض عبد وهو موسر بقيمة باقيه، فإن أعتق بعضه في مرض موته، عتق منه ما يحتمله الثلث وإن زاد على قدر ما أعتق، لأن عتق بعضه كعتق جميعه، وإن احتمل الثلث جميعه، عتق كله. فصل: إذا ملك بعض عبد، فأعتقه في مرض موته أو دبره، فعتق بموته، وكان ثلث ماله يفي بقيمة حصة شريكه، أعطي وكان كله حراً في إحدى الروايتين، لأن ثلثه له، فكان موسراً به، والأخرى: لا يعتق منه إلا ما ملك، لأن حق الورثة تعلق بماله، إلا ما استثناه من الثلث بتصرفه فيه. ذكرهما الخرقي، وأبو الخطاب. قال الخرقي: وكذلك الحكم إذا دبر بعضه وهو مالك لكله، لأن ملكه يزول عما سوى المعتق. وقال القاضي: إن أعتقه في مرض موته وهو موسر، عتق جميعه، لأنه أعتقه وهو موسر بثمن جميعه، فدخل في الخبر، وإن دبره لم يعتق إلا ما ملك، لأن ملكه زال بالموت، إلا ما استثناه بوصيته. وصحح الرواية الأولى في العتق في المرض. والثانية في التدبير. فصل: وإذا كان العبد لثلاثة، لأحدهم نصفه، وللآخر ثلثه، وللثالث سدسه، فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس معاً، وهما موسران، عتق عليهما، وضمنا حق شريكهما فيه بالسوية، لأن التقويم المستحق بالسراية، يسقط على عدد الرؤوس، كما لو اشترك اثنان في جراحة رجل، جرحه أحدهما جرحاً، والآخر عشرة، ويكون ولاؤه بينهما أثلاثاً، لصاحب النصف ثلثاه، ولصاحب السدس ثلثه، ويحتمل أن يقوم عليهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 على قدر ملكيهما، لأنه يستحق بالملك، فكان على قدره، كالشفعة، فيكون ولاؤه بينهما أرباعاً. فصل: وإذا كان العبد لثلاثة، فأعتقوه معاً، أو وكل نفسان الثالث، فأعتق حقهما مع حقه، أو أعتقه كل واحد منهم وهو معسر، عتق على كل واحد حقه منهم، وولاؤه بينهم أثلاثاً، وإن أعتقه الأول وهو معسر، وأعتقه الثاني وهو موسر، عتق عليه نصيبه ونصيب شريكه، وكان ثلث ولائه للمعتق الأول، وثلثاه للمعتق الثاني. وإن قال اثنان منهم للثالث: إذا أعتقت نصيبك فنصيبنا حر، فأعتق نصيبه وهو معسر عتق كله عليه، وقوم عليه نصيب شريكيه، وولاؤه له دونهما، ويحتمل أن يعتق نصيبهما عليهما، لأن إعتاق نصيبهما يتعقب إعتاق نصيبه، ولا تسبقه السراية، وإن كان معسراً، عتق عليه نصيبه خاصة، وعتق نصيب صاحبيه بالشرط، وولاؤه بينهم أثلاثاً، سواء اتفقا في القول، أو سبق به أحدهما، لأن الوقوع بوجود الشرط، وقد استويا فيه، وإن قالا له: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبنا حر مع نصيبك، فأعتق نصيبه، عتق نصيب كل واحد على مالكه، لأن عتقه وقع في حالة واحدة. فصل: فأما العتق بالملك، فإن من ملك ذا رحم محرم، عتق عليه بمجرد ملكه، لما روى سمرة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ملك ذا رحم محرم، فهو حر» رواه أبو داود ولأنه ذو رحم محرم فعتق عليه إذا ملكه الولد. وعنه: لا يعتق عليه، إلا عمودا النسب، بناء على أن نفقة غيرهم لا تجب. وإن ملك بعض من يعتق عليه بسبب غير الميراث، فهو كإعتاقه له في تقويم باقيه عليه مع اليسار، وبقائه على الرق مع الإعسار، لأنه عتق بسبب من جهته، فأشبه إعتاقه بالقول. وإن ملكه بالإرث، لم يعتق منه إلا ما ملك، موسراً كان أو معسراً، لأنه لا اختيار له في إعتاقه، ولا سبب من جهته. ونقل عنه المروذي ما يدل على أنه يعتق نصيب الشريك إذا كان موسراً، لأنه ملك بعضه، أشبه البيع. وإذا ملك ولده من الزنا، لم يعتق عليه على ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأنه لا تجب عليه نفقته، ويحتمل أن يعتق عليه، لأنه ولد يحرم نكاحه، فعتق، كولد الرشيدة. فصل: وإن وهب لصبي من يعتق عليه، أو وصي له به، وكان بحيث لا يجب على الصبي نفقته لكون الصبي معسراً، أو الموهوب صحيحاً كبيراً. إذا كسب وجب على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 الولي قبول الهبة والوصية، لأن فيه نفعاً للصبي، وجمالاً بحرية قريبه من غير ضرر. وإن كان بحيث تلزمه نفقته، لم يكن له قبوله، لأن فيه ضرراً بإلزامه نفقته. وإن وهب له جزء ممن يعتق عليه، وكان ممن لا تجب نفقته، ففيه وجهان مبنيان على أنه: هل يقوم على الصبي باقيه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقوم عليه باقيه، لأنه يدخل في ملكه بغير سبب من جهته، أشبه الإرث، فعلى هذا يلزم وليه قبوله، لما فيه من النفع الخالي على الضرر. والثاني: يقوم عليه، لأن قبول وليه يقوم مقام قبوله، كما لو قبل وكيل البالغ، فعلى هذا لا يملك قبوله. فإن قبل في موضع لا يملك القبول، لم يصح، ولا يملك الولي شراء من يعتق على الصبي، لأنه إذا لم يملك قبول الهبة التي لا عوض فيها، فالبيع أولى. فصل: وإذا أعتق في مرضه عبيداً لا مال له غيرهم، أو دبرهم، أو أوصى بعتقهم، أو دبر أحدهم وأوصى بعتق الباقين، لم يعتق منهم إلا الثلث، إلا أن يجيز الورثة، فيقرع بينهم بسهم حرية، وسهمي رق، فمن خرج له سهم حرية، عتق ورق الباقون، لما روى عمران بن حصين: «أن رجلاً من الأنصار أعتق ستة مملوكين في مرضه لا مال له غيرهم، فجزأهم رسول الله ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» . أخرجه مسلم. وإن كان عليه دين يستغرقهم، لم يعتق منهم شيء، لأن عتقهم وصية، وقد «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الدين قبل الوصية» . وإن كان يستغرق بعضهم، عتق من باقيهم ثلثه، فيقرع بينهم لإخراج الدين، ثم يقرع بينهم لإخراج الحرية، فإن كان الدين يستغرق نصفهم، جزأناهم جزأين، وأقرعنا بينهم بسهم دين، وسهم تركة، فمن خرج له سهم الدين، بيع فيه، ثم يقرع بين الباقين بسهم حرية، وسهمي رق كما ذكرنا. فصل: ولو أعتقهم وثلثه يحتملهم، فأعتقناهم، ثم ظهر عليه دين يستغرقهم، بعناهم فيه، لما ذكرنا. فإن قال الورثة: نحن نقضي الدين ونجيز العتق، احتمل أن لهم ذلك، لأن المانع إنما هو الدين، فإذا قضي زال المانع، فثبت العتق، واحتمل أنه ليس لهم ذلك، لأن الغرماء تتعلق حقوقهم بالتركة، فلم يملك الورثة إبطالها بالقول، لكن إذا قضوا الدين فلهم استئناف العتق. وإن أعتقنا بعضهم بالقرعة، ثم ظهر عليه دين يستغرق بعضهم، احتمل أن يبطل العتق في الجميع، كما لو اقتسم الشركاء، ثم ظهر لهم شريك ثالث، واحتمل أن يبطل بقدر الدين، لأن بطلانه لأجل الدين، فيقدر بقدره، ولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 أعتقهم فأعتقنا منهم واحداً يعجز ثلثه عن أكثر منه، ثم ظهر له مال يخرجون من ثلثه، تبينا أن الباقين كانوا أحراراً من حين أعتقهم، فيكون كسبهم لهم، لأنهم يخرجون من الثلث. فصل: فإن مات بعضهم، أقرعنا بينهم، فإن خرجت لميت حسبناه من التركة، وقومناه حين العتق، لأنه خرج بذلك من التركة. وإن خرجت لحي، نظرنا في الميت، فإن مات في حياة المعتق أو بعدها قبل قبض الوارث، لم يحسب من التركة، لأنه لم يصل إلى الوارث، فيكون لتركة الحيين، فيكمل ثلثهما ممن وقعت عليه القرعة، وتعتبر قيمته حين إعتاقه، لا حين إتلافه. وحكى أبو الخطاب عن أبي بكر أن الميت يحسب من التركة، ويعتق من تقع عليه القرعة إن خرج من الثلث، لأننا حسبناه من التركة إذا وقعت القرعة له، فكذلك إذا وقعت لغيره. فإن مات بعد قبض الوارث، حسب من التركة، لأنه وصل إليه. فصل قال أحمد: بأي شيء خرجت القرعة، وقع الحكم به، سواء كانت رقاعاً أو خواتيم، وذلك لأن الشرع ورد بالقرعة، ولم يرد بكيفيتها، فوجب ردها إلى ما يقع عليه الاسم مما تعارفه الناس، والأحوط أن تقطع رقاع متساوية يكتب في كل رقعة اسم ذي السهم، ثم يجعل في بنادق طين، أو شمع، متساوية، ثم يغطى بثوب، ويقال لرجل: أدخل يدك، فأخرج بندقة، فيفضها، ويعلم ما فيها، فإن كان القصد عتق الثلث، جزأ العبيد ثلاثة أجزاء، فإن أمكن تجزئتهم بالعدد والقيمة، كستة أعبد قيمتهم متساوية، جعلنا كل اثنين جزءاً كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم. وإن كانت قيمتهم مختلفة، إلا أننا إذا ضممنا قليل القيمة إلى كثيرها، صار أثلاثاً، فعلنا ذلك. وإن أمكن تعديلهم بالقيمة دون العدد، كستة قيمة أحدهم الثلث، وقيمة اثنين الثلث، وقيمة ثلاثة الثلث، جزأناهم بالقيمة. وإن لم يمكن تعديلهم بقيمة ولا عدد، كثمانية أعبد قيمتهم مختلفة، أو متساوية، احتمل أن لا نجزئهم، بل نخرج قرعة الحرية لواحد واحد، حتى يستوفى الثلث، واحتمل أن نقارب بينهم، ونجزئهم ثلاثة أجزاء، فنجعل ثلاثة جزءاً، وثلاثة جزءاً، واثنين جزءاً، فإن خرجت القرعة على زائد على الثلث، أقرعنا بين ما وقعت لهم القرعة، فكملنا الحرية في بعضهم، وتممنا الثلث من الباقين. وإن وقعت على ما دون الثلث، عتقوا، وأعدنا القرعة لتكميل الثلث من الباقين. وإن أعتق عبدين، قيمة أحدهما مثلا قيمة الآخر، أقرعنا بينها بسهم حرية، وسهم رق، فإن وقع سهم الحرية للأدنى عتق، وإن وقع للأكثر عتق نصفه. فإن كانت قيمة أحدهما مائتين، والآخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 ثلاثمائة، جمعنا قيمتهما، ثم أقرعنا بينهما، فمن خرج له سهم الحرية، ضربنا قيمته في ثلاثة، ونسبنا قيمتها إلى المرتفع بالضرب، فما خرج من النسبة، عتق من العبد قدره، فإذا وقعت على الذي قيمته مائتان، ضربناه في ثلاثة، صار ستمائة، ونسبنا قيمتهما إلى ذلك، نجدها خمسة أسداسه، فيعتق منه خمسة أسداسه، وإن وقعت على الآخر، عتق منه خمسة أتساعه لذلك، وهكذا نصنع في أمثال ذلك. فصل إذا أعتق الأمة وهي حامل، عتق جنينها، لأنه يتبعها في البيع والهبة، ففي العتق أولى، فإن استثنى جنينها، لم يعتق، لما روي عن ابن عمر: أنه أعتق أمة واستثنى ما في بطنها، ولأنها ذات حمل، فصح استثناء حملها، كما لو باع نخلة لم تؤبر، واشترط ثمرتها. وقال القاضي: يخرج على الروايتين فيما إذا استثنى ذلك في البيع، والمنصوص عن أحمد ما ذكرناه. وإن أعتق جنينها وحده، لم تعتق هي، لأنها ليست تابعة له، فلا تعتق بعتقه، كما لو أعتقه بعد الولادة. فصل وإذا كان العبد بين شريكين، فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق نصيبه، لم يخل من أحوال ثلاثة: أحدهما: أن يكونا موسرين فيصير العبد حراً، لاعتراف كل واحد منهما بحريته بإعتاق شريكه، ويبقى كل واحد منهما يدعي على شريكه قيمة حقه منه، فإن لم يكن بينة، حلف كل واحد منهما لصاحبه وبرئ. وإن نكل أحدهما، قضي عليه. وإن نكلا جميعاً، تساقطا حقاهما، ولا ولاء على العبد، لأنه لا يدعيه أحد. فإن اعترف به أحدهما بعد ذلك، ثبت له، سواء كانا عدلين أو فاسقين. الحال الثاني: أن يكونا معسرين، فلا يقبل قول كل واحد منهما على صاحبه، لأنه لا اعتراف فيه بالحرية، لعدم السراية في إعتاق المعسر، فإن كانا فاسقين، فلا عبرة بقولهما. وإن كانا عدلين، فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما، ويصير حراً، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حراً. فإن كان أحدهما عدلاً، والآخر فاسقاً، فله أن يحلف مع العدل. هذا إذا قلنا: إن الحرية تثبت بشاهد ويمين، ولا ولاء لواحد منهما أيضاً، لأنه لا يدعيه. الحال الثالث: أن يكون أحدهما موسراً، والآخر معسراً، فيعتق نصيب المعسر وحده، لاعترافه بحريته، لأنه يعترف بعتق الموسر الذي يسري إلى نصيبه، ويبقى نصيب الموسر رقيقاً، لأنه إنما اعترف بإعتاق شريكه الذي لا يسري، فلا يؤثر. فإن كان المعسر عدلاً، فللعبد أن يحلف مع شهادته، ويصير حراً إذا قلنا: إن الحرية تثبت بشهادة ويمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 فصل وإن ادعى أحد الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه وهما موسران، أو المدعى عليه موسر وحده، عتق نصيب المدعي وحده، لاعترافه بحريته، وبقي نصيب المدعى عليه رقيقاً. وإن كانا معسرين، أو المدعى عليه معسراً، لم يعتق منه شيء. فإن اشترى المدعي نصيب صاحبه، عتق ولم يسر إلى نصيبه، لأن عتقه باعترافه بحريته، لا بإعتاقه. فصل إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه، وأقام شاهداً، حلف مع شاهده، وصار حراً في إحدى الروايتين، والأخرى: لا يثبت ذلك بشاهد ويمين، لأنه ليس بمال، ولا المقصود منه المال، فأشبه الطلاق. فصل إذا مات رجل وخلف ابنين وعبدين متساويي القيمة، فاعترف كل واحد منهما بعتق أحد العبدين، عتق من كل واحد ثلثه، ولكل واحد من الابنين سدس العبد الذي اعترف بعتقه، ونصف الآخر، لأنه يزعم أن ثلثي العبد الذي اعترف بعتقه حر، ويبقى ثلثه لكل واحد منهما سدسه. وإن قال أحدهما: أبي أعتق هذا. وقال الآخر: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما، أقرعنا بينهما، فإن وقعت القرعة على الآخر، عتق من كل واحد ثلثه، كالتي قبلها، لأن القرعة قائمة مقام تعيينه. وإن وقعت على الذي اعترف أخوه بعتقه، عتق ثلثاه، إلا أن يجيزا عتقه كاملاً، وصار كالمتفق على عتقه. [ باب تعليق العتق بالصفة ] ويجوز تعليق العتق بصفة، نحو قوله: إن دخلت الدار فأنت حر، أو: إن أعطيتني ألفاً، فأنت حر، لأنه عتق بصفة، فجاز، كالتدبير، ولا يعتق قبل وجود الصفة بكمالها، لأنه حق علق على شرط، فلا يثبت قبله، كالجعل في الجعالة. وإن قال ذلك في مرض موته، اعتبر من الثلث، لأنه لو أعتقه، اعتبر من الثلث، فإذا عقده، كان أولى، فإن قال في الصحة فهو من رأس المال، سواء وجدت الصفة في الصحة أو المرض، لأنه غير متهم بالإضرار بالورثة في تلك الحال. وقال أبو بكر: إن وجدت الصفة في المرض، فهو من الثلث، لأن حق الورثة قد تعلق بالثلثين، فلم ينفذ إعتاقه فيهما، كما لو نجز العتق. وإن مات السيد قبل وجود الصفة، بطلت، لأن ملكه يزول بموته، فيبطل تصرفه بزواله. وإن قال: إن دخلت الدار بعد موتي، فأنت حر، ففيه روايتان: إحداهما: لا تنعقد هذه الصفة، لأنه علق عتقه على صفة توجد بعد زوال ملكه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 فلم تصح، كما لو قال: إن دخلت الدار بعد بيعي إياك، فأنت حر. والثانية: تنعقد، لأنه إعتاق بعد الموت فصح، كما لو قال: أنت حر بعد موتي. فصل وإن علق عتق أمته على صفة وهي حامل، تبعها ولدها في ذلك، لأنه كعضو من أعضائها. فإن وضعته قبل وجود الصفة ثم وجدت، عتق الولد، لأنه تابع في الصفة، فأشبه ما لو كان في البطن. وإن علق عتقها وهي حائل، ثم وجدت الصفة وهي حامل، عتقت هي وحملها، لأن العتق وجد فيها وهي حامل، فتبعها ولدها، كالعتق المطلق. وإن حملت ثم ولدت، ووجدت الصفة، لم يعتق الولد، لأن الصفة لم تتعلق به. وفيه وجه آخر: يتبعها قياساً على ولد المدبرة. وإن بطلت الصفة ببيع أو موت. لم يعتق الولد، لأنه إنما يتبعها في العتق، لا في الصفة. فإذا لم توجد فيها، لم توجد فيه، بخلاف ولد المدبرة، فإنه يتبعها في التدبير. فإذا بطل فيها، بقي فيه. فصل وإذا علق العتق بصفة، لم يملك إبطالها بالقول، لأنه كالنذر، ويملك ما يزيل الملك فيه من البيع وغيره. فإذا باعه ثم اشتراه، فالصفة بحالها، لأن التعليق والصفة وجدا في ملكه، فعتق، كما لو لم يزل الملك، فإن وجدت الصفة بعد زوال الملك، ثم اشتراه، فهل تعود الصفة؟ فيه روايتان: إحداهما: لا تعود، لأنها انحلت بوجودها في ملك المشتري، فلم تعد، كما لو انحلت بوجودها في ملكه. والثانية: تعود، لأنه لم توجد الصفة التي يعتق بها، فأشبه ما لو عاد إلى ملكه قبل وجود الصفة، ولأن الملك مقدر بالصفة، فكأنه قال: إذا دخلت الدار وأنت في ملكي، فأنت حر، ولم يوجد ذلك. فصل وإن علق العتق على صفة قبل الملك فقال لعبد أجنبي: إذا دخلت الدار فأنت حر، ثم ملكه ودخل الدار، لم يعتق، لأنه لا يملك تنجيز العتق، فلا يملك تعليقه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا عتق قبل ملك» رواه أبو داود الطيالسي. وإن قال: إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 ملكتك فأنت حر. أو ملكت فلاناً، فهو حر، ففيه روايتان: إحداهما: لا يعتق لذلك. والثانية: يعتق إذا ملكه، لأنه أضاف العتق إلى حال يملك عتقه فيه، فأشبه ما لو كان التعليق في ملكه. وإن قال الحر: كل مملوك أملكه، فهو حر، ففيه روايتان، لما ذكرنا. وإن قال ذلك العبد، ثم عتق وملك، فهل يعتق عليه؟ على وجهين: أحدهما: يعتق عليه، كالحر. والثاني: لا يعتق عليه، لأن العبد لا يملك، فلا يصح منه التعليق. ولو قال الحر: آخر مملوك أشتريه، فهو حر، وقلنا بصحة التعليق، فمتى مات، تبينا حصول الحرية لآخر مملوك اشتراه من حين الشراء فيكون اكتسابه له. فإن أشكل الآخر منهم، أقرع بينهم، لإخراج الحر، وكذلك لو قال لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر، فولدت ابنين، أقرع بينهما إذا أشكل أولهما خروجاً. [ باب التدبير ] ومعناه: تعليق الحرية بالموت: وصريحه: أنت حر أو عتيق، بعد موتي، أو أنت مدبر، أو قد دبرتك، لأن هذا اللفظ موضوع له، فكان صريحاً فيه، كلفظ العتق في الإعتاق، وهو مستحب، لأنه يقصد به العتق، ويعتبر من الثلث، لأنه تبرع بالمال بعد الموت، فهو كالوصية، ونقل عنه حنبل أنه من رأس المال، وليس عليه عمل، وذكر أبو بكر أنه كان قولاً قديماً، وربما رجع عنه. فصل ويجوز مطلقاً ومقيداً، فالمطلق كما ذكرنا، والمقيد نحو أن يقول: إن مت من مرضي هذا، أو في هذا البلد، فأنت حر، لأنه تعليق على صفة، فجاز مطلقاً ومقيداً. والمقيد: كتعليقه على دخول الدار. وإن قال: إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي، جاز، لأنه تعليق على صفة، فجاز تعليقه على صفة أخرى، كما ذكرنا. فإن دخل الدار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 في حياة السيد، فهو مدبر، وإن لم يدخل حتى مات، بطلت الصفة بالموت، لأنه يزول به الملك، ولم يوجد التدبير، لعدم شرطه. فصل ويجوز تدبير المعلق عتقه على صفة وتعليق عتق المدبر على صفة، لأن التدبير تعليق على صفة، فلا يمنع التعليق على صفة أخرى، كغيره من الصفات، فإن وجدت إحداهما، عتق وبطلت الأخرى، لزوال الرق قبل وجودها. ويجوز تدبير المكاتب، كما يجوز تعليق عتقه على صفة، وتجوز كتابة المدبر، كما يجوز أن يبيعه نفسه. فإذا كاتبه ودبره، فأدى كتابته قبل موت سيده، عتق وبطل التدبير. فإن مات السيد قبل الأداء، عتق بالتدبير إن حمل الثلث ما بقي من كتابته، وبطلت الكتابة. وإن لم يحمله الثلث، عتق منه قدر الثلث، وسقط من مال الكتابة بقدر ما عتق، وهو على الكتابة فيما بقي، وما في يده من الكسب له في الحالين، لأنه كان مملوكاً له ولم يوجد ما يخرجه عن يده، فبقي له، كما لو أبرأه من مال الكتابة، ويحتمل أن تكون كتابة المدبر رجوعاً في تدبيره، إن قلنا: إنه يملك إبطاله بالرجوع فيه، ولا يصح تدبير أم الولد، لأنها تستحق العتق بموت سيدها، بسسب مؤكد، فلا يفيد التدبير. ولو استولد المدبرة، بطل تدبيرها لذلك. فصل ويجوز بيع المدبرة، لما روى جابر بن عبد الله «أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دبر منه، ولم يكن له مال غيره، فاحتاج. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يشتريه مني؟ فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم، فدفعها إليه وقال: أنت أحوج منه» رواه البخاري ومسلم والنسائي. ولأنه إما وصية، وإما تعليق على صفة، وأيهما كان، لم يمنع البيع. وعن أحمد أنه لا يباع إلا في الدين، أو حاجة صاحبه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما باعه لحاجة صاحبه. وعنه: لا يجوز بيع المدبرة خاصة، لأن بيعها إباحة فرجها، والحكم في هبته ووقفه، كالحكم في بيعه واكتسابه ومنافعه. وأرش الجناية عليه لسيده، لأنه كالقن. وإن جنى فسيده بالخيار بين فدائه أو تسليمه للبيع، كالقن. فإن مات السيد قبل ذلك، عتق، وأرش جنايته في تركته، لأنه عتق من جهته، فتعلق الأرش بماله كالمنجر. وإن كانت الجناية لا تستغرق قيمته، فبيع بعضه فيها، فباقيه باق على التدبير، لأن المانع اختص ببعضه، فوجب أن يختص المنع به. فصل فإذا زال ملكه عن المدبر، ببيع أو غيره، ثم عاد إليه، رجع التدبير بحاله، لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 علق العتق بصفة، فلم تبطل بالبيع، كالتعليق بدخول الدار. وفيه وجه آخر: أنه يبطل بالبيع، لأنه وصية، فبطل بالبيع، كالوصية له بمال. فصل ولو دبره، ثم قال: قد رجعت في تدبيري، أو أبطلته، لم يبطل، لأنه تعليق بصفة، فأشبه تعليقه بدخول الدار. وعنه: يبطل، لأنه تصرف معلق بالموت يعتبر من الثلث، فأشبه الوصية. وإن قال للمدبر: إن أديت إلى ورثتي ألفاً، فأنت حر، فهو رجوع، لأنه وقفه على أداء ألف، وذلك مناف للتدبير، فأشبه قوله: رجعت في تدبيري. والصبي كالبائع في هذا، لأنه مثله في التدبير، فكان مثله في الرجوع فيه. فصل وإذا دبر أحد الشريكين نصيبه، لم يسر إلى نصيب شريكه، لأنه تعليق للعتق بصفة، أو وصية، وكلاهما لا يسري، ويحتمل أن يضمن ويصير كله مدبراً له، لأنه سبب يوجب العتق بالموت فسرى، كالاستيلاد. فإن أعتق الآخر نصيبه، سرى العتق إلى جميعه، وقوم عليه نصيب شريكه، لحديث ابن عمر. ويحتمل أن لا يسري العتق فيه، إذا قلنا: إنه يجوز بيعه. فصل وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها، فولدها بمنزلتها، لأنها تستحق الحرية بالموت، فيتبعها ولدها، كأم الولد. ولا يتبعها ولدها الموجود قبل التدبير، لأنه لا يتبع في حقيقة العتق، ففي تعليقه أولى. وذكر أبو الخطاب فيه رواية أخرى: أنه يتبعها في التدبير. وإن دبر عبده، ثم أذن له في التسري، فولد له ولد، لم يكن مدبراً، لأن أمه غير مدبرة. وعنه: أنه يصير مدبراً، لأنه ولده من أمته فيتبعه، كولد الحر. وإذا صار الولد مدبراً لتدبير أمه، فبطل تدبيرها لبيعها، والرجوع في تدبيرها، لم يبطل في ولدها، لأنه استحق الحرية، فلم يبطل حقه، لمعنى وجد في غيره، كما لو باشره بالتدبير. فصل ويصح تدبير الصبي المميز والسفيه، لما ذكرنا في صحة وصيتهما. ويصح تدبير الكافر، لأنه يصح إعتاقه. فإن أسلم مدبره، أمر بإزالة ملكه عنه، لأن الكافر لا يمكن من استدامة الملك على مسلم، مع إمكان بيعه. وفيه وجه آخر: أنه لا يباع، لأنه استحق الحرية بالموت، فأشبه أم الولد إذا أسلمت، ولكن تزال يده عنه، وينفق عليه من كسبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 فإن لم يكن ذا كسب، فنفقته على سيده، كأم الولد إذا أسلمت. وإن دبر المرتد عبده، كان تدبيره موقوفاً، كسائر تصرفاته، فإن أسلم، تبينا صحة تدبيره. وإن مات على الردة، تبينا بطلانه. وعنه: أن ملكه يزول بنفس الردة، فيكون تدبيره باطلاً، وهذا قول أبي بكر. وإن ارتد بعد التدبير وقتل بردته، أو مات، بطل التدبير، لأن ملكه زال في حياته. وإن رجع صح تدبيره، لأنا تبينا بقاء ملكه، أو رجوعه إليه بإسلامه بعد زواله. فصل فإذا ادعى العبد أن سيده دبره، فأنكر، فالقول قول السيد مع يمينه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه مسلم، والبخاري بمعناه. فإن أقام العبد بينة، ثبت تدبيره. وهل يكفي شاهد ويمين، أو رجل وامرأتان، أم لا يكفي إلا رجلان؟ على روايتين، كما ذكرنا في العتق، ويتخرج أن لا تسمع دعوى العبد بناء على أن السيد له الرجوع في التدبير. وهل يكون إنكار التدبير رجوعاً عنه؟ على وجهين، بناء على الوصية. فصل وإن قتل المدبر سيده، بطل تدبيره، لأنه استحقاق علق بالموت من غير فعل، فأبطله القتل، كالإرث والوصية. [ باب الكتابة ] وهو مندوب إليها في حق من يعلم فيه خيراً، لقول الله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] يعني: كسباً وأمانة، في قول أهل التفسير. وعنه: رواية أخرى أنها واجبة، إذا دعا العبد الذي فيه خير سيده إليها، لظاهر الآية، ولأن عمر أجبر أنساً على كتابة سيرين، والأول ظاهر المذهب، لأنه إعتاق بعوض، فلم يجب كالاستسعاء، والآية محمولة على الندب، وقول عمر يخالفه فعل أنس، فأما من لا كسب له، ففيه روايتان: إحداهما: تكره كتابته، لأنه يصير كلاً على الناس. والثانية: لا تكره، لعموم الأخبار في فضل الإعتاق. وإذا دعا هذا سيده إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الكتابة لم يجبر، رواية واحدة. وإن دعا السيد عبده إلى الكتابة، لم يجبر عليها، لأنه إعتاق على مال، لم يجبر عليه كغير الكتابة. فصل ولا تنعقد إلا بالقول، وتنعقد بقوله: كاتبتك على كذا، لأنه لفظها الموضوع لها، فانعقدت به، كلفظ النكاح فيه. ويحتمل أن يشترط أن يقول: إذا أديت إلي، فأنت حر، لأنه إعتاق معلق على شرط، فاعتبر ذكره، والأول أولى. فصل ولا تصح إلا من جائز التصرف، مسلماً كان أو كافراً، لأنها تصرف في المال، فأشبهت البيع. فأما المميز من الصبيان، فيصح أن يكاتب عبده بإذن وليه، ولا يصح بغير إذنه، كما في بيعه، ويحتمل أن لا تصح بحال، لأنه إعتاق. وإن كاتب السيد عبده المميز، صح، لأن إيجاب سيده له إذن منه في قبولها. وإن كاتب عبده المجنون أو الطفل، فهو عقد باطل، وجوده كعدمه، إلا أن القاضي قال: يعتق بالأداء، لأن الكتابة تعليق الحرية بالأداء، فإن بطلت الكتابة كان عتقهما بحكم الصفة المحضة، وقال أبو بكر: لايعتق، لأن الكتابة ليست بصفة، ولا يعتبر ذكر الصفة فيها بحال. فصل: ولا تصح إلا على عوض، لأنها عقد معاوضة، فأشبه البيع. ومن شرطه أن يكون مؤجلاً، لأن جعله حالاً يفضي إلى العجز عن أدائه، وفسخ العقد بذلك، فيفوت المقصود. وأن يكون منجماً نجمين فصاعداً في قول أبي بكر، وظاهر كلام الخرقي، لأن علياً قال: الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني. وقال ابن أبي موسى: يجوز جعل المال كله في نجم واحد، لأنه عقد شرط فيه التأجيل، فجاز على نجم واحد، كالسلم، ولأن القصد بالتأجيل إمكان التسليم عنده، ويحصل ذلك في النجم الواحد، والأحوط نجمان فصاعداً. ويجب أن تكون النجوم معلومة، ويعلم في كل نجم قدر المؤدى، وأن يكون العوض معلوماً بالصفة، لأنه عوض في الذمة، فوجب فيه العلم بذلك، كالسلم، ولا تصح إلا على عوض يصح السلم فيه، لما ذكرنا. وذكر القاضي: أنه يحتمل أن يصح على عوض مطلق، بناء على قوله في النكاح والخلع، والصحيح ما قدمنا. فصل: وتجوز الكتابة على المنافع، لأنها تثبت في الذمة بالعقد، فجازت الكتابة عليها، كالمال، وتجوز على مال أو خدمة، لأن كل واحد منهما، يصح أن يكون عوضاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 منفرداً، فصح في الآخر، كالمالين. فإن كاتبه على خدمة شهر، أو شهرين متواليين، فهو كالنجم الواحد، لأنها مدة واحدة، فإن قال: على أن تخدمني شهراً، ثم تخدمني عقيبه شهراً آخر، صح، لأنهما نجمان. وإن قال: على خدمة شهر ودينار بعده بيوم، صح، لأنهما نجمان. فإن جعل الدينار مع انقضاء الشهر، أو في أثنائه، صح، لأن الخدمة بمنزلة العوض الحال، فصار كالأجلين، ويحتمل أن لا يصح، لأنهما في مدة واحدة فكانا نجماً واحداً. وإن جعل الدينار حالاً، عقيب العقد، لم يصح، لأنه عوض حال معجوز عنه، بخلاف الخدمة، فإنها وإن كانت في منزلة الحال، فهو قادر عليها. فصل: والكتابة عقد لازم لا يملك العبد فسخها بحال. وعنه: أنه يملكه، ولا يملك السيد فسخها قبل عجز المكاتب، لأنه أسقط حقه منه بالعوض، فلم يملك ذلك قبل العجز عنه، كالبيع. وللعبد الامتناع من الأداء، لأنه جعل شرطاً في عتقه، فلم يلزمه، كدخول الدار. ولا تبطل بموت السيد، ولا جنونه، ولا الحجر عليه، ولا جنون العبد لأنه عقد لازم، فأشبه البيع، وينتقل بموت السيد إلى ورثته، لأنه مملوك لمورثهم فانتقل إليهم، كالقن. فإذا أدى إليهم، عتق، وولاؤه لمكاتبه، لأن السبب وجد منه، ولا يجوز شرط الخيار في الكتابة، لأن الخيار شرع لدفع الغبن عن المال، والسيد دخل على بصيرة: أن الحظ لعبده، فلا معنى للخيار. وإن اتفقا على الفسخ، جاز، لأنه عقد يلحقه الفسخ بالعجز عن المال، فجاز فسخه بالتراضي، كالبيع. فصل: ويجوز بيع المكاتب، لأن «بريرة قالت لعائشة: يا أم المؤمنين إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني على كتابتي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: اشتريها» متفق عليه، ولأنه سبب يجوز فسخه، فلم يمنع البيع كالتدبير. وعنه: لا يجوز بيعه، لأن سبب العتق ثبت له في كل وجه لا يستقل السيد برفعه، فمنع البيع، كالاستيلاد. والأول أظهر، فإن باعه لم تبطل الكتابة، لأنها عقد لازم، فلم تبطل ببيعه كالنكاح، ويكون في يد مشتريه مبقى على ما بقي من كتابته، فإذا أدى عتق، وولاؤه له، وإن عجز فله الفسخ، ويعود رقيقاً له، لأن البائع نقل ماله من الحق فيه إلى المشتري فصار بمنزلته، وإن لم يعلم المشتري أنه مكاتب، فله الخيار بين فسخ البيع، وأخذ ما بينه سليماً ومكاتباً، لأنه عيب، فأشبه سائر العيوب، والحكم في هبته والوصية به، كالحكم في بيعه، لأنه نقل للملك فيه. ولا يجوز وقفه، لأنه معرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 لزوال الرق فيه، والوقف يجب أن يكون مستقراً. فصل: وإن اشترى المكاتب مكاتباً آخر، صح، سواء اشتراه من سيده، أو من أجنبي، لأن المشتري أهل للشراء، والمبيع محل له، فصح، كما لو اشترى عبداً. فإن عاد المبيع فاشترى سيده، لم يصح، لأنه لا يصح أن يملك مالكه، والله أعلم. [ باب ما يملكه المكاتب وما لا يملكه ] يملك المكاتب اكتساب المال بالبيع، والإيجار والأخذ بالشفعة، وأخذ الصدقة، والهبة، وكسب المباحات، والسفر، لأنه من أسباب الكسب، وهو مع المولى كالأجنبي في ضمان المال، وبذل المنافع، وأرش الجنايات، وجريان الربا بينهما، لأنه صار بما بذله من العوض كالحر، وقال ابن أبي موسى: لا ربا بينهما، لأنه ملك لسيده. قال أصحابنا: ولا بأس أن يعجل المكاتب لسيده، ويضع عنه بعض كتابته، لأن مال الكتابة ليس بمستقر، ولذلك لا يصح ضمانه، فليس بدين صحيح، فكأن السيد أخذ بعضاً، وأسقط بعضاً. فصل: ويملك التصرف في المال بما يعود لمصلحته ومصلحة ماله، فيجوز أن ينفق على نفسه، لأن هذا من أهم مصالحه، وعلى رقيقه، وحيواناته، وله أن يفدي نفسه ورقيقه في الجناية، لأن فيه مصلحته ، وله أن يختن غلامه ويؤدبه، لأنه صلاح للمال، وله أن يقتص من الجناية عليه، وعلى رقيقه، ويأخذ الأرش، لأن فيه مصلحته، وذكره القاضي. وقال أبو بكر وأبو الخطاب: لا قصاص له في جناية بعض رقيقه على بعض، لأن فيه إتلاف المال على سيده. فصل: وليس له إقامة الحد على رقيقه، لأن طريقه الولاية، والمكاتب ليس من أهل الولاية، وليس له أن يتصدق ولا يتبرع، ولا يعتق الرقيق، ولا يحج بماله، ولا يهب ولا يحابي، ولا يبرئ من الدين، ولا يكفر بالمال، ولا ينفق على أقاربه، ولا يقرض، ولا يسرف في النفقة على نفسه، لأن حق السيد متعلق بإكسابه، فإنه ربما عجز فصار إلى سيده. وإن كانت أمة مزوجة، لم يملك بذل العوض في خلعها، ولا تعجيل قضاء دين مؤجل، لأنه تبرع يمنع التصرف في المال من غير حاجة إليه. وإن كان مكاتباً بين نفسين، لم يكن له تقديم حق أحدهما، لأن ما يقدمه يتعلق به حق الآخر، ولا يملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 فداء جناية، أو جناية رقيقه بأكثر من قيمته، لأن الفداء كالابتياع. ولا يملك التزويج ولا التسري، لأنه تلزمه النفقة والمهر في التزويج، ولا يأمن حبل الأمة، فتتلف بالولادة. وما فعل من هذا كله بإذن سيده. جاز. لأن المنع لأجله، فجاز بإذنه، كتصرف الراهن بإذن المرتهن، وإن وهب المولى أو أقرضه، أو حاباه أو فدى جنايته عليه بأكثر من أرشها، جاز لاتفاقهما عليه. فصل: وليس له التصرف إلا على وجه الحظ والاحتياط، لأن حق المولى متعلق باكتسابه فلا يبيع نسأً، وإن أخذ به رهناً، أو ضميناً، ويحتمل الجواز لما ذكرنا في المضارب. وإن باع ما يساوي مائة بمائة نقداً وعشرين نسيئة، جاز، لأنه لا ضرر فيه، وليس له أن يضارب بماله، لأنه يخاطر به، ولا يرهنه، لأنه يخرج ماله بغير عوض. وفيه وجه آخر: أنه يجوز له رهنه والمضاربة به، لأنه قد يرى الحظ فيه، بدليل أن لولي اليتيم فعله في مال اليتيم، فجاز، كإجارته. فصل: وإذا استولد أمته، صارت أم ولد له، لأنها علقت له في ملكه، وليس له بيعها، نص عليه وتكون هي وولدها منه موقوفين. إن عتق بالكتابة عتق الولد، وأمه أم ولد. وإن رق، رقا. وذكر القاضي في موضع آخر: أن الأمة لا تصير أم الولد، لأنها علقت بمملوك، وله بيعها، وليس له مكاتبة رقيقه، لأنه إعتاق. واختار القاضي: أن له ذلك، لأنه معاوضة فملكه كالبيع. وقال أبو بكر: إعتاقه وكتابته موقوفان. وإن أدى وهما في ملكه نفذا، وإلا بطلا، كالقول في ذوي أرحامه. والأول أصح، لأن العتق تبرع، فلم يصح كالهبة، ومن لا يصح إعتاقه لا تصح كتابته، كالمأذون، وليس له تزويج الرقيق. وحكي عن القاضي: أن له تزويج الأمة دون العبد، لأنه معاوضة، وقال أبو الخطاب: له تزويجهما إذا رأى المصلحة فيه، لأنه تصرف في الرقيق بما فيه المصلحة، فجاز، كختان العبد. والأول أصح، لأن في التزويج ضرراً في المال ونقصاً في القيمة، وليس هو من جهات المكاسب، قال القاضي: وله أن يشتري ذوي رحمه، لأنه لا ضرر على السيد فيهم، فإنه إن عجز فهم عبيد، وإن عتق، لم يضر السيد عتقهم وقال أبو الخطاب: ليس له شراؤهم، لأنه يبذل ماله فيما لا يجوز التصرف فيه، ويلزمه نفقته، لكن يصح أن يملكهم بالهبة والوصية، أو بالشراء بإذن السيد، وعلى كلا القولين إذا ملكهم لم يعتقوا بمجرد ملكه لهم، لأنه لا يملك إعتاقهم بالقول، فلا يحصل العتق بالملك القائم مقامه، ولا يملك بيعهم ولا إخراجهم عن ملكه، لأن من يعتق عليه ينزل منزلة جزئه، فلم يجز بيعه، كبعضه. فإن أدى عتق وكمل ملكه فيهم، فعتقوا حينئذ، وولاؤهم له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 دون سيده. وإن رق، رقوا ونفقتهم على المكاتب، لأنهم عبيده. وإن أعتقهم السيد لم يصح، لأنهم ليسوا عبيداً له. وإن اشترى المكاتب زوجته أو المكاتبة زوجها، صح، لأنه يملك التصرف فيه، وإذا ملك أحدهما صاحبه، انفسخ النكاح، لأنه لا يجتمع ملك اليمين وملك النكاح. ولو زوج ابنته من مكاتبه، فمات السيد قبل عتقه، انفسخ النكاح، لأنها لما ملكته أو جزأ من أجزائه، انفسخ النكاح، كما لو اشترته. فصل: وإن حبس المكاتب أجنبي عن التصرف، فعليه أجرة مثله، لأنه فوت منافعه، فلزمه عوضها، كالعبد وإن حبسه سيده، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تلزمه أجرة مثله، لما ذكرنا. والثاني: لا يحتسب عليه بمدة الحبس، لأنه يلزمه تمكينه من التصرف مدة الكتابة، فإذا منعه لم يحتسب بها عليه. والثالث: يلزمه أرفق الأمرين به، لأنه وجد سببهما، فكان للمكاتب أنفعهما، وإن قهره أهل الحرب فحبسوه، لم يلزم السيد إنظاره، لأن الحبس من غير جهته. فصل: وليس للسيد وطء مكاتبته من غير شرط، لأنه زال ملكه عن استخدامها، وأرش الجناية عليها، فلا يحل وطؤها كالمعتقة، وإن شرطه في عقد الكتابة صح الشرط، لأنه شرط منفعتها مع بقاء ملكه عليها، فصح، كما لو شرط خدمتها مدة، فإن وطئها مع الشرط، فلا مهر عليه، لأنه يملكه، فأشبه وطء أم ولده، وإن وطئها من غير شرط أدب، لأنه وطئ وطأً محرماً، ولا حد عليه، لأنها مملوكته، ولها عليه مهر مثلها، سواء أكرهها، أو طاوعته، لأنه عوض منفعتها، فوجب لها، كما لو استخدمها، وإن علقت منه، فالولد حر، لأنه ولده من أمته، ولا يلزمه قيمته لذلك، وتصير أم ولد له، لأنه أحبلها بجزء من ملكه، والكتابة بحالها، فإن أدت عتقت، وإن عجزت عتقت بموته، لأنها من أمهات الأولاد، وما في يدها لورثة سيدها، وإن مات السيد قبل عجزها، عتقت، لأنه اجتمع بها سببان يقتضيان العتق، فأيهما سبق عتقت به، وما في يدها لها، ذكره القاضي، لأن العتق إذا وقع في الكتابة، لا يبطل حكمها، ولأن الملك كان ثابتاً لها، والعتق لا يقتضي زواله عنها، فأشبه ما لو عتقت بالإبراء من مال الكتابة، وقال الخرقي وأبو الخطاب: ما في يدها لورثة سيدها، لأنها عتقت بحكم الاستيلاد، فأشبه غير المكاتبة، ولو أعتقها سيدها، أو عتقت بالتدبير، احتمل أن يكون كذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 واحتمل أن يكون ما في يدها لها بكل حال، لأن إعتاقها برضى من المعتق، رضى منه بإعطائها مالها، بخلاف العتق بالاستيلاد. فصل: وولد المكاتبة من غير سيدها بعد كتابتها، بمنزلتها، لأنها استحقت الحرية بسبب قوي، فتبعها ولدها كأم الولد. وسواء حملت به بعد الكتابة، أو كانت حاملاً به عند كتابتها، ونفقته عليها، لأنه تبعها في حكمها، وكسبه لها لذلك، وإن قتل، فقيمته لها، لأنه بمنزلة جزئها، وبذل جزئها لها. فإن أعتقه السيد، نفذ عتقه. نص عليه، لأنه عبد له فصح عتقه، كأمه. فإن كان ولدها جارية، لم يملك السيد وطأها، لأنه لا يملك وطء أمها، وحكمها حكم أمها، وإن وطئها، فلا حد عليه للشبهة، وعليه مهرها، وحكمه حكم كسبها، وإن علقت منه، صارت أم ولد له بشبهة الملك، ولا يلزمه قيمتها، لأن القيمة تجب لمن يملكها، والأم لا تملك رقبتها، إنما هي موقوفة عليها، ويحتمل أن تلزمه قيمتها لأمها، كما لو قتلها، والحكم في وطء جارية المكاتبة، كالحكم في وطء بنتها، إلا أنه يلزمه قيمتها إذا أحبلها لمولاتها، لأنها مملوكتها. ووطء جارية المكاتب، كوطء جارية المكاتبة سواء. فصل: إذا كانت الأمة بين شريكين فكاتباها، ثم وطئها أحدهما، أدب ولا حد عليه، لشبهة الملك، وعليه المهر لها، لما قدمناه. فإن أولدها، فولده حر، وتصير أم ولد له، وعليه نصف قيمتها لشريكه، لأنه فوت رقها عليه. فإن كان موسراً أداه، وإن كان معسراً ففي ذمته، هذا ظاهر كلام الخرقي، لأن الإحبال أقوى من الإعتاق، بدليل نفوذه من المجنون، وتصير أم ولد للواطئ ومكاتبة له، كما لو اشترى نصفها من شريكه. وقال القاضي: إن كان الواطئ معسراً، لم يسر إحباله إلى نصيب الشريك، لأنه إعتاق، فلم يسر مع الإعسار، كالقول، ويصير نصفها أم ولد. فإن عجزت، استقر الرق في نصفها، وثبت حكم الاستيلاد لنصفها. وإن كان الواطئ موسراً، فنصفها أم ولد، ونصفها موقوف. إن أدت، عتقت. وإن عجزت، فسخت الكتابة، وقومت حينئذ على الواطئ، وصار جميعها أم ولد له، وأما الولد، فهو حر، ونسبه لاحق بالواطئ، وهل تجب نصف قيمته؟ فيه روايتان: إحداهما: تجب، لأنه كان من سبيله أن يكون عبداً، فقد أتلف رقه بفعله، فكان عليه نصف قيمته. والثانية: لا تجب قيمته، لأنه انتقل نصيب شريكه إليه حين علقت به، ولا قيمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 له في تلك الحال، فلم يضمنه. وقال القاضي: والرواية الأولى أصح على المذهب، ويكون الواجب لأمه إن كانت في الكتابة، لأنه بدل ولدها. وقال أبو بكر: إن وضعته بعد التقويم، فلا شيء على الواطئ، لأنها وضعته في ملكه، وإن كان قبله، غرم نصف قيمته. فصل: فإن وطئها الثاني بعد وطء الأول، وكانت باقية على الكتابة، فعليه المهر لها. وإن كانت قد عجزت وقومت على الأول، فالمهر له. وإن لم تقوم على الأول، فمهرها بينهما، فإن أولدها الثاني بعد الحكم بأنها أم ولد الأول، لم تصر أم ولد للثاني، وحكم ولدها حكمها، كما لو ولدت من أجنبي، وإن كان قبل الحكم بأنها أم ولد للأول، صار نصفها أم ولد للثاني، ونصفها أم ولد للأول. فصل: ويجب على السيدة إيتاء المكاتب من المال قدر ربع الكتابة، لقول الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في هذه الآية: «يحط به الربع» أخرجه أبو بكر. وهذا نص. وروي موقوفاً على علي. ويخير السيد بين وضعه عنه، وبين دفعه إليه، لأن الله تعالى نص على الدفع إليه، فنبه به على الوضع، لكونه أنفع من الدفع، لتحقق النفع به في الكتابة، فإن اختار الدفع، جاز به العقد، للآية. ووقت الوجوب بعد العتق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] فإذا آتى ما عليه، عتق. وقال علي: الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني، ويجب الإيتاء من جنس مال الكتابة، للآية. فإن اتفقا على غير ذلك، جاز، لأن الحق لهما، فجاز باتفاقهما. وإن مات السيد بعد العتق وقبل الإيتاء، فذلك دين في تركته يحاص به غرماؤه، لأنه حق لآدمي فلم يسقط بالموت، كسائر حقوقه. [ باب الأداء والعجز في الكتابة ] باب الأداء والعجز لا يعتق المكاتب حتى يبرأ من مال الكتابة، بالأداء أو الإبراء، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم» رواه أبو داود. وقال أصحابنا: إذا أدى ثلاث أرباع كتابته وعجز عن الربع، عتق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 لأنه حق له، فلا تتوقف حريته على أدائه، كأرش جناية سيده عليه. وإن أبرأه سيده، عتق لأنه لم يبق عليه شيء. فصل: وإن عجلت الكتابة قبل محلها وفي قبضها ضرر، لم يلزمه قبضه قبل محله، كالسلم. وإن لم يكن في قبضه ضرر، لزمه قبضه وعتق العبد، لأن الأجل حق لمن عليه الدين. فإذا رضي بإسقاط حقه، يجب أن يسقط كسائر الحقوق. وعنه: لا يلزمه قبضه، لأن بقاء المكاتب في هذه المدة في ملكه حق له، ولم يرض بزواله، فلم يزل، كما لو علق عتقه بمضي تلك المدة. وعنه: أنه يعتق إذا ملك ما يؤدي، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. فعلى هذا إن امتنع من الأداء، أجبره الحاكم عليه. فصل وإذا حل نجم فعجز عن أدائه، فللسيد الفسخ، لأنه تعذر العوض في عقد معاوضة، ووجد عين ماله، فكان له الرجوع، كما لو باع سلعة فأفلس المشتري قبل تقديمها. وعنه: لا يعجز حتى يحل نجمان، لأن ما بينهما محل الأداء الأول، فلا يتحقق عجزه حتى يحل الثاني. وعنه: لا يعجز حتى يقول: قد عجزت، وللسيد الفسخ بغير حاكم، لأنه مجمع عليه، أشبه الرد بالعيب. وإن امتنع العبد من الأداء مع إمكانه، فظاهر كلام الخرقي: أن للسيد الفسخ، وهو قول جماعة من أصحابنا، لأن التعذر حاصل بالامتناع، كحصوله بالعجز. وقال أبو بكر: ليس له الفسخ، لأنه أمكن الاستيفاء بإجباره على ذلك، وتعذر البعض كتعذر الجميع. فصل: وإن كان معه متاع يريد بيعه فاستنظره لبيعه، لزمه إنظاره، لأنه أمكن الاستيفاء من غير ضرر. ولا يلزمه إنظاره أكثر من ثلاث، لأنها قريبة، وإن كان له مال غائب، يرجو قدومه فيما دون مسافة القصر، فكذلك، وإن كان أبعد، لم يلزمه إنظاره، لأن فيه ضرراً. وإن كان له دين حال على مليء، أو في يد مودع، فهو كالغائب القريب. وإن كان على معسر، أو مؤجلاً، فهو كالبعيد. وإن حل النجم والمكاتب غائب بغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 إذن سيده، فله الفسخ. وإن كان بإذنه، لم يفسخ، ويرفع الأمر إلى الحاكم ليكتب كتاباً إلى حاكم ذلك البلد، ليأمره بالأداء، أو يثبت عجزه عنده، فيفسخ حينئذ، وإن حل والمكاتب مجنون معه مال، فسلمه إلى المولى، عتق، لأنه قبض ما يستحقه، فبرئت به ذمة الغريم، فإن لم يكن معه شيء، فلسيده الفسخ. وإن فسخ ثم ظهر له مال، نقض الحكم بالفسخ، لأننا حكمنا بالعجز في الظاهر، وقد بان خلافه، فنقض، كما لو حكم الحاكم، ثم وجد النص بخلافه، وإن كان قد أنفق عليه بعد الفسخ، رجع بما أنفق، لأنه لم يتبرع به، بل أنفق على أنه عبده. وإن أفاق بعد الفسخ فأقام بينة أنه كان قد أدى، نقض الحكم بالفسخ، ولم يرجع السيد بالنفقة، لأنه تبرع بإنفاقه عليه، مع علمه بحريته. فصل: وإن أحضر المكاتب المال، فقال السيد: هذا حرام، وأنكر المكاتب ولا بينة، فالقول قول المكاتب مع يمينه، لأنه في يده، فالظاهر أنه له. فإذا حلف، خير المولى بين أخذه أو إبرائه من مال الكتابة. فإن لم يفعل قبضه الحاكم، لأنه حق تدخله النيابة. فإذا امتنع منه، قام الحاكم مقامه، وكذلك إن عجلت الكاتبة قبل محلها - وقلنا: يلزمه أخذه - فامتنع، قام الحاكم مقامه، وروي أن رجلاً أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إني كاتبت على كذا وكذا، وإني أيسرت بالمال، فأتيته بالمال، فزعم أنه لا يأخذه إلا نجوماً، فقال عمر: يا برفأ خذ هذا المال فاجعله في بيت المال، وأد إليه نجوماً في كل عام، وقد عتق هذا. رواه الأثرم. فصل: فإذا أدى المكاتب ظاهراً فبان مستحقاً، تبينا أنه لم يعتق، لأن العتق بالأداء، وما أدى. وإن علم بعد الموت، فتركته لمولاه أو ورثته، لأنه مات على الرق. وإن ظهر به عيب، فللسيد الرد والمطالبة بالأرش. فإن رضي به معيباً، استقر العتق. وإن طلب الأرش فأدى إليه، استقر العتق. وإن لم يؤد إليه بطل العتق، لأن ذمته لم تتم براءتها من المال. وإن رد المعيب بطل العتق، إلا أن يعطيه بدله. وقال أبو الخطاب: لا يرتفع العتق، وله قيمة المعيب أو أرشه إن أمسكه. وإن كاتب على خدمة شهر فمرض فيه، لم يقع العتق، لعدم العوض. فصل: وإن باع ما في ذمة المكاتب، لم يصح، لأنه بيع دين، لا سيما وهو غير مستقر، فإن قبضه المشتري، لم يعتق المكاتب، لأنه لم يقبضه السيد، ولا وكيله وإنما قبضه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 المشتري لنفسه، وهو لا يستحقه. وفيه وجه آخر: أنه يعتق، لأن السيد أذن للمشتري في قبضه، فكان قبضه كقبض وكيله. فصل: إذا جنى المكاتب بدئ بجنايته قبل كتابته، لأن جنايته تقدم على حق المالك إذا كان قناً، فعلى حقه إذا كان مكاتباً أولى. فإن أداهما، عتق، وإن عجز عن أدائهما، فلكل واحد منهما تعجيزه، فإن عجزه ولي الجناية، بيع فيها إن استغرقته، وإلا بيع منه بقدر جنايته، وباقيه على الكتابة، متى أدى كتابة باقية عتق. وهل يسري عتقه ويقوم على سيده إن كان موسراً؟ على وجهين. وإن عجزه السيد عاد قناً وخير بين فدائه أو تسليمه، كعبده القن، فإن أعتقه السيد، فعليه فداؤه أيضاً، لأنه أتلف محل الحق. وإن كان عليه دين من معاملة، بدئ بقضائه مما في يده، لأنه يتعلق بما في يده، ويختص به. والسيد والمجني عليه يرجعان إلى رقبته. فإن فضل شيء، قدم ولي الجناية. وإن لم يكن له مال، لم يملك الغريم تعجيزه، لأن حقه في الذمة، فلا فائدة في تعجيزه، بل تركه على الكتابة أنفع له، لأنه ربما اكتسب بما يعطيه، فكان أولى. [ باب الكتابة الفاسدة ] إذا كاتبه على عوض محرم، أو مجهول، فالعقد فاسد. وإن شرطا شرطاً فاسداً، مثل أن يشرط أن يوالي من شاء من ميراثه، فالعقد صحيح، لأن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كان في بريرة ثلاث قضيات، أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا الولاء، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق» متفق عليه. فحكم بفساد الشرط مع أمره بالشراء، ويتخرج فساد العقد بناء على فساد البيع به، وإن شرط عليه أن لا يسافر ولا يطلب الصدقة، فالعقد صحيح. وفي الشرط روايتان: إحداهما: هو صحيح، لأن فيه غرضاً صحيحاً للسيد، وهو صيانته عن أكل الصدقة، وصيانة عبده عن التغرير بالسفر. والثانية: هو باطل، لأنه ينافي مقتضى العقد، وهو تمكينه من الكسب، وأخذ ما فرض الله له من الصدقات. فصل: ومتى فسد العقد، فللسيد الفسخ، لأنه عقد فاسد لا حرمة له، وسواء كان فيه صفة، كقوله: إن أديت إلي، فأنت حر، أو لم تكن، لأن المقصود المعاوضة، فصارت الصفة مثبتة عليها، بخلاف الصفة المجردة. وله فسخ العقد بنفسه، لأنه مجمع عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وتنفسخ بموت السيد، وجنونه، والحجر عليه لسفه، لأنه عقد غير لازم فأشبه الوكالة، وقال أبو بكر: لا تنفسخ بذلك، ولا تبطل بجنون العبد، لأنه لازم من جهته، فأشبه العتق المعلق بالصفة. وإن أدى ما كوتب عليه عتق، لأن الكتابة جمعت معاوضة وصفة، فإذا بطلت المعاوضة، بقيت الصفة، فعتق بها. وإن أدى إلى غير كاتبه، أو أبرأه السيد مما عليه، لم يعتق، لأن الصفة لم توجد. وقال أبو بكر: يعتق بالأداء إلى الوارث، لأنه قام مقام المورث. وإذا عتق فله ما فضل في يده من الكسب. ويتبع الجارية ولدها، لأنها أجريت مجرى الصحيحة في العتق، فتجري مجراها فيما ذكرنا. وفيه وجه آخر: لا يتبعها ولدها ولا فضلة كسبها، لأن عتقها بالصفة دون الكتابة. ولا يرجع السيد على العبد بشيء، لأنها إما عتق بصفة، وإما مجراه مجرى الكتابة الصحيحة، وكلاهما لا يثبت فيه التراجع. [ باب جامع الكتابة ] تصح كتابة بعض العبد، لأنه عقد معاوضة على نصيب المكاتب، فصح كبيعه. وإذا كاتبه وكان باقيه حراً فأدى، كملت له الحرية. وإن كان باقيه قناً، لم تسر الكتابة إليه، لأنه عقد معاوضة، فأشبه البيع، ويصير شريكاً لمالك باقيه في نفسه. فإذا أدى ما كوتب عليه ومثله لمالك باقيه، عتق وسرى العتق إلى سائره إن كان جميعه للمكاتب، وإن كان لغيره والمكاتب موسر، عتق جميعه، وإن كان معسراً، لم يعتق إلا ما كاتبه كالإعتاق المنجز. وإذا أذن له شريك المكاتب في الأداء من جميع كسبه، عتق بأدائه، كما لو أدى إليها. وإن كان باقيه مكاتباً، أو كاتب السيدين معاً، جاز، سواء اتفق العوضان أو اختلفا، لأنه عقد معاوضة فأشبه البيع. ولا يملك أن يؤدي إلى أحدهما أكثر مما يؤدي إلى صاحبه، لأنهما سواء في كسبه، إلا أن يأذن أحدهما في تعجيل حق الآخر فيجوز. وذكر أبو بكر وجهاً آخر: أنه لا يجوز تخصيص أحدهما بالأداء وإن أذن الآخر فيه، لأن حقه في ذمته لا فيما في يده، فلم ينفع إذنه فيه، والأول أصح، لأن المنع لحقه، فجاز بإذنه. فإن أدى إليهما في حال واحدة، عتق عليهما وولاؤه لهما. وإن أدى أحدهما قبل الآخر بإذنه، أو لكون نصيب المؤدى إليه من العوض أقل، عتق نصيبه وسرى إلى نصيب الآخر إن كان موسراً في قول الخرقي، لأنه أعتق شركاً له في عبد، وهو موسر، فعتق عليه كله، لحديث ابن عمر. وقال أبو بكر: لا يسري في الحال، لأن في سرايته إبطال نصيب صاحبه من الولاء الذي انعقد سببه، وهكذا الخلاف فيما إذا عتق أحدهما نصيبه بالمباشرة، وفيما إذا كان نصفه قناً فأعتقه صاحب القن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 فصل: ويجوز أن يكاتب جماعة من عبيده صفقة واحدة بعوض واحد، لأن العوض بجملته معلوم، فصح، كما لو باع عبدين بثمن واحد، ويصير كل واحد منهم مكاتباً بحصته من العوض، يقسم بينهم على قدر قيمتهم حين العقد، لأنه عوض، فيسقط على المعوض بالقيمة، كما لو اشترى شقصاً وسيفاً. قال أبو بكر: ويتوجه لأبي عبد الله قول آخر: إن العوض بينهم على عددهم، لأنه أضيف إليهم إضافة واحدة، فكان بينهم على السواء، كما لو أقر لهم بشيء، والأول أصح. وتعتبر قيمتهم حال العقد، لأنه حال زوال سلطانه عنهم. وأيهم أدى عتق، لأنه أدى ما عليه فعتق، كما لو انفرد. وقال ابن أبى موسى: لا يعتق حتى تؤدى جميع الكتابة. وإن مات بعضهم، سقط من مال الكتابة بقدر حصته، والأول أصح. فصل وإذا كاتب السيد عبده، فماله لسيده، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» ولأنه عقد يزيل ملك السيد عن إكسابه فأشبه البيع. [ باب اختلاف السيد ومكاتبه ] إذا اختلفا في أصل العقد، فالقول قول السيد مع يمينه، لأن الأصل عدمه. وإن اختلفا في قدر مال الكتابة أو أجله، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: القول قول السيد، لأنهما اختلفا في الكتابة، فأشبه ما لو اختلفا في عقدها. والثانية: القول قول المكاتب، لأن الأصل عدم الزيادة المختلف فيها. والثالثة: يتحالفان، لأنهما اختلفا في قدر العوض، فيتحالفان، كما لو اختلفا في ثمن المبيع: فإذا تحالفا قبل العتق، فسخنا العقد، إلا أن يرضى أحدهما بما قال صاحبه. وإن كان التحالف بعد العتق، رجع السيد على العبد بقيمته، ورجع العبد بما أداه على سيده. فصل: وإن وضع السيد عن العبد بعض نجومه، أو أبرأه منه، واختلفا في أي النجوم هو، فالقول قول السيد، لأنهما اختلفا في فعله. وإن وضع عنه دراهم والكتابة على دنانير، لم يصح، لأنه وضع عنه غير ما عليه. فإن قال العبد: إنما أردت دنانير بقيمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 الدراهم، فأنكره السيد، فالقول قول السيد، لأن الظاهر معه، وهو أعلم بما عنى. وإن أدى كتابته، فقال السيد: أنت حر، ثم بان مستحقاً، لم يعتق، لأن الظاهر أنه قصد إلى الخبر بناء على ظنه، وقد بان خلافه، فإن قال العبد: أردت عتقي، فأنكر السيد، فالقول قوله، لأنه أعلم بقصده، وإن ادعى العبد وفاء الكتابة فأنكره السيد، فالقول قول السيد، لأن الأصل عدم الوفاء. وإن قال السيد: استوفيت، فادعى المكاتب أنه وفاه الجميع، وقال السيد: إنما وفيتني البعض، فالقول قول السيد، لأن الاستيفاء لا يقتضي الجميع. فصل: فإن كان للمكاتبة ولد فقالت: ولدته في الكتابة، فقال السيد: بل قبلها، فالقول قول السيد: لأنه اختلاف في وقت الكتابة، والأصل عدمها قبل الولادة. وإن زوج السيد مكاتبه أمته، فولدت منه: واشترى زوجته، فقال السيد: ولدته قبل الشراء، وقال المكاتب: بل بعده، احتمل أن تكون كالتي قبلها، واحتمل أن يكون القول قول العبد، لأن هذا اختلاف في الملك، والظاهر مع العبد، لأنه في يده. بخلاف التي قبلها، لأنهما لم يختلفا في الملك، إنما اختلفا في وقت العقد. فصل: فإذا أدى أحد المكاتبين إلى السيد أو أبرأه فادعى كل واحد من المكاتبين أنه المؤدي، أو المبرأ، فالقول قول السيد في التعيين، لأنه لو أنكرهما، كان القول قوله. فإذا أنكر أحدهما، قبل قوله، وعليه اليمين له، فإن نكل قضي عليه، وعتقا جميعاً، فإن قال: لا أعلم أيكما المؤدي، فعليه اليمين أنه لا يعلم، فيقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف وعتق، وبقي الآخر على الكتابة، وكذلك إن مات السيد قبل التعيين، قرع بينهما، لأنهما تساويا في احتمال الحرية، فأشبه ما لو أعتق أحدهما وأنسيه. فصل: إذا كاتب عبيداً كتابة واحدة، فأدوا، عتقوا. فقال من كثرت قيمته: أدينا على قدر قيمنا، وقال الآخر: بل أدينا على السواء، فبقيت لنا على الأكثر بقية، فمن جعل العوض بينهم على عدد رؤوسهم قال: القول قول من ادعى التسوية، ومن جعل على كل واحد قدر حصته، فعنده فيه وجهان: أحدهما: القول قول من يدعي، التسوية، لأن أيديهم على المال فيتساوون فيه. والثاني: القول قول الآخر، لأن الظاهر أن الإنسان لا يؤدي إلا ما عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 فصل: وإذا كاتب رجلان عبداً بينهما، فادعى أنه أدى إليهما، فصدقه أحدهما، وأنكر الآخر، عتق نصيب المقر، وحلف الآخر، وبقيت حصته على الكتابة، وله مطالبة المقر بنصف ما قبض، لحصول حقه في يده، ومطالبة المكاتب بالباقي، وله مطالبة المكاتب بالجميع، لأنه لم يدفع إليه حقه، ولا إلى وكيله، فإذا قبض، عتق المكاتب، ومن أيهما أخذ، لم يرجع به المقبوض منه على الآخر، لأنه يقر ببراءة صاحبه، ويدعي أن المنكر ظلمه، فلا يرجع بما ظلمه به على غيره. فإن عجز المكاتب، عجزه ورق نصفه، ولم يسر عتق الآخر، لأنه لا يعترف بعتقه ولا العبد أيضاً، ولا يعترف المنكر بعتق شيء منه، وإن شهد المصدق له. فقال الخرقي: تقبل شهادته له في العتق، لأنه لا نفع له فيه، ولا تقبل شهادته فيما يرجع إلى براءته من مشاركة صاحبه. وقياس المذهب أنه لا تقبل شهادته في العتق أيضاً، لأن من شهد بشهادة يجر إلى نفسه نفعاً، بطلت شهادته في الكل. وإن ادعى المكاتب، ودفع جميع المال إلى أحدهما، ليأخذ نصيبه منه، ويدفع باقيه إلى شريكه. وقال المدعى عليه: بل دفعت إلى كل واحد منا حقه، فهي كالتي قبلها، إلا أن المنكر يأخذ حصته بلا يمين، لأنه لا يدعي واحد منهما دفع المال إليه، وإن قال المدعى عليه: قبضت المال، ودفعت إلى شريكي حصته، فأنكر شريكه، فعليه اليمين ها هنا، لأنه يدعي التسليم إليه. فإذا حلف، فله مطالبة من شاء منهما بجميع حقه. فإن أخذ من المكاتب، رجع على المقر، لأنه قبض منه، سواء صدقه المكاتب في الدفع إلى شريكه، أو كذبه، لتفريطه في ترك الإشهاد. فإن حصل للمنكر ماله من أحدهما، عتق. وإن عجز المكاتب، فللمنكر استرقاق نصفه، والرجوع على المقر بنصف ما قبض، لأنه استحق نصف كسبه، ويقوم على المقر، لأنه رقه كان بسبب منه، وهو التفريط. فصل وإذا خلف رجل ابنين وعبداً، فادعى العبد أن سيده كاتبه، فأنكراه، فالقول قولهما مع أيمانهما، لأن الأصل عدم الكتابة، ويحلفان على نفي العلم، لأنها يمين على فعل الغير. وإن صدقه أحدهما، أو نكل عن اليمين، وحلف الآخر، ثبتت الكتابة لنصفه. ومتى أدى إلى المقر، عتق نصيبه، ولم يسر إلى نصيب شريكه، لأنه لم يباشر العتق، ولم يتسبب إليه، إنما هو مقر بما فعل أبوه، وولاء نصفه الذي عتق للمقر، لأنه لا يدعيه غيره. وإن شهد المقر على المنكر، فشهادته مقبولة إن كان عدلاً، لأن لا يجر إلى نفسه نفعاً، ولا يدفع ضرراً. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 [ باب حكم أمهات الأولاد ] إذا أصاب الرجل أمته، فولدت منه ما يتبين فيه بعض خلق الإنسان، صارت له أم ولد، تعتق بموته من رأس المال، لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دبر منه» رواه أحمد، وابن ماجة. ولأنه إتلاف حصل بالاستمتاع، فحسب من رأس المال، كإتلاف ما يأكله. فأما إن علقت منه في غير ملكه، لم تعتق عليه، سواء ملكها حاملاً أو بعد الوضع، لأنها علقت بمملوك. فإذا كان الولد مملوكاً، فأمه أولى. وعنه: إن ملكها حاملاً فولدت عنده، صارت له أم ولد، لعموم الخبر. وقال القاضي: إن لم يطأها بعد ملكه لها، لم تصر أم ولد. وكذلك إن وطئها في ابتداء حملها، أو توسطه بعد ملكه لها، صارت أم ولد، لأن الماء يزيد في سمعه وبصره. وقد قال عمر: أبعدما اختلطت دماؤكم ودماؤهن، ولحومكم ولحومهن، بعتموهن؟ ! فعلل بالاختلاط وقد وجد. وإن ولدت منه في غير ملكه بنكاح، أو زنا، ثم ملكها، لم تصر أم ولد، لأن ولدها مملوك لسيد الأمة. ونقل ابن أبي موسى: أنها تصير أم ولد، لما ذكرناه. والأول المذهب. فصل فإن أسقطت ولداً ميتاً، فهو كالحي في ذلك، لأنه ولد. وإن أسقطت جزءاً منه، كيد، ورجل، فهي أم ولد، لأنه من ولد. وإن ألقت نطفة أو علقة، لم تصر أم ولد، لأنه ليس بولد. وإن وضعت ما يتحقق فيه تخطيط، من رأس، أو يد، أو رجل، أو عين، فهو ولد. وإن ألقت مضغة، فشهدت ثقة من القوابل أنه تخطط، أو تصور، ثبت أنه ولد. وإن لم يتخطط ويتصور، فشهدت أنه بدو خلق آدمي، ففيه روايتان: إحداهما: لا تصير أم ولد، لأنه ليس بولد، أشبه النطفة، والأخرى هي أم ولد، لأنه بدو خلق بشر، أشبه المتخطط. فصل ويملك الرجل استخدام أم ولده، وإجارتها ووطأها، وتزويجها، وحكمها حكم الإماء في صلاتها وغيرها، لأنها باقية على ملكه، إنما تعتق بعد الموت بدليل حديث ابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 فصل ولا يملك بيعها ولا هبتها، ولا التصرف في رقبتها، لما روى سعيد بن منصور بإسناده عن عبيدة. قال: خطب علي الناس فقال: شاورني عمر في أمهات الأولاد، فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن، فقضى به عمر حياته، وعثمان حياته، فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال عبيدة: فرأي عمر وعلي في الجماعة أحب إلينا من رأي علي وحده، وروي عنه أنه قال: بعث إلي علي وإلى شريح أن اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف. وروى صالح عن أحمد أنه قال: أكره بيعهن، وقد باع علي بن أبي طالب. قال أبو الخطاب: فظاهر هذا أنه يصح البيع مع الكراهة، والمذهب الأول. فصل وإن ولدت من غير سيدها، فله حكمها، يعتق بموت سيدها، سواء عتقت أو ماتت قبله، لأن الاستيلاد كالعتق المنجز، ولا يبطل الحكم فيه بموتها، لأنه استقر في حياتها فلم يسقط بموتها، كولد المدبرة. فصل وإن أسلمت أم ولد الذمي، لم تعتق. ونقل عنه منها: أنها تعتق، لأنه لا يجوز إقرار ملك كافر على مسلمة، ولا سبيل إلى إزالته بغير العتق. وعنه: أنها تستسعى في قيمتها ثم تعتق، والمذهب الأول. قال أبو بكر: الذي تقتضيه أصول أبي عبد الله أنها لا تعتق، لأنه سبب يقتضي العتق بعد الموت، فلم يتجزأ بالإسلام، كالتدبير، ولكن تزال يده عنها، ويحال بينه وبينها، لأن المسلمة لا تحل لكافر، وتسلم إلى امرأة ثقة، ونفقتها في كسبها، وما فضل منه، فهو لسيدها. وإن لم يف بنفقتها، فعلى سيدها تمامها في إحدى الروايتين، وهو قول الخرقي، لأنها مملوكته. والثانية: لا يلزمه ذلك، لأنه منع الانتفاع بها. فإن أسلم حلت له، وإن مات عتقت. فصل وإن جنت، لزم سيدها فداؤها، لأنه منع من بيعها بالإحبال، ولم تبلغ حالاً تتعلق بذمتها، فأشبه ما لو امتنع من تسليم عبده القن، ويفديها بأقل الأمرين من قيمتها، أو أرش جنايتها، لأنه لا يمكن بيعها. وعنه: يفديها بأرش جنايتها بالغة ما بلغت. حكاها أبو بكر، لأنه ممنوع من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 تسليمها. فإن عادت فجنت، فداها كما وصفت، لأن الموجب لفدائها وجد في الثانية كوجوده في الأول، فوجب استواؤهما في الفداء، لاستوائهما في مقتضيه. فصل وإن جنت أم ولد على سيدها فيما دون النفس، فهو كجناية القن سواء. وإن قتلته، عتقت، لأنه زال ملكه بموته، ولا يمكن نقل الملك. فإن كانت جنايتها عمداً، فللأولياء القصاص منها. وإن كانت غير موجبة له، فسقط بالعفو، فعليها قيمة نفسها، لأنها جناية أم ولد، فلم يجب أكثر من قيمتها، كالجناية على الأجنبي. وإن ورث ولدها شيئاً من القصاص الواجب عليها، سقط كله، لأنه لا يتبعض، وصار الأمر إلى القيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 [ كتاب النكاح ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب النكاح النكاح مشروع، أمر الله به ورسوله، فقال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . وقال سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فليصم، فإن الصوم له وجاء» وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إني أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» . وقال سعد بن أبي وقاص: «لقد رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أحله له لاختصينا» . متفق عليهما، والتبتل: ترك النكاح. وقد روي عن أحمد: أن النكاح واجب. اختاره أبو بكر لظاهر هذه النصوص فظاهر المذهب أنه لا يجب إلا على من يخاف بتركه مواقعة المحظور، فيلزمه النكاح؛ لأنه يجب عليه اجتناب المحظور، وطريقه النكاح. ولا يجب على غيره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ولو وجب لم يعلقه على الاستطابة. والاشتغال به أفضل من التخلي للعبادة، لظاهر الأخبار. فإن أقل أحوالها الندب إلى النكاح، والكراهة لتركه. إلا أن يكون ممن لا شهوة له، كالعنين والشيخ الكبير، ففيه وجهان: أحدهما: النكاح له أفضل؛ لدخوله في عموم الأخبار. والثاني: تركه أفضل؛ لأنه لا يحصل منه مصلحة النكاح، ويمنع زوجته من التحصن بغيره، ويُلزم نفسه واجبات وحقوق لعله يعجز عنها. فصل: ولا يصح إلا من جائز التصرف؛ لأنه عقد معاوضة فأشبه البيع، ولا يصح نكاح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 العبد بغير إذن مولاه، لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن؛ ولأنه ينقص قيمته، ويوجب المهر والنفقة، وفيه ضرر على سيده، فلم يجز بغير إذنه كبيعه. وعنه: أنه يصح ويقف على إجازة مولاه، بناء على تصرفات الفضولي، ويجوز نكاحه بإذن مولاه؛ لدلالة الحديث، ولأن المنع لحقه فزال بإذنه. فصل: ومن أراد نكاح امرأة فله النظر إليها، لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خطب أحدكم امرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» رواه أبو داود. وينظر إلى الوجه؛ لأنه مجمع المحاسن، وموضع النظر، وليس بعورة وفي النظر إلى ما يظهر عادة من الكفين والقدمين، ونحوهما روايتان: إحداهما: يباح؛ لأنه يظهر عادة، أشبه الوجه. والثانية: لا يباح لأنه عورة، أشبه ما لا يظهر، ولا يجوز النظر إلى ما لا يظهر عادة؛ لأنه عورة، ولا حاجة إلى نظره، ويجوز النظر إليها بإذنها، وبغير إذنها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق النظر، فلا يجوز تقييده. وفي حديث جابر قال: فخطبت امرأة، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها. وليس له الخلوة بها؛ لأن الخبر إنما ورد بالنظر، فبقيت الخلوة على أصل التحريم. ويجوز لمن أراد شراء جارية النظر منها إلى ما عدا عورتها، للحاجة إلى معرفتها، ويجوز للرجل النظر إلى وجه من يعاملها لحاجته إلى معرفتها؛ للمطالبة بحقوق العقد. ويجوز ذلك عند الشهادة للحاجة إلى معرفتها للتحمل والأداء. ويجوز للطبيب النظر إلى ما تدعو الحاجة إلى مداواته، من بدنها حتى الفرج؛ لأنه موضع ضرورة، فأشبه الحاجة إلى الختان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 فصل: وله أن ينظر من ذوات محارمه، إلى ما يظهر غالباً، كالرأس، والرقبة، والكفين والقدمين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] وقال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] . وذات المحرم: من تحرم عليه على التأبيد، بنسب أو سبب مباح، كأم الزوجة وابنتها، فأما أم المزني بها والموطوءة بشبهة، وبنتها فلا يباح النظر إليها؛ لأنها حرمت بسبب غير مباح، فلا تلحق بذوات الأنساب. وأما عبد المرأة فليس بمحرم لها؛ لأنها لا تحرم عليه على التأبيد، لكن يباح له النظر إلى ما يظهر منها غالباً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] وروت أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب، فملك ما يؤدي فلتحتجب منه» رواه الترمذي. وقال: حديث صحيح. وفيه دلالة على أنها لا تحتجب منه قبل ذلك؛ ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لحاجتها لخدمته، فأشبه ذا المحرم. فصل: ومن لا تمييز له من الأطفال لا يجب التستر منه في شيء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] . وفي المميز روايتان: إحداهما: هو كالبالغ لهذه الآية. والثانية: هو كذي المحرم لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58] إلى قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] ثم قال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] ففرق بينه وبين البالغ. وحكم الطفلة التي لا تصلح للنكاح مع الرجال حكم الطفل من النساء، والتي صلحت للنكاح، كالمميز من الأطفال، لما روى أبو بكر بإسناده: «أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثياب رقاق، فأعرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 عنها وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرَى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» . فصل: والعجوز التي لا تُشتهى مثلها يباح النظر منها إلى ما يظهر غالباً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] . قال ابن عباس استثناهن الله تعالى من قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] ؛ ولأن ما حرم من النظر لأجله معدوم في حقها، فأشبهت ذوات المحارم. وفي معناها: الشوهاء التي لا تُشتهى. ومن ذهبت شهوته من الرجال لكبر أو مرض، أو تخنيث فحكمه حكم ذي المحرم في النظر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] أي الذي لا إرب له في النساء، كذلك فسره مجاهد، وقتادة ونحوه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «دخل على أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخنث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ينعت امرأة قال: "إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان"، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا؟ ‍‍! لا يدخلن عليكم هذا» رواه أبو داود؛ فأجاز دخوله عليهن حين عده من غير أولي الإربة، فلما علم ذلك منه حجبه. فصل: ويباح لكل واحد من الزوجين النظر إلى جميع بدن صاحبه ولمسه، وكذلك السيد مع أمته المباحة له؛ لأنه أبيح له الاستمتاع به، فأبيح له النظر إليه، كالوجه. وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: «قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منا وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» . ويكره النظر إلى الفرج؛ فإن زَوَّجَ أمتَه حرم النظر منها إلى ما بين السرة والركبة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة فإنه عورة» رواه أبو داود. فصل: فأما الرجل مع الرجل فلكل واحد منهما النظر من صاحبه إلى ما ليس بعورة؛ لأن تخصيص العورة بالنهي دليل على إباحة النظر إلى غيرها. ويكره النظر إلى الغلام الجميل؛ لأنه لا يأمن الفتنة بالنظر إليه، والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، والمسلمة مع الكافرة كالمسلمتين، كما أن المسلم مع الكافر كالمسلمين. وعنه: إن المسلمة لا تكشف قناعها عند الذمية، ولا تدخل معها الحمام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] فتخصيصهن بالذكر يدل على اختصاصهن بذلك. فصل: وفي نظر المرأة إلى الرجل روايتان: إحداهما: يحرم عليها من ذلك ما يحرم عليه، لما روت أم سلمة قالت: «كنت قاعدة عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وحفصة، فاستأذن ابن أم مكتوم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احتجبن منه فقلت: يا رسول لله، ضرير لا يبصر. فقال: أفعمياوان أنتما، ألا تبصرانه» أخرجه أبو داود وقال النسائي: حديث صحيح. والثانية: يجوز لها النظر منه إلى ما ليس بعورة، لما روت فاطمة بنت قيس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك فلا يراك» وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد» . متفق عليهما، وهذا أصح. وحديث أم سلمة يحتمل أنه خاص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 لأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإن قُدِّر عمومه، فهذه الأحاديث أصح منه، فتقديمها أولى. وكل من أبيح له النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به لم يجز له ذلك لشهوة وتلذذ؛ لأنه داعية إلى الفتنة. [ باب شرائط النكاح ] وهي خمسة. أحدها: الولي، فإن عقدته المرأة لنفسها، أو لغيرها بإذن وليها، أو بغير إذنه لم يصح، لما روت عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي» قال أحمد ويحيى: هذا حديث صحيح. وقد روي عن أحمد أن للمرأة تزويج معتقها، فيخرج من هذا صحة تزويجها لنفسها بإذن وليها، وتزويج غيرها بالوكالة، لما روت عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» رواه أبو داود والترمذي. فمفهومه صحته بإذنه، ولأن المنع لحقه فجاز بإذنه، كنكاح العبد. والأول المذهب، لعموم الخبر الأول؛ ولأن المرأة غير مأمونة على البضع، لنقص عقلها، وسرعة انخداعها، فلم يجز تفويضه إليها، كالمبذر في المال، بخلاف العبد، فإن المنع لحق المولى خاصة، وإنما ذكر تزويجها بغير إذن وليها؛ لأنه الغالب، إذ لو رضي لكان هو المباشر له دونها. فصل: فإن تزوج بغير إذن ولي، فالنكاح فاسد، لا يحل الوطء فيه، وعليه فراقها؛ وإن وطئ فلا حد عليه في ظاهر كلام أحمد؛ لأنه وطء مختلف في حله، فلم يجب به حد، كوطء التي تزوجها في عدة أختها. وذكر عن ابن حامد: أنه أوجب به الحد؛ لأنه وطء في نكاح منصوص على بطلانه، أشبه ما لو تزوج ذات زوج. وإن حكم بصحة هذا العقد حاكم ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز نقضه؛ لأنه حكم مختلف فيه فأشبه الشفعة للجار. والثاني: ينقض؛ لأنه خالف النص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 فصل: فإن كانت أمة فوليها سيدها؛ لأنه عقد على نفعها، فكان إلى سيدها كإجارتها، فإن كان لها سيدان لم يجز تزويجها إلا بإذنهما. وإن كانت سيدتها امرأة فوليها ولي سيدتها يزوجها بإذن سيدتها لأنه تصرف فيها فلم يجز بغير إذنه، كبيعها. وعنه رواية أخرى: أن مولاتها تأذن لرجل فيزوجها؛ لأن سبب الولاية الملك، وقد تحقق في المرأة، وامتنعت المباشرة لنقص الأنوثة فكان لها التوكيل، كالولي الغائب، ونقل عنه: أنه قيل له: هل تزوج المرأة أمتها؟ قال: قد قيل ذلك، هي مالها. وهذا يحتمل رواية ثالثة. فإن كانت سيدتها غير رشيدة، أو كانت لغلام أو لمجنون فوليها من يلي مالهم؛ لأنه تصرف في بعضها، أشبه إجارتها. فصل: وإن كانت حرة فأولى الناس بها أبوها؛ لأنه أشفق عصباتها، ويلي مالها عند عدم رشدها. ثم الجد أبو الأب وإن علا؛ لأنه أب. وعنه: الابن يقدم على الجد؛ لأنه أقوى تعصيباً منه، وعنه: أن الأخ يقدم على الجد؛ لأنه يدلي ببنوة الأب، والبنوة أقوى. وعنه: أن الجد والأخ سواء، لاستوائهما في الإرث بالتعصيب. والمذهب الأول؛ لأن للجد إيلاداً وتعصيباً، فقدم عليهما كالأب، ولأنه لا يقاد بها، ولا يقطع بسرقة مالها بخلافهما. ثم ابنها، ثم ابنه وإن نزل؛ لأنه عدل من عصباتها فيلي نكاحها، كابنها. وقدم على سائر العصبات؛ لأنه أقربهم نسباً، وأقواهم تعصيباً فقدم كالأب. ثم الأخ، ثم ابنه، ثم العم، ثم ابنه، ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها على ترتيبهم في الميراث؛ لأن الولاية لدفع العار عن النسب، والنسب في العصبات. وقدم الأقرب فالأقرب؛ لأنه أقوى فقدم كتقديمه في الإرث، ولأنه أشفق فقدم كالأب. فإذا انقرض العصبة من النسب، فوليها المولى المعتق، ثم عصابته الأقرب فالأقرب، ثم مولى المولى، ثم عصباته؛ لأن الولاء كالنسب في التعصيب، فكان مثله في التزويج ويقدم ابن المولى على ابنه؛ لأنه أقوى تعصيباً، وإنما قدم الأب المناسب لزيادة شفقته، وتحكم الأصل على فرعه. وهذا معدوم في أبي المولى، فرجع فيه إلى الأصل. وإذا كان المعتق امرأة، فولي مولاتها أقرب عصباتها؛ لأنه لما لم يمكنها مباشرة نكاحها كانت كالمعدومة. وعنه: أنها تولي رجلاً في تزويجها، لما ذكرنا في أمتها. ثم السلطان، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 فصل: فإن استوى اثنان في الدرجة، وأحدهما من أبوين، والآخر من أب، كالأخوين، والعمين ففيه روايتان: إحداهما: يقدم ذو الأبوين. اختاره أبو بكر؛ لأنه حق يستفاد بالتعصيب فأشبه الميراث بالولاء. والثانية: هما سواء. اختارها الخرقي؛ لأن الولاية بقرابة الأب وهما سواء فيها، فإن كانا ابني عم، أحدهما أخ لأم، فذكر القاضي: أنهما كذلك. والصحيح أن الإخوة لا تؤثر في التقديم، لاستوائهما في التعصيب والإرث به، بخلاف التي قبلها من كل وجه، فإن استويا من كل وجه، فالولاية ثابتة لكل واحد منهما، أيهما زوج صح تزويجه؛ لأن السبب متحقق في كل واحدة، لكن يستحب تقديم أسنهما وأعلمهما وأتقاهما؛ لأنه أحوط للعقد في اجتماع شروطه والنظر في الحظ. فإن استويا وتشاحا، أقرع بينهما؛ لأنهما تساويا في الحق، وتعذر الجمع، فيقرع بينهما، كالمرأتين في السفر. فإن قرع أحدهما فزوج الآخر صح؛ لأن القرعة لم تبطل ولايته، فلم يبطل نكاحه. وذكر أبو الخطاب فيه وجهاً آخر: أنه لا يصح. فصل: فإن زوجها الوليان لرجلين دفعة واحدة، فهما باطلان؛ لأن الجمع يتعذر فبطلا، كالعقد على أختين، ولا حاجة إلى فسخهما لبطلانهما. وإن سبق أحدهما فالصحيح السابق، لما روى سمرة وعقبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما» رواه أبو داود؛ ولأن الأول: خلا عن مبطل والثاني: تزوج زوجة غيره، فكان باطلاً، كما لو علم. فإن دخل بها الثاني وهو لا يعلم أنها ذات زوج، فعليه مهرها؛ لأنه وطء بشبهة، وترد إلى الأول؛ لأنها زوجته، ولا يحل له وطؤها حتى تقضي عدتها من وطء الثاني، فإن جهل الأول منهما ففيه روايتان: إحداهما: يفسخ النكاحان؛ لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون نكاحه هو الصحيح، ولا سبيل إلى الجمع، ولا إلى معرفة الزوج فيفسخ لإزالة الزوجية، ثم لها أن تتزوج من شاءت منهما، أو من غيرهما. والثانية: يقرع بينهما. فمن خرجت له القرعة أمر صاحبه بالطلاق ثم يجدد القارع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 نكاحه، فإن كانت زوجته لم يضره ذلك، وإن لم تكن صارت زوجته بالتجديد، وكلا الطريقين لا بأس به. وسواء علم السابق ثم نسي، أو جهل الحال؛ لأن المعنى في الجميع واحد. وإن أقرت المرأة لأحدهما بالسبق لم يقبل إقرارها؛ لأن الخصم غيرها، فلم يقبل قولها عليه، كما لو أقرت ذات زوج لآخر أنه زوجها. وإن ادعى عليها العلم بالسابق، لم يلزمها يمين؛ لأنه من لا يقبل إقراره لا يستحلف في إنكاره. فصل: ويشترط للولي ثمانية شروط. أحدها: العقل، فلا يصح تزويج طفل، ولا مجنون. والثاني: الحرية. فلا ولاية لعبد. الثالث: الذكورية، فلا ولاية لامرأة؛ لأن هؤلاء لا يملكون تزويج أنفسهم، فلا يملكون تزويج غيرهم بطريق الأولى. الرابع: البلوغ: فلا يلي الصبي بحال. وعنه: أن الصبي المميز إذا بلغ عشراً صح تزويجه؛ لأنه يصح بيعه. والأول أولى؛ لأنه مولى عليه فلا يلي، كالمرأة. الخامس: اتفاق الدين. فلا يلي كافر مسلمة بحال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] إلا أم الولد الذمي المسلمة ففيها وجهان: أحدهما: يملك تزويجها؛ لأنه لا يملكها، فأشبه المسلم إذا كان سيده كافر. والثاني: لا يليه للآية، ويليه الحاكم ولا يلي مسلم كافرة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] إلا السلطان فإنه يلي نكاح الذمية التي لا ولي لها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السلطان ولي من لا ولي له» ؛ ولأن ولايته عامة عليهم. وسيد الأمة الكافرة يزوجها وإن كان مسلماً؛ لأنه عقد عليها، فوليه كبيعها، وولي سيد الكافرة أو سيدتها يزوجها؛ لأنه يقوم مقامهما. ويلي الكفار أهل دينهم، للآية التي تلوناها. وهل تعتبر عدالتهم في دينهم؟ على وجهين بناء على الروايتين في المسلمين. السادس: العدالة. فلا يلي الفاسق نكاح قريبته وإن كان أباً في إحدى الروايتين؛ لأنها ولاية نظرية، فنافاها الفسق، كولاية المال. والثانية: يلي لأنه قريب ناظر، فكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 ولياً كالعدل، ولأن حقيقة العدالة لا تعتبر، بل يكفي كونه مستور الحال. ولو اشترطت العدالة اعتبرت حقيقتها كما في الشهادة. السابع: التعصيب، أو ما يقوم مقامه، فلا تثبت الولاية لغيرهم، كالأخ من الأم والخال، وسائر من عدا العصبات؛ لأن الولاية تثبت لحفظ النسب، فيعتبر فيها المناسب، ولا تثبت الولاية للرجل على المرأة التي تسلم على يديه. وعنه: أنها تثبت. ووجه الروايتين ما ذكرنا في كتاب الولاء. الثامن: عدم من هو أولى منه. فلا تثبت الولاية للأبعد مع حضور الأقرب الذي اجتمعت الشروط فيه، لما ذكرنا في تقديم ولاية الأب. فإن مات الأقرب، أو جن، أو فسق انتقلت إلى من بعده؛ لأن ولايته بطلت، فانتقلت إلى الأبعد، كما لو مات. فإن عقل المجنون، وعدل الفاسق عادت ولايته، لزوال مزيلها مع وجود مقتضيها، فإن زوجها الأبعد من غير علم بعود ولاية الأقرب لم تصح ولاية زوجها بعد زوال ولايته، ويحتمل أن تصح، بناء على الوكيل إذا تصرف بعد العزل قبل علمه به. وإن دعت المرأة وليها إلى تزويجها من كفء فعضلها، فللأبعد تزويجها. نص عليه. وعنه: لا يزوجها إلا السلطان وهو اختيار أبي بكر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له» ؛ ولأن التزويج حق عليه امتنع منه، فقام الحاكم مقامه في إيفائه، كما لو كان عليه دين فامتنع من قضائه، واختار الخرقي الرواية الأولى؛ لأنه تعذر التزويج من جهة الأقرب فوليها الأبعد، كما لو فسق. والحديث دليل على أن السلطان لا يزوج هاهنا، لقوله: «فالسلطان ولي من لا ولي له» وإن غاب الأقرب غيبة منقطعة ولم يوكل في تزويجها، فللأبعد تزويجها، لما ذكرنا. والغيبة المنقطعة: ما لا تقطع إلا بكلفة ومشقة في منصوص أحمد، واختيار أبي بكر. وذكر الخرقي: أنها ما لا يصل الكتاب فيها إليه، أو يصل فلا يجيب عنه؛ لأن غير هذا يمكن مراجعته. وقال القاضي: حدها: ما لا تقطعها القافلة في السنة إلا مرة؛ لأن الكفء ينتظر عاماً ولا ينتظر أكثر منه. وقال أبو الخطاب: يحتمل أن يحدها بما تقصر فيه الصلاة؛ لأن أحمد قال: إذا كان الأب بعيد السفر، يزوج الأخ. والسفر البعيد في الشرع: ما علق عليه رخص السفر، والأولى المنصوص. والرد في هذا إلى العرف، وما جرت العادة بالانتظار فيه، والمراجعة لصاحبه، لعدم التحديد فيه من الشارع. فأما القريب فيجب انتظاره ومراجعته؛ لأنه في حكم الحاضر، إلا أن تتعذر مراجعته، لأسر أو حبس لا يوصل إليه ونحوهما، فيكون كالبعيد، لكونه في معناه. ولا يشترط في الولاية البصر؛ لأن شعيباً - عَلَيْهِ السَّلَامُ - زوج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 ابنته وهو أعمى لموسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولأن الأعمى من أهل الرواية والشهادة، فكان من أهل الولاية كالبصير. فأما الأخرس، فإن منع فهم الإشارة أزال الولاية، وإن لم يمنعها لم يزل الولاية؛ لأن الأخرس يصح تزوجه، فصح تزويجه كالناطق. فصل: وإذا زوج الأبعد مع حضور الأقرب وسلامته من الموانع، أو زوج أجنبي، أو زوجت المرأة المعتبر إذنها بغير إذنها، أو تزوج العبد بغير إذن سيده، فالنكاح باطل في أصح الروايتين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تزوج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر» وفي لفظ: «فنكاحه باطل» ولأنه نكاح لم تثبت أحكامه من الطلاق، والخلع، والتوارث فلم ينعقد كنكاح المعتدة. والثانية: هو موقوف على إجازة من له الإذن. فإن أجازه جاز، وإلا بطل لما ذكرناه في تصرف الفضولي في البيع، ولما روى ابن ماجه: «أن جارية بكراً أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه أبو داود. وقال: هذا حديث مرسل، رواه الناس عن عكرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكروا ابن عباس. فإن قلنا بهذه الرواية فإن الشهادة تعتبر حالة العقد؛ لأنها شرط له فتعتبر معه كالقبول. ويكفي في إذن المرأة النطق، أو ما يدل على الرضى تقوم مقام النطق به، بدليل «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبريرة: إن وطئك زوجك فلا خيار لك» فأما إن زوجت المرأة نفسها، أو زوجها طفل، أو مجنون، أو فاسق، فهو باطل لا يقف على الإجازة؛ لأنه تصرف صادر من غير أهله. وذكر أصحابنا: تزويجها لنفسها من جملة الصور المختلفة في وقوفها. والأولى أنها ليست منها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة زوجت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل» ولأنه تصرف لو قارنه الإذن لم يصح، فلم يصح بالإذن اللاحق، كتصرف المجنون. فصل: ولكل واحد من الأولياء أن يوكل في تزويج موليته، فيقوم وكيله مقامه حاضراً كان الموكل أو غائباً، ولا يعتبر إذن المرأة في التوكيل. وخرج القاضي ذلك على الروايتين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 في توكيل الوكيل من غير إذن الموكل، وليس كذلك، فإن الولي ليس بوكيل للمرأة، ولا تثبت ولايته من جهتها، فلم يقف جواز توكيله على إذنها، كالسلطان، ولأنه ولي في النكاح فملك الإذن فيه من غير إذنها، كالسلطان. ويجوز التوكيل في التزويج مطلقاً من غير تعيين الزوج؛ لأنه إذن في التزويج فجاز مطلقاً، كإذن المرأة. ويجوز التوكيل في تزويج معين، واختلفت الرواية هل تستفاد ولاية النكاح بالوصية؟ على روايتين. ذكرناهما في الوصايا. ولا يصير وصياً في النكاح بالوصية إليه في المال؛ لأنها إحدى الوصيتين فلم تملك بالأخرى، كالأخرى. فصل: وإذا لم يكن للمرأة ولي، ولا للبلد قاض ولا سلطان. فعن أحمد: ما يدل على أنه يجوز لها أن تأذن لرجل عدل يحتاط لها في الكفء والمهر، ويزوجها فإنه قال في دهقان قرية: يزوج المرأة إذا لم يكن في الرستاق قاض إذا احتاط لها في الكفء والمهر. ووجه ذلك أن اشتراط الولي هاهنا يمنع النكاح بالكلية، فوجب أن لا يشترط. وعنه: لا يصح إلا بولي لعموم الخبر. فصل: وإذا أراد ولي المرأة تزوجها، كابن عمها، أو مولاها جعل أمرها إلى من يزوجها منه بإذنها، لما روي أن المغيرة بن شعبة أمر رجلاً أن يزوجه امرأة المغيرة أولى بها منه، ولأنه وليها فجاز أن يتزوجها من وكيله، كالإمام. فإن زوج نفسه بإذنها ففيه روايتان إحداهما: لا يجوز لحديث المغيرة، ولأنه عقد ملكه بالإذن، فلم يجز أن يتولى طرفيه، كالوكيل في البيع. والثانية: يجوز، لما روي عن عبد الرحمن بن عوف: أنه قال لأم حكيم بنت قارظ أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم، فقال: قد تزوجتك، ولأنه صدر الإيجاب من الولي، والقبول من الأهل فصح، كما لو زوج الرجل عبده الصغير لأمته. وإن قال السيد: قد أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها. أو قال: قد جعلت عتق أمتي صداقها، ففيه روايتان: إحداهما: يصح العتق والنكاح، ويصير عتقها صداقها، لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها» متفق عليه. وفي رواية «أصدقها نفسها» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 والثانية: لا يصح حتى يبتدئ العقد عليها بإذنها؛ لأنه لم يوجد إيجاب ولا قبول، فلم يصح العقد، كما لو كانت حرة. فعلى هذا ينفذ العتق وعليها قيمة نفسها؛ لأنه إنما أعتقها بعوض لم يسلم له، ولم يمكن إبطال العتق، فرجعنا إلى القيمة. ولا يجوز لأحد أن يتولى طرفي العقد غير من ذكرنا، إلا السيد يزوج عبده من أمته. فإن كان وكيلاً للزوج والولي أو وكيلاً للزوج، ولياً للمرأة، أو وكيلاً للولي، ولياً للزوج ففيه وجهان: بناء على ما ذكرنا في الوكيل في البيع. فصل: الشرط الثاني من شرائط النكاح: أن يحضره شاهدان، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» رواه الخلال. وعن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا بد في النكاح من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدان» . رواه الدارقطني، وعن أحمد: أن الشهادة ليست شرطاً فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وتزوجها بغير شهود، ولأنه عقد معاوضة، فلم تشترط الشهادة فيه، كالبيع. فصل: ويشترط في الشهود سبع صفات: أحدها: العقل؛ لأن المجنون والطفل ليسا من أهل الشهادة. والثاني: السمع؛ لأن الأصم لا يسمع العقد فيشهد به. والثالث: النطق؛ لأن الخرس لا يتمكن من أداء الشهادة. الرابع: البلوغ؛ لأن الصبي لا شهادة له. وعنه: أنه ينعقد بحضور مراهقين، بناء على أنهما من أهل الشهادة، والأول أصح. الخامس: الإسلام. ويتخرج أن ينعقد نكاح المسلم للذمية بشهادة ذميين، بناء على قبول شهادة بعضهم على بعض. والأول المذهب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 السادس: العدالة للخبر، وعنه: ينعقد بحضور فاسقين؛ لأنه تحمل فلم تعتبر فيه العدالة كسائر التحملات. والأول أولى للخبر، ولأن من لا يثبت النكاح بقوله لا ينعقد بشهادته، كالصبي إلا أننا لا نعتبر العدالة باطناً. ويكفي أن يكون مستور الحال. وكذلك العدالة المشروطة في الولي؛ لأن النكاح يقع بين عامة الناس في مواضع لا تعرف فيها حقيقة العدالة، فاعتبار ذلك يشق. السابع: الذكورية. وعنه: ينعقد بشهادة رجل وامرأتين؛ لأنه عقد معاوضة أشبه البيع. والأول: المذهب، لما روى أبو عبيد في " الأموال " عن الزهري أنه قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق. وهل يشترط عدم العداوة والولادة؟ وهو أن لا يكون الشاهدان عدوين للزوجين، أو لأحدهما، ولا ابنين لهما، أو لأحدهما على وجهين. ولا تشترط الحرية، ولا البصر؛ لأنها شهادة لا توجب حداً، فقبلت شهادتهما فيه، كالشهادة عليه بالاستفاضة. ويعتبر أن يعرف الضرير المتعاقدين، ليشهد عليهما بقولهما. وهل يشترط كون الشاهد من غير أهل الصنائع الرزية، كالحجام ونحوه؟ على وجهين بناء على قبول شهادتهم. فصل: الشرط الثالث من شروط النكاح: تعيين الزوجين؛ لأن المقصود بالنكاح أعيانهما، فوجب تعيينهما. فإن كانت حاضرة فقال: زوجتك هذه صح؛ لأن الإشارة تكفي في التعيين. فإن زاد على ذلك فقال: ابنتي أو فاطمة كان تأكيداً. وإن سماها بغير اسمها صح؛ لأن الاسم لا حكم له مع الإشارة، فأشبه ما لو قال: زوجتك هذه الطويلة وهي قصيرة. وإن كانت غائبة، فقال: زوجتك ابنتي وليس له غيرها صح لحصول التعيين بتفردها بهذه الصفة المذكورة. وإن سماها باسمها، أو وصفها بصفتها كان تأكيداً. وإن سماها بغير اسمها صح أيضاً؛ لأن الاسم لا حكم له مع التعيين، فلا يؤثر الغلط فيه. وإن كان له ابنتان فقال: زوجتك ابنتي لم يصح حتى يسميها، أو يصفها بما تتميز به؛ لأن التعيين لا يحصل بدونه. فإن قال: ابنتي فاطمة، أو ابنتي الكبرى صح؛ لأنها تعينت به. وإن نويا ذلك من غير لفظ لم يصح؛ لأن الشهادة في النكاح شرط، ولا يقع إلا على اللفظ ولا تعيين فيه. وإن خطب الرجل امرأة فزوج غيرها لم ينعقد النكاح؛ لأنه ينوي القبول لغير ما وقع فيه الإيجاب فلم يصح، كما لو قال: قد زوجتك ابنتي فاطمة. فقال: قبلت تزويج عائشة، فإن كان له ابنتان كبرى اسمها عائشة وصغرى اسمها فاطمة، فقال: قبلت تزويج عائشة، فقبله الزوج ينويان الصغرى لم يصح؛ لأنهما لم يتلفظا بما تقع الشهادة عليه، ولم يذكر المنوية بما تتميز به. وإن نوى أحدهما الكبرى، والآخر الصغرى لم يصح؛ لأنه قبل النكاح في غير من وقع عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 الإيجاب. وإن قال: زوجتك حمل امرأتي لم يصح؛ لأنه لم يثبت لها حكم البنات قبل الولادة، ولا يتحقق كونها بنتاً. وإن قال: إن ولدت زوجتي بنتاً زوجتكها كان وعداً لا عقداً؛ لأن النكاح لا يتعلق على الشروط. فصل: الشرط الرابع من شروط النكاح: التراضي من الزوجين، أو من يقوم مقامهما؛ لأن العقد لهما، فاعتبر تراضيهما به كالبيع. فإن كان الزوج بالغاً عاقلاً لم يجز بغير رضاه. وإن كان عبداً لم يملك السيد إجباره عليه؛ لأنه خالص حقه، وهو من أهل مباشرته، فلم يجبر عليه كالطلاق. وإن كان العبد صغيراً فلسيده تزويجه؛ لأنه إذا ملك تزويج ابنه الصغير فعبده أولى. قال أبو الخطاب: ويحتمل أن لا يملكه أيضاً قياساً على الكبير، ويملك الأب تزويج ابنه الصغير الذي لم يبلغ، لما روي عن ابن عمر: أنه زوج ابنه وهو صغير فاختصموا إلى زيد، فأجازاه جميعاً. رواه الأثرم؛ ولأنه يتصرف في ماله بغير تولية فملك تزويجه، كابنته الصغيرة. وسواء كان عاقلا، أو معتوهاً؛ لأنه إذا ملك تزويج العاقل فالمعتوه أولى. ويملك الأب أيضاً تزويج ابنه البالغ المعتوه في ظاهر كلام أحمد والخرقي لأنه غير مكلف فأشبه الصغير. وقال القاضي: لا يجوز تزويجه، إلا إذا ظهر منه أمارات الشهوة، باتباع النساء ونحوه. فقال أبو بكر: لا يجوز تزويجه بحال؛ لأنه رجل فلم يجز تزويجه بغير إذنه، كالعاقل، والأول أولى؛ لأنه إذا جاز تزويج الصغير مع عدم حاجته إلى قضاء شهوته، وحفظه عن الزنى، فالبالغ أولى. ولا يجوز تزويجه، إلا إذا رأى وليه المصلحة في تزويجه، لاحتياجه إلى الحفظ والإيواء، أو قضاء الشهوة ونحو ذلك، فأما من له إفاقة في بعض أحيانه، فلا يجوز إجباره على النكاح لأنه يمكن استئذانه. ووصي الأب كالأب في تزويج الصغير والمعتوه؛ لأنه نائب عنه فأشبه الوكيل، ولا يملك غير الأب ووصيه تزويج صغير ولا معتوه؛ لأنه إذا لم يملك تزويج الأنثى مع قصورها، فالذكر أولى. وقال ابن حامد: للحاكم تزويج المعتوه الذي يشتهي النساء؛ لأنه يلي ماله، فملك تزويجه، كالوصي. وقال القاضي: له تزويج الصغير الذي يشتهي كذلك. ولا يجوز إذا رأى المصلحة في ذلك؛ لأنه ناظر له في مصالحه، وهذا منها، فأشبه عقده على ماله. فصل: فأما المرأة، فإن السيد يملك تزويج أمته بكراً كانت أو ثيباً، بغير رضاها؛ لأنه عقد على منافعها فملكه، كإجارتها. وأما الحرة فإن الأب يملك تزويج ابنته الصغيرة البكر بغير خلاف؛ «لأن أبا بكر الصديق زوج عائشة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي ابنة ست» . متفق عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 ولم يستأذنها وروى الأثرم: أن قدامة بن مظعون تزوج ابنة الزبير حين نفست. ولا يملك تزويج ابنته الثيب الكبيرة إلا بإذنها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأيم أحق بنفسها من وليها» وروى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس للولي من الثيب أمر» رواهما أبو داود. وفي البكر البالغة روايتان: إحداهما: له إجبارها، لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها» وإثباته الحق للأيم على الخصوص يدل على نفيه عن البكر. والثانية: لا يجوز تزويجها إلا بإذنها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تأذن، قالوا: يا رسول الله فكيف إذنها؟ قال: أن تسكت» متفق عليه. وأما الثيب الصغيرة، ففيها وجهان: أحدهما: لا يجوز تزويجها، لعموم الأحاديث فيها. والأخرى: يجوز تزويجها؛ لأنها ولد صغير فملك الأب تزويجها، كالغلام. والثيب: هي الموطوءة في فرجها حلالاً كان أو حراماً؛ لأنه لو أوصى للثيب بوصية دخل فيها من ذكرناه، ولا تدخل في وصيته الأبكار. ووصي الأب إذا نص له على التزويج، كالأب؛ لأنه قائم مقامه. فصل: فأما غيرهما، فلا يملك تزويج كبيرة إلا بإذنها، جداً كان أو غيره، لعموم الأحاديث، ولأنه قاصر عن الأب فلم يملك الإجبار، كالعم. وفي الصغيرة ثلاث روايات: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 إحداهن: ليس لهم تزويجها، لما روي «أن قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه من عبد الله بن عمر، فرفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها» والصغيرة لا إذن لها. والثانية: لهم تزويجها ولها الخيار إذا بلغت، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَبِيرًا} [النساء: 2] {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . دلت بمفهومها على أنه له تزوجها إذا أقسط لها، وقد فسرته عائشة بذلك. والثالثة: لهم تزويجها إذا بلغت تسعاً بإذنها، ولا يجوز قبل ذلك، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» رواه أبو داود. وجمعنا بين الأدلة والأخبار، وقيدنا ذلك بابنة تسع؛ لأن عائشة قالت: «إذا بلغت الجارية تسع سنين، فهي امرأة» . وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنها تصلح بذلك للنكاح وتحتاج إليه، فأشبهت البالغة. وإذن الثيب الكلام، وإذن البكر الصمات، أو الكلام في حق الأب وغيره، لما تقدم من الحديث، وهو صريح في الحكم. وروى عدي الكندي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صمتها» رواه الأثرم وابن ماجة. ولا فرق بين الثيوبة بوطء مباح أو محرم، لشمول اللفظ لهما جميعاً. فصل: الشرط الخامس من شروط النكاح: الإيجاب والقبول. ولا يصح الإيجاب إلا بلفظ النكاح، أو التزويج، فيقول: زوجتك ابنتي، أو أنكحتكها؛ لأن ما سواهما لا يأتي على معنى النكاح، فلا ينعقد به، كلفظ الإحلال، ولأن الشهادة شرط في النكاح، وهي واقعة على اللفظ. وغير هذا اللفظ ليس بموضوع للنكاح، وإنما يصرف إليه بالنية، ولا شهادة عليها، فيخلوا النكاح عن الشهادة. وأما القبول فيقول: قبلت هذا النكاح. وإن اقتصر على قبلت صح؛ لأن القبول يرجع إلى ما أوجبه الولي، كما في البيع. وإن قيل للولي: أزوجت؟ قال: نعم. قيل للمتزوج: أقبلت؟ قال: نعم انعقد النكاح؛ لأن نعم جواب للسؤال، والسؤال مضمر معاد فيه، ولهذا لو قيل له: أسرقت؟ قال: نعم. كان مقراً بالسرقة، حتى يلزمه القطع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 الذي يندرئ بالشبهات، فهاهنا أولى. ولا يصح الإيجاب والقبول بغير العربية لمن يحسنها؛ لأنه عدول عن لفظ الإنكاح والتزويج مع إمكانهما فلم يصح، لما ذكرنا. ويصح بمعناهما الخاص بكل لسان لمن يحسنهما؛ لأنه يشتمل على معنى اللفظ العربي، فأشبه ما لو أتى به، وليس عليه تعلمهما بالعربية؛ لأن النكاح غير واجب، فلا يلزم تعلم أركانه، كالبيع، ولأن المقصود المعنى دون اللفظ المعجوز وهو حاصل، بخلاف القراءة. وقال أبو الخطاب: يلزمه التعلم؛ لأن ما كانت العربية شرطاً فيه عند الإمكان لزمه تعلمه، كالتكبير. وإذا فهمت إشارة الأخرس صح النكاح بها؛ لأنه معنى لا يستفاد إلا من جهته فصح بإشارته، كبيعه. وإن تقدم القبول على الإيجاب لم يصح؛ لأن القبول إنما هو بالإيجاب، فيشترط تأخره عنه. وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه؛ لأن حكم المجلس حكم حالة العقد، بدليل القبض فيما يشترط القبض فيه، فإن تفرقا قبله، أو تشاغلا بغيره قبل القبول بطل الإيجاب؛ لأنهما أعرضا عنه بتفرقهما، أو تشاغلهما فبطل، كما لو طال التراخي. ونقل أبو طالب عن أحمد في رجل مشى إليه قوم فقالوا: زوج فلاناً على ألف، فقال: قد زوجته على ألف، فرجعوا إلى الزوج فأخبروه فقبل، هل يكون هذا نكاحاً؟ قال: نعم. فجعل أبو بكر هذا رواية ثانية. وقال القاضي: هذا محمول على أنه وكل من قبل العقد في المجلس. وإن خرج أحدهما عن أهلية العقد بجنون، أو إغماء أو موت قبل القبول بطل؛ لأنه لن ينعقد فبطل بهذه المعاني، كإيجاب البيع. ومتى عقد النكاح هازلاً أو تلجئة صح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة» رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. فصل: وفي الكفاءة روايتان: إحداهما: هي شرط لصحة النكاح، فإذا فاتت لم يصح. وإن رضوا به، لما روى الدارقطني بإسناده عن جابر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح النساء إلا الأكفاء، ولا يزوجهن إلا الأولياء» وقال عمر: لأمنعن فروج ذوي الأحساب إلا من الأكفاء؛ ولأنه تصرف يتضرر به من لم يرض به فلم يصح، كما لو زوجها وليها بغير رضاها. والثانية: ليست شرطاً؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج زيداً مولاه ابنة عمته زينب بنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 جحش، وزوج أسامة فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية» . رواه مسلم وقالت عائشة: إن أبا حذيفة تبنى سالماً وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة. أخرجه البخاري. لكن إن لم ترض المرأة، ولم يرض بعض الأولياء ففيه روايتان: إحداهما: العقد باطل؛ لأن الكفاءة حقهم، تصرف فيه بغير رضاهم، فلم يصح كتصرف الفضولي. والثانية: يصح ولمن لم يرض الفسخ. فلو زوج الأب بغير الكفء فرضيت البنت كان للأخوة الفسخ؛ لأنه ولي في حال يلحقه العار بفقد الكفاءة، فملك الفسخ كالمتساويين. فصل: والكفء ذو الدين والمنصب. فلا يكون الفاسق كفئا لعفيفة؛ لأنه مردود الشهادة والرواية، غير مأمون على النفس والمال. ولا يكون المولى والعجمي كفئاً لعربية، لما ذكرنا من قول عمر. وقال سلمان لجرير: إنكم معشر العرب لا نتقدم في صلاتكم، ولا ننكح نساءكم، إن الله فضلكم علينا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجعله فيكم. والعرب بعضهم لبعض أكفاء، والعجم بعضهم لبعض أكفاء؛ لأن المقداد بن الأسود الكندي تزوج ضباعة ابنة الزبير ابن عمة رسول الله. وزوج أبو بكر أخته للأشعث بن قيس الكندي، وزوج علي ابنته أم كلثوم عمر بن الخطاب. وعنه أن غير قريش لا يكافئهم وغير بني هاشم لا يكافئهم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» . واختلفت الرواية في ثلاثة أمور: أحدها: الحرية، فروي أنها ليست شرطاً في الكفاءة، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبريرة حين عتقت تحت عبد، فاختارت فرقته: لو راجعتيه، قالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: لا إنما أنا شفيع» ومراجعتها له ابتداء نكاح عبد لحرة. روي أنها شرط، وهي أصح؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير بريرة حين عتقت تحت عبد» . فإذا ثبت لها الخيار بالحرية الطارئة فبالسابقة أولى؛ ولأن فيه نقصاً في المنصب والاستمتاع والإنفاق، ويلحق به العار فأشبه عدم المنصب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 والثاني: اليسار ففيه روايتان: إحداهما: هو من شروط الكفاءة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الحسب المال» وقال «إن أحساب الناس بينهم هذا المال» رواه النسائي بمعناه؛ ولأن على الموسرة ضرراً في إعسار زوجها، لإخلاله بنفقتها ونفقة ولدها. والثانية: ليس منها؛ لأن الفقر شرف في الدين. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً» رواه الترمذي. وليس هو أمراً لازماً، فأشبه العافية من المرض. واليسار المعتبر: ما يقدر به على الإنفاق عليها حسب ما يجب لها. والثالث: الصناعة وفيها روايتان: إحداهما: أن أصحاب الصنائع الدنيئة لا يكافؤون من هو أعلى منهم. فالحائك والحجام والكساح والزبال وقيم الحمام لا يكون كفئاً لمن هو أعلى منه؛ لأنه نقص في عرف الناس، وتتعير المرأة به، فأشبه نقص النسب. والثانية: ليس هذا شرطاً؛ لأنه ليس بنقص في الدين، ولا هو بلازم، فأشبه المرض. وقد أنشدوا: وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم فصل: ويستحب إعلان النكاح، والضرب عليه بالدف، لما روى محمد بن حاطب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح» رواه النسائي. فإن أسروه وتواصوا بكتمانه كره ذلك، وصح النكاح. وقال أبو بكر: لا يصح للحديث. ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» مفهومه صحته بهما، والحديث محمول على الندب جمعاً بين الخبرين، ولأن إعلان النكاح والضرب عليه بالدف إنما يكون بعد العقد وصحته، ولو كان شرطاً، لاعتبر حال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 العقد كسائر شروطه. وقال أحمد: لا بأس بالغزل في العرس، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار: « أتيناكم أتيناكم ... فحيانا وحياكم ولولا الذهب الأحم ... ر ما حلت نواديكم ولولا الحنطة السمرا ... ء ما سمنت عذاراكم » فصل: ويستحب عقده يوم الجمعة؛ لأن جماعة من السلف كانوا يحبون ذلك. والمساية أولي، لما روى أبو حفص بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مسوا بالإملاك فإنه أعظم للبركة» . ويستحب تقديم الخطبة بين يدي النكاح، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ (الحمد لله) فهو أقطع» ويستحب أن يخطب بخطبة ابن مسعود التي قال: «علمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في الحاجة " إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ويقرأ ثلاث آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] » . رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا ليس بواجب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لخاطب الواهبة: «زوجتكها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 بما معك من القرآن» ولم يذكر خطبة. فصل: ويستحب أن يقال للمتزوج ما روى أبو هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفأ الإنسان - إذا تزوج - قال: بارك الله لك، وبارك عليك وجمع بينكما في خير» رواه أبو داود. وإذا زفت إليه قال ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادماً فليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه» رواه أبو داود. وعن أبي سعيد مولى أبي أسيد أنه تزوج، فحضره عبد الله بن مسعود وأبو ذر، وحذيفة، وغيرهم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا له: إذا دخلت على أهلك فصل ركعتين، ثم خذ برأس أهلك فقل: اللهم بارك لي في أهلي وبارك لأهلي في، وارزقني منهم، ثم شأنك وشأن أهلك. فصل: ويستحب لمن أراد التزوج أن يختار ذات الدين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» متفق عليه. ويختار الجميلة؛ لأنه أسكن لنفسه، وأغض لبصره، وأدوم لمودته، ولذلك شرع النظر قبل النكاح. وروى سعيد بإسناده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير فائدة أفادها المرء المسلم بعد إسلامه امرأة جميلة، تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه في غيبته في ماله ونفسها» ويتخير الحسيبة، لنجب ولدها. وقد روي عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 «تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم» ويختار البكر لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً وأرضى باليسير» رواه ابن ماجه. ويختار الولود، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم يوم القيامة» رواه سعيد. ويختار ذات العقل، ويجتنب الحمقاء؛ لأنه ربما تعدى ذلك إلى ولدها. وقد قيل: اجتنبوا الحمقاء، فإن ولدها ضياع، وصحبتها بلاء. قال أبو الخطاب: ويختار الأجنبية؛ لأن ولدها أنجب، وقد قيل: إن الغرائب أنجب، وبنات العم أصبر. [ باب ما يحرم من النكاح ] المحرمات في النكاح عشر أشياء: أحدها: المحرمات بالنسب، وهن سبع ذكرهن الله سبحانه وتعالى بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] فالأمهات: كل امرأة انتسبت إليها بولادة، وهي: الأم، والجدات من جهة الأم وجهة الأب وإن علون. والبنات: كل من انتسب إليك بولادة وهي ابنة الصلب وأولادها وأولاد البنين وإن نزلت درجتهن. والأخت: من الجهات الثلاث. والعمات: كل من أدلت بالعمومة من أخوات الأب وأخوات الأجداد وإن علون من جهة الأب والأم. والخالات: كل من أدلى بالخؤولة من أخوات الأم وأخوات الجدات وإن علون من جهة الأب والأم. وبنات الأخ: كل من ينتسب ببنوة الأخ من أولاده وأولاد أولاده الذكور والإناث وإن نزلت درجتهن، وكذلك بنات الأخ؛ لأن الاسم ينطلق على البعيد والقريب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] . و {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] . وقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبعض أصحابه: «ارموا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً» . ولا فرق بين النسب الحاصل بنكاح، أو ملك يمين، أو وطء شبهة أو حرام. فتحرم عليه ابنته في الزنى، لدخولها في عموم اللفظ، ولأنها مخلوقة من مائة فحرمت، كتحريم الزانية على ولدها. وتحرم المنفية باللعان؛ لأنها ربيبته، ولاحتمال أنها ابنته. فصل: النوع الثاني: المحرمات بالرضاع، وهن مثل المحرمات بالنسب سواء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] نص على هاتين، وقسنا عليهما سائر المحرمات بالنسب. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» متفق عليه. فصل: النوع الثالث: المحرمات بالمصاهرة، وهن أربع: أمهات النساء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] . فمتى عقد النكاح على امرأة حرم عليه جميع أمهاتها من النسب والرضاع وإن علون على ما ذكرنا. وسواء دخل بالمرأة أو لم يدخل، لعموم اللفظ فيهن، ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل نكح امرأة دخل بها أو لم يدخل فلا يحل له نكاح أمها» رواه ابن ماجه. الثانية: الربائب، وهن بنات النساء. ولا تحرم ربيبته إلا أن يدخل بأمها، فإن فارق أمها قبل أن يدخل بها حلت له ابنتها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 وإن ماتت قبل دخوله بها لم تحرم ابنتها، للآية. وعنه: تحرم؛ لأن الموت أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق والعدة، فكذلك هاهنا. وإن خلا بها ثم طلقها ولم يطأها، فعنه: تحرم ابنتها كذلك. وقال القاضي: وهذا محمول على أنه حصل نظراً لشهوة أو مباشرة، فيخرج كلامه على إحدى الروايتين، فأما مع عدم ذلك فلا تحرم؛ لأن الدخول كناية عن الجماع ولم يوجد والنسب والرضاع في هذا سواء. الثالثة: حلائل الأبناء، وهن زوجات أبنائه، وأبناء أبنائه وبناته، وإن سفلوا من نسب أو رضاع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] ويحرمن بمجرد العقد، لعموم الآية فيهن. الرابعة: زوجات الأب القريب والبعيد من قبل الأب والأم من نسب أو رضاع يحرمن، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] وسواء دخل بهن أو لم يدخل لعموم الآية. فصل: كل من ذكرنا من المحرمات من النسب والرضاع تحرم ابنتها، وإن نزلت درجتها، إلا بنات العمات والخالات فإنهن محللات، لقول الله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: 50] وكذلك بنات من نكحهن الآباء، والأبناء فإنهن محللات، فيجوز للرجل نكاح ربيبة أبيه وابنه، لقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] . فصل: ومن حرم نكاحها حرم وطؤها بملك اليمين؛ لأنه إذا حرم النكاح لكونه طريقاً إلى الوطء، فتحريم الوطء أولى. وكل من حرمها النكاح من أمهات النساء وبناتهن، وحلائل الآباء والأبناء، حرمها الوطء في ملك اليمين والشبهة والزنى كذلك، ولأن الوطء آكد في التحريم من العقد، وكذلك تحرم به الربيبة، ولأنه سبب للبعضية، أشبه الوطء في النكاح. ولا فرق بين الوطء في القبل والدبر؛ لأن كل واحد منهما وطء في فرج يجب الحد بجنسه، فاستويا في التحريم به. وإن وطئ صغيرة لا يوطأ مثلها، أو ميتة ففيه وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 أحدهما: ينشر الحرمة؛ لأنه معنى ينشر الحرمة المؤبدة، أشبه الرضاع. والثاني: لا ينشرها؛ لأنه ليس بسبب للبعضية، أشبه النظر. وفي القبلة واللمس لشهوة، والنظر إلى الفرج لشهوة روايتان: إحداهما: يحرم؛ لأنها مباشرة لا تباح إلا بملك، فتعلق بها تحريم المصاهرة، كالوطء. والثانية: لا تحرم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] . يريد بالدخول الوطء. وإن تلوط بغلام، فاختار أبو الخطاب: أن حكمه في تحريم المصاهرة حكم المباشرة فيما دون الفرج، لكونه وطئا في غير محله. وقال غيره من أصحابنا: حكمه حكم الزنى. فيحرم على الواطئ أم الغلام وابنته، ويحرم على الغلام أم الواطئ وابنته؛ لأنه وطء في فرج آدمي، أشبه الزنا بالمرأة، وإن وطئ أم امرأته وابنتها انفسخ النكاح؛ لأنه طرأ عليها ما يحرمها، أشبه الرضاع. فصل: النوع الرابع: تحريم الجمع وهو ضربان: جمع حرم لأجل النسب بين المرأتين، وهو ثابت في أربع. بين الأختين، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وسواء كانتا من أبوين، أو من أحدهما، أو من نسب أو رضاع، لعموم الآية في الجميع. والثاني: بين الأم وبنتها؛ لأن تحريم الجمع بين الأختين تنبيه على تحريم الجمع بين الأم وبنتها. والثالث: الجمع بين المرأة وعمتها. والرابع: الجمع بينها وبين خالتها، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها» متفق عليه؛ ولأنهما امرأتان لو كانت إحداهما ذكراً حرمت عليه الأخرى، فحرم الجمع بينهما، كالأختين؛ ولأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 يفضي إلى قطيعة الرحم المحرم، لما بين الزوجات من التغاير، والتنافر، والقريبة والبعيدة سواء في التحريم، لتناول اللفظ لهما، ولأن المحرمية ثابتة بينهما مع البعد، فكذلك تحريم الجمع. فإن تزوج أختين في عقد واحد بطل فيهما؛ لأن إحداهما ليست أولى بالبطلان من الأخرى فبطل فيهما، كما لو باع درهماً بدرهمين. وإن تزوج امرأة وابنتها في عقد واحد ففيها وجهان: أحدهما: يبطل فيهما كالأختين. والثاني: يبطل في الأم وحدها؛ لأنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها، والبنت لا تحرم بمجرد العقد، فكانت الأم أولى بالبطلان، فاختصت به، وإن تزوجت امرأة، ثم تزوج عليها من يحرم الجمع بينهما لم يصح نكاح الثانية وحدها؛ لأنها اختصت بالجمع. فصل: وإن تزوج امرأة، ثم طلقها لم تحل له أختها، ولا عمتها ولا خالتها حتى تنقضي عدتها، رجعية كانت أو بائنة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين» ولأنها محبوسة على النكاح لحقه، فأشبهت الرجعية. ولو قال: أخبرتني بانقضاء عدتها فكذبته لم يقبل قوله في إسقاط نفقتها وسكناها، ويقبل في سقوط رجعتها؛ لأنه يقر بسقوط حقه. وفي جواز نكاح أختها؛ لأنه حق لله تعالى، وهو مقلد فيه. ولو أسلم زوج المجوسية، أو الوثنية لم يحل له نكاح أختها حتى تنقضي عدتها. وإن أسلمت زوجته دونه فنكح أختها، ثم أسلما في عدة الأولى اختار منهما واحدة، كما لو تزوجهما معاً. وإن أسلما بعد عدة الأولى بانت منه، والثانية زوجته. فصل: وإن ملك أختين جاز؛ لأن الملك لا يختص مقصوده بالاستمتاع، ولذلك جاز أن يملك من لا يحل له، كالمجوسية، وأخته من الرضاع. وله وطء إحداهما، أيتهما شاء؛ لأن الأخرى لم تصر فراشاً، فلم يكن جامع بينهما في الفراش، فإذا وطئها حرمت أختها. حتى تحرم الموطوءة بإخراج عن ملكه أو تزويج أو يعلم أنها ليست حاملاً، لئلا يكون جامعاً بينهما في الفراش، أو يكون جامعاً ماءه في رحم أختين. فإن عزلها عن فراشه واستبرأها لم تحل له أختها؛ لأنه لا يؤمن عوده إليها، فيكون جامعاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 بينهما. وإن رهنها، أو ظاهر منها لم تحل أختها؛ لأنه متى شاء فك الرهن وكفر فأحلها. وكذلك إن كاتبها؛ لأنه بسبيل من حلها بما لا يقف على غيرهما، فأشبه ما لو رهنها. وروي عن أحمد: أنه لا يحرم الجمع بين الأختين في الوطء، وإنما يكره لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . والمذهب الأول، لكونه إذا حرم الجمع في النكاح لكونه طريقاً إلى الوطء ففي الوطء أولى. وإن تزوج امرأة فملك أختها جاز. ولا تحل له الأمة؛ لأن أختها على فراشه. فإن وطئها لم تحل الزوجة حتى يستبرئ الأمة، ويحتمل أن تحرم حتى يخرج الأمة عن ملكه، أو يزوجها؛ لأنها قد صارت فراشاً. وإن وطء أمته ثم تزوج أختها، فقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أن النكاح لا يصح؛ لأن النكاح سبب يصير به فراشاً، فلم يجز أن يرد على فراش الأخت كالوطء. قال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد: أنه يصح؛ لأن النكاح سبب يستباح به الوطء، فجاز أن يرد على وطء الأخت كالشراء. ولا تحل المنكوحة حتى تحرم الأمة بإخراج عن ملكه، أو تزويج لما ذكرنا في التي قبلها. وإن باع الموطوءة أو زوجها، ثم تزوج أختها، ثم عادت الموطوءة إلى ملكه لم تحل له، كما لو اشتراها ابتداء. ولا تحرم الزوجة؛ لأن النكاح أقوى. وعنه: ما يدل على تحريمها أيضاً حتى يخرج الأمة عن ملكه؛ لأن هذه فراش، والمنكوحة فراش فلا يحل وطء واحدة منهما، كما لو كانتا أمتين. ولو كانت له أمة يطأها، فزوجها أو باعها، ثم تسرى أختها فعادت الأولى إليه لم يبح له واحدة منهما حتى يحرم الأخرى؛ لأن الأولى عادت إلى الفراش فاجتمعتا فيه، فلم يبح له واحدة منهما قبل إخراج الأخرى عن الفراش. فإن ملك أختين فوطئهما فقد أتى محرماً، ولا حد عليه؛ لأنه وطئ مملوكته، فأشبه وطء المظاهر منها، ولا تحل له واحدة منهما حتى يحرم الأخرى، كما يحرم وطء الأولى الثانية. فصل: إذا تزوج أختين في عقدين، ثم جهل السابقة منهما حرمتا جميعاً؛ لأن المحللة اشتبهت بالمحرمة فحرمتا جميعاً، كما لو اشتبهت بأجنبية، وعليه فراق كل واحدة منهما بطلقة، لتحل لغيره، ويزول حبسه عنها، إلا أن يريد إمساك إحداهما، فيطلق الأخرى، ويجدد العقد للتي يمسكها. فإن طلقهما معاً قبل الدخول، فعليه نصف المهر لإحداهما؛ لأن نكاحها صحيح، ولا يعلم أيتهما هي، فيقرع بينهما فيه؛ لأنهما سواء فيقرع بينهما، كما لو أراد السفر بإحدى زوجتيه، فمن خرجت له القرعة فلها نصف صداقها. وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 أبو بكر: يتوجه ألا يلزمه لهما صداق؛ لأنه مجبر على طلاقهما، فلم يلزمه صداقهما، كما لو فسخ نكاحه برضاع أو غيره. قال: وهذا اختياري. وإن كان دخل بهما، فعليه كمال الصداقين لهما، إلا أن لإحداهما المسمى، وفي الأخرى روايتان: إحداهما: لها المسمى أيضاً. والثانية: لها مهر المثل؛ لأنه واجب بالإصابة، لا بالعقد. فإن قلنا: يجب مهر المثل أقرعنا بينهما فيه. وإن أراد نكاح إحداهما طلق الأخرى. وعقد النكاح للثانية، إلا أنه إن كان لم يدخل بواحدة منهما، فله أن يعقد النكاح في الحال. وإن كان دخل بها لم يعقده حتى تنقضي عدتها، لئلا يكون نكاحاً لإحداهما في عدة أختها، أو ناكحاً لمعتدة من وطئه لها في غير ملكه. فصل: ولا يحرم الجمع بين ابنتي العم، ولا ابنتي الخال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ولأن إحداهما لو كانت ذكراً حلت له الأخرى، لكن يكره لما روى عيسى بن طلحة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تزوج المرأة على ذي قرابتها مخافة القطيعة» وهذا محمول على الكراهة لما ذكرناه، ويجوز الجمع بين المرأة وربيبتها للآية. وفعله عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن صفوان بن أمية. ويجوز للرجل أن يتزوج ربيبة ابنه وربيبة أبيه، وربيبة أمه للآية؛ ولأنه لا نسب بينهما ولا سبب محرم. فصل: الضرب الثاني: تحريم الجمع، لكثرة العدد. فلا يحل للحر أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات بلا خلاف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] يعني اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، «ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشر نسوة: أمسك أربعاً وفارق سائرهن» رواه الترمذي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 وليس للعبد أن يتزوج أكثر من اثنتين، لما روي عن الحكم بن عيينة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا ينكح إلا اثنتين. وروى الإمام أحمد أن عمر سأل الناس عن ذلك، فقال: عبد الرحمن بن عوف: لا يتزوج إلا اثنتين. وهذا كان بمحضر من الصحابة فلم ينكر، فكان إجماعاً. والحكم فيمن تزوج خمساً، أو نكح خامسة في عدة الرابعة، ونحو ذلك من الفروع، كالحكم في الجامع بين أختين على ما مضى فيه. فصل: ويباح التسري من الإماء من غير حصر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ولأن القسم بينهن غير واجب، فلم ينحصرن في عدد. وللعبد أن يتسرى بإذن سيده، نص عليه أحمد؛ لأن ذلك قول ابن عمر، وابن عباس، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، ولأن العبد يملك في النكاح، فملك التسري كالحر. وإنما يملك التسري إذا ملكه سيده وأذن له في التسري. قال القاضي: يجب أن يكون تسري العبد مبنياً على الروايتين من ثبوت الملك له بتمليك سيده؛ لأن الوطء لا يباح إلا بنكاح، أو ملك يمين. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] والمكاتب كالقن سواء؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم. فأما من بعضه حر، فإن ملك بجزئه الحر جارية فملكه تام، وله الوطء بغير إذن السيد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ولأن ملكه عليها تام. فأما تزويجه، فإنه يلزمه حقوق تتعلق بجميعه، فاعتبر رضى السيد به، ليكون راضياً بتعلق الحق بملكه. وإن تسرى العبد بإذن سيده ثم رجع لم يكن له الرجوع نص عليه؛ لأنه يملك به البضع فلم يملك فسخه، كالنكاح. وقال القاضي: ويحتمل أنه أراد التزويج. وله الرجوع في التسري؛ لأنه رجوع فيما ملكه لعبده، فأشبه سائر المال. فصل: النوع الخامس: المحرمات لاختلاف الدين، فلا يحل لمسلم نكاح كافرة غير كتابية، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . ولا يحل نكاح مرتدة وإن تدينت بدين أهل الكتاب؛ لأنها لا تقر على دينها، ولا مجوسية. لأنه لم يثبت لهم كتاب، ولا كتابية، أحد أبويها غير كتابي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 لأنها لم تتمحض كتابية، أشبهت المجوسية، ولا من يتمسك بصحف إبراهيم وزبور داود، أو كتاب غير التوراة والإنجيل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ؛ ولأن تلك الكتب ليست بشرائع، إنما هي مواعظ وأمثال. ويباح نكاح حرائر الكتابيات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وهم اليهود والنصارى ومن وافقهم من أصل دينهم ودان بالتوراة والإنجيل، كالسامرة وفرق النصارى، وفي نصارى بني تغلب روايتان: إحداهما: إباحة نسائهم؛ لأنهن كتابيات فيدخلن في عموم الآية. والثانية: تحريمهن؛ لأنه لا يعلم دخولهن في دينهم قبل تبديل كتابهم. ولا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال، كتابياً كان أو غير كتابي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] وقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وكل من تحل حرائرهم بالنكاح حل وطء إمائهم بملك اليمين. ومن حرم نكاح حرائرهم، حرم وطء إمائهم بملك اليمين بالقياس على المحرمات بالرضاع. فصل: النوع السادس: التحريم لأجل الرق وهو ضربان: أحدهما: تحريم الإماء، وهن نوعان: كتابيات، فلا يحل لمسلم نكاحهن ولو كان عبداً. وعنه: يجوز، والأول: المذهب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] . فشرط في إباحتهن إيمانهن، ولأنهن ناقصات من وجهين، أشبه المشركات. والثاني: الأمة المسلمة، فللعبد نكاحها؛ لأنها تساويه، ولا تحل لحر نكاحها إلا بشرطين: عدم الطول، وهو: العجز عن نكاح حرة، أو شراء أمة. والثاني: خشية العنت: وهو الزنى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] . إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] فإن أمكنه نكاح حرة كتابية لم تحل له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 الأمة المسلمة؛ لأنه لا يخشى العنت، ولأنه أمكنه صيانة ولده عن الرق فحرم عليه إرقاقه، كما لو قدر على نكاح مؤمنة. وإن تزوج أمة تحل له، ثم وجد الطول ففيه وجهان: أحدهما: نكاحه باق، اختاره الخرقي؛ لأن زوال الشرط بعد العقد لا يبطله، كما لو أمن العنت. والثاني: يبطل؛ لأنه أبيح للضرورة فزال بزوالها، كأكل الميتة. وإن تزوج حرة على أمة فهل يبطل نكاح الأمة؟ على روايتين كذلك، فإن تزوج حرة تعفه وأمة في عقد واحد فسد نكاح الأمة، لعدم شرطه، وهو عدم طول الحرة. وفي نكاح الحرة روايتان. أصلهما تفريق الصفقة. وكذلك الحكم في كل عقد جمع فيه بين محللة ومحرمة، كأجنبية وأخته من الرضاع. فإن كانت الحرة لا تعفه، ولم يتمكن من نكاحها حرة تعفه ففي نكاح الأمة روايتان: إحداهما: لا يصح؛ لأنه واجد الطول حرة. والثانية: يصح؛ لأنه خائف العنت، عادم لطول حرة تعفه، فحلت له الأمة، كالعاجز عن نكاح حرة. فعلى هذا يصح العقد فيهما جميعاً، وكذلك الحكم إن كانت تحته حرة لا تعفه، فيتزوج عليها أمة، أو كان تحته أمة لا تعفه فيتزوج عليها ثانية، ففيها روايتان. قال الخرقي: وله أن ينكح من الإماء أربعاً إذا كان الشرطان فيه قائمين. ووجه الروايتين ما تقدم. وإن تزوج أمتين في عقد وإحداهما تعفه بطل فيهما؛ لأن إحداهما ليست بأولى من الأخرى، فبطل فيهما، كما لو جمع بين أختين. فصل: الضرب الثاني: أنه لا يحل للعبد نكاح سيدته؛ لأن أحكام الملك والنكاح تتناقض، إذا ملكها إياه يقتضي وجوب نفقته عليها، وسفره بسفرها، وطاعته إياها. ونكاحه إياها يوجب عكس ذلك، فيتنافيان. ولا يصح أن يتزوج الحر أمته؛ لأن النكاح يوجب للمرأة حقوقاً يمنعها ملك اليمين من القسم والمبيت فبطل. فإن ملكت المرأة زوجها، أو جزءاً منه، أو ملك الرجل زوجته أو جزءاً منها انفسخ النكاح، لما ذكرنا، ويحرم على الأب نكاح جارية ابنه؛ لأن له فيها شبهة يسقط الحد بوطئها، فلم يحل له نكاحها، كالمشتركة بينه وبين غيره. وللابن أن يتزوج أمة أبيه، لعدم ذلك فيه. وإن تزوج جارية ثم ملكها ابنه، ففيه وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 أحدهما: يبطل النكاح؛ لأن ملك الابن كملكه في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد، فكان كملكه في إبطال النكاح. والثاني: لا يبطل؛ لأنه يملكها بملك الابن، فلم يبطل نكاحها، كما لو ملكها أجنبي. فصل: النوع السابع: منكوحة غيره، والمعتدة منه، والمستبرأة منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . ولقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ؛ ولأن تزويجها يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، وسواء في ذلك المعتدة من وطء مباح، أو محرم، أو من غير وطء؛ لأنه لا يؤمن أن تكون حاملاً، فلو جوزنا تزويجها لاختلاط نسب المتزوج بنسب الواطئ الأول. ولا يجوز نكاح المزني بها بالحمل إلا أن تضع. فإن وطئت امرأة الرجل بشبهة أو زنا لم ينفسخ نكاحه؛ لأن النكاح سابق فكان أولى. ولا يحل له وطؤها حتى تنقضي عدتها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين: «لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر يسقي ماءه زرع غيره» رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وأبو داود، وزاد يعني: إتيان الحبالى؛ ولأنها ربما يأتي بولد من الزنا فينسب إليه. قال أحمد: وإذا علم الرجل من جاريته الفجور فلا يطؤها لعلها تلحق به ولداً ليس منه. فصل: ولا يحل التعريض بخطبة الرجعية؛ لأنها زوجته، فأشبهت ما قبل الطلاق، ويجوز التعريض بخطبة المعتدة من الوفاة، والطلاق الثلاث، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] . وروت «فاطمة بنت قيس: أن أبا عمر بن حفص ابن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تسبقيني بنفسك» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 ويحرم التصريح؛ لأن تخصيص التعريض بالإباحة دليل على تحريم التصريح، ولأن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يأمن أن يحملها الحرص عليه على الإخبار بانقضاء عدتها قبل انقضائها، بخلاف التعريض. فأما البائن بخلع، فلزوجها التصريح بخطبتها والتعريض؛ لأنه يحل له نكاحها في عدتها، إذ لا يصان ماؤه عن مائه، ولا يخشى اختلاط نسبه بنسب غيره. وهل يحل لغيره التعريض بخطبتها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحل؛ لأن الزوج يملك استباحتها في عدتها فأشبهت الرجعية. والثاني: يحل؛ لأنها بائن أشبهت المطلقة ثلاثاً. والمرأة كالرجل فيما يحل لها من الجواب ويحرم. والتصريح أن يقول: زوجيني نفسك إذا انقضت عدتك ونحوه، والتعريض أن يقول: إني في مثلك لراغب، ولا تسبقيني بنفسك، وما أحوجني إلى مثلك ونحوه. وتجيبه: ما يرغب عنك. وإن قضي شيء كان ونحوه. فصل: ومن خطب امرأة فأجيب حرم على غيره خطبتها إلا أن يأذن، أو يترك، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك» متفق عليه. وفي حديث: «أو يأذن له فيخطب» ولأن في ذلك إفساداً على أخيه، وإيقاعاً للعداوة بينهما فحرم، كبيعه على بيعه. وإن لم يسكن إليه، فلغيره خطبتها، لما روت «فاطمة بنت قيس أنها أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت: أن معاوية وأبا جهم خطباها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة» متفق عليه. فخطبها بعد خطبتها. وإن لم يعلم هل أجابت أم لا؟ ففيه وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 أحدهما: التحريم، لعموم النهي. والثاني: الإباحة؛ لأن الأصل عدم الإجابة المحرمة. والتعويل في الإجابة والرد عليها إن كانت غير مجبرة، وعلى وليها إن كانت مجبرة. فصل: النوع الثامن: الملاعنة. تحرم على الملاعن وتذكر في بابه. النوع التاسع: الزانية، يحرم نكاحها حتى تتوب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] ؛ ولأنه لا يؤمن أن تلحق به ولداً من غيره، فحرم نكاحها كالمعتدة. ويحرم نكاحها في عدتها على الزاني وغيره؛ لأن ولدها لا يلحق نسبه بأحد، فيؤدي تزويجها إلى اشتباه النسب. فأما الموطوءة بشبهة، أو في نكاح فاسد، فهل يحرم؟ فظاهر كلام الخرقي تحريمها على الواطئ، لقوله في الذي تزوج امرأة في عدتها: له أن ينكحها بعد انقضاء العدتين، وذلك أنه وطء من غير ملك. أشبه الوطء المحرم. ويحتمل أن لا تحرم على الواطئ؛ لأن نسب ولدها لاحق به، فأشبهت المعتدة من النكاح. فصل: واختلف أصحابنا في الخنثى، المشكل. فقال أبو بكر: لا يصح نكاحه. ونص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية الميموني؛ لأنه مشكوك في حله للرجال والنساء فلم يحل، كما لو اشتبهت الأجنبية بالأخت. وقال الخرقي: يرجع إلى قوله. فإن قال: إني رجل حل له النساء وإن قال: أنا امرأة لم ينكح إلا رجلاً؛ لأنه معنى لا يعرف إلا من جهته. وليس فيه إيجاب حق على غيره فوجب أن يقبل منه، كما يقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 قول المرأة في انقضاء عدتها، فعلى هذا إن عاد بعد نكاح المرأة، فقال: أنا امرأة انفسخ نكاحه، لإقراره ببطلانه، ولزمه نصف المهر إن كان قبل الدخول، وجميعه إن كان بعده، ولا يحل له بعد ذلك أن ينكح؛ لأنه أقر بقوله: أنا رجل بتحريم الرجال، وأقر بقوله: أنا امرأة بتحريم النساء. وإن تزوج رجلاً ثم قال: أنا رجل لم يقبل قوله في فسخ نكاحه؛ لأنه حق عليه، فإذا زال النكاح فلا مهر له؛ لأنه يقر أنه لا يستحقه، وسواء دخل به أو لم يدخل. ويحرم عليه النكاح بعد ذلك لما ذكرناه. فصل: النوع العاشر: التحريم للإحرام. فلا يحل نكاح محرم ولا محرمة، ولا يجوز عقد المحرم نكاح غيره. ومتى عقد أحد نكاحاً لمحرم، أو على محرمة، أو عقد المحرم نكاحاً لغيره، أو لنفسه فالعقد باطل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب» رواه مسلم؛ ولأنه عارض منع الطيب فمنع النكاح، كالعدة. وعنه: أن عقد المحرم النكاح لغيره صحيح؛ لأنه محرم، لكونه من دواعي الوطء، ولا يحصل ذلك بكونه ولياً. والأول أصح، لعموم الخبر، فأما إن كان شاهداً في النكاح انعقد بشهادته؛ لأنه من أهل الشهادة، فأشبه الحلال. وتكره له الشهادة والخطبة، للخبر في الخطبة، والشهادة في معناها؛ لأنها معونة على النكاح. [ باب الشروط في النكاح ] وهي قسمان صحيح وفاسد. فالصحيح نوعان: أحدهما: شرط ما يقتضيه العقد، كتسليم المرأة إليه، وتمكنه من استمتاعها، فهذا لا يؤثر في العقد. ووجوده كعدمه. والثاني: شرط ما تنتفع به المرأة، كزيادة على مهرها معلومة، أو نقد معين، أو أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، أو لا يسافر بها ولا ينقلها عن دارها ولا بلدها، فهذا صحيح يلزم الوفاء به، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج» متفق عليه. وروي أن رجلاً تزوج امرأة وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها، فخاصموه إلى عمر، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: إذاً يطلقننا. فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط، ولأنه شرط لها، فيه نفع ومقصود لا ينافي مقصود النكاح فصح، كالزيادة في المهر. فإن لم يف به فلها فسخ النكاح لأنه شرط لازم في عقد، فثبت حق الفسخ بفواته، كشرط الرهن في البيع. فصل: القسم الثاني: فاسد وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ما يبطل في نفسه، ويصح النكاح، مثل أن يشرط عليها أنه لا مهر لها، أو الرجوع عليها بمهرها، أو لا نفقة لها عليه، أو أن نفقته عليها، أو لا يطؤها، أو يعزل عنها، أو يقسم لها دون قسم صاحبتها، أو ألا يقسم لها إلا في النهار، أو ليلة في الأسبوع ونحوه، فهذه الشروط باطلة في نفسها؛ لأنها تتضمن إسقاط حق يجب بالعقد قبل انعقاده فلم يصح، كإسقاط الشفعة قبل البيع. وقد نقل عن أحمد في النهاريات والليليات: ليس هذا من نكاح أهل الإسلام، وهذا يحتمل إفساد العقد، فيتخرج عليه سائر الشروط الفاسدة أنها تفسده؛ لأنها شروط فاسدة، فأفسدت العقد، كما لو زوجه وليته بشرط أن يزوجه الآخر وليته. وهذا يحتمل أن يفسد بشرطها عليها ترك الوطء؛ لأنه ينافي مقتضى العقد ومقصوده. ولو شرط عليها ألا يطأها، لم يفسد؛ لأن الوطء حقه عليها وهي لا تملكه. فصل: النوع الثاني: ما يفسد النكاح من أصله، وهو أربعة أمور: أحدهما: أن يشرطا تأقيت النكاح، وذلك نكاح المتعة، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهراً أو نحوه فالنكاح باطل نص عليه، لما روى الربيع بن سبرة عن أبيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن المتعة في حجة الوداع» وفي لفظ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرم متعة النساء» رواه أبو داود؛ ولأنه لم يتعلق به أحكام النكاح من الطلاق وغيره فكان باطلاً، كسائر الأنكحة الباطلة. قال أبو بكر: فيه رواية أخرى: أنها مكروهة؛ لأن أحمد قال في رواية ابن منصور يجتنبها أحب إلي، فظاهرها الكراهة، لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 التحريم وغيره من أصحابنا يقول: المسألة رواية واحدة في تحريمها. ولو شرط أن يطلقها في وقت بعينه لم يصح النكاح؛ لأنه شرط يمنع بقاء النكاح، فأشبهت التأقيت. ويتخرج أن يصح النكاح ويبطل الشرط؛ لأن النكاح وقع مطلقاً، وشرط على نفسه شرطاً لا يؤثر فيه، فأشبه ما لو شرط ألا يطأها. فصل: الأمر الثاني: أن يزوجه وليته بشرط أن يزوجه الآخر وليته، فهذا نكاح الشغار. ولا تختلف الرواية عن أحمد في فساده، لما روى ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن نكاح الشغار» . والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق. متفق عليه؛ ولأنه جعل كل واحد من العقدين سلفاً في الآخر فلم يصح، كما لو قال: بعني ثوبك على أن أبيعك ثوبي. فإن سميا مع ذلك صداقاً، فقال: زوجتك أختي على أن تزوجني أختك، ومهر كل واحدة مائة، فالمنصوص عن أحمد صحته لحديث ابن عمر. وقال الخرقي: لا يصح، لما روى الأعرج «أن العباس بن عبيد الله بن العباس: أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته: وكانا جعلا صداقاً، فكتب معاوية إلى مروان: يأمره أن يفرق بينهما. وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه أبو داود ولأنه شرط عقد في عقد فلم يصح، كما لو باعه ثوبه بشرط أن يبيعه ثوبه، وإن سمي لإحداهما مهراً، دون الأخرى، فقال أبو بكر: النكاح فاسد فيهما، وقال القاضي: يجب أن يكون في التي سمى لها مهراً روايتان. فصل: الشرط الثالث: أن يشرط عليه إحلالها لزوج قبله، ثم يطلقها فيكون النكاح حراماً باطلاً، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لعن الله المحلل والمحلل له» قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فإن تواطآ على ذلك قبل العقد فنواه في العقد ولم يشرطه فالنكاح باطل أيضاً. نص عليه. وقال: متى أراد بذلك الإحلال فهو ملعون، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 لعموم الحديث. وروى نافع: أن رجلاً قال لابن عمر: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها ولم يأمرني ولم تعلم. قال: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها. وإن كنا نعده على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفاحاً. ولا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة. وإن شرط عليه سابقاً إحلالها فنوى غير ذلك صح؛ لأنه خلا عن نية التحليل وشرطه. وإن قصدت المرأة التحليل ووليها دون الزوج لم يؤثر في العقد؛ لأنه ليس إليهما إمساك ولا فراق، فلم يؤثر بنيتهما، كالأجنبي. وإن زوجها عبده بنية أن يهبها إياه لينفسخ نكاحه فهو نكاح المحلل؛ لأنه قصد به التحليل. وذكر القاضي: فيما إذا خلا العقد عن شرط التحليل وجهاً آخر: أنه يصح. وخرجه أبو الخطاب رواية؛ لأنه روي عن أحمد: أنه كرهه فظاهره الصحة مع الكراهة؛ لأن مجرد النية لا يفسد العقد كما لو اشترى عبداً ينوي أن يبيعه. فصل: النوع الثالث: فاسد وفي فساد النكاح به روايتان: وهو أن يتزوجها بشرط الخيار، أو إن رضيت أمها، أو إنسان ذكره، أو بشرط ألا يكره فلان، أو إن جاءها بالمهر إلى كذا، وإلا فلا نكاح بينهما. فنقل عنه ابناه وحنبل: نكاح المتعة حرام، وكل نكاح فيه وقت أو شرط فاسد؛ لأن عقد النكاح يجب أن يكون ثابتاً لازماً، فنافاه هذا الشرط، كالخلع. ونقل عنه: أن العقد صحيح والشرط باطل؛ لأن النكاح يصح في المجهول فلم يفسد بالشرط الفاسد، كالعتق. ونقل عنه فيمن شرط إن جاءها بالمهر في وقت كذا، وإلا فلا نكاح بينهما أن الشرط صحيح؛ لأن لها فيه نفعاً أشبه ما لو اشترط ألا يخرجها من دارها. [ باب الخيار في النكاح ] وأسبابه أربعة: أحدها: أن يجد أحدهما بصاحبه عيباً يمنع الوطء وهو سبعة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، وهي: الجنون مطبقاً كان أو غير مطبق، والجذام، والبرص، واثنان في الرجل: الجب والعنة، واثنان في المرأة: الرتق، وهو انسداد الفرج. والفتق وهو انخراق ما بين مخرج البول والمني. وقيل: انخراق ما بين القبل والدبر، فمن وجد بصاحبه عيباً منها فله الخيار في فسخ النكاح، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج امرأة من بني غفار فرأى بكشحها بياضاً، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: البسي ثيابك والحقي بأهلك» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 فثبت الرد بالبرص بالخبر، وقسنا عليه سائر العيوب؛ لأنها في معناه في منع الاستمتاع. وإن كان قد بقي من ذكر المجبوب ما يمكن الجماع به، ويغيب منه في الفرج قدر الحشفة فلا خيار لها؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع. وإن اختلفا في ذلك، فالقول قول المرأة؛ لأنه يضعف بالقطع، والأصل عدم الوطء. فصل: وإن وجد أحدهما الآخر خنثى، أو وجدت زوجها خصياً ففيه وجهان: أحدهما: لها الخيار؛ لأنه يثير نفرة، وفيه نقص وعار، فأشبه البرص. والثاني: لا خيار لها؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع. واختلف أصحابنا في البخر، وهو نتن الفم. وفي الذي لا يستمسك بوله أو خلاه. فقال أبو بكر: يثبت به الخيار؛ لأنه ينفر عن الاستمتاع، ويتعدى ضرره ونجاسته. وقال غيره: لا خيار فيه؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع ولا يخشى تعديه، ويتخرج عليه الناصور والباسور والقروح السيالة في الفرج؛ لأنها في معناه. واختلفوا في العفل، وقيل: هي رغوة في الفرج يمنع لذة الوطء، فعده الخرقي مانعاً كذلك، ولم يعده القاضي في الموانع؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع. وكذلك يخرج في الرائحة الكريهة التي في الفرج تثور عند الوطء. وما عدا هذه العيوب كالقرع والعمى والعرج لا يثبت به خيار؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع ولا يخشى تعديه. فصل: ومن علم العيب وقت العقد فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة بالعيب فأشبه من اشترى ما يعلم عيبه. وإن وجد بصاحبه عيباً به مثله، ففيه وجهان: أحدهما: لكل واحد منهما الخيار، لوجود سببه، فأشبه العبد المغرور بأمة، ولأنه قد يعاف عيب غيره، وإن كان به مثله. والثاني: لا خيار له؛ لأنهما متساويان في النقص فأشبها القفيزين. وإن حدث العيب بأحدهما بعد العقد، ففيه وجهان: أحدهما: لا خيار له، وهو قول أبي بكر: لأنه عيب حدث بعد لزوم العقد أشبه الحادث بالمبيع. والثاني: يثبت به الخيار. وهو ظاهر قول الخرقي؛ لأنه عيب، لو قارن أثبت الخيار، فإذا حدث أثبته كالإعسار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 فصل: وإذا علم العيب فأخر المطالبة بالفسخ لم يبطل خياره. وقال القاضي: يبطل. وأصلهما ما ذكرنا في خيار الرد بالعيب في المبيع، وإن قال: رضيت به معيباً، أو وجد منه دلالة على الرضى، كالاستمتاع، أو التمكين منه بطل خياره. فصل: وإن فسخ قبل المسيس فلا مهر لها؛ لأنه إن كان الفسخ منها فالفرقة من جهتها، فأسقطت مهرها كردتها. وإن كان من الزوج فهو لمعنى من جهتها، لحصوله بتدليسها، فأشبه ما لو باشرتها. وإن كان بعد الدخول استقر المهر ولم يسقط لاستقرار النكاح بالدخول فيه، ويجب المسمى؛ لأنه نكاح صحيح فيه مسمى صحيح، فوجب المسمى فيه. كما لو ارتدت. وذكر القاضي: أن فيه رواية أخرى أنه يجب مهر المثل بناء على العقد الفاسد، وليس هذا بفاسد، إذ لو كان فاسداً لما ثبت الخيار فيه، ويرجع بالمهر على من غره، لما روي عن عمر أنه قال: أيما رجل تزوج امرأة بها جنون أو جذام أو برص فمسها فلها صداقها غرم على وليها، ولأنه غره في النكاح بما يجب به المهر فكان المهر عليه، كما لو غره بحرية أمة. وعنه: لا يرجع على أحد؛ لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فإن لم يعلم الولي فالغرور من المرأة. وإن طلق الزوج ثم علم بها عيباً فعليه المهر، لا يرجع به على أحد؛ لأنه رضي بالتزامه. فصل: ولا يجوز الفسخ إلا بحكم حاكم؛ لأنه مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم، كالفسخ للإعسار. فإن رده الحاكم إلى مستحقه جاز، والفرقة الواقعة بينهما فسخ لا طلاق؛ لأنه رد لعيب، فكان فسخاً كرد المشتري. وإن اتفقا على الرجعة لم يجز إلا بنكاح جديد، ويرجع على طلاق ثلاث. وقال أبو بكر: فيها قول آخر: إنها تحرم على التأبيد؛ لأنه فرقة حاكم، فأشبهت فرقة اللعان، ولنا أنها فرقة لعيب أشبهت فرقة المعتقة تحت عبد. فصل: وليس لولي صغير ولا صغيرة ولا سيد أمة تزويجهم بمعيب؛ لأن فيه ضرراً بهم، وعليه النظر في الحظ لهم. ولا لولي كبيرة تزويجها بمعيب بغير رضاها؛ لأنه فيه ضرراً بها. فإن طلبت التزويج بمجبوب أو عنين لم يملك منعها؛ لأن الضرر يختص بها. وإن أرادت التزويج بمعيب غيرهما فله منعها؛ لأن عليه ضرراً أو عاراً، ويخشى تعديه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 إليها وإلى ولدها، ويحتمل أنه ليس منعها قياساً على الجب والعنة. فإن رضيا به جاز ويكره. قال أحمد ما يعجبني أن يزوجها بعنين، وإن رضيت الساعة فتكره إذا دخلت. وإن حدث العيب بالرجل، أو وجدته معيباً فرضيت به المرأة لم يكن لوليها إجبارها على الفسخ؛ لأنه حقه في ابتداء العقد لا في دوامه. ولهذا يملك منعها من نكاح العبد، ولو عتقت تحت عبد لم يملك إجبارها على الفسخ. فصل: وإذا اختلفا في عيب المرأة أريت النساء الثقات، فرجع إلى قولهن. فإن ادعت المرأة أن زوجها عنيناً فأنكر فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل السلامة. وإن اعترف أجله الحاكم عاماً منذ رافعته، لما روى سعيد بن المسيب: إن عمر أجل العنين سنة. وعن علي والمغيرة مثله؛ ولأن العجز قد يكون لعارض من حرارة، أو برودة، أو يبوسة، أو رطوبة فإذا مضت السنة واختلفت عليه الأهوية ولم يزل علم أنه خلقة. ولا تثبت المدة إلا بالحكم؛ لأنها مدة مختلف فيها بخلاف مدة الإيلاء. فإذا مضت السنة منذ ضربت له المدة ولم يطأها خيرت في المقام معه أو فراقه؛ لأن الحق لها. فإن رضيته عنيناً، أو قالت في وقت: قد رضيته عنيناً لم يكن لها خيار بعد ذلك؛ لأنها رضيت العيب، فأشبه ما لو رضيت المبيع المعيب. وإن اختارت فراقه فرق الحاكم بينهما. وإن اعترفت أنه وطئها مرة بطل كونه عنيناً. وإن ادعى أنه وطئها، فادعت أنها عذراء أريت النساء الثقات، فإن شهدن بما قالت فالقول قولها، وإلا فالقول قوله. وإن اختلفا في ثيب فالقول قوله؛ لأن الأصل السلامة. وعنه: القول قولها؛ لأن الأصل عدم الإصابة. وعنه: يخلى معها في بيت، ويقال: أخرج ماءك على شيء، فإن عجز عن ذلك فالقول قولها. وإن فعل فالقول قوله. فإن ادعت أنه ليس بمني جعل على النار، فإن ذاب فهو مني، وبطل قولها؛ لأنه شبيه ببياض البيض، وذاك إذا وضع على النار تجمع ويبس، وهذا يذوب، فيتميز بذلك أحدهما من الآخر، فيختبر به؛ لأن هذا قول عطاء. وإن اعترفت أنه وطئ غيرها، أو وطئها في الدبر، أو في نكاح آخر لم تزل عنته؛ لأنه قد يعن عن امرأة دون أخرى، وفي نكاح دون نكاح. والدبر ليس بمحل للوطء، فأشبه ما دون الفرج. ويقتضي قول أبي بكر أنها متى اعترفت بوطئه لغيرها، أو لها في أي نكاح كان زالت عنته. وهذا اختيار ابن عقيل؛ لأن العنة جبلة وخلقة، فلا تبقى مع ما ينافيها. وأدنى الوطء الذي يخرج به من العنة، إيلاج الحشفة في الفرج؛ لأن الوطء الذي تتعلق به الأحكام دون غيره. وهل يحلف من القول قوله؟ يحتمل وجهين، بناء على الاستحلاف في غير دعوى المال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 فصل: السبب الثاني: إذا عتقت المرأة وزوجها عبد فلها الخيار في فسخ النكاح، لما روت عائشة قالت: «كاتبت بريرة، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زوجها وكان عبداً، فاختارت نفسها. قال عروة: ولو كان حراً ما خيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مالك في " موطئه " وأبو داود في " سننه ". وإن عتقت وزوجها حر فلا خيار لها، للخبر، ولأنها كملت تحت كامل، فلم يثبت لها خيار، كما لو أسلمت الكتابية تحت مسلم، بخلاف زوجة العبد. ولها الفسخ بنفسها؛ لأنه خيار ثبت بالنص والإجماع، ولما روى الحسن عن عمر بن أمية قال: سمعت رجالاً يتحدثون عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أعتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها، إن شاءت فارقته، فإن وطئها فلا خيار لها» رواه الإمام أحمد في المسند. وخيارها على التراخي، للخبر ما لم يطأها، فإن أمكنته من وطئها عالمة بالحال بطل خيارها، للخبر؛ ولأنه دليل على رضاها به فبطل خيارها، كما لو نطقت به. وإن لم تعلم بطل خيارها أيضاً، نص عليه أحمد للخبر. وقال القاضي وأبو الخطاب: لا يبطل؛ لأن تمكينها مع جهلها لا يدل على رضاها به. وإن لم تعلم بالعتق حتى وطئها، ففيه وجهان كالتي قبلها فعلى هذا إن ادعت الجهل بالعتق وهي ممن يجوز خفاؤه عليها لبعدها عن المعتق فالقول قولها مع يمينها، وإن كانت ممن لا يخفى عليها ذلك لقربه واشتهاره لم يقبل قولها، فإن ادعت الجهل بثبوت الخيار فالقول قولها؛ لأنه لا يعلمه إلا خواص الناس. وإن أعتق العبد قبل اختيارها بطل خيارها؛ لأن الخيار لدفع الضرر الحاصل بالرق، وقد زال بعتقه فزال، كرد المعيب إذا زال عيبه. ولو أعتقا معاً فلا خيار لها. وعنه: لها الخيار، والأول أولى؛ لأنها لو عتقت تحت حر لم يثبت لها خيار، لعدم الضرر، فكذا هاهنا. ويستحب لمن أراد عتق عبد وجاريته المتزوجين البداءة بعتق الرجل، لئلا يكون للمرأة عليه خيار. وقد روى أبو داود «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنه كان غلام وجارية، فقالت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أريد أن أعتقهما، فقال لها: فابدئي بالرجل» . فصل: فإن أعتقت المجنونة والصغيرة فلا خيار لهما؛ لأنهما لا عقل لهما، ولا قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 معتبر، ولا يملكه وليهما؛ لأن هذا طريقه الشهوة، فلا يدخل تحت الولاية، كالقصاص، فإذا بلغت الصغيرة، وعقلت المجنونة فلها الخيار حينئذ، لكونهما صارا على صفة يعتبر كلامهما. والحكم في وطئهما كالحكم في وطء الجاهلة بالعتق. فصل: إذا عتق بعض الأمة فلا خيار لها في إحدى الروايتين اختارها الخرقي؛ لأنه لا نص فيها، ولا يصح قياسها على من عتق جميعها؛ لأنها أكمل منها. والثانية: لها الخيار اختارها أبو بكر؛ لأنها أكمل من زوجها، فأشبهت الكاملة بالعتق. فصل: إذا فسخت قبل الدخول سقط مهرها؛ لأن الفسخ من جهتها. وعنه: يجب نصف المهر للسيد؛ لأنه المستحق له، فلا يسقط نصفه من جهة غيره. وإن رضيته فالمهر للسيد؛ لأنه استحقه بالعقد، وروي وإن فسخت بعد الدخول استقر المسمى للسيد؛ لأنه وجب له بالعقد، واستقر بالدخول، فأشبه ما لو ارتدت. وإن طلقها قبل اختيارها وقع طلاقه، ولسيدها نصف المهر، وإن كان قبل الدخول، وجميعه إن كان بعده. وقال القاضي: طلاقه موقوف إن فسخت، تبينا أنه لم يقع، وإن لم تفسخ وقع. ولنا أنه طلاق من زوج جائز التصرف في نكاح صحيح فوقع، كما لو لم يعتق. فصل: وإن طلقها الزوج طلاقاً بائناً، ثم أعتقت فلا خيار لها؛ لأنه لا نكاح بينهما يفسخ. وإن كان رجعياً فلها الفسخ في العدة؛ لأن نكاحها باق ويمكن فسخه، فإذا فسخت انقطعت الرجعة، وبنت على ما مضى من العدة، كما لو طلقها بائنة. وإن اختارت المقام معه بطل خيارها؛ لأنها حالة صح منها اختيار الفسخ، فصح اختيار المقام، كصلب النكاح. فصل: السبب الثالث: الغرر. فلو تزوجت المرأة رجلاً مطلقاً، أو على أنه حر فبان عبداً فلها الخيار في فسخ النكاح؛ لأنها إذا ملكت الفسخ بالحرية الطارئة، فللسابقة أولى. ولها الفسخ من غير حاكم، كما لو عتقت تحت عبد. ومن جعل الحرية من شروط الكفاءة، والكفاءة من شروط النكاح أبطله، لفوات شرطه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 فصل: وإن تزوج أمة على أنها حرة، أو يظنها حرة، وهو ممن لا يحل نكاح الإماء، فالنكاح فاسد، وعليه فراقها متى علم، وحكمه حكم الأنكحة الفاسدة في المهر وغيره. وإن كان ممن تحل له الإماء، فالنكاح صحيح؛ لأن فوات صفة في المعقود عليه لا تفسد العقد، كما لو تزوجها على أنها بيضاء فبانت سوداء. وفي الموضعين متى أصابها فولدت منه فالولد حر، حراً كان الزوج أو عبداً؛ لأنه اعتقد حريتها، وعليه فداء أولاده؛ لأن عمر وعلياً وابن عباس قضوا بذلك. وعنه: ليس عليه فداؤهم؛ لأن الولد ينعقد حراً، فلم يضمنه لسيدها؛ لأنه لم يملكه. وعنه: يقال للزوج افتد ولدك وإلا فهم يتبعون الأم. والمذهب الأول. وله فسخ نكاحها إن أحب؛ لأنه غرور بالحرية، أشبه غرور المرأة. فإن فسخ قبل الدخول فلا مهر عليه؛ لأن الفسخ لسبب من جهتها. وإن فارقها بعد الدخول فعليه المهر بما أصاب منها، ويرجع بما غرمه من المهر، وفداء الأولاد في الموضعين على من غره، نص عليه أحمد. وذكره الخرقي؛ لأن الصحابة الذين ذكرناهم قضوا به. وعن أحمد: لا يرجع بالمهر، وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ولأنه وجب في مقابلة نفع وصل إليه. وظاهر المذهب الأول؛ لأن العاقد ضمن له سلامة الوطء، كما ضمن له سلامة الولد، فوجب أن يرجع به كقيمة الولد. فصل: ويفدي الأولاد بقيمتهم يوم الولادة؛ لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ولأنه محكوم بحريتهم يوم وضعهم، فاعتبر فداؤهم يومئذ. وتجب القيمة؛ لأنه ضمان وجب لفوات حرية، فأشبه ضمان حصة شريكه إذا سرى العتق إليه. وعنه: يفديهم بعبيد مثلهم؛ لأنه يروى عن عمر أنه قضى بفداء ولده بغرة غرة، مكان كل غلام غلام، ومكان كل جارية جارية؛ ولأن الولد حر فلا يضمن بقيمته، كسائر الأحرار. وعنه: أنه مخير بين فدائهم بمثلهم وقيمتهم؛ لأن الأمرين يرويان جميعاً عن عمر. فإن فداهم بمثلهم وجب مثلهم في القيمة. اختاره أبو بكر؛ لأن الحق ينجبر بذلك، ويحتمل أن ينظر إلى صفاتها تقريباً؛ لأن الآدمي ليس من ذوات الأمثال، ولا يفدى منهم إلا من ولد حياً في وقت يعيش مثله، سواء عاش أو مات بعد ذلك؛ لأن غير ذلك لا قيمة له. فصل: وإن كان المغرور عبداً فولده أحرار؛ لأنه وطئها يعتقد حريتها فكان ولده حراً، كولد الحر. وعليه فداؤهم؛ لأنه فوت رقهم. وهل يتعلق فداؤهم برقبته، أو بذمته؟ على وجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 أحدهما: برقبته كأرش جنايته. والثاني: بذمته، كعوض الخلع من الأمة. ويرجع به على من غره. فإن قلنا برقبته رجع به في الحال؛ لأنه يؤخذ من سيده في الحال. وإن قلنا: يتعلق بذمته لم يلزمه أداؤه حتى يعتق، ولا يرجع به حتى يغرمه؛ لأنه لا يرجع بشيء لم يفت عليه، وتتعجل حريتهم في الحال. وللعبد الخيار إذا علم، ويحتمل أن لا يثبت؛ لأنه فقد صفة لم ينقص بها عن رتبته، فأشبه ما لو شرط نسب امرأة فبان خلافه. والأول ظاهر المذهب؛ لأنه مغرور بحرية فملك الفسخ، كالحر الذي يباح له نكاح الإماء. وإن غرت الأمة بعبد، فتزوجته على أنه حر فلها الخيار أيضاً؛ لأنها مغرورة بحرية من ليس بحر، أشبهت المرأة الحرة، والعبد المغرور. ويحتمل ألا يثبت لها خيار؛ لأنه يكافئها، ولا يؤثر رقه في إرقاق ولدها، فأشبه ما لو شرطته أشرف نسباً منها، فتبين أنه مثلها. فصل: فإن غرها بنسبة وكان مخلاً بالكفاءة، فقد مضى القول فيه، وإن لم يخل بها، ففيه وجهان: أحدها: لا خيار لها؛ لأن زيادة نسبه عليها، لا يضرها فواته، فأشبه ما لو شرطته جميلاً أو فقيهاً فبان بخلافه. والثاني: لها الخيار؛ لأنها شرطت ما يقصد، فأشبه شرط الصفة المقصودة في المبيع. فصل: وإن شرطها بكراً، فبانت ثيباً أو نسيبة أو جميلة أو بيضاء، فبانت بخلافه ففيه وجهان: أحدهما: لا خيار له؛ لأن النكاح لا يرد فيه بعيب سوى العيوب السبعة، فلا يرد بمخالفة الشرط، كما لو شرطت ذلك في الرجل. والثاني: له الخيار؛ لأنها صفات مقصودة فصح شرطها، كالحرية. وإن شرطها مسلمة فبانت كافرة، أو تزوجها في دار الإسلام يظنها مسلمة، فبانت كافرة فله الخيار؛ لأنه نقص وضرر يتعدى إلى الولد، فملك الخيار به إذا شرط عدمه، كالرق. وإن تزوجها على أنها كتابية، فبانت مسلمة فلا خيار له؛ لأنها زيادة. وقال أبو بكر: له الخيار؛ لأنه قد يكون له غرض في إسقاط العبادات عنها، فيضره فواته. وإن تزوجها على أنها أمة، فبانت حرة فلا خيار له؛ لأنها زيادة، وكذلك لو شرطها على صفة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 فبانت خيراً منها؛ لأنه نفع، فلم يثبت به الخيار، كما لو شرطه في المبيع. فصل: والسبب الرابع: الإعسار بالنفقة ونحوها على ما نذكره في موضعه، ومخالفته شرطها اللازم، كاشتراطها دارها ونحوها على ما مضى، والله أعلم. [ باب نكاح الكفار ] أنكحتهم صحيحة إذا اعتقدوا إباحتها في شرعهم، وإن خالفت أنكحة المسلمين فهي صحيحة، إلا أن يتزوج محرمة عليه؛ لأنه أسلم خلق كثير في عصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقرهم في أنكحتهم، ولم يكشف عن كيفيتها. ولا يتعرض لهم ما لم يترافعوا إلينا؛ لأننا صالحناهم على إقرارهم على دينهم. وعن أحمد في مجوسي تزوج نصرانية: أو ملك نصرانية يحول بينهما الإمام، فيخرج من هذا أنه يفرق بينهم، وبين ذوات المحارم؛ لأن عمر كتب: أن فرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس. وإن ملك نصراني مجوسية لم يحل بينهما؛ لأنه أعلى منها. وقال أبو بكر: يمنع من وطئها أيضاً، كما يمنع المجوسي من النصرانية، فأما إن أسلموا وترافعوا إلينا لم ينظر في كيفية عقدهم، ونظرنا في الحال، فإن كانت المرأة ممن يجوز عقد نكاحها في الحال أقررناهما. وإن كانت ممن يحرم نكاحها في الحال، كذات محرمة، والمعتدة، والمطلقة ثلاثاً، فرقنا بينهما. وإن تزوجها بشرط الخيار مدة، أو في عدتها، ثم أسلما في المدة أو العدة فرقنا بينهما كذلك. وإن أسلما بعد انقضائهما أقررناهما عليه. وإن قهر حربي حربية، فوطئها وطاوعته، واعتقداه نكاحاً أقررناهما عليه وإلا فلا. وإن أسلما وبينهما نكاح متعة، أو نكاح شرط فيه الخيار متى شاء لم يقرا عليه؛ لأنهما لا يعتقدان لزومه ولا تأبيده. وإن اعتقدا فساد الشرط وحده أقرا عليه. فصل: وإذا اسلم الزوجان معاً فهما على نكاحهما، سواء أسلما قبل الدخول أو بعده؛ لأن ذلك إجماع، ولأنه لم يوجد بينهما اختلاف دين يقتضي الفرقة. وإن سبق أحدهما صاحبه وكان المسلم زوج كتابية، فالنكاح بحاله؛ لأنه يحل له ابتداء نكاحها. وإن أسلمت المرأة قبله، أو أسلم أحد الزوجين الوثنيين، أو المجوسيين قبل الدخول، بانت منه امرأته، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وتقع الفرقة بسبق أحدهما الآخر بلفظه؛ لأنه يحصل بذلك اختلاف الدين المحرم، ويحتمل أن يقف على المجلس كالقبض؛ لأن حكم المجلس حكم حالة العقد، ولأنه يبعد اتفاقهما على النطق بكلمة الإسلام دفعة واحدة. فإن كان إسلام أحدهما بعد الدخول ففيه روايتان: إحداهما: تتعجل الفرقة، لما ذكرنا. والثانية: تقف على انقضاء العدة. فإن أسلم الآخر فيها فهما على نكاحهما، وإن لم يسلم حتى انقضت تبينا أن الفرقة وقعت حين أسلم الأول، بحيث لو كان وطئها في عدتها ولم يسلم أدب، ولها عليه مهر مثلها، لما روى ابن شبرمة قال: كان الناس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبله، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته. وإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما. ولم يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين زوجين أسلما، مع أن جماعة منهم أسلموا قبل أزواجهم، منهم أبو سفيان، وجماعة أسلم أزواجهن قبلهم، منهم صفوان بن أمية وعكرمة وأبو العاص بن الربيع. والفرقة الواقعة بينهما فسخ؛ لأنها فرقة عريت عن الطلاق، فكانت فسخاً كسائر الفسوخ. فصل: وإن أسلم الحر وتحته أكثر من أربع فأسلمن معه، أو كن كتابيات، أمر أن يختار منهن أربعاً ويخلي سائرهن، سواء تزوجهن في عقد، أو عقود متفرقة، وسواء اختار أول من عقد عليها أو آخرهن، لما روى «قيس بن الحارث قال: أسلمت وتحتي ثمان نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت له ذلك. فقال: اختر منهن أربعا» رواه أبو داود. فإن أبى أجبر بالحبس والتعزير؛ لأنه حق عليه يمكنه إيفاؤه فأجبر عليه، كالدين. ولا يملك الحاكم الاختيار عنه؛ لأنه حق لغير معين. فإن جن خلي حتى يفيق، ثم يخير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 لأنه عجز عن الاختيار، فأشبه العاجز عن الدين بالإعسار، وعليه نفقة الجميع إلى أن يختار؛ لأنهن محبوسات عليه بحكم النكاح. فإن مات قبل الاختيار لم يقم وارثه مقامه، لما ذكرنا. ولزم جميعهن العدة؛ لأن كل واحدة يجوز أن تكون زوجة. وعدة الحامل وضع حملها. وعدة ذوات الأشهر أربعة أشهر وعشراً. وعدة ذوات الأقراء أطول الأجلين من ثلاثة قروء وعدة الوفاء، ليسقط الفرض بيقين، والميراث لأربع منهن بالقرعة، إلا أن يصطلحن عليه فيكون بينهن على ذلك. فصل: والاختيار أن يقول: قد اخترت هؤلاء، أو نكاح هؤلاء، أو أمسكتهن، أو نحو هذا. وإن قال: اخترت فسخ نكاح هؤلاء، كان اختياراً لغيرهن. وإن طلق واحدة، كان اختياراً لها؛ لأن الطلاق لا يكون إلا لزوجة. وإن قال: فارقت هذه ففيه وجهان: أحدهما: يكون اختياراً لنكاحها؛ لأن الفراق طلاق. والثاني: يكون فسخاً لنكاحها واختياراً لغيرها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمسك منهن أربعاً وفارق سائرهن» وهذا يقتضي أن يكون لفظ الفراق صريحاً في ترك نكاحها. وإن وطئ إحداهن كان اختياراً لها في قياس المذهب، كما لو وطئ الجارية المعيبة في مدة الخيار. وإن آلى، أو ظاهر منها لم يكن اختياراً لها؛ لأنه يصح في غير زوجة، ويحتمل أنه اختيار لها؛ لأنه لا يؤثر إلا في زوجة. فإن طلق الجميع أقرع بينهن، فإذا وقعت القرعة على أربع منهن فهن المختارات، فيقع طلاقه بهن، وينفسخ طلاق البواقي، وله نكاح من شاء منهن بعد انقضاء عدة المطلقات. وإن أسلم قبلهن وقال: كلما أسلمت واحدة منهن، فقد اخترتها أو فقد فسخت نكاحها لم يصح؛ لأن الاختيار والفسخ لا يصح تعليقه على شرط ولا على غير معين؛ لأنه كالعقد، ولأن الفسخ إنما يستحق فيما زاد على الأربع، وقد يجوز ألا يسلم أكثر من أربع، وإن قال: كلما أسلمت واحدة فهي طالق، ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأن الطلاق يصح تعليقه على شرط. وكلما أسلمت واحدة طلقت، وكان اختياراً لها. والثاني: لا يصح؛ لأنه يتضمن الاختيار الذي لا يصح تعليقه بالشرط. وإن قال: اخترت فلانة، أو فسخت نكاحها قبل إسلامها لم يصح؛ لأنه ليس بوقت لاختيار ولا فسخ. وإن طلقها كان موقوفاً إن أسلمت تبينا وقوع طلاقه، وإلا فلا. وإن وطئ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 واحدة، فأسلمت في عدتها تبينا أنه وطئ زوجته. وإن لم تسلم فقد وطئ أجنبية، وإن طلق الجميع، فأسلمن في العدة، أمر باختيار أربعة منهن، فيتبين وقوع طلاقه بهن، ويعتددن من حين طلاقه، وبان سائرهن بغير طلاق. فصل: وإن أسلم عبد وتحته أكثر من اثنتين فأسلمن معه لزمه اختيار اثنتين؛ لأنهما في حقه كالأربع في حق الحر. فإن عتق قبل الاختيار لم يجز له الزيادة على اثنتين؛ لأنه ثبت له الاختيار وهو عبد. وإن أسلم وعتق ثم أسلمن، أو أسلمن ثم عتق، ثم أسلم لزمه نكاح أربع؛ لأنه في وقت الاختيار ممن له نكاح أربع. فصل: ومن أسلم وتحته أختان لزمه أن يختار إحداهما، لما روى «الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان. قال: طلق أيهما شئت» رواه أبو داود؛ ولأن الجمع بينهما محرم، فأشبه الزيادة على الأربع. وهذا القول في المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها؛ لأن جمعهما محرم. وإن أسلم وتحته امرأة وبنتها ولم يدخل بالأم انفسخ نكاحها؛ لأنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها، وثبت نكاح بنتها؛ لأنها لا تحرم قبل الدخول بأمها. وإن كان قد دخل بالأم انفسخ نكاحهما، وحرمتا على التأبيد. فصل: ولو أسلم حر وتحته إماء، فأسلمن معه، وهو ممن لا يحل له نكاح الإماء انفسخ نكاح الإماء. وإن كان ممن يحل له نكاح الإماء اختار منهن واحدة؛ لأنه يملك ابتداء نكاحها فملك اختيارها كالحرة. ولو أسلم وهو موسر، فلم يسلمن حتى أعسر فله الاختيار منهن؛ لأن وقت الاختيار حين اجتماعهن على الإسلام، فاعتبر حاله حينئذ. وإن أسلم وهو معسر فلم يسلمن حتى أيسر لم يكن له الاختيار منهن كذلك. فإن أسلمت معه واحدة فله اختيارها، وله انتظار الباقيات؛ لأن له غرضاً صحيحاً فيه، فإن اختار الأولى ثبت نكاحها، وانقطعت عصمة البواقي منذ اختلف دينهن. وإن اختار فسخ نكاح المسلمة لم يكن له ذلك؛ لأن الفسخ إنما يكون في الفضل عمن يثبت نكاحها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 ولا فضل. فإن فسخ ولم تسلم البواقي لزمه نكاحها وبطل الفسخ. وإن أسلمن فله اختيار واحدة. فإن اختار التي فسخ نكاحها ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن الفسخ كان قبل وقته، فوجوده كعدمه. والثاني: ليس له ذلك؛ لأننا إنما منعنا الفسخ فيها، لكونها غير فاضلة، وبإسلام غيرها صارت فاضلة، فصح فسخ نكاحها. فصل: وإن أسلم وتحته حرة وأمة، فأسلمتا في عدتهما ثبت نكاح الحرة، وبطل نكاح الأمة؛ لأن لا يجوز له ابتداء نكاح أمة وتحته حرة. وإن لم تسلم الحرة في عدتها ثبت له نكاح الأمة إن كان ممن له نكاح الإماء. وإن أسلمتا في العدة، ثم ماتت الحرة، أو عتقت الأمة لم يكن له إمساك الأمة؛ لأن نكاحها انفسخ بإسلام الحرة. وإن عتقت الأمة قبل إسلامها فله إمساكها؛ لأن الاعتبار بحالة اجتماعهم على الإسلام، وهي حرة حينئذ. وإن أسلمت قبله وعتقت، ثم أسلم الزوج فله إمساكها كذلك. ولو أسلم وتحته إماء، فعتقت إحداهن، ثم أسلمن كلهن لزم نكاح الحرة، وانفسخ نكاح الإماء. وإن أسلمت إحداهن، ثم عتقت، ثم أسلم البواقي فله الاختيار منهن؛ لأن الاعتبار بحالة الاختيار، وحالة الاختيار حالة اجتماعهما على الإسلام، وهي أمة حينئذ. فصل: وإذا ارتد الزوجان، أو أحدهما قبل الدخول انفسخ النكاح، لاختلاف دينهما، أو كون المرأة بحال لا يحل نكاحها. وإن كان بعده ففيه روايتان: إحداهما: تتعجل الفرقة. والثانية: تقف على انقضاء العدة. فإن اجتمعا على الإسلام قبل انقضائها فهما على النكاح. وإن لم يجتمعا وقعت الفرقة من حين الردة؛ لأنه انتقال عن دين يمنع ابتداء النكاح، فكان حكمه ما ذكرنا، كإسلام أحد الزوجين. فصل: وإن انتقل الكتابي إلى دين غير أهل الكتاب، كالمجوسية وغيرها، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: يجبر على الإسلام، ولا يقبل منه غيره؛ لأن ما سواه باطل اعترف ببطلانه؛ لأنه لما كان على دينه اعترف ببطلان ما سواه، ثم اعترف ببطلان دينه حين انتقل عنه، فلم يبق إلا الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 والثانية: لا يقبل منه إلا الإسلام، أو الدين الذي كان عليه؛ لأننا أقررناه عليه أولاً، فنقره عليه ثانياً. والثالثة: لا يقبل منه إلا الإسلام، أو دين أهل الكتاب؛ لأنه دين أهل كتاب فيقر عليه كغيره من أهل ذلك الدين. وإن انتقل المجوسي إلى دين أهل الكتاب، أو انتقل كتابي إلى دين آخر من دين أهل الكتاب، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: لا يقبل منه إلا الإسلام، لما ذكرنا. والثانية: يقر على ما انتقل إليه. والثالثة: لا يقبل منه إلا الإسلام، أو دينه الذي كان عليه، لما تقدم. وإذا قلنا: لا يقبل منه إلا الإسلام ففيه روايتان: إحداهما: أنه يجبر عليه بالقتل، كالمرتد. والثانية: أنه إن انتقل إلى المجوسية أجبر بالقتل، وإن انتقل إلى دين أهل الكتاب لم يجبر بالقتل، لكن يجبر بالضرب والحبس؛ لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب، فلم يقبل كالباقي على دينه. وكل موضع قلنا: لا يقر، فإذا انتقلت الكتابية المتزوجة للمسلم فحكمها حكم المرتدة على ما يبين في موضعه. فصل: إذا أسلم الزوجان قبل الدخول، فقالت المرأة: أسلم أحدنا فانفسخ النكاح، وقال: بل أسلمنا معاً، ففيه وجهان: أحدهما: القول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النكاح. والثاني: القول قولها؛ لأن الظاهر معها، فإن اجتماع إسلامهما حتى لا يسبق أحدهما الآخر بعيد. وإن اتفقا على سبق أحدهما، وقالت المرأة: أنت السابق فعليك نصف المهر. وقال الزوج: بل أنت سبقت فلا مهر لك، فالقول قول المرأة؛ لأن الأصل بقاء المهر وعدم سقوطه. وإن أسلما بعد الدخول فقال الزوج: أسلمت في عدتك فالنكاح باق، وقالت: بل انقضت عدتي قبل إسلامك فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النكاح. وفيه وجه آخر أن القول قول المرأة؛ لأن الأصل عدم إسلام الثاني. وإن قال: أسلمت قبلك فلا نفقة لك، فقالت: بل أسلمت قبلك فلي النفقة، ففيه وجهان: أحدهما: القول قولها؛ لأن الأصل وجوب النفقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 والثاني: القول قوله؛ لأن النفقة إنما تجب بالتمكين من الاستمتاع، والأصل عدم وجوبه. فصل: إذا أسلم أحد الزوجين الكافرين، ثم ارتد ولم يسلم الآخر في العدة فعدتها من حين أسلم الأول. وإن أسلم الثاني في العدة، فابتداء العدة من حين ارتد؛ لأن الحكم اختلاف الدين بإسلام الأول زال بإسلام الثاني منهما. ولو أسلم رجل وتحته عشر نسوة فأسلمن، ثم ارتددن، أو ارتد دونهن لم يكون له أن يختار منهن؛ لأنه لا يملك العقد عليهن في الحال. فصل: ولو أسلم عبد وتحته أمة كافرة فأعتقت، أو أسلمت قبله ثم أعتقت فلها فسخ النكاح؛ لأنها عتقت تحت عبد، فإذا فسخت، ثم أسلم الثاني في العدة بانت بفسخ النكاح. وإن لم يسلم الثاني تبينا أنها بانت باختلاف الدين، وعليها عدة حرة في الموضعين؛ لأنها وجبت وهي حرة، أو عتقت في أثناء عدة يمكن الزوج تلافي نكاحها فيها، فأشبهت الرجعية. وإن أخرت الفسخ حتى أسلم الثاني منهما لم يسقط حقها؛ لأنها تركته اعتماداً على جريانها إلى البينونة، فأشبهت الرجعية. وإن قالت: قد رضيت بالزوج، فذكر القاضي: أنه يسقط حقها؛ لأنها رضيته في حال يمكن فسخه فصح، كحالة اجتماعهما على الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 [ كتاب الصداق ] يستحب أن يعقد النكاح بصداق؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتزوج ويزوج بناته بصداق. وعن سهل بن سعد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقال رجل: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إزارك إن أعطيتها إياه جلست ولا إزار لك، فالتمس شيئاً آخر فقال: لا أجد، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد فالتمس فلم يجد شيئاً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا لسور يسميها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زوجتكها بما معك من القرآن» متفق عليه؛ ولأنه أقطع للنزاع فيه. ويجوز من غير صداق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] . فأثبت الطلاق مع عدم الفرض، ولأن القصد بالنكاح الوصلة والاستمتاع، وهو حاصل بغير صداق. فصل: ويجوز أن يكون الصداق قليلاً، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمس ولو خاتماً من حديد» ولأنه بدل منفعتها، فكان تقديره إليها، كأجرتها. ويجوز أن يكون كثيراً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 ولا تستحب الزيادة على خمسمائة درهم؛ لأنه صداق أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته. بدليل ما روى أبو سلمة قال: «سألت عائشة عن صداق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: ثنتا عشر أوقية ونش، فقلت: وما نش؟ قالت: نصف أوقية» . رواه مسلم، وأبو داود؛ ولأنه إذا كثر أجحف، ودعا إلى المقت. ويستحب تخفيفه، لما روت عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة» رواه أحمد. فصل: وكل ما جاز ثمناً في بيع، أو عوضاً في إجارة، من دين وعين، وحال مؤجل، ومنفعة معلومة، من حر أو عبد، كرد عبدها من مكان معين، وخدمتها في شيء معلوم جاز أن يكون صداقاً؛ لأن الله تعالى أخبر عن شعيب أنه قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فجعل الرعي صداقاً، ولأنه عقد على المنفعة فجاز ما ذكرنا، كالإجارة. فصل: وما لا يجوز أن يكون ثمناً ولا أجرة لا يجوز أن يكون صداقاً، كالخمر، وتعليم التوراة، والإنجيل، وتعليم الذمية القرآن، والمعدوم، وما لم يتم ملكه عليه، كالمبيع المعتبر قبضه قبل قبضه، وما لا يقدر على تسليمه، كالآبق، والطير في الهواء؛ لأنه عوض في عقد، فأشبه عوض البيع والإجارة. ولا يصح أن يكون مجهولاً، كعبد وثوب، هذا اختيار أبي بكر. وقال القاضي: يصح في مجهول جهالة لا تزيد على مهر المثل، كعبد أو فرس أو بعير، أو ثوب هروي، أو قفيز حنطة، أو قنطار زيت؛ لأنه لو تزوجها على مهر مثلها صح مع كثرة الجهل، فهذا أولى. فإن زادت جهالته على جهالة مهر المثل، كثوب ودابة وحكم إنسان، ورد عبدها أين كان، وخدمتها فيما أرادت لم يصح. وقال أبو الخطاب: إن تزوجها على عبد من عبيده صح ولها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 أحدهم بالقرعة. نص عليه أحمد. وعلى هذا يخرج إذا أصدقها قميصاً من قمصانه، أو عمامة من عمائمه، أو دابة من دوابه؛ لأن الجهالة تقل فيه. ولا تصح على عبد مطلق؛ لأن الجهالة تكثير، ولنا أنه عوض في عقد معاوضة، فلم يصح مجهولاً، كثمن البيع. وتأول أبو بكر، نص أحمد على أنه عين عبداً فأشكل عليه، فإن أصدقها ما لا يجوز أن يكون صداقاً لم يبطل النكاح. ونقل المروذي عن أحمد: إذا تزوج على مال بعينه غير طيب أنه كرهه، وأعجبه استقبال النكاح، وهذا يدل على أن النكاح لا يصح اختاره أبو بكر؛ لأنه عقد معاوضة، ففسد بفساد العوض، كالبيع، والأول أولى؛ لأن فساده ليس بأكثر من عدمه، وعدمه لا يفسد العقد. ويجب لها مهر المثل؛ لأنها لم ترض إلا ببدله، ولم يسلم البدل، وتعذر رد العوض، فوجب رد بدله، كما لو باعه سلعة بخمر فتلفت عند المشتري. وعلى قول القاضي: إذا أصدقها مجهولاً وجب لها الوسط، ووسط العبيد السندي، فيجب ذلك لها. وإن جاءها بقيمته لزم قبوله، قياساً على الإبل في الدية. فصل: فإن أصدقها عبداً فخرج حراً، أو مستحقاً فله قيمته؛ لأن العقد وقع على التسمية؛ لأنها رضيت بقيمته إذ ظنته مملوكاً، وقد تعذر تسليمه، فكانت لها قيمته، كما لو وجدته معيباً فردته. وإن أصدقها مثلياً فخرج مستحقاً فلها مثله؛ لأنه أقرب إليه، ولذلك يضمن به في الإتلاف. وإن أصدقها عصيراً فخرج خمراً، فذكر القاضي: أن لها قيمته؛ لأن الخمر ليس من ذوات الأمثال، ويحتمل أن يلزمه مثل العصير المسمى؛ لأنه مثلي، فوجب إبداله بمثله، كما لو أتلف. ويفارق هذا ما إذا قال: أصدقتك هذا الخمر، أو هذا الحر؛ لأنها رضيت بما لا قيمة له، فأشبهت المفوضة، ولم ترض هاهنا بذلك. وإن قال: أصدقتك هذا الخمر أشار إلى الخل، أو هذا الحر وأشار إلى عبده صح ولها المشار إليه؛ لأنه محل يصح العقد عليه، فلم يختلف حكمه باختلاف تسميته، كما لو قال: أصدقتك هذا الأبيض، وأشار إلى الأسود. وإن تزوجها على شيء فخرج معيباً، فهي مخيرة بين أخذ أرشه، وبين رده وأخذ قيمته، أو مثله إن كان مثلياً، لما ذكرنا في أول الفصل. فصل: وإن تزوج الكافر كافرة بمحرم ثم أسلما، أو تحاكما إلينا قبل الإسلام والقبض سقط المسمى ووجب مهر المثل؛ لأنه لا يمكن إجباره على تسليم المحرم. وإن كان بعد القبض، برئت ذمته كما لو تبايعا بيعاً فاسداً وتقابضا. وإن قبضت البعض برئت ذمته من المقبوض، ووجب بقسط ما بقي من مهر المثل. فإن كان الصداق خنزيرين، أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 زقي خمر، أو زق خمر وخنزيراً، وقبضت أحدهما ففيه وجهان: أحدهما: يعتبر العدد؛ لأنه لا قيمة له، فكان الجميع واحداً، فيقسط على عدده، فيسقط نصف الصداق، ويجب نصف مهر الثمل. والثاني: يعتبر بقيمته عندهم، أو بالكيل إن كان مكيلاً لأنه أخصر. فصل: وإن تزوج المرأة على أن يشتري لها عبداً بعينه صح؛ لأنه أصدقها تحصيل عبد معين فصح، كما لو أصدقها رد عبدها من مكان معين، فإن لم يبع، أو طلب به أكثر من قيمته فلها قيمته؛ لأنه تعذر تسليم المسمى، فوجبت قيمته، كما لو تلف. وإن تزوجها على أن يعتق أباها صح كذلك. ومتى تعذر إعتاقه وجبت قيمته لما ذكرناه، وفي المسألتين إذا أمكن الوفاء بما شرطه، فبذل قيمته لم يلزمها قبوله؛ لأن الحق ثبت لها في معين، فلم يلزم قبول عوضه مع إمكانه، كما لو قال: أصدقتك هذا العبد. وإن تزوجها على عبد موصوف في الذمة صح؛ لأنه يصلح أن يكون عوضاً في البيع، ولا يلزمها قبول قيمته؛ لأنها استحقت عبداً بعقد معاوضة، فلم يلزمها قبول قيمته، كالمبيع. وعند القاضي: يلزمها قبولها، قياساً على الإبل في الدية. فصل: وإن تزوجها على طلاق زوجته الأخرى لم يصح الصداق؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها أو إنائها ولتنكح فإنما رزقها على الله» رواه البخاري ومسلم. وعنه: يصح لأن لها فيه غرضاً صحيحاً، أشبه عتق أبيها، فإن فات طلاقها بموتها، فقال أبو الخطاب: قياس المذهب أن لها مهر الميتة؛ لأن عوض طلاقها مهرها، فأشبه قيمة العبد، ويحتمل أن يجب مهر المثل؛ لأن الطلاق لا قيمة له ولا مثل. فصل: وإن تزوجها على ألف إن كان أبوها حياً، وألفين إن كان ميتاً، فالتسمية فاسدة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 لأنه في معنى بيعتين في بيعة. وإن تزوجها على ألف إن لم يكن له زوجة، وعلى ألفين إن كان له زوجة، فقال أحمد: تصح التسمية، قال أبو بكر والقاضي: في المسألتين جميعاً روايتان، جعلا نصه في إحدى المسألتين رواية في الأخرى لتماثلهما. إحداهما: فساد التسمية، اختاره أبو بكر؛ لأنه لم يعين العوض ففسد، كبيعتين في بيعة. والثانية: يصح؛ لأن الألف معلومة، وإنما جعلت الثانية، وهي معلقة على شرط، فإن وجد كانت زيادة في الصداق، والزيادة فيه صحيحة. فصل: فإن أصدقها تعليم شيء مباح، كصناعة، أو كتابة، أو فقه، أو حديث، أو لغة، أو شعر لها أو لغلامها صح، ولأنه أحد عوضي الإجارة فجاز صداقاً كالأثمان. فإن أصدقها تعليم شيء لا يحسنه نظرت، فإن قال: أحصل لك تعليمه صح؛ لأنها منفعة في ذمته لا تختص به، فأشبه ما لو أصدقها ديناراً لا يقدر عليه، وإن قال: على أن أعلمك، فذكر القاضي في الجامع أنه لا يصح؛ لأنه تعين بفعله وهو عاجز عنه، وقال في " المجرد " يحتمل أن يصح؛ لأنه يقع في ذمته فصح لما ذكرنا، فإن تعلمتها من غيره، أو تعذر عليه تعليمها، فعليه أجرة تعليمها، وإن أتته بغيرها ليعلمها مكانها لم يلزمه ذلك؛ لأنهما يختلفان في سرعة التعلم وإبطائه، ويحتمل أن يلزمه إذا أتته بمن يجري مجراها، كمن اكترى شيئاً جاز أن يوليه لمن يقوم مقامه. وإن طلقها بعد الدخول قبل تعليمها ففيه وجهان: أحدهما: يعلمها من وراء حجاب، كما يسمع الحديث من الأجنبية. والثاني: عليه أجرة التعليم؛ لأنها صارت أجنبية، فلا تؤمن الفتنة عليهما في تعليمها. أما الحديث، فإن الحاجة داعية إلى سماعه؛ لأنه لا بدل له. وإن كان قبل الدخول ففي تعليمه النصف الوجهان. فإن طلقها بعد تعليمها رجع عليها بنصف أجرة التعليم. فصل: فإن أصدقها تعليم القرآن أو شيء منه، ففيه روايتان: إحداهما: يجوز لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوجتكها بما معك من القرآن» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 والثانية: لا يجوز؛ لأن تعليم القرآن لا يقع إلا قربة لصاحبه، فلم يكن صداقاً، كتعليم الإيمان. وقد روى النجاد بإسناده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوّج رجلاً على سورة من القرآن، ثم قال: لا تكون لأحد بعدك مهراً» فإن قلنا بجوازه، فأصدقها تعليم بعض القرآن، فمن شرطه تعيين ذلك البعض؛ لأن التعليم والمقاصد تختلف باختلافه. وذكر أبو الخطاب وابن عقيل أنه إن كان في البلد قراءات افتقر إلى تعيين أحدها؛ لأن حروف القرآن تختلف، فأشبه تعيين الآيات، والصحيح أنه لا يفتقر إليه؛ لأنه اختلاف يسير، وكل حرف ينوب مناب صاحبه، فأشبه ما لو أصدقها قفيزاً من صبرة. فصل: ويصح أن يكون الصداق معجلاً ومؤجلاً. فإن أطلق ذكره كان حالاً؛ لأنه عوض في عقد معاوضة أشبه الثمن، فإن شرطه مؤجلاً إلى مدة معلومة، فهي إلى أجله. وإن لم يذكر أجله فقال أبو الخطاب: لا يصح، ولها مهر المثل قياساً على الثمن في المبيع. وقال القاضي: يصح، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لأنه قال: إذا تزوج على العاجل والآجل لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة؛ لأن الصداق يجوز أن يكون مجهولاً فيما إذا تزوجها على مهر المثل، فالتأجيل التابع له أولى، فعلى هذا محل الآجل الفرقة بموت أو غيره؛ لأن المطلق يحمل على العرف، والعادة في الآجل تركه إلى الفرقة، فحمل عند الإطلاق عليه. فصل: وإذا تزوجها على صداقين، سر وعلانية، فقال الخرقي: يؤخذ بالعلانية؛ لأن الزائد على صداق السر زيادة زادها في الصداق، وإلحاق الزيادة بالصداق جائزة. وقال القاضي: الواجب مهر العقد الذي انعقد به النكاح، سراً كان أو علانية؛ لأنه الذي انعقد به النكاح، فكان الواجب المسمى فيه، كما لو انفرد. فصل: وإلحاق الزيادة بالصداق جائزة، فإن زادها في صداقها شيئاً بعد انبرام العقد جاز، وكان الجميع صداقاً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 فصل: وإذا تزوج أربعاً بصداق واحد صح؛ لأن جملة صداقهن معلومة فصح، كما لو اشترى أربعة أعبد بثمن واحد، ويقسم بينهن على قدر مهورهن، كما يتقسط ثمن الأعبد على قيمتهم. وقال أبو بكر: يخرج فيه وجه آخر، أنه يقسم بينهن على عددهن؛ لأنه أضيف إليهن إضافة واحدة، فأشبه ما لو أقر لهن، وهذا القول فيما إذا خالعهن بعوض واحد، أو كاتب أعبده بعوض واحد. فصل: وتملك المرأة المسمى بالعقد إذا كان صحيحاً، ومهر المثل في الموضع الذي يجب فيه؛ لأنه عقد يُملك فيه المعوض بالعقد، فملك العوض به كالبيع. وعنه رواية أخرى تدل على أنها لا تملك إلا نصفه؛ لأنه لو طلقها لم يجب إلا نصفه، والمذهب الأول فعلى هذا نماؤه وزيادته لها، وزكاته عليها، ونقصانه بعد قبضها إياه عليها. وإن نقص قبل القبض لمنعه إياه من قبض فهو من ضمانه، وإن لم يمنعها فنقص المكيل والموزون عليه؛ لأنه يعتبر قبضه، وما عداه يخرج فيه وجهان بناء على الروايتين في المبيع قبل القبض سواء؛ لأنه منتقل بعقد ينقل الملك، فأشبه المبيع. والثاني: لها التصرف فيه؛ لأنه منتقل بسبب لا ينفسخ بهلاكه قبل قبضه، فجاز التصرف فيه قبل قبضه، كالوصية والميراث، وقد نص أحمد على جواز هبة المرأة زوجها صداقها قبل قبضه، وهو تصرف. فصل: ويدفع صداق المرأة إليها إن كانت رشيدة، وإلى من يلي مالها إن كانت غير رشيدة؛ لأنه مال لها، فأشبه ثمن مبيعها. وفي البكر البالغة العاقلة وجهان: أحدهما: لا يدفع إلا إليها كذلك. والثاني: يجوز دفعه إلى أبيها؛ لأنه العادة، ولأنه يملك إجبارها على النكاح، فأشبهت الصغيرة. فصل: ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها المعجل؛ لأن في إجبارها على تسليم نفسها أولاً خطر إتلاف البضع، والامتناع عن بذل الصداق، فلا يمكن الرجوع فيه، بخلاف المبيع، ولها النفقة إذا امتنعت؛ لأنه امتناع بحق، فأشبه ما لو امتنعت للإحرام بحجة الإسلام. وإن سلمت نفسها ثم أرادت المنع فقد توقف أحمد عن الجواب. وذهب أبو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 عبد الله بن بطة وأبو إسحاق بن شاقلا: إلى أنه ليس لها ذلك؛ لأنها سلمت تسليماً استقر به العوض برضى المسلم، فلم يكن لها المنع، كما لو سلمت المبيع. وذهب ابن حامد: إلى أن لها ذلك؛ لأنه تسليم بحكم عقد النكاح، فملكت المنع منه قبل قبض صداقها كالأول. فأما إن أكرهها فوطئها لم يسقط حقها من الامتناع؛ لأنه بغير رضاها. وإن قبضت صداقها فوجدته معيباً فردت فلها منع نفسها حتى يبذله؛ لأن صداقها جيد. وإن لم تعلم عيبه حتى سلمت نفسها، ثم أرادت الامتناع ففيه وجهان بناء على ما تقدم. وإن كان صداقها مؤجلاً فليس لها منع نفسها قبل قبضه؛ لأن رضاها بالتأجيل رضى منها بتسليم نفسها قبله، كالثمن المؤجل، وإن حل المؤجل قبل تسليم نفسها لم يكن لها منع نفسها أيضاً؛ لأنه قد وجب عليها تسليم نفسها واستقر، فلم يسقط بحلوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 [ باب ما يستقر به الصداق وما لا يستقر وحكم التراجع ] باب ما يستقر به الصداق وما لا يستقر وحكم التراجع يستقر الصداق بثلاثة أمور: أحدها: الخلوة بعد العقد، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن زرارة بن أوفى، قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون، أن من أغلق بابا، أو أرخى سترا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة، وهذه قضايا اشتهرت، فلم تنكر، فكانت إجماعا؛ ولأنها سلمت نفسها التسليم الواجب عليها، فاستقر صداقها، كما لو وطئها. فإن كانت صغيرة لا يمكن وطؤها، أو الزوج صغيرا، أو أعمى لا يعلم دخوله عليها، لم يكمل صداقها؛ لأنه لم يحصل التمكين. وكذلك إن نشزت عليه فمنعته وطأها، لم يكمل صداقها لذلك، ذكره ابن حامد. وإن كان بهما عذر كالإحرام، والصيام الواجب، والمرض. أو بأحدهما، كالحيض والنفاس، والرتق، والجب، والعنة، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: يستقر الصداق؛ لعموم ما ذكرنا؛ ولأن التسليم المستحق قد وجد، والمنع من غير جهتها، فلم يؤثر في المهر، كما لم يؤثر في إسقاط النفقة. والثانية: لا يستقر؛ لأنه لا يتمكن من تسليمها، فلم يستقر مهرها، كما لو منعت نفسها. والثالثة: إن كان المانع هو صوم رمضان، لم يكمل الصداق، وفي معناه ما يحرم دواعي الوطء كالإحرام، وما لا يمنع دواعي الوطء، كسائر الموانع لا يمنع استقرار الصداق. فصل: والثاني: الوطء يستقر به الصداق وإن كان في غير خلوة؛ لأنه قد وجد استيفاء المقصود، فاستقر العوض، كما لو اشترى طعاما فأكله، وإن استمتع بغير الوطء كقبلة، أو مباشرة دون الفرج، أو نال منها ما لا يحل لغيره، كالنظر إليها عريانة، فقال أحمد: يكمل الصداق به؛ لأنه نوع استمتاع، أشبه الوطء. وقال القاضي: هذا على الرواية التي يثبت بها تحريم المصاهرة، ولا يكمل به الصداق على الرواية الأخرى؛ لأنه لا يحرم المصاهرة، فلم يقرر الصداق، كرؤية الوجه. فصل: الثالث: موت أحد الزوجين قبل الدخول يقرر الصداق، سواء مات حتف أنفه، أو قتل نفسه، أو قتل غيره، لما روى معقل بن سنان، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في بروع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 بنت واشق، وكان زوجها مات ولم يدخل بها، ولم يفرض لها صداقا، فجعل لها مهر نسائها، لا وكس ولا شطط» . رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي؛ ولأنه عقد عمر، فبموت أحدهما ينتهي به فيستقر به العوض، كانتهاء الإجارة. ومتى استقر الصداق، لم يسقط منه شيء بانفساخ النكاح ولا بغيره. فصل: وإن افترقا قبل استقراره، لم يخل من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون بسبب من المرأة، كردتها، وإسلامها، وإرضاعها من ينفسخ النكاح بإرضاعه، وفسخها لعيب الزوج، أو إعساره، فيسقط مهرها؛ لأنها أتلفت المعوض قبل التسليم فسقط العوض، كما لو أتلف المبيع قبل تسليمه. وفي معناه فسخ الزوج لعيبها، لما مضى في موضعه. الثاني: أن يكون بسبب من الزوج، كطلاقه وخلعه وإسلامه وردته، واستمتاعه بأم زوجته أو بنتها، فيسقط نصف المسمى، ويجب نصفه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقسنا عليه سائر ما استقل به الزوج؛ لأنه في معناه. وعن أحمد: أنه إذا أسلم لا مهر عليه؛ لأنه فعل الواجب عليه، وحصلت الفرقة بامتناعها من موافقته على الواجب، فكان من جهتها. والأول المذهب؛ لأن فسخ النكاح، لاختلاف الدين، وذلك حاصل بإسلامه، وإنما ينصف المهر بالخلع؛ لأن المغلب فيه جانب الزوج، بدليل أنه يصح به دونها، وهو خلعه مع أجنبي، فصار كالمنفرد به. الثالث: افترقا بسبب من أجنبي، كرضاع أو غيره فيجب نصف المهر؛ لأنه لا جناية منها تسقط مهرها، ويرجع الزوج بما لزمه على الفاعل؛ لأنه قرره عليه. الرابع: افترقا بسبب منهما، كشرائها لزوجها ولعانهما، ففيه روايتان. وإن اشتراها زوجها ففيه وجهان: أحدهما: يسقط الصداق؛ لأنها شاركت في الفسخ فسقط مهرها، كالفسخ بعيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 والثاني: يتنصف؛ لأن للزوج فيه اختيارا، أشبه الخلع. فصل: ومتى سقط المهر، أو نصفه بعد تسليمه إليها، فله الرجوع عليها، ولا يخلو، إما أن يكون تالفا، أو غير تالف، فإن كان تالفا، رجع مثله إن كان مثليا، أو بقيمته إن لم يكن مثليا أقل ما كانت من حين العقد، إلى حين القبض، أو التمكين منه؛ لأنه إن زاد بعد العقد، فالزيادة لها، وإن نقص، فالنقص عليه، فلم يرجع بما هو عليه، وإن كان باقيا، لم يخل من خمسة أحوال: أحدها: أن يكون باقيا بحاله لم يتغير، ولم يتعلق به حق غيرها، فإن الزوج يرجع فيه، ويدخل في ملكه حكما، وإن لم يجز ذلك كالميراث في قياس المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . فعلق تنصيفه بالطلاق وحده، فيجب أن يتنصف به، ويحتمل أن لا يملكه إلا باختياره؛ لأن الإنسان لا يملك شيئا بغير اختياره إلا بالميراث، فعلى هذا الوجه إن زاد بعد الطلاق وقبل الاختيار، فهو للزوجة؛ لأن ملكها لم يزل عنه، فنماؤه لها، وعلى الأول نماء نصيب الزوج له؛ لأنه نماء ملكه، فإذا قال: قد رجعت فيه، أو اخترته، ثبت الملك فيه على الوجهين. وإن نقص في يدها بعد ثبوت ملكه عليه، وكانت قد منعته منه، فعليها ضمان نقصه؛ لأن يدها عادية، فتضمن، كالغاصبة. وإن لم تمنعه، ففيه وجهان. أصلهما، الزوج إذا تلف الصداق المعين في يده قبل مطالبتها به، قال الزوج: نقص قبل الطلاق فهو من ضمانك، فأنكرته، فالقول قولها؛ لأن الأصل السلامة. فصل: الحال الثاني: أن تجده ناقصا، كعبد مرض أو نسي صناعته، أو كبر كبرا ينقص قيمته، فالزوج بالخيار بين أخذه ناقصا؛ لأنه يرضى بدون حقه وبين تركه، ومطالبتها بقيمته، أو نصفها يوم وقع العقد عليه؛ لأن النقص حدث في ملكها، فكان من ضمانها. فصل: الحال الثالث: أن تجده زائدا، فلا تخلو، إما أن تكون الزيادة منفصلة، كالولد والثمرة واللبن والكسب ونحو ذلك، فله نصف الأصل، والزيادة لها؛ لأنها زيادة متميزة حادثة من ملكها، فلم تتبع الأصل في الرد، كما في الرد بالعيب، وإما أن تكون متصلة، كالسمن والكبر والحمل في البطن، والثمرة على الشجرة، وتعلم صناعة، أو كتابة ونحو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 ذلك، فالمرأة مخيرة بين دفع النصف زائدا، فيلزمه قبوله؛ لأنه نصف المفروض مع زيادة لا تتميز، وبين دفع قيمة حقه يوم وقع العقد عليه؛ لأن حقه في نصف الفرض، والزائد ليس بمفروض، فوجب أخذ البدل، إلا أن يكون محجورا عليها لسفه أو فلس أو صغر، فليس له إلا نصف القيمة؛ لأن الزيادة لها، وليس لها التبرع بما لا يجب عليها. وإن كانت مفلسة، كان غريما بالقيمة. وإن بذلت له أخذ نصف الشجر دون الثمر، لم يلزمه؛ لأن عليه ضررا في بقاء الثمر عليها، فلم يلزمه. وإن قال الزوج: أنا أرجع في نصف الشجر، وأترك الثمر عليه، أو أترك الرجوع حتى تجذي ثمرتك ثم أرجع، ففيه وجهان: أحدهما: لا تجبر على قبوله؛ لأن الحق انتقل من العين، فلم يعد إليها إلا بتراضيهما. والثانية: تجبر عليه؛ لأنه لا ضرر عليها، فلزمها كما لو وجدها ناقصة فرضي بها، وإن أصدقها أرضا فزرعتها، فحكمها حكم الشجر إذا أثمر سواء. في قول القاضي، وقال غيره: يفارق الزرع الثمرة في أنها إذا بذلت نصف الأرض مع نصف الزرع، لم يلزمه قبوله؛ لأن الزرع ينقص الأرض ويضعفها؛ ولأنه ملكها أودعته في الأرض، بخلاف الثمرة. وإن أصدقها أرضا فبنتها، أو ثوبا فصبغته، فحكمها حكم الأرض المزروعة. فإن بذل الزوج لها نصف قيمة البناء والصبغ لتملكه، فقال الخرقي: يلزمها قبوله، ويصير له نصف الجميع؛ لأن الأرض له، وفيها بناء لغيره بني بحق، فكان له تملكه بالقيمة، كالشفيع والمعير. وقال القاضي: لا يملكه؛ لأن بيع البناء معاوضة، فلا تجبر عليها، كما لو بذل نصف قيمة الثمرة ليملك نصف الشجر. فصل: الحال الرابع: وجده زائدا من وجه ناقصا من وجه، كعبد تعلم صناعة ومرض، أو خشب شقته دفوفا، أو حلي كسرته ثم صاغته على غير ما كان، أو جارية حملت، فإن الحمل نقص في الآدمية من وجه، وزيادة من وجه، بخلاف حمل البهيمة فإنه زيادة محضة، فهو كسمنها، فإذا تراضيا على أخذ نصفه، جاز؛ لأن الحق لهما، وأيهما امتنع من ذلك، لم يجبر عليه؛ لأن عليه ضررا. الحال الخامس: أن يتعلق به حق غيرهما، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ما يزيل ملكها كبيع العين، وهبتها المقبوضة وعتقها ووقفها، فحكم ذلك حكم تلفها، فإن عادت العين إلى ملكها ثم طلقها، فله الرجوع في نصفها؛ لعدم المانع منه، وفي معنى ذلك العقد اللازم المراد لإزالة الملك، كالرهن والكتابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 النوع الثاني: ما ليس بلازم، كالهبة قبل القبض، والوصية قبل الموت والتدبير، فله الرجوع في نصفها؛ لأنه حق غير لازم فأشبه الشركة. النوع الثالث: ما لا يزيل الملك، كالنكاح والإجارة، فيخير بين الرجوع في نصفها مع بقاء النكاح والإجارة، وبين الرجوع بنصف القيمة؛ لأنه نقص رضي به، فأشبه نقصها بهزالها. فصل: فإن كان الصداق عينا، فوهبتها لزوجها، ثم طلقها قبل الدخول، ففيه روايتان: إحداهما: يرجع عليها بنصفه؛ لأنه دعا إليه بعقد مستأنف، فلم يمنع استحقاق نصفه بالطلاق، كما لو وهبته أجنبيا، ثم وهبه الأجنبي للزوج. والثانية: لا يرجع عليها بشيء؛ لأن نصف الصداق تعجل له بالهبة. وإن كان دينا فأبرأته منه ثم طلقها، وقلنا: لا يرجع ثَمَّ، فهاهنا أولى. وإن قلنا: يرجع ثم، خرج هاهنا وجهان: أحدهما: يرجع؛ لأنه عاد إليه بغير الطلاق، فأشبه العين. والثاني: لا يرجع؛ لأن الإبراء إسقاط وليس بتمليك. وإن أصدقها عينا، فوهبتها له، أو دينا، فأبرأته منه، ثم ارتدت قبل الدخول، ففي رجوعه به عليها وجهان، بناء على الرجوع في النصف بالطلاق. وإن باع رجلا عبدا، أو أبرأه من ثمنه، فوجد به المشتري عيبا فرده، وطالبه بثمنه، أو أمسكه وأراد أرشه، فهل له ذلك؟ على وجهين، بناء على الروايتين في الصداق. وإن أصدقها عبدا فوهبته نصفه، ثم طلقها قبل الدخول انبنى على الروايتين. فإن قلنا: إذا وهبته الكل لا يرجع بشيء، رجع هاهنا في نصف الباقي من العبد. وإن قلنا: يرجع ثم، رجع في النصف الباقي جميعه. فصل: والزوج هو الذي بيده عقد النكاح؛ فإذا طلق قبل الدخول، فأي الزوجين عفا لصاحبه عما وجب له من المهر وهو حائز الأمر في ماله، برئ منه صاحبه، وكمل له الصداق جميعه. وعنه: ما يدل على أن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب، فيصح عفوه عن نصف مهر ابنته البكر التي لم تبلغ إذا طلقت قبل الدخول؛ لأن الذي بيده عقدة النكاح بعد الطلاق هو الولي؛ ولأن الله خاطب الأزواج بخطاب المواجهة، ثم قال تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهذا خطاب غائب، فاعتبرنا هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 الشروط؛ لأن الأب يلي مالها في صغرها دون غيره، ولا يليه في كبرها، ولا يملك تزويجها إلا إذا كانت بكرا، ولم تكن ذات زوج، والمذهب الأول. قال أبو حفص: ما أرى القول الآخر إلا قولا قديما، ولا يجوز عفو الأب ولا غيره من الأولياء، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وَلِيّ العقدة الزوج» رواه الدارقطني؛ ولأن الله تعالى قال: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وليس عفو الولي عن صداق ابنته أقرب للتقوى، ولا يمنع العدول عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس: 22] ؛ ولأن صداق المرأة حق لها، فلا يملك الولي العفو عنه كسائر ديونها؛ ولأن الصغير لو رجع إليه صداق زوجته، أو نصفه؛ لانفساخ النكاح، برضاع أو نحوه، لم يكن لوليه العفو عنه، رواية واحدة. فكذلك ولي الصغيرة. [ باب الحكم في المفوضة ] وهو أن يزوج الرجل ابنته بغير صداق برضاها أو رضا أبيها، سواء سكتا عن ذكره، أو شرطا نفيه، فالعقد صحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] . وعن عقبة بن عامر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم، وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلانا قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، فإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر. فأخذت سهما فباعته بمائة ألف» . رواه أبو داود. ويجب لها مهر نسائها بالعقد؛ لأنه لو لم يجب، لما استقر بالدخول، ولا ملكت المطالبة بفرضه قبله؛ ولأن إخلاء النكاح عن المهر خالص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 المطالبة بفرضه قبل الدخول وبعده، ويلزمه إجابتها إليه. فإن ترافعا إلى الحاكم، لم يفرض لها إلا مهر المثل؛ لأنه الواجب لها، وإن تراضى الزوجان على فرضه، جاز. فإن فرض لها مهر مثلها، فليس لها غيره؛ لأنه الواجب لها. وإن فرض لها الحاكم أكثر منه جاز؛ لأن له أن يزيدها في صداقها. وإن فرض لها أقل منه، فرضيته، جاز؛ لأن الحق لها، فملكت تنقيصه، وما فرض لها من ذلك، صار كالمسمى في التنصيف بالطلاق قبل الدخول، وقراره بالدخول وغيره؛ لأنه مهر مفروض، فأشبه المفروض بالعقد. وإن دخل بها قبل الفرض، استقر مهر المثل؛ لأن الوطء في نكاح خال عن مهر، خالص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن مات أحدهما قبل الإصابة والفرض، وجب لها مهر نسائها في صحيح المذهب، لما روى علقمة «أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروع ابنة واشق، امرأة منا، مثل ما قضيت» . أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وعن أحمد: لا يكمل لها الصداق لأنها فرقة قبل فرض ومسيس، فأشبهت الطلاق، فعلى هذا يجب لها نصف مهر المثل. فصل: ومهر نسائها: هو مهر نساء عصباتها المساويات لها، ويعتبر الأقرب فالأقرب منهن، فأقربهن الأخوات، ثم بنات الإخوة، ثم العمات، ثم بنات الأعمام، ثم من بعدهن الأقرب فالأقرب، ولا يعتبر ذوات الأرحام، كالأم والخالة والأخت من الأم في إحدى الروايتين؛ لأن المهر يختلف بالنسب، ونسبها مخالف لنسبهن، والأخرى يعتبر؛ لأنهن من نسائها فيدخلن في الخبر. فإن لم يكن لها نساء عصبات، اعتبر هؤلاء على الروايتين. ويعتبر بمن يساويها في صفاتها من سنها وبلدها وعقلها وعفتها وجمالها ويسارها وبكارتها وثيوبتها؛ لأنه عوض متلف، فاعتبرت فيها الصفات. فإن لم يكن مهر نسائها يختلف بهذه الأمور، لم تعتبرها، وإن كان يختلف فلم نجد إلا دونها، زيد لها بقدر فضيلتها، وإن لم يوجد إلا أعلى منها، نقصت بقدر نقيصتها، ويجب حالا من نقد البلد، كقيم المتلفات. فإن كان عادة نسائها التأجيل، ففيه وجهان: أحدهما: يفرض مؤجلا؛ لأنه مهر نسائها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 والثاني: يفرض حالا؛ لأنه قيمة متلف. وإن كان عادتهم أنهم إذا زوجوا عشيرتهم، خففوا، وإذا زوجوا غيرهم، أثقلوا أو عكس ذلك، اعتبر؛ لأنه مهر المثل. فإن لم يوجد من أقاربها أحد، اعتبر شبهها من أهل بلدها، فإن عدم ذلك، اعتبر أقرب الناس إليها من نساء أقرب البلدان إليها. فصل: وإن طلق المفوضة قبل الدخول والفرض، فليس لها إلا المتعة. نص عليه أحمد في رواية جماعة. وعنه: لها نصف مهر المثل؛ لأنه نكاح صحيح يوجب مهر المثل بعد الدخول، فيوجب نصفه بالطلاق قبله، كالتي سمي لها، والأول المذهب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] . ولا متعة لغيرها في ظاهر المذهب؛ لأنه لما خص بالآية من لم يفرض لها ولم يمسها، دل على أنها لم تجب لمدخول بها، ولا مفروض لها؛ ولأنه حصل في مقابله ابتذال المهر أو نصفه، بخلاف مسألتنا، وعنه: لكل مطلقة متاع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وقال سبحانه: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] قال أبو بكر: العمل عندي على هذه الرواية لولا تواتر الروايات بخلافها، فإنه لم يرو هذه إلا حنبل، وخالفه سائر من روى عن أبي عبد الله، فيتعين حمل هذه الرواية على الاستحباب، جمعا بين دلالة الآيات المختلفات، ولما ذكرنا من المعنى. فأما المتوفى عنها، فلا متعة لها بغير خلاف؛ لأن الآية لم تتناولها، ولا هي معنى المنصوص عليه. فصل: والمتعة معتبرة بحال الزوج {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وحكى القاضي عن أحمد: أنها مقدرة بنصف مهر المثل؛ لأنها بدل عنه، فتقدرت به، والمذهب الأول، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] فقدرها بحال الزوج دون حال المرأة؛ ولأنه لو وجب قدر نصف مهر المثل، كان ذلك نصف مهر المثل، وفي قدرها روايتان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 إحداهما: يرجع فيها إلى اجتهاد الحاكم، فيفرض لها ما يؤديه اجتهاده إليه؛ لأنه أمر لم يرد الشرع بتقديره ويحتاج إلى الاجتهاد، فرد إلى الحاكم، كالنفقة. والثانية: أعلى المتعة خادم، وأدناها كسوة تجزئها في صلاتها، وأوسطها ما بين ذلك، لقول ابن العباس: أعلى المتعة خادم، ثم دون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة. وهذا تفسير من الصحابي، فيجب الرجوع إليه. فصل: وكل فرقة أسقطت المسمى، أسقطت المتعة، وما نصفت المسمى، أوجبت المتعة؛ لأنها قائمة مقام نصف المسمى، فاعتبر ذلك فيها. وسئل أحمد: عن رجل تزوج امرأة ولم يكن فرض لها مهرا، ثم وهب لها غلاما، ثم طلقها، قال: لها المتعة، وذلك لأن الهبة لا تنقضي بها المتعة، كالمسمى. فصل: فأما المفوضة المهر، وهي التي تزوجها على حكمها، أو حكمه، أو حكم أجنبي، أو بمهر فاسد، أو يزوجها غير الأب بغير صداق بغير إذنها، فإنه يتنصف لها مهر المثل بالطلاق في ظاهر المذهب، وهو اختيار الخرقي. وعن أحمد: ليس لها إلا المتعة؛ لأنه نكاح خلا عن تسمية صحيحة، فأشبه نكاح المفوضة البضع. ولنا: أنها لم ترض بغير صداق، ولم يرض أبوها، فلم تجب المتعة، كالتي سمي لها، بخلاف الراضية بغير صداق. فصل: وللأب تزويج ابنته بغير صداق مثلها، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرا أو ثيبا؛ لأن «عمر خطب الناس فقال: ألا لا تغالوا في صدق النساء، فما أصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدا من نسائه أو بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية» ، وظاهره صحة تسمية من زوج بمثل ذلك، وإن نقص عن مهر المثل، وزوج سعيد بن المسيب ابنته بدرهمين وهو سيد قرشي؛ ولأنه غير متهم في حقها، فلا يمنع من تحصيل المقصود والحظ لابنته بتفويت غير المقصود، وليس لغيره نقصها عن مهر نسائها إلا بإذنها؛ لأنه متهم. فإن زوج بغير صداق، لم يكن تفويضا صحيحا؛ لأنه أسقط ما ليس له التصرف فيه، ويجب مهر المثل، وإن فعله الأب، كان تفويضا صحيحا. فصل: وللأب أن يشترط لنفسه شيئا من صداق ابنته؛ لأن الله تعالى أخبر أن شعيبا زوج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 ابنته لموسى برعاية غنمه. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» ، وقال: «إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن. فإن زوجها على ألف لها، وألف له، ثم طلقت قبل الدخول، رجع الزوج بالألف التي لها؛ لأن ما أخذه الأب محسوب على البنت من صداقها، فكأنها قبضته، ثم وهبته لأبيها، فإن شرط غير الأب شيئا لنفسه، فالكل لها، ولا شيء له؛ لأنه عوض عنها، فكان لها، كالمسمى لها. فصل: وإن زوج الرجل ابنه الصغير، فالمهر على الزوج؛ لأنه المعوض له، فكان العوض عليه، كالكبير، وكما لو اشترى له شيئا، فإن كان الابن معسرا، ففيه وجهان: أحدهما: هو عليه كذلك. والثاني: على الأب؛ لأنه لما زوجه مع علمه بإعساره ووجوب الصداق عليه، كان رضا منه بالتزامه. فصل: وإن تزوج العبد بإذن مولاه، فالمهر على المولى؛ لأنه وجب بإذنه، فكان عليه، كالذي يجب بعقد الوكيل. وإن تزوج بغير إذن سيده، فالنكاح باطل، فإن فارقها قبل الدخول، فلا شيء عليه، وإن دخل بها ففي رقبته صداقها؛ لأنه وجب بجنايته، فكان في رقبته كسائر جناياته. وفي قدره روايتان: إحداهما: مهر مثلها؛ لأنه وطء يوجب المهر، فأوجب جميعه، كوطء المكرهة. والثانية: يجب عليه خمسا المهر، لما روى خلاس أن غلاما لأبي موسى تزوج بمولاة تيحان التيمي بغير إذن أبي موسى، فكتب في ذلك إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب إليه: أن فرق بينهما وخذ لها الخمسين من صداقها، وكان صداقها خمسة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 أبعرة. رواه أحمد. ولأن المهر أحد موجبي الوطء، فجاز أن ينقص في العبد عن الحر كالحد. وقد روى حنبل عن أحمد أنه لا صداق عليه، ويحتمل هذا أن يحمل على ما إذا فرق بينهما قبل الدخول، ويحتمل أن لا يجب شيء في الحالين؛ ولأن المرأة مطاوعة له في غير نكاح صحيح، أشبه الزانية. وهذا مذهب ابن عمر، والمذهب الأول. والسيد مخير بين أن يفديه بأقل الأمرين من قيمته، أو الواجب من المهر، كأرش جناياته. وإذا زوج السيد عبده أمته، وجب الصداق عليه، ثم سقط؛ لأن النكاح لا يخلو من مهر، ولا يثبت للسيد على عبده مال، فسقط. وقال القاضي: لا يثبت مهر أصلا لأنه لا يمكن أن يجب للسيد على عبده مال. وإن تزوج العبد بحرة، أو أمة بغير إذن سيده، ثم باعها العبد، أو باعه لسيد الأمة بثمن في الذمة، صح ويحول صداقها إلى ثمنه، أو نصفه إن كان قبل الدخول، وإن باعها إياه بصداقها، صح؛ لأنه يجوز أن يبيعها به عبدا آخر، فكذلك هذا. وينفسخ النكاح إذا ملكت زوجها. فإن كان قبل الدخول، رجع السيد عليها بما يسقط من صداقها. [ باب اختلاف الزوجين في الصداق ] إذا اختلفا في قدره، ولا بينة على مبلغه، ففيه روايتان: إحداهما: القول قول من يدعي مهر المثل منهما. فإن ادعت مهر المثل أو أقل، فالقول قولها. وإن ادعى مهر مثلها أو أكثر، فالقول قوله؛ لأن الظاهر أن صداقها مهر مثلها؛ ولأنه موجب العقد بدليل ما لو خلا عن الصداق فكان القول قول مدعيه، كالمنكر في سائر الدعاوى. فإن ادعى أقل من مهر المثل، وادعت أكثر من مهر المثل، ردا إلى مهر المثل. وينبغي أن يحلف الزوج على نفي الزائد عن مهر المثل، وتحلف هي على إثبات ما نقص منه؛ لأن دعوى كل واحد منهما محتملة، فلا تدفع بغير يمين. والرواية الثانية: القول قول الزوج بكل حال؛ لأنه منكر، فيدخل في عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» فإن مات الزوجان، فورثتهما بمنزلتهما، إلا أن من يحلف منهما على الإثبات، يحلف على البت، ومن يحلف على النفي، يحلف على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 نفي العلم؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، وإن اختلف الزوج وأبو الصغيرة أو المجنونة، قام الأب مقامهما في اليمين؛ لأنه يحلف على فعل نفسه، فأشبه الوكيل. فإن لم يحلف حتى بلغت الصبية، وعقلت المجنونة، فاليمين عليهما دونه؛ لأنه إنما حلف لتعذر اليمين من جهتهما، فإذا أمكن الحلف منهما، لزمهما، كالوصي إذا بلغ الطفل. فصل: وإن أنكر الزوج تسمية الصداق، وادعت تسمية مهر المثل، وكان الخلاف بعد الطلاق قبل الدخول، ففيه وجهان، بناء على الروايتين. فإن قلنا: القول قول الزوج، وجبت المتعة. وإن قلنا بالرواية الأخرى، فلها نصف مهر المثل. وإن اختلفا قبل الطلاق بعد الدخول، فقد استقر لها مهر مثلها، وإن كان قبله، فلها المطالبة بفرض مهر المثل، ولا يشرع التحالف. وإن ادعت أكثر من مهر المثل، حلف على نفي الزيادة. فصل: فإن قال: أصدقتك هذا العبد، قالت: بل هذه الأمة، لم تملك العبد؛ لأنها لا تدعيه، ولا الأمة؛ لأنها لا تجب بمجرد الدعوى، لكن إن قلنا: القول قول الزوج، فلها قيمة العبد، وإن قلنا: القول قول من يدعي مهر المثل، وكانت الأمة مهر المثل أو أقل، حلفت ولها قيمتها. وإن كانت أكثر والعبد مهر المثل أو أكثر، حلف الزوج ولها قيمته. وإن كانت الأمة أكثر والعبد أقل، رد إلى مهر المثل على ما ذكرنا فيما تقدم. فصل: وإن اختلفا في قبض الصداق، أو إبرائه منه، فالقول قولها؛ لأن الأصل معها. وإن اختلفا فيما يستقر به الصداق بالاستمتاع أو الخلوة، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن اتفقا على أنه دفع إليها مالا، فقال: دفعته صداقا. قالت: بل هبة. فإن كان الخلاف في نيته، فالقول قوله بلا يمين؛ لأنه أعلم بما نواه. وإن اختلفا في لفظه، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه ملكه، فالقول قوله في صفة نقله. فصل: وإن نقص الصداق في يدها بعد الطلاق، فقالت: حدث بعد الطلاق، فلا ضمان علي، وقال: بل قبله، فالقول قولها؛ لأن الأصل براءة ذمتها. فصل: ويجب المهر للموطوءة في نكاح فاسد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التي أنكحت نفسها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 بغير إذن وليها: «فإن أصابها، فلها المهر بما استحل من فرجها» ويجب للموطوءة بشبهة لهذا المعنى. ويجب للمكرهة على الزنا؛ لأنه وطء سقط الحد عنها فيه بشبهة، والواطئ من أهل الضمان في حقها، فأوجب المهر، كالوطء بالشبهة. ولا يجب مع المهر أرش البكارة في هذه المواضع؛ لأنه داخل في المهر. وعنه: للمكرهة الأرش مع المهر؛ لأنه إتلاف جزء فوجب عوضه، كما لو جرحها ثم وطئها. وعن أحمد: لا يجب المهر للمكرهة الثيب قياسا على المطاوعة. وعنه: لا يجب لمحارمه من النسب؛ لأن تحريمهن تحريم أصل، فلا يوجب وطؤهن مهرا، كاللواط. وعنه: من تحرم ابنتها، لا مهر لها كذلك، ومن تحل بنتها، كالعمة والخالة، يجب لها؛ لأن تحريمها أخف، ولنا: أنه أتلف منفعة بضعها بالوطء مكرهة، فأشبهت الأجنبية والبكر. فصل: ولا يجب المهر للمطاوعة على الزنا؛ لأنها باذلة لما يوجب البدل لها، فلم يجب لها شيء - كما لو أذنت في قطع يدها - فإن كانت أمة، وجب المهر لسيدها؛ لأنه المستحق له، فلا يسقط ببذلها كيدها، ولا يجب المهر بالوطء في الدبر، ولا اللواط؛ لأنه لا منفعة فيه متقومة في الشرع، بخلاف الفرج. فصل: ومن نكاحها باطل بالإجماع، كذات الزوج، والمعتدة، حكمها حكم الأجنبية في وجوب الصداق إن كان الوطء بشبهة أو إكراه، وسقوطه إن كانت مطاوعة عالمة بالتحريم؛ لأنه باطل بالإجماع، فكان وجوده كعدمه. [ باب الوليمة ] وهي: الإطعام في العرس. وهي مستحبة، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: «أولم ولو بشاة» متفق عليه. وليست واجبة؛ لأنها طعام لسرور حادث، فأشبه سائر الأطعمة. ويستحب أن يولم بشاة، للخبر. وإن أولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 بغيرها أصاب السنة، لما روى أنس قال: «ما أولم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة» . متفق عليه. فصل: وإجابة الداعي إليها واجبة، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها، وقال أبو هريرة: ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله» رواهما البخاري. وإن كان الداعي ذميا، لم تجب إجابته؛ لأن الإجابة للمسلم للإكرام والموالاة، ولا يجب ذلك للذمي، وتجوز إجابته، لما روى أنس «أن يهوديا دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه» . رواه أحمد في (الزهد) , وإنما تجب إجابة المسلم إذا نص عليه. فإن دعا الجفلى، كقوله: أيها الناس أجيبوا، وهلم إلى الطعام، لم تجب الإجابة؛ لأن كل واحد غير منصوص عليه، فلا ينكسر قلب الداعي بتخلفه، وإن دعا ثلاثة أيام، وجبت الإجابة في اليوم الأول، واستحب في الثاني، ولم تستحب في الثالث، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة» رواه أبو داود. فإن دعا اثنان، ولم يمكنه الجمع بينهما، أجاب أسبقهما؛ لأن إجابته وجبت بدعوته، فمنعت من وجوب إجابة الثاني، فإن استويا، أجاب أقربهما بابا، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا اجتمع داعيان، فأجب أقربهما بابا، فإن أقربهما بابا، أقربهما جوارا فإن سبق أحدهما، فأجب الذي سبق» رواه أبو داود. فإن استويا أجاب أقربهما رحما، فإن استويا أجاب أدينهما؛ لأن هذا من أبوب البر، فقدم بهذه المعاني. فإن استويا، أقرع بينهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 فصل: وإذا دعي الصائم، لم تسقط الإجابة، فإذا حضر وكان الصوم واجبا، لم يفطر. وإن كان تطوعا، استحب له الفطر، ليسر أخاه ويجبر قلبه، ولا يجب لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما، فليدع، وإن كان مفطرا فليطعم» رواه مسلم، وأبو داود. ويستحب إعلامهم بصيامه؛ لأنه يروى عن عثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ ولأن التهمة تزول ويتمهد عذره. وإن كان مفطرا، فالأفضل الأكل، للخبر؛ ولأن فيه جبر قلب الداعي، ولا يجب، لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الطعام، فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك» حديث صحيح. فصل: والدعاء إلى الوليمة إذن في الأكل والدخول، لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فذلك إذن له» رواه أبو داود. فصل: وإذا دعي إلى وليمة فيها منكر، كالخمر والزمر، فأمكنه الإنكار، حضر وأنكر؛ لأنه يجمع بين واجبين. وإن لم يمكنه، لم يحضر؛ لأنه يرى المنكر ويسمعه اختيارا. وإن حضر فرأى المنكر أو سمعه، أزاله. فإن لم تمكنه إزالته، انصرف، لما روى سفينة: «أن رجلا أضافه علي فصنع له طعاما، فقالت فاطمة: لو دعونا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأكل معنا، فدعوه، فجاء فوضع يده على عضادتي الباب، فرأى قراما في ناحية البيت، فرجع، فقالت فاطمة: الحقه، فقل: ما رجعك يا رسول الله؟ فقال: إنه ليس لي أن أدخل بيتا مزوقا» حديث حسن. ولأنه يشاهد المنكر ويسمعه من غير حاجة، فمنع منه، كالقادر على إزالته. وإن علم المنكر ولم يره ولم يسمعه، لم ينصرف؛ لأنه لم يره، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 ولم يسمعه، ولا ينصرف لسماع الدف؛ لأنه مشروع، ولا لرؤية نقوش وصور غير الحيوان، كالشجر والأبنية؛ لأنه نقش مباح، فهو كعلم الثوب. وأما صور الحيوان، فإن كانت توطأ أو يتوكأ عليها، كالبسط والوسائد، فلا بأس بها. وإن كانت على حيطان أو ستور، انصرف، لما روت «عائشة قالت: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سفر وقد سترت لي سهوة بنمط فيه تصاوير، فلما رآه قال: أتسترين الجدر بستر فيه تصاوير فهتكه. قالت: فجعلت منه وسادتين وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك علي» . فإن قطع رأس الصورة، أو ما لا يبقي الحيوان بعده، كصدر وظهر، ذهبت الكراهة؛ لأنه لا تبقى الحياة فيه، فأشبه الشجر. وإن أزيل منه ما تبقى الحياة بعده، كيد أو رجل، فالكراهة بحالها؛ لأنها صورة حيوان. وإن سترت الحيطان بستور غير مصورة لحاجة من حر أو برد، جاز ولم يكره؛ لأنه يستعمله لحاجة، فأشبه لبس الثياب. وإن كان لغيره حاجة، ففيه وجهان: أحدهما: هو محرم، لما روي عن علي بن الحسين قال، «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تستر الجدر» . رواه الخلال. والنهي يقتضي التحريم. ودعا ابن عمر أبا أيوب، فجاء فرأى البيت مستورا بنجاد أخضر، فقال: يا عبد الله ‍‍‍‍‍‍! أتسترون الجدر؟ لا أطعم لكم طعاما، ولا أدخل لكم بيتا، ثم خرج. والثاني: هو مكروه؛ لأن ابن عمر أقر عليه ولم ينكر؛ ولأن كراهته، لما فيه من السرف، فلا يبلغ به التحريم، كالزيادة في الملبوس. ويجوز الرجوع لذلك، لفعل أبي أيوب. فصل: فأما سائر الدعوات غير الوليمة، كدعوة الختان، وتسمى: الأعذار، والعذيرة، والخرس والخرسة عند الولادة. والوكيرة: دعوة البناء. والنقيعة: لقدوم الغائب. والحذاق: عند حذق الصبي. والمأدبة: اسم لكل دعوة لسبب كانت أو لغير سبب، ففعلها مستحب، لما فيه من إطعام الطعام وإظهار النعمة، ولا تجب الإجابة إليها، لما روي «عن عثمان بن أبي العاص أنه دعي إلى ختان فأبى أن يجيب، وقال: إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يدعى إليه» . رواه الإمام أحمد. وتستحب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 الإجابة، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا دعي أحدكم فليجب عرسا كان أو غير عرس» رواه أبو داود؛ ولأن فيه جبر قلب الداعي وتطييبه. فصل: والنثار والتقاطه مباح؛ لأنه نوع إباحة، فأشبه تسبيل الماء والثمرة، وفي كراهته روايتان: إحداهما: يكره وهي التي ذكرها الخرقي، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى عن النهبة» ، وقال: «لا تحل النهبى» رواه أحمد في المسند. ولأن في التقاطه دناءة وقتالا، وقد يأخذ من غيره أحب إلى صاحب النثار منه. والثانية: لا يكره، اختارها أبو بكر، لما روى عبد الله بن قرط قال: «قرب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس بدنات أو ست بدنات، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فنحرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: من شاء اقتطع» رواه أبو داود. ولا بأس أن يخلط المسافرون أزوادهم ويأكلون جميعا؛ لأن السلف كانوا يتناهدون في الغزو والحج وغيرهما. ومن وقع في حجره شيء من النثار، فهو له؛ لأنه مباح حصل في حجره فملكه، كما لو وثبت سمكة فسقطت في حجره. [ باب عشرة النساء ] يجب على كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف، لقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وقال سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ، ويجب على كل واحد منهما بذل ما يجب لصاحبه من الحق عليه، من غير مطل، ولا إظهار الكراهية للبذل، ولا إتباعه بأذى ولا من، وكف أذاه عن صاحبه. ولأن هذا من المعاشرة بالمعروف، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 فصل: وإذا تزوج امرأة يوطأ مثلها، فطلب تسليمها إليه، وجب ذلك؛ لأنه يطلب حقه الممكن. فإن سألت الإنظار، أنظرت مدة جرت العادة بإصلاح أمرها فيها، كاليومين والثلاثة؛ لأنه يسير جرت العادة بمثله. وإن كانت لا يجامع مثلها، لصغر أو مرض يرجى زواله، لم يجب تسليمها؛ لأنها لا تصلح للاستمتاع المستحق عليها، وإن كان لمرض غير مرجو الزوال، أو لكونها نضوة الخلق، وجب تسليمها؛ لأن المقصود من مثلها الاستمتاع بغير الجماع، وذلك ممكن في الحال. وكل موضع يجب تسليمها إليه إذا طلبها، يلزمه تسلمها إذا عرضت عليه، وما لا فلا. فصل: ويجب تسليم الحرة ليلا ونهارا؛ لأنه لا حق لغيره عليها، وللزوج السفر بها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسافر بنسائه. ويجب تسليم الأمة في الليل دون النهار لأنها مملوكة عقد على أحد منفعتيها، فلم يجب التسليم في غير وقتها، كالمستأجرة للخدمة في أحد الزمانين. فصل: وله إجبارها على غسل الحيض والنفاس، مسلمة كانت أو ذمية؛ لأن إباحة الوطء يقف عليه، وله إجبار المسلمة على الغسل من الجنابة؛ لأنه واجب عليها. وفي الذمية روايتان: إحداهما: لا يملك إجبارها عليه؛ لأنه لا يجب عليها، ولا يقف إباحة الوطء عليه. والثانية: يملك إجبارها؛ لأن كمال الاستمتاع يقف عليه، لكون النفس تعاف من لا تغتسل من جنابة. وفي التنظف والاستحداد وجهان، بناء على هاتين الروايتين. وقال القاضي: له إجبارها على الاستحداد إذا طال الشعر واسترسل، وتقليم الأظافر إذا طالت رواية واحدة. وهل له منعها أكل ما يتأذى برائحته؟ على وجهين، لما ذكرنا وله منع المسلمة من كل محرم؛ لأن الله منعها منه، وليس له منع الذمية من يسير الخمر؛ لأنها لا تعتقد تحريمه، وله إجبارها على غسل فيها منه؛ لأن نجاسته تمنع الاستمتاع به، وله منعها من السكر؛ لأنه يجعلها كالزق المنفوخ، ولا يأمن من جنايتها عليه. فصل: وله منعها من الخروج من منزله، إلا لما لا بد لها منه؛ لأن حق الزوج واجب، فلا يجوز تركه بما ليس بواجب. وقد روي عن ابن عمر قال: «أتت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 فقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تخرج إلا بإذنه» . ويكره منعه إياها من عيادة أحد والديها، أو شهود جنازته؛ لأنه يؤدي إلى النفور، ويغريها بالعقوق. فصل: وله الاستمتاع في كل وقت من غير إضرار بها، ولا منعها من فريضة، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى ترجع» متفق عليه. ولا يجوز وطؤها في الحيض ولا في الدبر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . وروى خزيمة بن ثابت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن» . وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد» رواهما الأثرم. ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الأليتين، ووطؤها في الفرج مقبلة ومدبرة، وكيف شاء لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] قال جابر: من بين يديها ومن خلفها غير ألا يأتيها إلا في المأتى. متفق عليه. فصل: وإذا أراد الجماع، استحب أن يقول: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 ما رزقتنا، لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن أحدكم حين يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فولد بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا» متفق عليه. ويستحب التستر عند المجامعة، لما روى عتبة بن عبيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحدكم أهله، فليستتر، ولا يتجردا تجرد العيرين» . رواه ابن ماجه. ولا يجامعها بحيث يراهما إنسان، أو يسمع وجسهما. وإذا فرغ قبلها، كره له النزع حتى تفرغ، لما روى أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جامع الرجل أهله، فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها، فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها» . فصل: ويكره العزل، وهو: أن ينزل الماء خارج الفرج، لما فيه من تقليل النسل، ومنع المرأة من كمال استمتاعها، وليس بمحرم، لما روى أبو سعيد قال: «ذكر - يعني العزل - عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فلم يفعل أحدكم؟ - ولم يقل: فلا يفعل - فإنه ليس نفس مخلوقة إلا والله خالقها» متفق عليه. فإن كان ذلك في أمته، فله ذلك بغير إذنها؛ لأن الاستمتاع بها حق له دونها، وكذلك أم الولد، وإن كان في زوجة حرة لم يجز إلا بإذنها، لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها» . رواه أحمد. وإن كانت أمة فقال أصحابنا: لا يعزل عنها إلا بإذن سيدها؛ لأن الولد له، والأولى جوازه؛ لأن تخصيص الحرة بالاستئذان دليل سقوطه في غيرها؛ ولأن السيد لا حق له في الوطء، فلا يجب استئذانه في كيفيته. ولأن على الزوج ضررا في رق ولده، بخلاف الحرة. ويحتمل أن يكون الاستئذان للحرة والأمة مستحبا غبر واجب؛ لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 حقهما في الوطء لا في الإنزال، بدليل خروجه بذلك من الفيئة والعنة. فصل: وإذا كان له زوجتان، لم يجمع بينهما في مسكن واحد إلا برضاهما؛ لأن عليهما فيه ضررا، ويؤدي إلى الخصومة، ولا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأن فيه دناءة، وسوء عشرة، وإثارة للغيرة. [ باب القسم بين النساء ] باب القسم يجب على الرجل المبيت عند امرأته الحرة ليلة من كل أربع، ووطؤها مرة في كل أربعة أشهر، إذا لم يكن عذر. وقال القاضي: لا يجب المبيت ولا الوطء ابتداء إذا لم يقصد الإضرار بتركه؛ لأنه حق فجاز تركه، كسكنى الدار المستأجرة، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن عمرو: «ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا» متفق عليه. وقال عمر لكعب بن سور: اقض بين هذا وامرأته، قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة وهي رابعتهن، فأقضي لها بثلاث أيام ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة. فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب إلي من الآخر، اذهب فأنت قاض على البصرة. ولأن الوطء يجب على المولي، ويفسخ النكاح لتركه، وما لا يجب على غير الحالف، لا يجب على الحالف على تركه، كسائر المباحات، وما لا يجب، لا يفسخ النكاح، لتعذره، كزيادة النفقة. فإن لم يفعل فطلبت الفرقة، فرق بينهما. قال أصحابنا: وحق الأمة ليلة من كل سبع؛ لأن أكثر ما يمكنه جمعه معها ثلاث حرائر، لهن ست، ولها السابعة. والصحيح أن لها ليلة من ثمان نصف ما للحرة؛ لأن زيادتها على ذلك يحل بالتنصيف. وزيادة الحرة على ليلة من أربع زيادة على الواجب، فتعين ما ذكرنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 فصل: فإن كان له امرأتان أو أكثر، وجب التسوية بينهن في القسم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» رواه أبو داود. ولأن الجور يخل بالعشرة بالمعروف. وليس له البداءة في القسم بإحداهما دون الأخرى من غير رضاها؛ لأنه جور يدعو إلى النفور. فإذا أراد البداءة بالقسم، أقرع بينهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرع بين نسائه. وإذا بدأ بواحدة بقرعته أو غيرها، لزمه القضاء للبواقي؛ لأن ترك القضاء ميل. فصل: ويجب القسم على المريض، والمجبوب والمظاهر، والمولي وزوج المريضة، والمحرمة، والحائض والنفساء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم في مرضه؛ ولأن القسم يراد للأنس والإيواء، وذلك أحصل في هذه الأحوال. فأما المجنون والمجنونة، فإن خيف منهما، سقط؛ لأن الأنس لا يحصل منهما، وإن لم يخف منهما، فالمجنونة على حقها في القسم. ويطوف ولي المجنون به؛ لأن الأنس يحصل منهما. فصل: وإذا سافرت زوجته بغير إذنه، سقط حقها من القسم والنفقة؛ لأنها منعته القسم لها بغيبتها، فأسقطت نفقتها بنشوزها. وإن بعثها أو أمرها بالنقلة من بلدها، لم يسقط حقها من نفقة، ولا قسم؛ لأن ذلك حاصل بفعله، فلم يسقط حقها، كما لو أتلف المشتري المبيع، لم يسقط ثمنه. وإن سافرت بإذنه لحاجتها، ففيه وجهان: أحدهما: لا يسقطان؛ لأنها سافرت بإذنه، أشبه ما لو سافرت معه. الثاني: يسقط. اختاره الخرقي؛ لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع، وقد تعذر من جهتها، فسقط، كثمن المبيع إذا تعذر تسليمه، ويحتمل أن يسقط قسمها وجها واحدا؛ لأنه لو سافر عنها لعذر، سقط حقها منه، فإذا سافرت هي، كان أولى. وفي النفقة وجهان؛ لأنها لا تسقط بسفره. فصل: وعماد القسم الليل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 ولأن الليل للسكن والإيواء، والنهار للمعاش والانتشار، إلا من معاشه بالليل، كالحارس، فعماد قسمه النهار؛ لأن نهاره كليل غيره. وإذا قسم للمرأة ليلة، كان لها ما يليها من النهار تبعا لليل، بدليل ما روي «أن سودة وهبت يومها لعائشة» . متفق عليه. «وقالت عائشة: قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي وفي يومي» ، والأولى أن يقسم بين زوجاته ليلة وليلة، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأنه أقرب إلى التسوية في إيفاء الحقوق. فإذا زاد على ذلك، لم يجز إلا برضاهن؛ لأنه إذا بات عند واحدة، تعينت الليلة الثانية للأخرى، فلم يجز أن يبيتها عند غيرها بغير رضاها. فإن اتفق الجميع على القسم أكثر من ذلك أو أقل، جاز؛ لأن الحق لا يخرج عنهن. وقال القاضي: له أن يقسم ليلتين ليلتين، وثلاثا ثلاثا؛ لأنه يسير، ولا تجوز الزيادة عليه إلا برضاهن. فإن قسم لإحداهما، ثم طلق الأخرى قبل قسمها، أثم؛ لأنه فوت حقها الواجب لها، فإن عادت بعد ذلك إليه، لزمه أن يقضي لها؛ لأنه قدر على إيفائه بعد العجز عنه، فلزمه، كالدين إذا أعسر به ثم أيسر. وإن نشزت إحداهن في ليلتها، وأغلقت بابها دونه، أو ادعت طلاقه، سقط حقها من القسم. فإن طاوعت، استأنف القسم بينهما، ولم يقض لها؛ لأنها أسقطت حق نفسها. فصل: والأولى أن يطوف على نسائه في منازلهن، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأنه أحسن في العشرة وأصون لهن. وله أن يقيم في موضع واحد، ويستدعي واحدة واحدة، وله أن يأتي واحدة ويستدعي واحدة؛ لأن المرأة تابعة للزوج في المكان، ولذلك ملك نقلها إلى حيث شاء. وإن حبس في موضع يمكن حضورها معه، وهو مسكن مثلها، فهي على حقها من القسم. وإن لم يكن مسكن مثلها، لم يلزمها إجابته؛ لأن عليها ضررا. وإن كانت له امرأتان في بلدين، فعليه العدل بينهما؛ لأنه حق لهما، فلا يسقط بتباعدهما، كالنفقة. فإن امتنعت إحداهما من النقلة بعد طلبه لها، سقط حقها. وإن أقام في بلد إحداهما، ولم يقم معها في المنزل، لم يلزمه القضاء؛ لأنه لم يقسم لها، وإن أقام عندها، لزمه القضاء للأخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 فصل: يستحب التسوية بين الزوجات في الاستمتاع؛ لأنه أكمل، ولا يجب ذلك؛ لأن الداعي إليه الشهوة والمحبة، ولا سبيل إلى التسوية فيه. قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] . قال ابن عباس: في الحب والجماع. وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم بين نسائه ويعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» رواه الترمذي وابن ماجه. فصل: وإن خرج في ليلة إحداهن ولم يلبث أن عاد، لم يقض لها؛ لأنه لا فائدة في قضائه، وإن أقام قضى لها، سواء كانت إقامته لعذر، أو لغير عذر؛ لأن حقها فات بغيبته عنها. ويستحب أن يقضي لها في مثل الوقت الذي خرج فيه؛ لأنه أقرب إلى المماثلة. وإن قضاه في غيره من الليل، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لعدم المماثلة. والثاني: يجوز؛ لأنه قضى في الوقت الذي هو المقصود في القسم، وله الخروج في النهار حيث شاء؛ لأن النهار للمعاش والانتشار. وإن دخل على ضرتها في ليلتها، ولم يلبث أن خرج، لم يقض، لعدم الفائدة في قضائه، فإن جامعها فيه، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقضي أيضا؛ لأن الزمن اليسير لا يقضى، والوطء لا يستحق في القسم. والثاني: عليه القضاء وهو أن يدخل على صاحبة القسم في ليلة الأخرى فيطأها، ليعدل بينهما. وإن أطال المقام عند الضرة، قضاه في ليلة المدخول عليها بكل حال. فأما الدخول على غيرها في يومها، فيجوز للحاجة، من غير أن يطيل ولا يجامع. وهل له أن يستمتع منها فيما دون الفرج؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل علي في يوم غيري وينال مني كل شيء إلا الجماع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 والثاني: لا يجوز؛ لأنه يحصل به السكن، أشبه الجماع. وإن أطال، قضاه للأخرى. وإن جامع ففيه وجهان. كما ذكرنا في الليل. فصل: والكتابية كالمسلمة في القسم؛ لأنه من حقوق النكاح فاستويا فيه، كالنفقة والسكنى. فإن كانت إحداهما حرة، والأخرى أمة، فللحرة ليلتان، وللأمة ليلة، لما روي عن علي أنه كان يقول: إذا تزوج الحرة على الأمة، قسم للأمة ليلة، وللحرة ليلتين. أخرجه الدارقطني واحتج به أحمد. فإن أعتقت الأمة في مدتها أو قبلها، أضاف إلى ليلتها أخرى؛ لأنها صارت حرة، فيجب التسوية بينهما. وإن أعتقت بعد مدتها، استأنف القسم متساويا ولم يقض لها. فصل: إذا كان له أربع نسوة، فنشزت إحداهن، وظلم أخرى فلم يقسم لها، وقسم للاثنتين ثلاثين ليلة، ثم أطاعته الناشز، وأراد القضاء للمظلومة، فإنه يقسم لها ثلاثا، وللناشز ليلة، خمس أدوار، فيكمل للمظلومة خمسة عشر، ويحصل للناشز خمس، فتحصل التسوية. فإن كان له ثلاث نسوة، فظلم إحداهن، وقسم بين الباقيتين ثلاثين ليلة، ثم تزوج جديدة، وأراد القضاء، فإنه يبدأ فيوفي الجديدة حق العقد، ثم يقسم بينهما وبين المظلومة خمسة أدوار، كما ذكرنا في التي قبلها سواء. فصل: ولا قسم عليه في ملك اليمين. فإذا كانت له زوجات وإماء، فله الدخول على الإماء كيف شاء، والاستمتاع بهن؛ لأن الأمة لا حق لها في الاستمتاع، ولذلك لم تملك المطالبة في الإيلاء. فصل: وللمرأة أن تهب حقها من القسم لزوجها، فيجعله لمن شاء من زوجاته، ولبعض ضرائرها، أو لهن جميعا إذا رضي الزوج؛ لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه، فإذا رضي، جاز، لما روت عائشة «أن سودة وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لعائشة يومها ويوم سودة» . متفق عليه. ويجوز ذلك في بعض الزمان، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد على صفية بنت حيي في شيء، فقالت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 لعائشة: هل لك أن ترضي عني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولك يومي؟ قالت: نعم - فأخذت خمارا مصبوغا بزعفران، فرشته بالماء ليفوح ريحه، ثم قعدت إلى جنب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إليك يا عائشة، إنه ليس يومك قالت: ذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، فأخبرته بالأمر فرضي عنها» . رواه ابن ماجه. ولا يعتبر رضا الموهوبة؛ لأنه حقه عليها عام، وإنما منعه المزاحمة التي زالت بالهبة، ثم إن كانت ليلة الواهبة لا تلي ليلة الموهوبة، لم تجز الموالاة بينهما؛ لأن الموهوبة قائمة مقام الواهبة، فلم يجز تغييرها عن موضعها، كما لو كانت الواهبة باقية، ويحتمل أن يجوز لعدم الفائدة في التفريق. وللواهبة الرجوع في هبتها في المستقبل؛ لأنه لم يقبض، وما مضى فقد اتصل به القبض، فلا حق لها فيه. وإن بذلت ليلتها بمال، لم يصح؛ لأنها ليست مالا، ولا منفعة يستحق بها المال. وإن كان العوض غير المال، كإرضاء زوجها ونحو ذلك، جاز لحديث عائشة. فصل: والحق في قسم الأمة لها، دون سيدها، فلها هبة ليلتها بغير إذن سيدها، ولها المطالبة بها؛ لأن الإيواء والسكنى حق لها، فملكت إسقاطه والمطالبة به، كالحرة. فصل: وإن تزوج صاحب النسوة امرأة جديدة، قطع الدور لحق الجديدة، فإن كانت بكرا، أقام عندها سبعا. وإن كانت ثيبا، أقام عندها ثلاثا، ثم دار، لما روى أبو قلابة «عن أنس قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا، وإذا تزوج الثيب، أقام عندها ثلاثا، ثم قسم. قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. وإن أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعا، فعل، ثم قضى جميعها للبواقي، لما روت «أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوجها، أقام عندها ثلاثا وقال: إن شئت سبَّعت لك، وإن سبَّعت لك سبعت لنسائي» . رواه مسلم. وفي لفظ: «وإن شئت ثلثت ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 درت» والأحرار والرقيق سواء في هذا الحديث، للإيناس وإزالة الاحتشام، فاستوين فيه لاستوائهن في الحاجة إليه، كالنفقة. فصل: يكره أن يزف امرأتين في ليلة واحدة؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما في إيفاء حقهما، وتستضر التي يؤخر حقها وتستوحش، فإن فعل، بدأ بالتي تدخل عليه أولا فوفاها حقها؛ لأنها أسبق، فإن أدخلتا عليه معا، أقرع بينهما، فقدم من تخرج لها القرعة، ثم ثنى بصاحبتها، ثم قسم بعد ذلك. فصل: وإذا أراد السفر بجميع نسائه، قسم لهن كما يقسم في الحضر. وإن أراد السفر ببعضهن، لم يسافر بهن إلا بقرعة، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه» . متفق عليه. ولا يلزمه القضاء للحاضرات؛ لأن عائشة لم تذكر قضاء؛ ولأن المسافرة اختصت بمشقة السفر، فاختصت بالقسم، والسفر الطويل والقصير سواء في هذا، لعموم الخبر والمعنى. وإن سافر بإحداهن بغير قرعة، أثم، وقضى للبواقي؛ لأنه خصها مدة على وجه تلحقه التهمة، فلزمه القضاء، كالحاضر. فإن خرجت القرعة لإحداهن فامتنعت من السفر معه، سقط حقها لامتناعها. وإن آثرت أخرى به، جاز إذا رضي الزوج؛ لأن الحق لها، أشبه ليلتها في الحضر، وإن أحب تركها، والسفر وحده، جاز؛ لأن القرعة لا توجب، وإنما تعين مستحق التقديم. وإن سافر بها بقرعة ثم بدا له فأبعد السفر، فله استصحابها معه؛ لأنه سفر واحد. وإن أقام في بلدة مدة يلزمه فيها إتمام الصلاة، قضى ذلك، فإذا خرج مسافرا، لم يقض ما سافره؛ لأنه سفر واحد قد أقرع له. وإن كانت عنده امرأتان، فتزوج امرأتين، ثم أراد سفرا، أقرع بين الكل، فإن وقعت القرعة لإحدى الأوليين، سافر بها، فإذا قدم، قضى حق العقد للجديدتين، ثم دار. وإن وقعت للجديدة، سافر بها ودخل حق العقد في قسم السفر، فإذا قدم، قضى حق العقد للأخرى، ثم دار؛ لأنه حق وجب عليه قبل سفره. ويحتمل ألا يقضي لها؛ لأن الإيواء في الحضر أكثر منه في السفر، فيحصل تفضيلها على التي سافر بها. ويحتمل أن يقيم عند الأخرى لقضاء حق العقد؛ لأنه حق وجب بالعقد، ولم يوجد له مسقط، فيجب قضاؤه، ثم يقيم مثله عند التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 سافر بها، لئلا يفضل الحاضر عليها، فإن العدل يحصل بهذا، فيكون أولى من إسقاط حق العقد بغير مسقط وإن قدم من سفره قبل إتمام حق العقد للتي معه، أتمه في الحضر، والله أعلم. [ باب النشوز ] وهو نوعان. أحدهما: نشوز المرأة، وهو معصيتها زوجها فيما يجب له عليها من حقوق النكاح، فمتى ظهر منها إمارات النشوز، مثل أن يدعوها فلا تجيبه، أو تجيبه مكرهة متبرمة، وعظها وخوفها الله تعالى وما يلحقها من الإثم والضرر بنشوزها من سقوط نفقتها وقسمها وإباحة ضربها وأذاها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] . ولا يجوز ضربها؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك لعذر، أو ضيق صدر من غير الزوج، فإن أظهرت النشوز، فله هجرها في المضاجع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] . قال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك. فإن الهجران في الكلام، فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، أو قال: ثلاث ليال» ، متفق عليه. فإن ردعها ذلك، وإلا فله ضربها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح» رواه مسلم. ولا يحرج بالضرب، للخبر. قال ثعلب: غير مبرح، أي: غير شديد. وعليه اجتناب المواضع المخوفة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 والمستحسنة؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف والتشويه. وهل له ضربها بأول النشوز؟ فعنه: له ذلك، للآية والخبر؛ ولأنها صرحت بالمعصية، فكان له ضربها، كالمصرة. وظاهر قول الخرقي: أنه ليس له ضربها؛ لأن المقصود بهذه العقوبات زجرها عن المعصية في المستقبل، فيبدأ بالأسهل فالأسهل، كإخراج من هجم على منزله؛ ولأنها عقوبات على جرائم، فاختلفت باختلافها، كعقوبات المحاربين. فصل: النوع الثاني: نشوز الرجل عن امرأته، وهو: إعراضه عنها لرغبته عنها، لمرضها، أو كبرها، أو غيرهما، فلا بأس أن تضع عنه بعض حقها تسترضيه بذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128] . قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها، ويتزوج عليها، تقول له: أمسكني ولا تطلقني، وأنت في حل من النفقة علي والقسمة لي. رواه البخاري. «وقالت عائشة: إن سودة لما أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل ذلك منها. ففي تلك وأشباهها أراه أنزل الله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] » رواه أبو داود. ومتى صالحته على شيء من حقها، ثم أرادت الرجوع، فلها ذلك. قال أحمد في الرجل يغيب عن زوجته فيقول لها: إن رضيت على هذا وإلا، فأنت أعلم، فتقول: قد رضيت، فهو جائز. وإن شاءت، رجعت. فصل: وإذا ادعى كل واحد منهما ظلم صاحبه وعدوانه، أسكنهما الحاكم إلى جانب ثقة يطلع عليهما، ويلزمهما الإنصاف. فإن لم يمكن إنصاف أحدهما من صاحبه، وخيف الشقاق بينهما، بعث الحاكم حكما من أهله، وحكما من أهلها، ليفعلا ما رأيا المصلحة فيه من التفريق بعوض أو غيره، أو الإصلاح بترك بعض الحقوق أو غيره، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] ويجوز أن يكون الحكمان أجنبيين؛ لأنهما إما وكيلان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 أو حكمان، وأي ذلك كان، فلا تشترط له القرابة، والأولى جعلهما من أهلهما، للآية؛ ولأنهما أعرف بالحال وأشفق. ويجب أن يكونا ذكرين، عدلين؛ لأنهما إن كانا وكيلين، فهما يحتاجان إلى الرأي في النظر والتفريق، ولا يكمل بدون هذين الوصفين. وإن كانا حكمين، فهذا شرط فيه، واختلفت الرواية فيهما. فروي: أنهما حكمان، لتسمية الله تعالى إياهما بذلك، فعلى هذا لهما فعل ما رأياه بغير رضا الزوجين؛ لأن الحاكم يحكم بما يراه من غير رضا الخصم. وروي: أنهما وكيلان لا يملكان التفريق، ولا إسقاط شيء من الحقوق إلا بتوكيلهما أو رضاهما؛ لأن الطلاق إلى الزوج، وبذل المال إلى الزوجة، فلم يجز إلا بإذنهما. ومتى كانا حكمين، اشترط كونهما فقيهين حرين؛ لأنهما من شرائط الحكم. وإن كانا وكيلين، جاز أن يكونا عاميين أو عبدين؛ لأن توكيلهما جائز. وقال القاضي: لا يجوز أن يكونا عبدين؛ لأنهما ناقصان. فإن غاب الزوجان، نفذ تصرف الحكمين في حقهما إن قلنا: هما وكيلان، كما ينفذ تصرف الوكيل في غيبة الموكل. وإن قلنا: هما حكمين، لم ينفذ؛ لأنه لا يجوز له الحكم للغائب. وكل واحد منهما محكوم له وعليه. وإن جنى، لم ينفذ تصرف الحكمين بحال؛ لأن الوكالة تبطل بجنون الموكل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 [ كتاب الخلع ] ومعناه: فراق الزوج امرأته بعوض. فإن خالعها بغير عوض، لم يصح، لكن إن كان بلفظ الطلاق، أو نواه به، فهو طلاق رجعي، ولم يقع به شيء، وعنه: يصح الخلع بغير عوض. اختاره الخرقي. فإذا سألته خلعها، فقال: خلعتك، انفسخ النكاح ولا شيء له؛ لأنه فرقة، فجازت بغير عوض، كالطلاق. فإن قال: خلعتك من غير سؤال الزوجة، لم يكن خلعا، وكان كناية في الطلاق لا غير. قال أبو بكر: لا خلاف عن أبي عبد الله أن الخلع ما كان من قبل النساء. فإذا كان من قبل الرجال، فلا نزاع في أنه طلاق يملك به الرجعة. ووجه الرواية الأولى أنه فسخ للنكاح بغير عوض ولا عيب، فلم يملكه الزوج، كما لو لم تسأله المرأة. [ فصل في حكم الخلع ] فصل: والخلع على ثلاثة أضرب: مباح: وهو أن تكره المرأة زوجها لبعضها إياه، وتخاف ألا تؤدي حقه، ولا تقيم حدود الله في طاعته، فلها أن تفتدي نفسها منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وروى البخاري بإسناده، قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله ما أنقم على ثابت من دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر في الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتردين عليه حديقته؟ فالت: نعم. فردت عليه، وأمره ففارقها» . ولأن حاجتها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 داعية إلى فرقته، ولا تصل إليها إلا ببذل العوض، فأبيح لها ذلك، كشراء المتاع. الثاني: المخالعة لغير سبب مع استقامة الحال، فذهب أصحابنا إلى أنه صحيح مع الكراهة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] . ويحتمل كلام أحمد تحريمه وبطلانه؛ لأنه قال: الخلع مثل حديث سهلة، تكره الرجل، فتعطيه المهر، فهذا الخلع. ووجه ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] . وروى ثوبان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» رواه أبو داود. ولا يلزم من الجواز في غير عقد، الجواز في عقد بدليل عقود الربا. الثالث: أن يعضل الرجل زوجته بأذاه لها، ومنعها حقها ظلما، لتفتدي نفسها منه، فهذا محرم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] . فإن طلقها في هذه الحال بعوض، لم يستحقه لأنه عوض أكرهت على بذله بغير حق، فلم يستحقه، كالثمن في البيع. ويقع الطلاق رجعيا. وإن خالعها بغير لفظ الطلاق، وقلنا: هو طلاق، فحكمه ما ذكرنا، وإلا فالزوجية بحالها. فإن أدبها لتركها فرضا أو نشوزها، فخالعته لذلك، لم يحرم؛ لأنه ضربها بحق. وإن زنت فعضلها لتفتدي نفسها منه، جاز وصح الخلع، لقول الله تعالى: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] . والاستثناء من النفي إثبات. وإن ضربها ظلما لغير قصد أخذ شيء منها، فخالعته لذلك، صح الخلع؛ لأنه لم يعضلها ليأخذ مما آتاها شيئا. فصل: ويصح الخلع من العبد والسفيه والمفلس، وكل زوج يصح طلاقه؛ لأنه إذا ملك الطلاق بغير عوض، فبعوض أولى. والعوض في خلع العبد لسيده؛ لأنه من كسبه، لا يجوز تسليمه إلى غيره، إلا بإذنه، ولا يجوز تسليم العوض في خلع السفيه إلا إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وليه، كسائر حقوقه. وقال القاضي: يصح قبضهما؛ لأنه صح خلعهما، فصح قبضهما، كالمفلس. ولا يصح من غير زوج؛ لأنه لا يملك الطلاق إلا أب الصغير. فإن فيه روايتين: إحداهما: لا يملك طلاق زوجته ولا خلعها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطلاق لمن أخذ بالساق» رواه ابن ماجه. ولأنه إسقاط لحقه فلم يملكه، كإسقاط قصاصه. والثانية: يملكه؛ لأنه يملك تزويجه، فملك الطلاق والخلع، كالزوج، وكذلك القول في زوجة عبده الصغير. فصل: ويصح الخلع من كل زوجة رشيدة؛ لأن استدانتها صحيحة. فإن كانت أمة، فحكم خلعها حكم استدانتها بإذن سيدها، وبغير إذنه، ويرجع على المكاتبة بالعوض إذا عتقت، وعلى المفلسة إذا أيسرت، كاستدانتها. فأما السفيهة والصغيرة والمجنونة، فلا يصح بذل العوض منهن؛ لأنه تصرف في المال وليس من أهله. ويصح بذل العوض في الخلع من الأجنبي. فإذا قال: طلق زوجتك بألف علي، ففعل، لزمته ألف؛ لأنه إسقاط حق لا يفتقر إلى رضا المسقط عنه، فصح بالمالك والأجنبي، كالعتق بمال، فإن قال: طلق زوجتك بمهرها، وأنا ضامن، ففعل، بانت وعليه مهرها، لا يرجع به على أحد. وليس لغير الزوجة خلعها بشيء من مالها، ولو كان أبا الصغيرة؛ لأنه يسقط به حقها من العوض والنفقة والاستمتاع، فإن فعل وكان طلاقا، كان رجعيا، وإلا لم يقع به شيء، كالخلع مع العضل. فصل: ويجوز الخلع من غير حاكم؛ لأنه قطع عقد بالتراضي، فلم يحتج إلى حاكم، كالإقالة. ويجوز في الحيض؛ لأن تحريم الطلاق فيه يثبت دفعا لضرر تطويل العدة، والخلع يدفع به ضرر سوء العشرة، وهو أعظم وأدوم، فكان دفعه أولى. [ فصل في ألفاظ الخلع ] فصل: وألفاظ الخلع تنقسم إلى صريح وكناية؛ لأنه أحد نوعي الفرقة، فكان له صريح وكناية، كالطلاق. فالصريح ثلاثة ألفاظ: خالعتك؛ لأنه يثبت له عرف الاستعمال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وفاديتك لورود القرآن به. وفسخت نكاحك؛ لأنه حقيقة فيه. وما عدا هذا، مثل بارأتك وأبرأتك وأبنتك، فكناية. فمتى أتى بالصريح، وقع وإن لم ينو، ولا يقع بالكناية إلا بنية، أو دلالة حال، بأن تطلب الخلع، وتبذل العوض، فيجيبها بذلك؛ لأن دلالة الحال تغني عن النية. ومتى وقع الخلع بلفظ الطلاق، أو نوى به الطلاق، فهو طلاق بائن؛ لأنه لا يحتمل غير الطلاق. وإن خالعها بغير لفظ الطلاق غير ناو به الطلاق، ففيه روايتان: إحداهما: هو طلاق أيضا؛ لأنه كناية في الطلاق، نوى به فرقتها، فكان طلاقا، كما لو نوى به الطلاق. والثانية: هو فسخ لقول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثم ذكر الخلع، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . فلو كان طلاقا، كانت أربعا، ولا خلاف في تحريمها بثلاث؛ ولأنه ليس بصريح في الطلاق، ولا نوى به الطلاق، فلم يكن طلاقا، كغيره من الكنايات. فإذا قلنا: هو طلاق، نقص به عدد طلاقها، ومتى خالعها ثلاثا، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وإن قلنا: هو فسخ، لم ينقص به عدد طلاقها، وحلت له من غير نكاح زوج ثان، ولو خالعها مرارا. فصل: وتبين بالخلع على كلتا الروايتين، فلا يملك رجعتها؛ لأنه عقد معاوضة، فلم يملك الرجوع فيما اعتاض عنه، كالبيع، ولا يلحقها طلاقه، ولو واجهها به؛ لأنها بائن، فلم يلحقها طلاقه، كبعد العدة. فإن طلقها بعوض، وشرط الرجعة، فقال ابن حامد: يصح الخلع ويسقط الشرط؛ لأن الخلع لا يفسد بالعوض الفاسد، فلم يفسد بالشرط الفاسد، كالنكاح. قال القاضي: ويسقط المسمى، وله صداقها؛ لأنه إنما رضي به مع الشرط، فإذا فسد الشرط، وجب أن يرجع بما نقص لأجله، فيصير مجهولا، فيفسد ويجب الصداق. ويحتمل أن يجب المسمى؛ لأنه مسمى صحيح، في عقد صحيح، فوجب قياسا على الصداق في النكاح، وفيه وجه آخر: أنه يسقط العوض، وتثبت الرجعة؛ لأن شرط العوض والرجعة يتنافيان، فيسقطان، ويبقى مجرد الطلاق. وإن شرط الخيار في الخلع، بطل الشرط، وصح الخلع؛ لأن الخيار في البيع لا يمنع نقل الملك، ففي الخلع لا يمنع وقوعه. ومتى وقع، فلا سبيل إلى رفعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 فصل: ويصح الخلع منجزا بلفظ المعاوضة، لما فيه من المعاوضة، ومعلقا على شرط، لما فيه من الطلاق. فأما المنجز بلفظ المعاوضة، فهو أن يوقع الفرقة بعوض، فيقول: خلعتك بألف، أو طلقتك بألف، أو أنت طالق بألف، فتقول: قبلت، كما يقول: بعتك هذا الثوب بألف، فتقول: قبلت. هذا قول القاضي، وقياس قول أحمد: إنه يقع الطلاق رجعيا، ولا شيء له؛ لأنه أوقع الطلاق الذي يملكه، ولم يعلقه بشرط، وجعل عليها عوضا لم تبذله ولم ترض به، فلم يلزمها. فأما المعاوضة الصحيحة، فمثل أن تقول المرأة: اخلعني بألف، أو طلقني بألف، أو على ألف، أو وعلي ألف، فيقول: طلقتك، كما تقول: بعني هذا الثوب بألف، فيقول: بعتك. ولا يحتاج إلى ذكر إعادة الألف في الجواب؛ لأن الإطلاق يرجع إليه، كما يرجع في البيع. ولا يصح الجواب في هذا إلا على الفور. ويجوز للرجل الرجوع في الإيجاب قبل القبول، وللمرأة الرجوع في السؤال قبل الجواب، كما يجوز في البيع. وأما المعلق فيجوز أن يعلق الطلاق على دفع مال، أو ضمانه، فيقول: إن أعطيتني ألفا، أو إذا أعطيتني ألفا، أو متى أعطيتني ألفا، أو متى ضمنت لي ألفا، فأنت طالق، فمتى ضمنتها له، أو أعطته ألفا، طلقت، سواء كان على الفور أو التراخي؛ لأنه تعليق للطلاق على شرط، فوقع بوجود الشرط، كما لو عري عن ذكر العوض. ويكفي في العطية أن يحضر المال، ويأذن في قبضه، أخذ أو لم يأخذ؛ لأن اسم العطية يقع عليه. يقال: أعطيته فلم يأخذ. فإن أعطته بعض الألف، لم تطلق؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن قالت: طلقني بألف، فقال: أنت طالق بألف إن شئت، لم تطلق حتى تشاء؛ لأنه علق على المشيئة، فلم يقع إلا بها، وسواء شاءت على الفور، أو التراخي، نص عليه؛ لأنه جعل المشيئة شرطا، فأشبه تعليقه على دخول الدار. فصل: فإذا قال: أنت طالق وعليك ألف، طلقت رجعية، ولا شيء له؛ لأنه لم يجعل الألف عوضا للطلقة، ولا شرطا فيها، إنما عطفه على الطلاق الذي يملك إيقاعه، فوقع ما يملكه دون ما لا يملكه. وإن قال: أنت طالق على ألف، أو على أن عليك ألفا، فعن أحمد: فيها مثل ذلك؛ لأن ((على)) ليست حرف شرط، ولا مقابلة، لهذا لا يصح أن تقول: بعتك ثوبي على ألف. وقال القاضي: لا يقع الطلاق بها حتى تقبل ذلك؛ لأنها أجريت مجرى الشرط والجزاء، بدليل قَوْله تَعَالَى في قصة شعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . وقَوْله تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] . فعلى هذا إذا قال أنت طالق على ألف، أو بألف، فقالت: قبلت واحدة بثلث الألف، لم يقع؛ لأنها لم تقبل ما بذله، فأشبه ما لو قال: بعتك عبيدي الثلاثة ألف، فقال: قبلت واحدا بثلث الألف، وإن قالت: قبلت واحدة بألف، وقع الثلاث، واستحق الألف؛ لأنه علق الثلاث على بذلها للألف، وقد وجد. فإن قال: أنت طالق ثلاثا واحدة منها بألف، طلقت اثنتين، ووقعت الثالثة على قبولها. ولو لم يبق من طلاقها إلا طلقة، فقال: أنت طالق اثنتين، الأولى بغير شيء، والثانية بألف، بانت بالثلاث، ولم يستحق شيئا. وإن قال: الأولى بألف، استحق الألف إذا قبلت. فصل: وإذا قالت: طلقني بألف، فقال: خلعتك ينوي به الطلاق، أو قلنا: الخلع طلاق، استحق الألف؛ لأنه طلقها. وإن لم ينو الطلاق، وقلنا: ليس بطلاق، لم يستحق العوض؛ لأنها استدعت فرقة تنقص عدد طلاقه، فلم يجبها إليه، ويكون كالخلع بغير عوض، ويحتمل أن لا يقع بها شيء؛ لأنه إنما بذل خلعها بعوض، فلم يحصل، فلم يقع، وإن قالت: اخلعني بألف، فقال: طلقتك بألف، وقلنا: الخلع فسخ، ففيه وجهان: أحدهما: له الألف؛ لأن الطلاق بعوض نوع من الخلع؛ ولأنها استدعت فرقة لا ينقص عدد طلاقها، فأتى بفرقة تنقص عدد طلاقها، وهذا زيادة. والثاني: لا يستحق شيئا؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألت. وإن قالت: طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة، وقعت رجعية، ولا شيء له؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألت، فإنها استدعت فرقة تحرم بها قبل زوج آخر، فلم يجبها إليه، وإن لم يكن بقي من عدد طلاقها إلا واحدة، استحق الألف، علمت أو لم تعلم؛ لأن القصد تحريمها قبل زوج آخر، وقد حصل ذلك. وإن قالت: طلقني واحدة بألف، فطلقها ثلاثا، طلقت ثلاثا، وله الألف؛ لأنه حصل ما طلبته وزيادة. وإن قالت: طلقني عشرا بألف، فطلقها ثلاثا، استحق الألف في قياس المسألة التي قبلها؛ لأنه حصل المقصود. وإن طلقها أقل من ذلك، لم يستحق شيئا؛ لأنه لم يجب سؤالها. فصل: فإن قالت: طلقني بألف إلى شهر، فقال: إذا جاء رأس الشهر، فأنت طالق، استحق الألف، ووقع الطلاق عند رأس الشهر بائنا؛ لأنه بعوض. وإن طلقها قبل رأس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 الشهر، طلقت ولا شيء له، نص عليه؛ لأنه إخبار بإيقاع الطلاق من غير عوض. وإن قالت: لك علي ألف على أن تطلقني متى شئت من الآن إلى شهر، فطلقها قبل رأس الشهر، وقع الطلاق، واستحق الألف؛ لأنه أجابها إلى ما سألت. وقال القاضي: تبطل التسمية وله صداقها؛ لأن زمن الطلاق مجهول. فصل: وإن قالت إحدى زوجتيه: طلقني وضرتي بألف، ففعل، صح الخلع فيهما؛ لأن الخلع مع الأجنبي صحيح. وإن طلق إحداهما لم يستحق شيئا؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألت، فلم يستحق ما بذلت، كما لو قال في المناضلة: من سبق بسهمين فله ألف، فسبق أحدهما. وقال القاضي: تبين المطلقة على الباذلة حصتها من الألف، كما لو قال: من رد عبدي فله ألف، فرد أحدهما، وإن قالت: طلقني بألف على أن تطلق ضرتي بألف، فكذلك سواء. وقال القاضي: إذا لم يف بشرطها، فله الأقل من المسمى في صداقها، أو الألف. فصل: وإن قال لزوجتيه: أنتما طالقتان بألف، فقبلتا، طلقتا، وتقسطت الألف بينهما على قدر صداقهما، وعلى قول أبي بكر يكون بينهما نصفين، كقوله فيما إذا تزوجهما بألف. وإن قبلت إحداهما، بانت، ولزمتها حصتها من الألف، وإن كانت إحداهما غير رشيدة، فقبلتا، بانت الرشيدة بحصتها، ولم تطلق الأخرى؛ لأنها بذلها للعوض غير صحيح. وإن قال: أنتما طالقتان بألف إن شئتما، فقالتا: قد شئنا، فهي كالتي قبلها، إلا أن إحداهما إذا شاءت وحدها، لم تطلق واحدة منهما؛ لأن مشيئتهما معا شرط لطلاقهما، فلا يوجد بدون شرطه، فإن قالتا: قد شئنا، وإحداهما صغيرة أو مجنونة، فكذلك؛ لأن مشيئتها غير صحيحة، وإن كانت سفيهة، طلقتا؛ لأن مشيئتهما صحيحة، وعلى الرشيدة حصتها من العوض، ويقع طلاق السفيهة رجعيا، ولا عوض عليها؛ لأن بذلها غير صحيح. [ فصل في بيان عوض الخلع ] فصل: وكل ما جاز صداقا، جاز جعله عوضا في الخلع، قليلا كان أو كثيرا، وقال أبو بكر: لا يأخذ أكثر مما أعطاها، فإن فعل، رد الزيادة، والأول المذهب، لقول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وروت الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي، وأجازه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 عثمان؛ ولأنه عوض عن ملك منافع البضع، أشبه الصداق. ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه أمر ثابت بن قيس أن يأخذ من زوجته حديقته ولا يزداد، رواه ابن ماجه. وحكمه حكم الصداق في أنه إذا وجد به عيبا، خير بين قيمته وأخذ أرشه، وفي أنه إذا خالعها على عبد فبان حرا، أو خلا فبان خمرا، فله قيمة العبد، ومثل الخل. وإن خالعها بحر، أو خمر يعلمانه وهما مسلمان، فهو كالخلع بغير عوض؛ لأنه رضي منها بما ليس بمال، بخلاف ما إذا لم يعلم، فأنه لم يرض بغير مال، فرجع بحكم الغرور. فإن كانا كافرين فأسلما، أو تحاكما إلينا بعد قبضه، فلا شيء له؛ لأن حكمه مضى قبل الإسلام، فإن أسلما قبله، فظاهر كلام الخرقي أنه يجب له عوض؛ لأنه لم يرض بغير عوض فأشبه المسلم إذا اعتقده عبدا، أو خلا. وقال القاضي في الجامع: لا شيء له؛ لأنه رضي بما ليس بمال، فأشبه المسلم. وقال في المجرد: لها مهر المثل؛ لأن العوض فاسد يرجع إلى قيمة المتلف، وهو مهر المثل، ويحتمل أن يجب لها قيمة الحر لو كان عبدا، وقيمة الخمر عند الكفار؛ لأنه رضي بمالية ذلك، فأشبه المسلم إذا اعتقده عبدا أو خلا. فصل: ويصح الخلع على عوض مجهول في ظاهر المذهب. وقال أبو بكر: لا يصح؛ لأنه عقد معاوضة فلا يصح بالمجهول، كالبيع. ولنا أن الطلاق معنى يصح تعليقه بالشرط، فجاز أن يستحق به المجهول، كالوصية، وفيه مسائل خمس: أحدها: أن تخالعه على ما في يدها من الدراهم، فإن كان في يدها دراهم، فهي له، وإن لم يكن فيها دراهم، فله ثلاثة، نص عليه أحمد؛ لأنه أقل ما يقع عليه اسم الدراهم حقيقة، ولفظها دل على ذلك فاستحقه، كما لو وصى له بدراهم. الثانية: تخالعه على ما في بيتها من المتاع. فإن كان فيه متاع، فهو له قليلا كان أو كثيرا؛ لأن الخلع على المجهول جائز، فهو كالوصية به، وإن لم يكن فيه متاع، فله أقل ما يقع عليه اسم المتاع كالمسألة قبلها، وكالوصية. وقال القاضي وأصحابه: له المسمى في صداقها؛ لأنها فوتت عليه البضع بعوض مجهول، فيجب قيمة ما فوتت عليه وهو صداقها، وهو تعليل يبطل بالمسألة التي قبلها. الثالثة: خالعها على دابة، أو حيوان، أو بعير، أو ثوب، ونحو ذلك. أو قال: إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 أعطيتني دابة أو بعيرا أو بقرة، فإنها تطلق، ويملك ما أعطته من ذلك. فإن اختلفا فيما يجب له، فالواجب أقل ما يقع عليه الاسم في قياس قول أحمد. وفي قول القاضي وأصحابه: يجب له صداقها، ووجه القولين ما تقدم. الرابعة: خالعها على عبد مطلق، أو قال: إن أعطيتني عبدا، فأنت طالق، فالحكم فيها كالتي قبلها. قال أبو الخطاب: نص أحمد على أنه يملك العبد الذي أعطته. وقال القاضي: له عبد وسط بناء على قوله في الصداق. وقال أبو الخطاب: يجب له صداقها، ووجههما ما تقدم. الخامسة: خالعها على ما يثمر نخلها، أو على ما تحمل أمتها، أو على ما في بطن الأمة من الحمل، أو ما في ضرع الشاة من اللبن، أو على ما في النخلة من التمر، فله ما سمي له إن وجد منه شيء، وإن لم يوجد منه شيء فقال القاضي في الجامع: لا شيء له؛ لأنهما دخلا في العقد مع تساويهما في العلم بالحال، ورضاه بما فيه من الاحتمال، فلم يكن له شيء، كما لو خالعها على ما ليس بمال. فإذا لم يستحق شيئا، كان كالخلع بغير عوض. وقد قال أحمد: إذا خلع امرأته على ثمر نخلها سنين، فجائز ترضيه بشيء قبل حمل نخلها. قيل له: فإن حمل نخلها؟ قال: هذا أجود من ذاك. قيل له: يستقيم هذا؟ قال: نعم جائز. قال القاضي: قوله: ترضيه بشيء على طريق الاستحباب؛ لأنه لو كان واجبا لتقدر بتقدير يرجع إليه، وقال: وفي معنى هذا إذا خالعها على حكم أحدهما، أو حكم أجنبي، أو على ما في يدها، أو بيتها، أو بمثل ما خالع به فلان زوجته ونحو ذلك. وقال أبو الخطاب: يرجع عليها بصداقها، وقال ابن عقيل: إن خالعها على حمل أمتها، فلم يخرج الولد سليما، فله مهر المثل في هذه المواضع كلها لما تقدم. فصل: إذا قال: إذا أعطيتني عبدا، فأنت طالق، فأعطته عبدا لها، ملكه، وطلقت، سليما كان أو معيبا، قنا أو مدبرا؛ لأن اسم العبد يقع عليه، فقد وجد شرط الطلاق، وإن دفعت إليه حرا لم تطلق؛ لأنها لم تعطه عبدا، ولم تملكه شيئا، وإن دفعت إليه عبدا مغصوبا، لم تطلق؛ لأن معنى العطية هاهنا التمليك، ولم تملكه شيئا. وإن قال: إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق، فدفعته إليه، فإذا هو حر، أو مغصوب، لم تطلق كذلك. وعنه: تطلق، وله قيمته. وإن خرج معيبا، لم يرجع عليها بشيء، ذكره أبو الخطاب؛ لأنه شرط لوقوع الطلاق، فأشبه ما لو قال: إن ملكته، فأنت طالق، ثم ملكه. وقال القاضي: له رده، والرجوع بقيمته، أو أخذ أرشه؛ لأنها خالعته عليه، أشبه ما لو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 قالت: اخلعني على هذا العبد، فخلعها. وقال - فيما إذا قال: إن أعطيتني عبدا، فأنت طالق -: يلزمها عبد وسط، كذلك. وإن قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، ونويا صنفا من الدراهم، حمل العقد عليها. وإن أطلقا، حمل على نقد البلد، كالبيع. وإن لم يكن للبلد نقد غالب، حمل على ما يقع عليه الاسم. ولا يقع الطلاق بدفع ألف عددا ناقصة الوزن، ولا تدفع نقرة زنتها ألف؛ لأن الدراهم في عرف الشرع المضروبة الوازنة. وإن دفعت إليه مغشوشة تبلغ فضتها ألفا، طلقت بوجود الفضة، وإن نقصت عنها، لم تطلق؛ لأن الدراهم اسم للفضة. فصل: فإذا خالعها على رضاع ولده مدة معلومة، صح. وإن أطلق، صح أيضا وينصرف إلى ما بقي من الحولين؛ لأن الله تعالى قيده بحولين، فينصرف الإطلاق إليه. فإن ماتت المرضعة أو الصبي، أو جف لبنها قبل ذلك، فعليها أجرة المثل لما بقي من المدة؛ لأنه عوض معين، تلف قبل قبضه. فوجبت قيمته، أو مثله، كما لو خالعها على قفيز، فهلك قبل قبضه، وإن خالعها على كفالة ولده عشر سنين، صح، ويرجع عند الإطلاق إلى نفقة مثله، كما ذكرنا في الإجارة. فإن مات في أثناء المدة، فله بدل ما يثبت في ذمتها. [ فصل في التوكيل في الخلع ] فصل: ويجوز التوكيل في الخلع من الزوجين، ومن كل واحد منهما، مع تقدير العوض، وإطلاقه؛ لأنه عقد معاوضة، فجاز ذلك فيه كالبيع. فإن وكل الزوج، فخالع وكيله بما قدر له، أو بزيادة عليه، أو بصداقها عند الإطلاق، أو زيادة عليه، صح، ولزم المسمى لأنه امتثل أمره، أو زاد خيرا. وإن خالع بدونه، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح، اختاره ابن حامد؛ لأنه خالف موكله فلم يصح تصرفه، كما لو وكله في خلع امرأة، فخالع أخرى. والثاني: يصح، ويرجع على الوكيل بالنقص، اختاره أبو بكر؛ لأنه أمكن الجمع بين تصحيح التصرف، ودفع الضرر، فوجب، كما لو لم يخالف. وذكر القاضي وجهين آخرين: أحدهما: يتخير الزوج بين قبول العوض ناقصا، وبين رده، وله الرجعة. والثاني: يسقط المسمى ويجب مهر المثل، وإن عين له جنس العوض، فخالع بغيره، أو خالع عند الإطلاق بغير نقد البلد، أو بمحرم، لم يصح؛ لأنه خالف موكله في الجنس، أشبه ما لو وكله في بيع شيء فباع غيره. فأما وكيل الزوجة فمتى خالع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 بالمقدر، أو دونه، أو بصداقها عند الإطلاق، أو دونه - صح؛ لأنه امتثل أو زاد خيرا. وإن خالع بزيادة لم تلزمها؛ لأنها لم تأذن فيها، وتلزم الوكيل؛ لأنه التزمها للزوج. وقال القاضي: يلزمها مهر المثل. [ فصل في اختلاف الزوجين في الخلع ] فصل: إذا ادعى الزوج خلعها فأنكرته، أو قالت: إنما خالعك غيري بعوض في ذمته، بانت بإقراره، والقول قولها في نفي العوض مع يمينها؛ لأنها منكرة. وإن ادعته المرأة فأنكرها، فالقول قوله، ولا شيء عليه؛ لأنه لا يدعيه. وإن اتفقا على الخلع، واختلفا في قدر العوض، أو جنسه أو صفته، أو حلوله، فالقول قول المرأة. نص عليه؛ لأن القول قولها في أصله، فالقول قولها في صفته؛ ولأنها منكرة للزيادة المختلف فيها، والقول قول المنكر، وإن أقرت، وقالت: إنها في ضمان زيد، لزمتها الألف، ولم يلزم زيدا شيء، إلا أن يقر به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 [ كتاب الطلاق ] وهو على خمسة أضرب: واجب، هو: طلاق المؤلي بعد التربص إذا أبى الفيئة، وطلاق الحكمين في الشقاق إذا رأياه. ومكروه، وهو: الطلاق من غير حاجة، لما روى محارب بن دثار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» رواه أبو داود. وعنه: أنه محرم؛ لأنه يضر بنفسه وزوجته. وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار» . ومباح، وهو: عند الحاجة إليه، لضرر بالمقام على النكاح، فيباح له دفع الضرر عن نفسه. ومستحب، وهو: عند تضرر المرأة بالنكاح، إما لبغضه، أو غيره، فيستحب إزالة الضرر عنها. وعند كونها مفرطة في حقوق الله الواجبة عليها، كالصلاة ونحوه. وعجزه عن إجبارها عليه، أو كونها غير عفيفة؛ لأن في إمساكها نقصا ودناءة، وربما أفسدت فراشه، وألحقت به ولدا من غيره. وعنه: أن الطلاق هاهنا واجب. قال في مسألة إسماعيل بن سعيد: هل يحل للرجل أن يقيم مع امرأة لا تصلي، ولا تغتسل من جنابة، ولا تتعلم القرآن؟ أخشى أن لا يجوز المقام معها. وقال: لا ينبغي له إمساك غير العفيفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 ومحظور، وهو: طلاق المدخول بها في حيضها، أو في طهر أصابها فيه، ويسمى: طلاق البدعة، لمخالفته أمر الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وروى «ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء» متفق عليه. ولأن طلاق الحائض يضر بها، لتطويل عدتها. والمصابة ترتاب فلا تدري أذات حمل هي فتعتد بوضعه؟ أم حائل فتعتد بالقرء؟ ويحتمل أن يتبين حملها فيندم على فراقها مع ولدها. فأما غير المدخول بها، فلا يحرم طلاقها؛ لأنها لا عدة عليها تطول. والصغيرة التي لا تحمل، والآيسة، لا يحرم طلاقهما؛ لأنه لا ريبة لهما، ولا ولد يندم على فراقه. وكذلك الحامل التي استبان حملها لا يحرم طلاقها، لما روى سالم عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» أخرجه مسلم. ولأنه لا ريبة لها، ولا يتجدد لها أمر يتجدد به الندم؛ لأنه على بصيرة من حملها. فصل: ويقع الطلاق في زمن البدعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالرجعة، ولا يكون إلا بعد طلاق. ويستحب ارتجاعها، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها؛ ولأنه يزيل الضرر الحاصل بالطلاق، ولا يجب لأنه بمنزلة ابتداء النكاح، أو استدامته، وكلاهما غير واجب. وعنه: أن الرجعة واجبة لظاهر الأمر. ومتى ارتجعها، أبيح له طلاقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها قبل إصابتها؛ لأن في حديث «ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق» . متفق عليه. فصل: والأولى أن يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، لقول الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وهذا لا يمكن إذا جمع الثلاث. وقال علي: لو أن الناس أخذوا بما أمر الله تعالى من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدا، يطلقها تطليقة، ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثا، فمتى شاء راجعها. وهل يحرم جمع الثلاث؟ فيه روايتان: إحداهما: يحرم، لمخالفته أمر الله في الطلاق واحدة. وروى محمود بن لبيد قال: «أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فغضب وقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ ‍! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟» رواه النسائي. ولأنه حرم بالقول امرأته لغير حاجة، فحرم، كالظهار. والثانية: لا يحرم؛ لأن في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات ولم ينقل إنكاره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأنه طلاق يجوز تفريقه، فجاز جميعه، كطلاق النسوة، ومتى طلقها ثلاثا بكلمة واحدة، أو بكلمات، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، لما روي «أن ركانة بن عبد يزيد، طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله لقد طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما أردت إلا واحدة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فقال: هو ما أردت فردها إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه الترمذي، والدارقطني، وأبو داود، وقال: الحديث صحيح. فلو لم تقع الثلاث، لم يكن للاستحلاف معنى. فصل: ويملك الحر ثلاث تطليقات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وروى أبو رزين قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: قول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فأين الثالثة؟ قال: {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] » . ويملك العبد اثنتين، حرة كانت زوجته أو أمة، لما روي أن مكاتبا لأم سلمة، طلق امرأته وكانت حرة تطليقتين، فأراد رجعتها، فذهب إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فوجده آخذ بيد زيد بن ثابت، فقالا: حرمت عليك، حرمت عليك، والمكاتب والمعتق بعضه كالقن في ذلك؛ لأنه لم تكمل الحرية فيه. فصل: وإن طلق العبد زوجته تطليقتين ثم عتق، ففيه روايتان: إحداهما: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره؛ لأنه استوفى عدد طلاقها، فأشبه الحر إذا طلق ثلاثا. والثانية: له أن ينكحها وتكون عنده على طلقة واحدة؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى بذلك. رواه النسائي. وهو قول ابن عباس وجابر. ويصح الطلاق من كل زوج بالغ عاقل مختار. فأما غير الزوج، فلا يصح طلاقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطلاق لمن أخذ بالساق» وروى الخلال بإسناده عن علي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق قبل نكاح» ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق إلا فيما تملك» رواه أبو داود والترمذي. فلو قال: إذا تزوجت فلانة، أو امرأة، فهي طالق، ثم تزوجها لم تطلق، للخبر؛ ولأنه حل لقيد النكاح قبله، فلم يصح، كما لو قال لأجنبية: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم تزوجها. وعن أحمد: ما يدل على أنها تطلق إذا تزوجها؛ لأنه يصح تعليقه على الشرط، فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية. وأما الصبي العاقل، ففيه روايتان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 إحداهما: لا يقع طلاقه حتى يحتلم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم» ولأنه غير مكلف، أشبه الطفل. والثانية: أنه إن كان ابن عشر وعقل الطلاق، صح طلاقه، اختاره الخرقي؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله» أخرجه الترمذي. ولأنه عاقل، أشبه البالغ. وأما الطفل، والمجنون، والنائم، والزائل العقل لمرض، أو شرب دواء، أو إكراه على شرب الخمر، فلا يقع طلاقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ، فثبت في الثلاثة بالخبر، وفي غيرهم بالقياس عليهم. فأما السكران لغير عذر، والشارب لما يزيل عقله لغير حاجة، ففيه روايتان: إحداهما: يقع طلاقه، اختاره الخلال، والقاضي، لما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد إلى عمر فأتيته في المسجد، ومعه عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن، فقلت: إن خالدا يقول: إن الناس انهمكوا في الخمر، وتحاقروا عقوبته، فقال عمر: هؤلاء عندك، فسلهم. فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قالوا. فجعلوه كالصاحي في فريته، وأقاموا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 مظنة الفرية مقامها؛ ولأنه مكلف فوقع طلاقه، كالصاحي. والثانية: لا يقع طلاقه، اختارها أبو بكر؛ لأن ذلك قول عثمان صح ذلك عنه؛ ولأنه زائل العقل، أشبه المجنون، وفي قتله وقذفه وسرقته وعتقه ونذره وبيعه وشرائه مثل ما في طلاقه، والأولى أنه لا يصح منه تصرف له فيه حظ؛ لأن تصحيح ما عليه إنما كان تغليظا عليه، فيبقى في ماله على الأصل. فصل: فأما المكره على الطلاق بحق، كالذي وجب عليه الطلاق، فأكرهه الحاكم عليه، صح منه؛ لأنه قول حمل عليه بحق، فصح، كإسلام المرتد. وإن أكره بغير حق، لم يقع طلاقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 قول حمل عليه بغير حق، أشبه الإكراه على كلمة الكفر. ولا يكون مكرها إلا بشروط ثلاثة: أحدها: أن يكون المكره قادرا على فعل ما توعده به، لا يمكن دفعه عنه. الثاني: أن يغلب على ظنه فعل ما توعده به إن لم يفعل. الثالث: أن يكون ضرره كبيرا غير محتمل، كالقطع والقتل والحبس الطويل، والإخراج من الديار، وأخذ المال، والإحراق بمن يغض ذلك منه، من ذوي الأقدار. فأما من لا يغض ذلك منه، والمهدد بالشتم أو الضرب اليسير ونحوه، فليس بمكره. واختلفت الرواية في نيله بشيء من العذاب، هل يشترط في الإكراه أم لا؟ فعنه: هو شرط، ولا يكون الوعيد بمجرده إكراها، هذا الذي ذكره الخرقي؛ ولأن عمر قال: ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أوجعته، أو أوثقته؛ ولأن الوعيد بمجرده لا يتحقق وقوعه به. والثانية: ليس بشرط وهو الصحيح؛ لأن الوعيد بالمستقبل هو المبيح دون ما مضى منه، لكون الماضي لا يمكن دفعه، وقد استويا في الوعيد، فيستويان في عدم الوقوع. ولأن المهدد بالقتل إذا امتنع، قتل، فوجب أن تثبت الإباحة بمجرد التهديد دفعا لضرر القتل عنه. فصل: وأما السفيه المبذر فيقع طلاقه؛ لأنه زوج مكلف فيقع طلاقه، كالرشيد. والحجر: إنما هو في ماله، لا في غيره. فصل: وإن قال العجمي لامرأته: أنت طالق ولا يعلم معناه، لم تطلق لأنه لم يختر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 الطلاق، لعدم علمه بمعناه، فإن نوى موجبه لم يقع؛ لأنه لم يتحقق اختياره لما لا يعلمه، فأشبه ما لو نطق بكلمة الكفر من لا يعرف معناها. ويحتمل أن تطلق لأنه أتى بالطلاق ناويا مقتضاه، فوقع كما لو علمه. وهكذا العربي إذا نطق بلفظ الطلاق بالعجمية غير عالم بمعناه. فصل: وإذا طلق جزءا من زوجته، كثلثها وربعها، أو عضوا منها، كيدها وإصبعها، طلقت؛ لأنه لا يتبعض، فإضافته إلى البعض إضافة إلى الجميع، كالقصاص. وإن أضافه إلى الشعر والسن والظفر، لم يقع؛ لأن هذه تزول، ويخرج غيرها، فلم يقع بإضافته إليها، كالريق. وإن أضافه إلى الريق والدمع والعرق، لم يقع؛ لأنه ليس من ذاتها، إنما هو مجاور لها، وإن أضافه إلى سوادها أو بياضها لم يقع؛ لأنه عرض ليس من ذاتها. وإن أضافه إلى روحها. فقال أبو بكر: لا يقع؛ لأنها ليست عضوا، ولا جزءا ولا شيئا يستمتع به، ولا يحل العقد به. وقال أبو الخطاب: يقع بإضافته إلى روحها ودمها؛ لأن دمها من أجزائها فهو كلحمها، وروحها بها قوامها. وإن أضافه إلى الحمل، لم يقع لأنه ليس من أعضائها، وإنما هو مودع فيها. فصل: إذا قال لزوجته: أنا منك طالق، لم تطلق لأنه محل لا يقع الطلاق بإضافته إليه من غير نية، فلم يقع بنية كالأجنبي؛ ولأنه لو قال: أنا طالق، لم يقع به طلاق، فكذلك إذا قال: أنا منك طالق، كالأجنبي. وإن قال: أنا منك بائن، أو بريء، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع طلاقه؛ لأنه لا يقع بإضافة صريحة إليه، فكذلك كنايته. والثاني: يقع؛ لأن البينونة والبراءة يوصف بها الرجل، فيقال: بان منها، وبانت منه؛ ولأنه عبارة عن قطع الوصلة التي بينهما، فصح إضافته إلى كل واحد منهما. [ باب صريح الطلاق وكنايته ] لا يقع الطلاق بمجرد النية؛ لأنه إزالة ملك، فلا يحصل بمجرد النية، كالعتق. ولو قال: أنت، ونوى الطلاق، وأشار بأصابعه - لم يقع؛ لأنه ليس من كنايات الطلاق ولا صريحه، ولا يقع الطلاق إلا بصريح أو كناية. فالصريح: لفظ الطلاق وما تصرف منه؛ لأنه موضوع له على الخصوص، يثبت له عرف الشرع والاستعمال. فإذا قال: أنت طالق أو مطلقة أو طلقتك، أو يا مطلقة، فهو صريح. وذكر أبو بكر في قوله: أنت مطلقة - رواية أخرى أنه ليس بصريح؛ لأنه يحتمل أن يريد طلاقا ماضيا، والمذهب الأول؛ لأنه متصرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 من لفظ الطلاق، فكان صريحا، كقوله: طلقتك. ولو قيل له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم، كان صريحا؛ لأن الجواب يرجع إلى السؤال، فصار كالملفوظ به. ولو قال: قد كان بعض ذلك، وفسره بتعليقه على شرط، قبل؛ لأنه محتمل. وإن قال: أنت الطلاق، فهو صريح. نص عليه؛ لأنه لفظ بالطلاق، وهو مستعمل في عرفهم. قال الشاعر: فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما ويحتمل أن لا يكون صريحا؛ لأنه وصفها بالمصدر، وأخبر به عنها، وهذا تجوز. وفي لفظ الفراق والسراح وجهان: أحدهما: هو صريح، اختاره الخرقي؛ لأنه ورد في القرآن، فهو كلفظ الطلاق. والثاني: ليس بصريح، اختاره ابن حامد؛ لأنه موضوع لغيره، يكثر استعماله في غير الطلاق، أشبه سائر كناياته. ما عدا هذا فليس بصريح؛ لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الاستعمال. وإن لطم زوجته وقال: هذا طلاقك، فهو صريح. ذكره ابن حامد، وذكره القاضي: أنه منصوص أحمد؛ لأنه أتى بلفظ الطلاق، وكذلك على قياسه إن أطعمها، وقال: هذا طلاقك. فصل: وإذا أتى بصريح الطلاق وقع، نواه أو لم ينوه، جادا كان أو هازلا، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، الطلاق والنكاح والرجعة» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وإذا أراد التلفظ بغير الطلاق، فسبق لسانه إليه، كأن أراد: أنت طاهر، فسبق لسانه إلى: أنت طالق، أو أراد: فارقتك بقلبي، أو ببدني، أو سرحتك من يدي أو سرحت رأسك، أو طلقتك من وثاقي، لم تطلق؛ لأنه عنى بلفظه ما يحتمله، فوجب صرفه إليه. فإذا ادعى ذلك، دين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه محتمل. فأما في الحكم، فإن كان ذلك في حال الغضب، أو سؤالها الطلاق، لم يقبل؛ لأنه يخالف الظاهر من وجهين: مقتضى اللفظ، ودلالة الحال. وإن كان في غيرهما، فظاهر كلام أحمد أنه يقبل؛ لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير بعيد، فقبل، كما لو كرر لفظة الطلاق وأراد بالثانية التأكيد. وعنه: لا يقبل؛ لأنه يخالف الظاهر فلم يقبل، كما لو أقر بدرهم، ثم فسره بدرهم صغير، أو رديء. وإن نطق بهذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 الصلاة، لم يقع الطلاق وجها واحدا؛ لأنه وصل كلامه بما يغير مقتضاه، فأشبه ما لو وصله بشرط، أو قال: له علي درهم صغير. وإن قال: طلقت زوجتي، وقال: أردت في نكاح غير هذا، أو قال: يا مطلقة، وقال: أردت من زوج قبلي، دين في ذلك. فأما في الحكم فإن لم يكن وجد، لم يقبل؛ لأنه لا يحتمله. وإن كان وجد فهل يقبل؟ على وجهين، لما ذكرناه. فصل: وما عدا الصريح من الألفاظ قسمان: أحدهما: ما لا يشبه الطلاق، ولا يدل على الفراق، كقوله: اقعدي، واقربي، وقومي وكلي واشربي وأطعميني، واسقيني، وما أحسنك، وبارك الله عليك، وأنت جميلة أو قبيحة، ونحو هذا فلا يقع به طلاق وإن نواه؛ لأنه لا يحتمل الطلاق، ولو أوقعناه، لوقع بمجرد النية، ولا سبيل إليه. والثاني: ما يشبه الطلاق، ويدل على ما معناه، فهو كناية فيه، إن نوى به الطلاق، وقع؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله. وإن لم ينو شيئا، ولا دلت عليه قرينة، لم يقع؛ لأنه ظاهر في غير الطلاق، فلم يصرف إليه عند الإطلاق، كما لا ينصرف الصريح إلى غيره. وإن كان جوابا لسؤالها الطلاق، وقع. نص عليه، لدلالة الحال عليه، فإن الجواب مبني على السؤال فيصرف إليه، كما لو قيل: أطلقت؟ فقال: نعم. وإن أتى بالكناية حال الخصومة والغضب، ففيه روايتان: إحداهما: يقع الطلاق لأن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال، لذلك كان قول حسان: فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد مدحا جميلا، وقول النجاشي: قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل هجاء قبيحا، مع استوائهما في الخبر عن الوفاء بالذمة، لدلالة الحال عليه. والثانية: لا يقع لأنه ليس بصريح في الطلاق، ولا نوى به الطلاق، فلم يقع به الطلاق، كحال الرضا. ويتخرج من جواب السؤال مثل ذلك، ويحتمل التفريق بين الكنايات، فيما كثر استعماله منها في غير الطلاق، كقوله: اذهبي، واخرجي، وروحي، لا يقع بغير نية بحال؛ لأنه أتى بما جرت العادة باستعماله بغير الطلاق كثيرا، فلم يكن طلاقا كحال الرضا، وما ندر استعماله، كقوله: اعتدي، وحبلك على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 غاربك، وأنت بائن، وبتة، إذا أتى في حال الغضب، أو سؤال الطلاق، كان طلاقا، لدلالة استعماله المخالف لعادته في خصوص هذه الحال على إرادة الفراق. فأما إن قصد بالكناية غير الطلاق، لم يقع على كل حال؛ لأنه لو قصد ذلك بالصريح لم يقع، فالكناية أولى. فصل: والكنايات ثلاثة أقسام: ظاهرة، وخفية، ومختلف فيها. فالظاهرة ستة ألفاظ: خلية، وبرية، وبائن، وبتة، وبتلة، وأمرك بيدك، وفيها روايتان: إحداهما: هي ثلاث وإن نوى واحدة؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عمر وزيد، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم ينقل خلافهم في عصرهم، فكان إجماعا؛ ولأنه لفظ يقتضي البينونة بالطلاق، فوقع ثلاثا، كما لو طلق ثلاثا. والثانية: يقع ما نواه. اختاره أبو الخطاب، لحديث ركانة الذي قدمناه؛ ولأنه أحد نوعي الطلاق، فإذا نوى به واحدة، لم يزد عليها، كالصريح، فإن لم ينو شيئا وقع ثلاثا. وروى عن حنبل: أنه يقع به واحدة بائنة؛ لأنه لفظ اقتضى البينونة دون العدد، فوقعت واحدة بائنة كالخلع. فأما الخفية، فنحو اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرعي، وأغناك الله، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] وأشباه هذا. فهذا يقع به ما نواه؛ لأنه محتمل له. وإن لم ينو شيئا، وقعت واحدة؛ لأنه اليقين. وأما المختلف فيها، فالحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، وتزوجي من شئت، واعتدي، وغطي شعرك، وأنت حرة، وقد أعتقتك، ولا سبيل لي عليك، وأنت علي حرج، ففيها روايتان: إحداهما: هي ظاهرة؛ لأنها في معنى الظاهرة، والأخرى هي خفية؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخلت عليه ابنة الجون قال: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك» متفق عليه. ولم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليطلق ثلاثا وقد نهى أمته عنه، وقد روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 لسودة بنت زمعة: اعتدي، فجعلها طلقة.» متفق عليه. وفي معنى هذه اللفظات: استبرئي رحمك، وحللت للأزواج، وتقنعي، ولا سلطان لي عليك، فيخرج فيها وجهان. فصل: فإن قال: أنت علي حرام، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: أنها ظهار، نوى الطلاق أو لم ينوه، ذكره الخرقي؛ لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس؛ ولأنه صريح في تحريمها فكان ظهارا كقوله: أنت علي كظهر أمي. والثانية: هو كناية في الطلاق؛ لأنه يروى عن علي وزيد وابن مسعود وأبي هريرة؛ ولأن الطلاق تحريم، فصحت الكناية عنه بالحرام، كقوله: أنت الحرج. فإن لم ينو الطلاق، كان ظهارا، فعلى هذه الروية تكون كناية ظاهرة فيها من الخلاف مثل ما تقدم. والثالثة: أنه يرجع فيه إلى نيته، إن نوى اليمين كان يمينا؛ لأن ذلك يروى عن الصديق وعمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ ولأنه تحريم لامرأة فكان يمينا، كتحريم الأمة. وإن قال: أنت علي حرام، أعني به الطلاق، ففيه روايتان: إحداهما: أنه طلاق، وهي المشهورة؛ لأنه صريح بلفظ الطلاق. والثانية: هي ظهار؛ لأنه لا يصلح كناية في الطلاق، فلم يصير طلاقا لقوله، أعني به الطلاق، كقوله: أنت علي كظهر أمي. وإن قال: أنت علي كظهر أمي ينوي به الطلاق، كان ظهارا، ولم يقع به الطلاق؛ لأنه صريح في الظهار، فلم يكن كناية في غيره. ولو صرح به فقال: أعني به الطلاق، لم يصر طلاقا؛ لأنه لا تصلح الكناية به. وإن قال: أنت علي كالميتة والدم ونوى به الطلاق، فهو طلاق؛ لأنه يشبه الطلاق، فصح أن يكنى به عنه. وإن نوى الظهار، كان ظهارا؛ لأنه يشبهه. وإن نوى اليمين، كان يمينا؛ لأنه يشبهها، وإن لم ينو شيئا، ففيه وجهان: أحدهما: يكون ظاهرا؛ لأن معناه: أنت علي حرام، كالميتة. والآخر يكون يمينا ولا يكون طلاقا؛ لأنه ليس بصريح، فلا يقع الطلاق به من غير نية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 فصل: ويجوز للرجل تفويض الطلاق إلى زوجته، لما روت عائشة قالت: «لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتخيير أزواجه، بدأ بي فقال: إني لمخبرك خبرا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم قال: إن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] ، حتى بلغ: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] . فقلت: في أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ما فعلت» . متفق عليه. وهو على ضربين: أحدهما: تفويضه بلفظ صريح. فيقول: طلقي نفسك، فلها أن تطلق نفسها واحدة، ليس لها أكثر منها؛ لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، كما لو وكل فيه أجنبيا، إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك بلفظه أو نيته. نص عليه؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله. والقول قوله في نيته؛ لأنه أعلم بها. ولها أن تطلق بلفظ الصريح والكناية مع النية لأن الجميع طلاق فيدخل في لفظه. ولها أن تطلق متى شاءت؛ لأنه توكيل في الطلاق مطلق، فأشبه توكيل الأجنبي. وقال القاضي: يتقيد بالمجلس قياسا على التخيير. والثاني: تفويضه إليها بلفظ الكناية. وهو نوعان: أحدهما: أن يقول: أمرك بيدك، فيكون لها أن تطلق نفسها ما شاءت، ومتى شاءت؛ لأنه نوع توكيل، بلفظ يقتضي العموم في جميع أمرها، فأشبه ما لو قال: طلقي نفسك ما شئت ومتى شئت، وقد روي عن علي في رجل جعل أمر امرأته بيدها. قال: هو لها حتى ينكل. وعن أحمد ما يدل على أنه إن نوى واحدة، فهي واحدة؛ لأنه نوع تخيير فرجع إلى نيته كالتخيير. والثاني: أن يقول لها: اختاري، فليس لها أن تختار أكثر من واحدة، إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك بلفظه أو نيته، كما ذكرنا في قوله: طلقي نفسك. وليس لها أن تختار، إلا عقيب تخييره، قبل أن يقطعا ذلك بالأخذ في كلام غيره، أو قيام أحدهما عن مجلسه؛ لأن ذلك يروى عن عمر وعثمان وابن مسعود وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 ولأنه خيار تمليك فكان على الفور، كخيار القبول. وإن جعل إليها أكثر من ذلك بلفظه، أو نيته، أو قرينة، فهو على ما جعل إليها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك» وللزوج الرجوع فيما فوضه إليها قبل تطليقها؛ لأنه نوع تفويض، فملك الرجوع فيه، كتوكيل الأجنبي. وإن وطئها، كان رجوعا، لدلالته على رغبته فيها، ورجوعه عما جعل إليها. فصل: ولفظة الخيار، وأمرك بيدك، كناية في حق الزوج؛ لأنه ليس بصريح في إرادة الطلاق، فلم ينصرف إليه بغير نية. وإن نوى به إيقاع الطلاق في الحال، وقع؛ لأنه يصلح كناية عن الطلاق، فأشبه سائر كناياته. وإن نوى به التفويض، فطلقت نفسها بلفظ صريح، وقع من غير نية. وإن لم تختر شيئا، لم يقع بها شيء. وكذلك إن اختارت زوجها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير أزواجه فاخترنه، فلم يكن طلاقا. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «خيرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يكن طلاقا» . ولأنه تفويض للطلاق إليها، فلم يقع به بمجرده طلاق، كقوله: طلقي نفسك. وإن قالت: قبلت، فليس بشيء؛ لأن ذلك ينصرف إلى قبول التفويض، فهو كقبول التوكيل. وإن قالت: اخترت نفسي، أو أهلي، أو أبوي، أو الأزواج، أو ألا تدخل علي، ونحو هذا مما يحتمل إرادة الطلاق، فهو كناية يفتقر إلى النية؛ لأنه ليس بصريح، فاعتبرت النية فيه، كالكنايات. فإن نوت به الطلاق، كان طلاقا، وإلا فلا. ويقع به واحدة إلا أن ينوي الثلاث، إذا جعل إليها ثلاثا. وإن ملكها ثلاث تطليقات بلفظه، أو بنيته، فطلقت ثلاثا، وقع ثلاثا، وإن طلقت أقل منها، وقع؛ لأن من ملك ثلاثا، ملك واحدة كالزوج. وإن قال: اختاري فاختارت نفسها، ونويا ثلاثا، وقع الثلاث. وإن نوى أحدهما طلقة، والآخر أكثر منها، وقعت طلقة؛ لأن الطلاق يفتقر إلى تمليك الزوج وإيقاع المرأة، فالزائد لم يوجد فيه إلا أحدهما، فلم يقع. فصل: وإن قال لزوجته: وهبتك لنفسك، أو لأهلك، فهو كناية، وإن نوى به الإيقاع، وقع، وإن لم ينو الإيقاع في الحال، فهو كناية في حقهما يفتقر إلى قبولهم. والنية من الزوج ومنهم؛ لأنه ليس بصريح. فإن نويا الطلاق دون العدد، وقعت واحدة، يملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 الرجعة، وإن نويا جميعا عددا، وقع. وإن نوى أحدهما أكثر من الآخر، وقع الأقل، لاتفاقهما عليه. وإن ردوها، لم يقع شيء؛ لأنه تمليك للبضع فافتقر إلى القبول، كقوله: اختاري. وإن باعها لغيره، لم يقع به طلاق، وإن نوى؛ لأنه لا يتضمن معنى الطلاق، لكونه معاوضة، والطلاق مجرد إسقاط. فصل: ويصح تفويض الطلاق إلى غير الزوجة؛ لأنه إزالة ملك، فصح التوكيل فيه، كالعتق. فإن قال لرجل: طلق زوجتي، أو أمرها بيدك، فالحكم فيها كالحكم في جعل ذلك إلى الزوجة على ما مضى. فإن وكل اثنين، لم يملك أحدهما طلاقها منفردا، وإن جعل إليهما طلاقا ثلاثا، فطلقها أحدهما ثلاثا، والآخر واحدة، وقعت واحدة، لاتفاقهما عليها. ولو لم يبق من طلاقها إلا واحدة، فطلقها الوكيل ثلاثا، وقعت الواحدة؛ لأن المحل لا يتسع لأكثر من هذا. فصل: لا يقع الطلاق بغير اللفظ إلا في موضعين: أحدهما: الأخرس: إن أشار بالطلاق وقع طلاقه؛ لأنه يحتاج إلى الطلاق، فقامت إشارته فيه مقام نطق غيره، كالنكاح. ويقع في العدد ما أشار إليه؛ لأن إشارته كلفظ غيره. وأما غير الأخرس، فلا يقع الطلاق بإشارته؛ لأنه لا ضرورة به إليها، فلم يصح منه بها، كالنكاح. الثاني: إذا كتب طلاق زوجته ونواه، وقع؛ لأنه حروف يفهم منها صريح الطلاق، أشبه النطق. وإن كتب صريح الطلاق من غير نية، ففيه روايتان: إحداهما: يقع لذلك. والثانية: لا يقع؛ لأن الكناية تحتمل الطلاق وامتحان الخط وغيره، فلم تطلق بمجردها، كالكنايات. وإن قصد بالكناية امتحان الخط أو غير الطلاق، لم يقع؛ لأنه لو قصد بالنطق غير الطلاق، لم يقع. فالكناية أولى. وإن قصد غم أهله، فظاهر كلام أحمد أنه يقع؛ لأن ذلك لا ينافي الوقوع، فيغم أهله بوقوع الطلاق بهم. وعنه: فيمن قصد تجويد الخط أنه يقع طلاقه؛ لأنه يتنافى تجويد الخط وإيقاع الطلاق. وإن ادعى إرادة ما ينفي وقوع الطلاق، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. وإن كتبه بشيء لا يتبين، ككتابته بإصبعه على وسادة، أو في الهواء، فظاهر كلام أحمد: أنه لا يقع؛ لأن الكتابة بما لا يتبين كالهمس بلسانه بما لا يسمع. وقال أبو حفص: يقع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 لأنه كتب حروف الطلاق، أشبه كتابته بما يبين. [ باب ما يختلف به عدد الطلاق ] إذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا، فهي ثلاث وإن نوى واحدة؛ لأن لفظه نص في الثلاث لا يحتمل غيرها، والنية إنما تصرف اللفظ إلى بعض محتملاته. فإن قال: أنت طالق واحدة، فهي واحدة وإن نوى ثلاثا؛ لأن لفظه لا يحتمل أكثر منها، وكذلك إن قال: أنت واحدة. وإن قال: أنت طالق ولم ينو عددا فهي واحدة. وإن نوى ثلاثا أو اثنتين: ففيه روايتان: إحداهما: لا يقع إلا واحدة؛ لأن لفظه لا يتضمن عددا، ولا بينونة، فلم يقع به ثلاث، كالتي قبلها. والثانية: يقع به ما نواه؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، بدليل أنه يصح تفسيره به، فأشبه الكناية. وإن قال: أنت طالق طلاقا، أو الطلاق، وقع ما نواه؛ لأنه صرح بالمصدر، وهو يقع على القليل والكثير. وإن أطلق، وقع بقوله: أنت طالق طلاقا، واحدة؛ لأنه اليقين. وفي قوله: طالق الطلاق، روايتان: إحداهما: تطلق ثلاثا؛ لأن الألف واللام للاستغراق. والثانية: تقع واحدة؛ لأن الألف واللام اشتهر استعمالها في الطلاق لغير الاستغراق، كقوله: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» . وإن قال: فارقتك، لزمه الطلاق، ومن أكره على الطلاق، وكذلك في غيره من الأجناس، كقوله: «اغسليه بالماء» و «عليك بالصعيد» وتيمم بالتراب فيجب حمله على اليقين. وهكذا إن قال: أنت الطلاق، أو الطلاق يلزمني، أو لازم لي، أو علي الطلاق، أو أنت علي حرام أعني به الطلاق، فحكم به على ما ذكرنا. وقد نص أحمد فيمن قال: أنت علي حرام، أعني به الطلاق، أنه ثلاث. ومن قال: أعني به طلاقا، فهي واحدة. فصل: فإن قال: أنت طالق كل الطلاق، أو جميعه، أو أكثره، أو منتهاه، طلقت ثلاثا؛ لأن ذلك هو الطلاق الثلاث. وإن قال: أنت طالق كعدد الماء أو الريح، أو التراب، أو كألف، طلقت ثلاثا؛ لأنه يقتضي العدد. فإن قال: أنت طالق طلقة صعوبتها كألف، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 قبل لأنه يحتمل ما قاله. وإن قال: أنت طالق ملء الدنيا، أو أشد الطلاق، أو أغلظه، أو أطوله أو أعرضه، طلقت واحدة؛ لأن ذلك لا يقتضي عددا، والطلقة الواحدة توصف بكونها ملء الدنيا، ذكرها وإنها أشد الطلاق عليها، لضررها به، فلم يقع الزائد بالشك. فإن نوى ثلاثا وقعت؛ لأن اللفظ يحتملها. فصل: وإن قال: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث، طلقت طلقتين؛ لأن ما بعد الغاية لا يدخل فيها بمقتضى اللفظ، وإن احتمل دخوله، لم نوقعه بالشك. وعنه: تطلق ثلاثا؛ لأن ما بعد "إلى" قد يدخل مع ما قبلها، كقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . فصل: وإن قال: أنت طالق طلقة في طلقتين ونوى الثلاث، وقع؛ لأن (في) تستعمل في بمعنى (مع) كقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] وإن نوى واحدة، لم يقع أكثر منها؛ لأنه إنما أوقع واحدة. وإن أطلق ولا يعرف الحساب، وقعت واحدة، فتطلق بقوله: أنت طالق، ولا يقع بقوله: في ثنتين - شيء؛ لأنه لا يعرف مقتضاه، ويحتمل أنه إن كان في عرفهم استعمال ذلك للثلاث، طلقت ثلاثا؛ لأن الظاهر إرادة ما تعارفوه. فإن نوى موجبه في الحساب، احتمل أن تكون نيته كعدمها. قاله القاضي. واحتمل أن تطلق طلقتين. وهذا قول ابن حامد، ووجه القولين ما ذكرنا فيما إذا نوى العجمي بلفظ الطلاق موجبه عند العرب، فإن كان يعرف الحساب، وقع طلقتان؛ لأن ذلك موجبه عندهم. وإن لم ينو فقال أبو بكر: يقع طلقتان؛ لأنه موضوعه عندهم، ويحتمل أن تقع واحدة، لما ذكرنا في غير الحاسب. فصل: فإن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتين، وقع طلقتان. نص عليه؛ لأن ما لفظ به بعد الإضراب يدخل فيه ما لفظ قبله، فلم يلزمه أكثر منه. كما لو قال: له علي درهم، بل درهمان. وإن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقة، طلقت واحدة، كما لو قال: له علي درهم، بل درهم. وهكذا إن قال: أنت طالق، بل أنت طالق. نص عليه. ويحتمل أن يقع طلقتان. وإن نوى به طلقتين، وقع طلقتان؛ لأنه قصد إيقاع طلقتين بلفظين. وإن قال: أنت طالق، بل هذه الأخرى، طلقتا معا؛ لأنه أوقعه بكل واحدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 منهما، فأشبه ما لو قال: له علي هذا الدرهم، بل هذا. ولو قال: أنت طالق واحدة بل هذه ثلاثا، طلقت الأولى واحدة، والثانية ثلاثا. وإن قال: أنت طالق هكذا، وأشار بأصابعه الثلاث، طلقت ثلاثا؛ لأن التفسير يحصل بالإشارة، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» فإن قال: أردت بعدد المقبوضتين، قبل منه؛ لأنه يحتمله. فصل: وإذا طلقها جزءا من طلقة، طلقت واحدة؛ لأن ذكر بعض ما لا يتبعض، كذكر جميعه، كما لو قال: نصفك طالق. وإن قال: أنت طالق نصفي طلقة، طلقت طلقة؛ لأن ذلك طلقة. وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقة. طلقت طلقتين؛ لأنه طلقة ونصف، فيكمل النصف بالسراية، فتصير طلقتين. وإن قال نصف طلقتين، طلقت واحدة؛ لأن نصف الطلقتين طلقة. وإن قال: أدرت من كل واحدة جزءا، طلقت طلقتين؛ لأنه أقر على نفسه بما هو أغلظ. وإن قال نصفي طلقتين، وقعت طلقتان؛ لأن نصفي الشيء كله. وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقتين، طلقت ثلاثا؛ لأن نصف الطلقتين طلقة، وقد كرره ثلاثا، ويحتمل أن يقطع طلقتان، ويكون معناه: ثلاثة أنصاف من طلقتين. وإن قال: أنت طالق نصف طلقة، ثلث طلقة، سدس طلقة، أو نصف وثلث وسدس طلقة، طلقت طلقة؛ لأن هذه أجزاء طلقة. وإن قال: نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة، طلقت ثلاثا؛ لأن عطف جزء الطلقة على جزء آخر يدل على المغايرة، فيقع جزء من كل طلقة، ثم يكمل بالسراية، وإن قال: أنت نصف طالق، طلقت واحدة، كما لو قال: نصفك طالق. وإن قال: أنت نصف طلقة، طلقت واحدة، كما لو قال: أنت الطلاق. فصل: فإن قال لأربع نسائه: أوقعت بينكن، أو عليكن طلقة، طلقت كل واحدة طلقة؛ لأن لكل واحدة ربع الطلقة، ثم تكمل. فإن قال: طلقتين، فكذلك عن أبي الخطاب؛ لأنه إذا قسم لم تزد كل واحدة على طلقة، وكذلك إن أوقع بينهن ثلاثا أو أربعا، وإن أوقع بينهن خمسا، طلقت كل واحدة طلقتين؛ لأن لكل واحدة طلقة وربعا، فيكمل الربع طلقة. وروى الكوسج عن أحمد إذا قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات: ما أرى إلا قد بنَّ منه، فظاهره أنه قد أوقع بكل واحدة ثلاثا؛ لأن نصيب كل واحدة من كل طلقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 ربع، ثم يكمل بالسراية. وهذا قول أبي بكر والقاضي. وعلى هذا يتفرع ما أشبهه. فصل: فإن قال: أنت طالق طلقة لا تقع عليك، أو لا ينقص به عدد طلاقك، أو لا شيء أو ليس بشيء، طلقت؛ لأنه أوقع الطلاق، ثم وصفه بما لا يتصف به، فلغت الصفة، وبقي الطلاق بحاله. وإن قال: أنت طالق أو لا؟ لم تطلق؛ لأنه لم يوقعه وإنما استفهم عنه، فلم يقع، والله أعلم. [ باب ما يختلف به حكم المدخول بها وغيرها ] إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، لغير مدخول بها، طلقت واحدة؛ لأنها بانت بالأولى، فلم يقع بها ما بعدها؛ لأنه أوقعه على بائن. وكذلك كل طلاق يترتب في الوقوع، كقوله: أنت طالق ثم طالق، أو طالق فطالق، أو طالق بل طالق وطالق، أو طالق طلقة فطلقة، أو طلقة قبل طلقة، أو بعد طلقة، أو بعدها طلقة، لم يقع إلا واحدة، كذلك. وإن قال: أنت طالق طلقتين، طلقت طلقتين؛ لأنه أوقعهما معا في محل قابل لهما. ولو قال: أنت طالق طلقة معها طلقة، طلقت طلقتين؛ لأن لفظه يقتضي وقوعهما معا. وكذلك لو قال: أنت طالق وطالق، طلقت طلقتين؛ لأن الواو تقتضي الجمع دون الترتيب، فأشبهت ما قبلها، فإن قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، فكذلك في قول أبي بكر؛ لأنه تعذر وقوع الثانية قبل الأولى، فوقعت معها. وقال القاضي: لا يقع إلا طلقة؛ لأنه أوقعهما مرتبتين، فتقع الأولى وتلغو الثانية، كقوله: طلقة قبل طلقة. ومتى قال شيئا من ذلك لمدخول بها، طلقت طلقتين؛ لأنها لا تبين بالأولى. ولو قال لها: إن قمت، فأنت طالق وطالق وطالق، أو أنت طالق وطالق وطالق إن قمت، أو قال: إن قمت فأنت طالق، إن قمت فأنت طالق، إن قمت فأنت طالق، فقامت، طلقت ثلاثا، مدخولا بها أو غير مدخول بها؛ لأنه لا ترتيب فيه. وإن قال: إن قمت فأنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، فقامت، طلقت واحدة إن كانت غير مدخول بها، وثلاثا إن كان دخل بها. فصل: وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، وقال: أردت أنني طلقتها في نكاح آخر، أو طلقها زوج قبلي، دين. وهل يقبل في الحكم؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقبل؛ لأنه يحتمل أن يريد ذلك. والثاني: لا يقبل لأنه يخالف الظاهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 والثالث: إن كان وجد، قبل؛ لأن احتمال إرادة ذلك شائع، ولا يقبل إن لم يكن وجد؛ لأنه كذب. وإن قال: بعدها طلقة، وقال: أردت طلقة أوقعها فيما بعد، دين. وهل يقبل الحكم؟ على روايتين. وإن قال: أردت بقولي: أنت طالق أنت طالق التأكيد بالثانية، قبل منه؛ لأنه محتمل لما قاله. وإن أطلق، طلقت طلقتين؛ لأنه اللفظ الثاني كالأول، فيقتضي من الوقوع ما اقتضاه الأول، وإن قال: أنت طالق طالق، فهي واحدة؛ لأن اللفظ الثاني لا يصلح وحده للاستئناف، فينصرف إلى التأكيد، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فنكاحها باطل باطل» . وإن قصد بالثاني الإيقاع، طلقت طلقتين، ويقدر له ما يتم الكلام به. وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق، فهي ثلاث. فإن قال: أردت بالثانية التوكيد، دين، ولم يقبل في الحكم؛ لأنه غاير بينهما بحرف. وإن أراد بالثالثة التوكيد، قبل في الحكم؛ لأنها مثل الثانية في لفظها، وكذلك إذا قال: أنت طالق، فطالق، فطالق، أو طالق ثم طالق، ثم طالق. وإن قال: أنت طالق وطالق، فطالق، أو طلق فطالق ثم طالق، وقال: أردت التوكيد، لم يقبل؛ لأنه غاير بين الحروف. وإن غاير بين الألفاظ فقال: أنت مطلقة، أنت مسرحة، أنت مفارقة، وقال: أردت بالثانية والثالثة التوكيد، قبل؛ لأنه لم يغاير بين الحروف العاملة في الكلام، بخلاف التي قبلها. [ باب الاستثناء في الطلاق ] يصح الاستثناء في الطلاق؛ لأنه لغة العرب، ونزل به القرآن. وقال أبو بكر: لا يصح في عدد الطلقات؛ لأنه لا سبيل إلى رفع الواقع منها، والمذهب الأول؛ لأنه استثناء في الطلاق، فجاز، كما في عدد المطلقات، وليس الاستثناء رفعا لواقع، إذ لو كان كذلك، لم يصح في الإقرار، ولا في عدد المطلقات. وإنما يمنع دخول المستثنى، من الدخول في المستثنى منه، ولا يصح استثناء الكل، ولا الأكثر. وفي استثناء النصف وجهان، لما نذكره في الإقرار. فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، إلا ثلاثا، أو إلا طلقتين، طلقت ثلاثا. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقة وطلقتين، أو إلا طلقة وطلقة، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح الاستثناء؛ لأن العطف بالواو، يجعل الجملتين جملة واحدة، فيكون مستثنيا للأكثر، أو الكل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 والثاني: يصح؛ لأن الاستثناء الأول يمكن تصحيحه، فلا يبطل ببطلان غيره. وإن قال: أنت طالق طلقتين وطلقة إلا طلقة، ففيه وجهان: أحدهما: يصح الاستثناء لما ذكرنا. والثاني: لا يصح؛ لأن الاستثناء يعود إلى ما يليه، فيصير مستثنيا للكل؛ ولأن تصحيحه يجعل المستثنى والمستثنى منه لغوا. وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة، أو طالق طلقتين ونصفا إلا طلقة، أو إلا نصف طلقة، فكذلك لما ذكرنا. ولو كان العطف بغير الواو، لغا الاستثناء وجها واحدا. وإن قال: أنت طالق خمسا إلا طلقتين، لم يصح؛ لأنه إن عاد إلى الخمس، بقي بعده ثلاث. وإن عاد إلى الثلاث، لم يصح؛ لأنه استثنى الأكثر، وإن قال: إلا طلقة ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه استثناء واحدة من خمس، فبقي أربع. والثاني: يصح، ذكره القاضي، فيقع طلقتان؛ لأن الاستثناء يعود إلى ما ملكه من الطلقات دون ما زاد. ولا يصح الاستثناء من الاستثناء في الطلاق إلا في مسألة واحدة، وهي قوله: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين، إلا واحدة، في أحد الوجهين، بناء على استثناء النصف. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة، لم يصح، لأن الاستثناء الأول باطل، فلا يصح الاستثناء منه، ويحتمل أن يعود استثناء الواحدة إلى أول الكلام، لتعذر عوده إلى ما يليه، فيقع طلقتان. فصل: وإن قال: أنت طالق ثلاثا، واستثنى بقلبه إلا واحدة، طلقت ثلاثا؛ لأنه يسقط ما يقتضيه نصفه بالنية، فلم يصح. وإن قال لنسائه: أربعتكن طوالق، واستثنى بقلبه إلا فلانة، لم يصح كذلك. وإن قال: نسائي طوالق، ونوى إلا فلانة، صح، ولم تطلق لأنه لم يسقط اللفظ، وإنما يستعمل العموم في الخصوص، وذلك شائع. وإذا ادعى ذلك دين. وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين. [ باب الشروط في الطلاق ] يصح تعليق الطلاق بشرط، كدخول الدار، ومجيء زيد، ودخول سنة. فإن علقه بشرط، تعلق به. فمتى وجد الشرط، وقع. وإن لم يوجد، لم يقع؛ لأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية، أشبه العتق. ولو قال: عجلت ما علقته، لم تطلق؛ لأنه تعلق بالشرط فلم يتغير. فإن قال: أردت الطلاق في الحال، وإنما سبق لساني إلى الشرط، طلقت في الحال؛ لأنه أقر على نفسه بما يوجب التغليظ من غير تهمة. وإن قال: أنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. فصل: وأدوات الشرط المستعملة في الطلاق والعتاق ستة: إن، ومن، وإذا، ومتى، وأي، وكلما، وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا (كلما) فإذا قال: إن قمت، أو إذا قمت، أو متى قمت، أو أي وقت قمت، أو من قام منكن، فهي طالق، فقامت، طلقت. وإن تكرر القيام، لم يتكرر الطلاق؛ لأن اللفظ لا يقتضي التكرار، وإن قال: كلما قمت، فأنت طالق، فقامت - طلقت. وإن تكرر القيام، تكرر الطلاق؛ لأن اللفظ يقتضي التكرار. وقال أبو بكر: في (متى) ما يقتضي تكرارها؛ لأنها تستعمل للتكرار. قال الشاعر: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد والصحيح: أنها لا تقتضيه؛ لأنها اسم زمان، فأشبهت إذا، وكل هذه الأدوات على التراخي إذا خلت من حرف "لم"، فإن صحبتها "لم" كانت "إن" على التراخي. و (إذا) فيها وجهان: أحدهما: هي على الفور؛ لأنها اسم زمان، فأشبهت (متى) . والثاني: هي على التراخي؛ لأنها أخلصت للشرط، فهي بمعنى (إن) وإن احتملت الأمرين، لم يقع الطلاق بالشك. وسائر الأدوات على الفور؛ لأنها تقتضيه. فإذا قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، ولم ينو وقتا بعينه، ولا دلت عليه قرينة، لم يقع الطلاق إلا عند قربه منه، وذلك في آخر جزء من حياة أحدهما. وإن قال: متى لم أطلقك، أو أي وقت لم أطلقك، فأنت طالق، أو من لم أطلقها منكن، فهي طالق، فمضى زمن يمكن طلاقها ولم يطلقها، طلقت. وإن قال: إذا لم أطلقك، فأنت طالق فهل تطلق قي الحال، أو في آخر حياة أحدهما؟ على وجهين. وإن قال: كلما لم أطلقك، فأنت طالق، فمضى زمن يمكن طلاقها ثلاثا، ولم يطلقها، طلقت ثلاثا؛ لأن معناه: كلما سكت عن طلاقك، فأنت طالق، وقد سكت ثلاث سكتات في ثلاثة أوقات. فصل: وإن قال: إن دخلت الدار، أنت طالق، لم تطلق حتى تدخل، كما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار. ويحتمل أن يقع في الحال؛ لأن جواب الشرط إذا تأخر عنه، لم يكن إلا بالفاء أو بـ "إذا"، وإن قال: إن دخلت الدار وأنت طالق، طلقت في الحال؛ لأن الواو ليست جوابا للشرط. فإن قال: أردت بها الجزاء، أو أردت أن أجعلهما شرطين لشيء، ثم أمسكت، دين؛ لأنه محتمل لما قاله. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 روايتين. فإن قال: أنت طالق وإن دخلت الدار، طلقت؛ لأنه معناه: ولو دخلت، كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق» . وإن قال: أنت طالق لو دخلت الدار، طلقت؛ لأن "لو" تستعمل بعد الإثبات لغير المنع، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] . وإن قال: أردت الشرط، قُبِلَ؛ لأنه محتمل. وإن قال: أنت طالق أن دخلت بفتح الهمزة، طلقت عند أبي بكر؛ لأن (أن) للتعليل لا للشرط، كقوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17] . وقال القاضي: قياس قول أحمد أنه إن كان نحويا، وقع طلاقه لذلك، وإن كان عاميا، فهي للشرط؛ لأن العامي لا يريد بها إلا الشرط، فأجرى عليه حكمه. وحكي عن الخلال: أن النحوي إذا لم يكن له نية، فهو كالعامي. فصل: فإن قال: أنت طالق إن شربت، إذا أكلت أو متى أكلت، لم تطلق حتى تشرب بعد الأكل؛ لأن إدخال الشرط على الشرط يقتضي تقديم المؤخر. وإن قال: أنت طالق إن شربت، إن أكلت، فكذلك، لما ذكرناه. وإن قال: أنت طالق إن شربت فأكلت، أو إن شربت ثم أكلت، لم تطلق حتى تأكل بعد الشرب؛ لأنهما حرفا ترتيب. وإن قال أنت طالق إن شربت وأكلت، طلقت بوجودهما على أي صفة؛ لأن الواو للجمع، ولا تقتضي ترتيبا، ولا تطلق بوجود أحدهما؛ لأنها للجمع. وإن قال: أنت طالق إن أكلت، أو شربت، طلقت بوجود أحدهما؛ لأن (أو) تقتضي تعليق الجزاء على واحد من المذكورين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . فصل: إذا قال: إن حضت فأنت طالق، طلقت بأول جزء من الحيض. فإن رأت دما وتبين أنه ليس بحيض، تبين أن الطلاق لم يقع. فإن قالت: قد حضت فكذبها، قبل قولها بغير يمين. وعنه: لا يقبل قولها، ويختبرها النساء بإدخال قطنة في الفرج، فإن ظهر الدم، فهي حائض، وإلا فلا. والمذهب الأول لقول الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] . فلولا أن قولهن مقبول، ما حرم عليهن كتمانه؛ ولأنه لا يعرف إلا من جهتها. وإن قال: قد حضتِ فأنكرته، طلقت بإقراره. وإن قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 إن حضت فضرتك طالق. فقالت: قد حضت، فكذبها لم تطلق ضرتها؛ لأن قولها يقبل في حقها دون غيرها. وإن قال الزوج: قد حضتِ فكذبته، طلقت بإقراره. فإن قال: إن حضت فأنت وضرتك طالقتان، فقالت: قد حضت فصدقها، طلقتا. وإن كذبها، طلقت وحدها، ولم تطلق الضرة وإن صدقها. وإن قال: إذا حضتما، فأنتما طالقتان، فصدقهما طلقتا. وإن كذبهما، لم تطلق واحدة منهما؛ لأن طلاق كل واحدة منهما معلق على حيضهما، ولا يقبل قول واحدة منهما في حق ضرتها. وإن صدق إحداهما وحدها، لم تطلق؛ لأن قول المكذبة غير مقبول في حقها، وطلقت المكذبة؛ لأنها مقبولة القول في نفسها، وقد صدق الزوج صاحبتها، فوجد الشرطان في طلاقها فطلقت. وإن قال لأربع نسوة له: إن حضتن، فأنتن طوالق. فقد علق طلاق كل واحدة منهن بحيض الأربع، فإن قلن: قد حضنا فصدقهن، طلقن؛ لأنه قد وجد حيضهن بتصديقه، وإن كذبهن، أو كذب ثلاثاً أو اثنتين، لم تطلق واحدة منهن؛ لأن قول كل واحدة لا يقبل إلا في حق نفسها، فلم يوجد الشرط. وإن صدق ثلاثاً، طلقت المكذبة، لما ذكرنا في الاثنتين إذا صدق إحداهما. فإن قال: كلما حاضت إحداكن، فضرائرها طوالق، فقد جعل حيض كل واحدة شرطاً لطلاق البواقي. فإن قلن: قد حضنا فصدقهن، طلق ثلاثاً ثلاثاً؛ لأن لكل واحدة ثلاث ضرائر، فتطلق بحيض كل واحدة طلقة. وإن كذبهن، لم تطلق واحدة منهن. وإن صدق واحدة منهن، طلقت كل واحدة من ضرائرها طلقة؛ لأن حيضها ثبت بتصديقه، ولم تطلق المصدقة؛ لأنه ليس لها صاحبة ثبت حيضها. وإن صدق اثنتين. طلقت كل واحدة منهن طلقة؛ لأن لكل واحدة منهما ضرة مصدقة، وطلقت كل واحدة من المكذبتين طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهما ضرتين مصدقتين. فإن صدق ثلاثاً، طلقت المكذبة ثلاثاً، وطلقت كل واحدة من المصدقات طلقتين، لما ذكرنا. فصل: إذا قال لحائض: إذا حضت، فأنت طالق، لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض؛ لأن " إذا " اسم لزمن مستقبل، فتقتضي فعلاً مستقبلاً. وإن قال لها: إذا طهرت فأنت طالق، طلقت بانقطاع الدم. نص عليه؛ لأنه ثبت لها أحكام الطهر من وجوب الغسل، والصلاة، وصحة الصوم. وذكر أبو بكر قولاً آخر: أنها لا تطلق حتى تغتسل؛ لأن بعض أحكام الحيض باقية. وإن قال لطاهر: إذا طهرت فأنت طالق، لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر، لما ذكرنا. وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، لم تطلق حتى تحيض، ثم تطهر، نص عليه؛ لأنها لا تحيض حيضة كاملة إلا بذلك. وإن قال: إن حضت نصف حيضة، فأنت طالق، احتمل أن تطلق إذا مضى نصف عادتها؛ لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 الأحكام تعلقت بالعادة، واحتمل أنه متى مضت حيضتها، تبينا وقوع الطلاق في نصفها. وحكي عن القاضي: أنه يلغو قوله: نصف حيضة، ويتعلق الطلاق بأول الدم. وقيل عنه: تطلق بمضي سبعة أيام ونصف؛ لأنه نصف أكثر الحيض، يعني - والله أعلم - أنه ما دام حيضها باقياً لا يحكم بوقوع طلاقها حتى يمضي نصف أكثر الحيض؛ لأن ما قبل ذلك لا يتيقن به مضي نصف الحيضة، فلا يقع الطلاق بالشك، فإن طهرت بدون ذلك، تبينا وقوع الطلاق، ونصف الحيضة، قلت أو كثرت؛ لأننا تبينا مضي نصف الحيضة بمضيها كلها فإن قال لزوجتيه: إذا حضتما حيضة واحدة، فأنتما طالقتان، لغا قوله: حيضة واحدة، لاستحالة ذلك، وصار كقوله: إذا حضتما فأنتما طالقتان. فإن قال: أردت إذا حاضت كل واحدة منهما حيضة، قبل؛ لأنه محتمل لما قاله. فصل: إذا قال لمن لطلاقها سنة وبدعة - وهي المدخول بها من ذوات الأقراء: - أنت طالق للسنة وهي في طهر لم يصبها فيه، طلقت في الحال، لوجود الصفة. وإن كانت حائضاً أو في طهر أصابها فيه، لم تطلق في الحال، لعدم الصفة، فإذا طهرت الحائض أو حاضت المصابة، ثم طهرت، طلقت لوجود الصفة حينئذ، وإن قال لها: أنت طالق للبدعة وهي حائض، أو في طهر أصابها فيه، طلقت في الحال. وإن كانت في طهر لم يصبها فيه، لم تطلق لعدم الصفة، فإذا حاضت أو جامعها، طلقت. وإن قال لها: أنت طالق للسنة إن كنت الآن ممن يطلق للسنة، وكانت في زمن السنة، طلقت، لوجود الصفة، وإلا لم تطلق بحال؛ لأنه شرط لوقوعه كونها الآن ممن يطلق للسنة، ولم يوجد ذلك. وإن قال: أنت طالق طلقة للسنة، وطلقة للبدعة، طلقت في الحال واحدة. فإذا صارت إلى ضد حالها، طلقت الأخرى. وإن قال: طلقة للسنة والبدعة، لغا قوله: للسنة وللبدعة، لاستحالة اجتماعهما، وطلقت في الحال. وإن قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، فعلى قول الخرقي، تطلق ثلاثاً في طهر لم يصبها فيه؛ لأنه وقت السنة. وعلى قول أبي بكر، تطلق واحدة في طهر، لم يصيبها فيه، وتطلق الثانية والثالثة في طهرين في نكاحين إن وجدا؛ لأن السنة تطليقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها. وإن قال: أنت طالق ثلاثاً، بعضهن للسنة، وبعضهن للبدعة، طلقت طلقتين في الحال، والثالثة في الحال الأخرى؛ لأن قسط الحال الأولى طلقة ونصف، فكمل، فصار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 طلقتين. وإن قال: أردت في هذه الحال واحدة، والباقي في الأخرى، قبل قوله؛ لأن البعض يقع على الطلقة الواحدة حقيقة، فلم تخالف دعواه الظاهر، فقبلت. فصل: وإن كان له امرأة صغيرة لا تحيض، أو آيسة، أو حامل، تبين حملها، أو غير مدخول بها فلا سنة لطلاقها، ولا بدعة. فإذا قال: أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة، طلقت، لوجود الصفة، وإن قال: أنت طالق للسنة، أو للبدعة، أو للسنة والبدعة، طلقت في الحال؛ لأنه وصفها بصفة لا تتصف بها، فلغت الصفة، ووقع الطلاق. فإن قال: أردت إيقاعه بها إذا صارت من أهل سنة الطلاق وبدعته، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. فصل: إذا قال لمن لطلاقها سنة وبدعة: أنت طالق أحسن الطلاق، وأجمله، وأعدله، وما أشبه هذا من الصفات الجميلة، طلقت للسنة. وإن قال: أقبح الطلاق، وأسمجه، وما أشبهه من صفات الذم، طلقت للبدعة. فإن قال: أردت بالأول طلاق البدعة، وبالثاني طلاق السنة؛ لأنه الأليق بها، فإن كان أغلظ عليه، قبل قوله؛ لأنه مقر على نفسه، وإن كان أخف عليه، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. وإن قال: أنت طالق طلاق الحرج، فهو طلاق البدعة؛ لأنه يأثم به. وإن قال: أنت طالق طلقة حسنة قبيحة، طلقت في الحال على أي صفة كانت؛ لأنه وصف الطلقة بما لا تتصف به، فلغت الصفة، ووقع الطلاق. وإن قال لها: أنت طالق في كل قرء طلقة وهي ممن لطلاقها سنة وبدعة، طلقت في كل حيضة طلقة، إلا على قولنا: الأقراء: الأطهار، فإنه يقع في كل طهر طلقة، وإن كانت ممن لا سنة لطلاقها ولا بدعة، طلقت في الحال طلقة، ثم إن كانت ممن يتجدد لها أقراء، طلقت في كل قرء منها طلقة. ويحتمل أن لا تطلق في الحال شيئاً؛ لأن القرء والطهر بين الحيضتين، وليس ذلك لها. فصل: إذا قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، حرم وطؤها. نص عليه؛ لأنه يحتمل أن تكون حاملاً فيغلب التحريم. وحكى أبو الخطاب رواية أخرى: لا يحرم وطؤها؛ لأن الأصل عدم الحمل، ثم إن ولدت لأقل من ستة أشهر، تبينا وقوع الطلاق؛ لأنها كانت حاملاً. وإن ولدت لأكثر من أربع سنين، لم تطلق؛ لأننا علمنا أنها لم تكن حاملاً. وإن ولدت فيما بين ستة أشهر وأربع سنين ولم يكن لها من يطؤها، طلقت؛ لأنها كانت حاملاً. وإن كان لها زوج يطؤها، فولدت لأقل من ستة أشهر من حين وطء، طلقت؛ لأننا علمنا أنه ليس من الوطء. وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من وطئه، لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 تطلق؛ لأن الأصل عدم الحمل والطلاق. وإن قال لها: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، حرم وطؤها قبل استبرائها؛ لأن الأصل عدم الحمل. وكل موضع يقع الطلاق في التي قبلها لا يقع هاهنا، وكل موضع لا يقع ثم وقع هاهنا؛ لأنها ضدها، إلا إذا أتت بولد لأكثر من ستة أشهر وأقل من أربع سنين، فهل يقع الطلاق هنا؟ فيه وجهان: أحدهما: تطلق؛ لأن الأصل عدم الحمل قبل الوطء. والثاني: لا تطلق؛ لأن الأصل بقاء النكاح، ويحصل الاستبراء بحيضة. نص عليه. لأن براءة الرحم تحصل بحيضة. وذكر القاضي رواية أخرى: أنها تستبرئ بثلاثة قروء؛ لأنه استبراء حرة، فأشبهت عدتها، والأولى أصح؛ لأن المقصود معرفة براءتها من الحيض، وهو يحصل بحيضة، وأما عدة الحرة بثلاثة قروء، ففيها نوع من التعبد، ولذلك يجب مع علمنا ببراءة الرحم، مثل أن يكون زوجها غائب عنها سنين، وقد حاضت قبل طلاقه حيضات كثيرة، فلا يجوز تعديتها إلى محل لم يرد الشرع بالتعبد فيه، ولهذا كفى استبراؤها قبل يمينه. وإن استبرأها قبل عقد اليمين، أجزأ؛ لأن معرفة براءة الرحم تحصل به، وهو المقصود. ولو قال: إن كنت حاملاً بذكر، فأنت طالق واحدة، وإن كنت حاملاً بأنثى، فأنت طالق اثنتين، فولدت ذكراً وأنثى، طلقت ثلاثاً. وإن قال إن كان حملك، أو ما في بطنك ذكراً، فأنت طالق واحدة، وإن كان أنثى، فأنت طالق اثنتين، فولدت ذكراً وأنثى، لم تطلق؛ لأن الشرط أن يكون جميع حملها، أو ما في بطنها ذكراً أو أنثى، ولم يوجد. فصل: إذا قال: إذا ولدت ولداً فأنت طالق، فولدت ولداً حياً أو ميتاً، ذكراً أو أنثى، أو خنثى، طلقت؛ لأنه ولد. وإن قال: كلما ولدت ولداً، فأنت طالق، فولدت ثلاثة دفعة واحدة، طلقت ثلاثاً؛ لأن صفة الثلاث قد وجدت وهي زوجة، وإن ولدتهم واحداً بعد واحد، من حمل واحد، طلقت بالأول طلقة، وبالثاني أخرى، وبانت بالثالث، ولم تطلق به، ذكره أبو بكر؛ لأن العدة انقضت بوضعه، فصادفها الطلاق بائناً، فلم يقع، كما لو قال: إذا مت، فأنت طالق. وقال ابن حامد: تطلق به الثالثة؛ لأن زمن الوقوع زمن البينونة، ولا تنافي بينهما، والأول أصح، وعليه التفريع. فلو قال: إن ولدت ذكراً، فأنت طالق واحدة. وإن ولدت أنثى، فأنت طالق اثنتين، فولدتهما دفعة واحدة، طلقت ثلاثاً. فإن ولدتهما واحداً بعد واحد، وقع بالأول ما علق عليه، وبانت بالثاني ولم تطلق به. فإن أشكل الأول منهما، طلقت واحدة بيقين، ولم تلزمه الثانية بالشك. وقال القاضي: قياس المذهب أن يقرع بينهما، فمن خرجت قرعته فهو الأول. ولو قال: إن كان أول ما تلدين ذكراً، فأنت طالق واحدة، وإن كانت أنثى، فأنت طالق اثنتين، فولدتهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 دفعة واحدة، لم تطلق؛ لأنه لا أول فيهما. ومتى ادعت الولادة فصدقها، أو ادعى هو ولادتها وأنكرته، طلقت بإقراره. فإن ادعته المرأة فأنكرها، لم تطلق إلا ببينة؛ لأن هذا يمكن إقامة البينة عليه بخلاف الحيض. فصل: إذا قال لمدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم طلقها، طلقت طلقتين، واحدة بالمباشرة وأخرى بالصفة. فإن قال: أردت أنك تطلقين بما أوقعه من طلاقك لأجعله شرطاً، دين. وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين؛ لأن الظاهر جعله شرطاً. وإن وكل من طلقها، فهو كمباشرته؛ لأن فعل الوكيل كفعل الموكل. وإن قال: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم قال: إن قمت، فأنت طالق، فقامت، طلقت طلقتين، واحدة بقيامها، وأخرى بالصفة؛ لأن الصفة تطليقة لها، وتعليقه لطلاقها بقيامها إذا اتصل به القيام، تطليق لها. وإن قال مبتدئاً: إن قمت فأنت طالق، ثم قال: إذا طلقتك فأنت طالق، فقامت، طلقت واحدة بقيامها، ولم تطلق الأخرى؛ لأن هذا يقتضي ابتداء إيقاع، ووقوع الطلاق هاهنا بالقيام، إنما هو وقوع بصفة سابقة لعقد الطلاق شرطاً. ولو قال: إذا قمت، فأنت طالق، ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق، فقامت، طلقت طلقتين،؛ لأن الطلاق الواقع بقيامها طلاقه، فقد وجدت الصفة. ولو قال: إذا أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق، ثم قال: إذا قمت فأنت طالق، فقامت، طلقت اثنتين؛ لأن قوله: أوقعت عليك الطلاق، كقوله: طلقتك. وقال القاضي: لا تطلق إلا طلقة بقيامها، ولا تطلق بالصفة؛ لأن ذلك يقتضي مباشرتها به، لا وقوعه بالصفة. وإن قال: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق، طلقت طلقتين، إحداهما بقوله: أنت طالق، والأخرى بالصفة، ولا تقع الثالثة؛ لأن الصفة إيقاع الطلاق، ولم يتكرر، فلم يتكرر الطلاق. وإن قال: كلما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم وقع عليها طلاقه بمباشرة، أو صفة، طلقت ثلاثاً؛ لأن الثانية طلقة واقعة عليها، فتقع عليها الثالثة. وإن قال: كلما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثم قال: أنت طالق، فقال ابن عقيل: تطلق واحدة بالمباشرة، ويلغو ما علق عليها؛ لأنه طلاق في زمن ماض، فأشبه قوله: أنت طالق أمس. وقال القاضي: تطلق ثلاثاً؛ لأنه وصف المعلق بصفة يستحيل وصفه بها، فإنه يستحيل وقوعها بالشرط قبله، فلغت صفتها بالقبلية، وصار كأنه قال: إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق ثلاثاً، فإن قال لزوجتيه: كلما طلقت حفصة، فعمرة طالق، وكلما طلقت عمرة فحفصة طالق، ثم طلق إحداهما، طلقتا جميعاً، إحداهما بالمباشرة، والأخرى بالصفة. فإن كانت المباشرة به حفصة، لم تزد واحدة منهما على طلقة؛ لأنه ما أحدث في عمرة طلاقاً، إنما طلقت بالصفة السابقة، وإن كانت المباشرة عمرة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 طلقت أخرى بالصفة الحادثة بعد تعليقه طلاقها، وإن قال لحفصة: كلما طلقت عمرة، فأنت طالق، وقال لعمرة: كلما طلقت حفصة، فأنت طالق، ثم طلق عمرة، طلقت كل واحدة واحدة. وإن طلق حفصة طلقة، طلقت طلقتين، وطلقت عمرة واحدة. وإن قال لأربع نسائه: أيتكن وقع عليها طلاقي، فضرائرها طوالق، ثم وقع بإحداهن طلاقه، طلق الجميع ثلاثاً. فصل: وإن كان له أربع نساء وعبيد، فقال: كلما طلقت امرأة، فعبد من عبيدي حر، وكلما طلقت اثنتين، فعبدان حران، وكلما طلقت ثلاثاً، فثلاثة أحرار، وكلما طلقت أربعاً، فأربعة أحرار، ثم طلق الأربع متفرقات أو متجمعات، فإنه يعتق من عبيده خمسة عشر، يعتق بطلاق الواحد واحد، وبطلاق الثانية ثلاثة؛ لأنها واحدة، وهي إلى صاحبتها اثنتان، ويعتق بطلاق الثالثة أربعة؛ لأنها واحدة، وهي مع صاحبتيها ثلاث، ويعتق بطلاق الرابعة سبعة؛ لأنها واحدة وهي مع الثالثة اثنتان، وهي مع صواحبها أربع. وإن شئت، قلت: فيهن أربع صفات، هن أربع، فيعتق لذلك أربعة وهن أربعة، آحاد، فيعتق بذلك أربعة أخر، وهن اثنتان واثنتان، فيعتق بذلك أربعة أخر، وفيهن ثلاث، فذلك خمسة عشر، وقيل: يعتق عشرة، بالواحدة واحد، وبالثانية اثنان، وبالثالثة ثلاثة، وبالرابعة أربعة، والأول أصح؛ لأن الصفة إذا تكررت تكرر الجزاء، وإن كان في محل واحد، ولذلك لو قال: إن كلمت رجلاً، فأنت طالق، وإن كلمت أسود، فأنت طالق، وإن كلمت طويلاً فأنت طالق، فكلمت رجلاً أسوداً طويلاً، طلقت ثلاثاً. ولو قال: كلما أكلت رمانة فأنت طالق، وكلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة، طلقت ثلاثاً واحدة لكونها رمانة، واثنتان بأكلها النصفين. ولو قال: إذا ولدت ولداً، فأنت طالق، وإذا ولدت غلاماً، فأنت طالق. وإذا ولدت أسود، فأنت طالق، فولدت غلاماً أسود، طلقت ثلاثاً. فصل: إذا قال لزوجته: إذا حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال: إن خرجت، فأنت طالق، وإن لم تخرجي، فأنت طالق، أو إن لم يكن هذا القول حقاً، فأنت طالق، طلقت في الحال؛ لأنه حلف بطلاقها. وإن قال: إن طلعت الشمس، أو قدم الحاج، فأنت طالق، ففيه وجهان: أحدهما: لا تطلق حتى تطلع الشمس ويجيء الحاج؛ لأن الحلف ما قصد به المنع من الشيء، أو الحنث عليه، أو التصديق، وليس في طلوع الشمس، وقدوم الحاج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 شيء من هذا، هذا قول القاضي في " المجرد " وابن عقيل. والثاني: أنه حلف؛ لأنه تعليق على شرط فكان حلفاً، كما لو قال: إن خرجت فأنت طالق. هذا قول القاضي في " الجامع " وأبي الخطاب. وإن قال: إذا شئت فأنت طالق، أو إذا حضت، أو إذا طهرت، فأنت طالق، لم يكن حلفاً، وجهاً واحداً؛ لأن تعليقه على المشيئة تمليك، وتعليقه على الحيض طلاق بدعة، وتعليقه على الطهر طلاق سنة. فإن قال: إذا حلفت بطلاقك، فأنت طالق. ثم أعاده ثانية، طلقت واحدة؛ لأنه حلف بطلاقها. فإن أعاده ثالثاً، طلقت ثانية. فإن أعاده رابعاً، طلقت ثلاثاً؛ لأن كل مرة يوجد به صفة طلاق، وتنعقد بها صفة أخرى. ومثله لو قال: إن كلمتك، فأنت طالق، وكرره أربعاً، طلقت ثلاثاً كذلك. ولو قال لمدخول بهما: إذا حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان، وكرره أربعاً، طلقتا ثلاثاً، فإن كانتا غير مدخول بهما، بانتا إذا أعاده مرة ثانية، ولم يقع بهما بعده طلاق، فإن كانت إحداهما مدخولاً بها، والأخرى غير مدخول بها، فأعاده مرة، طلقت المدخول بها طلقة رجعية، والأخرى طلقة ثانية. فإن أعاده ثانياً، لم تطلق واحدة منهما؛ لأن شرط طلاقهما الحلف بطلاقهما ولم يحلف به؛ لأن غير المدخول بها لا يصح الحلف بطلاقها. وإن قال لمدخول بهما، لإحداهما: إن حلفت بطلاق ضرتك، فأنت طالق، ثم قال للأخرى: مثل ذلك، طلقت الأولى، وإن أعاده للأولى، طلقت الأخرى، وكلما أعاده لامرأة طلقت الأخرى. وإن قال: كلما حلفت بطلاقك، فضرتك طالق، ثم قال مثل ذلك لضرتها، طلقت، فإن أعاده للأولى طلقت الضرة، فإن أعاده للثانية، طلقت الأولى، وكلما أعاده لامرأة، طلقت ضرتها حتى تكمل ثلاثاً. وإن كانت إحداهما غير مدخول بها، فطلقت مرة، لم تطلق أخرى، ولم تطلق الأخرى بإعادته لها؛ لأنه ليس بحلف بطلاقها، لكونها بائناً. فصل: وإن استعمل الطلاق أو العتاق استعمال القسم، وأجابه بجوابه فقال: أنت طالق، لأقومن، أو ما قمت، أو لقد قمت، أو إني لقائم، وبر، لم يقع الطلاق؛ لأنه حلف بر فيه، فلم يحنث، كما لو حلف بالله، وإن حنث، وقع طلاقه. وإن قال: أنت طالق، لولا أبوك لطلقتك، وكان صادقاً، لم تطلق. وإن كان كاذباً. طلقت. فصل: إذا قال: إن كلمتك، فأنت طالق، فاعلمي ذلك، أو فتحققيه، طلقت؛ لأنه كلمها بعد عقد اليمين، إلا أن يريد بعد انقضاء كلامي هذا ونحوه، وإن زجرها فقال: تنحي أو اسكتي، حنث؛ لأنه كلام. وإن سمعها تذكره فقال: الكاذب لعنه الله، حنث؛ لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 كلمها. وإن قال: إن بدأتك بالكلام، فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك الكلام، فعبدي حر، انحلت يمينه بيمينها؛ لأنها كلمته، فلم يكن كلامه لها بعد ذلك بداية، فإن كلمها، انحلت يمينها؛ لأنها لم تبدأه ما لم يكن لهما نية، وإن قال: إن كلمتما هذين الرجلين، فأنتما طالقتان، فكلمت كل واحدة واحداً، ففيه وجهان: أحدهما: يطلقان؛ لأن تكليمهما وجد منهما. والثاني: لا يطلقان حتى تكلم كل واحدة الرجلين معاً؛ لأنه علق طلاقهما على فعليهما معاً. ولو قال: إن ركبتما هاتين الدابتين، فأنتما طالقتان، طلقتا إذا ركبت كل واحدة دابة؛ لأن العرف في ركوب دابتيهما، أن يركب كل واحد دابته. ولو قال: أنت طالق إن كلمت زيداً ومحمد مع خالد، لم تطلق حتى تكلم زيداً في حال يكون محمد مع خالد؛ لأن الجملة حال للجملة الأولى إلا أن يريد بكلامه الاستئناف، فتطلق بكلام زيد بكل حال، وقال القاضي: يحنث بكلام زيد؛ لأن الجملة الثانية استئناف، لا تعلق لها بالأولى. وإن قال: من بشرتني بقدوم أخي، فهي طالق، فأخبره بذلك زوجتاه. وهما صادقتان، طلقت الأولى وحدها؛ لأن البشارة خبر يحصل به سرور أو غم، وإنما تحصل بالأول، وإن كانتا كاذبتين لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه لا سرور في الكذب. وإن كانت الأولى كاذبة، والثانية صادقة، طلقت الثانية وحدها لذلك. وإن قال: من أخبرتني بقدوم أخي فهي طالق، فقال القاضي: هي كالتي قبلها سواء؛ لأن المراد من الخبر الإعلام، ولا يحصل إلا بالخبر الأول الصدق. ويحتمل أن تطلق الثانية والكاذبة؛ لأن الخبر يقع على الجميع. فصل: إذا قال: أنت طالق إن شئت، أو متى شئت، أو غير ذلك من الحروف، فقالت: قد شئت طلقت، سواء شاءت على الفور، أو التراخي؛ لأنه تعليق للطلاق على شرط، فأشبه سائر التعليق. وإن قالت: قد شئت إن شئت، أو إن شاء أبي، لم تطلق وإن شاء؛ لأنها لم تشأ، إنما علقت مشيئتها بمشيئته، كما لو قالت: قد شئت إذا طلعت الشمس. ولو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فشاء وهو مجنون أو طفل، لم تطلق؛ لأنه لا مشيئة لهما، وكذلك إن شاء وهو سكران، وخرجه أصحابنا على روايتين في طلاقه، وإن شاء وهو مميز، طلقت؛ لأن له مشيئة، ولذلك صح اختياره لأحد أبويه، وخوطب بالاستئذان في العورات الثلاث. وإن كان أخرس فأومأ بمشيئته، طلقت؛ لأن إشارته كنطق غيره. وإن كان ناطقاً فخرس فكذلك؛ لأنه من أهل الإشارة، ويحتمل أن لا يحنث؛ لأن إشارته لا يعتد بها في تلك الحال في الشرع. وإن مات أو جن، لم تطلق؛ لأنه لم يشأ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وحكي عن أبي بكر: أنها تطلق. وإن قال: أنت طالق إن شاءت البهيمة، فهو تعليق للطلاق على المستحيل. وإن قال: أنت طالق لمشيئة أبيك، أو رضاه، طلقت في الحال؛ لأن معناه: ليرضى، أو لكونه شاء، فإن قال: أردت تعليقه بذلك، قبل منه؛ لأن ذلك يستعمل للشرط في قوله: أنت طالق للسنة. فإن قال: أنت طالق إلا أن تشائي، فشاءت في الحال، لم تطلق، وإن لم تشأ، طلقت؛ لأنه أوقعه عليها، إلا أن ترفعه مشيئتها، فإذا لم يوجد ما يرفعه، وقع. وإن قال: أنت طالق واحدة، إلا أن تشائي ثلاثاً، فشاءت ثلاثاً، طلقت ثلاثاً، وإن لم تشأ، أو شاءت دون الثلاث، وقعت واحدة؛ لأن هذا هو السابق إلى الفهم من ذلك. وفيه وجه آخر أنها إذا شاءت ثلاثاً، لم تطلق؛ لأنه علق وقوع الواحدة على عدم مشيئتها الثلاث، ولم يوقع لمشيئتها شيئاً، فأشبه قوله: إلا أن تشائي. وإن قال: أنت طالق إن شئت وشاء أبوك، فشاء أحدهما منفرداً، لم تطلق؛ لأنه لم يوجد الشرط. فصل: وإن قال: أنت طالق، إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار، أو قال: إن كنت تحبين ذلك [بقلبك] ، فقالت: أنا أحب ذلك، ففيه وجهان: أحدهما: لا تطلق؛ لأنها لا تحب ذلك، وقولها كذب، لا يلتفت إليه. والثاني: تطلق لأنه لما لم يوقف على ما في القلب، علق على النطق، كالمشيئة. فصل: فإن قال: أنت طالق، أو عبدي حر إن شاء الله، طلقت زوجته، وعتق عبده، لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا قال الرجل لزوجته: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق. ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق حالاً ومآلاً، فلم يصح، كاستثناء الكل. فإن قال: أنت طالق، إن دخلت الدار إن شاء الله، ففيه روايتان: إحداهما: يقع الطلاق لما ذكرنا، والأخرى: لا يقع؛ لأن الطلاق المعلق بشرط يمين، فيدخل في عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وإن قال: أنت طالق، إلا أن يشاء الله، طلقت لما ذكرنا، ولأنه علق رفع الطلاق على مشيئته لا يوقف عليها، وإن قال: أنت طالق ما لم يشأ الله، أو إن لم يشأ الله، طلقت؛ لأنه علقه بمستحيل، فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وقوع طلاقها إذا لم يشأ الله محال، ويحتمل أن لا يحنث. وإن قال: أنت طالق لتدخلن الدار إن شاء الله، لم يحنث دخلت الدار أو لم تدخل؛ لأنها إن دخلت، فقد شاء الله، وإن لم تدخل، فلم يشأ الله تعالى. فصل: لا يصح تعليق الطلاق قبل النكاح، فلو قال لأجنبية: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فتزوجها ودخلت الدار، لم تطلق، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها» رواه الدارقطني. وفي لفظ «لا طلاق فيما لا يملك» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وروى أبو داود والطيالسي نحوه. وإن قال: كل امرأة أتزوجها، فهي طالق، وإن تزوجت فلانة فهي طالق، ثم تزوجها، لم يقع كذلك. قال أبو بكر: لا يختلف قول أبي عبد الله: إن الطلاق إذا وقع قبل النكاح، لا يقع. وقال غيره عن أحمد: ما يدل على أن الطلاق يقع؛ لأنه يصح تعليقه على الإخطار، فصح تعليقه على الملك، كالوصية. والمذهب الأول، لما ذكرنا، ولأن من لا يقع طلاقه بالمباشرة، لا يصح تعليقه، كالمجنون. فصل: إذا علق الطلاق بعد النكاح بوقت، طلقت بأوله؛ لأنه إذا علق بشيء، تعلق بأوله، كما لو قال: أنت طالق، إذا دخلت الدار، طلقت بدخولها أول جزء منها. فلو قال: أنت طالق في رمضان، طلقت بغروب شمس شعبان. وإن قال: أنت طالق اليوم، طلقت في الحال. وإن قال: أنت طالق غداً، طلقت بطلوع فجره. فإن قال: أردت في آخر الشهر واليوم والغد، دين وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. وإن قال: أنت طالق في أول رمضان، أو في غرته، طلقت في أوله، ولم يقبل قوله: نويت آخره؛ لأنه لا يحتمله. وإن قال: أردت بالغرة اليوم الثاني، قبل لأنه محتمل؛ لأن الثلاث الأول من الشهر، تسمى غرراً. وإن قال: أنت طالق إذا رأيت هلال رمضان، طلقت بأول جزء منه؛ لأن رؤيته في الشرع عبارة عما يعلم به دخوله، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» . فإن قال: أردت إذا رأيته بعينيك، قبل؛ لأنه فسر اللفظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 بموضوعه، ويتعلق الحكم برؤيتها إياه بعد الغروب؛ لأن هلال الشهر ما كان في أوله، ويحتمل أن يتعلق برؤيتها إياه قبل الغروب، وبعده؛ لأنه هلال للشهر يتعلق به وجوب الصوم والفطر. وإن لم تره حتى أقمر، لم تطلق؛ لأنه ليس بهلال. واختلف فيما يقمر به، فقيل بعد ثالثة، وقيل باستدارته، وقبل إذا بهر ضوءه. وإن قال: أنت طالق إلى شهر رمضان، طلقت في أول جزء منه، كقوله: في شهر رمضان؛ لأنه جعل الشهر غاية للطلاق، ولا غاية لآخره، فوجب أن يجعل غاية لأوله. فإن قال: أردت الإيقاع في الحال، طلقت؛ لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ. وإن قال: أنت طالق في آخر أول الشهر، طلقت في آخر أول يوم منه؛ لأنه أوله. وإن قال: في أول آخره، طلقت بطلوع فجر آخر يوم منه؛ لأنه آخره وقال أبو بكر: تطلق في المسألتين. بغروب شمس اليوم الخامس عشر منه؛ لأنه آخر نصف الشهر الأول وأول نصفه الآخر. فصل: إذا قال: إذا مضت سنة، فأنت طالق، اعتبر مضي سنة بالأهلة؛ لأنها السنة المعهودة في الشرع. فإن قاله في أثناء شهر، كمل ذلك الشهر بالعدد، ثلاثين يوماً، وأحد عشر شهراً بالأهلة. وإن قال: أردت سنة بالعدد، وهي ثلاثمائة وستون يوماً، أو شمسية وهي ثلاثمائة وخمس وستون يوماً، قبل؛ لأنه سنة حقيقية. وإن قال: إذا مضت السنة، فأنت طالق، طلقت بانسلاخ ذي الحجة؛ لأن التعريف " بالألف واللام " يقتضي ذلك. فإن قال: أردت سنة كاملة، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. وإن قال: أنت طالق في كل سنة طلقة، طلقت في الحال. ثم إذا مضت سنة كاملة، طلقت أخرى، وكذلك الثالثة. وقال أبو الخطاب: تطلق الثانية بدخول المحرم، وكذلك الثالثة. فإن قال: أردت أن تكون ابتداء السنين من أول الجديدة، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. فصل: وإن قال: أنت طالق، إذا قدم فلان غداً، أو غداً إذا قدم فلان، لم تطلق حتى يقدم؛ لأن الطلاق لا يقع قبل شرطه. فإن مات قبل قدومه، لم تطلق؛ لأنها لم تبق محلاً للطلاق. وإن قدم بعد الغد، لم تطلق، لفوات محل الطلاق، وإن قال: أنت طالق يوم يقدم فلان، فقدم ليلاً، لم تطلق؛ لأن الشرط لم يوجد، إلا أن يريد باليوم الوقت، فتطلق. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] . وإن قدم نهاراً، طلقت، وهل تطلق في أول اليوم، أو حين قدومه؟ فيه وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 أحدهما: تطلق من أوله، كما لو قال: أنت طالق يوم الجمعة. والثاني: لا تطلق إلا بعد قدومه؛ لأنه جعل قدومه فيه شرطاً، فلا تطلق قبله. فإن مات قبل قدومه، طلقت على الوجه الأول، ولم تطلق على الثاني. فصل: وإن قال: أنت طالق اليوم، إن لم أطلقك اليوم، ولم يطلقها، طلقت في آخر اليوم إذا بقي منه ما لا يتسع، لقوله: أنت طالق؛ لأن معناه إذا فاتني طلاقك اليوم، فأنت طالق، وبهذا يفوت طلاقها. وقال أبو بكر: لا تطلق؛ لأن شرط طلاقها خروج اليوم، وبخروجه يفوت محل طلاقها. وإن قال: أنت طالق اليوم إذا جاء غد، فقال القاضي في موضع: يقع الطلاق في الحال؛ لأنه علقه بشرط محال، فلغا شرطه، ووقع الطلاق، كما لو قال لآيسة: أنت طالق للبدعة. وقال في " المجرد ": لا تطلق؛ لأنه لا يقع في اليوم، لعدم الشرط وإذا جاء الغد، لم يمكن الطلاق في اليوم؛ لأنه زمن ماض. فصل: وإن قال: أنت طالق اليوم، غداً، طلقت واحدة؛ لأن من طلقت اليوم، فهي طالق غداً. وإن قال: أردت طلقة اليوم، وطلقة غداً، طلقت اثنتين؛ لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ. وإن قال: أردت نصف طلقة اليوم، ونصف غداً، فكذلك؛ لأن كل نصف يكمل بالسراية، فيصيران طلقتين. وإن قال: أردت نصف طلقة اليوم، وباقيها غداً، فكذلك في إحدى الوجهين؛ لأن باقيها نصف يكمل بالسراية. والثاني: لا تطلق إلا واحدة؛ لأنه لما كمل النصف الأول، لم يبق من الطلقة شيء، فلا باقي لها. فإن قال: أنت طالق في اليوم والغد، طلقت واحدة لما ذكرنا. وإن قال: أنت طالق في اليوم وفي الغد، فكذلك في أحد الوجهين. وفي الآخر: تطلق طلقتين؛ لأن إعادة حرف الصلة يقتضي فعلاً، فكأنه قال: أنت طالق في اليوم، وأنت طالق في غد. فصل: إذا قال: أنت طالق بعد موتي، لم تطلق؛ لأنها بعد موته بائن، فليست محلاً للطلاق. وإن قال: أنت طالق مع موتي لم تطلق؛ لأن زمن البينونة زمن الطلاق، فلم يمكن إيقاعه. وإن تزوج أمة أبيه، ثم قال: إذا مات أبي فأنت طالق، فمات أبوه، لم تطلق؛ لأنه يملكها بموت أبيه، فينفسخ نكاحه، فيجتمع الفسخ والطلاق، فيمتنع وقوعه، كالتي قبلها. وفيه وجه آخر، أنها تطلق؛ لأن زمن الطلاق عقيب الموت، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 زمن الملك، والفسخ بعد الملك، فيتقدم الطلاق الفسخ فيقع. وإن قال: إن اشتريتك، فأنت طالق، واشتراها، فعلى وجهين، كالتي قبلها. وإن قال الأب لجاريته: إذا مت فأنت حرة، وقال الزوج: إذا مات أبي فأنت طالق، فمات الأب، وقعت الحرية والطلاق معاً؛ لأن الحرية تمنع ثبوت الملك له، فلا ينفسخ نكاحه، فيقع طلاقه. فصل: إذا قال: أنت طالق أمس، أو قبل أن أتزوجك، لم يقع الطلاق. نص عليه؛ لأنه إضافة إلى زمن يستحيل وقوعه فيه، فلم يقع، كما لو قال: أنت طالق قبل موتي بشهر، ومات قبل مضي شهر، وقال القاضي في بعض كتبه: تطلق؛ لأنه وصف الطلقة بما لا تتصف به، فلغت الصفة، ووقع الطلاق، كما لو قال لآيسة: أنت طالق للبدعة. وحكي عن أبي بكر أن الطلاق يقع في قوله: أنت طالق قبل أن أتزوجك خاصة؛ لأنه يمكن أن يتزوجها بائناً. وهذا الوقت قبله فيقع فيه، بخلاف التي قبلها. وإن قال: أردت طلاقها في الحال، وقع؛ لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ. وإن قال: أردت أني طلقتها أمس، طلقت بإقراره. وإن قال: أردت أني طلقتها في نكاح آخر، أو طلقها زوج قبلي، فقد ذكرنا حكمه فيما مضى. وإن قال: أنت طالق قبل قدوم أخي بشهر، أو قبل موتي بشهر، فقدم أخوه، أو مات مع مجيء الشهر أو قبله، لم تطلق؛ لأنه زمن ماض. وإن قدم أو مات بعد مضي شهر وجزء يقع الطلاق فيه، تبينا أنه وقع في ذلك الجزء قبل الشهر. فإن خلعها بعد تعليق طلاقها بيوم، ثم مات، أو قدم بعد التعليق بشهر وساعة، وقع الطلاق دون الخلع؛ لأنها بانت بالطلاق، فكان الخلع لبائن. وإن مات أو قدم بعد الخلع بشهر وساعة، صح الخلع؛ لأنه صادف زوجة ولم يقع الطلاق؛ لأنها بانت بالخلع قبله. وإن قال: أنت طالق قبل موتي، طلقت في الحال؛ لأنه قبل موته، وكذلك إن قال: أنت طالق قبل قدوم زيد، سواء قدم أو لم يقدم. ذكره القاضي. وإن قال: أنت طالق قبيل موتي، أو قبيل قدوم زيد، لم يقع الطلاق إلا في الجزء الذي يلي الموت؛ لأن ذلك تصغير يقتضي الجزء اليسير. فصل: وإن علقه على مستحيل، كقوله: أنت طالق إن طرت، ففيه وجهان: أحدهما: لا تطلق؛ لأنه علقه على صفة لم توجد. والثاني: تطلق؛ لأنه علق طلاقها على ما يرتفع به جملة، فلغا الشرط، ووقع الطلاق، كقوله: أنت طالق طلقة لا تلزمك. ولو قال: أنت طالق إن لم تطيري، أو تقتلي الميت، طلقت في الحال؛ لأنه معلوم عدمه. وإن قال: أنت طالق لتطيرن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 فكذلك. وحكي عن القاضي أنه لا يحنث. فصل: إذا كتب إليها: إذا أتاك كتابي، فأنت طالق، فأتاها الكتاب، طلقت إذا أتاها، وإن ذهبت حواشيه، أو انمحى ما فيه، إلا ذكر الطلاق، طلقت؛ لأنه أتاها كتابه مشتملاً على المقصود. وإن انمحى كل ما فيه، أو انمحى ذكر الطلاق، أو ضاع الكتاب، لم تطلق؛ لأن المقصود لم يأت. وإن ذهب الكتاب إلا موضع الطلاق، ففيه وجهان: أحدهما: تطلق؛ لأن المقصود أتاها. والثاني: لا تطلق؛ لأن الكتاب لم يأت. وإن قال إذا أتاك طلاقي، فأنت طالق، ثم كتب: إذا أتاك كتابي، فأنت طالق، فأتاها الكتاب، طلقت طلقتين، واحدة بمجيء الكتاب، والأخرى بمجيء الطلاق. فصل: إذا قال إن لم تخبريني بعدد حب هذه الرمانة، فأنت طالق، فإنها تعد له عدداً يعلم أن عددها داخل فيه، ولا يحنث إذا نوى ذلك. فإن لم ينو، حنث في قياس المذهب؛ لأن الأيمان تنبني على المقاصد، وظاهر قصد الحالف العلم بكميته، ولا يحصل بهذا. فإن قال: إن لم تميزي نوى ما أكلت من نوى ما أكلت، فأنت طالق، فأفردت كل نواة وحدها، فالحكم فيها كالتي قبلها. ولو وقعت في ماء جار، فقال: إن أقمت فيه، أو خرجت منه فأنت طالق، فقال القاضي في " الجامع ": هي كذلك؛ لأن الظاهر قصده خروجها من النهر. وقال في " المجرد " لا يحنث بحال؛ لأن الماء الذي كانت فيه جرى وصارت في غيره. ولو قال: إن كانت امرأتي في السوق، فعبدي حر، وإن كان عبدي في السوق، فامرأتي طالق، وكانا في السوق، عتق العبد، ولم تطلق المرأة؛ لأن العبد عتق باللفظ الأول، فلما عتق، لم يبق له في السوق عبد. ولو كان في فيها تمرة فقال: إن أكلتيها، أو أمسكتيها، أو ألقيتيها، فأنت طالق، فأكلت بعضها، ورمت بعضها، انبنى على فعل بعض المحلوف عليه. ولو كانت على سلم، فحلف عليها ألا تنزل عنه، ولا تصعد عنه، ولا تقف عليه، فإنها تنتقل إلى سلم آخر، ثم تنزل أو تصعد؛ لأن نزولها أو صعودها إنما حصل من غيره. ولو سرقت زوجته منه شيئاً، فحلف: لتصدقني أسرقت مني شيئاً، أم لا؟ وكانت قد سرقت منه، وخشيت أن تخبره، فإنها تقول: سرقت منك ما سرقت منك. وتكون " ما " هاهنا، بمعنى الذي. فصل: ومتى علق طلاق زوجته على صفة، ثم أبانها، ثم تزوجها قبل الصفة، عادت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 الصفة؛ لأن العقد والصفة وجدا منه في الملك، فأشبه ما لو لم يتخللهما بينونة. وإن وجدت الصفة حال البينونة، لم ينحل اليمين؛ لأنه لم يحنث في يمينه، فلم تنحل، كما لو لم توجد الصفة، ولأن الملك مقدر في يمينه لتقييد الطلاق به، ويتخرج أن تنحل الصفة، بناء على قوله في العتق، وهو اختيار أبي الحسن التميمي؛ لأن الصفة وجدت فانحلت اليمين بها، كما لو وجدت حال الملك. ولأن اليمين إذا تعلقت بعين، لم تتقيد بالملك، كما لو حلف: لا يدخل هذه الدار وهي ملكه، والله أعلم. [ باب الشك في الطلاق ] . إذا شك هل طلق، أم لا؟ لم تطلق؛ لأن النكاح متيقن، فلا يزول بالشك. وإن طلق فلم يدر، أواحدة طلق أم ثلاثا؟ بنى على اليقين كذلك، نص عليه أحمد. فإذا ارتجعها، فعليه نفقتها. واختلف أصحابنا في حلها، فقال الخرقي: هي محرمة؛ لأنه متيقن للتحريم الحاصل بالطلاق، شاك في حصول الحل بالرجعة، فلا يزول التحريم المتيقن بالشك. وقال غيره: تحل؛ لأن الرجعة مزيلة لحكم المتيقن من الطلاق، ومنهم من منع حصول التحريم بالطلاق، لكون الرجعية مباحة، فلم يكن التحريم متيقناً. والورع أن يلتزم حكم الطلاق الأكثر، فيدعها حتى تقضي عدتها لتحل لغيره، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . فصل: وإذا قال لنسائه: إحداكن طالق، ولم ينو واحدة بعينها، أقرع بينهن، فأخرجت بالقرعة المطلقة منهن، نص عليه؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولأن الطلاق إزالة ملك بني على التغليب والسراية، فتدخله القرعة، كالعتق. وإن نوى واحدة بعينها، طلقت وحدها؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فانصرف إليه، وقوله في ذلك مقبول؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته، فقبل منه، كقول المرأة في حيضها. وإن قال: هذه المطلقة، بل هذه، طلقتا؛ لأن إقراره بطلاق الثانية مقبول، ورجوعه عن طلاق الأولى غير مقبول. وإن قال: طلقت هذه، بل هذه أو هذه، طلقت الأولى وإحدى الأخريين. وإن قال: هذه، أو هذه، بل هذه طلقت الثالثة وإحدى الأوليين. وإن قال: طلقت هذه وهذه أو هذه، احتمل أن يكون الشك في الجميع؛ لأنه أتى بحرف الشك بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 الأوليين، فيعود إليهما، واحتمل أن يكون الشك في الثانية والثالثة؛ لأن حرف الشك بينهما. وإن قال: طلقت هذه، أو هذه وهذه، ففي أحد الوجهين يكون شاكاً في طلاق الجميع، لا يدري أطلق الأولى وحدها، أو الأخريين جميعاً؟ وفي الأخرى يكون متيقناً لطلاق الثانية، شاكاً في الأوليين. وكل موضع علم أنه طلق بعضهن، فاشتبهت عليه بغيرها، فحكمها حكم المنسية على ما سنذكره. وإن لم ينو واحدة بعينها، تعينت بالقرعة، وعليه نفقة الجميع حتى تتعين المطلقة؛ لأنهن محبوسات عليه. فصل: وإن طلق واحدة بعينها ثلاثاً وأنسيها، أو خفيت عليه، بأن طلقها في ظلمة، أو من وراء حجاب، أو يراها في طاقة، فيطلقها وتشتبه عليه، فإنه يحرم عليه الجميع؛ لأنه اشتبهت زوجته بغيرها فحرمتا، كما لو اشتبهت بمن لم يتزوجها. وإن علمها، عينها، وقبل قوله؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته. فإن امتنع مع العلم، حبس حتى يعينها؛ لأنه حق عليه امتنع من إيفائه. وإن ادعت غير المعينة عليه أنها المطلقة، فالقول قوله من غير يمين. فإن مات، أقرع بينهن. فمن خرجت لها القرعة فلا ميراث لها. قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه، ولا يعلم أيتهن طلق، قال: أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة. قلت: أرأيت إن مات بعدها؟ قال: أقول بالقرعة، وذلك لأنه تصير القرعة على المال. وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن ثم مات، لا يدري أيتهن طلق، أقرع بين الأربع، وأنذر منهن واحدة، وقسم بينهن الميراث. وكذلك إن ماتت إحداهن، أو متن جميعاً أقرعنا بينهن، فمن خرجت عليها القرعة، حرمناه ميراثها. وقال الخرقي وكثير من أصحابنا: يقرع بينهن في حياته، فمن خرجت عليها قرعة الطلاق، بانت، وحل له البواقي، احتجاجاً بحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فإن ذكر بعد ذلك أن المطلقة غيرها، بانت المذكورة؛ لأنها المطلقة، ويكون وطؤه لها وطأ بشبهة، وترد إليه الأخرى، إلا أن تكون قد تزوجت، أو تكون القرعة بحكم حاكم، فلا ترد، نص عليه؛ لأنها إذا تزوجت، فقد تعلق بها حق غيره، فلم يقبل قوله في فسخ نكاح غيره. وقرعة الحاكم كحكمه، لا سبيل إلى نقضه. وقال أبو بكر وابن حامد: لا ترد إليه التي عينتها القرعة بحال؛ لأنه لا يقبل قوله عليها، ولا يرثها إن ماتت، وإن مات هو ورثته. فصل: وإن رأى طائراً فقال: إن كان غراباً فحفصة طالق، وإن كان حماماً فعمرة طالق، فطار ولم يعرف ما هو، لم يلزمه طلاق؛ لأنه يحتمل أنه غيرهما. ولو قال: إن كان غراباً، فحفصة طالق، وإن لم يكن غراباً، فعمرة طالق، ولم يعرف ما هو، طلقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 إحداهما. والحكم فيها على ما ذكرنا في المشتبهة، وإن كان الحالف رجلين، فقد حنث أحدهما، فيحرم الوطء عليهما؛ لأننا علمنا التحريم في إحداهما، فأشبه ما لو كان الحالف واحداً على زوجتين، ويبقى في حق كل واحد منهما أحكام النكاح، من النفقة والكسوة والمسكن؛ لأن نكاحه كان متيقناً، وزواله مشكوك فيه. وإن قال أحدهما: إن كان غراباً، فعبدي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً، فعبدي حر، لم يعتق واحد منهما؛ لأن الأصل الرق. فإن اشترى أحدهما عبد صاحبه، عتق؛ لأن تمسكه بعبده اعتراف منه بعتق الآخر، وقد ملكه فيعتق، قاله القاضي. وقال أبو الخطاب: يقرع بينهما حينئذ؛ لأن العبدين صارا له، وقد علم عتق أحدهما لا بعينه، فيعتق بالقرعة إلا أن يكون أحدهما قد أقر أن الحانث صاحبه، فيؤخذ بإقراره. ولو كان الحالف واحداً فقال: إن كان غراباً، فعبدي حر، وإن لم يكن غراباً فأمتي حرة، ولم يعرف، أقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، فهو الحر؛ لأن القرعة تستعمل لتعيين الحرية. فصل: إن قال لحماته: ابنتك طالق، أو كان اسم زوجته زينب فقال: زينب طالق، طلقت زوجته. فإن قال: أردت ابنتك الأخرى، أو امرأة أجنبية اسمها زينب، دين؛ لأنه يحتمل ما قاله، ولم يقبل في الحكم. نص عليه. لأن غير زوجته ليست محلاً لطلاقه، فلم يقبل تفسيره بها. وإن نظر إلى زوجته وأجنبية فقال: إحداكما طالق، فكذلك؛ لما ذكرناه. وقال القاضي: هل يقبل في الحكم؟ على روايتين. فصل: فإن كانت له زوجتان، هند وزينب فقال: يا هند، فأجابته زينب، فقال: أنت طالق ينوي المجيبة، أو لم يكن له نية، طلقت المجيبة وحدها؛ لأنها المخاطبة بالطلاق، ولم يرد غيرها به. وإن قال: ظننت المجيبة هنداً، فطلقتها، طلقت هند رواية واحدة؛ لأنه أرادها بطلاقه، وفي زينب روايتان: إحداهما: تطلق، اختارها ابن حامد؛ لأنه خاطبها بالطلاق فطلقت، كما لو لم يكن له نية. والثانية: لا تطلق؛ لأنه لم يردها بكلامه، فلم تطلق، كما لو أراد أن يقول: أنت طاهر، فسبق لسانه بقوله، أنت طالق، وقال أبو بكر: لا يختلف كلام أحمد: أنها لا تطلق. وإن قال: علمت أن المجيبة زينب وأردت طلاق هند، طلقتا معاً " هند " بإرادته، وزينب بخطابه لها بالطلاق اختياراً. ولو لقي أجنبية ظنها زوجته فقال: أنت طالق، طلقت زوجته؛ لأنه قصد زوجته بلفظ الطلاق، فطلقت، كالتي قبلها. وإن لقي زوجته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 فظنها أجنبية فقال: تنحي يا مطلقة، أو أمته، فقال: تنحي يا حرة يظنها أجنبية، فقال أبو بكر لا يلزمه عتق، ولا طلاق؛ لأنه لم يقصد طلاقاً ولا عتقاً. ويخرج على قول ابن حامد: أن يقع العتق والطلاق بناء على المسألة في أول الفصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 [ كتاب الرجعة ] إذا طلق الحر زوجته بعد الدخول بغير عوض أقل من ثلاث، أو العبد أقل من اثنتين، فله ارتجاعها ما دامت في العدة، لقول الله سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] . يريد الرجعة عند جماعة أهل التفسير. وقال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وروى ابن عمر قال: «طلقت امرأتي وهي حائض، فسأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مره فليراجعها» . متفق عليه. وعن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق حفصة وراجعها» . رواه أبو داود. وإن انقضت عدتها، لم يملك رجعتها، لقوله سبحانه: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وإن طلق قبل الدخول، فلا رجعة له؛ لأنه لا عدة عليها، فلا تربص في حقها يرتجعها فيه، وكل هذا مجمع عليه بحمد الله. فصل: وإذا كانت حاملاً باثنين فوضعت أحدهما، فله رجعتها قبل وضع الثاني؛ لأن العدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 لا تنقضي إلا بوضع الحمل كله. وإن طهرت ذات القرء من القرء الثالث ولم تغتسل، ففيه روايتان: إحداهما: له رجعتها. اختاره كثير من أصحابنا؛ لأن ذلك يروى عن أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم. والثانية: لا رجعة له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وهي الحيض، وقد زال الحيض. وهذا اختيار أبي الخطاب. فصل: ويملك رجعتها بغير رضاها، لقول الله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ولا تفتقر الرجعة إلى ولي ولا صداق لأنها إمساك. وهل تفتقر إلى إشهاد؟ فيه روايتان: إحداهما: تفتقر إلى الإشهاد، لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وظاهر الأمر الوجوب، ولأنه استباحة بضع مقصود، أشبه النكاح. والثانية: لا يجب؛ لأنه إمساك لا يفتقر إلى رضى المرأة، أشبه التكفير في الظهار. فصل: والرجعية: زوجة، بدليل أن الله تعالى سمى الرجعة إمساكاً، وسمى المطلقين بعولة. فقال سبحانه وتعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] فيلحقها طلاقه، وظهاره، ولعانه، وخلعه، ويرثها وترثه؛ لأنها زوجه، فثبت فيها ما ذكرنا، كما قبل الطلاق. فصل: والرجعية مباحة لزوجها، فلها التزين والتشرف له، وله السفر بها، والخلوة معها، ووطؤها في ظاهر المذهب، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وهذه زوجة. وعنه: أنها محرمة وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأنها معتدة من طلاقه فحرمت عليه، كالمختلعة. فإن وطئها، فلا حد عليه؛ لأنها زوجته، ولا مهر عليه كذلك. ويحتمل أن يجب المهر على القول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 بالتحريم، إذا أكرهها على الوطء؛ لأنه وطء حرمه الطلاق، فأشبه وطء المختلعة. فصل: وتحصل الرجعة بالوطء في ظاهر المذهب، قصد، أو لم يقصد؛ لأن سبب زوال الملك انعقد مع الخيار، والوطء من المالك يمنع زواله، كوطء البائع في مدة الخيار، ولا يحصل باستمتاع سواه من قبله أو لمس، أو نظر إلى محرم منها، في ظاهر كلام أحمد. وقال ابن حامد: يخرج فيه وجهان: مبنيان على الروايتين في تحريم المصاهرة به. فأما الخلوة بها، فليست رجعة بحال؛ لأن تحريم المصاهرة لا يثبت بها. وقال بعض أصحابنا: يحصل بها؛ لأنه محرم من غير الزوجة، فأشبه الاستمتاع. وعن أحمد: لا تحصل الرجعة إلا بالقول. وهو ظاهر كلام الخرقي، لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ولا يحصل الإشهاد إلا على القول، ولأنه استباحة بضع مقصود، أشبه النكاح. [ فصل في ألفاظ الرجعة ] فصل: وألفاظ الرجعة: راجعتك، وارتجعتك، لورود السنة بهما في حديث ابن عمر. واشتهارهما في العرف بهذا اللفظ، ورددتك وأمسكتك لورود الكتب بهما، في قوله: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وقَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] ويحتمل أن يكون الصريح لفظ المراجعة وحده، لاشتهاره في العرف دون غيره. وإن قال: نكحتك، أو تزوجتك، ففيه وجهان: أحدهما: تصح الرجعة به، اختاره ابن حامد؛ لأن الأجنبية تحل به فالزوجة أولى. والثاني: لا يصح؛ لأنه وضع لابتداء النكاح، وهذه لاستدامته، فإن قال: راجعتك للمحبة، أو الإهانة، فهي رجعة صحيحة؛ لأنه أتى بصريح الرجعة، وما قرنه به يحتمل أن يكون بياناً للعلة، ويحتمل غيره، فلا يزول اللفظ عن مقتضاه بالشك. فإن نوى به، أنني راجعتك لمحبتي إياك، أو لأهينك، لم يقدح في الرجعة؛ لأنه ضم إليها بيان علتها. وإن لم يرد الرجعة، وإنما أراد راجعتك إلى الإهانة بفراقي إياك، أو إلى المحبة، فليس برجعة؛ لأنه قصد بلفظه غير الرجعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 فصل: ولا يصح تعليقها على شرط؛ لأنه استباحة بضع، فأشبهت النكاح. ولو قال: راجعتك إن شئت، أو كلما طلقتك، فقد راجعتك، لم يصح. وإن راجعها في الردة. فقال أبو الخطاب لا يصح؛ لأنه استباحة بضع، فأشبه النكاح. وقال القاضي: إن قلنا بتعجل الفرقة، فلا يصح. وإن قلنا: لا تتعجل، فهي موقوفة. إن أسلم، صحت، وإن لم يسلم، لم تصح، كما يقف الطلاق والنكاح. وهذا اختيار ابن حامد. فصل: وإذا ادعت المرأة انقضاء عدتها بالقروء في زمن يمكن انقضاؤها فيه، أو بوضع الحمل الممكن، فأنكرها الزوج، فالقول قولها، لقول الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] فلولا أن قولهن مقبول ما حرم عليهن كتمانه، كالشهود، لما حرم عليهم كتمان الشهادة، دل على قبولها منهم. وإن ادعت انقضاء عدتها بالشهور، فأنكرها، فالقول قوله؛ لأنه اختلاف في وقت الطلاق، والقول قوله فيه، وإن ادعت انقضاءها في مدة لا يمكن انقضاؤها فيها، لم تسمع دعواها، مثل أن تدعي انقضاءها بالقروء في أقل من ثمانية وعشرين يوماً. إذا قلنا: الأقراء: الأطهار. أو في أقل من تسعة وعشرين إذا قلنا: هي الحيض؛ لأننا نعلم كذبها. وإن ادعت انقضاءها بالقروء في شهر، لم يقبل قولها إلا ببينه. نص عليه؛ لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ولأن ذلك يندر جداً. وظاهر قول الخرقي: قبول قولها بمجرده لما ذكرناه. فصل: وإن ادعى الزوج رجعتها في عدتها، فأنكرته، فالقول قوله؛ لأنه يملك رجعتها، فقبل قوله فيه، كالطلاق. فإن ادعى رجعتها بعد العدة، فأنكرته فالقول قولها؛ لأنه في زمن لا يملكها. والأصل عدمها. فإن كان في زمن يمكن انقضاء العدة، فيه. فقالت: قد انقضت عدتي، فقال: قد كنت راجعتك، وأنكرته، لم يقبل قوله؛ لأن قولها في انقضاء عدتها مقبول، فصار دعواه للرجعة بعد الحكم بانقضائها، ولو سبق فقال: قد كنت راجعتك، فقالت: قد انقضت عدتي قبل رجعتك، فأنكرها، فالقول قوله؛ لأنه ادعى الرجعة قبل الحكم بانقضاء عدتها. وظاهر كلام الخرقي: أن القول قولها في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 الحالين؛ لأن من قبل قوله سابقاً، قبل مسبوقاً كسائر الدعاوى. وإن ادعى أنه أصابها ليثبت له رجعتها، فأنكرته، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدمها. فصل: فإن طلقها، فقضت عدتها وتزوجت، ثم ادعى رجعتها، [فصدقته] هي وزوجها، ردت إليه؛ لأننا تبينا أن الثاني نكحها وهي زوجة الأول. وإن صدقه أحدهما دون الآخر، قبل قوله وحده في حقه، فإن صدقه الزوج، انفسخ نكاحه لاعترافه بفساده، ولم تسلم المرأة إليه؛ لأن إقرار الزوج عليها غير مقبول. وإن كان هذا قبل دخوله بها، فلها عليه نصف المهر. وإن كان بعده، فلها الجميع بمنزلة طلاقها. وإن صدقته المرأة وحدها، لم يقبل قولها في فسخ نكاح الزوج. فإن بانت منه بطلاق أو غيره، ردت إلى الأول؛ لأن المنع الذي كان لحق الثاني قد زال. وإن طلقها قبل الدخول، فلا مهر لها، لاعترافها أنها ليست زوجة له. فإن أنكراه، فالقول قولهما. فإن أقام بينة بدعواه، قبلت، وردت إليه، سواء دخل بها الثاني، أو لم يدخل؛ لأننا تبينا أن الثاني نكحها وهي زوجة الأول. وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: إن دخل بها الثاني، فهي زوجته، ويبطل نكاح الأول؛ لأنه يروى عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأن كل واحد منهما عقد عليها وهي ممن يجوز العقد عليها في الظاهر، ومع الثاني مزية الدخول، والأول المذهب. فصل: وإن تزوجت الرجعية في عدتها فوطئها الثاني وحملت منه، انقطعت عدة الأول، فإذا وضعت حملها، أتمت عدة الأول، وله رجعتها في هذا التمام؛ لأنها في عدته، وإن راجعها قبل الوضع، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنها في عدة غيره، لا في عدته. والثاني: يصح؛ لأن الزوجية باقية وإنما انقطعت عدته لعارض، فهو كما لو وطئت في صلب نكاحه. فصل: وإن وطئ الزوج الرجعية، وقلنا: لا تحصل الرجعة به، فعليها استئناف العدة من الوطء ويدخل فيها بقية عدة الطلاق؛ لأنهما عدتان من رجل واحد فتداخلتا وله ارتجاعها في بقية العدة الأولى، وليس له ارتجاعها بعدها؛ لأن عدة الطلاق انقضت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 فصل: إذا طلق الحر زوجته ثلاثاً، أو طلق العبد زوجته طلقتين، حرمت عليه، ولم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره: ويطأها، لقول الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ويشترط لحلها الأول شرطان: أحدهما: نكاح زوج غيره، للآية. فلو كانت أمة فوطئها سيدها، أو وطئت بشبهة، أو استبرأها من سيدها، لم تحل له، ولا بد أن يكون نكاحاً صحيحاً، فلو نكحها نكاحاً فاسداً ووطئها، لم تحل له. وذكر أبو الخطاب وجهاً آخر، أنه يحلها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله المحلل والمحلل له» . فسماه محللاً مع فساد نكاحه. والمذهب: الأول؛ لأن النكاح المطلق في الكتاب والسنة إنما يحمل على الصحيح، وإنما سماه محللاً، لقصده التحليل فيما لا يحل، كقوله تعالى: {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] . فلو أحل حقيقة، لم يكن هو والزوج ملعونين. الثاني: أن يطأها الزوج في الفرج، وأدناه تغييب الحشفة مع الانتشار، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات، فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير، فقالت: والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة، فتبسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته» متفق عليه. فإن وطئها في الدبر، أو دون الفرج، أو غيب الحشفة من غير انتشار، لم تحل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علق الحكم بذواق العسيلة، ولا يحصل بذلك. فإن كان الذكر مقطوعاً، فبقي منه قدر الحشفة، فأولجه، أحلها، وإلا فلا. وإن كان خصياً، أو مسلولاً، أو موجوءاً، حلت بوطئه، لدخوله في عموم الآية. وعنه: لا يحلها؛ لأنه لا تذاق عسيلته. قال أبو بكر: العمل على أنه يحلها؛ لأنه لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 يفقد إلا الإنزال، وهو غير معتبر في الإحلال. ولو كانت ذمية فوطئها زوج ذمي، أحلها للمسلم، لدخوله في الآية والخبر. وكذلك المملوك والصبي والمجنون. وقال ابن حامد: لا يحلها المجنون؛ لأنه لا يذوق العسيلة، والأول المذهب، لدخوله في عموم الآية، والخبر. ولا يصح دعوى أنه لا يذوق العسيلة، فإن المجنون كالصحيح في الشهوة واللذة، وافتراقهما في العقل لا يوجب افتراقهما في ذلك، فإنه يوجد في البهائم مع عدم العقل. وإن وطئها نائمة، أو مغمى عليها، أو وطئها يعتقدها أجنبية، أو استدخلت ذكره وهو نائم، حلت؛ لأن الوطء وجد في نكاح صحيح، ويحتمل ألا تحل بالوطء في الإغماء؛ لأنها لا تذوق عسيلته. فصل: واشترط أصحابنا أن يكون الوطء حلالاً، فلو وطئها زوجها في حيض، أو نفاس، أو صوم مفروض، أو إحرام، لم تحل؛ لأنه وطء حرم لحق الله تعالى فلم يحلها، كوطء المرتدة. وظاهر النص أنه يحلها، لدخوله في العموم، ولأنه وطء تام في نكاح صحيح تام فأحلها، كما لو كان التحريم لحق آدمي، مثل أن يطأ مريضة تتضرر بوطئه، فإنه لا خلاف في حلها به. فأما الوطء في ردتهما، أو ردة أحدهما، فلا يحلها؛ لأنه إن عاد إلى الإسلام، فقد وقع الوطء في نكاح غير تام؛ لانعقاد سبب البينونة، وإن لم تسلم في العدة، فلم يصادف الوطء نكاحاً. فصل: وإذا غابت المطلقة ثلاثاً، ثم أتت زوجها، فذكرت أنها نكحت من أصابها، وكان ذلك ممكناً، وكان يعرف منها الصدق والصلاح، حلت له؛ لأنها مؤتمنة على ما تدعيه، وقد وجد ما يغلب على ظنه صدقها. وإن لم يوجد ما يغلب على ظنه صدقها، لم تحل له؛ لأن الأصل التحريم ولم يوجد غلبة ظن تنقل عنه، فلم يحل، كما لو أخبره فاسق غيرها. فإن كذبها، ثم غلب على ظنه صدقها فصدقها، حلت له؛ لأنه قد لا يعلم، ثم يتجدد علمه بذلك. وإن تزوجت زوجاً ثم طلقها، فادعت أنه أصابها، فأحلها واستقر عليه مهرها فأنكر. فالقول قولها في حلها؛ لأنها لا تدعي عليه حقاً، والقول قوله في استقرار مهرها؛ لأنه حق عليه، والأصل عدمه. وإن ادعت عليه طلاقها فأنكرها، لم تحل للأول؛ لأنه لم يثبت طلاقها، فتبقى على نكاح الثاني. فصل: وإذا عادت المطلقة ثلاثاً إلى زوجها، بعد زوج وإصابة، ملك عليها ثلاث تطليقات؛ لأنه قد استوفى ما كان يملك من الطلاق الثلاث، فوجب أن يستأنفها. وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 كان طلاقها أقل من ثلاث، رجعت إليه على ما بقي من طلاقها؛ لأنها عادت قبل استيفاء العدد، فرجعت بما بقي من العدد، كما لو رجعت قبل نكاح آخر. وعنه: أنها إن رجعت بعد نكاح زوج آخر رجعت على طلاق ثلاث؛ لأنها رجعت بعد زوج وإصابة، فأشبهت المطلقة ثلاثاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 [ كتاب الإيلاء ] . وهو الحلف على ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر، لقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] ويصح من كل زوج مكلف قادر على الوطء، ولا يصح من غير زوج، كالسيد يؤلي من أمته، أو من أجنبية، ثم يتزوجها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] ولا يصح من صبي ولا مجنون؛ لأنه لا حكم ليمينهما. فأما العاجز عن الوطء، فإن كان لسبب يرجى زواله، كالمرض والحبس، صح إيلاؤه؛ لأنه يمنع نفسه الوطء بيمينه، فأشبه القادر، وإن كان لسبب غير مرجو الزوال، كالجب، والشلل، لم يصح إيلاؤه؛ لأنه حلف ترك مستحيل، فلم يصح، كالحلف على ترك الطيران، ولأن الإيلاء، اليمين المانعة من الجماع، وهذا لا تمنعه منه يمينه، ويحتمل أن يصح إيلاؤه، كالعاجز بالمرض. ويصح إيلاء الذمي، لعموم الآية، ولأن من صح طلاقه ويمينه عند الحاكم، صح إيلاؤه كالمسلم. [ فصل في شروط صحة الإيلاء ] فصل: ويشترط لصحته أربعة شروط: أحدها: الحلف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة: 226] والإيلاء: الحلف. فإن حلف بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، كان مؤلياً بغير خلاف. وإن حلف بالطلاق، أو العتاق، أو الظهار، أو صدقة المال ونحوه، ففيه روايتان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 إحداهما: لا يكون مؤلياً؛ لأن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال في تفسير الآية: يحلفون بالله. هكذا ذكره الإمام أحمد، ولأنه لم يحلف بالله. فلم يكن مؤلياً، كالحالف بالكعبة. والثانية: يكون مؤلياً؛ لأنها يمين يلزم بالحنث فيها حق، فيصح الإيلاء بها، كاليمين بالله تعالى. وقال أبو بكر: ما أوجب الكفارة، كالحرام، كان به مؤلياً، وما لا كفارة فيه، كالطلاق والعتاق، لم يكن به مؤلياً، ولا يختلف المذهب أنه لا يكون مؤلياً بما لا يلزمه به حق، كقوله: إن وطئتك، فأنت زانية؛ لأنه لا يصح تعليق القذف بشرط، فلا يلزمها بالوطء حق، فلا يكون مؤلياً. ولو قال: إن وطئتك، فعلي صوم أمس، أو صوم هذا الشهر، لم يصح؛ لأنه يصير عند وجوب الفيئة ماضياً، ولا يصح نذر الماضي. وإن قال: إن وطئتك، فسالم حر عن ظهاري، صار مؤلياً؛ لأنه يلزمه بالوطء حق، وهو تعيين عتق سالم. وإن قال: إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري، إن تظاهرت، لم يكن مؤلياً في الحال؛ لأنه يمكنه الوطء بغير حق يلزمه. وإن تظاهر، صار مؤلياً؛ لأنه لا يمكنه الوطء، إلا بحق يلزمه. فصل: الشرط الثاني: أن يحلف على ترك الوطء بالفرج؛ لأنه الذي يحصل الضرر به. وإن حلف على ترك الوطء في الدبر، أو دون الفرج، فليس بمؤل؛ لأنه لا ضرر فيه. وألفاظ الإيلاء تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: صريح في الظاهر والباطن، وهي قوله: والله لا آتيك، أو لا أدخل، أو أغيب، أو أولج ذكري، أو حشفتي، أو لا أفتضك، للبكر خاصة، فهذه صريحة ولا يدين فيها؛ لأنها لا تحتمل غير الإيلاء. والقسم الثاني: صريحة في الحكم، ويدين فيها. وهي عشرة ألفاظ: لا وطئتك، لا جامعتك، لا أصبتك، لا باشرتك، لا مسستك، لا قربتك، لا أتيتك، لا باضعتك، لا باعلتك، لا اغتسلت منك، فهذه صريحة في الحكم؛ لأنها تستعمل في الوطء عرفا، وقد ورد الكتاب والسنة ببعضها، فلا يقبل تفسيرها بما يحيله، كوطء القدم، والإصابة باليد، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما قاله. القسم الثالث: كناية وهو: ما عدا هذه الألفاظ، مما يحتمل الجماع وغيره، كقوله: لأسوأنك، ولا دخلت عليك، لا جمع رأسي ورأسك شيء، فهذا لا يكون مؤلياً بها، إلا بالنية؛ لأنها ليست ظاهرة في الجماع، فلم يحمل عليه إلا بالنية، ككنايات الطلاق فيه. فإن قال: والله لا جامعتك إلا جماع سوء، ونوى به الجماع في الدبر، أو دون الفرج، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 فهو مؤل. وإن نوى جماعاً ضعيفاً لا يزيد على تغييب الحشفة، فليس بمؤل؛ لأن الضعيف كالقوي في الحكم. فصل: الشرط الثالث: أن يكون الحالف زوجاً مكلفاً، قادراً على الوطء في الجملة، وقد ذكرنا ذلك. الشرط الرابع: أن يحلف على مدة تزيد على أربعة أشهر. فإن حلف على أربعة فما دونها، لم يكن مؤلياً، حراً كان أو عبداً، من حرة أو أمة لقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] . فدل على أنه لا يكون مؤلياً بما دونها، ولأن المطالبة بالطلاق والفيئة، إنما تكون بعدها، فلا تصح المطالبة من غير إيلاء، فإذا قال: والله لا وطئتك، كان مؤلياً؛ لأنه يقتضي التأبيد. وكذلك إن قال: حتى تموتي أو أموت؛ لأنه للتأبيد. وكذلك إن علقه على مستحيل فقال: حتى تطيري، ويشيب الغراب، ويبيض القار؛ لأن معناه التأبيد. قال الله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] . أي: لا يلج الجمل في سم الخياط، أي: لا يدخلونها، أبداً، وإن علقه على فعل يقين، أو يغلب على ظنه، أنه لا يوجد في أربعة أشهر، كقيام الساعة، وخروج الدجال، ونزول عيسى من السماء، أو موت زيد، فهو مؤل؛ لأنه لا يوجد في أربعة أشهر ظاهراً، فأشبه ما لو صرح به. وإن قال: والله لا وطئتك حتى تحبلي، فهو مؤل؛ لأنها لا تحبل من غير وطئه، فهو كالحلف على ترك الوطء دائماً، وقال القاضي: إن كانت ممن يحبل مثلها، لم يكن مؤلياً، ولا أعلم لهذا وجهاً؛ لأنه لا يمكن حملها، من غير وطء. وإن قال: أردت بـ " حتى " السببية، أي لا أطؤك لتحبلي، قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله، ولا يكون مؤلياً؛ لأنه يمكن وطؤها لغير ذلك. وإن علقه على ما يعلم وجوده قبل أربعة أشهر، كجفاف بقل، أو ما يغلب على الطن وجوده قبلها، كنزول الغيث في أوانه، وقدوم الحاج في زمانه، أو ما يحتمل الأمرين على السواء، كقدوم زيد من سفر قريب، لم يكن مؤلياً؛ لأنه لم يغلب على الظن وجود الشرط، فلا يثبت حكمه. وإن قال: والله ليطولن تركي لجماعك، ونوى مدة الإيلاء، فهو مؤل، وإلا فلا. وإن قال: والله لأسوأنك، ولتطولن غيبتي عنك، ونوى ترك الجماع في مدة الإيلاء، فهو مؤل؛ لأنه عنى بلفظه ما يحتمله، وإلا فلا، وإن قال: والله لا وطئتك طاهراً، أو وطأ مباحاً، فهو مؤل لأنه حلف على ترك الوطء الذي يطالب به في الفيئة، فكان مؤلياً، كما لو قال: والله لا وطئتك إلا في الدبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 فصل: وإن قال: والله لا وطئتك في هذا البيت، أو البلد، لم يكن مؤلياً؛ لأنه يمكنه الوطء بغير حنث. وإن قال: والله لا وطئتك إلا برضاك، أو، إلا أن تشائي، فليس بمؤل كذلك، وكذلك: والله لا وطئتك مريضة، أو محزونة، أو مكرهة، أو ليلاً أو نهاراً، لم يكن مؤلياً كذلك. وإن قال: والله لا وطئتك إن شئت، فشاءت، صار مؤلياً، وإلا فلا. [ فصل في حكم تعليق الإيلاء على شرط ] فصل: ويصح تعليق الإيلاء على شرط؛ لأنه يمين. فإذا قال: إن وطئتك فوالله لا وطئتك، لم يصر مؤلياً في الحال؛ لأنه يمكنه وطؤها بغير حنث. فإذا وطئها، صار مؤلياً؛ لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحنث. وإن قال: والله لا وطئتك في هذه السنة إلا مرة، لم يصر مؤلياً في الحال كذلك. فإذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، صار مؤلياً؛ لأنه صار ممنوعاً من وطئها بيمينه. وإن قال: والله لا وطئتك سنة إلا يوماً فكذلك؛ لأن اليوم منكر، فلم يختص يوم بعينه، فصارت كالتي قبلها، ويحتمل أن يصير مؤلياً في الحال؛ لأن اليوم المستثنى يكون من آخر السنة، كما في التأجيل. فصل: فإن قال: والله لا وطئتك، عاماً، ثم قال: والله لا وطئتك نصف عام، دخلت المدة الثانية في الأولى؛ لأنها بعضها، ولم يعقب إحداهما بالأخرى، فتداخلا كما لو قال: له علي مائة، ثم قال: له علي خمسون، فإن قال: والله لا وطئتك عاماً، فإذا مضى، فوالله لا وطئتك نصف عام، فهما إيلاأن في زمانين، لا يدخل حكم أحدهما في الآخر. فإذا انقضى حكم الأول، ثبت حكم الآخر. وإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر، فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر، لم يكن مؤلياً؛ لأن كل واحد من الزمانين لا تزيد مدته على أربعة أشهر، ويحتمل أن يكون مؤلياً؛ لأنه ممتنع بيمينه من وطئها مدة متوالية أكثر من أربعة أشهر. فصل: وإن قال لأربع نسوة: والله لا أطأكن، انبنى على أصل، وهو: هل يحنث بفعل بعض المحلوف عليه، أم لا؟ فيه روايتان: إحداهما: يحنث فيكون مؤلياً في الحال منهن؛ لأنه لا يمكنه وطء واحدة منهن، إلا بحنث، فإذا وطئ واحدة، انحلت يمينه؛ لأنها يمين واحدة، فتنحل بالحنث فيها، كما لو حلف على واحدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 وعلى الأخرى: لا يحنث بفعل البعض، فلا يكون مؤلياً في الحال؛ لأنه يمكن وطء كل واحدة بغير حنث. فإذا وطئ ثلاثاً، صار مؤلياً في الرابعة، وابتداء المدة حينئذ. فإن مات بعضهن، أو طلقها انحل الإيلاء؛ لأنه أمكنه وطء الباقيات بغير حنث. وإن قال: والله لا وطئت واحدة منكن، صار مؤلياً في الحال؛ لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحنث. فإن طلق واحدة منهن، أو ماتت، كان مؤلياً من الباقيات؛ لأنه تعلق بكل واحدة منفردة. وإن وطئ واحدة، سقط الإيلاء من الباقيات؛ لأنها يمين واحدة، فإذا حنث مرة، لم يعد الحنث مرة ثانية، وإن نوى واحدة بعينها، كان مؤلياً منها وحدها، ويقبل قوله في ذلك؛ لأن اللفظ يحتمله، وهو أعلم بنيته. وإن قال: نويت واحدة معينة، قبل؛ لأنه يحتمل ذلك. وقياس المذهب: أن يخرج المؤلي منها بالقرعة، كالطلاق، وذكر القاضي: أن الحكم فيمن أطلق يمينه ولم ينو شيئاً، كذلك، والأول أولى؛ لأنه نكرة في سياق النفي، فيكون عاماً. ولو قال: والله لا وطئت كل واحدة منكن، كان مؤلياً من جميعهن، ولم يقبل قوله: نويت واحدة؛ لأن لفظه لا يحتمل ذلك، وتنحل اليمين بوطء واحدة، لما ذكرنا. فإن طالبن بالفيئة، وقف لهن كلهن. وإن اختلفت مطالبتهن، وقف لكل واحدة عند طلبها؛ لأنه لا يؤخذ بحقها قبل طلبها، وعنه: يوقف لهن جميعهن عند طلب أولاهن؛ لأنها يمين واحدة، فكان الوقف لها واحداً. وإن قال لزوجتيه، كلما وطئت إحداكما فالأخرى طالق. وقلنا بكونه إيلاء، فهو مؤل منهما. فصل: فإن قال: والله لا وطئتك، ثم قال للأخرى: شركتك معها، لم يصر مؤلياً من الثانية؛ لأن اليمين بالله، لا يصح إلا بلفظ صريح من اسم، أو صفة، وهذا كناية. وقال القاضي: يكون مؤلياً منهما. وإن قال: إن أصبتك. فأنت طالق، وقال للأخرى: أشركتك معها ونوى، وقلنا بكونه إيلاء من الأولى، صار مؤلياً من الثانية؛ لأن الطلاق يصح بالكناية. ولو قال: أنت علي كظهر أمي، ثم قال للأخرى: شركتك معها، كان مظاهراً منهما؛ لأن الظهار تحريم، فصح بالكناية كالطلاق. وهل يفتقر إلى نية؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يفتقر إليها لأن التشريك لا بد أن يقع في شيء يوجب صرفه إلى المذكور كجواب السؤال. والثاني: يفتقر إليها ذكره أبو الخطاب؛ لأنه ليس صريح في الظهار، فافتقر إلى النية، كسائر كناياته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 فصل: ولا يطالب المؤلي بشيء قبل أربعة أشهر، للآية. وابتداء المدة من حين اليمين؛ لأنها تثبت بالنص والإجماع، فلم تفتقر إلى حاكم، كمدة العدة. فإن كان بالمرأة عذر يمنع الوطء، كصغر أو مرض أو نشوز أو جنون أو إحرام أو صوم فرض، أو اعتكاف فرض، لم يحتسب عليه بمدته؛ لأن المنع منها. وإن طرأ منه شيء، انقطعت المدة؛ لأنها إنما ضربت لامتناع الزوج من الوطء، ولا امتناع منه مع العذر. ويستأنف المدة عند زوال العذر؛ لأن من شأنها أن تكون متوالية، ويحتسب بمدة الحيض؛ لأنه عذر معتاد لا ينفك منه، فلو قطع المدة، سقط حكم الإيلاء، وكذلك لا يقطع التتابع في الصيام. وفي النفاس وجهان: أحدهما: هو كالحيض؛ لأنه مثله في أحكامه. والثاني: هو كالمرض؛ لأنه عذر نادر، أشبه المرض. وإن كان بالزوج عذر، حسبت عليه مدته، ولم يقطع المدة طريانه؛ لأن الامتناع من جهته، والزوجية باقية، فحسبت عليه المدة. وإن آلى من الرجعية، احتسب عليه المدة، ذكره ابن حامد. وإن طرأ الطلاق الرجعي، لم يقطع المدة؛ لأن الرجعية مباحة، ويحتمل أن تنقطع إذا قلنا بتحريمها. وإن طلقها طلاقاً بائناً، انقطعت المدة؛ لأنها حرمت عليه، فإذا تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر، استؤنفت المدة، سواء كان الطلاق في المدة، أو بعدها. فصل: وإن وطئها، حنث وسقط الإيلاء، لزوال اليمين والضرر عنها، سواء وطئها يقظانة، أو نائمة أو عاقلة أو مجنونة. وهكذا إن وطئها في حيض، أو نفاس، أو إحرام، أو صيام، أو ظهار، لما ذكرنا. وقال أبو بكر: قياس المذهب ألا يخرج من حكم الإيلاء، بالوطء الحرام؛ لأنه لا يؤمر به في الفيئة، فهو كالوطء في الدبر، والأول أولى؛ لأن اليمين تنحل به، فيزول الإيلاء بزوالها. وإن وطئها وهو مجنون، لم يحنث؛ لأن القلم عنه مرفوع، ويسقط الإيلاء؛ لأنه وفاها حقها، ويحتمل ألا يسقط؛ لأن حكم اليمين باق، ولو أفاق، لمنعته اليمين الوطء. وقال أبو بكر: يحنث وينحل الإيلاء؛ لأنه فعل ما حلف عليه. وإن وطئها، ناسياً فهل يحنث؟ على روايتين. أصحهما: لا يحنث. فعلى هذا هل يسقط الإيلاء؟ على وجهين كما ذكرنا في المجنون. وإن استدخلت ذكره وهو نائم، لم يحنث؛ لأنه ما وطئ، وهل يسقط الإيلاء؟ على وجهين، لما ذكرنا. وأدنى الوطء الذي تحصل به الفيئة تغييب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق به، وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وطئها في الدبر، أو دون الفرج، لم يعتد به؛ لأن الضرر واليمين لا يزولان به. فصل: وإذا وطئ لزمته الكفارة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» متفق عليه. وإن كان الإيلاء بتعليق عتق، أو طلاق، وقع؛ لأنه معلق على شرط قد وجد. وإن كان على نذر، خير بين الوفاء به والتكفير؛ لأنه نذر لجاج، وهذا حكمه. وإن كان معلقاً على طلاق ثلاث، لم يحل له الوطء؛ لأنه آخره يقع في أجنبية، ويوقع طلاق البدعة من وجهين جمع الثلاث، ووقوعه بعد الإصابة، وذكر القاضي: أن كلام أحمد يقتضي روايتين. فإن وطئ فعليه النزع حين يولج؛ لأن الحنث حصل به فصارت أجنبية، فإذا فعل هذا، فلا حد عليه، ولا مهر؛ لأنه تارك للوطء، وإن لبث أو أتم الإيلاج، فلا حد أيضاً. لتمكن الشبهة منه لكونه وطأ بعضه في زوجة، وفي المهر وجهان: أحدهما: يجب؛ لأنه وطء في محل غير مملوك، أشبه ما لو وطئ بعد النزع. والثاني: لا يجب؛ لأنه إيلاج في محل مملوك، فكان آخره تابعا له في سقوط المهر، ويلحق النسب به. وإن نزع، ثم أولج وهما عالمان بالتحريم، فهما زانيان زنا لا شبهة فيه، فعليهما الحد، ولا مهر لها إذا كانت مطاوعة. وإن كانت مكروهة، أو جاهلة بالتحريم، فلا حد عليها، ولها عليه المهر. وإن جهلا التحريم معاً، فلا حد، ويجب لها المهر، ويلحقه النسب. وإن قال: إن وطئتك، فأنت علي كظهر أمي، فقال أحمد: لا يطأ حتى يكفر، يريد أنه إذا وطئها مرة، لم يكن له أن يطأها ثانياً، حتى يكفر؛ لأنها تصير محرمة عليه بالظهار، فأما قبل ذلك، فلا يصح منه التكفير؛ لأنه لا يجوز تقديم الكفارة على سببها. فصل: وإن انقضت المدة ولم يطأ، فلها المطالبة بالفيئة، أو الطلاق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] فإن سكتت عن المطالبة، لم يسقط حقها، وإن عفت عنها، سقط حقها في أحد الوجهين، كما لو عفت امرأة العنين. والآخر لا يسقط، ولها الرجوع، والمطالبة؛ لأنها ثبتت لدفع الضرر بترك الوطء، وذلك يتجدد مع الأحوال، فأشبه النفقة والقسم وإن طلب الإمهال، ولا عذر له، لم يمهل؛ لأن الحق حال عليه وهو قادر عليه. وإن كان ناعساً فقال: أمهلوني حتى يذهب النعاس، أو جائعاً فقال: أمهلوني حتى أتغدى، أو حتى ينهضم الطعام، أو حتى أفطر من صيامي، أمهل بقدر ذلك. ولا يمهل أكثر من قدر الحاجة، كالدين الحال. فإن وطئها، فقد وفاها حقها. وإن أبى ولا عذر له أمر بالطلاق إن طلبت ذلك، فإن طلق، وقع طلاقه الذي أوقعه، ولا يطالب بأكثر من طلقة؛ لأنها تفضي إلى البينونة، فإن امتنع، طلق الحاكم عليه؛ لأنه حق تعين مستحقه، ودخلته النيابة، فقام الحاكم مقامه عند امتناعه منه، كقضاء دينه. وعن أحمد: لا تطلق عليه ولكن يحبس ويضيق عليه حتى يطلق؛ لأن ما خير فيه بين شيئين، لم يقم الحاكم مقامه فيه، كاختيار إحدى الزوجات إذا أسلم على أكثر من أربع. فإن قلنا: إن الحاكم يملك الطلاق، فله أن يطلق واحدة أو ثلاثاً؛ لأنه قائم مقام الزوج، فملك ما يملكه. فإن طلق الزوج، أو الحاكم ثلاثاً حرمت عليه، إلا بزوج وإصابة. فإن طلق أحدهما أقل من ثلاث، فله رجعتها. وعن أحمد أنها تكون طلقة بائنة؛ لأنها شرعت لدفع الضرر الحاصل منه، فوجب أن لا يملك رجعتها، كالمختلعة. وعنه: أن تفريق الحاكم يحرمها على التأبيد؛ لأنه تفريق حاكم، فأشبه فرقة اللعان، والأول أصح؛ لأنه لم يستوف عدد طلاقها، فلم تحرم على التأبيد، كما لو طلق الزوج. وإن قال الحاكم: فرقت بينكما، فهو فسخ للنكاح لا تحل له إلا بنكاح جديد، نص عليه. ومتى وقع الطلاق، ثم ارتجعها، أو تركها ثم انقضت عدتها، ثم تزوجها، أو طلق ثلاثاً فتزوجت غيره، ثم تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر، وقف لها؛ لأنه ممتنع من وطئها بيمين في حال الزوجية، فأشبه ما لو راجعها. وإن بقي أقل من أربعة أشهر، لم يثبت حكم الإيلاء، لقصوره عن مدته. فصل: وإن انقضت المدة وهي حائض، أو نفساء، لم تطالب بالفيئة؛ لأنها لا تستحق الوطء في هذه الحال. وإن كان مغلوباً على عقله، لم يطالب أيضاً؛ لأنه لا يصلح لخطاب، ولا يصح منه جواب، وإن كان مريضاً، أو محبوساً لا يمكنه الخروج، طولب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 بفيئة المعذور، وهو أن يقول: متى قدرت جامعتها، أو نحو ذلك؛ لأن القصد بالفيئة، ترك ما قصده من الإضرار بما أتى به من الاعتذار، فمتى قدر على الوطء، طولب به؛ لأنه تأخر للعذر. فإن زال العذر، طولب به، كالدين. وهذا اختيار الخرقي. وقال أبو بكر: إذا فاء فيئة المعذور، لم يطالب؛ لأنه فاء مرة، فلم يلزمه فيئة أخرى، كالذي فاء بالوطء، لا يلزمه بالفيئة باللسان كفارة؛ لأنه لم يحنث. وإن كان غائباً لا يمكنه القدوم، لخوف أو نحوه، فاء فيئة المعذور. وإن أمكنه القدوم، فلها أن توكل من يطالبه بالمسير إليها، أو حملها إليه، أو الطلاق، وإن كان محرماً، فاء فيئة المعذور في قول الخرقي لأنه عاجز عن الوطء، أشبه المريض، ويتخرج في الاعتكاف المنذور مثله. وإن كان مظاهراً، لم يؤمر بالوطء؛ لأنه محرم. ولا يحل الأمر بمعصية الله. ويقال له: إما أن تكفر، وتفيء، وإما أن تطلق، فإن طلب الإمهال، ليطلب رقبة يعتقها، أو طعاماً يشتريه، أمهل ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة. وإن علم أنه قادر على التكفير، وأن قصده المدافعة. لم يمهل؛ لأن الحق حال عليه، وإنما يمهل للحاجة، ولا حاجة. وإن كان فرضه الصيام، لم يمهل حتى يصوم؛ لأنه كثير. وإن كان قد بقي عليه من الصيام مدة يسيرة، أمهل فيها، ويتخرج أن يفيء المظاهر فيئة المعذور، ويمهل ليصوم كالمحرم، فإن أراد الوطء في حال الإحرام، أو الظهار فمنعته، لم يسقط حقها؛ لأنها منعته مما يحرم، فأشبه ما لو منعته في الحيض. وذكر القاضي: أنه يسقط حقها؛ لأنها منعته من إيفائه. وإن انقضت مدة العاجز، لجب، أو شلل، ففيئته: لو قدرت، لجامعتك؛ لأنه لا قدرة له على غير ذلك. فصل: ومن طولب بالفيئة فقال: قد وطئتها فأنكرته، فإن كانت ثيباً فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح، وعدم ما يوجب إزالته. وهل يحلف؟ على روايتين: إحداهما: يحلف وهو اختيار الخرقي؛ لأن ما تدعيه المرأة محتمل، فوجب نفيه باليمين. والأخرى: لا يمين عليه اختاره أبو بكر؛ لأنه لا يقضى فيه بالنكول. وإن كانت بكراً، أريت النساء الثقات، فإن شهدن ببكارتها فالقول قولها؛ لأنه يعلم كذبه، وإلا فالقول قوله. وإن ادعى عجزه عن الوطء، ولم يكن علم أنه عنين، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل قوله؛ لأن الأصل سلامته، فيؤمر بالطلاق. والثاني: يقبل قوله؛ لأنه لا يعرف إلا من جهته. وإن اختلفا في انقضاء المدة، فالقول قول الزوج؛ لأنه اختلاف في وقت حلفه، فكان القول قوله فيه. وهل يحلف؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 على روايتين والله أعلم. فصل: وإن ترك الزوج الوطء بغير يمين، فليس بمؤل؛ لأن الإيلاء من شرطه الحلف، فلا يثبت بدونه، لكن إن تركه مضراً بها لغير عذر، ففيه روايتان: إحداهما: لا يلزمه شيء؛ لأنه ليس بمؤل، فلا يثبت له حكم، كما لو تركه لعذر، ولأن تخصيص الإيلاء بحكمه يدل على أنه لا يثبت بدونه. والثانية: تضرب له مدة الإيلاء، وتوقف بعدها كالمؤلي سواء؛ لأنه تارك لوطئها مضراً بها، فأشبه المؤلي، ولأن ما لا يجب إذا لم يحلف لا يجب إذا حلف على تركه، كالزيادة على الواجب، وثبوت حكم الإيلاء له، لا يمنع من قياس غيره عليه إذا كان في معناه كسائر الأحكام الثابتة بالقياس، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 [ كتاب الظهار ] وهو قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أو ما أشبهه، وهو محرم؛ لقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] ويصح من كل زوج يصح طلاقه؛ لأنه قول يختص النكاح، أشبه الطلاق، إلا الصبي، فلا يصح منه؛ لأنه يمين موجبة للكفارة، أشبه اليمين بالله وقال القاضي: ظهاره كطلاقه، لما ذكرناه أولاً. ويصح ظهار الذمي؛ لأنه مكلف يصح طلاقه، فصح ظهاره، كالمسلم. ولا يصح ظهار السيد من أمته، لقول الله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] فخص به الزوجات، فإن ظاهر منها، أو حرمها، فعليه كفارة يمين، كما لو حرم طعامه، وعنه: عليه كفارة ظهار. قال أبو الخطاب: ويتوجه ألا يلزمه شيء، كما لو ظاهرت المرأة من زوجها، فإن ظاهر من أجنبية، ثم تزوجها، أو قال: كل امرأة أتزوجها هي علي كظهر أمي، ثم تزوجها، لم تحل له حتى يكفر، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في رجل قال: إن تزوجت فلانة، فهي علي كظهر أمي، ثم تزوجها قال: عليه كفارة الظهار، ولأنها يمين مكفرة، فصح عقدها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 فصل: فإن قال: أنت علي كظهر أمي، أو ظهر من يحرم عليه على التأبيد، كجدته، وسائر ذوات محارمه من النسب، والرضاع، أو المصاهرة، فهو مظاهر؛ لأنه شبَّهها بظهر من هي محل للاستمتاع، تحرم عليه على التأبيد، فكان مظاهراً، كما لو قال: أنت علي كظهر أمي. وإن شبهها بمن يحرم في حال دون حال، كأخت زوجته، وعمتها أو الأجنبية، ففيه روايتان: إحداهما: هي ظهار، اختاره الخرقي وأبو بكر؛ لأنه تشبيه بمحرم عليه، أشبه تشبيهها بالأم. والأخرى: ليس بظهار؛ لأنه شبهها بمن لا تحرم عليه على التأبيد، أشبه تحريمها بالمحرمة والصائمة. وإن قال: أنت عليّ كظهر البهيمة، لم يكن مظاهراً؛ لأنه ليس محلاً للاستمتاع. وإن قال: أنت علي كظهر أبي، ففيه روايتان: إحداهما: هو ظهار؛ لأنه شبهها بمحل محرم على التأبيد. أشبه التشبيه بظهر الأم. والأخرى: ليس بظهار؛ لأنه ليس بمحل الاستمتاع، أشبه التشبيه بالبهيمة. فصل: فإن قال: أنت عندي، أو معي، أو مني، كظهر أمي، فهو ظهار؛ لأنه تقيد بما يفيده قوله: أنت علي كظهر أمي. وإن شبهها بعضو غير الظهر فقال: أنت علي كفرج أمي، أو يدها، أو رأسها، فهو ظهار؛ لأن غير الظهر، كالظهر في التحريم، فكذلك في الظهار به، وإن شبه عضواً منها بظهر أمه، أو عضواً من أعضائها فقال: ظهرك علي كظهر أمي، أو رأسك علي كرأس أمي، فهو مظاهر؛ لأنه قول يوجب تحريم الزوجة، فجاز تعليقه على يدها ورأسها، كالطلاق. وما لا يقع الطلاق بإضافته إليه، كالشعر، والسن، والظفر، لا يتعلق الظهار به. لما ذكرنا. فصل: فإن قال: أنت علي كأمي، أو مثل أمي، فهو مظاهر. فإن نوى به التشبيه في الكرامة، أو نحوها فليس بظهار؛ لأنه يحتمل مقاله. وعنه: ليس بظهار حتى ينويه؛ لأنه يحتمل غير الظهار، كاحتماله إياه، فليس يصرف إليه إلا بنية، ككنايات الطلاق. وإن قال: أنت كأمي، أو مثلها، فليس بظهار إلا أن ينويه؛ لأنه في غير التحريم أظهر. وقال أبو الخطاب: هي كالتي قبلها، وهكذا يتخرج في قوله: رأسك كرأس أمي، أو يدك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 كيدها، وما أشبهه، وقياس المذهب، أنه إن وجدت قرينة صارفة إلى الظهار، مثل أن يخرجه مخرج اليمين، كقوله: إن خرجت من الدار، فأنت عندي كأمي، وشبهه، فهو ظهار؛ لأن القرينة صارفة إليه، وإلا لم يكن ظهاراً، لتردد الاحتمالات فيه. وإن قال: أنت حرام كأمي، فهو صريح في الظهار؛ لأنه لا يحتمل سوى التحريم. فصل: وإن قال: أنت طالق كظهر أمي، طلقت، ولم يكن ظهاراً؛ لأنه أوقع الطلاق صريحاً، فوقع، وبقي قوله: كظهر أمي، غير متعلق بشيء، فلم يقع. فإن نوى به الطلاق والظهار معاً، فهو ظهار وطلاق. وإن نوى بقوله: أنت طالق: الظهار، لم يكن ظهاراً؛ لأنه صريح في موجبه، فلم ينصرف إلى غيره بالنية، كما لو نوى بقوله: أنت علي كظهر أمي، الطلاق. [ فصل في حكم تأقيت الظهار ] فصل: ويصح الظهار مؤقتاً، كقوله: أنت علي كظهر أمي شهراً، لما روى سلمة بن صخر قال: «ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة، إذ انكشف منها شيء، فلم ألبث أن نزوت عليها، فانطلقت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته الخبر، فقال: حرر رقبة» رواه أبو داود. ولأنه يمين مكفرة صح توقيتها، كاليمين بالله تعالى. فإذا مضى الوقت، مضى حكم الظهار. ويجوز تعليقه بشرط، كدخول الدار لذلك، فإذا وجد الشرط، ثبت حكم الظهار، وإن قال: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، لم يصر مظاهراً لما ذكرناه. فصل: وإذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي، لم تكن مظاهرة؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] فعلقه على الزوج؛ ولأنه قول يوجب تحريم الزوجة، يملك الزوج رفعه، فاختص الرجل، كالطلاق. وفي وجوب الكفارة ثلاث روايات: إحداهن: عليها كفارة الظهار، لما روى إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت: إن تزوجت مصعب بن الزبير، فهو علي كظهر أبي، فسألت أهل المدينة، فرأوا: أن عليها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 الكفارة. رواه الأثرم؛ ولأنها أتت بالمنكر من القول والزور بهذا اللفظ، فلزمتها كفارة الظهار، كالرجل. والثانية: لا شيء عليها؛ لأنه تشبيه غير ظهار، فلم يوجب الكفارة، كقولها: أنت علي كظهر البهيمة. والثالثة: عليها كفارة يمين، أومأ إليها بقوله: قد ذهب عطاء مذهباً، جعلها بمنزلة من حرم على نفسه شيئاً من الطعام، وهذا أقيس في مذهبه؛ لأنه تحريم لحلال غير الزوجة، فأوجب كفارة يمين، كتحريم الأمة، وعليها التمكين قبل الكفارة؛ لأنه حق عليها، فلا يسقط بيمينها، ولأنه قول غير الظهار، موجب للكفارة، فأشبه اليمين بالله تعالى. فصل: وإذا صح الظهار، ووجد العود، وجبت الكفارة؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] والعود: هو الوطء في ظاهر كلام أحمد والخرقي. قال أحمد: العود: هو الغشيان؛ لأن العود في القول فعل ضد ما قال، كما أن العود في الهبة، هو استرجاع ما وهب، فالمظاهر: منع نفسه غشيانها، فعوده في قوله: غشيانها. وقال القاضي وأصحابه: العود: العزم على الوطء؛ لأن الله تعالى أمر بالتكفير عقيب العود قبل التَّماس بقوله سبحانه: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وعلى كلا القولين لا يحل له الوطء قبل التكفير؛ لقوله سبحانه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فإن وطئ قبله، أثم، واستقرت الكفارة عليه، ولم يجب عليه أكثر منها؛ لحديث سلمة حين وطئ، فلم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكثر من كفارة، وتحريمها باق حتى يكفر، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لسلمة: ما حملك على ما صنعت؟ قال رأيت بياض ساقها في القمر. قال: فاعتزلها حتى تكفر» . وأما قبل الوطء، فلا كفارة عليه. وإنما أمر بها لكونها شرطاً لحل الوطء، كاستبراء الأمة المشتراة. فإن فات الوطء بموت أحدهما، أو فرقتهما، فلا كفارة عليه لذلك. وإن عاد فتزوجها، لم تحل له، حتى يكفر. وقال أبو الخطاب: إن كانت الفرقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 بعد العزم، فعليه الكفارة. وهذا مقتضى قول من وافقه. وقد صرح أحمد بإنكاره، وكذلك قال القاضي: لا كفارة عليه. فصل: وفي التلذذ بالمظاهر منها قبل التكفير بما دون الجماع، كالقبلة، واللمس، روايتان: إحداهما: يحرم؛ لأن ما حرم الوطء من القول، حرم دواعيه، كالطلاق. والثانية: لا تحرم؛ لأنه تحريم يتعلق بالوطء، فيه كفارة، فلم يتجاوز الوطء، كتحريم الحيض؛ ولأن المسيس هنا كناية عن الوطء، فيقتصر عليه. فصل: وإذا ظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات، فعليه لكل واحدة كفارة؛ لأنها أربع أيمان في محالّ مختلفة، فأشبه ما لو وجدت في أربعة أنكحة. قال ابن حامد والقاضي: هذا المذهب رواية واحدة. وقال أبو بكر: فيه رواية أخرى: يجزئه كفارة واحدة؛ لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ولأن الكفارة حق الله تعالى، فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد. وإن ظاهر منهن بكلمة واحدة، فكفارة واحدة، رواية واحدة، لما روى ابن عباس: أن عمر سئل عن رجل ظاهر من نسوة، فقال: يجزئه كفارة واحدة؛ ولأنها يمين واحدة فلم توجب أكثر من كفارة، كاليمين بالله تعالى. وإن ظاهر من امرأة مراراً ولم يكفر، فكفارة واحدة في ظاهر المذهب؛ لأن اليمين الثانية لم تؤثر تحريماً في الزوجة، فلم يجب بها كفارة الظهار، كاليمين بالله. وعن أحمد: ما يدل على أنه إن نوى بالثانية الاستئناف، وجب بها كفارة ثانية؛ لأنه قول يوجب تحريماً في الزوجة، فإذا نوى به الاستئناف، تعلق به حكم، كالطلاق، والمذهب الأول. فأما إن كفر عن الأولى، فعليه للثانية كفارة واحدة رواية واحدة؛ لأنها أثبتت في المحل تحريماً، أشبهت الأولى. وإن قال: كل امرأة أتزوجها، فهي علي كظهر أمي، ثم تزوج نساء في عقد واحد، فكفارة واحدة. وإن تزوجهن في عقود، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنها يمين واحدة. والأخرى: لكل عقد كفارة. فلو تزوج امرأتين في عقد، وأخرى في عقد، لزمته كفارتان؛ لأن لكل عقد حكم نفسه، فتعلق بالثاني كفارة، كالأول. فصل: وإن ظاهر من زوجته الأمة، ثم ملكها، فقال الخرقي: لا يطؤها حتى يكفر، يعني: كفارة الظهار؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وقال أبو بكر: عليه كفارة يمين لا غير؛ لأنها خرجت عن الزوجات، فلم يجب بوطئها كفارة ظهار، كما لو تظاهر منها وهي أمة، فإن أعتقها عن كفارته، جاز. فإذا تزوجها بعد ذلك، لم يعد حكم الظهار. والله تعالى أعلم. [ باب كفارة الظهار ] . الواجب فيها تحرير رقبة، فمن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] . وروى أبو داود بإسناده عن خولة بنت مالك بن ثعلبة. قالت: «تظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إليه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه، فما برحت حتى نزل القرآن. {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يعتق رقبة قلت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين قلت: يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً» فمن ملك رقبة، أو مالاً يشتري به رقبة، فاضلاً عن حاجته لنفقته وكسوته ومسكنه، وما لا بد له من مؤنة عياله ونحوه، لزمه العتق؛ لأنه واجد، فإن كانت له رقبة لا يستغني عن خدمتها لكبره أو لمرضه، أو لكونه ممن لا يخدم نفسه، أو يحتاج إليها لخدمة زوجته التي يلزمه إخدامها، أو يتقوت بغلتها، أو يتعلق بها حاجة لا بد منها، لم يلزمه عتقها؛ لأن ما تستغرقه حاجته، كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل، كمن معه ماء يحتاج إليه للعطش في التيمم، فإن كانت فاضلة عن حاجته الأصلية، لزمه عتقها؛ لأنه مستغن عنها فإن كان ماله غائباً، ففيه وجهان: أحدهما: له التكفير بالصيام؛ لأن عليه ضرراً في تحريم الوطء إلى حضور المال، فكان له الصوم كالمعسر. والثاني: لا يجزئه إلا العتق؛ لأنه مالك لما يشتري به رقبة، ولأنه فاضل عن كفايته. ولو كان ذلك في كفارة القتل والجماع، لم يكن له التكفير بالصيام؛ لأنه قادر على التكفير بالعتق من غير ضرر، فلزمه، كمن ماله حاضر، ويحتمل أن يجوز له الصوم؛ لأنه عاجز في الحال فأشبه المظاهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 فصل: والاعتبار بحال وجوب الكفارة في أظهر الروايتين؛ لأنها تجب على وجه التطهير، فاعتبر فيها حال الوجوب، كالحد. والثانية: الاعتبار بأغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى الأداء، فأي وقت قدر على العتق، لزمه؛ لأنه حق يجب في الذمة، بوجود المال، فاعتبر فيه أغلظ الأحوال، كالحج. فإن لم يقدر حتى شرع في الصيام، لم يلزمه الانتقال إلى العتق؛ لأنه وجد المبدل بعد الشروع في صوم البدل، فأشبه المتمتع يجد الهدي بعد الشروع في الصيام. وإن أحب الانتقال إليه بعد ذلك أو قبله على الرواية الأولى، فله ذلك؛ لأنه الأصل، فيجزئه كسائر الأصول، إلا العبد إذا أعتق بعد وجوب الكفارة عليه، فليس له إلا الصوم؛ لأنه لم يكن يجزئه غيره عند الوجوب، فكذلك بعده. [ فصل في شروط الرقبة في كفارة الظهار ] فصل: ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة، لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . نص على المؤمنة في كفارة القتل، وقسنا عليها سائر الكفارات؛ لأنها في معناها. وعنه: يجزئه في سائر الكفارات ذمية، لإطلاق الرقبة فيها. فصل: ولا يجزئ إلا رقبة سالمة من العيوب المضرة بالعمل ضرراً بيناً؛ لأن المقصود تمليك العبد منفعته، وتمكينه من التصرف، ولا يحصل هذا مع العيب المذكور، فلا يجزئ الأعمى؛ لأنه يعجز عن الأعمال التي يحتاج فيها إلى البصير، ولا الزمن، ولا مقطوع اليد أو الرجل؛ لأنه يعجز عن أعمال كثيرة، ولا مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى من اليد؛ لأن نفعها يبطل بهذا، ولا مقطوع الخنصر والبنصر في يد واحدة كذلك، وقطع أنملتين من أصبع كقطعها؛ لأن نفعها يذهب بذلك، ولا يمنع قطع أنملة واحدة؛ لأنها تصير كالإصبع القصيرة إلا الإبهام، فإنها أنملتان، فذهاب إحداهما كقطعها، لذهاب نفعها، وإن قطعت الخنصر من يد، والبنصر من أخرى، لم يمنع؛ لأن نفع اليد لا يبطل به. ولا يجزئ الأعرج عرجاً فاحشاً؛ لأنه يضر بالعمل، فهو كقطع الرجل، فإن كان عرجاً يسيراً، أجزأ؛ لأنه لا يضر ضرراً بيناً. ولا يجزئ الأخرس الذي لا تفهم إشارته، فإن فهمت إشارته، فالمنصوص أن الأخرس لا يجزئ. وقال القاضي وأبو الخطاب: يجزئ، إلا أن يجتمع معه الصمم، فإنهما إذا اجتمعا أضرا ضرراً بيناً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 ولا يجزئ المجنون جنوناً مطبقاً؛ لأنه لا يصلح لعمل، ولا من أكثر زمنه الجنون؛ لأنه يعجز عن العمل في أكثر زمنه، فإن كان أكثره الإفاقة، ولا يمنعه من العمل، أجزأ لعدم الضرر البين. فصل: ويجزئ الأعور؛ لأنه يدرك ما يدركه ذو العينين، وأجدع الأنف والأذنين والأصم؛ لأنه كغيره في العمل. ويجزئ الخصي والمجبوب كذلك، ويجزئ المرهون والجاني والمدبر وولد الزنا كذلك، ويجزئ الأحمق وهو الذي يخطئ ويعتقد خطأه صواباً. ويجزئ المريض الموجو برؤه، والنحيف القادر على العمل، فأما ما لا يرجى برؤه، أو لا يقدر على العمل فلا يجزئ؛ لأنه لا عمل فيه. ويجزئ عتق الغائب، المعلوم حياته؛ لأنه ينتفع بنفسه حيث كان، وإن شك في حياته، لم تبرأ ذمته؛ لأن الوجوب ثابت بيقين، فلا يزول بالشك، فإن تبين أنه كان حياً، تبينا أن الذمة برئت بعتقه. فصل: ولا يجزئ عتق الجنين؛ لأنه لم يثبت له أحكام الرقاب، فإن أعتق صبياً، فقال الخرقي: لا يجزئه حتى يصلي ويصوم؛ لأن الإيمان قول وعمل، ولأنه لا يصح منه عبادة، لفقد التكليف، فلم يجزئ في الكفارة كالمجنون. وقال القاضي: لا يجزئ من له دون السبع في ظاهر كلام أحمد، وقال في موضع آخر: يجزئ عتق الصغير في جميع الكفارات، إلا كفارة القتل، فإنها على روايتين. وقال أبو بكر وغيره: يجزئ الطفل في جميع الكفارات؛ لأنه ترجى منافعه وتصرفه، فأجزأ كالمريض المرجو. ولا يجزئ عتق مغصوب؛ لأنه ممنوع من التصرف في نفسه، فأشبه الزمن. فصل: ولا يجزئ عتق أم الولد في ظاهر المذهب؛ لأن عتقها مستحق بسبب آخر، فلم يجزئ كعتق قريبه، ولأن الرق فيها غير كامل، بدليل أنه لا يملك نقل ملكه فيها، وعنه: تجزئ؛ لأنها رقبة، فتتناول الآية بعمومها. وفي المكاتب ثلاث روايات: إحداهن: يجزئ مطلقاً. والأخرى: لا يجزئ مطلقاً، ووجهها ما ذكرنا. والثالثة: إن أدى من كتابته شيئاً، لم يجزئ؛ لأنه حصل العوض عن بعضها، فلم يعتق رقبة كاملة، وإن لم يؤد شيء أجزأ؛ لأنه لم يقتض عن شيء منها، أشبه المدبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 فصل: وإن اشترى من يعتق عليه ينوي بشرائه العتق عن الكفارة، عتق ولم يجزئه؛ لأن عتقه مستحق في الكفارة، فلم يجزئه، كما لو استحق عليه الطعام في النفقة، فدفعه عن الكفارة. وإن اشترى عبداً بشرط العتق، فأعتقه عن الكفارة، لم يجزه كذلك، ولو قال: إن وطئتك فعلي أن أعتق عبدي، ثم وطئها وأعتق العبد عن ظهاره، أجزأه؛ لأنه لم يتعين عتقه عن الإيلاء، بل هو مخير بين عتقه، وبين كفارة يمين. فصل: ولو ملك نصف عبد وهو موسر، فاعتق نصيبه، ونوى عتق الجميع عن كفارته، لم يجزئه في قول الخلال وصاحبه، وحكاه صاحبه عن أحمد؛ لأن عتق النصيب الذي لشريكه استحق بالسراية، فلم يجزئه، كما لو اشترى قريبه ينوي به التكفير. وقال غيرهما: يجزئ؛ لأن حكم السراية حكم المباشرة، بدليل أنه لو جرحه فسرى إلى نفسه، كان كمباشرة قتله، وإن كان معسراً عتق نصيبه، فإن ملك النصف الآخر فأعتقه عن الكفارة، أجزأه؛ لأنه أعتق جميعه في وقتين، فأجزأ، كما لو أطعم المساكين في وقتين. وإن أعتق نصف عبدين، فقال الخرقي: يجزئ؛ لأن أبعاض الجملة كالجملة في الزكاة والفطرة، كذلك في الكفارة. وقال أبو بكر: لا يجزئ؛ لأن المقصود تكميل الأحكام، ولا يحصل بإعتاق نصفين، فعلى قوله، إذا أعتق الموسر نصف عبد، عتق جميعه، ولا يجزئه إعتاق نصف آخر. فإن أعتق عبده عن كفارة غيره بغير إذنه، لم يجزئه؛ لأنها عبادة، فلم تجز عن غيره بغير أمره مع كونه من أهل الأمر، كالحج، إلا أن يكون ميتاً، فيجزئ عنه؛ لأنه لا سبيل إلى إذنه، فصح من غير إذنه، كالحج عنه. وإن أعتقه عن كفارة حي بأمره، صح، وأجزأ عن الكفارة إذا نواها؛ لأنه أعتق عنه بأمره، فأجزأه، كما لو ضمن له عوضاً وعنه: لا يجزئ إلا أن يضمن له عوضاً؛ لأن العتق بغير عوض كالهبة، ومن شرطها القبض، ولم يحصل. [ فصل الصيام في كفارة الظهار ] فصل: ومن لم يجد رقبة وقدر على الصيام، لزمه صيام شهرين متتابعين، فإن شرع في أول شهر، أجزأه صيام شهرين بالأهلة، تامين كانا، أو ناقصين، وإن دخل في أثناء شهر، صام شهراً بالهلال، وأتم الشهر الذي دخل فيه بالعدد ثلاثين يوماً لما ذكرنا فيما تقدم. فإن أفطر يوماً لغير عذر، لزمه استئناف الشهرين؛ لأنه أمكنه التتابع، فلزمه. وإن حاضت المرأة أو نفست، أو أفطرت لمرض مخيف، أو جنون، أو إغماء، لم ينقطع التتابع؛ لأنه لا صنع لها في الفطر. وإن أفطر لسفر، فظاهر كلام أحمد: أنه لا ينقطع التتابع؛ لأنه عذر مبيح للفطر، أشبه المرض. ويتخرج في السفر والمرض غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 المخوف، أنه يقطع التتابع؛ لأنه أفطر باختياره، فقطع التتابع، كالفطر لغير عذر. وإن أفطرت الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما، فهما كالمريض، وإن أفطرتا خوفاً على ولديهما، احتمل أن لا ينقطع التتابع؛ لأنه عذر مبيح للفطر، أشبه المرض، واحتمل أن ينقطع؛ لأن الخوف على غيرهما، ولذلك أوجب الكفارة مع قضاء رمضان. ومن أكل يظن أن الفجر لم يطلع، وقد طلع، أو يظن أن الشمس قد غابت، ولم تغب، أفطر. وفي قطع التتابع، وجهان، بناء على ما تقدم وإن نسي التتابع، أو تركه جاهلاً بوجوبه، انقطع؛ لأنه تتبع واجب، فانقطع بتركه جهلاً أو نسياناً، كالموالاة في الطهارة. وإن أفطر يوم فطر أو أضحى، أو أيام التشريق، لم ينقطع به التتابع؛ لأنه فطر واجب أشبه الفطر للحيض، ويكمل الشهر الذي أفطر فيه يوم الفطر ثلاثين يوماً؛ لأنه بدأ من أثنائه. وإن صام ذا الحجة، قضى أربعة أيام، وحسب بقدر ما أفطر؛ لأنه بدأ من أوله. وإن قطع صوم الكفارة بصوم رمضان، لم ينقطع التتابع؛ لأنه زمن منع الشرع صومه في الكفارة، أشبه زمن الحيض. وإن صام أثناء الشهرين عن نذر، أو قضاء، أو تطوعاً، انقطع التتابع؛ لأنه قطع صوم الكفارة اختياراً لسبب من جهته، فأشبه ما لو أفطر لغير عذر. وإن كان عليه نذر في كل يوم خميس، قدم صوم الكفارة عليه، وقضاه بعدها وكفر؛ لأنه لو صام، لم يمكنه التكفير بحال. فصل: وإن وطئ التي ظاهر منها في ليالي الصوم، لزمه الاستئناف، لقول الله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] . أمر بهما خاليين عن التماس، ولم يوجد، وعنه: لا ينقطع التتابع؛ لأنه وطء لا يفطر به. فلم يقطع التتابع، كوطء غيرها، وإن وطئ غيرها ليلاً، لم ينقطع التتابع؛ لأنه غير ممنوع منه، وإن وطئها نهاراً ناسياً أفطر، وانقطع التتابع وعنه: لا يفطر ولا ينقطع التتابع به. [ فصل الإطعام في كفارة الظهار ] فصل: ومن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض غير مرجو الزوال، أو شبق شديد أو نحوه، لزمه إطعام ستين مسكيناً؛ لأن سلمة بن صخر لما أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشدة شبقه، أمره بالإطعام، وأمر أوس بن الصامت بالإطعام حين قالت امرأته: إنه شيخ كبير ما به من صيام. فإن قدر على ستين مسكيناً لم يجزئه أقل منهم، وعنه: يجزئه ترديد الإطعام على واحد ستين يوماً؛ لأنه في معنى إطعام ستين مسكيناً، لكونه قد دفع في كل يوم حاجة مسكين، وعنه: لا يجزئه إلا إطعام ستين مسكيناً، سواء وجدهم أو لم يجدهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 لظاهر قوله: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . والمذهب أن ذلك يجزئ مع تعذر المساكين للحاجة، ولا يجزئ مع وجودهم؛ لأنه أمكن امتثال الأمر بصورته ومعناه. فصل: والواجب أن يدفع إلى كل مسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير، لما روى الإمام أحمد: بإسناده عن أبي يزيد المدني قال: «جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمظاهر: أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر» وهذا نص، ولأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام، فكان منها لكل فقير من التمر نصف صاع، كفدية الأذى. وأما المد من البر، فيجزئ؛ لأنه قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويجب أن يملك كل فقير هذا القدر، فإن دفعه إليهم مشاعاً، فقال: هذا بينكم بالسوية، فقبلوه، أجزأه لأنه دفع إليهم حقهم، فبرئ منه كالدين. وقال ابن حامد: يجزئه، وإن لم يقل بالسوية؛ لأن قوله: عن كفارتي يقتضي التسوية، وإن غداهم أو عشاهم ستين مداً، ففيه روايتان: أحدهما: يجزئ لقول الله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . وهذا قد أطعمهم، ولأن أنساً فعل ذلك، وظاهر المذهب أنه لا يجزئ؛ لأنه لا يعلم وصول حق كل فقير إليه، ولأنه حق وجب للفقراء شرعاً، فوجب تمليكهم إياه كالزكاة، ولا يجب التتابع في الإطعام لأن الأمر به مطلق لا تقييد فيه. فصل: ويجزئه في الإطعام ما يجزئه في الفطرة، سواء كانت قوت بلده أو لم تكن، وإن أخرج غيرها من الحبوب التي هي قوت بلده أجزأه، ذكره أبو الخطاب، لقول الله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، فإن أخرج غير قوت بلده، خيراً منه، جاز لأنه زاد على الواجب، وإن كان أنقص منه، لم يجزئ وقال القاضي: لا يجزئ إخراج غير ما يجزئ في الفطرة لأنه إطعام للمساكين، فأشبه الفطرة، والأول أجود، لموافقته ظاهر النص، ويجوز إخراج الدقيق إذا بلغ قدر مد من الحنطة، وفي الخبز روايتان: إحداهما: يجزئه، لقول الله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . ومخرج الخبز قد أطعمهم، والأخرى لا يجزئه؛ لأنه قد خرج عن حال الكمال، والادخار، فأشبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 الهريسة، فإذا قلنا: يجزئه، اعتبر أن يكون من مد بر فصاعداً، فإن أخذ مد حنطة فطحنه وخبزه، أجزأه. وقال الخرقي: لكل مسكين رطلا خبز؛ لأن الغالب أنهما لا يكونان إلا من مد فأكثر، وفي السويق وجهان، بناء على الروايتين في الخبز، ولا تجزئ الهريسة والكبولاء؛ لأنه خرج عن الاقتيات المعتاد، ولا القيمة؛ لأنه أحد ما يكفر به، فلم تجزئ القيمة فيه، كالعتق. فصل: ولا يجوز صرفها إلا إلى الفقراء، والمساكين؛ لأنهما صنف واحد في غير الزكاة، ولا يجوز دفعها إلى غني، وإن كان من أصناف الزكاة؛ لأن الله تعالى، خص بها المساكين، ولا إلى مكاتب كذلك، وقال الشريف أبو جعفر: يجوز دفعها إليه؛ لأنه يأخذ من الزكاة لحاجته، فأشبه المسكين، والأول أولى؛ لأن الله تعالى خص بها المساكين، والمكاتب صنف آخر، فأشبه المؤلفة. ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع الزكاة إليه، كالعبد والكافر، ومن تلزمه مؤنته لما ذكرنا في الزكاة. وخرج أبو الخطاب وجهاً آخر، في جواز الدفع إلى الكافر، بناء على عتقه، ولا يصح؛ لأنه كافر، فلم يجز الدفع إليه كالمستأمن. فصل: ولا تجزئ كفارة إلا بالنية، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ولأنه حق يجب على سبيل الطهرة، فافتقر إلى النية كالزكاة، فإن كانت عليه كفارات من جنس، لم يلزمه تعيين سببها، وإن كانت من أجناس، فكذلك؛ لأنها كفارات، فلم يجب تعيين سببها، كما لو كانت من جنس، وقال القاضي: يحتمل أن يلزمه تعيين سببها؛ لأنها عبادات من أجناس، فوجب تعيين النية لها، كأنواع الصيام، فلو كانت عليه كفارة لا يعلم سببها، فأعتق رقبة، أجزأه على الوجه الأول، وعلى الوجه الثاني، ينبغي أن تلزمه كفارات بعدد الأسباب، كما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، ولا يلزم نية التتابع في الصيام؛ لأن العبادة هي الصوم، والتتابع شرط فيه، فلم تجب نيته، كالاستقبال في الصلاة. فصل: وإن كان المظاهر كافراً، كفر بالعتق والإطعام؛ لأنه يصح منه من غير الكفارة، فصح منه فيها، ولا يكفر بالصوم؛ لأنه لا يصح منه في غيرها، فكذلك فيها، وإن أسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 قبل التكفير، كفر بما يكفر به المسلمون. فصل: ولا يجوز تقديم الكفارة على سببها؛ لأن الحكم لا يجوز تقديمه على سببه، كتقديم الزكاة قبل الملك، ولو كفر عن الظهار قبل المظاهرة، أو عن اليمين قبلها، أو عن القتل قبل الجرح، لم يجز كذلك، وإن كفر بعد السبب، وقبل الشرط، جاز، فإذا كفر عن الظهار بعده وقبل العود، وعن اليمين بعدها وقبل الحنث، وعن القتل بعد الجرح وقبل الزهوق؛ جاز؛ لأن الله تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير» ولأنها كفارة فجاز تقديمها على شرطها، ككفارة الظهار، ولأنه حق مالي، فجاز تقديمه قبل شرطه، كالزكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 [ كتاب اللعان ] . ومتى قذف الرجل زوجته المحصنة بزنى، في قبل أو دبر، فقال: زنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين، لزمه الحد، إلا أن يأتي ببينة، أو يلاعنها، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] . دلت الآية الأولى على وجوب الحد، إلا أن يسقطه بأربعة شهداء. والثانية: على أن لعانه يقوم مقام الشهداء في إسقاط الحد، وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن هلال بن أمية قذف امرأته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 ظهري من الحد، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] » . رواه البخاري. ولأن الزوج يبتلي بقذف امرأته، لنفي العار والنسب الفاسد، وتتعذر عليه البينة، ولأنه قد يحتاج إلى نفي النسب الفاسد، ولا ينتفي إلا باللعان، لتعذر الشهادة على نفيه، وله الملاعنة، وإن قدر على البينة كذلك، ولأنهما حجتان، فملك إقامة أيهما شاء، كالرجلين، والرجل والمرأتين في المال. فصل: ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته؛ لأن الحق لها، فلا يستوفى من غير طلبها، كالدين، فإن عفت عن الحد، أو لم تطالب، لم تجز مطالبته ببينة ولا حد ولا لعان، ولا يملك ولي المجنونة، والصغيرة وسيد الأمة، المطالبة بالتعزيز من أجلهن؛ لأنه حق ثبت للتشفي، فلا يقوم غير المستحق مقامه فيه، كالقصاص. فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها، وليس بينهما نسب يريد نفيه، لم يملك ذلك؛ لأنه لا حاجة إليه، وإن كان بينهما نسب يريد نفيه، فله أن يلاعن؛ لأنه محتاج إليه، فيشرع كما لو طالبته، ولأن نفيه حق له، فلا يسقط برضاها به ويحتمل ألا يشرع اللعان، كما لو صدقته. [ فصل في شروط المتلاعنين ] فصل: ويصح اللعان بين كل زوجين مكلفين، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولأن اللعان لدرء عقوبة القذف، ونفي النسب الباطل، والكافر والعبد كالمسلم الحر فيه، وعنه: لا يصح اللعان إلا بين مسلمين، عدلين حرين غير محدودين في قذف؛ لأن اللعان شهادة، بدليل قول الله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] فلا يقبل ممن ليس من أهل الشهادة، وقال القاضي: من لا يحد بقذفها كالذمية والأمة، والمحدودة في الزنا، إن كان بينهما ولد يريد نفيه، فله اللعان لنفيه؛ لأنه محتاج إليه، وإلا فلا لعان بينهما لأن اللعان لإسقاط حد، أو نفي نسب، ولم يوجد واحد منهما. وإن كان أحد الزوجين صبياً، أو مجنوناً، فلا لعان بينهما؛ لأن غير المكلف لا حكم لقوله، ونفي حكم الولد، إنما يحصل بتمام اللعان، ولا يتم اللعان مع عدم القول منها. وقال القاضي: له لعان المجنونة، إن كان ثم نسب يريد نفيه؛ لأنه محتاج إليه، فإن كان أحدهما أخرس وليست له إشارة مفهومة، ولا كتابة، فهو كالمجنون. لأنه لا يعلم طلبها، ولا يتصور لعانهما. وإن كان له إشارة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 مفهومة، أو كتابة، صح اللعان منهما؛ لأنه كالناطق في نكاحه وطلاقه، فكذلك في لعانه، وعن أحمد: إذا كانت المرأة خرساء، فلا لعان بينهما؛ لأنه لا يعلم طلبها، فيحتمل أن يحمل على عمومه في كل خرساء؛ لأن إشارتها لا تخلو من تردد واحتمال. والحد يدرأ بالشبهة، ويحتمل أن يختص بمن لا تفهم إشارتها؛ لأنه علل بأنه لا تفهم مطالبتها. وإن اعتقل لسان الناطق، وأيس من نطقه، فهو كالأخرس، وإن رجي نطقه، لم يصح لعانه؛ لأنه غير مأيوس من نطقه، فأشبه الساكت. فصل: ويصح اللعان بين الزوجين قبل الدخول، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] . وبعد الطلاق الرجعي؛ لأن الرجعية زوجته، فتدخل في العموم، ولا يصح من غير الزوجين، للآية. فإن قذف من كانت زوجته، فبانت منه بزنا، لم يضفه، إلى حال الزوجية، فلا لعان بينهما؛ لأنه قذف أجنبية، وإن أضافه إلى حال الزوجية، وبينهما ولد يريد نفيه، لاعن لنفيه؛ لأنه محتاج إليه فصح منه، كحال الزوجية. وإن لم يكن بينهما ولد، حد، ولم يلاعن؛ لأنه لا حاجة به إليه، فأشبه قذف الأجنبية. ولو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً يا زانية، فنص أحمد: على أنه يلاعن، فنحمله على من بينهما ولد؛ لأنه يتعين إضافة قذفها إلى حال الزوجية. ولو نكح امرأة نكاحاً فاسداً ثم قذفها، فالحكم فيها كالمطلقة. إن كان بينهما ولد، لاعن لنفيه، وإلا فلا؛ لأن النسب يلحق في النكاح الفاسد، فيحتاج إلى اللعان لنفيه، وإن قذف أجنبية ثم تزوجها، حد، ولم يلاعن؛ لأنه قذف أجنبية قذفاً لا حاجة به إليه. وإن قذفها بزنا، أضافه إلى ما قبل النكاح. فإن كان يتعلق به نفي نسب عنه، فله اللعان، وإلا فلا. ونقل عن أحمد في هذا روايتان: إحداهما: لا يلاعن؛ لأنه قذفها في حال كونها أجنبية، أشبه ما لو قذفها قبل نكاحه لها. والثانية: يشرع اللعان؛ لأنه قذف زوجته. [ باب صفة اللعان ] . وصفته: أن يقول الرجل بمحضر من الحاكم أو نائبه: أشهد بالله إني لمن الصادقين، فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ويشير إليها إن كانت حاضرة، وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 كانت غائبة سماها، ونسبها حتى تنتفي المشاركة، ثم يقول: وإن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت فيه زوجتي هذه من الزنا، ثم تقول المرأة أربع مرات: أشهد بالله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتشير إليه، فإن كان غائباً سمته، ونسبته، ثم تقول: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني من الزنا، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] . الآيات. وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس: «أن هلال بن أمية قذف امرأته، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فجاءت، فتلا عليهم آية اللعان، وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله لقد صدقت عليها، فقالت: كذب فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاعنوا بينهما فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة، أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها: اشهدي، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة، وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما وقضى أن لا بيت لها من أجل أنهما يتفرقان عن غير طلاق، ولا متوفى عنها» . [ فصل في شروط صحة اللعان ] فصل: وشروط صحة اللعان ستة: أحدها أن يكون بمحضر من الحاكم، أو نائبه؛ لأنه يمين في دعوى فاعتبر فيه أمر الحاكم، كسائر الدعاوى، وإن كانت المرأة برزة أرسل إليها فأحضرها، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامرأة هلال. وإن لم تكن برزة، بعث من يلاعن بينهما، كما يبعث من يستخلفها في سائر الدعاوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 الثاني: أن يأتي به بعد إلقائه عليه، فإن بادر به قبل ذلك، لم يعتد به، كما لو حلف قبل أن يستحلفه الحاكم. الثالث: كمال لفظاته الخمس. فإن نقص منها شيئاً، لم يعتد به لأن الله علق الحكم عليها، فلا يثبت بدونها، ولأنها بينة، فلم يجز النقص من عددها، كالشهادة. الرابع: الترتيب على ما ورد به الشرع. فإن بدأ بلعان المرأة، لم يعتد به؛ لأنه خلاف ما ورد به الشرع، ولأن لعان الرجل بينة، للإثبات، ولعان المرأة بينة للإنكار، فلم يجز تقديم الإنكار على الإثبات. فإن قدم الرجل اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة، أو المرأة الغضب على شيء منها، لم يعتد بها؛ لأن الله تعالى جعلها الخامسة، فلا يجوز تغييره. الخامس: الإتيان بصورة الألفاظ الواردة في الشرع، فإن أبدل الشهادة ببعض ألفاظ اليمين، كقوله: أقسم، أو أحلف، أو أولي، أو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد، أو الغضب بالسخط، أو غيره، لم يعتد به؛ لأنه ترك المنصوص، ولأنه موضع ورد الشرع فيه بلفظ الشهادة، فلم يجز إبداله، كالشهادة في الحقوق. وفيه وجه آخر: أنه يجزئ؛ لأن معناهما واحد. وقال الخرقي: يقول الرجل: أشهد بالله لقد زنت، وليس هذا لفظ النص، فيدل ذلك على أنه لم يشترط اللفظ. وإن أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة، لم يجز؛ لأن الغضب أغلظ، ولذلك خصت به المرأة؛ لأن المعرة والإثم بزناها أعظم من الحاصل بالقذف. وإن أبدل الرجل اللعنة بالغضب، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لمخالفته المنصوص. والثاني: يجوز؛ لأنه أبلغ في المعنى. السادس: الإشارة من كل واحد إلى صاحبه، إن كان حاضراً. أو تسميته ونسبه بما يتميز به إن كان غائباً، ليحصل التميز عن غيره. وقال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الفقهاء يشترطون أن يزاد: فيما رميتها به من الزنا، وفي نفيها عن نفسها: فيما رماني به من الزنا، ولا أراه يحتاج إليه؛ لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه، ولم يذكر هذا، ولم يأت بالخبر في صفة اللعان عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاشتراطه زيادة. فصل: ويشترط في اللعان: العربية لمن يحسنها، ولا يصح بغيرها؛ لأن الشرع ورد به بالعربية، فلم يصح بغيرها، كأذكار الصلاة. وإن لم يحسن العربية، جاز بلسانه؛ لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 يحتاج إليه، فجاز بلسانه، كالنكاح. فإن عرف الحاكم لسانه، أجزأ، وإن لم يعرف لسانه، أحضر عدلين يترجمان عنه، ولا يقبل أقل منهما؛ لأنه بمنزلة الشهادة عليه. فصل: فإن كان بينهما ولد يريد نفيه، لم ينتف إلا بذكره في اللعان. فإن لم يذكره، أعاد اللعان، هذا ظاهر قول الخرقي، واختاره القاضي. وقال أبو بكر: لا يحتاج إلى ذكره، وينتفي بزوال الفراش؛ لأن حديث سهل بن سعد وصف فيه اللعان، ولم يذكر فيه الولد. وقال فيه: «ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وقضى أنه لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى، ولا يرمى ولدها» . رواه أبو داود. والأول أصح؛ لأن ابن عمر قال: «لاعن رجل امرأته في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالمرأة» متفق عليه والزيادة في الثقة مقبولة. ولأن من سقط حقه باللعان اشترط ذكره فيه، كالزوجة. وتذكره المرأة في لعانها؛ لأنهما يتحالفان عليه، فاشترط ذكره في تحالفهما، كالمختلفين في الثمن، ويحتمل أن لا يشترط ذكرها له لأنها لا تنفيه. والأول المذهب. ولا بد من ذكره في كل لفظة، فإذا قال: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، يقول: وما هذا الولد ولدي، وتقول هي: وهذا الولد ولده، في كل لفظة. وذكر القاضي: أنه يشترط أن يقول: هذا الولد من زنا وليس مني، لئلا يعني بقوله: ليس مني خلقاً وخلقاً، ولا يكفيه قوله: هو من زنا؛ لأنه قد يعتقد الوطء في النكاح الفاسد زنا، والصحيح الأول؛ لأنه نفى الولد، فينتفي عنه كما لو قال ذلك. [ فصل ما يسن في اللعان ] فصل: ويسن في اللعان أربعة أمور: أحدها: أن يتلاعنا قياماً؛ لأن في بعض ألفاظ حديث ابن عباس، فقام هلال، فشهد، ثم قامت فشهدت، ولأن فعله في القيام أبلغ في الردع. الثاني: أن يكون بمحضر من جماعة؛ لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد، حضروه مع حداثة أسنانهم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما يحضر الصبيان تبعاً للرجال، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 ولأن اللعان بني على التغليظ، للردع والزجر، وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك. والثالث: أن يعظهما الحاكم بعد الرابعة ويخوفهما، كما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس. والرابع: أن يضع رجل يده على فيّ الملاعن بعد الرابعة، يمنعه المبادرة إلى الخامسة، إلى أن يعظه الحاكم، ثم يرسلها، وتفعل امرأة بالملاعنة بعد رابعتها كذلك، لما روى ابن عباس في خبر المتلاعنين قال: «فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم أمر به فأمسك على فيه، فوعظه وقال: ويحك كل شيء أهون عليك من لعنة الله، ثم أرسل فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم دعا بها فقرأ عليها، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها، وقال: ويلك كل شيء أهون عليك من غضب الله» . أخرجه الجوزجاني. فصل: ولا يسن التغليظ بزمن ولا مكان؛ لأنه لم يرد به أثر، ولا فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما دل الحديث على أن لعانهما كان في صدر النهار، لقوله في الحديث: فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث. والغدو إنما يكون أول النهار. وقال أبو الخطاب: يستحب التغليظ بهما، فيتلاعنان بعد العصر، لقول الله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] يعني: بعد العصر، ويكون في الأماكن الشريفة عند المنابر في الجامع، إلا في مكة بين الركن والمقام، وفي المسجد الأقصى عند الصخرة؛ لأنه أبلغ في الردع والزجر، ولله الحمد والمنة. [ باب ما يوجب اللعان من الأحكام ] . وهي أربعة أحكام: أحدها: سقوط الحد، أو التعزير الذي أوجبه القذف؛ لأن هلال بن أمية قال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، ولأن شهادته أقيمت مقام بينة مسقطة للحد، كذلك لعانه، ويحصل هذا بمجرد لعانه كذلك. وإن نكل عن اللعان، أو عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 تمامه، فعليه الحد. فإن ضرب بعضه، ثم قال: أنا ألاعن، سمع ذلك منه؛ لأن ما أسقط جميع الحد، أسقط بعضه، كالبينة. ولو نكلت المرأة عن الملاعنة ثم بذلتها، سمعت منها كالرجل. وإن قذف امرأته برجل سماه، سقط حكم قذفه بلعانه، وإن لم يذكره فيه؛ لأن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك بن سحماء، ولم يذكره في لعانه، ولم يحده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عزره له. ولأن اللعان بينة في أحد الطرفين، فكان بينة في الآخر كالشهادة. وقال أبو الخطاب: يلاعن، لإسقاط الحد لها وللمسمى. فصل: الحكم الثاني: نفي الولد. وينتفي عنه بلعانه على ما ذكرناه لما ذكرنا من الحديث فيه، ولأنه أحد مقصودي اللعان، فيثبت به كإسقاط الحد. فصل: فإن نفى الحمل في لعانه، فقال الخرقي: لا ينتفي حتى ينفيه بعد وضعها له، ويلاعن؛ لأن الحمل غير متيقن، يحتمل أن يكون ريحاً فيصير اللعان مشروطاً بوجوده، ولا يجوز تعليقه على شرط، وظاهر كلام أبي بكر صحة نفيه، لظاهر حديث هلال بن أمية، فإن لاعنها قبل الوضع، بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنظروها فإن جاءت به كذا وكذا» ونفى عنه الولد، ولأن الحمل تثبت أحكامه قبل الوضع من وجوب النفقة والمسكن، ونفي طلاق البدعة، ووجوب الاعتداد به، وغير ذلك، فكان كالمتيقن. فصل: فإن ولدت توأمين، فنفى أحدهما واستلحق الآخر لحقاه جميعاً؛ لأنه لا يمكن جعل أحدهما من رجل، والآخر من غيره، والنسب يحتاط لإثباته، لا لنفيه. وإن نفى أحدهما وترك الآخر، ألحقناهما به جميعاً كذلك. فصل: وإن أقر بالولد، أو هنأ به فسكت أو أمن على الدعاء، أو دعا لمن هنأه به، لزمه نسبه، ولم يملك نفيه؛ لأن هذا جواب الراضي به، وكذلك إن علم فسكت، لحقه؛ لأنه خيار لدفع ضرر متحقق، فكان على الفور، كخيار الشفعة. وهل يتقدر بالمجلس، أو يكون عقيب الإمكان؟ على وجهين: بناء على خيار الشفعة. وإن أخره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 لعذر، كأداء صلاة حضرت، أو أكل لدفع الجوع، وأشباه هذا من أشغاله، أو للجهل بأن له نفيه، أو بوجوب نفيه على الفور، لم يبطل خياره؛ لأن العادة جارية بتقديم هذه الأمور، والجاهل معذور. وإن ادعى الجهل بذلك قبل منه؛ لأن هذا مما يخفى، إلا أن يكون فقيهاً، فلا يقبل منه؛ لأنه في مظنة العلم. وإذا أخره لعذر مدة يسيرة، لم يحتج أن يشهد على نفسه، وإن طالت، أشهد على نفسه بنفيه، كالطلب بالشفعة. وإن قال: لم أصدق المخبر وكان الخبر مستفيضاً، أو المخبر مشهور العدالة، لم يقبل قوله. وإن لم يكن كذلك، قبل. وإن أخر نفي الحمل، لم يسقط نفيه؛ لأنه غير مستحق، وإن استلحقه، لم يلحقه كذلك، إلا على قول أبي بكر. وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة، وأمكن صدقه، فالقول قوله، وإلا فلا. وإن أخر نفيه رجاء موته، ليكفى أمر اللعان، سقط حقه من النفي. فصل: الحكم الثالث: الفرقة، وفيها روايتان: إحداهما: لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما، لقول ابن عباس في حديثه: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما. وفي حديث عويمر: «أنه قذف زوجته، فتلاعنا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. فدل على أن الفرقة لم تحصل بمجرد اللعان. فعلى هذا، إن طلقها قبل التفريق، لحقها طلاقه، وللحاكم أن يفرق بينهما من غير طلب ذلك منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بينهما من غير استئذانهما، وعليه أن يفرق بينهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بينهما. والثانية: تحصل الفرقة بمجرد لعانهما؛ لأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد، فلم يقف على تفريق الحاكم، كالرضاع. ولأن الفرقة لو وقفت على تفريق الحاكم، لساغ ترك التفريق إذا لم يرضيا به، كالتفريق للعيب، والإعسار، وتفريق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما بمعنى: أنه أعلمهما بحصول الفرقة باللعان. وعلى كلتا الروايتين، ففرقة اللعان فسخ؛ لأنها فرقة توجب تحريما مؤبداً، فكانت فسخاً، كفرقة الرضاع. فصل: الحكم الرابع: التحريم المؤبد يثبت، لما روى سهل بن سعد قال: «مضت السنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 في المتلاعنين، أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً» . رواه الجوزجاني. ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الجلد والتكذيب، فلم يرتفع بهما، كتحريم الرضاع. وقد روى عنه حنبل: أنه إذا أكذب نفسه عاد فراشه كما كان وهذه الرواية شذ بها عن سائر أصحابه. قال أبو بكر: والعمل على الأول. وإن لاعنها في نكاح فاسد، أو بعد البينونة لنفي نسب، ثبت التحريم المؤبد؛ لأنه لعان صحيح، فأثبت التحريم، كاللعان في النكاح الصحيح. ويحتمل أنه لا يثبت التحريم؛ لأنه لم يرفع فراشاً، فلم يثبت تحريماً، كغير اللعان. ولو لاعنها في نكاح صحيح وهي أمة، ثم اشتراها، لم تحل له؛ لأنه وجد ما يحرمها على التأبيد، فلم يرتفع بالشراء، كالرضاع. فصل: ولا تثبت هذه الأحكام إلا بكمال اللعان، إلا سقوط الحد وما قام مقامه، فإنه يسقط بمجرد لعانه. فإن مات أحدهما قبل كماله منهما، فقد مات على الزوجية؛ لأن الفرقة لم تحصل بكمال اللعان، ويرثه صاحبه كذلك، ويثبت النسب؛ لأنه لم يوجد ما يسقطه. فإن كان الميت الزوج، فلا شيء على المرأة. وإن ماتت المرأة قبل لعان الزوج، وطلبها بالحد، فلا لعان؛ لأن الحد لا يورث. وإن ماتت بعد طلبها، قام وارثها مقامها في المطالبة، وله اللعان لإسقاط الحد. فصل: وإن أكذب نفسه بعد كمال اللعان، لزمه الحد إن كانت محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة، ويلحقه النسب؛ لأنهما حق عليه، فيلزمانه بإقراره بهما، ولا يعود الفراش، ولا يرتفع التحريم المؤبد؛ لأنهما حق له، فلا يعودان بتكذيبه. فصل: فإن لاعن الزوج ونكلت المرأة عن اللعان، فلا حد عليها؛ لأن زناها لم يثبت، فإنه لو ثبت زناها بلعان الزوج، لم يسمع لعانها، كما لو قامت به البينة، ولا يثبت بنكولها؛ لأن الحد لا يقضى فيه بالنكول؛ لأنه يدرأ بالشبهات، والشبهة متمكنة منه، ولكن تحبس حتى تلتعن، أو تقر. قال أحمد: أجبرها على اللعان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] فإن لم تشهد، وجب أن لا يدرأ عنها العذاب وعنه: يخلى سبيلها، وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه لم يثبت عليها ما يوجب الحد، فيخلى سبيلها، كما لو لم تكمل البينة. وإن صدقته فيما قذفها به، لم يلزمها الحد حتى تقر أربع مرات؛ لأن الحد لا يثبت بدون إقرار أربع، على ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 سنذكره، وحكمها حكم ما لو نكلت، ولا لعان بينهما؛ لأن اللعان إنما يكون مع إنكارها، ولا يستحلف إنسان على نفي ما يقر به. [ باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق ] . إذا تزوج من يولد لمثله بامرأة، فأتت بولد لستة أشهر فصاعداً بعد إمكان اجتماعهما على الوطء، لحقه نسبه في الظاهر من المذهب، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش» ولأن مع هذه الشروط، يمكن كونه منه، والنسب مما يحتاط له، ولم يوجد ما يعارضه، فوجب إلحاقه به. وإن اختل شرط مما ذكرنا، لم يلحق به، وانتفى من غير لعان؛ لأن اللعان يمين، واليمين جعلت لتحقيق أحد الجائزين، أو نفي أحد المحتملين. وما لا يجوز، لا يحتاج إلى نفيه. فصل: وأقل سن يولد لمثله في حق الرجل عشر سنين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» رواه أبو داود. وقال القاضي: تسع سنين وأقل مدة الحمل؛ لأن الجارية يولد لها كذلك، فكذلك الغلام. وقال أبو بكر: لا يلحق به الولد حتى يبلغ. قال ابن عقيل: هو أصح؛ لأن من لا ينزل الماء لا يكون منه ولد. وهذا ليس بسديد؛ لأنهم إن أرادوا بالبلوغ بلوغ خمس عشرة، فهو باطل؛ لأنه يولد له لدون ذلك. وقد روي أنه لم يكن بين عمرو بن العاص وبين ابنه عبد الله إلا اثنتا عشرة سنة. وإن أرادوا الإنزال فيما يعلم، فلابد من ضبطه بأمر ظاهر. وإذا ولدت امرأة غلام، سنه دون ذلك، لم يلحق به، ومن كان مجبوباً مقطوع الذكر والأنثيين، لم يلحق به نسب؛ لأنه لا ينزل مع قطعهما. وإن قطع أحدهما، فقال أصحابنا: يلحق به النسب؛ لأنه إذا بقي الذكر أولج فأنزل. وإن بقيت الأنثيان، ساحق فأنزل. والصحيح أن مقطوع الأنثيين لا يحلق به نسب؛ لأنه لا ينزل إلا ماء رقيقاً لا يخلق منه ولد، ولا تنقضي به شهوة، فأشبه مقطوع الذكر والأنثيين. وإن لم يمكن اجتماع الزوجين على الوطء، بأن يطلقهما عقيب تزويجه بها، أو كان بينهما مسافة لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 يمكن اجتماعها على الوطء معها، لم يلحق به الولد. وإن ولدت زوجته لدون ستة أشهر من حين تزوجها لم يلحقه ولدها؛ لأننا علمنا أنها علقت به قبل النكاح. فصل: وأقل مدة الحمل ستة أشهر، لما روي أن عثمان أتى بامرأة ولدت لدون ستة أشهر، فشاور القوم في رجمها، فقال ابن عباس: أنزل الله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وأنزل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] . فالفصال في عامين، والحمل في ستة أشهر. وذكر ابن القتبي أن عبد الملك بن مروان: ولد لستة أشهر. وأكثرها أربع سنين. وعنه سنتان، لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: لا تزيد المرأة على سنتين في الحمل. والأول المذهب، لما روى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حديث عائشة: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل. قال مالك: سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا أمرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين. وقال أحمد نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاثة بطون، كل دفعة أربع سنين. وغالب الحمل تسعة أشهر؛ لأنه كذلك يقع غالباً. وإذا أتت المرأة بولد بعد فراقها لزوجها، بموت أو طلاق بائن بأربع سنين، لم يلحق به، وانتفى عنه بغير لعان؛ لأنها علقت به بعد زوال الفراش. وإن كان الطلاق رجعياً، فوضعته لأربع سنين منذ انقضت عدتها، فكذلك لذلك. وإن كان لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق، ففيه روايتان: إحداهما: لا يلحق به؛ لأنها علقت به بعد طلاقه، أشبهت البائن. والثانية: يلحقه؛ لأنها في حكم الزوجات، فأشبهت ما قبل الطلاق. وإن وضعته لأقل من أربع سنين، قبل الحكم بانقضاء عدتها، لحق به؛ لأنه أمكن إلحاقه به، والنسب مما يحتاط لإثباته. وإن بانت زوجته منه فوضعت ولداً، ثم وضعت آخر بينهما أقل من ستة أشهر، لحق به؛ لأنهما حمل واحد. وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً، لم يلحق به؛ لأنه حمل ثان، إذ لا يمكن أن يكونا حملاً بينهما مدة الحمل، فيعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية. وإن اعتدت بالأقراء، ثم أتت بولد لدون ستة أشهر، لحق به، لعلمنا أنها حملته في الزوجية، والدم دم فساد رأته في حملها. وإن كان لأكثر من ستة أشهر فصاعداً، لم يلحق به؛ لأننا حكمنا بانقضاء عدتها، فلا تنقضها بالاحتمال. هذا قول أصحابنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 فصل: وإذا تزوجت المرأة بعد انقضاء عدتها، ثم ولدت بعد ستة أشهر منذ تزوجها الثاني، فهو ولده في الحكم لا ينتفي عنه إلا باللعان. وإن ولدت لدون ستة أشهر منذ تزوجها الثاني، لم يلحق به، ولا بالأول، وانتفى عنهما بغير لعان. وإن تزوجت في عدتها، وولدت لدون ستة أشهر من نكاح الثاني، فهو ولد الأول؛ لأنه أمكن أن يكون منه، ولم يمكن إلحاقه بالثاني. وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً، فهذا يحتمل أن يكون منهما، فيرى القافة معهما، فيلحق بمن ألحقوه به منهما. فإن ألحقته بالأول، انتفى عن الثاني بغير لعان؛ لأن نكاحه فاسد. إن ألحقته بالثاني، لحق، وهل له نفيه باللعان؟ على روايتين: إحداهما: له ذلك، والأخرى لا ينتفي عنه بحال. وإن لم توجد قافة، أو أشكل أمره، ففيه روايتان: إحداهما: يُترك حتى يبلغ، فينتسب إلى من شاء منهما، والأخرى يضيع نسبه. فصل: إذا أتت زوجته بولد يمكن أن يكون منه، فقالت: هذا ولدي منك، فقال: ليس هذا ولدي منك، بل استعرتيه، أو التقطتيه، ففيه وجهان: أحدهما: القول قولها؛ لأنه خارج تنقضي به العدة، فالقول قولها فيه، كالحيض. والثاني: القول قوله، ولا يقبل قولها إلا ببينة؛ لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها، والأصل عدمها، فكانت البينة على مدعيها، ويكفي في ذلك امرأة عدلة. وإذا ثبتت ولادتها، لحق نسبه به؛ لأنه ولد على فراشه. وإن كان خلافهما في انقضاء العدة، فالقول قولها في انقضائها بغير بينة؛ لأن المرجع إليها فيها، وإن قال: هو من زوج قبلي ولم يكن لها قبله زوج، أو كان ولم يمكن إلحاقه به، لحقه، ولم يلتفت إلى قوله. وإن قال: هو من وطء شبهة، أو قال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولد مني، فقال الخرقي: هو ولده في الحكم، ولا حد عليه لها؛ لأنه لم يقذفها، ولا لعان بينهما؛ لأن من شرطه القذف ولم يقذفها. وقال أبو الخطاب: هل له أن يلاعن بنفي الولد؟ على روايتين: إحداهما: لا يلاعن كذلك. والثانية: له أن يلاعن؛ لأنه يحتاج إلى نفي النسب الفاسد فشرع، كما لو قذفها. فصل: ومن ولدت زوجته بعد وطئه لها بستة أشهر من غير مشاركة غيره له في وطئها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 لحقه نسب ولدها، ولم يحل له نفيه، لما روى أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين نزلت آية الملاعنة: «أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليها، احتجب الله عنه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» . أخرجه أبو داود، وإن علم أنه من غيره، مثل أن يراها تزني في طهر لم يصبها فيه، فاجتنبها حتى ولدت، لزمه قذفها ونفي ولدها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الحديث: «وأيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته» . فلما حرم عليها أن تُدخل عليهم نسباً ليس منهم، دل على أن الرجل مثله؛ ولأنه إذا لم ينفه، زاحم ولده في حقوقهم، ونظر إلى حرمه، بحكم أنه محرم لهن. وإن لم يرها تزني، لكن علم أن الولد من غيره، لكونه لم يصبها لزمه نفي ولدها كذلك. وليس له قذفها، لاحتمال أن تكون مكرهة، أو موطوءة بشبهة وإن كان يطؤها ويعزل، لم يكن له نفي ولدها، لما روى أبو سعيد الخدري قال: «قالوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا نصيب النساء ونحب الأثمان فنعزل عنهن، فقال: إن الله إذا قضى خَلْق نسمة خلقها» ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق منه. وإن كان يجامعها دون الفرج، أو في الدبر، فقال أصحابنا: ليس له نفيه؛ لأنه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما لا تحس به. فصل: وإن ولدت امرأته غلاماً أسود وهما أبيضان، أو أبيض وهما أسودان، لم يجز له نفيه. ذكره ابن حامد لما روى أبو هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود، يعرض بنفيه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك من إبل، قال: نعم قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً قال: فأنى أتاها ذلك؟! قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق» . قال: ولم يرخص له في الانتفاء منه. متفق عليه. ولأن دلالة ولادته على فراشه قوية، ودلالة الشبهة ضعيفة، فلا يجوز معارضة القوي بالضعيف. ولذلك «لما اختلف عبد بن زمعة، وسعد بن أبي وقاص في غلام. فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد الله بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته. ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شبهاً بيناً لعتبة. فقال: الولد للفراش وللعاهر الحجر» متفق عليه، فاعتبر الفراش دون الشبه. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد، أن له نفيه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة هلال: «انظروها فإن جاءت به أبيض سبطاً، مضيء العينين، فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو لشريك» رواه أحمد ومسلم. فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن» ، أخرجه أبو داود. فجعل الشبه دليلاً على نفيه عن الزوج. فصل: وإن رآها تزني ولم يكن له نسب يلحقه، فله قذفها؛ لأن هلالاً وعويمراً قذفا زوجتيهما قبل أن يكون ثَمَّ نسب ينفى. وله أن يسكت؛ لأنه لا نسب فيه ينفيه، وفراقها ممكن بالطلاق، فيستغني عن اللعان. وإن أقرت عنده بالزنا، فوقع في نفسه صِدْقها، أو أخبره بذلك ثقة، أو استفاض في الناس أن رجلاً يزني بها، ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب، فله قذفها؛ لأن الظاهر زناها. وإن لم ير شيئاً، ولا استفاض سوى أنه رأى رجلاً يخرج من عندها من غير استفاضة، لم يكن له قذفها؛ لأنه يجوز أن يكون دخل هارباً، أو سارقاً، أو ليراودها عن نفسها فمنعته، فلم يجز قذفها بالشك. وإن استفاض ذلك ولم يره يدخل إليها، ففيه وجهان: أحدهما: يجوز قذفها؛ لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يحتمل أن عدواً أشاع ذلك عنها. فصل: ومن ملك أمة، لم تصر فراشاً بنفس الملك؛ لأنه قد يقصد بملكها التمول، أو التجمل، أو التجارة، أو الخدمة، فلم يتعين لإرادة الوطء، فإن أتت بولد ولم يعترف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 به، لم يلحقه نسبه؛ لأنه لم يولد على فراشه، فإذا وطئها، صارت فراشًا له، فإذا أتت بولد لمدة الحمل من حين يوم الوطء، لحقه؛ «لأن سعدًا نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة، فقال عبد بن زمعة: هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر» . متفق عليه. فإن ادعى أنه كان يعزل عنها، لم ينتف عنه الولد بذلك: لما ذكرنا في الزوجة. وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما بال قوم يطؤون ولائدهم ثم يعزلونهن، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد ذلك، أو اتركوا، وإن اعترف بوطئها دون الفرج فقال أصحابنا: يلحقه نسب ولدها؛ لأن الماء قد يسبق إلى الفرج من حيث لا يعلم. وإن انتفى من ولدها بعد اعترافه بوطئها، لم يلاعن؛ لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، ولا ينتفي عنه، إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد وطئه لها، فإن ادعى ذلك، فالقول قوله، وينتفي ولدها عنه، ويقوم ذلك مقام اللعان في نفي الولد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 [ كتاب العدد ] إذا فارق الرجل زوجته في حياته قبل المسيس والخلوة، فلا عدة عليها بالإجماع، لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . ولأن العدة تجب لاستبراء الرحم، وقد علم ذلك بانتفاء سبب الشغل. فإن فارقها بعد الدخول، فعليها العدة بالإجماع، لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . ولأنه مظنة لاشتغال الرحم بالحمل، فتجب العدة لاستبرائه. وإن طلقها بعد الخلوة، وجبت العدة، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن زرارة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترًا، أو من أغلق بابًا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة؛ ولأن التمكين من استيفاء المنفعة، جعل كاستيفائها، ولهذا استقرت الأجرة في الإجارة، فجعل كالاستيفاء في العدة. فصل: والمعتدات ثلاثة أقسام: معتدة بالحمل فتنقضي عدتها بوضعه، سواء كانت حرة أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 أمة، مفارقة في حياة، أو بوفاة؛ لقول الله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . «وروت سبيعة الأسلمية: أنها كانت تحت سعد بن خولة، وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها، فلما انقلبت من نفاسها، تجملت للخطاب، فدخل عليها ابن السنابل بن بعكك، فقال: لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنت ناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت: فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني حللت حين وضعت حملي، فأمرني بالتزوج إن بدا لي» . متفق عليه. ولأن براءة الرحم لا تحصل في الحامل إلا بوضعه، فكانت عدتها به، ولا تنقضي إلا بوضع جميع الحمل وانفصاله. فإن كان حملها أكثر من واحد، فحتى تضع آخر حملها وينفصل؛ لأن الشغل لا يزول إلا بذلك. وإن وضعت ما يتبين فيه خلق الإنسان، انقضت به عدتها؛ لأنه ولد. وإن لم يتبين فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية، فكذلك؛ لأنه تبين لهن. وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي، فالمنصوص أن العدة لا تنقضي به؛ لأنه لم يصر ولدًا، فأشبه العلقة. وعنه: أن الأمة تصير به أم ولد، فيجب أن تنقضي به العدة؛ لأنه حمل، فيدخل في عموم الآية. وأقل مدة تنقضي فيها العدة بالحمل، أن تضعه بعد ثمانين يومًا، من حين إمكان الوطء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يومًا ثم يكون مضغة أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك» ولا تنقضي العدة بما دون المضغة، ولا يكون مضغة في أقل من ثمانين. فصل: القسم الثاني: معتدة بالقروء: وهي: كل مطلقة أو مفارقة في الحياة وهي حائل ممن تحيض. وهي: نوعان. حرة: فعدتها ثلاثة قروء؛ لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وأمة: فعدتها قرآن، لما روى ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 قال: «طلاق الأمة طلقتان، وقرؤها حيضتان» رواه أبو داود. وعن عمر وعلي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: عدة الأمة حيضتان، وفي القروء روايتان: إحداهما: الحيض، لهذا الخبر، وقول الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تدع الصلاة أيام أقرائها» رواه أبو داود. وقال لفاطمة بنت أبي حبيش: «فإذا أتى قرؤك فلا تصلي. وإذا مر قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء» رواه النسائي؛ ولأنه معنى يستبرأ به الرحم، فكان بالحيض كاستبراء الأمة؛ ولأن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء، فالظاهر أنها تكون كاملة؛ ولا تكون العدة ثلاثة قروء كاملة إلا إذا كانت الحيض. ومن جعل القروء الأطهار، لم يوجب ثلاثة كاملة؛ لأنه يعد الطهر الذي طلقها فيه قرءًا. والثانية: القروء: الأطهار؛ لقول الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي في عدتهن، وإنما يطلق في الطهر. فإذا قلنا: هي حيض، لم يحتسب بالحيضة التي طلقها فيها، ولزمها ثلاث حيض مستقبلة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فيتناول الكاملة. وإن قلنا هي الأطهار، احتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءًا، ولو بقي منه لحظة؛ لقوله سبحانه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في عدتهن، وإنما يكون من عدتهن إذا احتسب به؛ ولأن الطلاق إنما جعل في الطهر دون الحيض، كيلا يضر بها، فتطول عدتها، ولو لم يحتسب بقية الطهر قرءًا، لم تقصر عدتها بالطلاق فيه. فإن لم يبق من الطهر بعد الطلاق جزء، بأن وافق آخر لفظه آخر الطهر، أو قال: أنت طالق في آخر طهرك، كان أول قرئها الطهر الذي بعد الحيض؛ لأن العدة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق. ومتى قلنا: القرء: الحيض. فآخر عدتها انقطاع الدم في الحيضة الثالثة؛ لأن ذلك آخر القروء. وعنه: لا تنقضي عدتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، اختاره الخرقي؛ لأنه يروى عن الأكابر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبادة وأبو موسى وأبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وإن قلنا: القروء: الأطهار. فآخر العدة آخر الطهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 الثالث: إذا رأت الدم بعده، انقضت عدتها، ويحتمل أن لا تنقضي بانقضائها، حتى ترى الدم يومًا وليلة؛ لأن ما دونه لا يحتمل أن يكون حيضًا، وليست اللحظة التي ترى فيها الدم من عدتها، ولا يصح ارتجاعها فيها؛ لأن حسبانها من عدتها يفضي إلى زيادتها على ثلاثة قروء، وإنما اعتبرت، ليتحقق انتفاء الطهر. فصل: وأقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يومًا، إن قلنا: القرء: الحيض، وأقل الطهر ثلاثة عشر يومًا؛ لأن ثلاث حيضات ثلاثة أيام، وبينها طهران ستة وعشرون يومًا. وإن قلنا: أقل الطهر خمسة عشر يومًا، فأقل العدة ثلاثة وثلاثون يومًا. وإن قلنا: الأقراء: الأطهار، والطهر: ثلاثة عشر يومًا، فأقلها: ثمانية وعشرون يومًا ولحظة. وإن قلنا: أقله خمسة عشر يومًا، فأقلها اثنان وثلاثون يومًا ولحظة. فأما الأمة فعلى الأول: أقل عدتها خمسة عشر يومًا، وعلى الثاني: سبعة عشر، وعلى الثالث: أربعة عشر يومًا ولحظة، وعلى الرابع: ستة عشر يومًا ولحظة. فصل: القسم الثالث: المعتدة بالشهور. وهي: ثلاثة أنواع: إحداهن: الآيسة من المحيض، والصغيرة التي لم تحض، إذا بانت في حياة زوجها بعد دخوله بها، فإن كانت حرة، فعدتها ثلاثة أشهر، لقول الله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] . فإن طلقها في أول الهلال، فعدتها ثلاثة أشهر بالأهلة. وإن طلقها في أثناء شهر، اعتدت شهرين بالهلال وشهرًا بالعدد، لما ذكرنا فيما مضى. وإن كانت الأمة، ففيها ثلاث روايات: إحداهن: عدتها شهران؛ لأن كل شهر مكان قرء، وعدتها بالأقراء قرءان، فتكون عدتها بالشهور شهرين. والثانية: عدتها شهر ونصف؛ لأن عدتها نصف الحرة، وعدة الحرة: ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف. وإنما كملنا الأقراء لتعذر تنصيفها، وتنصيف الأشهر ممكن. والثالثة: أن عدتها ثلاثة أشهر، لعموم الآية، ولأن اعتبار الشهور لمعرفة براءة الرحم، ولا يحصل بأقل من ثلاثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 فصل: واختلف عن أحمد في حد الإياس، فعنه: أقله خمسون سنة؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدًا بعد خمسين سنة. وعنه: إن كانت من نساء العجم فخمسون، وإن كانت من نساء العرب فستون؛ لأنهن أقوى طبيعة. وذكر الزبير في كتاب ((النسب)) : أن هند بنت أبي عبيد بن عبد الله بن زمعة، ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب، ولها ستون سنة. قال: ويقال: لن تلد بعد الخمسين إلا عربية، ولا بعد الستين إلا قرشية. ويحتمل كلام الخرقي أن يكون حده: ستون سنة في حق الكل، لقوله: وإذا رأته بعد الستين، فقد زال الإشكال، وتيقن أنه ليس بحيض. فصل: وإن شرعت الصغيرة في الاعتداد بالشهور فلم تنقض عدتها حتى حاضت، بطل ما مضى من عدتها، واستقبلت العدة بالقروء؛ لأنها قدرت على الأصل فيه، فبطل حكم البدل، كالمتيمم يجد الماء. وإن قلنا: القروء: الحيض، استأنفت ثلاث حيض. وإن قلنا: هي الأطهار، فهل تعتد بالطهر الذي قبل الحيض قرءًا؟ فيه وجهان: أحدهما: تعتد به؛ لأنه طهر قبل حيض فاعتدت به، كالذي بين الحيضتين. والثاني: لا تعتد به، كما لو اعتدت قرءين ثم يئست، لم تعتد بالطهر قبل الإياس قرءًا ثالثًا. وإن لم تحض حتى كملت عدتها بالشهور، لم يلتفت إليه؛ لأنه معنى حدث بعد انقضاء العدة فلم يلتفت إليه. فصل: النوع الثاني: المتوفى عنها زوجها، إذا لم تكن حاملًا، فعدتها أربعة أشهر وعشرًا، إذا كانت حرة، مدخولًا بها أو غير مدخول بها؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا» متفق عليه. وإن كانت أمة، اعتدت شهرين وخمس ليال؛ لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اتفقوا على أن عدة الأمة المطلقة: نصف عدة الحرة، فيجب أن تكون عدة المتوفى عنها نصف عدة الحرة، وهو ما ذكرنا. ومن نصفها حر، فعدتها بالحساب من عدة حرة وعدة أمة، وذلك ثلاثة أشهر وثمان ليال، لأن نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال، ونصف عدة الأمة شهر وثلاثة ليال. فصل: النوع الثالث: ذات القروء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فعدتها سنة، تسعة أشهر تتربص فيها ليعلم براءتها من الحمل؛ لأنها غالب مدته، ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا قضاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منكر علمناه، فصار إجماعًا. فإن حاضت قبل انقضاء السنة ولو بلحظة، لزمها الانتقال إلى القروء؛ لأنها الأصل، فبطل حكم البدل، كالمتيمم إذا رأى الماء. وإن عاد الحيض بعد انقضاء السنة وتزوجها، لم تعد إلى الأقراء؛ لأننا حكمنا بانقضاء عدتها وصحة نكاحها، فلم تبطل، كما لو حاضت الصغيرة بعد اعتدادها وتزوجها. وإن حاضت بعد السنة وقبل تزوجها، ففيه وجهان: أحدهما: لا عدة عليها كذلك. والثاني: عليها العدة؛ لأنها من ذوات القروء، وقد قدرت على المبدل قبل تعلق حق الزوج بها، فلزمها العود، كما لو حاضت في السنة. وإن كانت أمة، تربصت تسعة أشهر للحمل؛ لأن مدته للحرة والأمة سواء، وتضم إلى ذلك عدة الأمة على ما ذكرنا من الخلاف فيها. وإن شرعت في الحيض، ثم ارتفع حيضها قبل قضاء عدتها، لم تنقض عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض؛ لأنها لا تنبني إحدى العدتين على الأخرى، ولو عرفت ما رفع الحيض من المرض أو الرضاع ونحوه، لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به؛ لأنها من ذوات القروء، والعارض الذي منع الدم يزول، فانتظر زواله، إلا أن تصير آيسة، فتعتد ثلاثة أشهر من وقت أن تصير في عداد الآيسات. فصل: إذا أتى على الجارية سن تحيض فيه النساء غالبًا، كخمسة عشر، فلم تحض، فعدتها ثلاثة أشهر في إحدى الروايتين، لظاهر قول الله تعالى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] . والأخرى عدتها سنة؛ لأنه أتى عليها زمن الحيض، فلم تحض، فأشبهت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 من ارتفع حيضها، ولم تدر ما رفعه. ولو ولدت ولم تر دمًا قبل الولادة، ولا بعدها، ففيه الوجهان، بناء على ما تقدم. فأما المستحاضة، فإن كان لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز، فمتى مرت لها ثلاثة قروء، انقضت عدتها؛ لأنه حيض محكوم به، أشبه غير المستحاضة. وإن كانت ممن لا عادة لها ولا تمييز، إما مبتدأة، وإما ناسية متحيرة، ففيها روايتان: إحداهما: عدتها ثلاثة أشهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر حمنة ابنة جحش: أن تجلس من كل شهر ستة أيام أو سبعة، فجعل لها حيضة في كل شهر؛ لأننا نحكم لها بحيضة في كل شهر تترك فيها الصلاة والصوم، فيجب أن تنقضي العدة به. والثانية: تعتد سنة؛ لأنها لم تتيقن بها حيضًا مع أنها من ذوات الأقراء، فأشبهت التي ارتفع حيضها، والأول أولى. فصل: فإذا عتقت الأمة بعد قضاء عدتها، لم يلزمها زيادة عليها؛ لأن عدتها انقضت، فأشبهت الصغيرة إذا حاضت بعد انقضاء عدتها بالأشهر، وإن عتقت في عدتها وكانت رجعية، أتمت عدتها عدة حرة؛ لأن الرجعية زوجة وقد عتقت في الزوجية، فلزمتها عدة حرة، كما لو عتقت قبل الشروع فيها. وإن كانت بائنًا، أتمت عدة الأمة؛ لأنها عتقت بعد البينونة، أشبهت المعتقة بعد عدتها. فصل: وإن مات زوج المعتدة الرجعية، فعليها عدة الوفاة تستأنفها من حين الموت، وتنقطع عدة الطلاق؛ لأنها زوجة متوفى عنها، فتدخل في عموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وإن كانت بائنًا غير وارثة لكونها مطلقة في صحته، بنت على عدة الطلاق؛ لأنها أجنبية من نكاحه وميراثه، فلم يلزمها، الاعتداد من وفاته، كما لو انقضت عدتها قبل موته، وعلى قياس هذا: المطلقة في المرض التي لا ترث، كالذمية والأمة والمختلعة، وزوجة العبد؛ لأنها غير وارثة. وإن كانت وارثة كالحرة المسلمة، يطلقها زوجها الحر في مرض موته، فعليها أطول الأجلين من ثلاثة قروء، أو أربعة أشهر وعشر؛ لأنها مطلقة بائن، فتدخل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 في الآية. ومعتدة ترث بالزوجية، فلزمتها عدة الوفاة كالرجعية. فإن كان طلاقه قبل الدخول، أو موته بعد قضاء عدتها، فلا عدة عليها، وعنه: عليهما العدة من الوفاة؛ لأنهما يرثانه بالزوجية. والأول أصح، لقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، ولأن الأجنبية تحل للأزواج، فلم تلزمها العدة منه، كما لو تزوجت غيره. فصل: وإذا وطئت المرأة بشبهة، أو زنا، لزمتها العدة؛ لأن العدة تجب، لاستبراء الرحم، وحفظًا عن اختلاط المياه واشتباه الأنساب، ولو لم تجب العدة، لاختلط ماء الواطئ بماء الزوج، ولم يعلم لمن الولد منهما، فيحصل الاشتباه، وعدتها كعدة المطلقة؛ لأنه استبراء لحرة، أشبه عدة المطلقة. وعنه: أن الزانية تستبرأ بحيضة؛ لأن النسب لا يلحق الزاني، وإنما المقصود معرفة براءة رحمها، فكان بحيضة كاستبراء أم الولد إذا مات سيدها. فصل: وإذا طلق أحد نسائه ثلاثًا وأنسيها، ثم مات قبل أن يبين المطلقة، فعلى الجميع الاعتداد بأطول الأجلين من عدة الطلاق والوفاة، ليسقط الفرض بيقين، كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها؛ لأن كل واحدة منهن يحتمل أن تكون المطلقة، فيلزمها ثلاثة قروء، ويحتمل أن تكون غيرها، فتلزمها عدة الوفاة، فلا يحصل حلها يقينًا إلا بهما، والمنصوص أنه يقرع بينهن، فتعتد واحدة منهن عدة الطلاق، وسائرهن عدة الوفاة، فأما إن طلق واحدة لا بعينها، فإنه يقرع بينهن، فتخرج بالقرعة المطلقة منهن، فتعتد عدة الطلاق، ويعتد سائرهن عدة الوفاة؛ لأن الطلاق لم يقع في واحدة بعينها، وإنما عينته القرعة، بخلاف التي قبلها. فصل: إذا ارتابت المعتدة لرؤيتها أمارات الحمل من حركة أو نحوها، لم تزل في عدة حتى تزول الريبة، فإن تزوجت قبل زوالها، لم يصح نكاحها؛ لأنها تزوجت قبل العلم بقضاء عدتها. وإن حدثت الريبة بعد انقضاء عدتها ونكاحها، فالنكاح صحيح؛ لأننا حكمنا بصحة ذلك بدليله، فلا يزول عنه بالشك، لكن لا يحل وطؤها حتى تزول الريبة؛ لأنا شككنا في حل الوطء. وإن حدثت بعد العدة وقبل النكاح، ففيه وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 أحدهما: لا يحل لها أن تنكح؛ لأنها شاكة في انقضاء عدتها. والثاني: يحل لها؛ لأننا حكمنا بانقضاء عدتها فلا يتغير الحكم بالشك. فصل: إذا فقدت المرأة زوجها، وانقطع خبره عنها، لم يخل من حالين: أحدهما: أن يكون ظاهر غيبته السلامة، كالتاجر وطالب العلم من غير مهلكة، فلا تزول الزوجية ما لم يتيقن موته؛ لأنها كانت ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك. وعنه: إذا مضى له تسعون سنة، قسم ماله. وإذا أباح قسمة ماله، أباح لزوجته أن تتزوج. قال أصحابنا: يعني تسعين سنة من حين ولد؛ لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من ذلك. فإذا اقترن به انقطاع خبره، حكم بموته. والأول أصح؛ لأن هذا تقدير لا يصار إليه بغير توقيف. الثاني: أن يكون ظاهرها الهلاك، كالذي يفقد من بين أهله، أو في مفازة هلك فيها بعض رفقته، أو بين الصفين، أو ينكسر مركبًا فيهلك بعض رفقته، وأشباه ذلك، فمذهب أحمد أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة، ثم تتزوج. قال بعض أصحابنا: لا يختلف قول أحمد في هذا. وقال أحمد: من ترك هذا القول، أي شيء يقول؟ هو عن خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال القاضي: عندي أن فيها رواية أخرى: أن حكمه حكم من ظاهر غيبته السلامة، والمذهب الأول. قال أحمد: يروى عن عمر من، ثمانية وجوه، ومن أحسنها ما روى عبيد بن عمير قال: فقد رجل في عهد عمر، فجاءت امرأته إلى عمر، فذكرت ذلك له، فقال: انطلقي فتربصي أربع سنين، ففعلت، ثم أتته، فقال: انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشرًا، ففعلت ثم أتته، فقال: أين ولي هذا الرجل؟ فجاء وليه، فقال له: طلقها، ففعل. فقال عمر: انطلقي فتزوجي من شئت، ثم جاء زوجها الأول، فقال عمر: أين كنت؟ قال: استهوتني الشياطين، فخيره عمر: إن شاء امرأته، وإن شاء الصداق، فاختار الصداق. وقضى بذلك عثمان وعلي وابن الزبير، وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وهذه قضايا انتشرت فلم تنكر، فكانت إجماعًا. وهل يعتبر ابتداء المدة من حين ضربها الحاكم، أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 من حين ينقطع خبره؟ على وجهين: أحدهما: من حين ضربها الحاكم؛ لأنها مدة ثبتت بالاجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم، كمدة العنة. والثاني: من حين انقطع خبره؛ لأن ذلك ظاهر في موته، فأشبه ما لو قامت به بينة. وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى أن يطلقها وليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يعتبر؛ لأن ذلك يروى عن عمر وعلي. والثاني: لا يفتقر؛ لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها، ولهذا اعتدت عدة الوفاة، وقول عمر فقد خالفه قول ابن عباس وابن عمر. فصل: فإن قدم المفقود قبل تزوجها، فهي زوجته؛ لأننا تبينا حياته، فأشبه ما لو شهد بموته شاهدان، وتبين أنه حي. وإن قدم بعد تزوجها، وقبل دخوله بها، فكذلك لما ذكرناه وقيل عنه: إن حكمها حكم المدخول بها، والصحيح الأول. وإن قدم بعد دخول الثاني بها، خير بينها وبين صداقها، لإجماع الصحابة عليه. فإن اختارها، فهي زوجته بالعقد الأول، ولم يحتج الثاني إلى طلاق؛ لأننا بينا بطلان عقده. وإن اختار صداقها، فله ذلك، ويأخذ من الثاني صداقها الذي ساق إليها الأول. اختاره أبو بكر؛ لأن عليًا وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: يخير بينها وبين صداقها الذي ساق. ولأن الثاني أتلف المعوض، فرجع عليه بالعوض، كشهود الطلاق إذا رجعوا عنه. وعنه: يرجع بالصداق الآخر؛ لأنه بذل عوضًا عما هو مستحق للأول، فكان أولى به. وهل يرجع الثاني على المرأة ما غرمه للأول؟ على روايتين. وتكون زوجة الثاني من غير تجديد عقد؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم ينقل عنهم أمر بتجديد العقد، والقياس أن يلزمه تجديد العقد؛ لأننا تبينا بطلان ما مضى من عقده بحياة صاحبه، ولذلك ملك أخذها منه، فعلى هذا الوجه، الأول يؤمر بطلاقها، ثم يعقد عليها الثاني عقدًا. وإن رجع الأول بعد موت الثاني، ورثت، واعتدت، ورجعت إلى الأول، قضى بذلك عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. رواه الجوزجاني في ((المترجم)) . وقال أبو الخطاب: قياس المذهب أنا إن حكمنا بوقوع الفرقة ظاهرًا وباطنًا، فهي زوجة الثاني، ولا خيار للأول، ولا ينفذ طلاقه لها، ولا يتوارثان إذا مات أحدهما. فإن لم يحكم بوقوعها باطنًا، فهي زوجة الأول بكل حال، ووطء الثاني لها وطء بشبهة. فصل: فإن اختارت امرأة المفقود الصبر حتى يتبين أمره، فلها النفقة والمسكن أبدًا، سواء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 ضرب لها الحاكم مدة تتربص فيها، أو لم يضربها؛ لأننا لم نحكم ببينونتها بضرب المدة، فهي باقية على حكم الزوجية. وإن حكم لها بالفرقة، انقطعت نفقتها، لمفارقتها إياه حكمًا. فصل: إذا طلقها زوجها أو مات عنها وهو غائب، فعدتها من يوم مات، أو طلق، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة في أصح الروايتين. والأخرى إن ثبت ذلك بالبينة، فكذلك، وإن بلغها خبره، فعدتها من حين بلغها الخبر. [ باب اجتماع العدتين ] إذا تزوجت المرأة في عدتها رجلًا آخر، لم تنقطع عدتها بالعقد؛ لأنه عقد فاسد، لا يصير به فراشًا، فإن وطئها، انقطعت عدة الأول؛ لأنها صارت فراشًا للثاني، فلا تبقى في عدة غيره. فإن فرق بينهما، لزمها إتمام عدة الأول، وعدة الثاني، وتقدم عدة الأول، لسبقها، ولما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، لم يدخل بها الذي تزوجها، فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطبًا من الخطاب، وإن كان قد دخل بها، فرق الحاكم بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم اعتدت من الآخر، ولم ينكحها أبدًا. رواه الشافعي في ((مسنده)) . فإن كانت حاملًا من الأول، انقضت عدتها بوضع الحمل، ثم اعتدت للثاني ثلاثة قروء. وإن حملت من وطء الثاني، انقضت عدتها منه بوضع الحمل، ثم أتمت عدة الأول بالقروء. وتتقدم عدة الثاني هاهنا على عدة الأول؛ لأنه لا يجوز أن تضع حملها منه، ولا تنقضي عدتها منه. وإن أتت بولد يمكن أو يكون منهما، أري القافة، وألحق بمن ألحقوه به منهما، وانقضت عدتها منه به، واعتدت للآخر. وإن ألحقوه بهما، انقضت به عدتها منهما، وإن لم يوجد قافة، أو أشكل عليهم، فعليها الاعتداد بعد وضع حملها بثلاثة قروء؛ لأنه يحتمل أن يكون من الأول، فيلزمها ثلاثة قروء، لعدة الثاني، فلزمها ذلك، لتقضي العدة بيقين. فصل: وروي عن أحمد: أنها تحرم على الزوج الثاني على التأبيد، لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثم لا ينكحها أبدًا. والصحيح في المذهب أنها تحل له؛ لأنه وطء بشبهة، فلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 يحرمها على التأبيد، كالنكاح بلا ولي. وقد روي أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا انقضت عدتها، فهو خاطب من الخطاب، يعني الزوج الثاني. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ردوا الجهالات إلى السنة، ورجع إلى قول علي. قال الخرقي: وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين، فعلى هذا كل معتدة من وطء في نكاح فاسد، أو وطء شبهة، لا يجوز للواطئ، ولا لغيره نكاحها حتى تنقضي عدتها؛ لأنها معتدة من وطء في غير ملك، فحرمت قبل انقضاء عدتها، كالزانية. ويحتمل أن يباح للواطئ نكاحها في كل موضع يلحقه النسب؛ لأن العدة إنما وضعت لصيانة الماء، وحفظًا للنسب عن الاشتباه. والنسب هاهنا لاحق، فلم يمنع الواطئ نكاحها، كالمعتدة من نكاحه الصحيح. فصل: وإن وطئت المعتدة بشبهة، أو زنا فلم تحمل، أتمت عدة الأول، ثم اعتدت للثاني؛ لأنها لم تصر فراشًا. وإن حملت من الثاني، أو أشكل الأمر، فالحكم على ما ذكرنا في التي تحمل من زوج ثان. فصل: وكل حمل لا يلحق بالزوج، كحمل زوجة الطفل، والخصي والمجبوب وأشباههما لا تنقضي عدتها من الزوج به؛ لأننا تبينا أنه ولد لغيره، فلم تنقض به عدة الزوج، كما لو علمنا الواطئ. وعنه: أن عدة زوجة الصغير تنقضي بوضع الحمل. وذكر أصحابنا في التي ولدت بعد أربع سنين، منذ فارقها زوجها: أن عدتها تنقضي به في وجه، والصحيح الأول، لما ذكرنا، ولأننا إن نعلم الواطئ، فالمرأة تعلمه، فلم يسقط عنها الاعتداد، لجهلنا بعينه، كما لو أقرت. فعلى هذا تنقضي عدة الأول بوطء الثاني، وتنقضي عدة الثاني بوضع الحمل. فإذا وضعته، بنت على عدة الأول على ما ذكرنا. وإن كانت حين موت زوجها حاملًا، انقضت عدتها بوضعه من الواطئ، ثم تعتد عن الزوج بأربعة أشهر وعشر. فصل: إذا طلق الزوج زوجته طلاقًا رجعيًا، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانيًا، بنت على ما مضى من العدة؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ولا رجعة، فأشبه الطلقتين في وقت واحد. وإن طلق العبد زوجته الأمة طلقة، ثم أعتقت، وفسخت النكاح، بنت على العدة كذلك. وإن طلق الرجل زوجته، ثم ارتجعها ثم طلقها قبل وطئها، ففيه وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 أحدهما: تبني على العدة الأولى؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء، فأشبه ما لو لم يرتجعها. والثاني: تستأنف عدة كاملة؛ لأنه طلاق نكاح صحيح، وطئ فيه، فأوجب عدة كاملة، كما لو لم يتقدمه طلاق. وإن طلقها بعد دخوله بها، استأنفت العدة. رواية واحدة. وسقطت بقية الأولى؛ لأن حكم الطلقة انقطع بالزوجية والدخول، وإن وطئ المطلق زوجته الرجعية في عدتها، وقلنا: ذلك رجعة، فقد عادت الزوجية، فإن طلقها بعد ذلك، استأنفت العدة، وسقط حكم العدة الأولى، كما تقدم. وإن قلنا: ليس هو برجعة، فعليها أن تعتد للوطء؛ لأنه وطء بشبهة، وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأنهما من رجل واحد. وإن كانت حاملًا، فهل تتداخل العدتان؟ فيه وجهان: أحدهما: يتداخلان؛ لأنهما من رجل واحد، فتنقضي عدتها من الطلاق والوطء، بوضع الحمل. والثاني: لا يتداخلان؛ لأنهما من جنسين، بل تعتد للطلاق بوضع الحمل، ثم تستأنف عدة الوطء بثلاثة قروء، كما لو كانا من رجلين، وإن كانت حائلًا، فحملت من الوطء. وقلنا: يتداخلان انقضت العدتان بوضع الحمل، وإن قلنا: لا يتداخلان، انقضت عدة الوطء بالوضع، ثم أتمت بقية عدة الطلاق بالقروء. فصل: وإذا خلع الرجل زوجته، فله نكاحها في عدتها؛ لأنها لحفظ مائه ونسبه، ولا يصان ماؤه عن مائه، إذا كانا من نكاح صحيح، فإن طلقها بعد أن وطئها، فعليها استئناف العدة؛ لأنه طلاق من نكاح اتصل به المسيس، ويسقط حكم بقية العدة الأولى. وإن طلقها قبل أن يمسها، ففيه روايتان كما ذكرنا في الرجعية، والأولى هاهنا، أنها تبني على عدة الطلاق الأول فتتمها؛ لأن الطلاق الثاني، طلاق من نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة. كما لو لم يتقدمه نكاح. ويلزمها بقية عدة الأول؛ لأنها تنقطع بعقد التزويج، لكونها تصير به فراشًا، فلا تبقى معتدة منه مع كونها فراشًا له. وإذا طلقها، لزمها إتمامها؛ لأنه لو لم يجب ذلك، أفضى إلى اختلاط المياه، بأن يطأ زوجته، ثم يخلعها، ثم يتزوجها ويطلقها من يومه، فيتزوجها آخر ويطأها في يوم واحد، فإن كانت حاملًا حين خلعها، فتزوجها وولدت، ثم طلقها قبل أن يمسها، لم يكن عليها عدة؛ لأنه لم يبق من العدة الأولى شيء؛ لأنها كانت حاملًا، فلا تنقضي عدتها بغير الوضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 [ باب مكان المعتدات ] وهن ثلاثة: إحداهن: الرجعية، فتسكن حيث يشاء زوجها من المساكن التي تصلح لمثلها؛ لأنها تجب لحق الزوجية. الثانية: البائن بفسخ، أو طلاق، تعتد حيث شاءت، لما «روت فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له ذلك، فقال: ليس لك عليه نفقة ولا سكنى وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك. ثم قال: إن تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي في بيت ابن أم مكتوم» متفق عليه. الثالثة: المتوفى عنها زوجها، عليها أن تعتد في منزلها الذي كانت ساكنة به، حين توفي زوجها، لما روت «فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد: أنها جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له، فقتلوه بطرف القدوم، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكن أملكه، ولا نفقة، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشرًا، فلما كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرسل إلي فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به» . رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح. فإن خافت هدمًا أو غرقًا أو عدوًا، أو حولها صاحب المنزل، أو لم تتمكن من سكناه إلا بأجرة، فلها الانتقال حيث شاءت؛ لأن الواجب سقط للعذر، ولم يرد الشرع له ببدل فلم يجب، وليس عليها بدل الأجرة، وإن قدرت عليها؛ لأنه إنما يلزمها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن. فصل: ولا سكنى للمتوفى عنها، إذا كانت حائلًا، رواية واحدة، وإن كانت حاملًا، فعلى روايتين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 إحداهما: لا سكنى لها؛ لأن المال انتقل إلى الورثة، فلم تستحق عليهم السكنى، كما لو كانت حائلًا. والثانية: لها السكنى، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] . ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر فريعة بنت مالك، بالاعتداد في المنزل الذي أسكنها فيه زوجها. فإذا قلنا: لا سكنى لها، فتبرع الوارث بإسكانها، أو تبرع غيره بتمكينها من السكنى في منزلها، إما بأداء أجرتها، أو غير ذلك، لزمها السكنى به. وإن لم يوجد ذلك، سكنت حيث شاءت. وإن قلنا: لها السكنى، فهي أحق بمسكنها من الورثة والغرماء، ولا يباع في دينه حتى تنقضي عدتها؛ لأنه حقها تعلق بعينه، فقدمت على سائر الغرماء، كالمرتهن. وإن تعذر ذلك المسكن، أو كان المسكن لغير الميت، استؤجر لها من مال الميت، ويضرب بقدر أجرته مع الغرماء، إن لم يف ماله بدينه، فإن كانت عدتها بالحمل، ضربت بأقل مدته؛ لأنه اليقين. فإن وضعت لأقل من ذلك، ردت الفضل على الغرماء. وإن وضعت لأكثر منه، رجعت عليهم بالنقص، كما ترد عليهم الفضل. ويحتمل أن لا ترجع عليهم بشيء؛ لأننا قدرنا ذلك لها مع تجويز الزيادة، فلم ترد عليه. فصل: ولهم إخراجها لطول لسانها، وأذاها لأحمائها بالسب، لقول الله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . فسره ابن عباس بما ذكرنا. وإن بذئ عليها أهل زوجها، نقلوا عنها؛ لأن الضرر منهم. فصل: وليس لها الخروج من منزلها ليلًا، ولها الخروج نهارًا لحوائجها، لما روى مجاهد قال: «استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلن: يا رسول الله إنا نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا، بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، فإن أردتن النوم، فلتؤب كل امرأة إلى بيتها» ، ولأن الليل مظنة الفساد، فلم يجز لها الخروج لغير ضرورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 فصل: وليس لها الخروج للحج؛ لأنه لا يفوت، والعدة تفوت، فإن خرجت للحج، فمات زوجها وهي قريبة، رجعت؛ لأنها في حكم الإقامة. وإن تباعدت، مضت في سفرها؛ لأن عليها في الرجوع مشقة فلم يلزمها، كما لو كان أكثر من ثلاثة أيام. قال القاضي: حج البعيد: ما تقصر فيه الصلاة؛ لأن ما دونه في حكم الحضر، وإن خافت في الرجوع، مضت في سفرها ولو كانت قريبة؛ لأن عليها ضررًا في الرجوع. وإن أحرمت بحج أو عمرة في حياة زوجها في بلدها، ثم مات وخافت فواته، مضت فيه؛ لأنه أسبق. فإذا استويا في خوف الفوت، كان أحق بالتقديم. وإن لم تخف فوته، مضت في العدة في منزلها؛ لأنه أمكن الجمع بين الواجبين، فلزمها ذلك. وإن أحرمت بعد موته، لزمتها الإقامة؛ لأن العدة أسبق. فصل: إذا أذن لها في السفر لغير نقلة، فخرجت، ثم مات، فحكمه حكم الخروج للحج سواء. وإن كان لنقلة فمات بعد مفارقة البنيان، فهي مخيرة بين البلدين؛ لأنه ليس واحد منهما مسكنًا لها، لخروجها منتقلة عن الأول، وعدم وصولها إلى الثاني. ويحتمل أن يلزمها المضي إلى الثاني؛ لأنها مأمورة بالإقامة والسكنى، والأول بخلافه، وهذا ضعيف جدًا؛ لأن فيه إلزامها السفر مع مشقته، ومؤنته، وإبعادها عن أهلها ووطنها، وربما لم يكن لها محرم سوى زوجها الذي مات، وسفرها بغير محرم حرام، ولا يحصل من سفرها فائدة، ولا حكمة؛ لأن حكمة الاعتداد في منزلها، سترها، وصيانتها لزوم منزلها، وسفرها تبذيل لها وإبراز لها، فهو محصل لضد المقصود، سيما إذا لم يكن معها من يحفظها، ومقامها في البلد الذي يسافر إليه عند الغرباء بين غير أهلها في غير مسكنه، أشد لهلكتها، ثم تحتاج إلى الرجوع وكلفته، وهذا فيه من القبح ما يصان الشرع منه، والله أعلم. وإن وجبت العدة بعد وصولها إلى مقصدها وسفرها لنقلة، لزمها الإقامة به، وتعتد؛ لأنه صار كالوطن الذي تجب العدة فيه. وإن كان لقضاء حاجة، فلها الإقامة إلى أن تقضي حاجتها. وإن كان لزيارة، أو نزهة وقد قدر لها مدة الإقامة، أقامت ما قدر لها؛ لأنه مأذون فيه. وإن لم يقدر لها مدة، فلها إقامة ثلاثة أيام؛ لأنه لم يأذن لها في المقام على الدوام. ثم إن علمت أنه لا يمكنها الوصول قبل فراغ عدتها، لم يلزمها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 العود لأنها عاجزة عن الاعتداد في مكانها. وإن أمكنها قضاء شيء من عدتها في منزلها، لزمها العود، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم» . وإن خافت من الرجوع، سقط، للعذر. والحكم فيما إذا أذن لها في النقلة من دار إلى دار ومات وهي بينهما، كذلك. [ باب الإحداد ] وهو اجتناب الزينة وما يدعو إلى المباشرة، وهو واجب في عدة الوفاة، لما روت أم عطية أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبًا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها، بنبذة من قسط، أو أظفار» متفق عليه. ويجب هذا على الحرة والأمة، والكبيرة والصغيرة، والمسلمة والذمية، لعموم الحديث فيهن، ولا يجب على الرجعية؛ لأنها باقية على الزوجية، فلها أن تتزين لزوجها وترغبه في نفسها، ولا على أم ولد لوفاة سيدها، ولا موطوءة بشبهة ولا زنا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا على زوجها» . وفي المطلقة المبتوتة والمختلعة، روايتان: إحداهما: لا إحداد عليها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا على زوجها» . فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، وهذه عدة الوفاة، ولأنها مطلقة أشبهت الرجعية. والثانية: يجب عليها؛ لأنها معتدة بائن، أشبهت المتوفى عنها زوجها. فصل: ويحرم على الحادة: الكحل بالإثمد، للخبر، ولأنه يحسن الوجه، ولا بأس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 بالكحل الأبيض، كالتوتياء ونحوه؛ لأنه لا يحسن العين، بل يزيدها مرهًا. وإن دعت الحاجة إلى الاكتحال بالصبر، والإثمد، اكتحلت ليلًا وغسلته نهارًا، لما روت أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي أبو سلمة، وقد جعلت على عيني صبرًا، فقال: «ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو صبر ليس فيه طيب. قال: إنه يشب الوجه، لا تجعليه إلا بالليل، وانزعيه بالنهار» «وعن أم حكيم بنت أسيد أن زوجها توفي، وكانت تشتكي عينها، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء. فقالت: لا تكتحلي إلا لما لا بد منه، فتكتحلين بالليل، وتغسلينه بالنهار» . رواهما النسائي. فصل: ويحرم على الحادة: الخضاب، لما روت أم سلمة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل» رواه أبو داود والنسائي. ويحرم عليها أن تمتشط بالحناء، ولا يحرم عليها غسل رأسها بالسدر، ولا المشط به، لما روت أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء، فإنه خضاب قالت: قلت: بأي شيء أمتشط؟ قال: بالسدر تغلفين به رأسك» رواه أبو داود. ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب، ويجوز تقليم الأظفار والاستحداد؛ لأنه يراد للتنظيف لا للتزيين. ويحرم عليها تحمير وجهها بالكلكون، وتبييضه باسفيذاج العرائس؛ لأنه أبلغ في الزينة من الخضاب، فهو بالتحريم أولى. ولها أن تستعمل الصبر في جميع بدنها، إلا وجهها؛ لأنه إنما منع منه في الوجه؛ لأنه يصفر فيشبه الخضاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 فصل: ويحرم عليها الطيب، للخبر، ولأنه يحرك الشهوة، ويدعو إلى المباشرة. ويحرم عليها استعمال الأدهان المطيبة؛ لأنه طيب. فأما ما ليس بمطيب من الأدهان، كالزيت والشيرج، فلا بأس به؛ لأن التحريم من الشرع، ولم يرد بتحريمه، ولا هو في معنى المحرم. فصل: ويحرم عليها الحلي، للخبر، ولأنه يزيد من حسنها ويدعو إلى مباشرتها. ويحرم عليها ما صبغ من الثياب للزينة، كالأحمر، والأصفر، والأزرق الصافي، والأخضر الصافي، للخبر. فإن صبغ غزله، ثم نسج، ففيه وجهان: أحدهما: لا يحرم، لقوله: «إلا ثوب عصب» . والعصب: ما صبغ غزله قبل نسجه. والثاني: يحرم؛ لأنه أحسن وأرفع، ولأنه صبغ للتحسين، أشبه ما صبغ بعد النسج، وهذا هو الصحيح، وقوله: «إلا ثوب عصب» إنما أريد به ما صبغ بالعصب، وهو نبت ينبت باليمن، فأما كونه مصبوغ الغزل، فلا معنى له في هذا. ولا يحرم الأسود، ولا الأخضر المشبع، والأزرق المشبع؛ لأنه لم يصبغ لزينة، إنما قصد به دفع الوسخ، أو اللبس في المصيبة، ونحو ذلك، ولا بأس بلبس ما نسج من غزله على جهته من غير صبغ وإن كان حسنًا من الحرير والقطن والكتان والصوف وغيره؛ لأن حسنه من أصل خلقته، لا لزينة أدخلت عليه، فأشبه حسن المرأة في خلقها. قال الخرقي: وتجتنب النقاب؛ لأن المحرمة تمنع منه، فأشبه الطيب. وقال القاضي: كره أحمد النقاب للمتوفى عنها زوجها، دون المطلقة. قال الخرقي: فإن احتاجت إلى ستر وجهها، سدلت عليه كما تفعل المحرمة. [ باب الاستبراء ] ومن ملك أمة بسبب من الأسباب، لم تحل له حتى يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملًا، أو بحيضة إن كانت تحيض، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عام سبايا أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة» . رواه أحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 في ((المسند)) ) . وروى الأثرم عن رويفع بن ثابت قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في يوم خيبر: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة» رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. ولأنها إذا وطئها قبل استبرائها، أدى إلى اختلاط المياه، وفساد الأنساب. فإن كانت حائضًا حين ملكها، لم تعتد بتلك الحيضة، ولزمه استبراؤها بحيضة مستقبلة؛ لأن الخبر يقتضي حيضة كاملة. وإن كانت من الآيسات، أو من اللائي لم يحضن، ففيها ثلاث روايات: إحداهن: تستبرئ بشهر؛ لأن الشهر أقيم مقام الحيضة في عدة الحرة والأمة. والثانية: بشهرين، كعدة الأمة. والثالثة: بثلاثة أشهر، وهي أصح. قال أحمد بن القاسم: قلت لأبي عبد الله: كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان الحيضة، وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهرًا؟ فقال: من أجل الحمل، فإنه لا يبين في أقل من ذلك، فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك، وجمع أهل العلم والقوابل، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، فأعجبه ذلك. ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود: إن النطفة أربعين يومًا، ثم علقة أربعين يومًا، ثم مضغة بعد ذلك، فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة، وهي لحمة، فتبين حينئذ. وهذا معروف عند النساء. فأما شهرًا، فلا معنى له، ولا أعلم أحدًا قاله. فإن ارتفع حيضها لعارض تعلمه، لم تزل في استبراء حتى تحيض، أو تبلغ سن الإياس، فتستبرأ استبراء الآيسات، وإن لم تعلم ما رفعه، استبرأت بعشرة أشهر في إحدى الروايتين، وفي الأخرى بسنة، تسعة أشهر للحمل، وثلاثة مكان الحيضة. فصل: ويجب استبراء الصغيرة والكبيرة؛ لأنه نوع استبراء فاستويا فيه، كالعدة. وعنه: أن الصغيرة التي لا يوطأ مثلها لا يجب استبراؤها؛ لأنه يراد لبراءة الرحم، ولا يحتمل الشغل في حقها. وإن ملك من لا تحل له - كالمجوسية، والوثنية - فاستبرأها، ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 أسلمت حلت بغير استبراء ثان، للخبر، ولأن الاستبراء يراد لبراءة الرحم، ولا يختلف ذلك بالحل والحرمة. وإن أسلمت قبل الاستبراء، لزمه استبراؤها، للخبر والمعنى. فصل: ولا يصح الاستبراء حتى يملكها؛ لأن سببه الملك فلم يتقدم عليه، كما لا تتقدم العدة الفرقة. فإن استبرأها في مدة الخيار، صح؛ لأن الملك ينتقل بالبيع. وإن قلنا: لا ينتقل حتى ينقضي الخيار، لم يصح الاستبراء فيه. وهل يشترط القبض لصحة الاستبراء؟ على وجهين: أحدهما: يشترط، فلو حاضت بيد البائع بعد البيع، لم يصح الاستبراء؛ لأن المقصود معرفة براءتها من ماء البائع، ولا يحصل ذلك مع كونها في يده. والثاني: يصح؛ لأن سببه الملك وقد وجد، فيجب أن يعقبه حكمه. وإن اشترى عبده التاجر أمة فاستبرأها، ثم أخذها السيد، لم تحتج إلى استبراء؛ لأن ما في يد عبده ملكه. وإن اشترى مكاتبه أمة، ثم صارت إلى السيد لعجزه، أو قبضها من نجوم كتابته، لم تبح بغير استبراء؛ لأنه يتجدد ملكه بأخذها من مكاتبه، إلا أن يكون ذا رحم محرم للمكاتب، فيحل؛ لأن حكمها حكم المكاتب، وإن رق رقت، وإن عتق عتقت. والمكاتب مملوك، فلو كاتب أمته ثم عجزت، أو رهنها ثم فكها، أو ارتدت ثم أسلمت، أو ارتد سيدها ثم أسلم، حلت بغير استبراء؛ لأنه لم تخرج عن ملكه، وإنما حرمت بعارض زال، فأشبه ما لو أحرمت ثم حلت. فصل: وإن باعها السيد، ثم ردت عليه بفسخ أو مقايلة بعد قبض المشتري لها وافتراقهما، وجب استبراؤها؛ لأنه تجديد ملك يحتمل اشتغال الرحم قبله، فأشبه ما لو اشتراها. وإن كان قبل افتراقهما، ففيه روايتان: إحداهما: يجب استبراؤها؛ لأنه تجديد ملك، فأشبه شراء الصغيرة. والثانية: لا يجب؛ لأن تيقن البراءة معلوم، فأشبه الطلاق قبل الدخول. وإن زوجها سيدها ثم طلقت قبل الدخول، لم يجب استبراؤها؛ لأن ملكه لم يتجدد عليها. وإن فارقها بعد الدخول، أو مات عنها، لم تحل حتى تقضي العدة. فصل: وإن اشترى أمة مزوجة فطلقها زوجها قبل الدخول، وجب استبراؤها؛ لأنه تجديد ملك، وإن طلقها بعد دخوله بها، أو مات عنها، فعن أحمد: ما يدل على أنه يكتفي بعدتها؛ لأن براءتها تعلم بها. وقال أبو الخطاب: فيها وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 أحدهما: يدخل الاستبراء في العدة كذلك. والثاني: لا يدخل؛ لأن الطلاق والملك سببان للاستبراء من رجلين، فلم يتداخلا، كالعدتين من رجلين. وإن اشتراها وهي معتدة، فقال القاضي: يلزمه استبراؤها بعد قضاء عدتها، لما ذكرنا. ويحتمل أن تدخل بقية العدة في الاستبراء؛ لأن المقصود يحصل بذلك. فصل: ومن ملك زوجته، لم يلزمه استبراؤها؛ لأنه لصيانة الماء وحفظ النسب، ولا يصان ماؤه عن مائه، لكن يستحب ذلك، ليعلم: هل الولد من نكاح عليه ولاء أو من ملك يمينه فلا ولاء عليه؟ . فصل: وإن اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها، لم يحل له نكاحها حتى يستبرئها؛ لأنها محرمة عليه بملك اليمين فلم تحل بالإعتاق فحرم نكاحها، كأخته من الرضاع، ولأن ذلك يفضي إلى اختلاط المياه وفساد النسب، بأن يطأها البائع، ثم يبيعها فيعتقها المشتري، ويتزوجها، يطؤها في يوم واحد. ولها أن تتزوج غيره إن لم يكن البائع يطؤها؛ لأنها لم تكن فراشًا، فأبيح لها التزويج، كما لو أعتقها البائع بعد استبرائها. وإن أعتق أم ولده، أو أمة كان يصيبها، لزمها استبراء نفسها؛ لأنها صارت بالوطء فراشًا له، فلزمها الاستبراء عند زوال الفراش، كالزوجة إذا طلقت. فإن أراد معتقها أن يتزوجها في استبرائها، جاز لأنه لا يحفظ ماؤه عن مائه، وإن أعتق أمة لم يكن يطؤها، فليس عليها استبراء؛ لأنها ليست فراشًا. وله أن يتزوجها عقيب عتقها؛ لأنها مباحة لغيره، فله أولى. وعنه: لا يتزوجها حتى يستبرئها. وقال ابن عقيل: هذا محمول على الاستحباب. لما ذكرناه. فصل: ومن ملك أمة يلزمه استبراؤها، لم يحل له التلذذ بها بالنظر والقبلة ونحوه؛ لأننا لا نأمن كونها حاملًا من البائع. فتكون أم ولده، فيحصل مستمتعًا بأم ولد غيره، إلا أن يملكها بالسبي، فيكون فيها روايتان: إحداهما: يباح له ذلك؛ لأنه لا يخشى انفساخ ملكه لها بحملها، فلا يكون مستمتعًا إلا بمملوكته. والثانية: يحرم؛ لأن ما حرم الوطء، حرم دواعيه، كالعدة، وإن وطئت زوجة الرجل أو مملوكته بشبهة، أو زنا، لم يحل له وطؤها حتى تنقضي عدتها. وفي التلذذ بغير الوطء وجهان. بناء على الروايتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 فصل: ومن أراد بيع أمته ولم يكن يطؤها، لم يلزمه استبراؤها؛ لأنه قد حصل يقين براءتها منه. فإن كان يطؤها، ففيه روايتان: إحداهما: يجب؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنكر على عبد الرحمن بن عوف حين باع جارية له كان يطؤها قبل استبرائها. قال: ما كنت لذلك بخليق، ولأن فيه حفظ مائه وصيانة نسبه، فوجب عليه، كالمشتري. والثانية: لا يجب؛ لأنه يجب على المشتري، فأغنى عن استبراء البائع. فأما إن أراد تزويجها، أو تزوج أم ولده، لم يجز قبل استبرائها؛ لأن الزوج لا يلزمه استبراؤها. فإذا لم يستبرئها السيد، أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب. وله تزويج أمته التي لا يطؤها من غير استبراء؛ لأنها ليست فراشًا له. فصل: وإن مات عن أم ولده، لزمها الاستبراء؛ لأنها صارت فراشًا، وتستبرأ كما تستبرأ المسيبة؛ لأنه استبراء بملك اليمين. وعنه: تستبرأ بأربعة أشهر وعشر، لما روي عن عمرو بن العاص أنه قال: «لا تفسدوا علينا سنة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر» ، ولأنه استبراء الحرة من الوفاة، فلزمها أربعة أشهر وعشر، كعدة الزوجة. والصحيح الأول، لما ذكرناه. وخبر عمرو لا يصح، قاله أحمد. فصل: وإن مات عنها، أو أعتقها وهي مزوجة، أو معتدة، لم يلزمها استبراء؛ لأنه زال فراشه عنها قبل وجوب الاستبراء، فلم يجب، كما لو طلق امرأته قبل الدخول. وإن مات بعد عدتها، لزمها الاستبراء؛ لأنها عادت إلى فراشه. وقال أبو بكر: لا يلزمها استبراء إلا أن يعيدها إلى نفسه؛ لأن الفراش زال بالتزويج، فلا يعود إلا بإعادتها إلى نفسه. فإن مات زوجها وسيدها، ولم يعلق السابق منهما، فعلى قول أبي بكر: عليها بعد موت الآخر منهما عدة الحرة من الوفاة؛ لأنه يحتمل أن سيدها مات أولًا، ثم مات زوجها وهي حرة، فلزمتها عدة الحرة، لتبرأ بيقين. وعلى القول الأول: إن كان بينهما دون شهرين وخمسة أيام، فليس عليهما بعد الآخر منهما، إلا عدة الحرة من الوفاة؛ لأن الاستبراء لا يحتمل الوجوب بحال، لكون موت سيدها إن كان أولًا، فقد مات وهي مزوجة، وإن كان آخرًا، فقد مات وهي معتدة، ولا استبراء عليها في الحالين. وإن كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام، فعليها بعد موت الآخر منهما أكثر الأمرين، من عدة حرة من الوفاة، أو الاستبراء؛ لأنه يحتمل أن الزوج مات آخرًا، فعليها عدة الحرة، ويحتمل أن السيد مات آخرًا، فعليها الاستبراء بحيضة، فوجب الجمع بينهما، ليسقط الفرض بيقين. ولا ترث الزوج؛ لأن الأصل الرق، فلا ترث مع الشك. فصل: وإذا كانت الأمة بين نفسين فوطئاها، لزمها استبراءان؛ لأنهما من رجلين، فلم يتداخلا، كالعدتين. فصل: إذا اشترى أمة فظهر بها حمل، فقال البائع: هو مني، وصدقه المشتري، لحقه الولد، والجارية أم ولد، والبيع باطل. وإن كذبه المشتري، نظرنا، فإن كان البائع أقر بوطئها عند البيع، وأتت بالولد لدون ستة أشهر، فهو ولده، والبيع باطل. وإن أتت به لستة أشهر فصاعدًا، وكان البائع استبرأها قبل بيعها، ولم يطأها المشتري، أو وطئها ولكن ولدته لدون ستة أشهر منذ وطئها، لم يلحق بواحد منهما، وكانت الجارية والولد مملوكين للمشتري، وإن أتت به لستة أشهر فصاعدًا، من حين وطء المشتري، فهو ولده والجارية أم ولده. وإن لم يستبرئها واحد منهما، فأتت بولد لدون أربع سنين منذ باعها، ولأكثر من ستة أشهر منذ وطئها المشتري، عرض على القافة، وألحق بمن ألحقوه به منهما. وقد روى عبد الله بن عبيد بن عمير قال: باع عبد الرحمن بن عوف جارية كان يقع عليها قبل أن يستبرئها، فظهر بها حمل عند المشتري، فخاصموه إلى عمر، فقال له عمر: كنت تقع عليها؟ قال: نعم. قال: فبعتها قبل أن تستبرئها؟ قال: نعم. قال: ما كنت لذلك بخليق، فدعا القافة فنظروا إليه، فألحقوه به. فإن لم يكن البائع أقر بوطئها حين بيعها، فادعاه بعد ذلك، وكذبه المشتري، لم تقبل دعواه في الولد؛ لأن الملك انتقل إلى المشتري في الظاهر، فلا يقبل قول البائع فيما يبطل حقه، كما لو باع عبدًا، ثم أقر أنه كان أعتقه، والقول قول المشتري مع يمينه. وهل يلحقه نسب الولد؟ فيه وجهان: أحدهما: يلحقه؛ لأنه يجوز أن يكون ابنًا لواحد، مملوكًا لآخر، كولد الأمة المزوجة. والثاني: لا يلحق؛ لأن فيه ضررًا على المشتري، فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 [ كتاب الرضاع ] إذا ثاب للمرأة لبن على ولد، فأرضعت به طفلًا دون الحولين، خمس رضعات متفرقات، صارت أمه، وهو ولدها في تحريم النكاح، وإباحة النظر، والخلوة، وثبوت المحرمية، وصارت أمهاتها جداته، وآباؤها أجداده، وأولادها إخوته، وإخوتها أخواله، وأخواتها خالاته لقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] . نص على هاتين في المحرمات، فدل على ما سواهما. وروت عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» . وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنة حمزة: «لا تحل لي، يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب، وهي ابنة أخي من الرضاعة» متفق عليهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 فصل: وإن كان الولد الذي ثاب اللبن بولادته، ثابت النسب من رجل، صار الطفل ولدًا له، وأولاده أولاد ولده، وصار الرجل أبًا له، وآباؤه أجداده، وأمهاته جداته، وأولاده إخوته، وإخوانه وأخواته أعمامه وعماته، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعدما أنزل الحجاب، فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن أخا أبي القعيس ليس هو الذي أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أخيه، فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يمينك» متفق عليه. ولأن اللبن حدث للولد، والولد ولدهما، فكان المرضع بلبنه ولدهما. فإن لم يكن الولد ثابت النسب من رجل، كولد الزنا، والمنفي باللعان، فمفهومه كلام الخرقي أنه لا ينشر الحرمة بينهما؛ لأن النسب لم يثبت، فالتحريم المتفرع عليه أولى. وهذا قول ابن حامد. ولكن إن كان المرتضع أنثى، حرمت تحريم المصاهرة؛ لأنها ربيبة الملاعن، وابنة موطوءة الزاني، وكذلك أولادها، وأولاد الطفل إن كان ذكرًا. وقال أبو بكر: ينشر الحرمة بينه وبين الواطئ، والزوج الملاعن؛ لأن التحريم ثابت بينهما وبين المولود، فكذلك في المرتضع؛ لأنه فرعه، ولأنه أحد المتواطئين، فتنتشر الحرمة إليه، كالمرأة، ويحتمل أن ينشر الحرمة بين الزاني وبين المرتضع لأن الولد منه حقيقة، فكان اللبن منه، لا ينشر من المرتضع والملاعن، فإن اللبن لم يثبت منه حقيقة ولا حكمًا. فصل: وتنتشر الحرمة من الولد إلى أولاده، وإن سفلوا؛ لأنهم أولاد أولاد المرضعة. ولا تنتشر إلى من هو في درجته وأعلى منه، كإخوته، وأخواته، وأمهاته، وآبائه، وأعمامه، وعماته، وأخواله، وخالاته، فللمرضعة نكاح أب الطفل وأخيه، ولزوجها نكاح أمه وأخته، ولإخوته وأخواته من النسب نكاح إخوته وأخواته من الرضاع؛ لأن حرمة النسب تختص به وبأولاده، دون إخوته وأخواته، ومن أعلى منه، كذلك الرضاع المتفرع عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 فصل: ولا تثبت الحرمة بالرضاع بعد الحولين، لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] . فجعل تمامها في الحولين، فدل على أنه لا حكم للرضاع بعدهما. وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فصل: واختلفت الرواية في قدر المحرم من الرضاع، فروي: أن قليله وكثيره يحرم، كالذي يفطر الصائم، لقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . وروي: أن التحريم لا يثبت إلا بثلاث رضعات، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحرم المصة ولا المصتان» وعن أم الفضل بنت الحارث قالت: قال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» رواهما مسلم. وروى: لا يتثبت التحريم إلا بخمس رضعات، وهي ظاهر المذهب، لما روي عن عائشة قالت: «أنزل في القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن) فنسخ من ذلك خمس، وصار الأمر إلى خمس رضعات يحرمن. فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمر على ذلك» . رواه مسلم. وهذا الخبر يفسر الرضاعة المحرمة في الآية، ويقدم على الخبر الآخر؛ لأنه إنما يدل بدليل خطابه، والمنطوق أقوى منه. فإن شك في عدد الرضاع، أو في وجوده، لم يثبت التحريم؛ لأن الأصل الإباحة، فلا تزول بالشك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 فصل: واختلف أصحابنا في الرضعة. فقال أبو بكر: متى شرع في الرضاع وخرج الثدي من فيه، فهي رضعة. سواء قطع اختيارًا، أو لعارض من تنفس، أو أمر يلهيه، أو انتقال من ثدي إلى آخر، أو قطعت المرضعة عليه. فإذا عاد، فهي رضعة ثانية. وقال ابن أبي موسى: حد الرضعة أن يمص ثم يمسك عن الامتصاص، لنفس، أو غيره، سواء خرج الثدي من فيه، أو لم يخرج؛ لأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحرم المصة ولا المصتان، والإملاجة ولا الإملاجتان» يدل على أن لكل مصة أثرًا، ولأنه لو تباعد ما بينهما، كانا رضعتين، فكذلك إذا تقاربا، ولأن القليل من الوجور والسعوط رضعة، فالامتصاص أولى. وقال ابن حامد: إن قطع لعارض، أو قطع عليه ثم عاد في الحال، فهما رضعة واحدة. وإن تباعدا، أو انتقل من امرأة إلى أخرى، فهما رضعتان؛ لأن الآكل لو قطع الأكل للشرب، أو عارض، وعاد في الحال، كان أكلة واحدة، فكذلك الرضاع. فصل: ويثبت التحريم بالوجور. وهو أن يصب اللبن في حلقه؛ لأنه ينشز العظم وينبت اللحم، فأشبه الارتضاع. وبالسعوط، وهو أن يصب على أنفه؛ لأنه سبيل لفطر الصائم، فكان سبيلًا للتحريم بالرضاع، كالفم. وعنه: لا يثبت التحريم بهما؛ لأنهما ليسا برضاع. وإن جمد اللبن فجعل جبنًا، وأكله الصبي، فهو كالوجور. ولا يثبت التحريم بالحقنة في المنصوص عنه؛ لأنها تراد للإسهال، لا للتغذي، فلا تنبت لحمًا، ولا تنشز عظمًا. وقد روى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم رواه أبو داود. وقال ابن حامد وابن أبي موسى: ينشر الحرمة؛ لأنه واصل إلى الجوف، أشبه الواصل من الأنف. وإن قطر في إحليله، لم ينشر الحرمة. وجهًا واحدًا؛ لأنه ليس برضاع ولا في معناه. فصل: إذا حلبت في إناء دفعة واحدة، أو في دفعات، ثم سقته صبيًا في أوقات خمسة، فهو خمس رضعات. وإن سقته في وقت واحد، فهو رضعة واحدة؛ لأن الاعتبار بشرب الصبي، فإن التحريم يثبت به، فاعتبر تفرقه واجتماعه. وإن سقته الجميع في وقت واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 جرعة بعد جرعة، فعلى قول ابن حامد: هو رضعة واحدة، لما ذكرنا في الرضاع. وإن حلبت امرأتان في إناء واحد، وسقتاه صبيًا في خمسة أوقات، صار ابنهما؛ لأن ذلك لا يزيد على اللبن المشوب، وهو ينشر الحرمة. فصل: واللبن المشوب كالمحض في نشر الحرمة. ذكره الخرقي. وهذا إذا كانت صفات اللبن باقية، فإن صب في ماء كثير لم يتغير به، لم يثبت التحريم؛ لأن هذا لا يسمى لبنًا مشوبًا، ولا ينشز عظمًا، ولا ينبت لحمًا. وقال أبو بكر: قياس قول أحمد، أن المشوب لا ينشر الحرمة؛ لأنه وجور. وحكي عن ابن حامد: إن غلب اللبن، حرم، وإن غلب خلطه، لم يحرم؛ لأن الحكم للأغلب، ويزول حكم المغلوب، والأول أصح؛ لأن ما تعلق الحكم به غالبًا، تعلق به مغلوبًا، كالنجاسة، والخمر. وسواء شيب بمائع، كالماء، والعسل، أو بجامد، مثل أن يعجن به أقراص، ونحوها؛ لأنه مشوب. فصل: ويحرم لبن الميتة؛ لأنه لبن آدمية ثابت على ولد، فأشبه لبن الحية. وقال الخلال: لا ينشر الحرمة؛ لأنه معنى تتعلق به الحرمة في الحياة، فلم تتعلق في حال الموت، كالوطء، وإن حلبته في إناء ثم سقي منه صبي بعد موتها، كان حكمه كحكم ما لو سقي في حياتها؛ لأنه انفصل عنها في الحياة. فصل: ولا تثبت الحرمة بلبن البهيمة؛ لأن الأخوة فرع على الأمومة، ولا تثبت الأمومة بهذا الرضاع، فالأخوة أولى. ولا تثبت بلبن رجل؛ لأنه لا يجعل غذاء للمولود، فأشبه لبن البهيمة. ولا بلبن خنثى مشكل؛ لأنه لا يعلم أنه امرأة، فلا يثبت التحريم بالشك. وقال ابن حامد: يقف الأمر حتى ينكشف أمر الخنثى، فإن أيس من انكشافه بموت أو غيره، ثبت الحل، لما ذكرنا، وإن ثاب لامرأة لبن من غير حمل، فقال أبو الخطاب: نص أحمد على أنه لا ينشر الحرمة؛ لأنه نادر، أشبه لبن الرجل. وذكر ابن أبي موسى فيه روايتين: إحداهما: ينشر الحرمة؛ لأنه لبن آدمية، أشبه لبن ذات الحمل، وهذا قول ابن حامد لأنه جعل لبن الخنثى موقوفًا. ولو كان تقدم الحمل شرطًا في التحريم، لما وقف أمره؛ لأننا تيقنا عدمه. فصل: وإذا ثاب للمرأة لبن من غير حمل، وقلنا: إنه ينشر الحرمة، فأرضعت به طفلًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 صار ابنًا لها، ولم يصر ابنًا لزوجها؛ لأنه لم يثب بوطئه، فلم يكن منه، وإن وطئ رجلان امرأة، فأتت بولد، فأرضعت بلبنه طفلًا، صار ولدًا لمن ثبت نسب المولود منه، وينتفي عمن ينتفي عنه، سواء ثبت بالقافة أو بغيرها؛ لأن اللبن تابع للولد. فإن ألحقته القافة بهما، فالمرتضع ولدهما. وإن أشكل، أو لم يوجد قافة، ثبتت الحرمة بينه وبينهما؛ لأنه ولد لهما، أو ولد لأحدهما، فتحرم عليه بنات من هو ولد له، وقد اشتبهت الأنساب المحرمة، بغيرها فيحرمان، كما لو اختلطت أخته بأجنبيات. ولا تثبت المحرمية بينه وبين واحدة منهن كذلك. فصل: ولو طلق الرجل زوجة له منها لبن، فتزوجت صبيًا رضيعًا، فأرضعته صار ابنها وابن مطلقها، فينفسخ نكاحها لأنها صارت أمه، وتحرم على المطلق؛ لأنها صارت من حلائل أبنائه لما أرضعت الصبي الذي تزوجته. ولو زوج رجل أم ولده صغيرًا مملوكًا، فأرضتعه بلبن سيدها، انفسخ نكاحها، وحرمت على سيدها كذلك. وإن زوجها صبيًا حرًا، لم يصح نكاحه؛ لأن من شرط نكاح الإماء خوف العنت، وهو معدوم في الصبي. فإن أرضعته، لم تحرم على سيدها؛ لأنه ليس بزوج في الحقيقة. وإن تزوجت صغيرًا، ثم فسخت نكاحه لعيب، ثم تزوجت كبيرًا، فأولدها، وأرضعت بلبنه الصغير الذي فسخت نكاحه، حرمت على زوجها على التأبيد؛ لأنها صارت من حلائل أبنائه. فصل: وإن طلق الرجل زوجته وهي ذات لبن منه، فتزوجت آخر، ولم تحمل منه، فاللبن للأول، سواء زاد بوطء الثاني، أو لم يزد؛ لأن اللبن للولد. وإن حملت من الثاني، ولم تلد، ولم ينقطع لبن الأول، ولم يزد، فهو للأول أيضًا كذلك. وإن ولدت من الثاني، فاللبن له وحده، انقطع لبن الأول أو اتصل، زاد أو لم يزد؛ لأن حاجة المولود إلى اللبن تمنع كونه لغيره. وإن لم تلد من الثاني، واتصل لبن الأول، وزاد بالحمل من الثاني، فاللبن منهما؛ لأن اتصال لبن الأول دليل على أنه منه، وزيادته عند حدوث الحمل، دليل على أنه منه، فيضاف إليهما. وإن انقطع لبن الأول، ثم ثاب بالحمل من الثاني، فقال أبو بكر: هو منهما؛ لأن الظاهر أن لبن الأول عاد، وسببه وطء الثاني، فيضاف إليهما، كالتي قبلها. وقال القاضي: يحتمل أنه من الثاني وحده؛ لأن لبن الأول ذهب حكمه بانقطاعه، وحدث بحمل الثاني فيكون منه. وهذا اختيار أبي الخطاب. فصل: إذا كان لرجل خمس أمهات أولاد، لهن لبن منه، فارتضع طفل من كل واحدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 منهن رضعة، أو ثلاث زوجات، فارتضع من كل واحدة رضعتين، لم يصرن أمهات له؛ لأنه لم يكمل رضاعه من واحدة منهن، وصار السيد والزوج أبًا له في أصح الوجهين؛ لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات، فكمل رضاعه من لبنه، فصار أبًا له، كما لو أرضعته واحدة خمسًا. والثاني: لا يصير أبًا له؛ لأنه رضاع لم تثبت به الأمومة، فلم تثبت به الأبوة، كلبن البهيمة. ولو أرضعته بغير لبن السيد، لم يصر السيد أبا له بحال، ولا يحرم أحدهما على الآخر في أصح الوجهين؛ لأن تحريمه عليه فرع كونه ولدًا لهن، ولم يثبت، وفي الآخر يحرم؛ لأنه كمل له الرضاع من موطوءات السيد، فيحرم عليه، كما لو كمل له من واحدة. ولو كان للمرأة خمس بنات لهن لبن، فارتضع طفل من كل واحدة رضعة، لم يصرن أمهات له. وهل تصير المرأة جدة له، وزوجها جدًا، وابنها خالًا له؟ على الوجهين. فإن قلنا بالوجه الأول، حرمت أمهات الأولاد على الطفل في المسألة الأولى؛ لأنهن موطوءات أبيه، وبنات المرأة في الثانية؛ لأنهن بنات جده وجدته، وإن كن ستًا، فارتضع من كل واحدة رضعة، صارت كل واحدة منهن خالته؛ لأنه قد ارتضع من أخواتها خمس رضعات. وإن قلنا بالوجه الثاني، لم يحرمن، لعدم الأسباب المحرمة. وإن كمل الطفل خمس رضعات من أم رجل وأخته وزوجته وابنته وزوجة ابنه وزوجة أبيه، خرج على الوجهين. فأما إن أرضعت امرأة طفلًا ثلاث رضعات من لبن زوج، ثم انقطع لبنها، وتزوجت آخر، فصار لها منه لبن، فأرضعت منه الطفل رضعتين، صارت له أمًا وجهًا واحدًا؛ لأنه كمل رضاعه من لبنها، ولم يصر الرجلان أبوين له؛ لأنه لم يكمل رضاعه من لبن واحد منهما، لكنه يحرم عليهما؛ لأنه ربيبهما. فصل: إذا تزوج رجل صغيرة، فأرضعتها زوجة له كبرى بلبنه، حرمتا عليه على التأبيد؛ لأن الصغرى بنته، والكبرى من أمهات نسائه. وإن أرضعتها بلبن غيره بعد دخوله بها، حرمتا أيضًا على التأبيد؛ لأن الكبرى من أمهات نسائه، والصغرى ربيبته المدخول بأمها، وإن كان ذلك بعد طلاقهما أو طلاق إحداهما، فكذلك، لما ذكرناه. ولو تزوج رجلان زوجتين كبرى وصغرى، ثم طلقاهما وتزوج كل واحدة منهما زوجة الآخر، فأرضعت الكبرى والصغرى، حرمت الكبرى عليهما؛ لأنها من أمهات نسائهما، وتحرم الصغرى على من دخل بالكبرى؛ لأنها ربيبته مدخول بأمها، ولا تحرم على الآخر، لعدم دخوله بأمها. وإن أرضعت زوجته الكبرى زوجته الصغرى بلبن غيره، ولم يكن دخل بالكبرى، حرمت الكبرى، وفي الصغرى وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 أحدهما: ينفسخ نكاحها؛ لأنها اجتمعت مع أمها في النكاح، فانفسخ نكاحهما، كما لو صارتا أختين. والثاني: لا ينفسخ نكاحها، اختاره الخرقي؛ لأن الكبرى أولى بفسخ نكاحها، لتحريمها على التأبيد، فتبقى هذه منفردة به، بخلاف الأختين، فإنه ليس واحدة منهما أولى من الأخرى. فصل: وإن أرضعتها بنت الكبرى، فهو كرضاع الكبرى سواء؛ لأنها صارت بنت بنتها. وإن أرضعتها أمها، صارت زوجتاه أختين، فانفسخ نكاحهما كذلك. وإن أرضعتها جدتها، صارت الصغرى خالة الكبرى، أو عمتها، وإن أرضعتها أختها، صارت الكبرى خالتها، وإن أرضعتها امرأة أخيها بلبنه، صارت عمتها، وينفسخ نكاحهما في جميع ذلك، وله نكاح من شاء منهما. فصل: وإن تزوج صغيرتين فأرضعتهما امرأة واحدة معًا، أو إحداهما بعد الأخرى، انفسخ نكاحهما معًا؛ لأنهما صارتا أختين، وله أن ينكح من شاء منهما، وإن أرضعتهما زوجة له كبرى مدخول بها، حرم الكل عليه على الأبد، وإن لم يدخل بها فأرضعتهما معًا، انفسخ نكاحهما، وإن أرضعت واحدة بعد الأخرى، ففيه وجهان: أحدهما: ينفسخ نكاح الأولى؛ لأنها اجتمعت مع أمها في النكاح، ويثبت نكاح الثانية؛ لأنها لم تصر أختًا للأولى إلا بعد فسخ نكاحها. والثاني: لا ينفسخ نكاح الأولى برضاعها، فإذا أرضعت الثانية، صارتا أختين فانفسخ نكاحهما. وإن تزوج ثلاث صغار، فأرضعتهن امرأة معًا، أو أرضعت واحدة منفردة واثنتين بعد ذلك معًا، انفسخ نكاحهن جميعًا؛ لأنهن صرن أخوات، وإن أرضعتهن منفردات، انفسخ نكاح الأوليين؛ لأنهما صارتا أختين في نكاحه، وثبت نكاح الثالثة؛ لأنها لم تصر أختًا لهما إلا بعد فسخ نكاحهما. وإن أرضعتهن امرأته الكبرى قبل دخوله بها، فكذلك في قول الخرقي، وفي الوجه الآخر ينفسخ نكاح الجميع. فصل: وكل من تحرم عليه ابنتها، كأمه، وابنته، وأخته، وجدته، وزوجة أخيه بلبن أخيه إذا أرضعت زوجته الصغرى، حرمتها عليه على التأبيد، وفسخت نكاحها كذلك؛ لأنها تجعلها بنتًا لها. ومن لا تحرم ابنتها، كعمته وخالته وامرأة عمه وخاله، لا يضر رضاعها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 شيئًا لأن ابنتها حلال له. ولو تزوج ابنة عمه، أو بنت عمته، أو بنت خاله أو خالته، وهما صغيران، فارتضع أحدهما من جدتهما، انفسخ النكاح بينهما؛ لأن أحدهما يصير عم صاحبه أو خاله. فصل: ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع قبل الدخول، فعليه للزوج ما يلزمه من صداقها وهو النصف؛ لأنه قرره عليه بعد أن كان يعرض للسقوط، وفرق بينه وبين زوجته، فلزمه ذلك، كشهود الطلاق إذا رجعوا. وإن اشترك في الإفساد جماعة، فالضمان بينهم مقسوم على عدد الرضعات، لاشتراكهم في السبب. وإن كانت المرأة هي المفسدة لنكاحها، فلا صداق لها. فإن أرضعت زوجته الكبرى الصغرى، ففسد نكاحهما، فلا مهر للكبرى، ويرجع عليها بنصف صداق الصغرى. وإن دبت الصغرى فارتضعت من الكبرى وهي نائمة، فلا مهر للصغرى، ويرجع عليها بنصف صداق الكبرى. وإن ارتضعت منها رضعتين وهي نائمة، ثم انتبهت فأرضعتها ثلاث رضعات، فعليه للصغرى خمس صداقها، وعشره يرجع على الكبرى، وللكبرى خمس صداقها يرجع به على الصغرى. وإن أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول، فلها المهر؛ لأنه استقر بالدخول فلم يسقط، كما لو ارتدت. وإن أفسد نكاحها غيرها، فلا شيء عليه كذلك. والمنصوص عن أحمد: أنه يرجع عليه بصداقها؛ لأنه نكاح أفسد، فوجب على المفسد غرامة ما وجب على الزوج، كقبل الدخول. فصل: إذا أقر الزوج أن زوجته أخته من الرضاع، انفسخ نكاحه؛ لأنه مقر على نفسه، ثم إن صدقته وكان قبل الدخول، فلا مهر لها؛ لأنه نكاح باطل لا دخول فيه، وإن كذبته، لم يسقط صداقها، ولزمه نصفه؛ لأن الأصل الحل وصحة النكاح. وإن كان بعد الدخول، فلها المهر بما استحل من فرجها، وإن كانت هي التي قالت: هو أخي من الرضاع، فأكذبها، فهي زوجته في الحكم، ولم يقبل قولها في فسخ نكاحه؛ لأنه حق له عليها، لكن إن طلقها قبل الدخول، فلا مهر لها، لاعترافها بسقوطه. وإن قال الزوج: هذه ابنتي من الرضاع، وهي مثله أو أكبر منه، لم تحرم عليه؛ لأننا نتحقق كذبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 [ كتاب النفقات ] باب نفقة الزوجات يجب على الرجل نفقة زوجته، وكسوتها بالمعروف إذا سلمت نفسها إليه، ومكنته من الاستمتاع بها، لما روى جابر: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» رواه مسلم. فإن امتنعت من تسليم نفسها كما يجب عليها، أو مكنت من استمتاع دون استمتاع، أو في منزل دون منزل، أو في بلد دون بلد، ولم تكن شرطت دارها ولا بلدها، فلا نفقة لها؛ لأنه لم يوجد التمكين التام، فأشبه البائع إذا امتنع من تسليم المبيع، أو تسليمه في موضع دون موضع. وإن عرضت عليه، وبذلت له التمكين التام وهو حاضر، لزمته النفقة؛ لأنها بذلت الواجب عليها، وإن كان غائبًا، لم تجب حتى يقدم هو أو وكيله، أو يمضي زمن ولو سار، لقدر على أخذها؛ لأنه لا يوجد التمكين إلا بذلك. وإن لم تسلم إليه، ولم تعرض عليه فلا نفقة عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج عائشة، فلم ينفق عليها حتى أدخلت عليه. ولأنه لم يوجد التمكين، فلا تجب النفقة، كما لو منعت نفسها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 فصل: ولو عرضت عليه وهي صغيرة، لا يوطأ مثلها، فلا نفقة لها؛ لأنه لم يوجد التمكين من الاستمتاع، لأمر من جهتها. وإن كانت كبيرة والزوج صغير، وجبت نفقتها؛ لأن التمكين وجد من جهتها، وإنما تعذر من جهته، فوجبت النفقة، كما لو سلمت إليه، وهو كبير فهرب منها. وإن سلمت إليه وهو مجبوب، أو مريض لا يمكنه الوطء، وجبت النفقة كذلك. وإن سلمت إليه وهي رقتاء، أو نحيفة، أو مريضة، لا يمكن وطؤها، وجبت نفقتها؛ لأن تعذر الاستمتاع لسبب لا تنسب إلى التفريط فيه. فصل: وإن سافرت زوجته بغير إذنه لغير واجب، أو انتقلت من منزله، فلا نفقة لها. وإن كان غائبًا؛ لأنها خرجت عن قبضته وطاعته، فأشبهت الناشز. وإن سافرت بإذنه، فعلى ما ذكرناه في القسم. وإن أحرمت بحج، أو عمرة في الوقت الواجب من الميقات، لم تسقط نفقتها؛ لأنها فعلت الواجب بأصل الشرع، فأشبه ما لو صامت رمضان. وإن تطوعت بالإحرام بغير إذنه، أو أحرمت بالواجب قبل الوقت، أو قبل الميقات بغير إذنه، فلا نفقة لها؛ لأنها منعته الاستمتاع بما لا يجب عليها، فهو كسفرها بغير إذنه وإن فعلته بإذنه، فهو كسفرها لحاجتها. وإن أحرمت بالحج المنذور، فقال أصحابنا: لها النفقة، وينبغي أن يقال: إن كان النذر قبل النكاح، فلها النفقة؛ لأنه وجب قبل النكاح، فكان مقدمًا على حقه فيها. وإن كان بعد النكاح بإذن الزوج، فلها النفقة؛ لأنه إذن في إلزامها إياه، فكان راضيًا بموجبه. وإن كان بغير إذنه، فلا نفقة لها؛ لأنها فوتت التمكين اختيارًا منها بغير رضاه، فأشبه السفر لحاجتها. فصل: وصوم رمضان لا يسقط النفقة؛ لأنه واجب معين. والحكم في صوم النذر والتطوع والاعتكاف المنذور والتطوع، كالحكم في الحج الذي كذلك. وأما قضاء رمضان، فإن ضاق وقته، لم يمنع النفقة؛ لأنه واجب مضيق، أشبه رمضان، وإن كان وقتًا متسعًا، فهو كالإحرام قبل الوقت. فصل: وإذا أسلمت زوجة الكافر بعد الدخول، فلها نفقة العدة؛ لأن الإسلام واجب عليها، مضيق، أشبه الإحرام بالحج الواجب في وقته. وإن أسلم هو دونها، وهي غير كتابية، فلا نفقة لها؛ لأنها منعته بمعصيتها، وإقامتها على كفرها. وإن ارتدت مسلمة، فلا نفقة لها كذلك، وإن كان هو المرتد، فعليه النفقة؛ لأنه الممتنع بردته. وإن عادت المرتدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 إلى الإسلام، فلها النفقة من حين عادت، ولو كان غائبًا؛ لأن سقوط نفقتها لردتها، فعادت بزوالها. وإن نشزت الزوجة، ثم عادت إلى الطاعة والزوج غائب، فلا نفقة لها حتى يمضي زمن لو سار فيه، لقدر على استمتاعها؛ لأن سقوط نفقتها لعدم التمكين، ولم يحصل بعودها إلى الطاعة. فصل: وللأمة المزوجة النفقة في الزمن الذي تسلم نفسها فيه، فإن سلمت إليه ليلًا ونهارًا، فلها النفقة كلها، كالحرة. وإن سلمت ليلًا دون النهار، فلها نصف نفقتها؛ لأنها سلمت نفسها في الزمن الذي يلزمها تسليم نفسها فيه، فكان لها نفقتها فيه، كالحرة في جميع الزمان. فصل: ولا تجب النفقة في النكاح الفاسد؛ لأنه ليس بنكاح شرعي. [ باب نفقة المعتدة ] وهي ثمانية أقسام: أحدها: الرجعية، فلها النفقة السكنى؛ لأنها باقية على الزوجية غير مانعة له من الاستمتاع، أشبه ما قبل الطلاق. الثاني: البائن بفسخ الطلاق، فإن كانت حاملًا فلها النفقة والسكنى، لقول الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وهل تجب النفقة للحمل أو للحامل؟ فيه وجهان: أحدهما: للحمل؛ لأنها تجب بوجوده، وتسقط بعدمه. والثاني: تجب لها بسببه؛ لأنها تجب مع الإعسار، ونفقة الولد لا تجب على معسر. وإن كانت حائلًا، فلا نفقة لها، لدلالة الآية، بدليل خطابها على عدمها. وفي السكنى روايتان: إحداهما: تجب، للآية. والأخرى: لا تجب، لحديث فاطمة بنت قيس، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 مفسر للآية فإن قلنا: تجب النفقة للحمل، فلا نفقة لزوجة العبد، ولا للأمة الحامل؛ لأنه لا تجب نفقة ولدهما على أبيه. وإن قلنا: تجب للحامل، وجبت نفقتهما، كما تجب في صلب النكاح. فصل: الثالث: المعتدة في الوفاة، فإن كانت حائلًا، فلا نفقة لها ولا سكنى؛ لأن ذلك يجب للتمكين من الاستمتاع، وقد فات بالوفاة، وإن كانت حاملًا، ففي وجوبهما روايتان: إحداهما: لا تجبان كذلك. والثانية: تجبان؛ لأنها معتدة في نكاح صحيح، أشبهت البائن في الحياة. فصل: الرابع: المعتدة من اللعان، فإن كانت حائلًا، أو منفيًا حملها، فلا سكنى لها ولا نفقة، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فرق بين المتلاعنين. وقضى: أن لا بيت عليه ولا قوت» . رواه أبو داود. ولأنها بائن لا ولد له معها، فأشبهت المختلعة الحائل. وإن كانت حاملا حملًا يلحقه نسبه، فلها السكنى والنفقة؛ لأن ذلك يجب للحمل، أو لسببه، وهو موجود، فإن نفاه فأنفقت وسكنت، ثم استلحقه، لحقه ولزمه ما أنفقت، وأجرة رضاعها ومسكنها؛ لأنها فعلت ذلك على أنه لا أب له، وقد بان خلافه. فصل: الخامس: المعتدة من وطء شبهة، أو نكاح فاسد، إذا فرق بينهما، فلا سكنى لها بحال؛ لأنه إنما تجب بسبب النكاح، ولا نكاح هاهنا، ولا نفقة لها إن كانت حائلًا. وإن كانت حاملًا، وقلنا بوجوب النفقة للحمل، وجبت؛ لأن الحمل هاهنا لاحق به، فأشبه الحمل في النكاح الصحيح. وإن قلنا: تجب للحامل، فلا نفقة لها؛ لأن حرمته هاهنا غير كاملة. فصل: السادس: الزانية: لا نفقة لها، ولا سكنى بحال؛ لأنه لا نكاح بينهما، ولا يلحقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 نسب حملها. فصل: السابع: زوجة المفقود، لها النفقة لمدة التربص؛ لأنها محبوسة عليه في بيته، فإذا حكم لها بالفرقة، انقطعت نفقتها، لزوال نكاحها حكمًا، فإذا قدم فردت عليه، فلها النفقة لما يستقبل دون ما مضى؛ لأنها خرجت بمفارقتها إياه عن قبضته، فلا تجب إلا بعودها إليه، وإن لم ترد إليه، فلا نفقة لها بحال. فصل: الثامن: زوجة العبد، والأمة المزوجة، وقد تقدم بيان حكمهما. فصل: ومن وجبت لها النفقة للحمل، وجب دفعها إليها يومًا بيوم، لقول الله تعالى: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] . ولأن الحمل يتحقق حكمًا في منع النكاح، والأخذ في الزكاة، ووجوب الدفع في الدية، والرد بالعيب، فكذلك في وجوب النفقة لها. وقال أبو الخطاب: ويحتمل أنه لا يجب دفع النفقة إليها، حتى تضع الحمل؛ لأنه لا يتحقق، ولذلك لم يصح اللعان عليه قبل وضعه على إحدى الروايتين، والمذهب: الأول: فإن أنفق عليها، ثم تبين أنها غير حامل، رجع عليها؛ لأنه دفعها إليها، على أنها واجبة، فرجع عليها، كما لو قضاها دينًا، ثم تبين براءته منه. وعنه: لا يرجع عليها؛ لأنه لو كان النكاح فاسدًا، فأنفق عليها، ثم فرق بينهما، لم يرجع، كذا هاهنا. وإن لم ينفق عليها لظنه أنها حائل، ثم تبين أنها حامل، رجعت عليه؛ لأننا تبينا استحقاقها له، فرجعت به عليه، كالدين. وإن ادعت الحمل، لتأخذ النفقة، أنفق عليها ثلاثة أشهر، ثم ترى القوابل، فإن بان أنها حامل، فقد أخذت حقها، وإن بان خلافه، رجع عليها. [ باب قدر النفقة ] يجب للمرأة من النفقة قدر كفايتها بالمعروف، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 يكفيك وولدك بالمعروف» . متفق عليه. ولأن الله قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . والمعروف: قدر الكفاية، ولأنها نفقة واجبة، لدفع الحاجة، فتقدرت بالكفاية، كنفقة المملوك، فإذا ثبت أنها غير مقدرة، فإنه يرجع في تقديرها إلى الحاكم، فيفرض لها قدر كفايتها من الخبز والأدم. وقال القاضي: هي مقدرة برطلي خبز بالعراقي، وما يكفيها من الأدم؛ لأن الواجب للمسكين في الكفارة رطلان. ويجب لها في القوت الخبز؛ لأنه المقتات في العادة. وقال ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . الخبز والزيت، وعن ابن عمر: الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز والتمر. ومن أفضل ما تطعمهم: الخبز واللحم. ويجب لها من الأدم بقدر ما تحتاج إليه من أدم البلد، من الزيت، والشيرج والسمن واللبن واللحم، وسائر ما يؤتدم به؛ لأن ذلك من النفقة بالمعروف، وقد أمر الله تعالى ورسوله به. فصل: ويختلف ذلك بيسار الزوج وإعساره، لقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] . وتعتبر حال المرأة أيضًا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، فيجب للموسرة تحت الموسر من أرفع خبز البلد وأدمه بما جرت به عادة مثلها ومثله، وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأدمه، على قدر عادتهما، وللمتوسطة تحت المتوسط، أو إذا كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا، ما بينهما، كل على حسب عادته؛ لأنه إيجاب نفقة الموسرين على المعسر، وإنفاق الموسر نفقة المعسرين، ليس من المعروف، وفيه إضرار بصاحبه. وحكم المكاتب والعبد حكم المعسر، ولأنهما ليسا بأحسن حالًا منه، ومن نصفه حر، إن كان معسرًا، فهو كالمعسرين، وإن كان موسرًا، فهو كالمتوسطين. فصل: فإن دفع إليها قيمة الخبز والأدم، أو الحب والدقيق، لم يلزمها قبوله؛ لأنه طعام وجب في الذمة بالشرع، فلم يجب أخذ عوضه، كالكفارة، وإن اتفقا على ذلك جاز؛ لأنه حق آدمي، فجاز أخذ عوضه باتفاقهما، كالقرض. فصل: ويجب لها ما تحتاج إليه من المشط والدهن لرأسها، والماء والسدر لغسله، وما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 يعود بنظافتها؛ لأنه يراد للتنظيف، فيجب عليه، كما يجب على المستأجر كنس الدار وتنظيفها. ولا يلزمه ثمن الخضاب؛ لأنه للزينة، فأشبه الحلي، ولا ثمن الدواء وأجرة الطبيب؛ لأنه ليس من النفقة الراتبة، إنما يحتاج إليه لعارض. وأما الطيب، فما يراد منه لقطع السهك والريح الكريهة والعرق، لزمه؛ لأنه يراد للتنظيف، وما يراد للتلذذ والاستمتاع، لم يلزمه؛ لأن الاستمتاع حق له، فلا يجب عليه. فصل: وتجب الكسوة، للآية والخبر، ولأنه يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام فلزمته، كالنفقة. ويجب للموسرة تحت الموسر من مرتفع ما يلبس في البلد، من الإبريسم. والخز والقطن والكتان. وللفقيرة تحت الفقير من غليظ القطن والكتان، وللمتوسطة تحت المتوسط، أو إذا كان أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا، ما بينهما على حسب عوائدهم في الملبوس، كما قلنا في النفقة. وأقل ما يجب قميص وسراويل ومقنعة، ومداس للرجل، وجبة للشتاء؛ لأن ذلك من الكسوة بالمعروف، وملحفة، أو كساء، أو مضربة محشوة للنوم، وبساط، ولبد، أو حصير للنهار. ويكون ذلك من المرتفع للأولى، ومن الأدون للثانية، ومن المتوسط للثالثة؛ لأنه من المعروف. فصل: ويجب لها مسكن؛ لأنها لا تستغني عنه للإيواء، والاستتار عن العيون، للتصرف والاستمتاع، ويكون ذلك على قدرهن، كما ذكرنا في النفقة. فصل: وإن كانت ممن لا تخدم نفسها، لكونها من ذوات الأقدار، أو مريضة، وجب لها خادم، لقول الله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وإخدامها في العشرة بالمعروف، ولا يجب لها أكثر من خادم؛ لأن المستحق خدمتها في نفسها، وذلك يحصل بخادم واحد، ولا يجوز أن يخدمها إلا امرأة، أو ذا رحم محرم، أو صغيرًا وهل يجوز أن تكون كتابية؟ فيه وجهان: بناء على إباحة النظر لهن، فإن قلنا بجوازه: فهل يلزم المرأة قبولها؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمها قبولها؛ لأنهم يصلحون للخدمة. والثاني: لا يلزمها؛ لأن النفس تعافهم وإن قالت المرأة: أنا أخدم نفسي، وآخذ أجرة الخادم، لم يلزم الزوج لأن القصد بالخدمة ترفيهها، وتوفيرها على حقه، وذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 يفوت بخدمتها. وإن قال: أنا أخدمك بنفسي، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمها الرضى به؛ لأن الكفاية تحصل به. والثاني: لا يلزمها؛ لأنها تحتشمه، فلا تستوفي حقها من الخدمة، ولا يلزمه أن يملكها خادمًا، بل إن كان له، أو استأجره، جاز. وإن كان مملوكًا لها، فاتفقا على خدمته، لزمه نفقته بقدر نفقة الفقيرين، في القوت والأدم والكسوة، ولا يجب له مشط، ولا سدر، ولا دهن للرأس لأنه يراد للتنظيف والزينة، ولا يراد ذلك من الخادم. ويجب للخادمة خف إذا كانت تخرج إلى الحاجات، لحاجتها إليه. فصل: وعليه دفع نفقتها إليها كل يوم إذا طلعت الشمس؛ لأنه أول وقت الحاجة. فإن اتفقا على تعجيلها، أو تأخيرها، أو تسليفها النفقة لشهر، أو عام، أو أكثر، جاز؛ لأن الحق لا يخرج عنهما، فجاز فيه ما تراضيا عليه، كالدين. فإن دفع إليها نفقة يوم، فبانت فيه، لم يرجع بما بقي؛ لأنها أخذت ما تستحقه. وإن أسلفها نفقة أيام، ثم بانت، رجع عليها؛ لأنه غير مستحق لها. وذكر القاضي: ما يدل على أن حكم ذلك حكم الرجوع في معجل الزكاة، على ذكر في موضعه. فأما إن غاب عن زوجته زمنًا، ولم ينفق عليها، فإنها ترجع عليه بنفقة ما مضى، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، إن طلقوا: أن يبعثوا بنفقة ما مضى. ولأنه حق لها عليه بحكم العوض، فرجعت به عليه، كالدين. وعنه: لا ترجع عليه إلا أن يكون الحاكم قد فرضها لها؛ لأنها نفقة، فأشبهت نفقة الأقارب. فصل: وعليه كسوتها في كل عام مرة في أوله؛ لأنه العادة. فإن تلفت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها، لزمه بدلها؛ لأن ذلك من تمام كسوتها، وإن بليت قبله، لم يلزمه بدلها؛ لأنه لتفريطها، فأشبه ما لو أتلفتها. وإن مضى زمن يبلى فيه مثلها ولم تبل، ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه بدلها؛ لأنها غير محتاجة إلى الكسوة. والثاني: يجب؛ لأن الاعتبار بالمدة، بدليل أنها لو تلفت قبل انقضاء المدة، لم يلزمه بدلها، وإن كساها ثم أبانها، ففيه وجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لأنه دفع ما تستحق دفعه، فلم يرجع به، كنفقة اليوم. والثاني: يرجع؛ لأنه دفع لزمن مستقبل، أشبه ما لو سلفها النفقة، ثم أبانها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 فصل: وإذا دفع إليها النفقة، فلها أن تتصرف فيها بما شاءت، من بيع وصدقة وغيرهما. لأنها حق لها، فملكت التصرف فيها، كالمهر، إلا أن يعود ذلك عليها بضرر في بدنها، ونقص في استمتاعها، فلا تملكه؛ لأنه يفوت حقه، وكذلك الحكم في الكسوة في أحد الوجهين. وفي الآخر: ليس لها التصرف فيها بحال؛ لأنه يملك استرجاعها بطلاقها، بخلاف النفقة. فصل: وإذا نشزت المرأة، سقطت نفقتها؛ لأنها تستحقها في مقابلة التمكين من استمتاعها، وقد فات ذلك بنشوزها. وإن كان لها ولد، لم تسقط نفقته؛ لأن ذلك حق له، فلا تسقط بنشوزها. [ باب قطع النفقة ] إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر، فلها فسخ النكاح، لقول الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وقد تعذر الإمساك بالمعروف، فيتعين التسريح بإحسان. وكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم: يأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا. فإن طلقوا، بعثوا بنفقة ما مضى، ولأنه إذا ثبت لها الفسخ لعجزه عن الوطء، فلأن يثبت بالعجز عن النفقة أولى؛ لأن الضرر فيه أكثر. وإن أعسر ببعضها، فلها الفسخ؛ لأن البدن لا يقوم بدونها. وإن أعسر بكسوة المعسر، فلها الفسخ؛ لأن البدن لا يقوم بدونها، فأشبهت القوت. وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر، فلا خيار لها؛ لأنها تسقط بإعساره، ولأن البدن يقوم بدونها. ومن لم يجد إلا قوت يوم بيوم، فليس بمعسر بالنفقة؛ لأن هذا هو الواجب. وإن كان يجد في أول النهار ما يغديها، وفي آخره ما يعشيها، فلا خيار لها؛ لأنها تصل إلى كفايتها. وإن كان يجد قوت يوم دون يوم، فلها الخيار؛ لأنها لا تصل إلى كفايتها، وإن كان صانعًا يعمل في كل أسبوع ثوبًا، يكفيه ثمنه للأسبوع كله، فلا خيار لها؛ لأنها تصل إلى كفايتها. ومتى عازه أمكنه الاقتراض، ثم يقضيه، فلا تنقطع النفقة. فإن كانت نفقته من عمل عجز عنه لمرض مرجو الزوال، أو غيبة ماله، وأمكنه الاقتراض إلى زوال العارض وفعل، فلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 خيار لها. وإن عجز عن الاقتراض، وكان العارض يزول في ثلاثة أيام فما دون، فلا خيار لها؛ لأن ذلك قريب. وإن كثر، فلها الفسخ؛ لأن الضرر يكثر. وإن أعسر بالمسكن ففيه وجهان: أحدهما: لا خيار لها؛ لأن البدن يقوم بدونه. والثاني: لها الخيار؛ لأنه مما لا بد منه، أشبه النفقة والكسوة. فصل: فإن منع النفقة من يساره، وقدرت له على مال، أخذت منه قدر كفايتها بالمعروف، لما روي «أن هندًا جاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه. وإن منعها بعض الكفاية، فلها أخذه، للخبر. ولها أن تأخذ نفقة ولدها الصغير، للخبر، فإن وجدت من جنس الواجب لها، أخذته، وإن لم تجد، أخذت بقدره من غيره متحرية للعدل في ذلك. فإن لم تجد ما تأخذه، رفعته إلى الحاكم، ليأمره بالإنفاق، أو الطلاق، فإن أبى، حبسه. فإن صبر على الحبس، وقدر الحاكم على ماله، أنفق منه. وإن لم يجد إلا عروضًا، باعها وأنفق منها، فإن تعذر ذلك، فلها الفسخ لما ذكرنا من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه إذا ثبت الفسخ مع العذر دفعًا للضرر، فمع عدمه أولى. وإن كان الزوج غائبًا، كتب الحاكم إليه، كما كتب عمر إلى الذين غابوا عن نسائهم. فإن لم يعلم خبره، أو تعذرت النفقة منه، ولم يوجد له مال، فلها الفسخ، لما ذكرنا، وهذا اختيار الخرقي، وأبي الخطاب. وذكر القاضي: أن الفسخ لا يثبت مع اليسار؛ لأن الخيار لعيب الإعسار، ولم يثبت ذلك. وما ذكرناه أصح، فإن الإعسار ليس بعيب، وإنما الفسخ لدفع الضرر، وهما فيه سواء، ومن كان له دين يتمكن من استيفائه، فهو كالموسر؛ لأنه قادر عليه. وإن لم يتمكن من استيفائه، فهو كالمعدوم؛ لأنه عاجز عنه. فصل: فإن كان له عليها دين من جنس الواجب لها من النفقة، فأراد أن يحتسب به عليها وهي موسرة، فله ذلك؛ لأن له أن يقضي دينه من أي ماله شاء، وهذا منه، وإن كانت معسرة، لم يملك ذلك؛ لأن قضاء الدين في الفاضل عن الكفاية، ولا فضل لها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 فصل: ومتى ثبت لها الفسخ، فرضيت بالمقام معه، ثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر، من القوت، والأدم، والكسوة، والمسكن، والخادم، تطالبه بها إذا أيسر؛ لأنها حقوق واجبة عجز عنها، فثبتت في ذمته كالدين. وقال القاضي: لا يثبت في ذمته شيء، قياسًا على الزائد عن نفقة المعسر، والفرق ظاهر، فإن الزائد غير واجب على معسر، وهذا معسر، بخلاف هذا، ولا يلزمها التمكين من الاستمتاع، ولا الإقامة في منزله؛ لأن ذلك في مقابلة النفقة، فلا يجب مع عدمها، ومتى عن لها الفسخ، فلها الفسخ؛ لأن وجوب النفقة يتجدد كل يوم، فيتجدد حق الفسخ، ولو تزوجت معسرًا عالمة بإعساره، ثم بدا لها الفسخ لعسرته، فلها الفسخ لما ذكرنا. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد، أنه ليس لها الفسخ في الموضعين؛ لأنها رضيت بعيبه، فأشبه امرأة العنين إذا رضيت بعنته. فصل: وإن اختارت الفسخ، لم يجز لها ذلك، إلا بحكم حاكم؛ لأنه مختلف فيه، فلم يجز بغير الحاكم، كالفسخ بالعنة، ولها المطالبة بالفسخ في الحال؛ لأنه فسخ لتعذر العوض، فثبت في الحال، كفسخ البيع لفلس المشتري. فصل: وإن أعسر زوج الأمة، فلم تختر الفسخ، لم يكن لسيدها الفسخ؛ لأن الحق لها، فلم يكن له الفسخ، كالفسخ للعنة، وإن أعسر زوج الصغيرة والمجنونة، فليس لوليهما الفسخ؛ لأنه فسخ لنكاحهما، فلم يملكها وليهما، كالفسخ للعيب، وحكي عن القاضي: أن لسيد الأمة الفسخ؛ لأن الضرر عليه، ويحتمل أن يملك ولي الصغيرة والمجنونة الفسخ؛ لأنه فسخ لفوات العوض، فملكه كفسخ البيع، لتعذر الثمن. فصل: وإذا وجد التمكين الموجب للنفقة، فلم ينفق حتى مضت مدة، صارت النفقة دينًا في ذمته، سواء تركها لعذر، أو غيره، لحديث عمر، ولأنه مال يجب على سبيل البدل في عقد معاوضة، قلم يسقط بمضي الزمان، كالصداق، وإن أعسر بقضائها، لم تملك الفسخ؛ لأنها دين يقوم البدن بدونه، فأشبهت دين القرض. وعنه: لا يثبت في الذمة، وتسقط ما لم يكن الحاكم قد فرضها؛ لأنها نفقة تجب يومًا بيوم، فإذا لم يفرضها الحاكم، سقطت بمضي الزمن، كنفقة الأقارب، فعلى هذا لا يصح ضمانها؛ لأنه ليس مآلها إلى الوجوب، وعلى الرواية الأولى، يصح ضمان ما وجب منها، وما يجب في المستقبل؛ لأن مآله إلى الوجوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 فصل: وإذا ادعى الزوج، أنه دفع إليها نفقتها، فأنكرته، فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم القبض. وإن مضت مدة لم ينفق فيها، فادعت أنه كان موسرًا، فأنكرها ولم يعرف له مال قبل ذلك، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدمه، وإن عرف له مال، فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن ادعت التمكين الموجب للنفقة فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمه. وإن قالت: فرض الحاكم نفقتي منذ سنة، فقال: بل منذ شهر، فالقول قوله كذلك، وإن ادعى نشوزها فأنكرته، فالقول قولها كذلك، وإن طلقها طلقة رجعية، وكانت حاملًا، فقال الزوج: طلقتك قبل الوضع، فانقضت عدتك به، وقالت: بل بعده، لم يبق له رجعة لإقراره بانقضاء عدتها، ولزمتها العدة، لإقرارها بها، والقول قولها مع يمينها، في وجوب نفقتها؛ لأن الأصل بقاؤها. [ باب نفقة الأقارب ] وهما صنفان: عمود النسب، وهم الوالدان، وإن علوا، والولد وولده وإن سفل، فتجب نفقتهم لقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] ومن الإحسان الإنفاق عليهما، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» . وقال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فثبتت نفقة الوالدين والولد، بالكتاب والسنة، وثبتت نفقة الأجداد، وأولاد الأولاد، لدخولهم في اسم الآباء، والأولاد، قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحسين: «إن ابني هذا سيد» وسواء كان وارثًا، أو غير وارث؛ لأن أحمد قال: لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 تدفع الزكاة إلى ولد ابنته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ابني هذا سيد» وإذا منع دفع الزكاة إليهم لقرابتهم، يجب أن تلزمه نفقتهم. وذكر القاضي ما يدل على هذا، وذكر في موضع آخر، أنه لا تجب النفقة إلا على وارث، وهو ظاهر قول الخرقي وغيره من أصحابنا. الصنف الثاني: كل موروث سوى من ذكرنا، وسوى الزوج، لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] إلى قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] فأوجب على الوارث أجرة رضاع الصبي، فيجب أن تلزمه نفقته. وروي أن «رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أبر؟ قال: أمك وأباك وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصول» رواه أبو داود. وقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على بني عم منفوس بنفقته. ولأنها قرابة تقتضي التوريث، فتوجب الإنفاق، كقرابة الولد. فصل: فأما ذو الرحم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب، فلا نفقة عليهم في المنصوص، لعدم النص فيهم، وامتناع قياسهم على المنصوص، لضعف قرابتهم، ويتخرج وجوبها عليهم؛ لأنهم يرثون في حال، فتجب النفقة عليهم في تلك الحال. وإن كان الوارث غير موروث، كالمعتقة، وعم المرأة، وابن عمها، وابن أخيها، والمعتق، وجب عليهم الإنفاق في المنصوص؛ لأنهم وارثون، فيدخلون في العموم. وعنه: لا نفقة عليهم؛ لأنهم غير موروثين، أشبهوا ذوي الأرحام. فصل: ويشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط: أحدها: فقر من تجب نفقته. فإن استغنى بمال، أو كسب، لم تجب نفقته؛ لأنها تجب على سبيل المواساة، فلا تستحق مع الغنى عنها، كالزكاة، وإن قدر على الكسب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 من غير حرفة، ففيه روايتان: إحداهما: لا نفقة له؛ لأنه يستغني بكسبه، أشبه المحترف. والثانية: له النفقة؛ لأنه لا مال له، ولا حرفة، أشبه الزمن. الثاني: أن يكون للمنفق ما ينفق عليهم فاضلًا عن نفقة نفسه وزوجته، لما روى جابر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ولأن نفقة القريب مواساة، فيجب أن تكون في الفاضل عن الحاجة الأصلية، ونفقة نفسه من الحاجة الأصلية، وكذلك نفقة زوجته؛ لأنها تجب لحاجته، فأشبهت نفقة نفسه، وكذلك نفقة خادمه الذي لا يستغني عن خدمته، تقدم كذلك. الثالث: اتفاقهما في الدين والحرية، فلا يجب على الإنسان الإنفاق على من ليس على دينه؛ لأنه لا ولاية بينهما، ولا يرث أحدهما صاحبه؛ لأنها تجب على سبيل المواساة، والصلة، فلمن تجب له مع اختلاف الدين، كالزكاة. وعنه في عمودي النسب: أنها تجب مع اختلاف الدين؛ لأنهم يعتقون عليه. فينفق عليهم، كما لو اتفق دينهما. وأما العبد، فلا نفقة عليه؛ لأنه لا شيء له يواسي به، فلا تجب نفقته على قريبه؛ لأن نفقته على سيده، ولأنه لا توارث بينهما، ولا ولاية، فلم ينفق أحدهما على صاحبه، كالأجانب. فصل: ولا يشترط في وجوب النفقة نقصان الخلقة، بزمانة، أو صغر، أو جنون، لعموم الخبر، وعن أحمد أنه يشترط ذلك في غير الوالدين؛ لأن من علم ذلك فيه في مظنة التكسب، فكان في مظنة الغنى. ولا يشترط البلوغ ولا العقل فيمن تجب النفقة عليه، بل يجب على الصبي والمجنون، نفقة قريبهما إذا كانا موسرين؛ لأنها من الحقوق المالية فتجب عليهما، كأرش جنايتهما. فصل: ومن كان له أب، لم تجب نفقته على غيره؛ لأن الله تعالى أمر الآباء أن يعطوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 الوالدات أجر الرضاع بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وقوله سبحانه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . «وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هندًا: أن تأخذ ما يكفي ولدها من مال أبيهم» . فإن لم يكن لهم أب، ولم يكن له إلا وارث واحد، فالنفقة عليه. وإن كان له وارثان، فالنفقة عليهما على قدر إرثهما. فإذا كان لهم أم وجد، فعلى الأم ثلث النفقة، وعلى الجد الثلثان. وإن كان له جدة وأخ، فعلى الجدة سدس النفقة، والباقي على الأخ. وإن كان له أخوان، أو أختان، فالنفقة عليهما نصفين. وإن كان له أخ وأخت، فالنفقة عليهما أثلاثًا. وإن كان له أخت وأم، فعلى الأخت ثلاثة أخماس النفقة، وعلى الأم الخمسان؛ لأنه مال يستحق بالقرابة، فكان على ما ذكرناه كالميراث، وإن كان له من الورثة ثلاثة، أو أكثر، فنفقته عليهم على قدر إرثهم، لما ذكرنا، وإن اجتمع أم أم، وأبو أم، فالنفقة على أم الأم؛ لأنها الوارثة. فصل: ومن كان وارثه فقيرًا، وله قريب موسر محجوب به، كعم معسر، وابن عم موسر، وأخ فقير، وابن أخ موسر، فلا نفقة له عليهما، ذكره القاضي، وأبو الخطاب؛ لأنه علة الوجوب الإرث، فيسقط بحجبه، كما يسقط ميراثه. وإن كانا من عمودي النسب، كأب معسر، وجد موسر، فالنفقة على الجد؛ لأن وجوب النفقة عليه، لقرابته، وهي باقية مع الحجب. ويحتمل أن يجب الإنفاق على الموسر في التي قبلها؛ لأن الموجب للنفقة القرابة الموجبة للميراث، لا نفس الميراث، وهي موجودة مع الحجب، ووجود المعسر كعدمه. فصل: ومن لم يفضل عنده إلا نفقة واحدة، بدأ بالأقرب فالأقرب؛ لأنه أولى، فإذا كان له أب وجد، فالنفقة للأب، وإن كان له ابن، وابن ابن، فهي للابن. وإن اجتمع أب وابن صغير، أو زمن، فالنفقة للابن؛ لأن نفقته وجبت بالنص، وإن كان كبيرًا، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقدم الابن كذلك. والثاني: يقدم الأب؛ لأن حرمته آكد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 والثالث: هما سواء، لتساويهما في القرب؛ لأن كل واحد يدلي بنفسه. وإن اجتمع أبوان، ففيهما ثلاثة أوجه: أحدها: هما سواء لتساويهما في القرابة. والثاني: الأم أحق، لما روي أن «رجلًا قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك» . والثالث: الأب؛ لأنه ساواها في القرابة وهي الولادة، وانفرد بالتعصيب. وإن اجتمع أخ وجد، احتمل أن يقدم الجد؛ لأنه آكد حرمة، وقرابته قرابة ولادة، ولهذا لا يقاد به، ويحتمل تساويهما، لتساويهما في التعصيب والإرث، وإن كان مع الجد عم، أو ابن عم، قدم الجد، لتقديمه في الحرمة والإرث، ولأنهما يدليان به، فقدم عليهما، كالأب مع الأخ. فصل: وعلى المعتق نفقة عتيقه، إذا وجدت الشروط؛ لأنه وارثه، ولا نفقة للمعتق على عتيقه؛ لأنه لا يرثه. فصل: وتجب نفقة القريب مقدرة بالكفاية؛ لأنها تجب للحاجة، فيجب ما تندفع به. وإن احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقة خادمه. وإن كانت له زوجة، وجبت نفقة زوجته؛ لأنه من تمام الكفاية، وعنه: لا يلزم الرجل نفقة زوجة ابنه. فعلى هذه الرواية لا يلزمه نفقة غير القريب؛ لأن الواجب نفقته، لا نفقة غيره. فصل: ويلزمه إعفاف أبيه، وجده، وابنه الذين تلزمه نفقتهم إذا طلبوا ذلك؛ لأنه يحتاج إليه ويضره فقده، فأشبه النفقة، وهو مخير بين أن يزوجه حرة، أو يسريه بأمة، ولا يجوز أن يزوجه أمة؛ لأنه بوجوب إعفافه، يستغني عن الأمة ونكاحها. ولا يعفه بعجوز ولا قبيحة؛ لأن القصد الاستمتاع، ولا يحصل ذلك بهما. وإن أعفه بزوجة فطلقها، أو بأمة فأعتقها، لم يلزمه إعفافه ثانيًا؛ لأنه ضيع على نفسه، وإن أعفه بأمة فاستغنى عنها، لم يملك استرجاعها؛ لأنه دفعها إليه في حال وجوبها عليه، فم يملك استرجاعها كالزكاة. ويجيء على قول أصحابنا: أن يلزمه إعفاف كل من لزمه نفقته؛ لأنه من تمام كفايته، فأشبه النفقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 فصل: وإن احتاج الطفل إلى الرضاع، لزم إرضاعه؛ لأن الرضاع في حق الصغير كنفقة الكبير. ولا يجب إلا في حولين، لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فإن امتنعت الأم من رضاعه، لم تجبر. سواء كانت في حبال الأب، أو مطلقة، لقول الله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ولأنها لا تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب، فلا تجبر على الرضاع، إلا أن يضطر إليها، ويخشى عليه، فيلزمها إرضاعه كما لو لم يكن له أحد غيرها. ومتى بذلت الأم إرضاعه متبرعة، أو بأجرة مثلها، فهي أحق به، سواء وجد الأب متبرعة برضاعه، أو لم يجد، لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] إلى قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، وقوله سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولأنها أحق بحضانته، فوجب تقديمها. وإن أبت أن ترضعه إلا بأكثر من أجر مثلها، لم يلزمه ذلك، ويسقط حقها؛ لأنها أسقطته باشتطاطها، ولأن ما لا يوجد بثمن المثل، كالمعدوم، مثل الرقبة في الكفارة. وإن كانت ذات زوج أجنبي من الطفل، فمنعها زوجها الرضاع، سقط حقها. وإن أذن لها، فهي على حقها من ذلك. فصل: وتفارق نفقة القريب، نفقة الزوجة، في أربعة أشياء: أحدها: أن نفقة الزوجة تجب مع الإعسار؛ لأنها بدل، فأشبهت الثمن في المبيع، ونفقة القريب مواساة، فلا تجب إلا من الفاضل لقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] الثاني: أن نفقة الزوجة تجب للزمن الماضي، لما ذكرنا، ونفقه القريب لا تجب لما مضى؛ لأنها وجبت لإحياء النفس، وتزجية الحال، وقد حصل ذلك في الماضي بدونها. الثالث: إذا دفع إلى الزوجة نفقة يومها، أو كسوة عامها، فمضت المدة ولم تتصرف فيها، فعليه ما يجب للمدة الثانية، والقريب بخلاف ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 والرابع: أنه إذا دفع إلى الزوجة ما يجب ليومها، أو لعامها، فسرق، أو تلف، لم يلزمه عوضه، والقريب بخلافه، لما ذكرنا. [ باب الحضانة ] إذا افترق الزوجان وبينهما طفل، أو مجنون، وجبت حضانته؛ لأنه إن ترك، ضاع وهلك، فيجب إحياؤه. وأحق الناس بالحضانة، الأم؛ لأن أبا بكر الصديق قضى بعاصم بن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأمه أم عاصم، وقال لعمر: ريحها وشمها ولطفها خير له منك. رواه سعيد. واشتهر ذلك في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فلم ينكر، فكان إجماعًا. ولأن الأم أقرب وأشفق، ولا يشاركها في قربها إلا الأب، وليس له شفقتها، ولا يلي الحضانة بنفسه. فإن عدمت الأم، أو لم تكن من أهل الحضانة، فأحقهم بها أمهاتها الأقرب فالأقرب؛ لأنهن أمهات. ولا يشاركهن إلا أمهات الأب، وهن أضعف منهن ميراثًا، ثم الأب؛ لأنه أحد الأبوين، ثم أمهاته وإن علون، ثم الجد، ثم أمهاته. وعنه: أن أمهات الأب، أولى من أمهات الأم؛ لأنهن يدلين بعصبة، فعلى هذا يكون الأب بعد الأم، ثم أمهاته، ثم أمهات الأم. وعنه: أن الخالة، والأخت من الأم، أحق من الأب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخالة أم» . فعلى هذا، الأخت من الأبوين أحق منه ومنهما؛ لأنها أدلت بالأم وزادت بقرابة الأب. والأول المشهور في المذهب. فإذا انقرض الآباء والأمهات، انتقلت إلى الأخت من الأبوين. ويحتمل أن ينتقل إلى الأخ؛ لأنه عصبة، والأول أولى؛ لأنها امرأة، فتقدم على من في درجتها من الذكور، كالأم والجدة، ولأنها تلي الحضانة بنفسها. ثم الأخت من الأب؛ لأنها تقوم مقام الأخت من الأبوين، وترث ميراثها. ثم الأخت من الأم؛ لأنها ركضت معها في الرحم. ثم الأخ للأبوين، ثم الأخ للأب، ثم بنوهم كذلك. فإذا انقرض الإخوة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 والأخوات، فالحضانة للخالات. ويحتمل كلام الخرقي تقديم العمات؛ لأنهن يدلين بعصبة فقدمن، كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم، والأولى أولى؛ لأنهن استوين في عدم الميراث، فكان من يدلي بالأم أولى ممن يدلي بالأب كالجدات، ولأن الخالة أم. ثم العمات، وتقدم التي من الأبوين، ثم التي من الأب، ثم التي من الأم، ثم الأعمام، ثم بنوهم. فصل: وللرجال من العصبات حق في الحضانة، بدليل ما روي «أن عليًا وجعفرًا وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة بنت حمزة، فقال علي: بنت عمي وعندي بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال زيد بن حارثة: بنت أخي؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين زيد وحمزة. وقال جعفر: بنت عمي وعندي خالتها. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الخالة أم. وسلمها إلى جعفر» . رواه أبو داود. إلا أن العم لا حضانة له على جارية؛ لأنه ليس بمحرم لها، فلا تسلم إليه، وأولاهم بالحضانة أولاهم بالميراث. فأما الرجال من ذوي الأرحام، كالأخ من الأم، والخال، وأبي الأم، والعم من الأم، فلا حضانة لهم مع أحد من أهل الحضانة؛ لأنهم لا يحضنون بأنفسهم، وليس لهم قرابة قوية يستحقون بها، ولا حضانة لمن يدلي بهم من النساء؛ لأنه إذا لم يثبت لهم حضانة، فمن أدلى بهم أولى. فإن عدم أهل الحضانة، احتمل أن تنتقل إليهم؛ لأنهم يرثون عند عدم الوارث، فكذلك يحضنون عند عدم من يحضن، واحتمل أن لا يثبت لهم حضانة، وتنتقل إلى الحاكم، لما ذكرناه أولًا. فصل: ولا حضانة لرقيق، لعجزه عنها بخدمة المولى، ولا لمعتوه، لعجزه عنها، ولا لفاسق؛ لأنه لا يوفي الحضانة حقها، ولا حظ للولد في حضانته؛ لأنه ينشأ على طريقته، ولا لكافر على مسلم كذلك، ولا للمرأة إذا تزوجت أجنبيًا من الطفل، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنت أحق به ما لم تنكحي» . رواه أبو داود. ولأنها تشتغل عن الحضانة بالاستمتاع. وقد روي هاهنا عن أحمد: إذا تزوجت الأم وابنها صغير، أخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 منها. قيل له: فالجارية مثل الصبي؟ قال: لا، الجارية تكون معها إلى سبع سنين؛ لأن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل بنت حمزة عند خالتها. إلى سبع وهي مزوجة» . والأول: المذهب. وإنما تركت بنت حمزة عند خالتها؛ لأن زوجها من أهل الحضانة. وإن تزوجت المرأة بمن هو من أهل الحضانة، كالجدة المزوجة بالجد، لم تسقط حضانتها؛ لأن كل واحد منهما له الحضانة منفردًا، فمع اجتماعهما أولى. ومتى زالت الموانع منهم، مثل، أن طلقت المرأة المزوجة، أو عتق الرقيق، أو عقل المعتوه، أو أسلم الكافر، أو عدل الفاسق، عاد حقهم من الحضانة؛ لأنه زال المانع، فثبت الحكم بالسبب الخالي من المانع. فصل: ومن ثبتت له الحضانة فتركها، سقط حقه منها. وهل يسقط حق من يدلي به؟ على وجهين: أحدهما: يسقط؛ لأنه فرع عليه. فإذا سقط الأصل، سقط التبع. والثاني: لا يسقط؛ لأن حق القريب سقط لمعنى اختص به، فاختص السقوط به، كما لو سقط لمانع. فعلى هذا إذا تركت الأم الحضانة، فهي لأمها. وعلى الأول: تنتقل إلى الأب. وإذا استوى اثنان من أهل الحضانة، كالأختين، والعمتين، أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، قدم؛ لأنهما استويا من غير ترجيح، فقدم أحدهما بالقرعة، كالعبدين في العتق، والزوجتين في السفر بإحداهما. فصل: وإذا بلغ الغلام سبعًا وهو غير معتوه، خير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما، لما روى أبو هريرة: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير غلامًا بين أبيه وأمه» . رواه سعيد. وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة قال: «جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله يريد زوجي أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به» ، فإن لم يختر واحدًا منهما. أو اختارهما معًا، قدم أحدهما بالقرعة؛ لأنهما تساويا وتعذر الجمع، فصرنا إلى القرعة. وإن اختار الأم، أو صار لها بالقرعة، كان عندها ليلًا، ويأخذه الأب نهارًا، ليسلمه في مكتب أو صناعة؛ لأن القصد حظ الولد، وحظه فيما ذكرنا. وإن اختار أباه، كان عنده ليلًا ونهارًا، ولا يمنع من زيارة أمه، لما فيه من الإغراء بالعقوق وقطيعة الرحم. وإن مرض صارت الأم أحق بتمريضه؛ لأنه صار كالصغير في حاجته إلى من يقوم بأمره. وإن مرض أحد الأبوين وهو عند الآخر، لم يمنع من عيادته وحضروه عنده، لما ذكرنا. وإن اختار أحدهما، ثم عاد فاختار الآخر، سلم إليه، ثم إن اختار الأول، رد إليه؛ لأن هذا اختيار تشه، وقد يشتهي أحدهما في وقت دون وقت، فأتبع ما يشتهيه، كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب. وإن لم يكن له أب، خير بين أمه وعصبته، لما روى عامر بن عبد الله قال: خاصم عمي أمي، وأراد أن يأخذني، فاختصما إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فخيرني علي ثلاث مرات، فاخترت أمي، فدفعني إليها. فصل: وإذا بلغت الجارية سبعًا، تركت عند الأب بلا تخيير؛ لأن حظها في الكون عند أبيها؛ لأنها تحتاج إلى الحفظ، والأب أولى به، ولأنها تقارب الصلاحية للتزويج. وإنما تخطب من أبيها؛ لأنه وليها، والمالك لتزويجها، وتكون عنده ليلًا ونهارًا؛ لأن تأديبها وتخريجها في البيت. ولا تمنع الأم من زيارتها، من غير أن يخلو بها الزوج. ولا تطيل ولا تتبسط؛ لأن الفرقة بين الزوجين تمنع تبسط أحدهما في منزل الآخر. وإن مرضت فالأم أحق بتمريضها في بيتها لما ذكرناه في الغلام. وإن مرضت الأم، لم تمنع الجارية من عيادتها لما ذكرنا. فصل: وإن كان الولد بالغًا رشيدًا، فلا حضانة عليه. والخيرة إليه في الإقامة عند من شاء منهما. وإن أراد الانفراد وهو رجل، فله ذلك؛ لأنه مستغن عن الحضانة. ويستحب ألا ينفرد عنهما، ولا يقطع بره لهما، لقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] . وإن كانت جارية، فلأبيها منعها من الانفراد؛ لأنه لا يؤمن عليها دخول المفسدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 فصل: وإن أراد أحد أبوي الطفل السفر، والآخر الإقامة، والطريق أو البلد الذي يسافر إليه مخوف، أو كان السفر لحاجة ثم يعود، فالمقيم أحق بالولد؛ لأن في السفر ضررًا، وفي تكليفه السفر مع العود إتعاب له، ومشقة عليه. وإن كان السفر لنقلة إلى بلد آمن بعيد في طريق آمن، فالأب أحق بالولد؛ لأن كونه مع أبيه أحفظ لنسبه، وأحوط عليه، وأبلغ في تأديبه وتخريجه. وإن انتقلا جميعًا، فالأم على حقها من الحضانة. وإن كانت النقلة إلى مكان قريب، بحيث يمكن الأب رؤيتهم كل يوم، فالأم على حضانتها؛ لأن مراعاة الأب له ممكنة. وإن كان أبعد من ذلك، فظاهر كلام أحمد: انقطاع حق أمه من الحضانة، لعجز الأب عن مراعاة ولده، فهو كالسفر البعيد. وقال القاضي: إن كان دون مسافة القصر، فالأم على حضانتها؛ لأنه في حكم القريب. [ باب نفقة المماليك ] ويجب على الرجل نفقة مملوكه، مما لا غنى عنه، وكسوته، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» متفق عليه. وتجب نفقته من قوت بلده؛ لأنه المتعارف. والمستحب أن يطعمه مما يأكل، ويكسوه مما يلبس، لما روى أبو ذر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم، فأعينوهم عليه» متفق عليه. وإن ولي طعامه، استحب له أن يطعمه منه، لما روى أبو هريرة قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي دخانه وحره» رواه البخاري. وهو مخير بين أن يجعل نفقته في كسبه، وبين أن ينفق عليه من ماله، ويأخذ كسبه، أو يجعله برسم خدمته؛ لأن الكل خدمته. فإن جعل نفقته في كسبه وكان وفق الكسب، فحسن. وإن كان في الكسب فضل، فهو لسيده. وإن كان فيه عوز، فعلى سيده تمامه، ويستحب التسوية بين عبيده، وإمائه في النفقة والكسوة، ويجوز له التفضيل. وإن كان في بعض إمائه من يعدها للتسري، فلا بأس بزيادتها في الكسوة؛ لأن ذلك هو العادة. فصل: وعلى السيد إعفافه إذا طلب ذلك، فإن امتنع، أجبر على بيعه إذا طلب ذلك. وإن طلبت الأمة التزويج وكان يستمتع بها، لم يجبر على تزويجها؛ لأنه يكفيها، وعليه في تزويجها ضرر. وإن لم يستمتع بها، لزمه إجابتها، أو بيعها. وإن كان لعبده زوجة، مكنه من الاستمتاع بها ليلًا؛ لأنه إذنه في النكاح تضمن إذنه في الاستمتاع. فصل: ولا يجوز أن يكلفه في العمل ما يغلبه، أو يشق عليه، للخبر. وإن سافر به، أركبه عقبة، ولا يجبر العبد على المخارجة؛ لأنه معاوضة، فلم يجبر عليها، كالكتابة. وإن طلب العبد ذلك، لم يجبر عليه المولى كذلك. وإن اتفقا عليها وله الكسب، جاز، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجمه أبو طيبة، فأعطاه أجره، وسأل مواليه أن يخففوا عنه من خراجه» . وإن لم يكن له كسب، لم يجز؛ لأنه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 حل، فلم يجز. وإن مرض العبد، أو الأمة، أو زمنا، أو عميا، لزمه نفقتهما؛ لأن نفقتهما بالملك وهو موجود. فصل: وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها، إلا أن يكون فيها فضل عن ريه؛ لأن فيه إضرارًا بولدها، واللبن مخلوق له، فوجب أن يقدم فيه على غيره. فصل: ومن ملك بهيمة، لزمه القيام بعلفها، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت جوعًا فدخلت النار، فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض» متفق عليه. ولا يجوز أن يحمل عليها ما لا تطيق؛ لأنه إضرار بها، فمنع منه، كترك الإنفاق. ولا يحلب منها، إلا ما فضل عن ولدها؛ لأنها غذاء للولد، فلم يملك منعه منه. فإن امتنع من الإنفاق عليها، أجبر على بيعها. فإن أبى اكتريت، وأنفق عليها. فإن أمكن وإلا بيعت. كما يزال ملكه عن زوجته إذا أعسر بنفقتها، بلغت القراءة والحمد لله رب العالمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 [ كتاب الجنايات ] قتل الآدمي بغير حق محرم، وهو من الكبائر إذا كان عمدًا، لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] الآية. ويوجب القصاص، لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى» متفق عليه. فصل: والقتل على ثلاثة أضرب. عمد، وهو: أن يقصده بمحدد، أو ما يقتل غالبًا، فيقتله. والثاني: الخطأ وهو: أن لا يقصد إصابته فيصيبه فيقتله، فلا قصاص فيه، لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ولأن القصاص عقوبة، فلا تجب بالخطأ، كالحد. والثالث: خطأ العمد، وهو: أن يقصد إصابته بما لا يقتل غالبًا فيقتله، فلا قصاص فيه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 من الإبل» . رواه أبو داود. ولأنه لم يقصد القتل، فلا تجب عقوبته، كما لا يجب حد الزنا بوطء الشبهة. فصل: يشترط لوجوب القصاص أربعة شروط: أحدها: العمد، لما ذكرنا. والثاني: كون القاتل مكلفًا، فلا يجب على صبي، ولا مجنون، ولا نائم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» . ولأنه عقوبة مغلظة، فلم تجب عليهم، كالحد. فإن وجب عليه القصاص، ثم جن، لم يسقط؛ لأنه حق لآدمي، فلم يسقط بجنونه، كسائر الحقوق. فصل: الثالث: أن يكون المقتول مكافئًا للقاتل، وهو أن يساويه في الدين والحرية. أو الرق، فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم، ذكرًا كان أو أنثى، ويقتل العبد المسلم، بالعبد المسلم، ذكرًا كان أو أنثى، تساوت قيمتاهما، أو اختلفتا. وعنه: لا يجري القصاص بين العبيد، إلا أن تتساوى قيمتهم؛ لأنه بدل مال، فيعتبر فيه التساوي، كالقيمة، والأول: الصحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] ولأنه قصاص، فلا يعتبر فيه التساوي في القيمة، كالأحرار. وعن أحمد: أن الرجل إذا قتل بالمرأة، يدفع إليه نصف ديته؛ لأن ديتها نصف ديته، والمذهب خلاف هذا، لما روى عمرو بن حزم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: أن الرجل يقتل بالمرأة» . رواه النسائي. ولأنه قصاص واجب، فلم يوجب رد شيء، كقتل الجماعة بالواحد. ويقتل الحر الذمي بالحر الذمي. والعبد الذمي بمثله؛ لأنهم تساووا، فأشبهوا المسلمين، ويقتل الذمي بالمسلم، والعبد بالحر، والأنثى بالذكر، والمرتد بالذمي؛ لأنه إذا قتل بمثله، فبمن هو أعلى منه أولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 فصل: ولا يقتل مسلم بكافر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ولا يقتل مسلم بكافر» رواه النسائي. ووافقه على آخره البخاري. ولا يقتل حر بعبد، لقول الله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فيدل على أنه لا يقتل به الحر. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «من السنة ألا يقتل حر بعبد» ، وإن قتل ذمي حر عبدًا مسلمًا، فعليه قيمته، ويقتل لنقضه العهد. فصل: والاعتبار في التكافؤ بحالة الوجوب؛ لأنه عقوبة على جناية، فاعتبرت بحالة الوجوب، كالحد. فلو قتل ذمي ذميًا، ثم أسلم القاتل، أو جرح ذمي ذميًا، ثم أسلم الجارح، ومات المجروح، أو قتل عبد عبدًا، أو جرحه، ثم عتق الجارح، ومات المجروح، وجب القصاص؛ لأنهما متكافئان حال الجناية، ولأن القصاص قد وجب، فلا يسقط بما طرأ، كما لو جن. وإن جرح مسلم ذميًا، أو حر عبدًا، ثم أسلم المجروح، وعتق ومات، لم يجب القصاص، لعدم التكافؤ حال الوجوب. وإن قطع مسلم أو ذمي يد مرتد، أو حربي، ثم أسلم، ومات، فلا قود ولا دية؛ لأنه لم يجن على معصوم. وإن قطع مسلم يد مسلم، فارتد المجروح ومات، فلا قصاص في النفس؛ لأنه حال الموت مباح الدم، وفي اليد وجهان: أحدهما: يجب القصاص فيها؛ لأن التكافؤ بينهما موجود في حال قطعها. والثاني: لا قصاص فيها؛ لأننا تبينا أن قطعها، قبل، ولم يوجب القتل، فلا يوجب غيره، ولأن الطرف تابع للنفس، فسقط تبعًا لسقوط القصاص فيها. وإن جرح مسلم مسلمًا، فارتد المجروح، ثم أسلم ومات، وجب القصاص، نص عليه؛ لأنهما متكافئان حال الجناية والموت، أشبه ما لو لم يرتد. وذكر القاضي وجهًا آخر أنه إن كان زمن الردة مما تسري فيه الجناية، فلا قصاص؛ لأن السراية في حال الردة لا توجب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 فقد مات من جرح موجب، وسراية غير موجبة، فلا توجب، كما لو قتله بجرحين خطأ وعمد. فصل: ولا قصاص على قاتل حربي، لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ولا على قاتل مرتد كذلك، ولأنه مباح الدم، أشبه الحربي. ولا على قاتل زان محصن كذلك. وسواء كان القاتل مسلمًا، أو ذميًا، فإن قتل من عرفه مرتدًا، وكان قد أسلم ولا يعلم إسلامه ففيه وجهان: أحدهما: لا قصاص عليه؛ لأنه لم يقصد قتل معصوم، فلم يلزمه قصاص، كما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيًا بعد أن أسلم. والثاني: عليه القصاص؛ لأنه قتل مكافئًا عدوانًا عمدًا، والظاهر أنه لا يخلى في دار الإسلام إلا بعد إسلامه، بخلاف من في دار الحرب. وإن قتل من يعرفه ذميًا، أو عبدًا، وكان قد أسلم، وعتق، فعليه القصاص؛ لأنه قصد قتل معصوم وهو مكافئ له، فأشبه من علم حاله. فصل: الشرط الرابع: انتفاء الأبوة، فلا يقتل والد بولده وإن سفل، والأب والأم في هذا سواء. وعنه: ما يدل على أن الأم تقتل بولدها، والمذهب: الأول لما روى عمر بن الخطاب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل والد بولده» رواه ابن ماجه. ولأنها أحد الوالدين، فأشبهت الأب، والجد والجدات من قبل الأب، ومن قبل الأم. وإن علوا. يدخلون في عموم الخبر، ولأنه حكم يتعلق بالولادة، فاستوى فيه القريب والبعيد، كالمحرمية. فصل: وإذا ادعى رجلان نسب لقيط، ثم قتلاه قبل لحوق نسبه بأحدهما، فلا قصاص فيه؛ لأن كل واحد يجوز أن يكون أباه، ويجوز أن يكونا أبويه. وإن رجع أحدهما عن الدعوة، أو ألحقته القافة بغيره. انقطع نسبه، وعليه القصاص؛ لأنه أجنبي. وإن رجعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 جميعًا عن الدعوة، لم يقبل رجوعهما؛ لأن النسب حق للولد، وقد ثبت بإقرارهما، فلم يقبل رجوعهما عنه، كما لو أقرا له بمال، بخلاف ما لو رجع أحدهما منفردًا، فإن نسب الولد لا ينقطع برجوعه وحده. وإن اشترك اثنان في وطء امرأة، فأتت بولد يمكن أن يكون منهما، فقتلاه قبل لحوقه بأحدهما، فلا قصاص، ولو أنكر أحدهما النسب؛ لأن النسب لا ينقطع عنه بإنكاره، بخلاف التي قبلها. وإن قتل زوجته، ولها منه ولد، لم يجب القصاص؛ لأنه إذا لم يجب عليه بجنايته عليه، لم يجب بجنايته على غيره. وسواء كان لها ولد من غيره، أو لم يكن؛ لأن القصاص لا يتبعض، فإذا سقط نصيب ولده، سقط باقيه، كما لو عفا أحد الشريكين. وإن قتل خال ولده، فورثته أمه، ثم ماتت فورثها الولد، سقط القصاص كذلك. وإن اشترى المكاتب أباه، فقتل أبوه عبدًا له، لم يجب القصاص كذلك. وإن جنى المكاتب على أبيه، لم يجب القصاص؛ لأنه عبده، فلا يقتص له من سيده. فصل: ويقتل الولد بكل واحد من الأبوين، وعنه: لا يقتل؛ لأنه لا تقبل شهادته له، لأجل النسب، أشبه الأب، والمذهب: الأول لظاهر الآية والأخبار والقياس، وقياسه على الوالد ممتنع، لتأكد حرمة الوالد. فصل: إذا شارك الإنسان غيره في القتل، لم يخل من أربعة أقسام: أحدها: أن يشترك جماعة في قتل من يكافئهم عمدًا، فيجني كل واحد منهم جناية، يضاف إليه القتل لو انفردت، فيجب القصاص على جميعهم. وعنه: لا يجب على واحد منهم، لقول الله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] مفهومه أنه لا يؤخذ به أكثر من نفس واحدة. والمذهب الأول، لما روى سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا واحدًا. وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، لقتلتهم جميعًا. ولم ينكره منكر، فكان إجماعًا. ولأنه لو لم يجب القصاص على جميعهم، جعل الاشتراك وسيلة إلى سفك الدماء. القسم الثاني: أن يقتلوه عمدًا، أو بعضهم غير مكافئ، مثل أن يشترك اثنان في قتل ولد أحدهما، أو حر وعبد، في قتل عبد، أو مسلم وذمي في قتل ذمي، ففيه روايتان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 أظهرهما: أنه يجب القصاص على المكافئ؛ لأنه شارك في القتل العمد العدوان، فوجب عليه القصاص، كشريك المكافئ. والثانية: لا يجب؛ لأنه قتل تركب من موجب وغير موجب، فلا يوجب، كما لو كان شريكه خاطئًا. القسم الثالث: أن يقتلا مكافئًا وأحدهما عامد، والآخر خاطئ، ففيه روايتان: أظهرهما: لا قصاص فيه؛ لأنه قتل لم يتمخض عمدًا، فلم يوجب القصاص، كعمد الخطأ، وكما لو قتله بجرحين عمد وخطأ. والثانية: يجب القصاص على العامد؛ لأنه شارك في القتل عمدًا عدوانًا، فوجب عليه القصاص كشريك العامد. والحكم في شريك الصبي والمجنون، كالحكم في شريك الخاطئ؛ لأن عمدهما خطأ. القسم الرابع: شارك سبعًا، أو إنسانًا، في قتل نفسه، مثل أن يجرح رجلًا عمدًا أو يجرح الرجل نفسه عمدًا، ففيه وجهان: أحدهما: يجب القصاص لذلك. والآخر: لا يجب القصاص؛ لأنه إذا لم يجب على شريك الخاطئ وجنايته مضمونة، فهاهنا أولى. وإن جرحه فتداوى بسم غير موح، إلا أنه يقتل غالبًا، أو خاط لحم جرحه في لحم حي، أو خاف التآكل، فقطعه فمات، أو فعل هذا وليه، ففيه وجهان: أحدهما: الحكم في شريكه، كالحكم فيما لو جرح نفسه عمدًا؛ لأنه عمد هذا الفعل. والثاني: أنه كشريك الخاطئ؛ لأنه لم يقصد الجناية على نفسه، إنما قصد المداواة، فكان فعله عمدًا خطأً، فلم يجب القصاص على شريكه. فصل: وإن جرح رجلًا جرحًا، وجرح آخر مائة، فهما سواء؛ لأنه قد يموت من الواحد، ولا يموت من المائة، ولا يمكن إضافة القتل إلى أحدهما بعينه، ولا الإسقاط، فوجب على الجميع. وإن قطع أحدهما من الكوع، والآخر من المرفق، فهما سواء؛ لأنهما جرحان، حصل الزهوق عقيبهما، فأشبه ما لو كانا في يدين. وإن قطع أحدهما يده، ثم ذبحه الآخر، أو شق بطنه وأبان حشوته، فعلى الأول ما على قاطع اليد منفردة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 والثاني: هو القاتل؛ لأنه قطع سراية القطع، فصار، كما لو اندمل القطع، ثم قتله. وإن كان قطع اليد آخر فالأول القاتل، ولا ضمان على قاطع اليد؛ لأنه صار في حكم الميت، إنما يتحرك حركة المذبوح، ولا حكم لكلامه في وصيته، ولا غيرها. وإن أجافه جائفة، يتحقق الموت منها، إلا أن الحياة فيه مستقرة، ثم ذبحه آخر، فالقاتل هو الثاني؛ لأن حكم الحياة باق، ولهذا أوصى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعدما سقي اللبن فخرج من جرحه، وأيس منه فعمل بوصيته، فأشبه المريض المأيوس منه. وإن ألقى رجلًا من شاهق، فتلقاه آخر بسيف، فقده قبل وقوعه، فالقصاص على من قده؛ لأنه مباشر للإتلاف، فانقطع حكم المتسبب، كالحافر مع الدافع. [ باب جنايات العمد الموجبة للقصاص ] وهي تسعة أقسام: أحدها: أن يجرحه بمحدد يقطع اللحم والجلد، كالسيف، والسكين، والسنان، والقدوم، وما حدد من حجر، أو خشب، أو قصب، أو زجاج، أو غيره، أو بما له مور وغور، كالمسلة والسهم، والقصبة المحددة، فيموت به فهذا موجب للقصاص إجماعًا. وإن غرزه بإبرة في مقتل، كالصدر، والفؤاد، والخاصرة، والعين، وأصل الأذن فمات، وجب القود؛ لأن هذا في المقتل، كغيره في غيره. وإن غرزه في غير مقتل، كالألية والفخذ، فبقي منه ضمانًا، حتى مات، وجب القود؛ لأن الظاهر موته به. وإن مات في الحال، ففيه وجهان: أحدهما: لا قود فيه؛ لأنه لا يقتل غالبًا أشبه ما لو ضربه بعصاة. والثاني: فيه القود؛ لأن له مورًا وسراية في البدن. وفي البدن مقاتل خفية، أشبه ما لو غرزه في مقتل. فصل: القسم الثاني: ضربه بمثقل كبير، يقتل مثله غالبًا، سواء كان من حديد أو خشب أو حجر، أو ألقى عليه حائطًا، أو حجرًا كبيرًا، أو رض رأسه بحجر، فعليه القود، لما روى أنس: «أن يهوديًا قتل جارية، على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين حجرين» ، متفق عليه وفي مسلم: «فأقاده» ولأنه يقتل غالبًا، أشبه المحدد. وإن ضربه بقلم، أو إصبع، أو شبههما، أو مسه بكبير مسًا، فلا قود فيه؛ لأنه لم يقتله. وإن كان مما لا يحتمل الموت به، كالعصا والوكزة بيده، فكان في مقتل، أو مرض أو صغر، أو شدة برد، أو حر أو وإلى الضرب به، أو عصر خصيتيه عصرًا شديدًا، بحيث يقتل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، أشبه الكبير. وقد وكز موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - القبطي، فقضى عليه. وإن لم يكن مثله يقتل غالبًا، فهو عمد الخطأ، لا قود فيه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا أن دية القتل شبه العمد ما كان بالسوط والعصا، مائة من الإبل» . رواه أبو داود. فصل: القسم الثالث: منع خروج نفسه، إما بخنقه بحبل أو غيره، أو غمه بمخدة، أو وضع يده على فيه مدة يموت فيها غالبًا، ونحو هذا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، وإن خلاه حيًا متألمًا فمات، فعليه القود؛ لأنه مات من سراية جنايته، أشبه الميت من الجرح. وإن صح منه ثم مات، لم يضمنه؛ لأنه لم يقتله، أشبه ما لو برئ الجرح ثم مات. وإن كان ما فعله به، لا يموت منه غالبًا، فمات، فهو عمد الخطأ. فصل: القسم الرابع: إلقاؤه في مهلكة، كالنار، والماء الكثير الذي لا يمكنه التخلص منه، لكثرته، أو ضعف الملقى أو ربطه، ونحو ذلك، أو في بئر ذات نفس، أو ألقاه من شاهق، يقتل غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبا. وإن كان لا يقتل غالبًا، أو التخلص منه ممكن، فلا قود فيه؛ لأنه عمد الخطأ، وإن التقمه في الماء القليل حوت، فلا قود فيه كذلك، وإن ألقاه في لجة لا يمكنه التخلص منها، فالتقمه الحوت فيها، أو قبل وصوله إليها، ففيه وجهان: أحدهما: فيه القود؛ لأنه ألقاه في مهلكة، فهلك، أشبه ما لو هلك بها. والثاني: لا قود؛ لأنه هلك بغير ما قصد إهلاكه به، أشبه الذي قبله. فصل: القسم الخامس: أن ينهشه حية، أو سبعًا قاتلًا، أو يجمع بينه وبين أسد، أو نمر، أو حية، في موضع ضيق، أو ألقاه مكتوفًا بين يدي أسد أو نحوه مما يقتل غالبًا، ففعل به السبع فعلًا، لو فعله الملقي أوجب القود، ففيه القود؛ لأن فعل السبع كفعله؛ لأنه صار آلة له، والحيات كلها سواء في أحد الوجهين؛ لأنها جنس يقتل سمه غالبًا، وفي الآخر إن كانت الحية مما لا يقتل سمها غالبًا كحية الماء، وثعبان الحجاز، فلا قود فيها؛ لأن هذا لا يقتل غالبًا، أشبه الضرب بمثقل صغير. وإن ألقاه مكتوفًا في أرض مسبعة، أو ذات حيات فقتلته، فلا قود فيه؛ لأنه مما لا يقتل غالبًا، فكان عمد الخطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وقال القاضي: حكمه حكم الممسك للقتل على ما سنذكره؛ لأنه أمسكه بربطه حتى قتلته. فصل: القسم السادس: سقاه سمًا مكرهًا، أو خلطه بطعامه، أو بطعام قدمه إليه، أو أهداه إليه، فأكله غير عالم بحاله، ففيه القود، لما روي «أن يهودية أهدت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر شاة مصلية، فأكل منها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ثم قال: ارفعوها، فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة فأرسل إلى اليهودية فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: إن كنت نبيًا، لم يضرك، وإن كنت ملكًا، أرحت الناس منك. فأكل منها بشر بن البراء بن معرور، فمات، فأرسل إليها فقتلها» ، رواه أبو داود. ولأنه يقتل غالبًا، أشبه القتل بالسلاح. وإن خلطه بطعام، وتركه في بيت نفسه، فدخل رجل فأكل فمات، فلا قود؛ لأنه عمد قتل نفسه، فأشبه ما لو قدم إليه سكينًا، فقتل بها نفسه، وإن ادعى ساقي السم أنه لم يعلم أنه يقتل، ففيه وجهان: أحدهما: عليه القود؛ لأن السم يقتل غالبًا. والثاني: لا قود فيه؛ لأنه يجوز خفاء ذلك عليه، فتكون شبهة يسقط بها القود. فصل: القسم السابع: قتله بسحر يقتل غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، أشبه السكين. وإن كان مما لا يقتل غالبًا، فهو خطأ العمد. وإن ادعى الجهل بكونه يقتل غالبًا، وكان مما يجوز خفاؤه عليه فيه، فلا قود عليه؛ لأنه يخل بمتحض العمد. فصل: القسم الثامن: حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة يموت في مثلها غالبًا، فمات، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، وإن كانت المدة لا يموت فيها غالبًا، فهو شبه عمد. وإن حبسه على ساحل بحر في مكان يزيد عليه الماء غالبًا زيادة تقتله، فمات منه، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا. وإن كانت الزيادة غير معلومة، فهو شبه عمد. وإن أمسكه لرجل ليقتله فقتله، ففيه روايتان: إحداهما: عليه القصاص؛ لأنه تسبب إلى قتله بما يقتل غالبًا، فأشبه شهود القصاص إذا رجعوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 والثانية: لا قصاص، لكن يحبس حتى يموت لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمسك الرجل، الرجل، وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك» . أخرجه الدارقطني. ولأنه حبسه إلى الموت، فيفعل به مثل فعله. وسواء حبسه بيديه، أو بجناية عليه، أو غير ذلك. وإن أمسكه لغير القتل فقتل، فلا ضمان على الممسك؛ لأنه لم يقتله، ولا قصد قتله. فصل: القسم التاسع: أن يتسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبًا، أربعة أنواع: أحدها: أن يكره غيره على قتله، فيجب القصاص على المكره، والمكره جميعًا؛ لأن المكره تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبًا، أشبه ما لو أنهشه حية، أو أسدًا، أو رماه بسهم. والمكره قتله ظلمًا، لاستبقاء نفسه، فلزمه القصاص، كما لو قتله في المجاعة ليأكله. النوع الثاني: أن يأمر من لا يميز من المجانين والصبيان، أو عبدًا أعجميًا لا يعلم تحريم القتل بقتله، فيقتله، فعلى الآمر القصاص، دون المأمور؛ لأن المأمور صار كالآلة له، فأشبه الأسد والحية. وإن كان المأمور مميزًا فلا قود على الآمر؛ لأن المأمور له قصد صحيح فأشبه ما لو كان رجلًا عاقلًا. فإن كان العبد يعلم تحريم القتل، فالقصاص عليه؛ لأنه مباشر للقتل، مختار، عالم بتحريمه، فأشبه الحر، ويؤدب السيد، لتسببه إليه. وإن أمر السلطان رجلًا بقتل رجل بغير حق، ولم يعلم الحال، فقتله، فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور معذور في قتله، لكونه مأمورًا بطاعة السلطان في غير المعصية، والظاهر أنه لا يأمر إلا بحق. وإن علم أنه مظلوم فالقصاص عليه وحده؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» من ((المسند)) . فصار كالقاتل من غير أمر. وإن أمره غير السلطان بالقتل، فقتل، فالقصاص على القاتل وحده، علم أو جهل؛ لأنه لا تلزمه طاعته. النوع الثالث: أن يشهد رجلان على رجل بما يوجب القتل، فقتل بغير حق، ثم رجعا عن الشهادة، وأقرا أنهما فعلا ذلك ليقتل، فعليهما القود، لما روى القاسم بن عبد الرحمن: أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل، أنه سرق، فقطعه، ثم رجعا عن الشهادة، فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما، لقطعت أيديكما، وغرمهما دية يده. ولأنهما قتلاه بسبب يقتل غالبًا، أشبه المكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 الرابع: الحاكم إذا حكم عليه بما يوجب قتله ظلمًا متعمدًا، فقتل، فعليه القصاص لذلك، وكذلك الولي الذي أمر بقتله، إذا أقر أنه علم براءته وأمر بقتله ظلمًا. [ باب القصاص فيما دون النفس ] يجب القصاص فيما دون النفس بالإجماع لقول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وروى أنس أن «الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية، فعرضوا عليهم الأرش، فأبوا إلا القصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله. تكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كتاب الله القصاص. فعفا القوم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» أخرجه البخاري ومسلم ولأن ما دون النفس، كالنفس في الحاجة إلى الحفظ، فكان، كالنفس في القصاص. فصل: ومن لا يقاد بغيره في النفس، لا يقاد به فيما دونها بغير خلاف، ومن يقاد به في النفس يقاد به فيما دونها. وعنه: لا قصاص بين العبيد في الأطراف؛ لأنها أموال. والمذهب: الأول لأن ما دون النفس كالنفس في وجوب القصاص، فكان كالنفس فيما ذكرنا. فصل: وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة، مثل أن يتحاملوا على الحديدة تحاملًا واحدًا حتى يبينوا يده، فعلى جميعهم القصاص، لحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه أحد نوعي القصاص، فيؤخذ فيه الجماعة بالواحد، كالنفس. وإن تفرقت جناياتهم، بأن قطع كل واحد من جانب، أو قطع واحد، وأتمه آخر، أو قطعا بمنشار يمده كل واحد مرة، فلا قصاص؛ لأن فعل كل واحد في بعض العضو، فلم يجز أخذ جميع عضوه، كما لو لم يقطع الآخر. وعنه: لا يؤخذ طرف الجماعة بواحد، كما ذكرنا في النفوس ولأن ذلك مما يجب في النفوس للزجر كي لا يتخذ الاشتراك وسيلة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 إسقاط القصاص، ولا يوجد ذلك في الأطراف، لندرة الحالة التي يمكن إيجاب القصاص بها. فصل: والقصاص فيما دون النفس نوعان: جروح، وأطراف. فأما الجروح: فيجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم. سواء كان موضحة في رأس، أو وجه، أو ساعد، أو عضد، أو فخذ، أو ساق، أو ضلع، أو غيره، لقول الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه أمكن الاقتصاص من غير حيف، فوجب كما في الطرف. وما لا ينتهي إلى عظم، كالجائفة، وما دون الموضحة من الشجاج، أو كانت الجناية على عظم، ككسر الساعد، والعضد، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، لم يجب القصاص؛ لأن المماثلة غير ممكنة، ولا يؤمن أن يستوفى أكثر من الحق، فسقط، إلا إذا كانت الشجة فوق الموضحة، فله أن يقتص موضحة؛ لأنها بعض جنايته، وقد أمكن القصاص، فوجب، كما لو كانت جناية في محلين. وفي وجوب الأرش الباقي وجهان: أحدهما: يجب، وهو قول ابن حامد؛ لأنه تعذر فيه القصاص فوجب الأرش، كما لو تعذر في جميعها. والثاني: لا يجب. وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه جرح واحد، فلا يجمع فيه بين قصاص وأرش. كالشلاء بالصحيحة. فصل: ويجب في الموضحة، قدرها طولًا وعرضًا، لقول الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] والقصاص: المماثلة. ولا يمكن في الموضحة إلا بالمساحة، فإن كانت في الرأس، حلق موضعها من رأس الجانب، وعلم القدر المستحق بسواد، أو غيره، ثم اقتص. فإن كانت في مقدم الرأس، أو مؤخره، أو وسطه، فأمكن أن يستوفي قدرها من موضعها، لم يجز غيره. وإن زاد قدرها على موضعها من رأس الجاني. استوفي بقدرها وإن جاوز الموضع الذي شجه في مثله؛ لأن الجميع رأس. وإن زاد قدرها على رأس الجاني كله، لم يجز أن ينزل إلى الوجه، ولا القفا؛ لأنه قصاص في غير العضو المجني عليه، فيقتص في رأس الجاني كله. وهل له الأرش لما بقي؟ على وجهين، كما تقدم. وإن كانت الموضحة في الساعد، وزاد قدرها على ساعد الجاني، لم ينزل إلى الكف، ولم يصعد إلى العضد. وإن كانت في الساق، لم ينزل إلى القدم، ولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 يصعد إلى الفخذ، كما ذكرنا في الرأس. وإن أوضح جميع رأسه ورأس الجاني أكبر، فللمجني عليه أن يبتدئ بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني؛ لأن الجميع محل الجناية. وله أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس، وبعضه من مؤخره، إلا أن يكون في ذلك زيادة ضرر أو شين، فيمنع لذلك؛ لأنه لم يجاوز موضع الجناية، ولا قدرها، ويحتمل أن لا يجوز؛ لأنه يأخذ موضحتين بموضحة. وإن أوضحه موضحتين، قدرهما جميع رأس الجاني، فللمجني عليه الخيار، بين أن يوضحه في جميع رأسه موضحة واحدة، وبين أن يوضحه موضحتين يقتص فيهما على قدر الواجب له، ولا أرش له في الباقي وجهًا واحدًا؛ لأنه يترك الاستيفاء مع إمكانه. فصل: النوع الثاني: الأطراف. ويجب القصاص فيها، إذا كان القطع ينتهي إلى عظم، فتقلع العين بالعين، لقول الله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . ولأنه يمكن القصاص فيها؛ لانتهائها إلى مفصل، فوجب، كالموضحة. وتؤخذ عين الشاب الصحيحة الحسناء بعين الشيخ المريضة الرمصاء، كما يؤخذ الشاب الصحيح الجميل بالشيخ المريض. ولا تؤخذ صحيحة بقائمة؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه. ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة؛ لأنها دون حقه، كالشلاء بالصحيحة. ولا أرش له معها؛ لأن التفاوت في الصفة. وإن جنى على رأسه بلطمة، فأذهب ضوء عينيه، وجب القصاص؛ لأن الضوء لا يمكن مباشرته بالجناية، فوجب القصاص فيه بالسراية، كالنفس، فإن كانت اللطمة لا تفضي إلى تلف العين غالبًا، فلا قصاص فيه؛ لأنه شبه عمد، أشبه ما لو قتله. فصل: وإن قلع الأعور عين مثله عمدًا ففيه القصاص، لتساويهما. وإن قلع عين صحيح، فلا قصاص عليه. وعليه دية كاملة؛ لأن ذلك يروى عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولأنه لم يذهب بجميع بصره، فلم يجز أن يذهب بجميع بصره، كما لو كان ذا عينين. ويجب جميع الدية؛ لأنه لما درئ عنه القصاص لفضيلته، ضوعفت الدية عليه، كالمسلم إذا قتل الذمي عمدًا. وإن قلع عيني صحيح، خير بين قلع عينه، ولا شيء له سواه؛ لأنه أخذ جميع بصره لجميعه، وبين دية عينيه؛ لأن القصاص لم يتعذر. وإن قلع صحيح عين الأعور فله الاقتصاص من مثلها، ويأخذ نصف الدية. نص عليه؛ لأن عينه كعينين، لاشتمالها على جميع البصر، وقيامها مقام العينين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 فصل: ويؤخذ الجفن بالجفن، لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . ولأنه ينتهي إلى مفصل، ويؤخذ جفن كل واحد من الضرير والبصير بالآخر؛ لأنهما متساويان في السلامة، والنقص، وعدم البصر نقص في غيره، فلم يمنع جريان القصاص فيه. فصل: ويؤخذ الأنف بالأنف لقول الله تعالى: {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} [المائدة: 45] . ولا يجب القصاص إلا في المارن، وهو ما لان منه؛ لأنه ينتهي إلى مفصل. ويؤخذ الشام بالأخشم، والأخشم بالشام، لتساويهما في السلامة، وعدم الشم نقص في غيره، ويؤخذ البعض بالبعض. فيقدر ما قطعه بالأجزاء، كالنصف والثلث. ثم يقتص من مارن الجاني بمثله، ولا يؤخذ بالمساحة؛ لأنه يفضي إلى أخذ جميع أنف الجاني ببعض أنف المجني عليه، ويؤخذ المنخر بالمنخر، والحاجز بين المنخرين بالحاجز، ولا يؤخذ مارن صحيح، بمارن سقط بعضه أو انخرم؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه. ولا يؤخذ صحيح بمستحشف كذلك، ويحتمل أن يؤخذ؛ لأنه يقوم مقام الصحيح، ويؤخذ الذي سقط بعضه بالصحيح، وفي الأرش في الباقي وجهان. ويؤخذ المستحشف بالصحيح من غير أرش؛ لأنه نقص معنى، فهو كالشلل. فصل: وتؤخذ الأذن بالأذن، لقوله سبحانه: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة: 45] . ولأنها تنتهي إلى حد فاصل. وتؤخذ أذن السميع. بأذن الأصم، وأذن الأصم، بأذن السميع، كما ذكرنا في الأنف، والمثقوبة للزينة كالصحيحة؛ لأن الثقب ليس بنقص، ويؤخذ البعض بالبعض. ولا تؤخذ صحيحة بمخرومة، وتؤخذ المخرومة بالصحيحة. وفي الأرش للباقي وجهان. وتؤخذ المستحشفة بالصحيحة، وفي أخذ الصحيحة بالمستحشفة وجهان، كما ذكرنا في الأنف. وإن شق أذنه فألصقها صاحبها، فالتصقت، فلا قصاص، لتعذر المماثلة. وإن قطعها فأبانها، فألصقها صاحبها فالتصقت، فقال القاضي: له القصاص؛ لأنه وجب بالقطع، فلم يسقط بالإلصاق. وقال أبو بكر: لا قصاص فيها؛ لأنا لم تبن على الدوام أشبه الشق، وله أرش الجرح. فإن سقطت بعد ذلك، قريبًا أو بعيدًا، رد الأرش، وله القصاص. وإن اقتص من الجاني، فقطع أذنه، فألصقها فالتصقت برئ من حقه؛ لأن الاستيفاء، حصل بالإبانة. وإن لم يبنها قطع بعضها فالتصقت، فله قطع جميعها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 لأنه استحق إبانته ولم يفعل، والحكم في السن، كالحكم في الأذن، فيما ذكرنا. فصل في السن بالسن: وتؤخذ السن بالسن، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] ولحديث الربيع، ولأنه محدود في نفسه يمكن القصاص فيه، فوجب كالأذن، ولا تؤخذ صحيحة بمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة. وفي الأرش للباقي وجهان. وإن كسر بعض السن، برد من سن الجاني مثله، يقدر بالأجزاء، إلا أن يتوهم انقلاعها أو سوادها، فيسقط القصاص؛ لأن توهم الزيادة، يسقط القصاص. كقطع اليد من غير مفصل. ولا يقتص الحال، كالشعر، وإن مات قبل اليأس من عودها، فلا قصاص، لعدم تحقق الإتلاف، فلا يجوز استيفاؤه مع الشك. فإن لم تعد، ويئس من عودها، وجب القصاص؛ لأن ذلك حصل بالجناية، وإن يئس من عودها فاقتص، أو اقتص من سن كبير، فنبت له مكانها، فعليه دية سن الجاني؛ لأنه قلع سنًا بغير سن، فإن نبتت سن الجاني أيضًا، أو قلع النابتة للمجني عليه، فلا شيء لواحد منهما. وإن نبتت سن الجاني دون المجني عليه، فله قلعها؛ لأنه أعدم سنه على الدوام، فملك أن يفعل به ذلك، ويحتمل ألا يملكه؛ لأنه قلعت له سن، فلا يملك قلع سنين. فصل: وتؤخذ الشفة بالشفة، وهي: ما جاوز حد الذقن والخدين علوًا وسفلًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . ولأنها تنتهي إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه، فوجب كالأنف. ويؤخذ البعض بالبعض، يقدر بالأجزاء، كبعض المارن. فصل: ويؤخذ اللسان باللسان، للآية، والمعنى، وبعضه ببعضه، لما ذكرنا. ولا يؤخذ أخرس بناطق؛ لأنه أكثر من حقه. ويؤخذ الأخرس بالناطق؛ لأنه دون حقه، ولا أرش معه؛ لأن التفاوت في المعنى، لا في الأجزاء. ويؤخذ لسان الفصيح بلسان الألثغ، ولسان الصغير، كما يؤخذ الكبير الصحيح بالطفل المريض. فصل: وتؤخذ اليد باليد، والرجل بالرجل، وكل إصبع بمثلها، وكل أنملة بمثلها، للآية، والمعنى. فإن قطع يده من الكوع، أو المرفق، فله أن يقتص من موضع القطع. وليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 له أن يقتص من دونه؛ لأنه أمكنه استيفاء حقه من موضعه، فلم يجز أن يستوفي من غيره. وإن قطعت يده من العضد، أو الساعد، لم يجز الاقتصاص من موضع القطع، بغير خلاف؛ لأنه لا يأمن الزيادة. وهل له أن يقتص من مفصل دونه؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك، اختاره أبو بكر، لما روى نمران بن جارية عن أبيه: «أن رجلًا ضرب رجلًا على ساعده بالسيف، فقطعها من غير مفصل، فاستدعى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر له بالدية، فقال: إني أريد القصاص: قال: خذ الدية بارك الله لك فيها ولم يقض له بالقصاص» . رواه ابن ماجه، ولأنه يقتص من غير محل الجناية، فلم يجز. كما لو أمكن القصاص من محل الجناية. والثاني: له أن يقتص، اختاره بعض أصحابنا. فإذا قطعت من الساعد، فله أن يقتص من الكوع. وإن قطعت من العضد، فله أن يقتص من المرفق؛ لأنه عجز عن استيفاء حقه، وأمكنه أخذ دونه، فجاز، كما لو جرحه مأمومة، فأراد أن يقتص موضحة. وفي أخذ الحكومة للباقي وجهان. وإذا قطعت يده من العضد، لم يملك أن يقطع من الكوع؛ لأنه أمكنه استيفاء الذراع قصاصًا، فلم يكن له قطع ما دونه، كما لو قطع من المرفق. وإن قطعها من الكتف، فقال أهل الخبرة. يمكن الاقتصاص من غير جائفة، فله ذلك؛ لأنه مفصل، وليس له أن يقتص مما دونه، وإن قالوا: نخاف الجائفة، فلا قصاص منها؛ لأنها يخاف الزيادة. وفي الاقتصاص من المرفق وجهان. وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها، من القدم والركبة والورك حكم اليد، سواء على ما بينا. فصل: ولا تؤخذ صحيحة بشلاء؛ لأنها فوق حقه، فأما الشلاء بالصحيحة، أو بالشلاء، فإن قال أهل الخبرة: لا يخاف عليه، اقتص؛ لأنه يأخذ حقه، أو دونه ولا أرش بالشلل؛ لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة، وإنما نقصت في الصفة، فأشبه الذمي مع المسلم، وإن قالوا: إن قطعت، خيف ألا تنسد العروق، ويدخل الهواء البدن فيفسد، لم يجز أن يقتص، لخوف الزيادة. فصل: ولا تؤخذ كاملة بناقصة. فلا تؤخذ ذات أظفار بما لا أظفار لها. ولا ذات خمس أصابع، بذات أربع. ولا بذات خمس بعضها أشل؛ لأنه أكثر من حقه. وهل له أن يقطع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 من أصابع الجاني بقدر أصابعه؟ على الوجهين. فإن قلنا: له قطعها. فهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص؟ فيه وجهان: أحدهما: تدخل، كما تدخل في ديتها. والثاني: لا تدخل؛ لأنه جزء يستحق إتلافه، تعذر عليه أخذه فوجب أرشه، كالمنفرد. فإن كانت الزائدة من أصابع الجاني زائدة في الخلقة، لم تمنع القصاص عند ابن حامد؛ لأنها عيب ونقص في المعنى، فلم يمنع وجودها أخذها بالكاملة، كالسلعة فيها. واختار القاضي: أنها تمنع؛ لأنها زيادة في الأصابع، أشبهت الأصلية. فإن قطع ناقص الأصابع يدًا كاملة، وجب القصاص؛ لأنه يأخذ دون حقه. وفي وجوب الدية للأصابع الزائدة وجهان. فصل: وإن قطع ذو يد كاملة، كفًا فيها أربع أصابع أصلية، وإصبع زائدة، لم يجب القصاص؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وفي جواز الاقتصاص من أصابعه الأصلية وجهان. فإن اقتص منها. فهل له حكومة في الزيادة؟ على وجهين لما تقدم. وإن قطع من له أربع أصابع أصلية، وإصبع زائدة، كفًا كاملة الأصابع، ملك القصاص، ولا أرش له، لنقصان الزائدة؛ لأنها كالأصلية في الخلقة، وإنما هي ناقصة في المعنى. وإن كان في يد كل واحد منهما إصبع زائدة، أخذت إحداهما بالأخرى، لتساويهما، وإذا قطع إصبعًا فتآكلت إلى جانبها أخرى، وسقطت من مفصل، أو تآكل الكف، وسقط من الكوع، وجب القصاص في الجميع؛ لأنه تلف بسراية قطع مضمون بالقصاص، فوجب فيه القصاص، كالنفس، وإن شلت إلى جانبها أخرى، لم يجب القصاص في الشلاء؛ لأنها لو شلت بجنايته مباشرة، لم يجب القصاص، فهاهنا أولى. فصل: وتؤخذ الأليتان بالأليتين، لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنهما ينتهيان إلى حد فاصل، فوجب فيهما القصاص، كالشفتين. فصل: وتؤخذ الذكر بالذكر كذلك، ويؤخذ بعضه ببعضه، لما ذكرنا في الأنف، ويؤخذ كل واحد من الأقلف والمختون بمثله؛ لأن زيادة أحدهما على الآخر بجلدة تستحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 إزالتها. ولا يؤخذ صحيح بأشل؛ لأن الأشل ناقص، فلم يؤخذ به كامل، كاليد. ولا يؤخذ ذكر الفحل، بذكر الخصي؛ لأنه ناقص، لعدم الإنزال، والإيلاد، ولا بذكر خنثى؛ لأنه لا يعلم أنه ذكر. وفي أخذ الصحيح بذكر العنين. وجهان: أحدهما: لا يؤخذ به، لنقصه. والثاني: يؤخذ به؛ لأنه غير مأيوس منه، أشبه المريض. فصل: وتؤخذ الأنثيين بالأنثيين، للآية والمعنى. فإن قطع إحداهما، وقال أهل الخبرة: يمكن أخذها من غير تلف الأخرى، اقتص منه. وإن قالوا: يخاف تلف الأخرى، لم يقتص منه، لتوهم الزيادة. فصل: ولا قصاص في شفري المرأة عند القاضي؛ لأنه لحم لا مفصل له ينتهي إليه، فلم يقتص منه، كلحم الفخذ. وقال أبو الخطاب: فيهما القصاص؛ لأنه يعرف انتهاؤهما، فجرى فيهما القصاص، كالشفتين، وأجفان العينين. فصل: وإن قطع ذكر خنثى مشكل، وأنثييه وشفريه، فلا قصاص له حتى يتبين؛ لأننا لا نعلم أن المقطوع فرج أصلي. وإن طلب الدية، وكان يرجى انكشاف حاله، أعطي اليقين، وهو دية شفري امرأة، وحكومة في الذكر والأنثيين. وإن كان مأيوسًا من كشف حاله، أعطي نصف دية ذلك كله، وحكومة في نصفه الباقي، وعلى قول ابن حامد: لا حكومة فيه؛ لأنه نقص. فصل: وإن اختلف العضوان في صغر، أو كبر، أو طول، أو قصر، أو صحة، أو مرض، لم يمنع القصاص؛ لأن اعتبار التساوي في هذه المعاني، يسقط القصاص، فيسقط اعتبارها، كما في النفس. فصل: وما انقسم إلى يمين ويسار، كالعينين والأذنين، والمنخرين، واليدين، والرجلين، أو إلى أعلى وأسفل، كالجفنين، والشفتين، لم يؤخذ شيء منها بما يخالفه في ذلك. ولا تؤخذ سن بسن غيرها، ولا إصبع بإصبع تخالفها، ولا أنملة بأنملة لا تماثلها في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 موضعها واسمها؛ لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن، فلم يؤخذ بعضها ببعض، كالعين والأنف. ولا يؤخذ أصلية من الأصابع والأسنان بزائدة، ولا زائدة بأصلية، لعدم التماثل بينهما. وتؤخذ الزائدة بالزائدة، إذا اتفق محلاهما، لتماثلهما، وإن اختلف محلاهما، لم تؤخذ إحداهما بالأخرى؛ لأنهما مختلفتان في أصل الخلقة، أشبه الوسطى بالسبابة، وإن تراضى الجاني والمجني عليه، بأخذ ما لا يجب القصاص فيه، لم يجز؛ لأن الدماء لا تستباح بالإباحة. فصل: وإن جرحه جرحًا فيه القصاص، فاندمل، ثم قتله، وجب القصاص فيهما؛ لأنهما جنايتان، يجب القصاص في كل واحدة منهما منفردة، فوجب عند الاجتماع، كاليدين. وإن قتله قبل اندمال الجرح، ففيه روايتان. إحداهما: يجب القصاص أيضًا. لما ذكرناه. والثانية: يقتل ولا قصاص في الجرح؛ لأن القصاص في النفس، أحد بدلي النفس، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية. فصل: وإن قتل واحد جماعة، أو قطع عضوًا من جماعة، لم تتداخل حقوقهم؛ لأنها حقوق مقصودة لآدميين، فلم تتداخل، كالديون، لكن إن رضي الكل باستيفاء القصاص منه جاز؛ لأن الحق لهم، فجاز أن يرضى الجماعة بالواحد، كما لو قتل عبدًا عبيدًا خطأً فرضوا بأخذه. وإن طلب واحد القصاص، والباقون الدية، فلهم ذلك، وإن طلب كل واحد استيفاء القصاص مستقلًا، قدم الأول؛ لأن له مزية السبق، فإن أسقط حقه قدم الثاني، ثم الثالث، ويصير حق الباقين في الدية؛ لأن القود فاتهم، فانتقل حقهم إلى الدية، كما لو مات، وإذا قتلهم دفعة واحدة، أو أشكل السابق، قدم من تقع له القرعة؛ لأن حقوقهم تساوت، فوجب المصير إلى القرعة، كالسفر بإحدى النساء، فإن عفا من له القرعة، أعيدت للباقين، لتساويهم. ومتى ثبت القصاص لأحدهم بالسبق، أو بالقرعة، فبادر غيره فقتله، كان مستوفيًا لحقه، ووجب للآخر الدية، كما لو قتل مرتدًا، كان مستوفيًا لقتل الردة. وإن أساء في الافتئات على الإمام. وإن كان الأول غائبًا، أو صغيرًا، انتظر؛ لأن الحق له. وإن كان القتل في المحاربة، فهو كالقتل في غيرها؛ لأنه قتل موجب للقصاص، فأشبه غيره. فصل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 وإن قطع طرف رجل، وقتل آخر، قطع لصاحب الطرف، ثم قتل للآخر، تقدم القتل، أو تأخر؛ لأنه أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص، فلم يجز إسقاط أحدهما، بخلاف التي قبلها. وإن قطع يد رجل، وإصبعًا من آخر، قدمنا السابق منهما، أيهما كان؛ لأن اليد تنقص بنقص الإصبع، ولذلك لا تؤخذ الصحيحة بالناقصة، بخلاف النفس، فإنها لا تنقص بقطع الطرف، بدليل أخذ الصحيح الأطراف بمقطوعها. فصل: وإن قتل وارتد، أو قطع يمينًا وسرق، قدم حق الآدمي؛ لأن حقه مبني على التشديد، لشحه وحاجته. وحق الله مبني على السهولة، لغنى الله وكرمه. [ باب استيفاء القصاص ] إذا قتل الآدمي، استحق القصاص ورثته كلهم، لما روى أبو شريح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل، فأهله بين خيرتين، أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا» . رواه أبو داود. وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل، فهو بخير النظيرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى» . ولأنه حق يستحقه الوارث من جهة موروثه، فأشبه المال. فإن كان الوارث صغيرًا، لم يستوف له الولي. وعنه: للأب استيفاؤه؛ لأنه أحد بدلي النفس، فأشبه الدية. والمذهب الأول؛ لأن القصد التشفي، ودرك الغيظ، ولا يحصل ذلك باستيفاء الأب، فلم يملك استيفاءه، كالوصي، والحاكم. فعلى هذا: يحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير، ويعقل المجنون، ويقدم الغائب؛ لأنه فيه حظًا للقاتل بتأخير قتله، وحظًا للمستحق بإيصال حقه إليه. فإن أقام القاتل كفيلًا، ليخلي سبيله، لم يجز؛ لأن الكفالة بالدم غير صحيحة. وإن وثب الصبي، أو المجنون على القاتل، فقتله، ففيه وجهان: أحدهما: يصير مستوفيًا لحقه؛ لأنه عين حقه أتلفه، فأشبه ما لو كانت وديعة عند رجل. والثاني: لا يصير مستوفيًا لحقه؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء، فتجب له دية أبيه، وعلى عاقلته دية القاتل، بخلاف الوديعة، فإنها لو تلفت من غير تعد، برئ منها المودع، ولو هلك الجاني، من غير فعل، لم يبرأ من الجناية. وإن كان القصاص بين صغير وكبير، أو مجنون وعاقل، أو حاضر وغائب، لم يجز للكبير العاقل الحاضر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 الاستيفاء؛ لأنه حق مشترك بينهما، فلم يجز لأحدهما الانفراد باستيفائه، كما لو كان بين بالغين عاقلين، وإن قتل من لا وارث له، فالقصاص للمسلمين؛ لأنهم يرثون ماله، واستيفاؤه إلى السلطان. فإن كان له من يرث بعضه، كزوج، أو زوجة، فاستيفاؤه إلى الوارث والسلطان، ليس لأحدهما الانفراد به، لما ذكرنا. فصل: فإن بادر بعض الورثة، فقتل القاتل بغير أمر صاحبه، فلا قصاص عليه؛ لأنه مشارك في استحقاق ما استوفاه، فلم تلزمه عقوبته، كما لو وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة، ويجب لشركائه حقهم من الدية، وفيه وجهان: أحدهما: يجب على القاتل. الثاني لأن نفس القاتل كانت مستحقة لهما، فإذا أتلفها أحدهما، لزمه ضمان حق الآخر، كالوديعة لهما يتلفها أحدهما. والثاني: يجب في تركة القاتل الأول؛ لأنه قود سقط إلى مال، فوجب في تركة القاتل، كما لو قتله أجنبي، ويرجع ورثة القاتل الأول على قاتل موروثهم بدية، ماعدا نصيبه من موروثهم. فلو قتلت امرأة رجلًا له ابنان، فقتلها أحدهما، كان للآخر في تركتها نصف دية أبيه، ويرجع ورثتها على قاتلها بنصف ديتها. وإن عفا بعض من له القصاص ثم قتله الآخر غير عالم بالعفو، أو غير عالم أن العفو يسقط القصاص، لم يجب عليه قصاص؛ لأن ذلك شبهة، فدرأت القصاص، كالوكيل إذا قتله بعد العفو، وقبل العلم، وإن قتله بعد العلم، فعليه القصاص؛ لأنه قتل معصومًا مكافئًا له لا حق له فيه، فوجب عليه القصاص، كما لو حكم بالعفو حاكم. فإن اقتصوا منه، فلورثته عليهم نصيبه من الدية، وإن اختاروا الدية، سقط عنه من الدية ما قابل حقه، ولزمه باقيها، وإن كان عفو شريكه على الدية، فله نصيبه منها، في تركة القاتل؛ لأنه حقه، انتقل من القصاص إلى ذمة القاتل في حياته، فأشبه الدين، بخلاف التي قبلها. فصل: ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان؛ لأنه يفتقر إلى اجتهاد، ولا يؤمن منه الحيف مع قصد التشفي، فإن استوفاه من غير حضرة سلطان، وقع الموقع؛ لأنه استوفى حقه، ويعزر لافتئاته على السلطان. ويستحب أن يكون بحضرة شاهدين، لئلا ينكر المقتص الاستيفاء. وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها. فإن كانت كالة، أو مسمومة، منعه الاستيفاء بها، لما روى شداد بن أوس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» رواه مسلم وأبو داود ولأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 المسمومة تفسد البدن، وربما منعت غسله. وإن طلب من له القصاص أن يتولى الاستيفاء، لم يمكن منه في الطرف؛ لأنه لا يؤمن أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد، أنه يمكن منه؛ لأنه أحد نوعي القصاص، أشبه القصاص في النفس، وإن كان في النفس، وكان يكمل الاستيفاء بالقوة والمعرفة، مكن منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] . وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين، أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا» . ولأن القصد من القصاص، التشفي، ودرك الغيظ، وتمكينه منه أبلغ في ذلك. فإن كان لجماعة فتشاحوا في المستوفى، أقرع بينهم؛ لأنه لا يجوز اجتماعهم على القتل؛ لأن فيه تعذيبًا للجاني، ولا مزية لأحدهم، فوجب التقديم بالقرعة. ولا يجوز لمن خرجت له القرعة الاستيفاء إلا بإذن شركائه؛ لأن الحق لهم، فلا يجوز استيفاؤه بغير إذنهم. وإن كان فيهم من يحسن، وباقيهم لا يحسنون أمروا بتوكيله. وإن لم يكن مستحق للقصاص يحسن الاستيفاء، أمر بالتوكيل. فإن لم يوجد من يتوكل بغير عوض، بذل العوض من بيت المال؛ لأنه من المصالح. فإن لم يمكن، بذل من مال الجاني؛ لأن الحق عليه، فكان أجر الإيفاء عليه، كأجر كيل الطعام على البائع، وإن قال الجاني: أنا أقتص لك من نفسي، لم يجب إلى ذلك؛ لأن من وجب عليه إيفاء حق، لم يجز أن يكون هو المستوفي، كالبائع. فصل: وإذا وجب القتل على حامل، لم تقتل حتى تضع، لما روى معاذ بن جبل: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قتلت المرأة عمدًا، لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملًا. وحتى تكفل ولدها، وإن زنت، لم ترجم حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها» . رواه ابن ماجه ولأن قتلها يفضي إلى قتل ولدها، ولا يجوز قتله. فإذا وضعت، لم تقتل حتى تسقيه اللبأ؛ لأنه لا يعيش إلا به. وإن لم يكن له من يرضعه، لم تقتل حتى ترضعه مدة الرضاع، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «حتى تكفل ولدها» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 ولأنه إذا وجب حفظه وهو حمل، فحفظه وهو مولود أولى. وإن وجدت مرضعة راتبة، قتلت؛ لأنه يستغني بها عن أمه، وإن وجدت مرضعات غير رواتب، أو لبن بهيمة يسقي منه راتب، جاز قتلها؛ لأن له ما يقوم به. ويستحب للولي تأخيره إلى الفطام؛ لأن عليه ضررًا، في اختلاف اللبن عليه، وفي شرب لبن البهيمة، فإن ادعت الحمل، حبست حتى تتبين حالها؛ لأن صدقها محتمل. وللحمل أمارات خفية تعلمها من نفسها. وفيه وجه آخر، أنها ترى القوابل، فإن شهدن بحملها أخرت، وإلا قتلت؛ لأن الحق حال عليها، فلا يؤخر بدعواها من غير بينة، فإن أشكل على القوابل، أو لم يوجد من يعرف ذلك، أخرت حتى يتبين؛ لأننا إذا أسقطنا القصاص خوف الزيادة، فتأخيره أولى. فصل: ولا يجوز استيفاء القصاص في الطرف، إلا بعد الاندمال، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «طعن رجل رجلًا بقرن في رجله، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أقدني، قال: دعه حتى يبرأ فأعادها عليه مرتين أو ثلاثًا، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: دعه حتى يبرأ فأبى فأقاده منه، ثم عرج المستقيد، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: برأ صاحبي، وعرجت رجلي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا حق لك فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه» . رواه الدارقطني. ولأنه قد يسري إلى النفس، فيصير قتلًا، وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص. فصل: وإذا اقتص في الطرف على الوجه الشرعي، فسرى، لم يجب ضمان السراية، سواء سرى إلى النفس، أو عضو آخر، لما روي أن عمر وعليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: من مات من حد، أو قصاص، لا دية له، الحق قتله. رواه سعيد في ((سننه)) ولأنه قطع مقدر مستحق، فلم تضمن سرايته، كقطع السارق. وإن تعدى في القطع، أو قطع بآلة كالة، أو مسمومة فسرى، ضمن السراية؛ لأنه سراية قطع غير مأذون فيه، أشبه سراية الجناية. وسراية الجناية مضمونة؛ لأنها سراية قطع مضمون. فإن اقتص في الطواف قبل الاندمال، ثم سرت الجناية، كانت سرايتها هدرًا، لخبر عمرو بن شعيب، ولأنه استعجل ما ليس له استعجاله، فبطل حقه، كقاتل موروثه. وإن سرى القطعان جميعًا، فهما هدر كذلك. وإن اقتص بعد الاندمال، ثم انتقض جرح الجناية، فسرى إلى النفس وجب القصاص به؛ لأنه اقتص بعد جواز الاقتصاص، فإن اختار الدية، فله دية إلا دية الطرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 المأخوذ في القصاص. فإن كانت دية الطرف كدية النفس، فليس له العفو على مال كذلك. وإن كان الجاني ذميًا قطع أنف مسلم، فاقتص منه بعد البرء، ثم سرى إلى نفس المسلم، فلوليه قتل الذمي، وهل له أن يعفو على نصف دية المسلم؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن دية أنف اليهودي، نصف دية المسلم، فيبقى له النصف. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه استوفى بدل أنفه، أشبه ما لو كان الجاني مسلمًا. فصل: ولا يجوز الاقتصاص فيما دون النفس بالسيف، ولا يجوز إلا بحديدة ماضية تصلح لذلك، سواء كانت الجناية بمثلها أو بغيرها؛ لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم، أو يتعدى إلى المحل بما يفضي إلى الزيادة، أو تلف النفس، وإن قلع عينه بأصبع، لم يجز الاستيفاء منه بالإصبع، كذلك. فصل: فأما النفس. فإن كان القتل بالسيف، لم يجز قتله إلا بالسيف؛ لأنه آلة القتل، وأوجاه، فإن ضربه مثل ضربته فلم يمت، كرر عليه حتى يموت؛ لأن قتله مستحق، ولا يمكن إلا بتكرار الضرب. وإن قتله بحجر، أو تغريق أو حبس حتى يموت، أو خنق ففيه روايتان: إحداهما: يقتل بمثل ذلك، لقول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رضخ رأس يهودي رضخ رأس جارية بين حجرين» . متفق على معناه. وروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أنه قال: «من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه» . ولأن القصاص مشعر بالمماثلة، فيجب أن يعمل بمقتضاه. والثانية: لا يقتل إلا بالسيف، في العنق، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجه. ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المثلة. وقال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» ولأنه زيادة تعذيب في القتل، فلم تجز المماثلة فيه، كما لو قتله بسيف كال. وإن قتله بمحرم لعينه، كالسحر وتجريع الخمر، واللواط، قتل بالسيف، رواية واحدة؛ لأن ذلك محرم لعينه، فسقط، وبقي القتل، وإن قتله بسيف كال، لم يقتل بمثله؛ لأن المماثلة فيه لا تتحقق، وإن حرقه، فقال القاضي: فيه روايتان، كالتغريق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 وقال بعض أصحابنا: لا يحرق بحال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرق بالنار إلا رب النار» رواه ابن ماجه. وإن قطع يده من المفصل، أو أوضحه، ثم ضرب عنقه، فهل يفعل به كما فعل، أو يقتصر على ضرب عنقه؟ على روايتين، ذكرهما الخرقي، وإن لم يضرب عنقه، بل سرت الجناية إلى نفسه، ففيه أيضًا روايتان: إحداهما: لا يقتل إلا بالسيف، في العنق، لئلا يفضي إلى الزيادة على ما أتي به. والثانية: يفعل به كما فعل، فإن مات وإلا ضربت عنقه؛ لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضو آخر. والزيادة لضرورة استيفاء الحق محتملة، بدليل تكرار الضرب في حق من قتل بضربة واحدة، وإن جرحه جرحًا لا قصاص فيه، كقطع الساعد والجائفة، فمات، أو ضرب عنقه بعده، فقال أبو الخطاب: لا يقتل إلا بالسيف في العنق، رواية واحدة؛ لأنها جناية لا قصاص فيها، فلا يستوفي بها القصاص، كتجريع الخمر، وذكر القاضي فيها روايتين، كالتي قبلها؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رض رأس اليهودي بين حجرين» ، ولأن المنع من القصاص فيها منفردة، لخوف سرايتها إلى النفس، وليس بمحذور هاهنا. فصل: وكل موضع، قلنا: ليس له أن يفعل مثل فعل الجاني، إذا خالف وفعل، فلا شيء عليه؛ لأنه حقه، وإنما منع منه، لتوهم الزيادة، ولو أجافه أو أمه أو قطع ساعده، فاقتص منه مثل ذلك، ولم يسر، فلا شيء عليه كذلك، وإن سرى، ضمن سرايته؛ لأنها سراية قطع، غير مأذون فيه. فصل: وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء عينيه، فكانت مما يجب به القصاص، كالموضحة، اقتص منها، فإن ذهب ضوء عينيه، فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء، ولا يذهب بالحدقة، مثل أن يحمي حديدة، ويقربها منها وإن ذهب ضوء إحداهما، غطيت العين الأخرى، وقربت الحديدة إلى التي يقتص منها، لما روى يحيى بن جعدة: أن أعرابيًا، قدم بحلوبة له المدينة، فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فنازعه، فلطمه، ففقأ عينه، فقال له عثمان: هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه؟ فأبى، فرفعهما إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فدعا علي بمرآة، فأحماها ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 وضع القطن على عينه الأخرى، ثم أخذ المرآة بكلبتين، فأدناها من عينه، حتى سال إنسان عينه. فإن لم يمكن إلا بالجناية، على العضو، سقط القصاص. وإن أذهب بصره بجناية لا قصاص فيها، كالهاشمة واللطمة، عولج بصره بما ذكرنا، ولم يقتص منه، للأثر، ولأنه تعذر القصاص في محل الجناية، فعدل إلى أسهل ما يمكن، كالقتل بالسحر، وله أرش الجرح، وذكر القاضي في اللطمة: أنه يفعل به، كما فعل والصحيح: الأول؛ لأن اللطمة لا يقتص منها منفردة، فكذلك إذا أذهب العين، كالهاشمة. فصل: ومن وجب له القصاص في النفس، فضرب في غير موضع الضرب عمدًا، أساء ويعزر. فإن ادعى أنه أخطأ في شيء يجوز الخطأ فيه، قبل قبوله مع يمينه؛ لأنه يدعي محتملًا، وهو أعلم بنفسه، وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ، لم قبل قوله، لعدم الاحتمال، فإن أراد العود إلى الاستيفاء، لم يمكنه منه؛ لأنه لا يؤمن منه التعدي ثانيًا، وقال القاضي: يمكن؛ لأن الحق له. والظاهر، أنه لا يعود إلى مثله. وإن كان له القصاص في النفس فقطع طرفه، فلا قصاص عليه؛ لأنه قطع طرفًا يستحق إتلافه ضمنًا، فكان شبهة مسقطة للقصاص ويضمنه بديته؛ لأنه طرف له قيمة حين القطع، قطعه بغير حق، فوجب ضمانه، كما لو قطعه بعد العفو عنه. فصل: وإن وجب له القصاص في الطرف، فاستوفى أكثر منه عمدًا، وكان الزائد موجبًا للقصاص، مثل أن وجب له قطع أنملة، فقطع اثنتين، فعليه القود، وإن كان خطأ، أو لا يجب في مثله القود، مثل من وجبت له موضحة، فاستوفى هاشمة، فعليه أرش الزائد، كما لو فعله في غير قصاص، فإن كانت الزيادة لاضطراب الجاني، فلا شيء فيها؛ لأنها حصلت بفعله في نفسه، فهدرت. وإن استوفى من الطرف بحديدة مسمومة فمات، لم يجب القصاص؛ لأنه تلف من جائز وغيره، ويجب نصف الدية؛ لأنه تلف من فعل مضمون وغير مضمون، فقسم ضمانه بينهما. فصل: وإن وجب له قصاص في يد، فقطع الأخرى، فقال أبو بكر: يقع الموقع، ويسقط القصاص، سواء قطعها بتراضيهما، أو بغيره؛ لأن ديتهما واحدة، وألمهما واحد، واسمهما ومعناهما واحد، فأجزأت إحداهما عن الأخرى، كالمتماثلتين، ولأن إيجاب القصاص في الثانية، يفضي إلى قطع يدين بيد واحدة، وتفويت منفعة الجنس في حق من لم يفوتها. وقال ابن حامد: لا يجزئ؛ لأن ما لا يجوز أخذه قصاصًا، لا يجزئ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 بدلًا، كاليد عن الرجل، فعلى هذا إن أخذها بتراضيهما، فلا قصاص على قاطعها؛ لأنه قطعها بإذن صاحبها، ويسقط القصاص في الأخرى، وفي أحد الوجهين؛ لأن عدوله عن التي يستحقها، رضي بترك القصاص فيها. ولكل واحد على الآخر دية يده. والثاني: لا يسقط؛ لأنه أخذ الثانية بدلًا عن الأولى، ولم يسلم البدل، فبقي حقه في المبدل، فيقتص من اليد الأخرى، ويعطيه دية التي قطعها. وإن قطعها كرهًا عالمًا بالحال، فعليه القصاص فيها، وله القصاص في الأخرى. وإن قال: أخرج يمينك لأقتص منها، فأخرج يساره، فقطعها يظنها اليمين، وقال المخرج: عمدت إخراجها عالمًا أنها لا تجزئ، فلا ضمان فيها؛ لأن صاحبها بذلها راضيًا بقطعها، بغير بدل. وإن قال: ظننتها اليمنى، أو أنها الواجب قطع اليسرى. أو أنها تجزئ أو أخرجتها دهشة، فعلى قاطعها ديتها؛ لأنه بذلها لتكون عوضًا، فلم تكن عوضًا، فوجب بدلها كما لو اشترى سلعة بعوض فاسد، فتلفت عنده، وإن علم المستوفي حال المخرج، وحال اليد، ففيها القود، في أحد الوجهين؛ لأنه تعمد قطع يد معصومة، وفي الثاني: لا قود عليه؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها ورضاه، وعليه ديتها. وإن جهل الحال، فلا قصاص عليه، وعليه ديتها. وإن كان القصاص على مجنون، فقال له المقتص: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها عمدًا، فعليه القصاص. وإن كان جاهلًا، فعليه الدية؛ لأن بذل المجنون لا يصح، فصار كما لو بدأ بقطعه. وإن كان القصاص للمجنون، فأخرج إليه يساره، فقطعها، ذهبت هدرًا؛ لأنه ليس من أجل الاستيفاء، فإذا سلطه على إتلاف عضوه، لم يضمنه، كما لو أذن له في إتلاف ماله. فصل: ومن وجب عليه القصاص في نفس، أو طرف، فمات عن تركة وجبت دية جنايته في تركته؛ لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط، فوجبت الدية، كقتل غير المكافئ. وإن لم يخلف تركة، سقط الحق، لتعذر استيفائه. فصل: ومن قتل، أو أتى حدًا خارج الحرم، ثم لجأ إليه، لم يجز الاستيفاء منه في الحرم، لقول الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] . ولما روى أبو شريح الكعبي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولن يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم، كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب» متفق عليه. ولا يبايع، ولا يشارى، ولا يطعم، ولا يؤوى، ويقال له: اتق الله، واخرج إلى الحل. فإذا خرج استوفي منه؛ لأن ابن عباس قال ذلك، ولأن في إطعامه تمكينًا في تضييع الحق الذي عليه، ولا فرق بين القتل وغيره من العقوبات. وروى حنبل عنه: أن الحدود كلها تقام في الحرم، إلا القتل؛ لأن حرمة النفس أعظم. والمذهب: الأول. قال أبو بكر: انفرد حنبل عن عمه بهذه الرواية. ولأن ما حرم النفس، حرم الطرف كالعاصم، فإن خالف واستوفى في الحرم، أساء ووقع الموقع، كما لو استوفى من غير حضرة السلطان. ومن جنى في الحرم، جاز الاستيفاء منه في الحرم؛ لأنه انتهك حرمته، فلم ينتهض عاصمًا له، ولأن أهل الحرم، يحتاجون إلى الزجر عن الجنايات، رعاية لحفظ مصالحهم، كحاجة غيرهم، فوجب أن تشرع الزواجر في حقهم. [ باب العفو عن القصاص ] وهو مستحب لقول الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] . ومن وجب له القصاص، فله أن يقتص، وله أن يعفو عنه مطلقًا إلى غير بدل، وله أن يعفو على المال، لقول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أوجب الاتباع والأداء بمجرد العفو. وروى أبو شريح الكعبي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثم أنتم يا خزاعة، قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلًا، فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» . رواه أبو داود. وإذا عفا عن القصاص، أو عن بعضه، سقط كله؛ لأنه حق مبناه على الإسقاط لا يتبعض. فإذا سقط بعضه، سقط جميعه، كالرق، وإن وجب لجماعة فعفا بعضهم، سقط كله، لما روى زيد بن وهب، أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي برجل قتل قتيلًا، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت امرأة المقتول، وهي أخت القاتل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 قد عفوت عن حقي، فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل قبل أن ... رواه أبو داود، ولما ذكرناه في المعنى. ثم إن عفا على مال، انتقل حق الجميع إلى الدية. وإن عفا مطلقًا. انتقل حق الباقين إلى الدية. كما يسقط حق أحد الشريكين، إذا أعتق شريكه إلى القيمة. وقد روى زيد بن وهب: أن رجلًا دخل على امرأته، فوجد عندها رجلًا، فقتلها، فاستعدى عليه إخوتها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فقال بعض إخوتها: قد تصدقت، فقضى لسائرهم بالدية. فصل: ويصح العفو، بلفظ العفو، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178] . وبلفظ الصدقة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} [المائدة: 45] . وبلفظ الإسقاط؛ لأنه إسقاط للحق، وبكل لفظ يؤدي معناه؛ لأن المقصود المعنى، فبأي لفظ حصل، ثبت حكمه كعقد البيع. فصل: واختلفت الرواية في موجب العمد. فعنه: موجبه، أحد شيئين. القصاص، أو الدية، لخبر أبي شريح؛ لأن له أن يختار أيهما شاء. فكان الواجب أحدهما، كالهدي والطعام في جزاء الصيد. وعنه: موجبه القصاص عينًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . ولأنه بدل يجب حقًا لآدمي، فوجب معينًا كبدل ماله، فإن قلنا بهذا، فعفا عنه مطلقًا، سقط القصاص، ولم تجب الدية؛ لأنه لم يجب له غير القصاص وقد أسقطه بالعفو. وإن قلنا: موجبه أحد الشيئين، فعفا عن القصاص مطلقًا، وجبت الدية؛ لأن الواجب أحدهما، فإن ترك أحدهما، تعين الآخر. وإن اختار الدية، سقط القصاص، وثبت المال. وإن اختار القصاص، تعين، وقال القاضي: وله الرجوع، إلى المال؛ لأن القصاص أعلى، فكان له أن ينتقل إلى الأدنى، ولهذا قلنا: له المطالبة بالدية وإن كان القصاص واجبًا عينًا، ويحتمل أنه ليس له ذلك؛ لأنه تركها فلم يرجع إليها، كما لو عفا عنها وعن القصاص. ولو جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص، فاشتراه بأرشها، سقط القصاص؛ لأن شراءه بالأرش اختيار للمال، ثم إن كان أرشها مقدرًا بذهب، أو فضة، صح الشراء؛ لأنه ثمن معلوم. وإن كان إبلًا، لم يصح؛ لأن صفتها مجهولة، فلم يصح جعلها عوضًا، كما لو اشترى بها غير الجاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 فصل: ويصح عفو المفلس والسفيه عن القصاص؛ لأن الحجر عليهما في المال، وليس هذا بمال. فإن عفوا إلى مال، ثبت. وإن عفوا إلى غير مال، وقلنا: الواجب أحد شيئين، ثبت المال؛ لأنه واجب، وليس لهما إسقاط المال، وإن قلنا: الواجب القصاص عينًا، صح عفوهما؛ لأنه لم يجب إلا القصاص وقد أسقطاه. فصل: وإن وجب القصاص لصغير، فليس لوليه العفو على غير مال؛ لأنه تصرف لا حظ للصغير فيه. وإن عفا على مال، وللصغير كفاية من ماله، أو له من ينفق عليه، لم يصح عفوه؛ لأنه يسقط القصاص من غير حاجة. وإن لم يكن له ذلك، صح عفوه؛ لأن للصغير حاجة إليه، لحفظ حياته، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن نفقته في بيت المال. وإن قُتل من لا ولي له، فالأمر إلى السلطان، إن رأى قتل، وإن رأى عفا على مال؛ لأن الحق للمسلمين فكان على الإمام فعل ما يرى المصلحة فيه. وإن أراد أن يعفو على غير مال، لم يجز لأنه لا حظ للمسلمين فيه. ويحتمل جواز العفو على غير مال؛ لأنه روي عن عثمان أنه عفا عن عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان، ولم ينكره أحد من الصحابة، ولأنه ولي الدم، فجاز له العفو على غير مال، كسائر الأولياء. فصل: وإذا وكل من يستوفي له القصاص، ثم عفا عنه، ثم قتله الوكيل قبل علمه بالعفو، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح العفو؛ لأنه عفا في حال لا يمكن تلافي ما وكل فيه، فلم يصح، كالعفو بعد رمي الحربة إلى الجاني. والثاني: يصح؛ لأنه حق له، فصح عفوه عنه بغير علم الوكيل، كالدين، ولا قصاص على الوكيل؛ لأنه جهل تحريم القتل، وعليه الدية؛ لأنه قتل معصومًا، ويرجع بها على العافي في أحد الوجهين؛ لأنه غره، فرجع عليه بما غرم، كالمغرور بحرية الأمة. والثاني: لا يرجع عليه؛ لأنه محسن بالعفو، بخلاف الغارّ بالحرية. فصل: وإذا جنى عليه جناية، توجب القصاص فيما دون النفس، فعفا عنها، ثم سرت إلى نفسه، فلا قصاص فيها؛ لأن القصاص لا يتبعض، وقد سقط في البعض، فسقط في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 الكل. وإن كانت الجناية لا توجب القصاص، كالجائفة، وجب القصاص في النفس؛ لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه، فلم يؤثر العفو. وإن كان عفوه على مال، فله الدية كاملة في الموضعين. وإن عفا عن دية الجرح، صح عفوه؛ لأن ديته تجب بالجناية، بدليل أنه لو جنى على طرف عبد، فباعه سيده، ثم برأ، كان أرش الجناية للبائع دون المشتري، وإنما تتأخر المطالبة به، كالدين المؤجل، فعلى هذا تجب له دية النفس إلا دية الجرح. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شيء؛ لأن القطع غير مضمون، فكذلك سرايته. والأول أولى؛ لأن القطع موجب، وإنما سقط الوجوب بالعفو، فيختص السقوط بمحل العفو. وإن قال: عفوت عن الجناية وما يحدث منها، صح عفوه، ولا قصاص في سرايتها ولا دية؛ لأنه إسقاط للحق بعد انعقاد سببه، فصح، كالعفو عن الشفعة بعد البيع. ولا يعتبر خروج ذلك من الثلث. نص عليه؛ لأن الواجب القصاص عينًا، أو أحد شيئين، فما تعين إسقاط أحدهما. وعنه: أنه إن مات من سرايتها، لم يصح العفو؛ لأنها وصية لقاتل، وعنه: تصح وتعتبر من الثلث. فصل: وإن قطع إصبعًا، فعفا عنها، ثم سرى إلى الكف، ثم اندمل، فالحكم فيه على ما فصلناه في سرايته إلى النفس. فإن قال الجاني: عفوت عن الجناية وما يحدث منها، فأنكر الولي العفو عن سرايتها، فالقول قوله؛ لأنه منكر، والأصل معه. فصل: وإن قطع يده، فعفا عن القصاص، وأخذ نصف الدية، فعاد الجاني فقتله، فلوليه القصاص في النفس؛ لأن القتل انفرد عن القطع، فوجب القصاص فيه، كما لو قتله غير القاطع. فإن اختار الدية، فقال أبو الخطاب: له الدية كلها؛ لأن القتل منفرد عن القطع، فلم يدخل حكمه في حكمه، كما لو كان القاطع غيره، ولأن من ملك القصاص في النفس، ملك العفو عن الدية كلها، كسائر أولياء المقتولين. وقال القاضي: له نصف الدية؛ لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل برئها، كان بمنزلة سرايتها، ولو سرى القطع، لم يجب إلا نصف الدية، كذا هاهنا. فصل: إذا قطع يد إنسان، فسرى إلى نفسه، فاقتص وليه في اليد، ثم عفا عن النفس على غير مال، جاز، ولا شيء عليه، سواء سرى القطع، أو وقف؛ لأن العفو يرجع إلى ما بقي، دون ما استوفي، فأشبه ما لو قبض بعض ديته، ثم أبرأه من باقيها، وإن عفا على مال، فوجب له نصف الدية؛ لأنه أخذ ما يساوي نصف الدية. وإن قطع يدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 رجل فسرى إلى نفسه، فاستوفى من يديه، ثم عفا عن النفس، لم يجب له شيء؛ لأنه لم يبق من الدية شيء. وإن قطع نصراني يد مسلم، فسرى، فقطع الولي يده، ثم عفا عن نفسه على مال، ففيه وجهان: أحدهما: له نصف دية مسلم؛ لأنه رضي بأخذ يد النصراني بدل يد وليه، فبقي له النصف. والثاني: يجب له ثلاثة أرباعها؛ لأنه استوفى يدًا قيمتها ربع دية مسلم، فبقي له ثلاثة أرباعها. وإن قطع يديه فسرى إلى نفسه، فاستوفى من يديه وعفا عن نفسه، فعلى الوجه الأول: لا شيء له؛ لأنه رضي بيده بدلًا من يديه، فيصير كما لو استوفى ديته. وعلى الثاني: له نصف الدية؛ لأنه أخذ ما يساوي نصفها، وبقي له نصفها. وإن كان الجاني امرأة على رجل، فعلى ما ذكرنا من التفصيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 [ كتاب الديات ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الديات تجب الدية بقتل المؤمن، والذمي، والمستأمن ومن بيننا وبينه هدنة؛ لقول الله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فأما من لم تبلغه الدعوة فلا يضمن؛ لأنه لا إيمان له ولا أمان، فأشبه الحربي. وقال أبو الخطاب: تجب ديته؛ لأنه محقون الدم من أهل القتال، أشبه الذمي، وإن قتل في دار الحرب مسلمًا كاتمًا لإسلامه يظنه حربيًا، ففيه روايتان: إحداهما: لا دية فيه؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ولم يذكر دية. والثانية: يضمنه؛ لأنه قتل مؤمنًا معصومًا خطأ، وإن أرسل سهمه إلى حربي، فتترس بمسلم، فقتله ففيه روايتان: إحداهما: يضمنه كذلك. والثانية: لا يضمنه؛ لأنه مضطر إلى رميه غير مفرط في فعله. فصل: وإن قطع طرف مسلم، فارتد ومات، ففيه وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 أحدهما: لا يضمن شيئًا؛ لأن القطع صار قتلًا لنفس لا ضمان فيها. والثاني: تجب دية الطرف؛ لأن الجناية أوجبت ديته، والردة قطعت سرايته، فلا يسقط ما تقدم وجوبه، كما لو قطع يده، فقتل المجروح نفسه، وفي قدر الواجب وجهان: أحدهما: أرش الجرح بالغًا ما بلغ، كما لو قتل الرجل نفسه. والثاني: أقل الأمرين من أرشه، أو دية النفس؛ لأنه لو لم يرتد، لم يجب أكثر من دية النفس، فإذا ارتد، كان أولى ألا يريد ضمانه. فصل: وإن قطع يد مسلم فارتد، ثم أسلم ومات، وزمن الردة مما لا تسري فيه الجناية، ففيه دية كاملة؛ لأنه زمن الردة لا أثر له، وإن كان مما تسري فيه الجناية، فكذلك على ظاهر كلامه؛ لأنه مسلم في حالة الجرح والموت. وقال القاضي: يحتمل وجوب دية كاملة اعتبارًا بحال استقرار الجناية، ويحتمل أن يجب نصفها؛ لأنه مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة، أشبه من مات من جرح نفسه وأجنبي. فصل: وإن قطع يد مرتد أو حربي فأسلم ومات لم يضمن؛ لأنه مات من سراية جرح مأذون فيه، فلم يضمن كالسارق، إذا سرى قطعه، ولو رمى حربيًا أو مرتدًا، فلم يقع به السهم حتى أسلم، فلا ضمان فيه؛ لأنه وجد السبب منه في حال هو مأمور بقتله، على وجه لا يمكن تلافيه، أشبه ما لو جرحه، ثم أسلم. ويحتمل كلام الخرقي وجوب ديته؛ لأنه قال: لو رمى إلى كافر أو عبد، فلم يقع به السهم، حتى عتق وأسلم، فعليه دية حر مسلم؛ ولأن الاعتبار في الضمان بحال الجناية دون حال السبب، بدليل ما لو حفر بئرًا لحربي، فوقع فيها بعدما أسلم، ويحتمل التفريق بين الحربي والمرتد؛ لأن قتل الحربي مأمور به، وقتل المرتد إلى الإمام، وإن أرسل سهمه إلى مسلم، فأصابه بعد أن ارتد، لم يضمنه؛ لأن الجناية حصلت وهو غير مضمون، أشبه ما لو أرسله على حي، فأصابه بعد موته. فصل: وإذا اشترك الجماعة في القتل، فعليهم دية واحدة تقسم على عددهم؛ لأنه بدل متلف يتجزأ، فيقسم بين الجماعة على عددهم، كغرامة المال، وإن جرحه أحدهم جراحات، وسائرهم جرحًا واحدًا، فهم سواء لما تقدم، وإن كان القتل عمدًا، فالدية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 واحدة، وقال ابن أبي موسى: إذا قلنا: له أن يقتص من جميعهم، ففيه روايتان: أظهرهما: أن على كل واحد دية كاملة، بدلًا عن نفسه. والثانية: تجب دية واحدة، وهذا أصح؛ لأن الدية بدل المحل، فلا يختلف بكثرة المتلفين وقلتهم، كبدل المال، وإن أراد الولي أن يقتص من بعضهم، ويعفو عن البعض، ويأخذ الدية من الباقين فله ذلك، ويأخذ منهم حصتهم من الدية، لما ذكرنا، والمكرِه والمكرَه مشتركان في القتل، حكمهما ما ذكرنا، وكذلك حكم الشاهدين إذا رجعا عن الشهادة؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومن المعنى فيه. فصل: وإن طرح إنسانًا في ماء يسير، يمكنه التخلص منه، فأقام فيه قصدًا حتى هلك، لم يجب ضمانه؛ لأن طرحه لم يهلكه، وإنما هلك بإقامته، فكان هو المهلك لنفسه، وإن طرحه في نار يمكنه الخلاص منها، فلم يفعل حتى هلك، ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمنه كذلك. والثاني: يضمنه؛ لأن تركه التخلص لا يُسقط ضمان الجناية، كما لو جرحه، فترك مداواة نفسه حتى هلك به وفارق الماء؛ لأن الناس يدخلونه للسباحة وغيرها. وإن شده في موضع، فهلك بزيادة الماء ضمنه. فإن كانت الزيادة معلومة، كمد البصرة، فهو عمد محض، وإن كانت تحتمل ويحتمل، فهو شبه عمد، وإن كانت نادرة فهو خطأ، وإن ألقاه في ماء يسير، فالتقمه حوت، فهو خطأ محض، وإن كان الماء كثيرًا، فهو شبه عمد، وإن ألقاه مكتوفًا فأكله سبع، فهو شبه عمد؛ لأنه عمد إلى فعل لا يهلك به غالبًا فهلك به، أشبه ما لو وكزه. فصل: وإن صاح بصبي، أو تغفل غافلًا فصاح به، فسقط عن شيء هلك به ضمنه؛ لأنه هلك بسببه، فإن قصده بالصياح، فهو شبه عمد، وإن لم يقصده فهو خطأ، وإن كان العاقل متيقظًا لم يضمنه؛ لأن ذلك لا يقتله، وإن اتبع إنسانًا بسيف، فوقع في شيء هلك به ضمنه؛ لأنه تسبب إلى إهلاكه، وكذلك إن طرده إلى موضع؛ فأكله به سبع. فصل وإن بعث السلطان إلى امرأة ليحضرها، ففزعت فألقت جنينًا ميتًا وجب ضمانه؛ لما روي: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرسل إلى امرأة مغيبة كان يُدْخَل عليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر؟ ! فبينا هي في الطريق إذ فزعت، فضربها الطلق، فألقت ولدًا، فصاح الصبي صيحتين؛ ثم مات، فاستشار عمر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأشار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 بعضهم: أن ليس عليك شيء، إنما أنت مؤدب، فصمت علي، فأقبل عليه عمر، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطئوا رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك؛ لأنك أفزعتها، فألقت. وإن هلكت المرأة بسبب وضعها ضمنها أيضًا؛ لأنه سبب لإتلافها، وإن فزعت فماتت، لم يضمنها؛ لأنه ليس بسبب لهلاكها غالبًا، ويحتمل أن يلزمه ضمانها؛ لأنها هلكت بفعله فضمنها، كما لو ضربها سوطًا فماتت، وإن زنى بامرأة مكرها فأحبلها، فماتت من الولادة ضمنها؛ لأنها ماتت بسببٍ تعدى به. فصل: وإن رمى إنسانًا من علو، فتلقاه آخر بسيف، فقتله، فالضمان على القاتل؛ لأنه مباشر، والملقي متسبب، فكان الضمان على المباشر، كالحافر والدافع. فصل وإن حفر بئرًا في الطريق، أو وضع حجرًا أو حديدة، أو قشر بطيخ أو ماء، فهلك به إنسان ضمنه؛ لأنه تعدى به، ولزمه ضمان ما هلك به، كما لو جنى عليه، فإن دفعه آخر في البئر أو على الحجر أو الحديدة، فالضمان على الدافع؛ لأنه مباشر، والآخر صاحب سبب، وإن حفر بئرًا، أو نصب حديدة، ووضع آخر حجرًا، فعثر بالحجر، فوقع في البئر، أو على الحديدة فمات، فالضمان على واضع الحجر؛ لأنه الذي ألقاه، فأشبه ما لو ألقاه بيده. فصل ومن حفر بئرًا في طريق لنفسه، ضمن ما هلك بها؛ لأنه ليس له أن يختص بشيء من طريق المسلمين، وكذلك إن حفرها في ملك غيره بغير إذنه؛ لأنه متعد بحفرها، وإن حفرها في الطريق لمصلحة المسلمين، وكانت في طريق ضيق، ضمن ما تلف بها؛ لأنه ليس له ذلك، وإن كانت في طريق واسع لم يضمن؛ لأنه لم يتعد بها، فلم يضمن ما تلف بها، كما لو أذن فيها الإمام. وعنه: إن حفرها بغير إذن الإمام ضمن؛ لأن ما يتعلق بمصلحة المسلمين يختص الإمام بالنظر فيه، فمن افتأت عليه، كان متعديًا به، فضمن ما هلك به، وإن بنى مسجدًا في موضع لا ضرر فيه، أو علق قنديلًا في مسجد، أو بابًا، أو فرش فيه حصيرًا، لم يضمن ما تلف به؛ لأن هذا من المصالح التي يشق استئذان الإمام فيها، فملك فعله بغير إذنه، كإنكار المنكر، وذكر القاضي: أنه كحفر البئر في الطريق، وإن حفر بئرًا في موات لينتفع بها، أو لينتفع بها المسلمون، أو ليتملكه، لم يضمن ما تلف بها؛ لأنه غير متعد بحفرها، وإن كان في داره بئر، أو كلب عقور، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 فدخل إنسان بغير إذنه، فهلك بها، أو عقره الكلب لم يضمنه؛ لأن التفريط من الداخل، وإن دخل بإذنه والبئر مكشوفة في موضع يراها الداخل لم يضمنه، وإن كانت مغطاة، أو في ظلمة، أو الداخل ضريرًا ضمنه؛ لأنه فرط في ترك إعلامه، وإن وضع حجرًا في ملكه، وحفر آخر بئرًا في الطريق، فتعثر بالحجر، فوقع في البئر، فالضمان على الحافر؛ لأن العدوان منه، فكان الضمان عليه، والواضع في ملكه لا عدوان منه فلم يضمن، وإن وضع جرة على سطحه، فألقتها الريح على شيء فأتلفته لم يضمنه؛ لأنه غير متعد بالوضع، ولا صنع له في إلقائها. فصل: وإن بنى حائطًا مائلًا إلى الطريق، أو إلى ملك غيره، فسقط على شيء أتلفه ضمنه؛ لأنه تلف بسببٍ تعدى به، وإن بناه في ملكه مستويًا، فمال إلى الطريق، أو إلى ملك غيره، فأمره المالك بنقضه، أو أمره مسلم أو ذمي بنقص المائل إلى الطريق، وأمكنه ذلك فلم يفعل، ضمن ما تلف به أحد الوجهين؛ لأن ذلك يضر المالك والمارة، فكان لهم المطالبة بإزالته، فإذا لم يزله ضمن، كما لو بناه مائلًا. والثاني: لا يضمن؛ لأنه وضعه في ملكه، وسقط بغير فعله، فأشبه الجرة التي ألقتها الريح، ويحتمل أن يضمن، وإن لم يطالب بنقضه؛ لأن بقائه مائلًا يضر، فلزمه إزالته وإن لم يطالب به، كالذي بناه مائلا. وإن لم يمكنه نقضه لم يضمن؛ لأنه غير مفرط. وإن أخرج جناحًا، أو ميزابًا إلى الطريق، فوقع على إنسان ضمنه؛ لأنه تلف بسبب تعدى به. فأشبه ما لو بنى حائط مائلًا. فصل: وإذا رمى إلى هدف، فمر صبي فأصابه السهم، فقتله أو مرت بهيمة فأصابها، ضمن ذلك؛ لأنه أتلفه وإن قدم إنسانٌ الصبيَ، أو البهيمةَ إلى الهدف فأصابهما السهم، فالضمان على من قدّمهما؛ لأن الرامي كالحافر، والآخر كالدافع. وإن أمر من لا يميز أن ينزل بئرًا، أو يصعد نخلة، فهلك بذلك ضمنه؛ لأنه تسبب إلى إتلافه. وإن أمر من يميز بذلك فهلك به لم يضمنه؛ لأنه يفعل ذلك باختياره. فإن كان الآمر السلطان، ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمنه كذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 والثاني: يضمنه؛ لأن عليه طاعة السلطان، فأشبه ما لو أكرهه على فعله، وإن غصب صبيًا، فأصابته عنده صاعقة، أو نهشته حية ضمنه؛ لأنه تلف في يده العادية. وإن مرض فمات، ففيه وجهان: أحدهما: يضمنه كذلك، فأشبه العبد الصغير. والثاني: لا يضمنه؛ لأنه حر لا تثبت اليد عليه في الغصب، فأشبه الكبير، وإن أدب المعلم صبيانه، أو الرجل ولده أو زوجته، أو السلطان رعيته، الأدب المأمور به، لم يضمن ما تلف به؛ لأنه أدب مأمور به، فلم يضمن ما تلف به كالحد، ويحتمل أن يضمن، كما لو أرسل إلى امرأة ليحضرها، فأجهضت جنينها. فصل: وما أتلفت الدابة بيدها أو فمها، ضمنه راكبها وقائدها وسائقها، وما أتلفت برجلها أو ذنبها لم يضمنه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الرِّجْل جُبَار» رواه سعيد. فمفهومه أن جناية اليد مضمونة، والفم في معناها؛ ولأن اليد يمكن حفظها، فضمن ما تلف بها، بخلاف الرِّجل، وعنه: في السائق أنه يضمن جناية الرجل والذنب؛ لأنه يشاهدهما، فأشبه اليد في حق القائد، وإن بالت في الطريق، ضمن ما تلف به؛ لأنه كما لو صبه فيها، ويحتمل أن لا يضمن في هذا؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، أشبه جناية الرجل، وإن كان على دابة راكبان، فالضمان على الأول منهما؛ لأنه المتصرف فيها، وإن كان لها قائد وسائق اشتركا في الضمان؛ لاشتراكهما في تمشيتها، وإن كان معهما راكب، فالضمان بينهم أثلاثًا كذلك، ويحتمل أن يختص به الراكب؛ لأنه أقوى منهما يدًا، والجمل المقطور إلى جمل عليه راكب، كالذي في يده؛ لأن يده عليه، وليس عليه ضمان ما جنى ولد البهيمة؛ لأنه لا يمكنه حفظه، وكذلك ما جنت الدابة، إذا لم يكن عليها يد، لم يضمن مالكها كذلك. فصل: وإذا اصطدم نفسان فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه؛ لأن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه، وإنما هو قرّب نفسه إلى محل الجناية عن غير قصد، وإن ماتت دابتاهما، ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر، وإذا كان أحدهما يسير والآخر واقفًا، فعلى السائر دية الواقف وضمان دابته؛ لأنه قتلهما بصدمته، ولا ضمان على الواقف؛ لأنه لا فعل منه، إلا أن يقف في طريق ضيق، فيكون الضمان عليه؛ لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 تعدى بالوقوف فيه، فأشبه واضع الحجر فيه، وإن تصادما عمدًا، وذلك مما يقتل غالبًا، فدماؤهما هدر؛ لأن ضمان كل واحد منهما يلزم الآخر في ذمته، فيتقاصان ويسقطان. وإن ركب صبيان، أو أركبهما وليهما فاصطدما، فهما كالبالغين. وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما، فعليه ضمان ما تلف منهما؛ لأنه تلف بسبب جنايته، وإن أركب الصبي من لا ولاية له، فصدمه كبير فقتله، فالضمان على الصادم؛ لأنه مباشر، فيقدم على المتسبب، وإن مات الكبير فقتله، فضمانه على الذي أركب الصبي؛ لأنه تلف بسبب جنايته، وإن اصطدمت امرأتان حاملان، فحكمهما في أنفسهما ما ذكرنا، وعلى كل واحد منهما نصف ضمان جنينها، ونصف ضمان جنين الأخرى؛ لأنهما اشتركا في قتلهما لجنايتهما عليهما، وإن تصادم عبدان فماتا، فهما هدر؛ لأن جناية كل واحد منهما تتعلق برقبته، فتفوت بفواته، فإن مات أحدهما فقيمته في رقبة الآخر، كسائر جناياته. فصل: وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا، لتفريط من القيمين، مثل تقصيرهما في آلتهما، وتركهما ضبطهما مع إمكانه، أو تسييرهما إياهما في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها، ضمن كل واحد منها سفينة الآخر بما فيها، كالفارسين إذا اصطدما، فإن لم يفرطا، فلا ضمان عليهما؛ لأنه تلف حصل بأمر لا صنع لهما فيه، ولا تفريط منهما، أشبه التلف بصاعقة، وإن فرط أحدهما دون صاحبه، ضمن المفرط وحده. وإن فرطا جميعًا، وكان أحدهما منحدرًا، والآخر مصعدًا، فعلى المنحدر ضمان المصعد؛ لأن المنحدر كالسائر، والمصعد كالواقف، فيختص المنحدر بالضمان كالسائر. ومن غرق سفينة فيها ركبان بسبب يقتل مثله غالبًا عمدًا، فعليه القصاص، وإن كان خطأ، فعلى عاقلته دية الركبان. وإن كان عمدًا بسبب لا يقتل مثله غالبًا، فقتلهم شبه عمد. فصل: وإذا قال بعض ركبان السفينة لرجل: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، وجب عليه ضمانه؛ لأنه استدعى منه إتلاف ماله بعوض، لغرض صحيح، فأشبه ما لو قال: أعتق عبدك وعلي ثمنه، وإن قال: ألقه وضمانه علي، وعلى ركبان السفينة ففعل، فعليه بحصته من الضمان. إن كانوا عشرة فعليه العشر، ويسقط سائره؛ لأنه جعل الضمان على الجميع، فلم يجب عليه أكثر من حصته، وإن قال: ألق ونحن نضمنه لك، وعلي تحصيله لك لزمه؛ لأنه تكفل له بتحصيل عوضه، وكذلك إن قال: قد أذنوا لي في الضمان عنهم، فألقه ونحن ضمنا لك، ضمن جميعه؛ لأنه غره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 فصل: وإذا رمى أربعة بالمنجنيق، فقتل الحجر رجلًا، فعلى كل واحد منهم ربع ديته، وإن قتل الحجر أحدهم، ففيه وجهان: أحدهما: يسقط ربع ديته، ويلزم شركاءه ثلاثة أرباعها؛ لأنه مات بفعله وفعلهم، فهدر ما قابل فعله، ولزم شركاءه الباقي، كما مات من جراحاتهم، وجراح نفسه. الثاني: يلزم شركاءه جميع ديته، ويلغو فعل نفسه، قياسًا على المصطدمين. وإن كانوا ثلاثة فما دون، ففيه وجه ثالث، وهو أن يجب ثلث دية المقتول على عاقلته لورثته، ويجب على عاقلة الآخرين ثلثا ديته. فصل: إذا وقع رجل في بئر، ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع فمات الأول، وجبت ديته على الثاني؛ لما روى علي بن رباح اللخمي: أن بصيرًا كان يقود أعمى، فخرا في بئر، ووقع الأعمى فوق البصير فقتله، فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى، فكان الأعمى ينشد في الموسم: يا أيها الناس لقيت منكرا ... هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا خرا معًا كلاهما تكسرا ولأن الأول مات بوقوع الثاني عليه، فوجبت ديته عليه، وإن مات الثاني هدرت ديته؛ لأنه لا صنع لغيره في هلاكه، وإن ماتا معًا، فعليه ضمان الأول، ودمه هدر كذلك، وإن وقع عليهما ثالث، فدية الأول على الثاني والثالث؛ لأنه مات بوقوعهما عليه، ودية الثاني على الثالث؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه، فانفرد بديته، ودم الثالث هدر، هذا إذا كان الوقوع عليه هو الذي قتله، فإن كان البئر عميقًا يموت الواقع بمجرد وقوعه، لم يجب الضمان على أحد؛ لأن كل واحد منهم مات بوقعته، لا بفعل غيره. وإن احتمل الأمرين فكذلك؛ لأن الأصل عدم الضمان. فصل: فإن خر رجل في زبية أسد، فجذب ثانيًا، وجذب الثاني ثالثًا، وجذب الثالث رابعًا، فقتلهم الأسد، فدم الأول هدر؛ لأنه لا صنع لأحد في إلقائه، وعليه دية الثاني؛ لأنه السبب في قتله، وعلى الثاني دية الثالث كذلك، وعلى الثالث دية الرابع، كذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 وفيه وجه آخر: أن دية الثالث على الأول، والثاني نصفين؛ لأن جذب الأول الثاني سبب في جذب الثالث، ودية الرابع على الثلاثة أثلاثًا كذلك، وقد روي عن أحمد: أنه ذهب فيها إلى قضية علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو ما روى حنش الصنعاني: «أن قومًا من أهل اليمن حفروا زبية للأسد فوقع فيها، فاجتمع الناس على رأسها، فهوى فيها واحد، فجذب ثانيًا، فجذب الثاني ثالثًا، ثم جذب الثالث رابعًا، فقتلهم الأسد، فرفع ذلك إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: للأول ربع الدية؛ لأنه هلك فوقه ثلاثة، وللثاني ثلث الدية؛ لأنه هلك فوقه اثنان، وللثالث نصف الدية؛ لأنه هلك فوقه واحد، وللرابع الدية كاملة، وقال: وإني أجعل الدية على من حفر رأس البئر، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هو كما قال» رواها سعيد بن منصور بإسناده، وذكرها أحمد. واحتج بها، وذهب إليها، فإن كان هلاكهم لوقوع بعضهم على بعض، فلا شيء على الرابع؛ لأنه لا صنع له، وتجب ديته على الثالث في إحدى الوجهين؛ لأنه المباشر لجذبه. وفي الثاني: ديته على الثلاثة أثلاثًا، وتجب دية الثالث على الثاني في أحد الوجوه، والثاني تجب ديته على الأول والثاني نصفين، ويلغى فعل نفسه، والثالث يهدر ما قابل فعله في نفسه، ويجب على عاقلة الآخرين ثلثا ديته، والرابع يهدر نصف ديته، ويجب على عاقلة الثاني نصفها، وأما الثاني: ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تجب ديته على الأول والثالث نصفين. والثاني: يهدر من ديته ثلثها؛ لأنه قابل فعل نفسه، ويجب ثلثاها على الأول والثالث. والثالث: تجب الدية على عواقلهم ثلاثتهم. وفي الأول ثلاثة أوجه: أحدها: تجب ديته على الثاني والثالث نصفين. والثاني: يجب عليهما ثلثاها ويسقط ثلثها. والثالث: تجب الدية على عواقلهم كلهم. فصل: إذا تجارح رجلان، وزعم كل واحد منهما، أنه جرح الآخر دفعًا عن نفسه، وجب على كل واحد منهما ضمان صاحبه؛ لأن الجرح قد وجد، وما يدعيه من القصد لم يثبت فوجب الضمان، والقول قول كل واحد منهما مع يمينه في نفي القصاص؛ لأن ما يدعيه محتمل فيندرئ به القصاص؛ لأنه يندرئ بالشبهات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 فصل ومن اضطر إلى طعام إنسان، أو شرابه، فمنعه مع غناه عنه فهلك ضمنه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى بذلك، ولأنه قتله بمنعه طعامًا يجب دفعه إليه فضمنه، كما لو منعه طعامه فهلك بذلك. وإن رآه في مهلكة فلم ينجيه لم يضمنه؛ لأنه لم يتسبب إلى قتله بخلاف التي قبلها، وقال أبو الخطاب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزمه ضمانه على قياس التي قبلها، ولا يصح؛ لأنه في الأول منعه من تناول ما تبقى حياته به، فنسب هلاكه إليه، بخلاف هذا، فإنه لا صنع له فيه. [ باب مقادير الديات ] دية الحر المسلم: مائة من الإبل؛ لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن، بكتاب فيه الفرائض والسنن: «وإن في النفس الدية؛ مائة من الإبل» رواه مالك في الموطأ، والنسائي في السنن. فصل: ودية العمد المحض، وشبه العمد أرباع، خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون بنت مخاض، في إحدى الروايتين؛ لما روى الزهري، عن السائب بن يزيد قال: «كانت الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرباعًا، خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين حقة، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسا وعشرين بنت مخاض» ، ولأنه قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والثانية: يجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، أي حاملًا؛ لما روى عبد الله بن عمرو: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول إن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا، أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه، فهو لهم» رواه الترمذي. وقال: حديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 حسن. والخلفة: الحامل. وعن عمرو بن شعيب: أن رجلًا يقال له: قتادة، حذف ابنه بالسيف فقتله، فأخذ منه عمر ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة رواه مالك في الموطأ. وهل يعتبر في الأربعين، أن تكون ثنايا؟ على وجهين: أحدهما: لا يعتبر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق الخلفات، فاعتبار السن تقييد لا يصار إليه إلا بدليل. والثاني: يجب أن تكون ثنايا؛ لأن في بعض الألفاظ، منها أربعون خلفة، ما بين ثنية عامها إلى بازل، ولأن سائر الأنواع مقدرة السن، فكذلك الخلفات. فصل: ودية الخطأ وما أجري مجراه أخماس، عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة؛ لما روى ابن مسعود: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في دية الخطأ عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض» رواه أبو داود. وعمد الصبي، والمجنون جار مجرى الخطأ، وحكمه حكمه؛ لأنه لا يوجب قصاصًا بحال، وكذلك فعل النائم، مثل أن ينقلب على شخص فيقتله، والقتل بالسبب مثل حفر البئر، ووضع الحجر، وسائر ما ذكرناه حكمه حكم الخطأ. فصل: وتجب الإبل صحاحًا، غير مراض، ولا عجاف، ولا معيبة؛ لأنه بدل متلف من غير جنسه، فلم يقبل فيه معيب، كقيمة المال. ومتى أحضرها على الصفة المشروطة، لزم قبولها، سواء كانت من جنس ماله، أو لم تكن؛ لأنها بدل متلف، فلم يعتبر كونها من جنس ماله، كسائر قيم المتلفات. فصل: وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يعتبر قيمة الإبل، بل متى وجدت الصفة المشروطة وجب أخذها، قلت قيمتها أو كثرت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق الإبل، فتقييدها بالقيمة يخالف ظاهر الخبر، ولأنه خالف بين أسنان دية العمد والخطأ، تخفيفًا لدية الخطأ عن دية العمد، واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما، وإزالة للتخفيف المشروع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 وعن أحمد: أنه يعتبر أن تكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهمًا؛ لأن عمر قومها باثني عشر ألف درهم، ولأنها إبدال محل واحد، فيجب أن تستوي قيمتها، كالمثل والقيمة في المتلفات. فصل: وظاهر كلام الخرقي: أن الإبل هي الأصل في الدية، قال أبو الخطاب: هذا إحدى الروايتين عن أحمد؛ لما روينا من الأخبار. والرواية الأخرى: أن الأصول ستة أنواع: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والورق، والحلل؛ لما روي في كتاب عمرو بن حزم: «وإن في النفس المؤمنة مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار» رواه النسائي. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن عمر قام خطيبًا فقال: إن الإبل قد غلت، قال: فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة رواه أبو داود. وهذا كان بمحضر من الصحابة فكان إجماعًا. وقال القاضي: لا يختلف المذهب في أن هذه الأنواع أصول في الدية، إلا الحلل، فإن فيها روايتين، فأي شيء منها أحضره من عليه الدية، لزم الولي قبوله؛ لأنها أبدال فائت، فكانت الخيرة إلى المعطي، كالأعيان في الجنس الواحد، وإذا قلنا: الأصل الإبل خاصة، وجب عليه تسليمها، وأيهما أراد العدول إلى غيرها، فللآخر منعه؛ لأن الحق متعين فيها، كالمثل في المثليات، فإن أعوزت، أو لم توجد إلا بأكثر من ثمن مثلها، فله الانتقال إلى أحد هذه الأنواع؛ لأنها أبدال عنها، فيصار إليها عند إعوازها، كالقيمة في بدل المثليات. فصل: وقدرها من هذه الأنواع على ما جاء في حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهي ألف مثقال من الذهب الخالص، أو اثنا عشر ألف درهم من دراهم الإسلام التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة مقدرة بما تجب في الزكاة، ففي البقر، النصف مسنات، والنصف أتبعة، وفي الغنم يجب النصف ثنايا، والنصف أجذعة، إذا كانت من الضأن. ويجب في الحلل المتعارف من حلل اليمن، كل حلة بردان، ويجب أن يكون كل نوع منها تبلغ قيمته اثني عشر ألف درهم على الرواية التي تعتبر فيها قيمة الإبل، فيكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهمًا، وقيمة كل شاة ستة دراهم؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 لما ذكرنا، ولما روى ابن عباس: «أن رجلًا من بني عدي قتل، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ديته اثني عشر ألفًا» رواه أبو داود. فصل: وذهب أصحابنا إلى أن الدية تغلظ بالقتل في الحرم والإحرام والشهر الحرام، وقال أبو بكر: وتغلظ أيضًا بالرحم المحرم، وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنها لا تغلظ به، ومعنى التغليظ: أن يزاد لكل واحد من هذه الحرمات ثلث الدية، فإن اجتمعت الحرمات الثلاث، وجب ديتان، وعلى قول أبي بكر: إذا اجتمعت الأربع، وجبت ديتان وثلث؛ لما روي، عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن امرأة وطئت في الطواف، فقضى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها بستة آلاف، وألفين تغليظًا للحرم. وعن ابن عمر أنه قال: من قتل في الحرم، أو ذا رحم، أو في شهر الحرام، فعليه دية وثلث. وعن ابن عباس: أن رجلًا قتل رجلًا في الشهر الحرام، وفي البلد الحرام. فقال: ديته اثنا عشر ألفًا، وللشهر الحرام أربعة آلاف، وللبلد الحرام أربعة آلاف، ولم يظهر خلاف هذا، فكان إجماعًا، ولا تغلظ لغير ما ذكرنا؛ لعدم الأثر فيه، وامتناع قياسه على ما ورد الأثر فيه، وظاهر كلام الخرقي أنها لا تزاد على مائة من الإبل؛ لقوله الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وهذا عام في كل قتيل، وفسر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدية بمائة من الإبل، وإخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تقدير الواجب بالقتل بمائة من الإبل أو غيرها، مطلقة في الأمكنة والأزمنة والقرابة. وقد قتلت خزاعة قتيلًا من هذيل بمكة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأنتم يا خزاعة، قد قتلتم هذا القتيل من هذيل؟ وأنا والله عاقله، فمن قتل له قتيل بعد ذلك، فأهله بين خيرتين، إما أن يقتلوا، وإما أن يأخذوا الدية» ولم يزد. وقتل قتادة ابنه فلم يأخذ منه عمر أكثر من مائة، ولأنه بدل متلف، فلم يختلف بهذه المعاني، كسائر المتلفات. فصل: ودية الحرة المسلمة نصف دية الرجل؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في كتاب عمرو بن حزم أنه قال: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» ، ولأنه إجماع الصحابة؛ روي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، وابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا مخالف لهم، وتساوي جراحها جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زادت، صارت على النصف، لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عقل المرأة مثل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها» رواه النسائي. «وعن ربيعة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر. قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون. قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون. قلت: ففي أربع أصابع؟ قال: عشرون. قلت: لما عظمت مصيبتها، قل عقلها؟ قال: هكذا السنة يا ابن أخي» رواه سعيد بإسناده، وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل ودية الكاتبي: نصف دية المسلم؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «دية المعاهد نصف دية المسلم» رواه أبو داود. وروي عنه: أن ديته ثلث الدية، لما روي أن عمر: جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، إلا أنه رجع عن هذه الرواية. وقال: كنت أذهب إلى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، فأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم. فإن قتله المسلم عمدًا، أضعفت الدية على قاتله، لإزالة القود؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم بذلك، ولو قتله الكافر لم تضعف ديته؛ لأن القود واجب، ونساؤهم على النصف من دياتهم، كما أن نساء المسلمين على النصف منهم، ودية المجوسي: ثمانمائة درهم؛ لما روي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: ديته ثمانمائة درهم، والمستأمن: كالذمي، وإن كان وثنيًا فديته: دية المجوسي؛ لأنه كافر، لا يحل نكاح نسائه، فأما من لم تبلغه الدعوة، إن لم يكن له عهد، فلا ضمان فيه؛ لأنه كافر لا عهد له، أشبه نساء أهل الحرب، وقال أبو الخطاب: يضمن بما يضمن به أهل دينه؛ لأنه محقون الدم من أهل القتال، أشبه المستأمن. فصل: وإذا قطع طرف ذمي فأسلم، ثم مات، ففيه وجهان: أحدهما: تجب دية مسلم. اختاره ابن حامد؛ لأن الاعتبار بحال استقرار الجناية، بدليل ما لو قطع يديه ورجليه فمات، وجبت دية واحدة، اعتبارًا بحال الاستقرار. والثاني: يجب دية ذمي، وهو ظاهر قول أبي بكر والقاضي؛ لأن الجناية يراعى فيها حال وجودها، بدليل عدم وجوب القصاص فيها، وهو في حالة الجناية ذمي، فأما إن رمى إلى ذمي، فلم يقع به السهم حتى أسلم، فعليه دية مسلم؛ لأن الإصابة لمسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 فصل ودية الخنثى المشكل: نصف دية ذكر، ونصف دية أنثى. وذلك ثلاثة أرباع دية الذكر؛ لأنه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالًا على السواء، فيجب التوسط بينهما كالميراث، والحكم في جراحه، كالحكم في ديته، فإن كانت دون الثلث استوى الذكر والأنثى، وفيما زاد ثلاثة أرباع دية حر ذكر. فصل: ودية العبد والأمة: قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك؛ لأنه مال مضمون بالإتلاف لحق الآدمي بغير جنسه، فأشبه الفرس. وإن جنى عليه جناية غير مقدرة في الحر، ففيه ما نقصه بعد التئام الجرح، كسائر الأموال، وإن كانت مقدرة في الحر، فهي مقدرة في العبد من قيمته، فما وجبت فيه الدية: كالأنف، واللسان، والذكر، والأنثيين، ضمن من العبد بقيمته، وما يجب فيه ديتان، كإذهاب سمعه وبصره، ففيه مثلا قيمته، وما ضمن بجزء من الدية، كاليد والرجل والإصبع، ضمن من العبد بمثله من قيمته؛ لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه ساوى الحر في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة، فساواه في اعتبار ما دون النفس ببدل النفس، كالرجل والمرأة، وعن أحمد رواية أخرى: أن الجناية على العبد بما نقص من قيمته، سواء كانت مقدرة في الحر، أو لم تكن مقدرة؛ لأن ضمانه ضمان الأموال، فيجب فيه ما نقص كالبهائم، والحكم في المكاتب وأم الولد، كالحكم في القن؛ لأنهم رقيق. فأما من بعضه حر، ففيه بالحساب، من دية حر وقيمة عبد، فإن كان نصفه حرًا، ففيه نصف دية حر لورثته، ونصف قيمته لسيده، وهكذا في جراحه؛ لأن الضمان يتجزأ، فوجب أن يقسم على قدر ما فيه منهما كالكسب. فصل: إذا فقأ عيني عبد قيمته ألفان فاندمل، ثم أعتق ومات، وجبت قيمته بكاملها لسيده؛ لأنه استقر حكم الجرح وهو مملوك، وكذلك إن اندمل بعد العتق؛ لأن الضمان يجب بالجناية، وهو حينئذ مملوك، وإن سرى الجرح إلى نفسه، فروى حنبل عن أحمد، أن على الجاني قيمته السيد. وهذا اختيار أبي بكر والقاضي؛ لأن الضمان يجب بالجناية، وهو حينئذ مملوك، فأشبه ما لو اندمل الجرح، وقال ابن حامد: يجب فيه دية حر؛ لأن اعتبار مقدار الواجب بحال الاستقرار، بدليل ما لو فقأ عينه، وقطع أنفه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 فمات من سراية الجرح، لم يجب إلا قيمة واحدة، ويصرف ذلك إلى السيد؛ لأن الجناية في ملكه، فإن فقأ إحدى عينيه، فسرى إلى نفسه بعد العتق، فعلى الوجه الأول تجب القيمة بكمالها للسيد، اعتبارًا بحال وجودها، وعلى قول ابن حامد: يجب دية حر، لسيده منها أقل من الأمرين، من نصف القيمة، أو كمال الدية؛ لأنه إن كان نصف القيمة أقل، فهو الذي وجب له، والزيادة حصلت حال الحرية، وإن كانت الدية أقل، فنقصها بسبب من جهته وهو العتق. فصل: وإن قطع يد عبد فأعتق، ثم قطع آخر يده الأخرى ومات، فلا قصاص على الأول، لعدم التكافؤ في حال الجناية، وعليه نصف القيمة لسيده على قول أبي بكر. وعلى قول ابن حامد: عليه نصف ديته، لسيده منها الأقل من نصف قيمته يوم القطع، أو نصف الدية؛ لأن نصف القيمة إن كان أقل، فهو أرش الجناية الموجودة في ملكه، وإن كان أكثر، فالحرية نقصت ما زاد عليه. وأما الثاني: فعليه القصاص في الطرف. إن وقف قطعه، وفي النفس إن سرى؛ لأنه شارك في القتل العمد العدوان، فأشبه شريك الأب، ويتخرج أن لا قصاص عليه، بناء على الرواية الأخرى في شريك الأب، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها، أن الجناية ثم من واحد، فكانت الدية جميعها عليه، وهاهنا من اثنين، فقسمت الدية عليهما. فإن عاد الأول، فذبحه بعد اندمال الجرحين، فعليه القصاص للورثة، ونصف القيمة للسيد، وعلى الثاني: القصاص في الطرف، أو نصف الدية، وإن كان قبل الاندمال، فعلى الأول القصاص في النفس دون الطرف، فإن اقتصوا، سقط حق السيد. وإن عفوا على مال، فلهم الدية لا غير، وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة، أو أرش المقطوع، وعلى الثاني: القصاص في الطرف، أو نصف الدية؛ لأن الذبح، قطع سرايتها، فصارت كالمندملة. فإن كان قاطع اليد الأخرى، هو قاطع الأولى، ولم يقتل، فلا قصاص في اليد الأولى لما ذكرنا. ويجب في الثانية إن وقف القطع. وإن سرى القطعان، فلا قصاص في النفس؛ لأن أحد الجرحين موجب، والآخر غير موجب، ولكن له القصاص من اليد الثانية، فإن عفا عنه على مال، وجب عليه مثل ما يجب على القاطعين في المسألة الأولى، للسيد منه نصف القيمة على قول أبي بكر، وأقل الأمرين من نصف القيمة، أو نصف الدية على قول ابن حامد، وإن اقتص منه في اليد الثانية، فعليه في اليد الأولى نصف القيمة، أو نصف الدية على اختلاف الوجهين، وإن قطع يد عبد فأعتق، ثم قطع آخر يده الأخرى، ثم قطع آخر رجله، فمات من الجراحات، فلا قصاص على الأول؛ لعدم التكافؤ حال الجناية، وعلى الآخرين القصاص في النفس في ظاهر المذهب، بناء على شريك الأب، فإن عفا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 مال، فالدية عليهم أثلاثًا، وفيما يستحقه السيد وجهان: أحدهما: أقل الأمرين من نصف قيمته، أو ثلث ديته؛ لأنه بالقطع استحق النصف، فإذا صارت نفسًا، صار الواجب ثلث الدية، فله أقلهما، وعلى الآخر له أقل الأمرين من ثلث الدية، أو ثلث القيمة، اعتبارًا للجناية بما آلت إليه. فصل: وإذا جنى على عبد في رأسه، أو وجهه من دون الموضحة، فزاد أرشها على الموضحة، ففيه وجهان: أحدهما: يرد إلى أرش الموضحة، كالجناية على الحر. واحتمل أن يجب ما نقص من قيمته بالغًا ما بلغ، لأن ذلك الأصل في ضمان العبيد، خولف فيما قدر الشرع أرشه، ففيما عداه يرد إلى الأصل. فصل: ودية الجنين الحر المسلم: غرة عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل، وهو: نصف عشر الدية؛ لما «روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قضى فيه بغرة: عبد أو أمة، وهو: نصف عشر الدية. قال: لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة» متفق عليه. وروي عن عمر، وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا في الغرة: قيمتها خمس من الإبل، ولأنه أقل ما قد في الشرع في الجنايات، وهو دية السن والموضحة، ولا يقبل في الغرة معيبة، وإن قل العيب، ولا خصي وإن كثرت قيمته؛ لأنه عيب، ولا قيمة الغرة مع وجودها، كما لا يجبر على قبول ما ليس بأصل في الدية فيها، فإن أعوزت، وجبت قيمتها من أحد الأصول في الدية، وسواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى؛ لأن الخبر مطلق، ولأن المرأة تساوي الذكر فيما دون الثلث. فصل: وإنما يجب ضمانه إذا علم تلفه بالجناية، ولو ضرب بطنًا منتفخًا، أو فيه حركة فزالت، ولم يسقط لم يجب شيء؛ لأنه يحتمل أن ذلك ريح ذهبت، وإن قتل حاملًا، فلم تسقط، لم يضمن جنينها؛ لعدم التيقن لحملها، وإن ضرب بطن امرأة، فألقت يدًا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 أو رجلًا، أو غيرها من أجزاء الآدمي، وجبت الغرة؛ لأننا تيقنا أنه جنين. والظاهر تلفه بالجناية، فأشبه ما لو ألقته، وإن ألقت رأسين، أو أربعة أيد، لم يجب أكثر من غرة؛ لأن ذلك يحتمل أن يكون من واحد، فلا يجب الزائد بالشك. وإن ألقت جنينين، فعليه غرتان؛ لأن في كل جنين غرة، فأشبه ما لو كانا من امرأتين. فصل: وإن ألقت جنينًا حيًا، ثم مات من الضربة. وكان سقوطه لوقت يعيش مثله، ففيه دية كاملة، لما ذكرنا من حديث عمر في التي أجهضت جنينها فزعًا منه، ولأننا تيقنا حياته، وعلمنا موته بالجناية، فأشبه غير الجنين، وإن سقط لوقت لا يعيش مثله، ففيه الغرة؛ لأنه لم يعلم منه حياة يتصور بقاؤه بها، فالواجب فيه غرة، كالذي ألقته ميتًا. فصل: وإنما يجب ضمانه إذا علم أنه سقط بالضربة ومات بها، بأن تلقيه عقيب الضرب، أو تبقى متألمة إلى أن تلقيه، ويموت عقيب وضعه، أو يبقى متألمًا إلى أن يموت، فإن بقي مدة سالمًا لا ألم به ثم مات، لم يضمنه الضارب؛ لأن الغالب أنه لم يمت من الضربة، وإن ألقته حيًا فيه حياة مستقرة، فقتله غير الضارب فضمانه عليه؛ لأنه القاتل. وإن كانت حركته حركة المذبوح، فالقاتل هو الأول، وعليه كمال ديته. فصل : وإن كان الجنين كافرًا، فألقته ميتًا، ففيه غرة، قيمتها عشر دية أمه، فإن كان أحد أبويه كتابيًا، والآخر مجوسيًا، ففيه عشر دية كتابية؛ لأن الضمان إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب، وفي الآخر ما يسقط غلب الإيجاب، بدليل ما لو قتل المحرم صيدًا متولدًا من مأكول وغيره. وإن ضرب بطن كتابية حاملًا من كتابي فأسلمت، ثم ألقته، ففيه غرة قيمتها: خمس من الإبل على قول ابن حامد؛ لأن الضمان معتبر بحالة الاستقرار. وعلى قياس قول أبي بكر: قيمتها عشر دية كتابية، اعتبارًا بحال الجناية، وما وجب في الجنين الحر ورثه ورثته؛ لأنه بدل حر، فورث عنه كدية غيره. فصل: وإن ألقت مضغة لا صورة فيها، لم يجب ضمانها؛ لأنه لا يعلم أنها جنين، وإن شهد ثقات من القوابل: أن فيها صورة خفية، ففيها غرة؛ لأنه جنين، وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي، لو بقي تصور، ففيه وجهان: أحدهما: فيه الغرة؛ لأنه بدء خلق آدمي، أشبه المصور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 والثاني: لا شيء فيه؛ لأنه غير متصور، أشبه العلقة. فصل: إذا شربت الحامل دواء، فأسقطت جنينًا، فعليها غرة لا ترث منها شيئًا؛ لأن القاتل لا يرث، وتعتق رقبة. فصل: وإن ضرب بطن مملوكة، فألقت جنينًا ميتًا، ففيه عشر قيمة أمه؛ لأنه جنين آدمية، فوجب فيه عشر دية أمة، كجنين الحرة، ولأنه جزء منها متصل بها، فقدر بدله من ديتها، كسائر أعضائها، وتعتبر قيمتها يوم الجناية كموضحتها، وإن ضرب بطنها وهي أمة، فأعتقت ثم ألقت، فعلى قول ابن حامد: فيه غرة اعتبارًا بحالة الاستقرار، وعلى قول أبي بكر: فيه عشر قيمة أمه؛ لأن الجناية على عبد، وفي جنين المعتق نصفها: نصف غرة، ونصف عشر قيمة أمه؛ لأن نصفه حر ونصفه عبد، ويستوي الذكر والأنثى؛ لأنه جنين مات بالجناية في بطن أمه، فلم يختلف بالذكورية والأنوثية، كجنين الحرة. فصل: إذا غر بحرية أمة فوطئها، فحملت منه، ثم ضربها ضارب، فألقت جنينًا، ففيه غرة؛ لأنه حر، وريثها ورثته كذلك، وعلى الواطئ عشر قيمة أمه لسيدها؛ لأنه لولا اعتقاده الحرية، لوجب لسيدها عشر قيمتها على الضارب، فقد حال بين سيدها وبين ذلك، فألزمناه إياه، سواء كان بقدر الغرة، أو أقل أو أكثر. ولو ضرب السيد بطن أمته، ثم أعتقها، فأسقطت جنينًا، ففي قياس قول أبي بكر: لا ضمان على الضارب؛ لأنه جنى على مملوكه، وعلى قياس قول ابن حامد عليه غرة؛ لأنه حر حين استقرار الجناية. [ باب ديات الجروح ] وهي نوعان: شجاج وغيرها. فالشجاج: جروح الرأس والوجه خاصة، وهي عشر: أولها: الحارصة: وهي التي تشق الجلد قليلًا، ثم البازلة: وهي الدامية التي يخرج منها دم يسير، ثم الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، ثم المتلاحمة: وهي التي تنزل في اللحم، ثم السمحاق: وهي التي تشق اللحم كله حتى ينتهي إلى قشرة رقيقة بين العظم واللحم، تسمى السمحاق، فسميت الشجة بها، فهذه الخمس لا توقيت فيها، وعنه: في الدامية بعير، والباضعة بعيران. وفي المتلاحمة ثلاثة، وفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 السمحاق أربعة؛ لأن هذا يروى عن زيد بن ثابت ورواه سعيد، عن علي، وزيد في السمحاق. والأول: ظاهر المذهب؛ لأنها جروح لم يرد الشرع فيها بتوقيت، فكان الواجب فيها الحكومة، كجروح البدن، قال مكحول: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الموضحة، بخمس من الإبل، ولم يقض فيما دونها» ، ثم الموضحة: وهي التي تنتهي إلى العظم، فتبدي وضحه أي بياضه، ثم الهاشمة التي تهشم العظم بعد إيضاحه، ثم المنقلة، وهي التي تنقل العظم من مكان إلى غيره، ثم المأمومة وتسمى الأمة، وهي التي تصل إلى أم الدماغ، وهي جلدة رقيقة تحيط به، ثم الدامغة، وهي التي تنتهي إلى الدماغ. فهذه الخمس فيها مقدر، ففي الموضحة خمس من الإبل، لما ذكرنا، ولما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «في المواضح خمسٌ خمس» رواه أبو داود. وسواء في ذلك الكبيرة والصغيرة، وموضحة الرأس والوجه، وعنه: في موضحة الوجه عشر من الإبل؛ لأن شينها أكثر، ولا تسترها العمامة، والأول: المذهب للخبر، ولأننا سوينا الصغرى والكبرى مع اختلاف شينهما، كذا هاهنا. وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز، ففيهما عشر، فإن أزال الحاجز بينهما بفعله، أو ذهب بالسراية، ففيهما أرش موضحة؛ لأنهما صارا موضحة واحدة بفعله أو سرايته، وسراية الفعل كالفعل، وإن أزال الحاجز بعد اندمالهما، فهي ثلاث مواضح؛ لأن استقر أرش الأوليين باندمالهما، وإن أزال الحاجز أجنبي، فعليه أرش موضحة، وعلى الأول أرش موضحتين. سواء أزاله قبل اندمالهما أو بعده؛ لأن فعل أحدهما لا ينبني على الآخر، فصار كل واحد كالمنفرد بجنايته، وإن أزاله المجني عليه، فعلى الأول أرش موضحتين كذلك، وإن أوضحه موضحتين، وحرق ما بينهما في الظاهر دون الباطن، فهما موضحتان، لأن ما بينهما ليس بموضحة، وإن حرق ما بينهما في الباطن دون الظاهر، فكذلك في أحد الوجهين، وفي الثاني: هما موضحة واحدة، لا تصالهما في الباطن، وإن أوضحه في رأسه، ونزل إلى وجهه، ففيه وجهان: أحدهما: فيها أرش موضحتين؛ لأنها في عضوين. والثاني: هي موضحة واحدة؛ لأن الجميع إيضاح لا حاجز فيه، أشبه ما كان في عضو واحد، وإن أوضحه في هامته، فنزل إلى قفاه، ففيه أرش موضحة، وحكومة لجرح القفا؛ لأنه ليس بمحل للموضحة، فانفرد الجرح فيه بالضمان. ولو شق جميع رأسه سمحاقًا إلا موضعًا منه أوضحه، لم يلزمه إلا دية موضحة؛ لأنه لو أوضح الجميع لم يجب إلا دية موضحة، فهاهنا أولى، وإن أوضحه في جميع رأسه ورأس الشاج قدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 ثلاثة أرباع رأس المشجوج، فاقتص منه، فله ربع أرش الموضحة؛ لأن الباقي بعد القصاص ربعها، فوجب ربع أرشها، وقال أبو بكر: لا يجب مع القصاص شيء؛ لئلا يجمع بين قصاص ودية في جرح واحد، وفي الهاشمة عشر من الإبل؛ لما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: في الهاشمة عشر من الإبل، وإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز، ففيهما دية هاشمتين، وسائر فروعها على ما ذكرنا في الموضحة، وإن ضربه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح، ففيه وجهان: أحدهما: فيه حكومة؛ لأنه كسر عظم من غير إيضاح، أشبه كسر عظم الساق. والثاني: فيه خمس من الإبل؛ لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عشر، ولو أوضحه ولم يهشمه، وجب خمس؛ فدل على أن الخمس الأخرى وجبت في الهشم، فيجب ذلك فيه، وإن انفرد على الإيضاح، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية؛ لما روي عن عمرو بن حزم: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: «في الموضحة خمس من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية» رواه النسائي. فأما الدامغة، ففيها ما في المأمومة؛ لأن الزيادة لم يرد الشرع بإيجاب شيء فيها. وقيل: يجب للزيادة حكومة مع أرش المأمومة، لتعديه بخرق جلدة الدماغ، وإن أوضحه رجل ثم هشمه آخر، ثم جعلها آخر منقلة، ثم جعلها الرابع مأمومة، فعلى الأول أرش موضحة، وعلى الثاني خمس تمام أرش الهاشمة، وعلى الثالث خمس تمام أرش المنقلة، وعلى الرابع ثماني عشر وثلث تمام أرش المأمومة. فصل: النوع الثاني: غير الشجاج، وهي جروح سائر البدن، وذلك قسمان: أحدهما: الجائفة، وهي الجراحة الواصلة إلى الجوف من بطن، أو ظهر، أو ورك، أو صدر، أو ثغرة نحر، فيجب فيها ثلث الدية؛ لما روى عمرو بن حزم: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: «في الجائفة ثلث الدية» رواه النسائي. والكبيرة والصغيرة سواء، لما ذكرنا في الموضحة، وإن أجافه جائفتين بينهما حاجز، أو طعنه في جوفه، فخرج من جانب آخر، أو من ظهره، فهما جائفتان؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن عمر قضى في الجائفة إذا نفذت في الجوف، فهي جائفتان، ولأنهما جراحتان نافذتان إلى الجوف، فوجب فيهما أرش الجائفتين كالواصلتين من خارج، وإن أجافه رجل، ووسع آخر الجائفة، فعلى كل واحد منهما أرش جائفة؛ لأن فعل الثاني لو انفرد كان جائفة، وإن وسعها في الظاهر دون الباطن، أو في الباطن دون الظاهر، فعليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 حكومة، لأن جنايته لم تبلغ الجائفة، وإن أجافه، ونزل بالسكين إلى الفخذ، فعليه دية جائفة، وحكومة لجرح الفخذ؛ لأنه في غير محل الجائفة؛ فأشبه ما لو أوضحه، ومد السكين إلى القفا، وإن خزق شدقه، فليس بجائفة؛ لأن حكم الفم حكم الظاهر، فإن طعنه في وجنته، فكسر العظم، ووصل إلى فيه، فليس بجائفة كذلك، وعليه دية هاشمة، لكسر العظم، وفيما زاد حكومة. وإن خاط الجائفة، ففتقها آخر قبل التحامها عزر، وعليه ضمان ما أتلف من الخيوط، وأجرة الخياط. ولا يلزمه دية الجائفة؛ لأنه لم يجفه، وإن كانت قد التحمت، فعليه دية جائفة؛ لأنها بالالتحام عادت إلى ما كانت، وإن التحم بعضها دون بعض، ففتق ما التحم، فعليه دية جائفة كذلك. وقال القاضي: ليس عليه إلا حكومة، فإن أدخل خشبة في دبر إنسان، ففتح جلده في الباطن، ففيه وجهان بناء على من وسع الموضحة في الباطن وحده، فإن وطئ مكرهة، أو امرأة بشبهة، أو زوجته الصغيرة ففتقها، وهو أن يجعل مسلك البول والمني واحدًا، فعليه ثلث الدية؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الإفضاء بثلث الدية، ولأنها جناية تجرح جلدة تفضي إلى جوف، أشبه الجائفة، وإن وطئ زوجته التي يوطأ مثلها، ففتقها لم يلزمه شيء؛ لأنه من أثر فعل مباح، أشبه أرش البكارة، وإن زنى بامرأة مطاوعة، فلا شيء عليه؛ لأنه فعل مأذون فيه، فلم يلزمه أرش لذلك، كما لو أذنت في قطع عضوها. فصل والقسم الثاني: غير الجائفة مثل إن أوضح عظمًا، أو هشمه أو نقله، فلا يجب سوى الحكومة؛ لأنه لا تقدير فيها، ولا يمكن قياسها على المقدر، لعدم المشاركة في الشين والخوف عليها منها، وإن لطم إنسانًا في وجهه أو غيره فلم يؤثر، فلا أرش عليه، وإن سود وجهه أو خضره، وجبت عليه دية كاملة؛ لأنه أذهب الجمال على الكمال، فلزمته دية كما لو قطع أنفه. وإن سود غيره من الأعضاء أو خضره، ففيه حكومة، وكذلك إن حمر وجهه أو صفره، أو سود بعضه، ففيه حكومة؛ لأنه لم يذهب بالجمال على الكمال. وإن صعره وهو أن يصير وجهه في جانب، ففيه الدية؛ لما روى مكحول، عن زيد بن ثابت أنه قال: في الصعر الدية، ولأنه أذهب الجمال والمنفعة، فوجبت عليه الدية، كإذهاب البصر، وإن لم يبلغ الصعر، لكن يشق عليه الالتفات، أو ابتلاع الماء، فعليه حكومة كذلك؛ لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها، فأشبه ما لو قلل بصره. فصل ومعنى الحكومة أن يقوم المجني عليه، كأنه عبد لا جناية به، ثم يقوم وهي به قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 برأت، فما نقص من القيمة، فله بقسطه من الدية، كأن قيمته وهو عبد لا جناية به مائة، وقيمته بعد الجناية تسعة وتسعون، فيجب فيه عُشر عشر ديته؛ لأن الجناية نقصته عشر عُشر قيمته؛ لأنه لما عدم النص في أرشه، وجب المصير فيه إلى الاجتهاد بما ذكرنا، كالصيد الحرمي، إذا لم يوجد نص في مثله، رجع فيه إلى ذوي عدل، ليعرف مثله، ولا يقبل التقويم إلا من عدلين من أهل الخبرة بقيم العبيد، كما في تقويم سائر المتلفات، ويجب بقدر ما نقص من الدية؛ لأنه مضمون بها، كما يجب أرش المعيب من الثمن، لكونه مضمونًا به، وإذا نقصته الجناية عشر قيمته، وجب عشر ديته، إلا أن تكون الجناية في رأس، أو وجه فتزيد الجراح بالحكومة على أرش موضحة، أو على عضو، فتزيد على ديته، فإن يرد إلى أرش الموضحة ودية العضو، وينقص عنه بقدر ما يؤدي إليها اجتهاد الحاكم؛ لأنه لا يجوز أن يجب فيما دون الموضحة ما يجب فيها؛ لأن من جرح الموضحة، فقد أتى على ما دونها، وزاد عليه، وكذلك لا يجوز أن يجب في جراح الإصبع فوق ديتها. فصل: وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا نفع، مثل قطع إصبع زائدة، أو قلع سن زائدة، أو لحية امرأة، فاندمل الموضع من غير نقص، أو زاده جمالًا وقيمة، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب شيء؛ لأنه لم يحصل بفعله نقص، فلم يجب شيء، كما لو لكمه فلم يؤثر. والثاني: يجب ضمانه؛ لأنه جزء من مضمون، فوجب ضمانه كغيره، فعلى هذا يقومه في أقرب أحواله إلى الاندمال؛ لأنه لما سقط اعتباره بعد اندماله، قوم في أقرب أحواله إليه كولد المغرور يقوم في أول حال يمكن فيها التقويم بعد العلوق، وهي عند الوضع، فإن لم ينقص في تلك الحال، قوم حين جريان الدم، وإن قلع سنًا زائدة، قوم وليس خلفها سن أصلية، وإن قلع لحية امرأة، قومت كرجل لا لحية له، ثم يقوم وله لحية، ويجب ما بينهما. فصل: وإن جنى عليه جناية لها أرش، ثم ذبحه قبل اندمال الجرح، دخل أرش الجرح في دية النفس؛ لأنه مات بفعله قبل استقرار الجناية، أشبه ما لو مات من سراية الجرح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 وإن قتله غيره وجب أرش الجرح؛ لأنه لا ينبني فعل غيره على فعله، أشبه ما لو اندمل الجرح. [ باب دية الأعضاء والمنافع ] كل ما في الإنسان منه شيء واحد: كاللسان، والأنف، والذكر، ففيه الدية كاملة، وما فيه منه شيئان كالعينين وغيرهما ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها، وما فيه منه أربعة، كأجفان العينين، ففيهن الدية، وفي إحداهن ربعها، وما فيه منه عشر، كأصابع اليدين والرجلين، ففيها الدية، وفي الواحدة عشرها، وفي إتلاف منفعة الحس: كالسمع، أو البصر، أو الشم، أو العقل ونحوه الدية؛ لأن ذلك يجري مجرى تلف الآدمي، فجرى مجراه في ديته. فصل: يجب في العينين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر بن حزم: «وفي العينين الدية» ولأنه إجماع، وفي إحداهما نصف الدية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي العين خمسون من الإبل» رواه مالك في الموطأ. وسواء في ذلك الصحيحة والمريضة، وعين الصغير والكبير كذلك، وفي عين الأعور دية كاملة؛ لأنه يروى عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قضوا بذلك، ولم نعرف لهم مخالفًا في عصرهم؛ فكان إجماعًا، ولأنه يحصل بها ما يحصل بالعينين، فكانت مثلهما في الدية، وإن قلع الأعور عيني صحيح، ففيها الدية، لما تقدم، وإن قلع عينه التي لا تماثل عين القالع، ففيها نصف الدية كذلك. وإن قلع المماثلة لعينه خطأ فكذلك، وإن قلعها عمدًا، فلا قصاص، وعليه دية كاملة؛ لأنه يروى عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه منع القصاص مع وجود سببه، فأضعفت الدية، كقاتل الذمي عمدًا. فصل: وفي البصر الدية؛ لأنه النفع المقصود بالعين، وفي ذهابه من إحداهما نصفها، فإن ذهب بالجناية على رأسه أو عينيه، أو بمداواة الجناية، وجبت الدية؛ لأنه بسببه، فإن ذهب ثم عاد، لم تجب الدية. فإن كان قد أخذها ردها؛ لأن عوده يدل على أنه لم يذهب، إذ لو ذهب لما عاد. وإن ذهب، فقال عدلان من أهل الخبرة: إنه يرجى عوده إلى مدة، انتظر إليها، فإن مات قبلها، وجبت الدية؛ لأنه لم يعد، وإن بلغ المدة ولم يعد وجبت؛ لأننا تبينا ذهابه، وإن قالا: يرجى عوده، ولم يقدرا مدة، لم ينتظر؛ لأنه ذاهب في الحال، وانتظاره لا إلى مدة، إسقاط لموجب الجناية بالكلية، وكذلك الحكم في السمع والشم والسن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 فصل وإن نقص الضوء، وجبت الحكومة، وإن نقص ضوء إحداهما، عصبت العليلة، وأطلقت الصحيحة، ونصب له شخص، كما فعل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - برجل ادعى نقص ضوء عينه، فأمر بها فعصبت، وأعطى رجلًا بيضة، فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره، ثم أمر فخط عند ذلك، ثم أمر بعينه الأخرى فعصبت، وفتحت العليلة، وأعطى رجلًا بيضة، فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره، ثم خط عنه ذلك، ثم حول إلى مكان آخر، ففعل مثل ذلك، فوجده سواء، فأعطاه بقدر نقص بصره من مال الآخر، وإنما يمتحن بذلك مرتين، ليعلم صدقه بتساوي المسافتين، وكذبه باختلافهما، والجناية على الصبي والمجنون، كالجناية على غيرهما، إلا أن وليهما خصم عنهما، فإن توجهت اليمين عليهما، لم يحلفا، ولم يحلف وليهما، حتى إذا بلغ الصبي، وعقل المجنون، حلفا حينئذ، وإن جنى عليه، فأحول عينه أو شخصت ففيه حكومة؛ لأنه نقص لم يذهب بالمنفعة كلها، فأشبه ما لو قل بصره. فصل ويجب في جفون العينين الدية؛ لأن فيها جمالًا كاملًا، ونفعًا كثيرًا؛ لأنها تقي العينين ما يؤذيهما وسواء في هذا البصير والأعمى؛ لأن العمى عيب في غير الجفون، وفي الواحد منهما ربع الدية؛ لأنه ربع ما فيه الدية، وإن قلع العينين بجفونهما، لزمته ديتان؛ لأنهما جنسان يجب في كل واحد منهما دية، فيجب فيهما ديتان، إذا أتلفا، كاليدين والرجلين، ويجب في أهداب العينين الدية؛ لأن فيها جمالًا ظاهرًا، ونفعا كاملًا؛ لأنها وقاية للعين، فأشبهت الجفون، وفي الواحد منها ربع الدية، فإن قلع الجفون بأهدابها، لم يجب أكثر من دية؛ لأن الشعر يزول تبعًا لزوال الأجفان، فلم يجب فيه شيء، كالأصابع إذا زالت بقطع الكف. فصل وفي الأذنين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي الأذنين الدية» ولأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كاملا، يجمعان الصوت، ويوصلانه إلى الدماغ، فأشبها العينين. وفي إحداهما نصفها؛ لأنه نصف ما فيه الدية، فأشبهت العين، ودية أذن الأصم، كدية أذن الصحيح؛ لأن الصمم نقص في غير الأذن، فلا يؤثر في ديتها، كما لم يؤثر العمى في دية الجفون، وإن جنى عليها، فاستحشفت فعليه حكومة؛ لأن نفعها لا يزول بذلك، إن قطعت بعد استحشافها وجبت ديتها؛ لأنها أذن فيها الجمال والمنفعة، فأشبهت الصحيحة، وفي قطع بعض الأذن بقسطه، يقدر بالأجزاء؛ لأن ما وجبت فيه الدية وجب في بعضه بقسطه، كالأصابع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 فصل وفى السمع الدية؛ لما روى أبو المهلب، عن أبي قلابة: أن رجلًا رمى رجلًا بحجر في رأسه، فذهب بصره، وسمعه، وعقله، ولسانه، فقضى فيه عمر بأربع ديات وهو حي، ولأن جنايته تختص بمنفعة، فأشبه البصر، وفي سمع إحدى الأذنين نصف الدية، كبصر إحدى العينين. وإن قطع الأذنين فذهب السمع، وجب ديتان؛ لأن السمع في غير الأذنين، فلم تدخل دية أحدهما في الآخر، كالبصر والجفون، وإن قل السمع أو ساء ففيه حكومة، وإن نقص سمع إحدى الأذنين، سدت العليلة، وأطلقت الصحيحة. وأمر الرجل يصيح من موضع يسمعه ويعمل كما عمل في نقص البصر من إحدى العينين، ويؤخذ من الدية بقدر نقصه. فصل وفي مارن الأنف، وهو ما لان منه الدية؛ لأنه في كتاب عمرو بن حزم، ولما روى طاوس قال: كان في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الأنف إذا أوعب مارنه جدعًا الدية» رواه النسائي. ولأن فيه جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كاملًا، فإنه يجمع الشم، ويمنع وصول التراب ونحوه إلى الدماغ، والأخشم كالأشم؛ لأن الشم في غير الأنف، وفي قطع جزء من الأنف بقسطه، كما في الأذن. وفي كل واحد من المنخرين ثلث الدية، وفي الحاجز بينهما ثلثها؛ لأنه يشتمل على ثلاثة أشياء، فتوزعت الدية عليها، ويحتمل أن يجب في كل واحد من المنخرين نصف الدية؛ لأنه يذهب بذهاب أحدهما نصف الجمال والنفع، فإن قطع أحدها والحاجز، ففيهما ثلث الدية، على الأول، وعلى الاحتمال الثاني، يجب نصف الدية، وحكومة. وفي الحاجز وحده حكومة. وإن قطع المارن وشيئًا من القصبة، ففيه دية للمارن، وحكومة للقصبة، وقياس المذهب: أن الواجب دية واحدة، كقطع اليد من الذراع. فصل وفي الشم الدية، وفي ذهابه من أحد المنخرين نصفها، وفي نقصه حكومة، وإن نقص من أحد المنخرين، قدر بمثل ما يقدر به، نقص السمع من إحدى الأذنين، وإن قطع أنفه، فذهب شمه، وجبت ديتان، لما ذكرنا في السمع. فصل وفي ذهاب العقل الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي العقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 الدية» ، ولما ذكرنا من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن العقل أشرف الحواس، به يتميز عن البهيمة، ويعرف حقائق المعلومات، ويدخل في التكليف، فكان أحق بإيجاب الدية، وإن نقص عقله نقصًا يعرف قدره، مثل من يجن نصف الزمان، ويفيق نصفًا، وجب من الدية بقدره، وإن لم يعرف قدره، بأن صار مدهوشًا، أو يفزعه الشيء اليسير، ففيه حكومة؛ لأنه تعذر إيجاب مقدر، فيصير إلى الحكومة، فإن كانت الجناية المذهبة للعقل لها أرش كالموضحة، أو أذهبت سمعه وعقله وجبت ديتهما؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنها جناية أذهبت نفعًا في غير محل الجناية، مع بقاء النفس فلم يتداخلا، كما لو أوضحه فذهب بصره، وإن شهر سيفًا على صبي، أو بالغ مضعوف، أو صاح عليه صيحة شديدة، فذهب عقله، فعليه ديته؛ لأن ذلك سبب لزوال عقله، وكذلك إن أفزعه بشيء، مثل أن دلاه في بئر أو من شاهق، أو قدم إليه حية، أو أسدًا لما ذكرنا. فصل وفي الشفتين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي الشفتين الدية» ، ولأن فيهما نفعًا كبيرًا، وجمالًا ظاهرًا، فإنهما يقيان الفم ما يؤذيه، ويردان الريق، وينفخ بهما، ويمسك بهما الماء، ويتم بهما الكلام، ويستران الأسنان، وفي إحداهما نصف الدية، وعنه: في العليا ثلثها، وفي السفلى ثلثاها؛ لأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت، ولأن النفع بالسفلى أعظم؛ لأنها تدور وتتحرك، وتحفظ الريق والطعام، والأول المذهب؛ لأنه قول أبي بكر الصديق وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن كل شيئين وجبت الدية فيهما، وجب في إحداهما نصفها كاليدين، ولا عبرة بزيادة النفع، بدليل اليمنى مع اليسرى والأصابع، وإن ضربهما فأشلهما، أو تقلصتا بحيث لا ينطبقان على الأسنان، أو التصقتا بحيث لا ينفصلان عنها، ففيهما ديتهما؛ لأنه عطل نفعهما، فأشبه ما أشل يده، وإن تقلصتا بعض التقلص، ففيهما حكومة. فصل وفي اللسان الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي اللسان الدية» ولأن فيه جمالًا ظاهرا، ونفعًا كثيرًا؛ لأنه يقال: جمال الرجل في لسانه، والمرء بأصغريه: قلبه ولسانه، ولأنه يبلغ به الأغراض، ويقضي به الحاجات، ويتم به العبادات، ويذوق به الطعام والشراب، ويستعين به في مضغ الطعام، وفي الكلام الدية؛ لأنه من أعظم المنافع، فإن جنى على لسانه فخرس، وجبت عليه الدية؛ لأنه أذهب المنفعة به، فأشبه ما لو جنى على عينه فعميت، وإن ذهب بعض الكلام، وجب بقدر ما ذهب؛ لأن ما ضمن جميعه بالدية، ضمن بعضه بقدره منها، كالأصابع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 ويقسم على الحروف الثمانية والعشرين، ويحتمل أن يقسم على حروف اللسان، وهي ثمانية عشر حرفًا، يسقط منها حروف الحلق الستة؛ وهي: العين والغين، والحاء والخاء، والهاء والهمزة، وحروف الشفة وهي أربعة: الباء، والفاء، والميم، والواو، ولأن اللسان لا عمل له فيها، والأول أولى؛ لأن هذه الحروف ينطق بها اللسان أيضًا، بدليل أن الأخرس لا ينطق بشيء منها، وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة، وجب أرش الحرف وحده؛ لأن الضمان وجب لما تلف، وإن صار ألثغ وجب دية الحرف الذاهب؛ لأنه عجز عن النطق بحرف، وإن حصل في كلامه ثقل، أو تمتمة، أو عجلة، لم تكن، ففيه حكومة لما حصل من النقص؛ لأنه لم يمكن إيجاب مقدر. وإن قطع جزءًا من لسانه فذهب جزء من كلامه وجب دية الأكثر، فإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام، أو نصف اللسان فذهب ربع الكلام وجب نصف الدية؛ لأن ما يتلف من كل واحد منهما مضمون، فوجبت دية أكثرهما، وإن قطع ربع اللسان، فذهب نصف الكلام، ثم قطع آخر بقيته، فعلى الأول نصف الدية، وعلى الثاني نصفها، وحكومة لربع اللسان؛ لأنه شل، فكانت فيه حكومة. وإن قطع نصف اللسان، فذهب ربع الكلام، وقطع آخر باقيه، فعلى الثاني ثلاثة أرباع الدية؛ لأنه ذهب بثلاثة أرباع الكلام، ولو جنى عليه، فذهب ثلاث أرباع كلامه من غير قطع، وجب ثلاثة أرباع الدية، فمع قطع نصفه أولى، وإن جنى على لسانه فاقتص مثل جنايته، فذهب من الجاني مثل ما ذهب من المجني عليه، فقد استوفى حقه، وإن ذهب من الجاني أكثر، فكذلك؛ لأن الزائد ذهب من سراية القود، وإن ذهب من كلام المجني عليه أكثر، أخذ من الجاني بقدر ما نقص عنه الجاني من الدية؛ ليحصل تمام حقه، وإن كان لسان رجل ذا طرفين، فقطع أحدهما ولم يذهب من الكلام شيء، وكانا متساويين في الخلقة، فهما كلسان مشقوق، فيهما الدية، وفي أحدهما نصفها، وإن كان أحدهما تام الخلقة، والآخر ناقصًا، فالتام هو الأصلي فيه الدية كاملة، والناقص زائد فيه حكومة. فصل وإن قطع لسان طفل يتحرك بالبكاء، وبما يعبر به الأطفال، كقوله: بابا ونحوه، ففيه الدية؛ لأنه لسان ناطق، وإن كان لا يتحرك بشيء، وقد بلغ حدًا يتحرك به، ففيه ما في لسان الأخرس؛ لأن الظاهر أنه لو كان ناطقًا لتحرك بما يدل عليه، فإن قطع قبل مضي زمن يتحرك فيه اللسان، ففيه الدية؛ لأن الظاهر السلامة، فضمن كما تضمن أطرافه، وإن لم يظهر فيها بطش. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 فصل وإن جنى على لسانه فذهب ذوقه، فلا يحس بشيء من المذاق، وهي خمس: الحلاوة، والمرارة، والحموضة، والعذوبة، والملوحة، وجبت الدية؛ لأنه أتلف حاسة لمنفعة مقصودة، فلزمته الدية كالبصر، وإن نقص الذوق نقصًا يتقدر بأن لا يدرك أحدها وحدها، ففيها الخمس، وفى الاثنين الخمسان، وفي الثلاثة ثلاثة أخماس؛ لأنه تقدر المتلف، فيتقدر الأرش كالأصابع، وإن لم يتقدر بأن يحس المذاق كلها، لكن لا يدركها على كمالها، وجبت الحكومة لتعذر التقدير، وإن أذهب ذوق الأخرس، فعليه الدية كذلك، وإن جنى على لسان ناطق، فأذهب كلامه وذوقه مع بقاء اللسان، فعليه ديتان؛ لأنهما منفعتان تضمن كل واحدة منهما منفردة، فيضمنان إذا اجتمعتا كالسمع والبصر، فإن قطع لسانه، لم يلزمه إلا دية واحدة؛ لأن نفع العضو لا يفرد بضمان مع ذهابه، كالبطش في اليد. فصل وفي كل سن خمس من الإبل، سواء قلعت دفعة واحدة أو في دفعات؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لعمرو بن حزم: «وفي السن خمس من الإبل» رواه النسائي. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «وفي الأسنان خمس» رواه أبو داود. والأضراس والأنياب والرباعيات سواء؛ لما روى ابن عباس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «الأصابع سواء، والأسنان سواء، والثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء» رواه أبو داود. ولأنه جنس ذو عدد، فلم تختلف ديته باختلاف منافعه كالأصابع. وإن قلع السن بسنخها، أو كسر ما ظهر منها، وخرج من لحم اللثة، ففيها دية السن؛ لأن النفع والجمال فيما ظهر، فكملت الدية فيه كالإصبع، وإن قلع السنخ وحده ففيه حكومة، ككف لا أصابع له. وإن كسر بعض السن طولًا أو عرضًا، وجب من دية السن بقدر ما كسر بقدر الأجزاء من الظاهر كالأصابع، وإن ظهر السنخ المعيب بعلة، اعتبر بما كان ظاهرًا قبل العلة؛ لأن الدية تجب بما كان ظاهرًا، فاعتبر المكسور منه، وإن قلع سنًا فيها داء أو أكلة، ولم يذهب شيء من أجزائها، كملت ديتها، كاليد المريضة. وإن ذهب منهما جزء، سقط من ديتها بقدر الذاهب، وإن كانت إحدى ثنيتيه أقصر من الأخرى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 فقلع القصيرة نقص من ديتها بقدر نقصها؛ لأنهما لا يختلفان عادة فإذا اختلفا، كانت القصيرة ناقصة فنقصت ديتها، كالإصبع الناقصة، وإن قلع سنًا مضطربة لكبر، أو مرض، وبعض نفعها باق، كملت ديتها، كاليد المريضة، ويد الكبير، وإن ذهب نفعها، فهي كاليد الشلاء، وإن جنى على سنه فاحمرت أو اصفرت، ففيها حكومة؛ لأن نفعها باق، وإنما ذهب جمالها، وإن اخضرت أو اسودت، ففيها روايتان: إحداهما: فيها ديتها؛ لأنه يروى عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه سود ما له دية، فوجبت ديته كالوجه. والأخرى: فيها حكومة، اختارها القاضي؛ لأنه لم يذهب منها إلا الجمال، فأشبه ما لو حمرها، وإن نقصتها الجناية، ففيها حكومة لنقصها، وإن جنى على سنه، فأذهب نفعها كله، من المضغ وحفظ الريق والطعام، ففيها ديتها، كما لو أشل يده. فصل وإن قلع سن صبي لم يثغر، لم يلزمه شيء في الحال؛ لأن العادة عودها، فأشبه ما لو نتف شعره، فإن لم تنبت وأيس من نباتها، وجبت ديتها. قال أحمد: ينتظر عامًا؛ لأنه الغالب في نباتها. وقال القاضي: إذا أسقطت أخواتها ثم نبتن ولم تنبت، وجبت ديتها، فإن مات قبل اليأس منها، ففيه وجهان: أحدهما: تجب ديتها؛ لأنه قلع سنًا لم تعد. والثاني: لا يجب؛ لأن الظاهر عودها، وإنما فات بموته، فأشبه نتف شعره، وإن عادت لا نقص فيها، لم يجب شيء. وإن نبتت خارجة عن صف الأسنان لا ينتفع بها، ففيها ديتها. وإن كان ينتفع بها، ففيها حكومة للنقص، وإن نبتت قصيرة، ففيها من ديتها بقدر النقص؛ لأنه نقص حصل بجنايته، وإن نبتت أطول من نظيرتها أو حمر أو صفر، ففيها حكومة، للشين الحاصل بجنايته، ويحتمل أن لا يجب شيء لطولها؛ لأن الظاهر أن الزيادة لا تكون من الجناية، وإن نبتت سوداء، ففيها روايتان، ذكرهما القاضي: إحداهما: فيها ديتها. والثانية: فيها حكومة، كما لو جنى عليها فسودها، وهكذا الحكم فيمن قلع سن كبير، إلا أنه إذا مات قبل عودها، وجبت ديتها؛ لأن الظاهر أنها لا تعود، وتجب ديتها حين قلعها، إلا أن يقول عدلان من أهل الطب: إنه يرجى عودها إلى مدة، فينتظر إليها، وإن قلع سنًا فردها صاحبها، فنبتت في موضعها، لم تجب ديتها نص عليه، وهو اختيار أبي بكر، وإن قلعها آخر بعد ذلك، فعليه ديتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 وقال القاضي: على الأول الدية، ويؤمر صاحبها بقلعها؛ لأنها صارت ميتة، ولا شيء على الثاني في قلعها؛ لأنه محسن به، وإن جعل مكانها سن حيوان مأكول أو ذهبًا، فثبت، فقلعه قالع، احتمل أن لا يلزمه شيء؛ لأنه ليس من بدنه، واحتمل أن يلزمه حكومة؛ لأنه أزال جماله ومنفعته، فأشبه عضوه. فصل وفي اللحيين الدية، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى؛ لأن فيهما جمالًا كاملًا، ونفعًا كثيرًا، وفي أحدهما نصفها، وإن قلعهما مع الأسنان، وجبت ديتهما، ودية الأسنان؛ لأنهما جنسان مختلفان، يجب في كل واحد منهما دية مقدرة، فلم تدخل دية أحدهما في الآخر، كالشفتين مع الأسنان، بخلاف الكف مع الأصابع. فصل وفى اليدين الدية كاملة؛ لما روى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في اليدين الدية، وفي إحداهما نصفها» ، لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي اليد خمسون من الإبل» ولأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كثيرًا، أشبها العينين، وسواء قطعهما من الكوع، أو المرفق، أو المنكب، أو مما بين ذلك، نص عليه؛ لأن اليد اسم للجميع، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . ولما نزلت آية التيمم، مسح الصحابة إلى المناكب، وفي كل إصبع عشر الدية؛ لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل إصبع» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفى لفظ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه وهذه سواء يعني الإبهام والخنصر» أخرجه البخاري، ولأنه جنس ذو عدد، تجب فيه الدية، فلم يختلف باختلاف منافعه كاليدين، وفي كل أنملة ثلث دية الإصبع إلا الإبهام، فإنها مفصلان، ففي كل أنملة منها خمس من الإبل؛ لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع، وجب أن تقسم دية الإصبع على عدد الأنامل، وإن جنى على اليد أو الإصبع فأشلها، فعليه ديتها؛ لأنه ذهب بنفعها، فلزمه ديتها، كما لو جنى على عين فأعماها، أو لسان فأخرسه. فصل وفي الرجلين الدية، وفي إحداهما نصفها، وفي كل إصبع عشر الدية، وفي كل أنملة ثلث عقلها إلا الإبهام، لما ذكرنا في اليدين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 فصل وفي قدم الأعرج، ويد الأعسم السالمتين الدية؛ لأن العيب في غيرهما؛ لأن العرج لقصور أحد الساقين، والعسم لاعوجاج الرسغ، أو قصر العضد أو الذراع، أو اعوجاج فيه، فلم يمنع كمال الدية في القدم والكف، كأذن الأصم، وإن كسر ساعده، أو ساقه، أو خلع كفه، أو قدمه، فجبرت وعادت مستقيمة، لم يجب شيء، وإن حصل نقص، وجبت الحكومة لجبر النقص، وإن عادت معوجة، كانت الحكومة أكثر، فإن قال الجاني: أنا أعيد خلعها، وأجبرها مستقيمة، منع منه؛ لأنه استئناف جناية، فإن كابره وخلعها فعادت مستقيمة، لم تسقط الحكومة؛ لأنها استقرت باندمالها، وما حصل من الاستقامة، حصل بجناية أخرى، وتجب حكومة أخرى للخلع الثاني؛ لأنه جناية ثانية. فصل فإن كان لرجل كفان في ذراع لا يبطش بها، فهي كاليد الشلاء؛ لأن نفعها غير موجود، فإن كان يبطش بأحدهما دون الآخر، فالباطش هو الأصلي، فيه القود، أو الدية، والآخر خلقة زائدة، وإن كان يبطش بهما إلا أن أحدهما أكثر بطشًا، فهو الأصلي والآخر زائد؛ لأن اليد خلقت للبطش، فاستدل به على الأصلي منهما، كما يرجح في الخنثى إلى بوله، وإن استويا في البطش، وأحدهما مستو على الذراع، والآخر منحرف، فالمستوي هو الأصلي، وإن استويا في ذلك، وأحدهما ناقص، والآخر تام، فالتام هو الأصلي فيه القصاص أو الدية، ولا يرجح بالإصبع الزائدة؛ لأن الزيادة نقص في المعنى، وإن استويا في جميع الدلائل، فهما يد واحدة، فيهما الدية، وفي إحداهما نصفها. وفي إصبع إحداهما نصف دية إصبع، ولا قصاص في أحدهما، لعدم المماثلة، وإن قطعهما قاطع، وجب القود أو الدية؛ لأننا علمنا أنه قد قطع يدًا أصلية، وحكومة للزيادة، ويحتمل أن لا يجب حكومة؛ لأن هذه الزيادة نقص في المعنى، فأشبه السلعة والحكم في القدمين على ساق، كالحكم في الكفين على ذراع واحد، وإن كانت إحداهما أطول من الأخرى، فقطع الطولى، وأمكنه المشي على القصيرة، فهي الأصلية، وإلا فهي الزائدة. فصل وإن قطع يد أقطع أو رجله، ففيها نصف الدية، لما ذكرنا، وعنه: إن كانت الأولى ذهبت في سبيل الله، ففي الثانية ديتهما؛ لأنه عطل منافعه من العضوين، ولم يأخذ عوضًا عن الأولى، فأشبه ما لو قلع عين أعور، والأول أصح؛ لأن إحداهما لا يحصل بها من النفع والجمال ما يحصل بالعضوين، فلم تجب فيه ديتهما، كأحد الأذنين والمنخرين، وكما لو ذهبت في غير سبيل الله، وفارق عين الأعور؛ لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 يحصل بها من النفع، والنظر وتكميل الأحكام ما يحصل بالعينين. فصل وفي الثديين الدية، وفي أحدهما نصفها؛ لأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كثيرًا، وإن أشلهما، ففيهما الدية؛ لأنه أذهب نفعهما، فأشبه ما لو أشل اليدين، وإن جنى عليهما، فأذهب لبنهما، فقال أصحابنا: تجب حكومة لنقصهما، ويحتمل أن تجب ديتهما؛ لأن ذلك معظم نفعهما، فأشبه البطش، وإن جنى على ثدي صغيرة، ثم ولدت فلم ينزل لها لبن، وقال أهل الخبرة: إن الجناية قطعت اللبن، فعليه ضمانه، وإن قالوا: قد ينقطع من غير الجناية لم يضمن؛ لأنه يحتمل أن يكون انقطاعه لغير الجناية، فلا يجب الضمان بالشك، وفي حلمتي الثديين الدية؛ لأن نفعهما بالحلمتين؛ لأن بهما يمتص الصبي، فيبطل نفعهما بذهابهما، فأشبه أصابع اليدين، وفي الثندوتين الدية، وهما ثديا الرجل؛ لأن ما وجبت الدية فيه من المرأة، وجبت فيه من الرجل إذا اشتركا فيه كاليدين. فصل وفي الأليتين الدية؛ لأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كبيرًا، فأشبها اليدين، وفي إحداهما نصفها، وفي قطع بعضها بقدره من الدية، فإن جهل قدره، وجبت الحكومة، كنقص ضوء العين. فصل وفي الذكر الدية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتاب عمرو بن حزم: «وفي الذكر الدية» وفي حشفته الدية؛ لأن نفعه يكمل بها، كما يكمل نفع اليد بأصابعها، والثدي بحلمته، وسواء في هذا ذكر الشيخ والطفل، والخصي والعنين؛ لأنه سليم في نفسه وعنه: في ذكر العنين والخصي حكومة؛ لأن معظم نفع الذكر بالإنزال، والإحبال، وهو معدوم فيهما، فأشبها الأشل. وإن جنى على الذكر فأشله، لزمته ديته؛ لأنه أذهب نفعه، فأشبه ما لو أشل يده. وإن قطع بعض حشفته، وجب من الدية بقدر ما قطع منها، يقسط عليها وحدها، كما تقسط دية اليد على الأصابع. فصل وفي الأنثيين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «في الأنثيين الدية» وفي إحداهما نصفها؛ لأن ما وجبت الدية فيهما، وجبت في أحدهما نصفها، كاليدين، فإن قطع الذكر والأنثيين معًا، أو قطع الذكر، ثم قطع الأنثيين، فعليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه، وإن قطع الأنثيين، ثم قطع الذكر، فعليه دية الأنثيين، وحكومة لقطع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 الذكر، نص عليه؛ لأنه ذكر خصي، وعنه فيه دية، على ما ذكرنا في ذكر الخصي. فصل وفي أسكتي المرأة الدية، وهما اللحم المحيط بالفرج، كإحاطة الشفتين بالفم؛ لأن فيهما جمالًا ونفعًا في المباشرة، فأشبها الأنثيين، وفي إحداهما نصفها لما ذكرناه، وفي قطع بعض إحداهما بقدره من ديته، إن أمكن تقديره، وإلا فحكومة. فصل وإن جنى على مثانته، فلم يستمسك بوله، وجبت الدية؛ لأنها منفعة مقصودة، ليس في البدن من جنسها، فوجبت الدية بتفويتها كسائر المنافع، وإن جنى عليه، فلم يستمسك غائطه، فعليه الدية كذلك، وإن أذهب المنفعتين، لزمته ديتان، كما لو أذهب سمعه وبصره، وإن جنى على صلبه أو غيره، فعجز عن المشي، فعليه الدية كذلك، وإن عجز عن الوطء لزمته كذلك دية، وإن جنى على صلبه، فبطل مشيه ونكاحه، لزمته ديتان؛ لأن في كل واحد منهما دية منفردًا، فوجبت فيهما ديتان عند الاجتماع، كسمعه وبصره، وعنه: عليه دية واحدة؛ لأنهما منفعة عضو واحد، فأشبه ما لو قطع أنثييه، فذهب جماعه ونسله، وإن ضعف المشي أو الجماع أو نقص، فعليه حكومة. وإن كسر صلبه فانجبر وعاد إلى حاله، ففيه الحكومة للكسر، وإن احدودب فعليه حكومة للشين، وعنه: في الحدب الدية؛ لما روى الزهري، عن سعيد بن المسيب أنه قال: «مضت السنة أن في الصلب الدية» ، ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة، فأشبه ما ذكرناه. فصل وفي الصلع بعير، وفي الترقوة بعير، وفي الترقوتين بعيران؛ لما روى أسلم مولى عمر، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قضى في الترقوتين بجمل، وفي الضلع بجمل، ويجب في كل زند بعيران؛ لما روى عمرو بن شعيب: أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أحد الزندين إذا كسر، فكتب إليه عمر أن فيه بعيرين، ولأن في الزند عظمين، ففي كل عظم بعير، وإن كسر الزندين، ففيهما أربعة أبعرة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا توقيف في سائر العظام؛ لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف، ولا توقيف فيها. وقال القاضي في عظم الساق: بعيران، وفي عظم الفخذ مثله، قياسًا على الزند. فصل وفي اليد الشلاء، والسن السوداء، والعين القائمة ثلث ديتها؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية، وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها، وفي السن السوداء إذا قلعت بثلث ديتها» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 رواه النسائي. وقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمثل ذلك، وعنه رواية أخرى في ذلك كله حكومة؛ لأنه تعذر إيجاب دية كاملة بعد ذهاب نفعه، فوجبت الحكومة فيه، كاليد الزائدة، وهكذا الروايتان في كل عضو ذهب نفعه، وبقيت صورته، كالرجل الشلاء، والإصبع الشلاء، والشفة الشلاء، والذكر الأشل، وذكر الخصي، ولسان الأخرس، قياسًا على ما تقدم، وفي الكف الذي لا أصابع عليه روايتان، مثل ما ذكرنا؛ لأنه قد ذهب نفعه وبقي جماله، وعلى قياسه ساق لا قدم له، وذراع لا كف له، وذكر لا حشفة له. فأما اليد الزائدة والإصبع الزائدة، ففيها حكومة؛ لأنه لا مقدر فيها، ولا يمكن قياسها على ما ذكرنا؛ لأن هذه الأعضاء يبقى جمالها لبقاء صورتها، والزائد يشين ولا يزين، وذكر القاضي أنه في معنى الأشل، فيقاس عليه، فيكون فيه وجهان. فصل وفي الأذن الشلاء والأنف الأشل دية كاملة، كدية الصحيح؛ لأن نفعهما وجمالهما باق بعد شللها، فإن نفع الأذن جمع الصوت، ومنع دخول الماء والهوام في صماخه، ونفع الأنف جمع الرائحة، ومنع وصول شيء إلى دماغه، وهذا باق بعد الشلل بخلاف سائر الأعضاء. فصل ويجب في الحاجبين إذا لم ينبت الشعر الدية، وفي أحدهما نصفها؛ لأن فيهما جمالًا ونفعًا؛ لأنهما يردان العرق والماء عن العين ويفرقانه، فوجبت الدية فيهما كالجفون. وفي قرع الرأس إذا لم ينبت الشعر الدية، وفي اللحية إذا لم تنبت الدية؛ لأن فيها جمالًا كاملًا، فوجبت الدية فيها، كأنف الأخشم، وأذن الأصم، وفي ذهاب نقص ذلك بقسطه من ديته يقدر بالمساحة، فإن بقي منها ما لا جمال فيه، كاليسير من لحيته، ففيه وجهان: أحدهما: يؤخذ بالقسط كما لو بقي من أذنه يسيرًا. والثاني: تجب الدية بكمالها؛ لأنه أذهب المقصود منها، فأشبه ما لو أذهب وضوء العين، ومتى عاد شيء من هذه الشعور، سقطت الدية، كما ذكرنا في عود السن. فصل وذكر أبو الخطاب: أن في الظفر خمس دية الإصبع إذا قلعه، أو سوده، فإن عاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 فنبت على صفته، رد أرشه. وعنه: أن له خمسة دنانير، وإن نبت أسود فله عشرة، نص عليه. وهذا إنما يصار إليه بالتوقيف، وما لا توقيف فيه من سائر الجروح، تجب فيه الحكومة؛ لأن القياس يقتضيها في جميع الجروح، وخولف ذلك فيما ورد الشرع بتقديره، ففي ما عداه يجب البقاء على مقتضى القياس، والله أعلم. [ باب ما تحمله العاقلة وما لا تحمله ] إذا قتل الحر حرًا خطأ، أو شبه عمد، وجبت ديته على عاقلته؛ لما روى أبو هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدية المرأة على عاقلتها» متفق عليه. ولأن القتل بذلك يكثر، فإيجاب ديته على القاتل يجحف به، وقال أبو بكر: لا تحمل العاقلة عقل شبه العمد؛ لأنه موجب مثل قصده، فأشبه العمد المحض، فأما الجناية على ما دون النفس، فإن العاقلة تحمل منه ما بلغ الثلث فصاعدًا، ولا تحمل ما دونه؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الدية: أن لا تحمل منها العاقلة شيئًا حتى تبلغ الدية عقل المأمومة، ولأن الأصل وجوب الضمان على الجاني، وخولف الأصل في الثلث لإجحافه بالجاني لكثرته، فما عداه يبقى في الأصل، وتحمل العاقلة دية المرأة والذمي، وما بلغ من جراحهما ثلث دية الحر المسلم، ولا تحمل ما دونه لما ذكرنا، وتحمل دية الجنين إن مات مع أمه؛ لأن ديتهما وجبت بجناية واحدة، وهي زائدة على الثلث، ولا تحمله إذا مات منفردًا؛ لأن ديته دون الثلث. فصل ولا تحمل العاقلة عمدًا، ولا عبدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا؛ لما روي عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تحمل العاقلة عمدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا» وروي ذلك موقوفًا على ابن عباس، ولأن حمل العاقلة ثبت على خلاف الأصل، للتخفيف عن الجاني المعذور، والعامد غير معذور، ولا يليق به التخفيف، وضمان العبد مال، فلم تحمله العاقلة، كقيمة البهيمة، وما صالح عليه، أو اعترف به، ثبت بقوله فلا يلزم غيره، ولأنه يتهم في أن يواطئ غيره بصلح أو اعتراف ليوجب العقل على عاقلته، ثم يقاسمه. فصل وجناية الصبي والمجنون حكمهما حكم الخطأ، وتحملهما العاقلة، وإن عمدًا؛ لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 لم يتحقق منهما كمال المقصود، ولا توجب جنايتهما قصاصًا، فصارت كشبه العمد، ومن اقتص بحديدة مسمومة من الطرف، ففيه وجهان: أحدهما: لا تحمله العاقلة؛ لأنه قصد القطع بما يقتل غالبًا، فأشبه العمد المحض. والثاني: تحمله؛ لأنه ليس بعمد محض، ولا يوجب قصاصًا، فأشبه شبه العمد، ولو وكل وكيلًا يستوفي له القصاص، ثم عفا عن الجاني، فلم يعلم الوكيل حتى اقتص، فقال القاضي: لا تحمله العاقلة؛ لأنه عمد محض، وقال أبو الخطاب: تحمله العاقلة؛ لأنه لم يقصد الجناية. فصل ومن جنى على نفسه، أو طرفه خطأ، ففيه روايتان: إحداهما: هي هدر؛ لأن عامر بن الأكوع بارز مرحبًا يوم خيبر، فرجع سيفه على نفسه فقتلها، فلم يقض فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشيء، ولأنه جنى على نفسه فلم يضمن كالعمد؛ لأن حمل العاقلة إنما كان معونة له على الضمان للغير، ولا يتحقق هاهنا. والثانية: ديته على عاقلته لورثته، ودية طرفه على عاقلته لنفسه؛ لما روي: أن رجلًا ساق حمارًا بعصا كانت معه، فطارت منها شظية، فأصابت عينه، ففقأتها فجعل عمر ديته على عاقلته، وقال: هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء، ولأنها جناية خطأ، فأشبه جنايته على غيره، فإن كانت العاقلة هي الوارثة، لم يجب شيء؛ لأنه لا يجب شيء للإنسان على نفسه، وإن كان بعضهم وارثًا، سقط ما عليه وحده. فصل وما يجب بخطأ الإمام والحاكم في اجتهاده من الديات، ففيه روايتان: إحداهما: يجب على عاقلته؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لعلي كرم الله وجهه في جنين المرأة التي أجهضت لما بعث إليها: عزمت عليك، لا تبرح حتى تقسمها على قومك. والثانية: في بيت المال؛ لأن خطأه يكثر في أحكامه واجتهاده، فإيجاب ما يجب به على عاقلته يجحف بهم، فأما الكفارة ففي ماله على كل حال؛ لأنها لا تتحمل في موضع، ويحتمل أن تجب في بيت المال؛ لأنها تكثر فأشبهت الدية. فصل وكل ما لا تحمله العاقلة من دية العمد، وما دون الثلث وغيره، يجب حالًا؛ لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 بدل متلف لا تحمله العاقلة، فوجب حالًا كغرامة المتلفات. وما يجب بجناية الخطأ، وعمد الخطأ مما تحمله العاقلة، يجب مؤجلًا؛ لأنه يروى عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قضيا بالدية في ثلاث سنين، ولا يعرف لهما مخالف في عصرهما، فإن كان الواجب دية كاملة، كدية الحر المسلم، أو دية سمعه، أو بصره، أو يديه، أو رجليه، قسمت في ثلاث سنين، لما ذكرنا، ووجب في آخر كل حول ثلثها. وإن كان الواجب ثلث دية، كدية المأمومة، والجائفة، وجب ذلك عند آخر الحول الأول، وإن كانت نصف الدية، كدية اليد، أو العين أو ثلثي الدية، كدية مأمومتين، أو جائفتين، وجب في رأس الحول الأول الثلث، والباقي في الحول الثاني، وإن زاد على الثلثين، وجب الزائد في الحول الثالث، وإن وجب بجنايته ديتان، كدية سمعه، وبصره، وجب في ست سنين في كل سنة ثلثها؛ لأنها جناية على واحد، فلم يجب له في كل حول أكثر من ثلث دية، كما لو لم تزد على دية، وإن وجب بجنايته ديتان لاثنين بأن قتلهما، وجب لكل واحد منهما في كل حول ثلث؛ لأنهما يجبان لمستحقين، فلم ينقص واحد منهما من الثلث، كما لو انفرد، وإن كان الواجب دية نفس ناقصة، كدية المرأة والذمي، ففيه وجهان: أحدهما: تقسم في ثلاث سنين؛ لأنه بدل نفس، أشبه الدية الكاملة. والثاني: يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية، وباقيها في العام الثاني؛ لأنها تنقص عن الدية، أشبه دية اليد، ويعتبر ابتداء الحول في دية النفس من وقت الموت؛ لأنه حق مؤجل، فاعتبرت المدة من حين وجود سببه كالدين، وإن كان دية طرف اعتبرت المدة من حين الجناية؛ لأنه وقت الوجوب، فأشبه أرش المأمومة، وإن تلف شيء بالسراية، فابتداء مدته حين الاندمال؛ لأن ما تلف بالسراية، اعتبر بحالة الاستقرار كالنفس. فصل والعاقلة: العصبة من كانوا من النسب والولاء؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئًا إلا ما فضل عن ورثتها» رواه ابن ماجه. وهذا اختيار أبي بكر، وعن أحمد رواية أخرى: أن الآباء والأبناء لا يعقلون مع العاقلة؛ لما روى جابربن عبد الله قال: «فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عاقلتها، وبرأ زوجها وولدها، فقال عاقلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 المقتولة: ميراثها لنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ميراثها لزوجها وولدها» رواه أبو داود. فثبت هذا في الابن؛ لأنه ولد، وقسنا عليه الأب لتساويهما في العصبية، ولأن الدية جعلت على العاقلة، كيلا يكثر على القاتل فيجحف به، ومال والده وولده كماله، وجعل الخرقي الإخوة في هذا كالأبناء وغيره من أصحابنا يخص الروايتين بالأب والأبناء؛ لأنهم الذين لا تقبل شهادتهم له، وشهادته لهم، وبينهم قرابة جزئية، وبعضية، فإن كان الابن من بني العم، حمل من العقل؛ لأنه من بني عمه فيعقل، كما لو لم يكن ابنًا. فصل ولا عقل على من ليس بعصبة، كالإخوة من الأم، والمولى من أسفل؛ لأنهم من غير العصبات، فلا يعقلون كالنساء، ومن لم يكن له عاقلة، ففيه روايتان إن كان مسلمًا: إحداهما: عقله في بيت المال؛ لأن ماله يصرف إليه فيعقله، كعصبته. والثاني: لا يعقله؛ لأن فيه حقًا للنساء والصبيان والفقراء، ولا عقل عليهم فأما الذمي، فلا يعقل من بيت المال؛ لأنه للمسلمين، والذمي ليس منهم، فإن لم يكن له عاقلة، فقال القاضي: يؤخذ من ماله، فأما المسلم فإن تعذر إيجاب ديته على العاقل أو بعضها، ولم يؤخذ من بيت المال شيء، فقال أصحابنا: لا يلزم القاتل شيء؛ لأنه حق يجب على العاقلة ابتداء، فلم يجب على غيرهم كالدين، ويحتمل أن يجب عليه؛ لأنه هو الجاني، فإذا تعذر أداء موجب جنايته من غيره لزمه كالذمي، والمضمون عنه إذا تعذر الاستيفاء من الضامن، وكالمسائل التي تلي هذا. فصل ويتعاقل أهل الذمة، وعنه: لا يتعاقلون. وهل يتعاقلون مع اختلافهم دينهم؟ على وجهين بناء على الروايتين في توريثهم، ولا يعقل مسلم عن كافر، ولا كافر عن مسلم، ولا حربي عن ذمي، ولا ذمي عن حربي؛ لأنه لا يرث بعضهم بعضًا، فلا يعقل بعضهم بعضًا كغير العصبات. فإن رمى نصراني صيدًا، ثم أسلم، ثم أصاب السهم إنسانًا فقتله، وجبت الدية عليه؛ لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من النصارى؛ لأنه قتل وهو مسلم، ولا على عاقلته من المسلمين؛ لأنه رمى وهو نصراني، وإن قطع نصراني يد رجل، ثم أسلم فمات المقطوع، فديته على عاقلته النصارى؛ لأن الجناية وجدت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وهو نصراني، ولهذا يجب القصاص، ولا يسقط بالإسلام، وإن رمى مسلم سهمًا، ثم ارتد، فقتل إنسانًا، وجبت الدية في ذمته لما تقدم، وإن قطع يدًا، ثم ارتد، ثم مات المجروح، فعقله على عاقلته المسلمين لما ذكرنا. ويحتمل أن لا تحمل العاقلة أكثر من أرش الجراح في هذه المسألة، وفيما إذا قطع نصراني يد رجل، ثم أسلم، فما زاد على أرش الجراح في مال الجاني؛ لأنه حصل بعد مخالفته لدين عاقلته، فأشبه ما ذكرنا من المسائل، ولو جنى حر أمه مولاة، وأبوه عبد، عقله موالي أمه؛ لأن ولاءه لهم، فإن حصل سراية الجناية بعد عتق أبيه، فالدية في مال الجاني؛ لأنه تعذر إيجابه على مولى أمه؛ لأن السراية حصلت بعد زوال تعصيبهم، ولا يجب على موالي الأب؛ لأن الجناية صدرت وهو مولى غيرهم، ولو حفر العبد بئرًا، ثم أعتقه سيده، ثم وقع فيها إنسان، فضمانه على الحافر، لما ذكرناه. فصل وليس على فقير من العاقلة، لا امرأة، ولا صبي، ولا زائل العقل حمل شيء من الدية؛ لأن وجوبها للنصرة والمواساة، وليس هؤلاء من أهل النصرة، والفقير ليس من أهل المواساة، وحكى أبو الخطاب في الفقير المعتمل رواية أخرى أنه يعقل، والمذهب الأول، لما ذكرناه، ولذلك لا تجب عليه الزكاة، ويعقل الشيخ ما لم يهرم، والمريض الذي لم يزمن، وأما الشيخ الهرم والزمن، ففيهما وجهان: أحدهما: يعقلان؛ لأنهما من أهل المواساة، وتجب عليهما الزكاة، أشبها ما قبل ذلك. والثاني: لا يعقلان؛ لأنهما ليسا من أهل النصرة، أشبها المجنون، وتعتبر صفاتهم عند الحول، فمن مات، أو افتقر، أو جن قبل الحول، سقط ما عليه، فإن بلغ، أو عقل، أو استغنى عند الحول لزمه؛ لأنه معنى يعتبر له الحول، فاعتبر في آخره كالزكاة، ومن مات أو تغير حاله بعد الحول، لم يسقط ما عليه كالزكاة. فصل والحاضر والغائب سواء في العقل؛ لأنهم تساووا في إرثه، فيتساوون في عقله، ويقدم الأقرب فالأقرب من العصبات؛ لأنه حكم يتعلق بالعصبات، فقدم فيه الأقرب فالأقرب، كالولاية والتوريث، فيبدأ بإخوة القاتل وبنيهم، وأعمامه وبنيهم، وأعمام أبيه وبنيهم كذلك، حتى ينقرض المناسبون، فيجب على مولاه، ثم عصباته، ثم مولى مولاه، ثم عصباته، كالميراث بالولاء سواء، فإذا كان القاتل هاشميًا، عقله بنو هاشم، فإن فضل شيء، دخل معهم بنو عبد مناف، فإن فضل شيء، دخل بنو قصي، وهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 يقدم ولد الأبوين على ولد الأب؟ على وجهين بناء التقديم في الولاية، ومتى اتسع الأقربون لحمل العقل، لم يدخل معهم من بعدهم، وإن كثرت العاقلة في درجة، قسم الواجب بينهم بالسوية؛ لأنه حق يستحق بالتعصيب، فيستوون فيه، كالميراث. فصل ولا يجب على واحد من العاقلة ما يجحف به ويشق عليه، ولأنه حق لزمهم من غير جنايتهم على سبيل المواساة، فلا يجب ما يضر بهم كالزكاة؛ لأنه وجب للتخفيف عن الجاني، ولا يزال الضرر بالضرر، ويرجع إلى اجتهاد الحاكم في قدر الواجب، فيفرض على كل واحد منهم قدرًا يسهل ولا يؤذي؛ لأن التقدير لا يصار إليه إلا بتوقيف، ولا توقيف هاهنا، فوجب المصير إلى الاجتهاد، وعنه: أنه يفرض على الموسر نصف مثقال، وعلى المتوسط ربع مثقال، وهذا اختيار أبي بكر؛ لأن أقل مال وجب على الموسر على سبيل المواساة نصف مثقال في الزكاة، وأول مقدار يخرج به المال عن حد التافه ربع مثقال، فوجب على المتوسط، ولهذا قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه، وهل يتكرر هذا الواجب في الأحوال الثلاثة؟ فيه وجهان: أحدهما: يتكرر لأنه قد يتعلق بالحول على سبيل المواساة، فيتكرر بالحول كالزكاة. والثاني: لا يتكرر؛ لأنه يفضي إلى إيجاب أكثر من أقل الزكاة، فيكون مضرًا، ويعتبر الغنى والتوسط عند حلول الحول كالزكاة. فصل وإذا جنى العبد جناية توجب المال، تعلق أرشها برقبته؛ لأنه لا يجوز إيجابها على المولى؛ لعدم الجناية منه، وإلا إهدارها؛ لأنها جناية من آدمي، ولا تأخيرها إلى العتق؛ لإفضائه إلى إهدارها، فتعلقت برقبته، والمولى مخير بين فدائه وتسليمه على ما ذكرناه فيما تقدم، وإن قتل عبدان رجلًا عمدًا، فقتل الولي أحدهما، وعفا عن الآخر، تعلق برقبته نصف ديته؛ لأنه قتل واحدًا بنصف، وبقي له النصف. [ باب القسامة ] إذا وجد قتيل، فادعى وليه على إنسان قتله، لم تسمع الدعوى إلا محررة على معين؛ لأنها دعوى في حق، فاشترط لها تعيين المدعى عليه، كسائر الدعاوى، فإذا حرر الدعوى، ولم يكن بينهم لوث، فالقول قول المدعى عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 يعطى الناس بدعاويهم، لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه مسلم. ولأن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله، كدعوى المال، وهل يستحلف؟ فيه روايتان: إحداهما: يستحلف للخبر، ولأنه دعوى في حق آدمي، أشبهت دعوى المال. والأخرى: لا يستحلف، ويخلى سبيله؛ لأنها دعوى فيما لا يجوز بدله، فلم يستحلف فيها، كالحدود، وإذا قلنا: يستحلف، حلف يمينًا واحدة؛ لأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل، فلم تغلظ بالعدد، كاليمن في المال. وإن كان بينهما لوث، فادعى أنه قتله عمدًا، حلف المدعي خمسين يمينًا، واستحق القصاص؛ لما روى سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خديج: «أن محيصة بن مسعود، وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر، فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فاتهموا اليهود، فجاء عبد الرحمن، وابنا عمه حويصة ومحيصة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه، وهو أصغرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كبر الكبر فتكلما في أمر صاحبهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم فقالوا: يا رسول الله، قوم كفار ضلال. قال: فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قبله» متفق عليه. ولأن اللوث يقوي جنبة المدعي، ويغلب على الظن صدقه، فسمعت يمينه أولًا، كالزوج في اللعان، وإذا حلف استحق القصاص؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيدفع إليكم برمته» وفي لفظ: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» ولأنها حجة يثبت بها القتل العمد، فيجب بها القود كالبينة، وليس له القسامة على أكثر من واحد؛ لقوله: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته» ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد، فيقتصر عليه. فصل ويقسم الورثة دون غيرهم في إحدى الروايتين؛ لأنها يمين في دعوى، فلم تشرع في حق غير المتداعيين، كسائر الأيمان. والثانية: يقسم من العصبة الوارث وغيرهم خمسون رجلًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» فعلى هذا يحلف أولياؤه - الأقرب منهم فالأقرب، كقولنا في تحمل العقل - كل واحد يمينًا واحدة، وعلى الرواية الأولى يفرض على ورثة المقتول على قد ميراثهم، فإن كان له ابنان، حلف كل واحد منهما خمسة وعشرين يمينًا، وإن كان فيها كسر جبر وكملت يمينًا في حق كل واحد، فإذا كانوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 ثلاثة بنين، حلف كل واحد سبعة عشر يمينًا، وإن كان له أب وابن، حلف الأب تسعة أيمان، وحلف الابن اثنين وأربعين يمينًا؛ لأن اليمين لا تتبعض، فوجب أن تكمل. فصل وإن نكل المدعون، حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» ، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنهم يحلفون ويغرمون الدية؛ لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والأول المذهب للخبر. وفي لفظ منه قال: «فيحلفون خمسين يمينًا، ويبرءون من دمه» ، ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه، فبرئ بها كسائر الأيمان، فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، فداه الإمام من بيت المال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدى الأنصاري بمائة من الإبل، إذ لم يحلفوا ولم يرضوا بيمين اليهود، فإن تعذرت ديته، لم يكن لهم إلا يمين المدعى عليهم، كسائر الدعاوى، وإن نكل المدعى عليهم، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: يخلى سبيلهم؛ لأنها يمين في حق المدعى عليه، فلم يحبس عليها كسائر الأيمان، قال القاضي: ويديه الإمام من بيت المال، كالتي قبلها. والثانية: يحبسوا حتى يحلفوا أو يقروا؛ لأنها أيمان مكررة يبدأ فيها بيمين المدعي، فيحبس المدعى عليه في نكولها كاللعان. والثالثة: تجب الدية على المدعى عليه؛ لأنه حكم يثبت بالنكول، فثبت بالنكول هاهنا، كما لو كانت الدعوى قتل خطأ. فصل ومن مات ممن عليه الأيمان، قام ورثته مقامه، ويقسم حصته من الأيمان بينهم، ويجبر كسرها عليهم، كورثة القتيل، فإن مات بعد حلفه البعض، بطل ما حلفه، وابتدءوا الأيمان؛ لأن الخمسين جرت مجرى يمين واحدة، ولا يجوز أن يبني الوارث على بعض يمين الموروث، وإن جن ثم أفاق، بنى على ما حلفه؛ لأن الموالاة غير مشترطة في الأيمان. فصل وتشرع القسامة في كل قتل موجب القصاص، سواء كان المقتول مسلمًا أو كافرًا، أو حرًا أو عبدًا؛ لأنه قتل موجب للقصاص، أشبه قتل المسلم الحر، وظاهر كلام الخرقي: أنها لا تشرع في قتل غير موجب للقود كالخطأ، وشبه العمد، وقتل المسلم الكافر، والحر العبد، والوالد الولد؛ لأن الخبر يدل على وجوب القود بها، فلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 تشرع في غيره، ولأنها مشروطة باللوث، ولا تأثير له في الخطأ، فعلى هذا يكون حكمه حكم الدعوى مع عدم اللوث سواء. وقال غيره: تجري القسامة في كل قتل؛ لأنها حجة تثبت العمد الموجب للقصاص، فيثبت بها غيرها كالبينة، فعلى قولهم تسمع الدعوى على جماعة إذا كان القتل غير موجب للقصاص، وإذا ردت الأيمان عليهم، حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا، وقال بعض أصحابنا: تقسم الأيمان عليهم بالحصص؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا» لم يزد عليها. والأول: أقيس؛ لأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد كسائر الدعاوى، وإن كانت الدعوى على جماعة في حق بعضهم لوث، حلف المدعون على صاحب اللوث، وأخذوا حصته من الدية، وحلف المدعى عليه يمينًا واحدة وبرئ. ولا تشرع القسامة فيما دون النفس من الجروح والأطراف؛ لأنها تثبت في النفس لحرمتها، فاختصت بها كالكفارة. فصل ويشترط للقسامة اتفاق المستحقين على الدعوى، فإن ادعى بعضهم القتل، فكذبه البعض، لم يجب قسامة؛ لأن المكذب منكر لحق نفسه، فقبل كالإقرار. وإن قال بعضهم: قتله هذا، وقال بعضهم: قتله هو وآخر، فعلى قول الخرقي: لا قسامة، وعلى قول غيره: يقسمان على المتفق عليه، ويأخذان نصف الدية، ويحلف الآخر ويبرأ، وإن قال أحدهما: قتله زيد، وآخر لا أعرفه، وقال الآخر: قتله عمرو، وآخر لا أعرفه، فقال أبو بكر: ليس هاهنا تكذيب؛ لأنه يمكن أن يكون المجهول في حق أحدهما هو الذي عرفه أخوه، ويحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينًا، وله ربع الدية، فإن عاد كل واحد منهما، فقال: الذي جهلته، هو الذي عينه أخي، حلف خمسًا وعشرين يمينًا، واستحق عليه ربع الدية، وإن قال: الذي جهلته قد عرفته هو غير الذي عينه أخي، بطلت القسامة وعليه رد ما أخذ؛ لأن التكذيب يقدح في اللوث، وإن رجع الولي عن الدعوى بعد القسامة بطلت، ولزمه رد ما أخذ؛ لأنه يقر على نفسه، فقبل إقراره، وعليه رد ما أخذه. فصل وإن كان في ورثة القتيل صبي، أو غائب، وكانت الدعوى عمدًا لم تثبت القسامة حتى يبلغ الصبي، ويقدم الغائب؛ لأن حلف أحدهما غير مفيد، وإن كانت موجبة للمال كالخطأ ونحوه، فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق حصته من الدية، وفي قدر أيمانه وجهان: أحدهما: يحلف خمسين يمينًا، هذا قول أبي بكر: لأننا لا نحكم بوجوب الدية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 إلا بالأيمان الكاملة، ولأن الخمسين في القسامة، كاليمين الواحدة في غيرها. والآخر: يحلف خمسًا وعشرين يمينًا، هذا قول ابن حامد؛ لأنه لو كان أخوه كبيرًا حاضرًا، لم يحلف إلا خمسًا وعشرين، فكذلك إذا كان صغيرًا أو غائبًا، ولأنه لا يستحق أكثر من نصف الدية، فلا يلزمه أكثر من نصف الأيمان، فإذا قدم الغائب، وبلغ الصغير، حلف نصف الأيمان وجهًا واحدًا؛ لأنه يبني على يمين غيره، ويستحق قسطه من الدية، فإن كانوا ثلاثة، فعلى قول ابن حامد: يحلف كل واحد سبعة عشر يمينًا، وعلى قول أبي بكر: يحلف الأول خمسين. وإذا قدم الثاني حلف خمسًا وعشرين، فإذا قدم الثالث حلف سبعة عشر يمينًا. فصل قال أصحابنا: ولا مدخل للنساء في القسامة؛ لأنه لا مدخل لهن في العقل، فإذا كان في الورثة رجال ونساء، أقسم الرجال دون النساء، فإن كانت المرأة مدعى عليها، فينبغي أن تقسم؛ لأن اليمين لا تشرع في حق غير المدعى عليه، ولو كان جميع ورثة القتيل نساء، احتمل أن يقسم المدعى عليهم؛ لتعذر الأيمان من المدعين، واحتمل أن يقسم من عصبات القتيل خمسون رجلًا، ويثبت الحق للنساء إذا قلنا: إن القسامة تشرع في حق غير الوارث، فإن لم يوجد من عصبته خمسون، قسمت على من وجد منهم. فصل واللوث المشترط في القسامة: هو العداوة الظاهرة بين القتيل والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل المتحاربين، وما بين أهل البغي والعدل، وما بين الشرطة واللصوص؛ لأن اللوث إنما ثبت بحكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأنصاري المقتول بخيبر عقيب قول الأنصار: عدي على صاحبنا فقتل، وليس لنا بخيبر عدو إلا يهود، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم باليمين، فوجب أن يعلل بذلك، ويعدى إلى مثله، ولا يلحق به ما يخالفه. وعنه: أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي في أن المدعى عليه قتله؛ إما العداوة المذكورة، أو تفرق جماعة عن قتيل، أو وجود قتيل عقيب ازدحامهم، أو في مكان عنده في رجل معه سيف أو حديدة ملطخة بدم، أو يقتتل طائفتان، فيوجد في إحداهما قتيل، أو يشهد بالقتل من لا تقبل شهادته من: النساء، والصبيان، والعبيد، والفساق، أو عدل واحد؛ لأن العداوة إنما كانت لوثًا، لتأثيرها في غلبة الظن بصدق المدعي، فنقيس عليها ما شاركها في ذلك، فأما قول القتيل: دمي عند فلان، فليس بلوث؛ لأن قوله غير مقبول على خصمه، ولو شهد عدلان أن أحد هذين هو القاتل، لم يكن لوثًا؛ لأنهم لم يعينوا واحدًا، ومن شرط القسامة التعيين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 فصل ولا يشترط في اللوث أن يكون بالقتيل أثر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسأل الأنصار عن هذا، ولو اشترط، لاستفصل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وسأل عنه، ولأنه قد يقتل بما لا يظهر أثره، كغم الوجه، وعصر الخصيتين. وقال أبو بكر: يشترط ذلك، وقد أومأ إليه أحمد؛ لأن الغالب أن القتل لا يحصل إلا بما يؤثر، فإذا لم يكن به أثر، فالظاهر أنه مات بغير قتل. فصل وإذا ادعى رجل على رجل قتل وليه وبينهما لوث، فجاء آخر فقال: أنا قتلته، ولم يقتله هذا، لم تسقط القسامة بإقراره؛ لأنه قول أجنبي، ولا يثبت القتل على المقر؛ لأن الولي لم يدعه، وعن أحمد: أن الدعوى تبطل على الأول؛ لأنها عن ظن، وقد بان خلافه. وله الدية على الثاني؛ لأنه مقر على نفسه بها ولا قصاص عليه، ولأن دعوى الولي على الأول شبهة في تبرئة الثاني، فيمتنع القصاص، ويحتمل أن لا يملك مطالبته بالدية كذلك، وإن كان قد أخذ الدية من الأول، ردها عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم. [ باب اختلاف الجاني والمجني عليه ] إذا قتل رجلًا، وادعى أنه قتله وهو عبد، فأنكر وليه، فالقول قول الولي مع يمنيه؛ لأن الأصل الحرية، والظاهر في الدار الحرية، ولهذا يحكم بإسلام لقيطها وحريته، وإن ادعى أنه كان قد ارتد، فأنكر الولي؛ فالقول قوله كذلك. وإن قد ملفوفًا في كساء، وادعى أنه كان ميتًا، فالقول قول الولي؛ لأن الأصل حياته، وكونه مضمونًا، فأشبه ما ذكرنا، وإن جنى على عضو، وادعى أنه كان أشل بعد اتفاقهما على أنه كان سليمًا، فالقول قول المجني عليه، وإن لم يتفقا على ذلك. فإن كان من الأعضاء الباطنة، فالقول قول المجني عليه؛ لأن الأصل السلامة، وإن كان من الأعضاء الظاهرة، ففيه وجهان: أحدهما: القول قول الولي؛ لأن الأصل السلامة. والثاني: القول قول الجاني؛ لأن العضو يظهر ويعرف حاله، فلو كان سليمًا، لم تتعذر إقامة البينة عليه، وهذا اختيار القاضي. فصل وإذا زاد المقتص على حقه، وادعى أنه أخطأ، وقال الجاني: تعمد، فالقول قول المقتص مع يمينه؛ لأنه أعلم بقصده، إلا أن يكون مما لا يجوز الخطأ في مثله، فلا يقبل قوله فيه لعدم الاحتمال، وإن قال: هذه الزيادة حصلت باضطرابه، فأنكر الجاني، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الاضطراب، وفيه وجه آخر: أن القول قول المقتص؛ لأن الأصل براءة ذمته. فصل وإذا جرح ثلاثة رجلًا فمات، فادعى أحدهم أن جرحه برأ، وأنكره الآخران، فصدق الولي المدعي في موضع يريد القصاص، قبل تصديقه، وليس على المدعي إلا ضمان الجرح؛ لأنه لا ضرر على الآخرين في تصديقه؛ لأن القصاص يلزمهما في الحالين، وإن أراد أخذ الدية، لم يقبل تصديقه في حقهما؛ لأن عليهما ضررًا، فإنه إذا حصل القتل من ثلاثة، وجب على كل واحد ثلث الدية، وإذا برأ جرح أحدهم، كان القتل من اثنين، فلزم كل واحد نصفها، ويقبل تصديقه في حق نفسه، ويسقط عن المدعي ثلث الدية، ويلزمه أرش الجرح، ويجب على الآخرين ثلثا الدية. فصل وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز، فأزيل الحاجز، فقال الجاني: تأكل بالسراية، فلا يلزمني إلا دية موضحة، وقال المجني عليه: أنا أزلته، فالقول قول المجني عليه؛ لأن الأصل بقاء أرش موضحتين، وإن قال الجاني: ما أوضحتك إلا واحدة، وقال المجني عليه: بل أوضحتني اثنتين، فخرقت ما بينهما، فصارا واحدة، فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته من أرش أخرى، وإن قطع أصابع امرأة، فقال: قطعت من أصابعك أربعًا، فقالت: إنما قطعت ثلاثًا، والرابعة قطعها غيرك، فالقول قولها؛ لأن الأصل وجوب دية ثلاث. فصل وإن قطع أنف رجل وأذنيه فمات، فقال الجاني: مات من الجناية، فلا يلزمني إلا دية نفسه، وقال وليه: بل اندملت الجنايتان، فالقول قول وليه؛ لأن الأصل وجوب ديتين، فلا يسقط بالاحتمال، وإن قطع ذلك، ثم ضرب عنقه في مدة لا يحتمل البرء فيها، فليس عليه إلا دية واحدة، وإن كان بينهما مدة تحتمل البرء فادعاه الولي، فالقول قوله وعلى الجاني ثلاث ديات لما ذكرنا. وإن ضرب عنقه أجنبي آخر، فعلى الأول ديتان، وعلى الثاني: دية، وإن كان قبل الاندمال؛ لأن جناية الثاني قطعت سراية الأول، فإن قال القاطع: أنا قتلته، وقال الولي: بل قتله غيرك، فالقول قول الولي: لما ذكرنا. فصل وإن جنى على عين، فأذهب ضوءها، ثم مات المجني عليه، فقال الجاني: عاد بصره قبل موته، وأنكر الولي، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن قلع العين آخر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 وادعى أنه قلعها قبل عود بصرها، فأنكر الولي والجاني الأول، فالقول قول الثاني؛ لأن الأصل معه، فإن صدق الولي والمجني عليه الأول، قبل قوله في إبرائه؛ لأنه يسقط حقه، ولم يقبل على الثاني؛ لأنه يوجب عليه حقًا الأصل عدمه. فصل وإذا ادعى المجني عليه ذهاب سمعه بالجناية، فأنكر الجاني، امتحن في أوقات غفلاته بالصياح مرة بعد أخرى، فإن ظهر منه انزعاج، أو إجابة، أو أمارة للسماع، فالقول قول الجاني؛ لأن الظاهر معه ويحلف؛ لئلا يكون ما ظهر من أمارة السماع اتفاقًا، وإن لم يظهر منه أمارة السماع، فالقول قول المجني عليه؛ لأن الظاهر معه ويحلف، لئلا يكون ذلك لجودة تحفظه، وإن ادعى ذهاب شمه، امتحن في أوقات غفلاته بالرائحة الطيبة والمنتنة، فإن ظهر منه تعبيس من المنتنة، وارتياح للطيبة، فالقول قول الجاني مع يمينه، وإلا فالقول قول المجني عليه مع يمينه. وإن ادعى ذهاب سمع إحدى أذنيه، أو الشم من أحد منخريه، سد الصحيح، وامتحن بما ذكرنا. وإن ادعى نقص سمعه، أو شمه، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يدعي محتملًا لا يعرف إلا من جهته، ولا سبيل إلى إقامة البينة عليه، فيقبل قوله مع يمينه، كقول المرأة في حيضها، ومتى حكم له بالدية ثم انزعج عند صوت، أو غطى أنفه عند رائحة منتنة، فطولب بالدية فادعى أنه فعل ذلك اتفاقًا، فالقول قوله؛ لأنه يحتمل ما قاله، فلا ينقض الحكم بالاحتمال، وإن تكرر منه ذلك، بحيث تعلم صحة سمعه وشمه، رد ما أخذ؛ لأننا تبينا كذبه، ولو كسر صلبه، فادعى ذهاب جماعه، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه محتمل لا يعرف إلا من جهته. فصل وإن ضرب بطن امرأة، فألقت جنينًا، وقالت: هو من ضربك فأنكرها، وكان الإسقاط عقيب الضرب، أو بقيت متألمة إلى أن أسقطت، فالقول قولها؛ لأن الظاهر معها، وإن بقيت مدة غير متألمة، فالقول قوله؛ لأنه يحتمل ما قاله، احتمالًا ظاهرًا، والأصل براءة ذمته. وإن اختلفا في التألم، فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل عدم التألم، وهو مما يظهر، ويمكن إقامة البينة عليه، وإن أسقطت الجنين حيًا ثم مات، فقالت المرأة: مات من ضربك فأنكرها، وكان موته عقب الإسقاط، أو بقي متألمًا إلى أن مات، فالقول قولها؛ لأن الظاهر معها، وإن بقي مدة صحيحًا ثم مات، فالقول قول الجاني، وإن اختلفا في تألمه، فالقول قوله لما ذكرنا، وإن قالت المرأة: استهل ثم مات، فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمه، وإن اتفقا على استهلاله، وقالت: كان ذكرًا، وقال: بل أنثى، فالقول قوله؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزائد على دية أنثى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 وإن صدق الجاني المرأة في حياته، وكونه ذكرًا، وأنكرت العاقلة، وجبت الدية في مال الجاني؛ لأن العاقلة لا تحمل اعترافًا، وإن مات الجنين مع أمه، واعترف الجاني، أنه سقط حيًا، ثم مات، وأنكرت العاقلة، فعلى العاقلة غرة؛ لأنها لم تعترف بأكثر منها وما زاد على الجاني؛ لأن قوله مقبول على نفسه دون العاقلة. فصل وإن اصطدمت سفينتان، فتلفت إحداهما، فادعى صاحبها أن القيم فرط في ضبطها فأنكر، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التفريط، ومتى اختلفا في وجود جناية غير ما يوجب القسامة، كالجناية على الأطراف وغيرها، فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته، وعدم الجناية. فصل وإذا سلم دية العمد ثم اختلفا، فقال الولي: لم يكن فيها خلفات، وقال الجاني: كانت فيها، ولم تكن، رجع فيه إلى أهل الخبرة، فالقول قول الولي؛ لأن الأصل عدم الحمل، وإن رجع في الدفع إليهم، فالقول قول الدافع؛ لأننا حكمنا بأنها خلفات بقولهم، فلا ينقض ما حكمنا به إلا بدليل. [ باب كفارة القتل ] تجب الكفارة، على كل من قتل نفسًا محرمة مضمونة خطأ، بمباشرة أو تسبب، كحفر البئر، وشهادة الزور؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وتجب على من قتل في بلاد الروم مسلمًا يعتقده كافرًا؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، وكذلك يلزم من رمى صف الكفار فقتل مسلمًا، قياسًا عليه، ومن ضرب بطن امرأة، فألقت جنينًا حيًا أو ميتًا، فعليه كفارة؛ لأنه آدمي محقون الدم لحرمته، فوجبت فيه الكفارة كغيره، وإن قتله وأمه، فعليه كفارتان؛ لأنه قتل نفسين، وإن قتل نفسه أو عبده خطأ، فعليه كفارة؛ لأنها تجب لحق الله تعالى، وقتل نفسه وعبده كقتل غيرهما في التحريم، لحق الله تعالى، وإن اشترك جماعة في قتل واحد، فعلى كل واحد منهم كفارة؛ لأنها كفارة لا تجب على سبيل البدل، اشتركوا في سببها فلزم كل واحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 كفارة، كالطيب في الإحرام، وعنه: على الجميع كفارة؛ لأنها تجب بالقتل، فإذا كان واحدًا، وجبت كفارة واحدة، كقتل الصيد. فصل ولا تجب الكفارة بالعمد المحض، سواء أوجب القصاص أو لم يوجبه؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فتخصيصه بها يدل على نفيها في غيره، ولأنها لو وجبت في العمد، لمحت عقوبته في الآخرة؛ لأنها شرعت لستر الذنب، وعقوبة القاتل عمدًا ثابتة بالنص لا تمحى بها، فوجب ألا تجب الكفارة فيه، وعنه: أنها تجب؛ لأنها إذا وجبت في الخطأ مع قلة إثمه، ففي العمد أولى. وأما شبه العمد، فتجب فيه الكفارة؛ لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي عقوبته، وتحمل العاقلة ديته وتأجيلها، فكذلك في الكفارة، ولأنه لو لم تجب الكفارة، لم يلزم القاتل شيء؛ لأن الدية تحملها العاقلة، وتجب الكفارة في مال الصبي والمجنون إذا قتلا وإن تعمدا؛ لأن عمدهما أجري مجرى الخطأ في أحكامه، وهذا من أحكامه، وتجب على النائم إذا انقلب على شخص فقتله، وعلى من قتلت بهيمته بيدها، أو فمها إذا كان قائدها، أو راكبها، أو سائقها؛ لأن حكم القتل لزمه، فكذلك كفارته. فصل ولا يجب بالجناية على الأطراف كفارة، ولا بقتل غير الآدمي؛ لأن وجوبها من الشرع، وإنما أوجبها في النفس، وقياس غيرها عليها ممتنع؛ لأنها أعظم حرمة، ولذلك اختصت بالقسامة، ولا تجب بقتل مباح، كقتل الزاني المحصن، والقصاص، وقتل أهل البغي، والصائل، ومن ضرب الحد فمات فيه أو في التعزير، أو قطع بالسرقة، أو القصاص، فسرى إلى نفسه، ونحو ذلك؛ لأن الكفارة شرعت للتكفير والمحو، وهذا لا شيء فيه يمحى. فصل والكفارة تحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين للآية، فإن لم يستطع؛ ففيه روايتان: إحداهما: يلزمه إطعام ستين مسكينًا؛ لأنها كفارة فيها العتق وصيام شهرين، فوجب فيها إطعام ستين مسكينًا إذا عجز عنهما، ككفارة الظهار، والجماع في رمضان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 والأخرى: لا يجب فيها الإطعام؛ لأن الله تعالى لم يذكره، وصفة الرقبة والصيام والإطعام، كصفة الواجب في كفارة الظهار على ما ذكر فيه، ومن عجز عن الكفارة، بقيت في ذمته؛ لأنها كفارة تجب بالقتل، فلا تسقط بالعجز، ككفارة قتل الصيد الحرمي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 [ كتاب قتل أهل البغي ] كل من ثبتت إمامته، حرم الخروج عليه وقتاله، سواء ثبتت بإجماع المسلمين عليه، كإمامة أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أو بعهد الإمام الذي قبله إليه، كعهد أبي بكر إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أو بقهره للناس حتى أذعنوا له ودعوه إماما، كعبد الملك بن مروان؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، وروى أبو ذر، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، فميتته جاهلية» رواه مسلم من حديث أبي هريرة. فصل والخارجون على الإمام على ثلاثة أقسام: قسم لا تأويل لهم، فهؤلاء قطاع طريق، نذكر حكمهم فيما بعد إن شاء الله، وكذلك إن كان لهم تأويل، لكنهم عدد يسير لا منعة عندهم، وقال أبو بكر: هم بغاة؛ لأن لهم تأويلًا، فأشبه العدد الكثير. والأول: أصح؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يجر ابن ملجم مجرى البغاة، ولأن هذا يفضي إلى إهدار أموال الناس. القسم الثاني: الخوارج الذين يكفرون أهل الحق وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويستحلون دماء المسلمين، فذهب فقهاء أصحابنا إلى أن حكمهم حكم البغاة؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في الحرورية: لا تبدءوهم بالقتال، وأجراهم مجرى البغاة، وكذلك عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 حكمهم حكم المرتدين؛ لما روى أبو سعيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيهم: «إنهم يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة» رواه البخاري. وفي لفظ: «لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» ، فعلى هذا يجوز قتلهم ابتداء، وقتل أسيرهم، واتباع مدبرهم، ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد، فإن تاب، وإلا قتل. القسم الثالث: قوم من أهل الحق خرجوا على الإمام بتأويل سائغ، وراموا خلعه، ولهم منعة وشوكة، فهؤلاء بغاة، وواجب على الناس معونة إمامهم في قتالهم؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قاتلوا مانعي الزكاة، وقاتل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أهل البصرة يوم الجمل، وأهل الشام بصفين، ولا يقاتلهم الإمام حتى يسألهم ما ينقمون منه، فإن اعتلوا بمظلمته أزالها، أو شبهة كشفها؛ لقول الله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وفي هذا إصلاح، ولأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - راسل أهل البصرة يوم الجمل قبل الوقعة، وأمر أصحابه ألا يبدءوهم بقتال، وقال: إن هذا يوم، من فلج فيه، فلج يوم القيامة. وروى عبد الله بن شداد: أن عليا لما اعتزلته الحرورية، بعث إليهم عبد الله بن عباس، فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف، فإذا راسلهم فأبوا وعظهم. وخوفهم القتال، فإن أبوا قاتلهم، فإن استنظروه مدة، نظر في حالهم، فإن بان له أن قصدهم تعرف الحق، وكشف اللبس، والرجوع إلى الطاعة، أنظرهم؛ لأن في هذا إصلاحًا، وإن علم أن قصدهم الاجتماع على حربه، أو خديعته، عاجلهم لما في التأخير من الضرر، فإن أعطوه مالًا على إنظارهم أو رهنًا لم يقبل؛ لأنه لا يؤمن جعل ذلك طريقًا إلى قهره وقهر أهل العدل. فصل وإذا قوتلوا لم يتبع لهم مدبر، ولم يجز على جريح، ولم يقتل لهم أسير، ولم يغنم لهم مال، ولم يسب لهم ذرية؛ لما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «يا ابن أم عبد، ما حكم من بغى على أمتي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 فقال: لا يقتل مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم» ، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال يوم الجمل: لا يذفف على جريح، ولا يهتك ستر، ولا يفتح باب، ومن أغلق بابًا أو بابه، فهو آمن. وعن أبي أمامة قال: شهدت صفين، فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يطلبون موليًا، ولا يسلبون قتيلًا، ولأن المقصود دفعهم، فإذا حصل لم يجز قتلهم كالصائل، وإن حضر معهم من لا يقاتل لم يجز قتله؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إياكم وصاحب البرنس، يعني محمد بن طلحة السجاد، وكان قد حضر طاعة لأبيه، ولم يقاتل، ولأن القصد كفهم، وهذا قد كف نفسه، ومن أسر منهم فدخل في الطاعة، خلي سبيله، وإن أبى ذلك وكان رجلًا جلدًا، حبس حتى تنقضي الحرب؛ لئلا يعين أصحابه على قتال أهل العدل، فإذا انقضت الحرب، خلي سبيله، وإن لم يكن من أهل القتال خلي سبيله ولم يحبس؛ لأنه لا يخشى الضرر من تخليته، وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر: أنه يحبس كسرًا لقلوب أصحابه، والأول أصح، وحكم النساء والصبيان حكم الرجال، إن قاتلوا، جاز دفعهم بالقتل، وإلا فلا، ومن قتل أحدًا ممن منع من قتله ضمنه؛ لأنه قتل معصومًا لم يؤمر بقتله، وهل يلزمه القصاص؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه؛ لأنه قتل مكافئًا عمدًا. والثاني: لا يجب؛ لأن في قتلهم اختلافًا، فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص. فصل ولا يجوز قتالهم بالنار، ولا رميهم بالمنجنيق، وما يعم إتلافه؛ لأنه يعم من لا يجوز قتله، ومن يجوز. فإن دعت إليه ضرورة جاز، كما يجوز قتل الصائل، ولا يستعين على قتالهم بكافر، ولا بمن يستبيح قتلهم؛ لأن القصد كفهم لا قتلهم، وهؤلاء يقصدون قتلهم، فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم، فقدر على كفهم عن فعل ما لا يجوز، جازت الاستعانة بهم، وإلا فلا، وإن اقتتلت طائفتان من أهل البغي، فقدر الإمام على قهرهما، لم يعن واحدة منهما؛ لأنهما على الخطأ، وإن لم يقدر، ضم إليه أقربهما إلى الحق، فإن استويا، اجتهد، في ضم إحداهما إلى نفسه، يقصد بذلك الاستعانة بها على الأخرى، فإذا قهرها، لم يقاتل المضمومة إليه حتى يدعوها إلى الطاعة؛ لأنها حصلت في أمانة بالاستعانة بها. فصل ولا يجوز أخذ مالهم لما تقدم، ولأن الإسلام عصم مالهم، وإنما أبيح قتالهم للرد إلى الطاعة، فبقي المال على العصمة، كمال قاطع الطريق، ولا يجوز الاستعانة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 بكراعهم وسلاحهم من غير ضرورة لذلك، فإن دعت إليه ضرورة جاز، كما يجوز أكل مال الغير في المخمصة. فصل ومن أتلف من الفريقين على الآخر مالًا أو نفسًا في غير القتال ضمنه؛ لأن تحريم ذلك كتحريمه قبل البغي، فكان ضمانه كضمانه قبل البغي، وما أتلف أحدهما على الآخر حال الحرب بحكم القتال من نفس أو مال لم يضمنه؛ لما روى الزهري قال: كانت الفتنة العظمى، وفيهم البدريون، وأجمعوا على أن لا يجب حد على رجل ارتكب فرجًا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يقتل رجل سفك دمًا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يغرم مالًا أتلفه بتأويل القرآن، ولأن العادل مأمور بإتلافه فلم يضمنه، كما لو قتل الصائل عليه، والبغاة: طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى بحكم الحرب، كأهل العدل، ولأن تضمينهم ذلك يفضي إلى تنفيرهم عن الطاعة فسقط، كأهل الحرب، وعنه: يلزم البغاة الضمان؛ لأنهم أتلفوه بغير حق، فضمنوه كقطاع الطريق. فصل وإن استعان أهل البغي بأهل الحرب، فأمنوهم بشرط المعاونة، لم ينعقد أمانهم؛ لأن من شرط الأمان ألا يقاتلوا المسلمين، فلم ينعقد بدون شرطه وإن أعانوهم، فلأهل العدل قتلهم، وغنيمة أموالهم، كما قبل الاستعانة، ولا يجوز لأهل البغي قتلهم، ولا يحل لهم مالهم؛ لأنهم أمنوهم، فلزمهم الوفاء به، وإن استعانوا بأهل الذمة، فقاتلوا معهم طائعين عالمين بتحريم ذلك، فيه وجهان: أحدهما: ينتقض عهدهم؛ لأنهم قاتلوا المسلمين من غير عذر، فانتقض عهدهم، كما لو كانوا منفردين. والثاني: لا ينتقض عهدهم؛ لأنهم تابعون لأهل البغي، فعلى هذا حكمهم حكم البغاة في قتل مقاتلتهم دون مدبرهم وأسيرهم، وتذفيف جريحهم، ولكنهم يضمنون ما أتلفوا من نفس أو مال، في الحرب وفي غيره؛ لأن سقوط التضمين عن البغاة كيلا يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة، ولا يخاف تنفير أهل الذمة، وإن قالوا: كنا مكرهين، أو ظننًا أنه يجوز لنا معاونتهم، لم تنتقض الذمة؛ لأن ما ادعوه محتمل، فلا ينقض العهد مع الشبهة، وإن استعانوا بمستأمن، فحكمه حكم أهل الحرب إلا أن يقيم بينة على الإكراه. فصل وإن ولوا قاضيًا يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم، لم ينفذ حكمه؛ لأن العدالة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 شرط للقضاء، وليس هذا بعدل، وإن كان عدلًا مجتهدًا، نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضي الإمام، ورد منه ما يرد منه؛ لأن له تأويلًا يسوغ فيه الاجتهاد، فأشبه قاضي أهل العدل، وإن كتب إلى قاضي أهل العدل، استحب ألا يقبل كتابه كسرًا لقلوبهم، فإن قبله جاز؛ لأن حكمه ينفذ، فجاز قبول كتابه، كقاضي الإمام. فصل وإن استولوا على بلد، فأقاموا الحدود، وأخذوا الزكاة والخراج والجزية احتسب به؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يتتبع ما فعله أهل البصرة وأخذه. وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى ساعي نجدة الحروري، ومن ادعى دفع زكاته إليهم، قبل منه، ولم يستحلف؛ لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم، ومن ادعى من أهل الذمة دفع جزيته إليهم، لم يقبل إلا ببينة؛ لأنها عوض، فأشبهت الأجرة، ومن ادعى دفع خراجه إليهم، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأنه أجرة للأرض، فأشبه أجرة الدار، ولأنه خراج أشبه الجزية. والثاني: يقبل قوله؛ لأن الدافع مسلم، فقبل قوله في الدفع كالزكاة. فصل وإن أظهر قوم رأي الخوارج، ولم يخرجوا عن قبضة الإمام، فقال أبو بكر: لا يتعرض لهم؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمع رجلًا يقول: لا حكم إلا لله - تعريضًا به في التحكيم - فقال: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال. وحكمهم في ضمان النفس والمال والحد حكم أهل العدل؛ لأن ابن ملجم جرح عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن عشت فأنا ولي دمي، أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت، وإن مت قتلتموه، ولا تمثلوا به، ولا يتحتم القصاص إذا قتلوا مسلمًا؛ لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإن شئت عفوت، وفيه وجه آخر أنه يتحتم؛ لأنه قتل بإشهار السلاح في غير المعركة، فتحتم قتله، كقاطع الطريق، وإن سبوا الإمام أو غيره من أهل العدل، عزروا؛ لأنه محرم لا حد فيه، ولا كفارة، فشرع التعذير فيه، وإن عرضوا بالسب، ففيه وجهان: أحدهما: يعزرون كيلا يصرحوا به ويخرقوا الهيبة. والثاني: لا يعزرون؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان في صلاة الفجر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 فناداه رجل من الخوارج: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ، فأجابه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60] ولم يعزره، فأما من ذهب من أصحابنا إلى تكفيرهم، فإنهم متى أظهروا رأي الخوارج استتيبوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، كسائر المرتدين. فصل وإن اقتتلت طائفتان، لطلب ملك أو رئاسة أو عصبية، ولم تكن إحداهما في طاعة الإمام، فهما ظالمتان، يلزم كل واحدة منهما ضمان ما أتلفت على الأخرى، فإن كانت إحداهما في طاعة الإمام تقاتل بأمره، فهي المحقة، وحكم الأخرى حكم من يقاتل الإمام؛ لأنهم يقاتلون من أذن له الإمام، فأشبه المقاتل لجيشه. [ باب أحكام المرتد ] وهو: الراجع عن دين الإسلام، ولا يصح الإسلام والردة إلا من عاقل، فأما المجنون والطفل، فلا يصح إسلامهما ولا ردتهما؛ لأنه قول له حكم، فلا يصح منهما، كالبيع وغيره من العقود، وأما الصبي المميز، فيصح إسلامه وردته؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم وهو ابن سبع، فصح إسلامه، وثبت إيمانه، وعد بذلك سابقًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه، فإما شاكرًا، وإما كفورًا» ، ولأن الإسلام عبادة محضة، فصح منه، كالصلاة والحج، ومن صح إسلامه صحت ردته، كسائر الناس. وعنه: لا تصح ردته؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاثة» ، ولأنه قول يثبت به عقوبة، فلم يصح منه، كالإقرار بالحد، واختلف في السن المعتبرة لصحة إسلامه وردته، فقال الخرقي: هي عشر سنين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بضربهم على الصلاة والتفريق بينهم في المضاجع لعشر، وعن أحمد: أنه إذا كان ابن سبع سنين، صح إسلامه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مروهم بالصلاة لسبع» ، وعن عروة: أن عليًا والزبير أسلما وهما ابنا ثمان سنين، ولأنه تصح عباداته، فصح إسلامه كابن عشر، وفي ردة السكران روايتان، كطلاقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 فصل ولا تصح الردة من المكره؛ لقول الله تعالى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ، وإن لفظ بالكفر وهو أسير، فثبت أنه لفظ به وهو آمن كفر. وإن لم يثبت، لم يحكم بردته؛ لأنه في محل المخافة، وإن لفظ بها غير الأسير، حكم بردته، إلا أن يثبت إكراهه، ومن ثبت عليه أنه أكل لحم الخنزير، أو شرب خمرًا، لم يحكم بردته؛ لأنه قد يأكله معتقدًا تحريمه، والأفضل للمكره على كلمة الكفر ألا يقولها؛ لما روى خباب، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن كان الرجل ممن كان قبلكم يحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار فيوضع على رأسه، ويشق باثنين ما يمنعه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه» . فصل والردة تحصل بجحد الشهادتين، أو إحداهما، أو سب الله تعالى، أو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو جحد كتاب الله تعالى، أو شيء منه، أو شيء من أنبيائه، أو كتاب من كتبه، أو فريضة ظاهرة مجمع عليها، كالعبادات الخمسة، أو استحلال محرم مشهور أجمع عليه: كالخمر، والخنزير، والميتة، والدم، والزنا ونحوه، فإن كان ذلك لجهل منه، لحداثة عهده بالإسلام، أو لإفاقة من جنون ونحوه لم يكفر، وعرف حكمه ودليله، فإن أصر عليه كفر؛ لأن أدلة هذه الأمور الظاهرة ظاهرة في كتاب الله وسنة رسوله، فلا يصدر إنكارها إلا من مكذب لكتاب الله وسنة رسوله. فصل ومن ارتد عن الإسلام، وجب قتله؛ لما روى ابن عباس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه البخاري. وعن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس» . فصل وتقتل المرتدة للخبر، ولأنها بدلت دين الحق بالباطل، فتقتل كالرجل. فصل ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثًا يدعى فيها إلى الإسلام، وعنه: أنه يقتل من غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 استتابة للخبر، ولأنه يروى: أن معاذًا قدم على أبي موسى، وعنده رجل محبوس على الردة، فقال معاذ: لا أنزل حتى يقتل فقتل. والأول ظاهر المذهب؛ لما روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه: أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى، فقال له عمر: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه، فقال: ما فعلتم به؟ قال: قدمناه، فضربنا عنقه، قال عمر: فهل حبستموه ثلاثًا فأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه لعله يتوب، أو يراجع أمر الله؟ اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني، ولو لم تجب الاستتابة، لما تبرأ من فعلهم ولأن الردة في الغالب إنما تكون لشبهة عرضت له، فإذا تأنى عليه، وكشفت شبهته، رجع إلى الإسلام، فلا يجوز إتلافه مع إمكان استصلاحه، فعلى هذا يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس، ويدعى إلى الإسلام، وتكشف شبهته، ويبين له فساد ما وقع له، فإن قتل قبل الاستتابة، لم يجب ضمانه؛ لأن عصمته قد زالت بردته، وإن ارتد وهو سكران، لم يقتل قبل إفاقته؛ لأنه لا يمكن إزالة شبهته في حال سكره، فإذا صحا، وتمت له ثلاثة أيام من وقت ردته، قتل وإن ارتد صبي، لم يقتل قبل بلوغه؛ لأن القتل عقوبة متأكدة، فلا تشرع في حق الصبي، كالحد، وإذا بلغ، استتيب ثلاثًا؛ لأن البلوغ مظنة كمال العقل، فاعتبرت الاستتابة فيه، فإن لم يتب قتل، وإن ارتد عاقل فجن، لم يقتل في جنونه؛ لأن القتل يجب بالإصرار على الردة، والمجنون لا يوصف بالإصرار، ومن قتل أحد هؤلاء، عزر؛ لارتكابه القتل المحرم ولم يضمن؛ لأنه قتل كافرًا لا عهد له، فأشبه قتل نساء أهل الحرب. فصل فإذا تاب المرتد قبلت توبته، وخلي سبيله؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] ، وروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كف عن المنافقين حين أظهروا الإسلام مع إبطانهم الكفر، وعن أحمد: أنه لا تقبل توبة الزنديق المستسر بكفره؛ لأنه كان مستسرًا به دهره، فلا يزيد بتوبته عن الاستسرار الذي كان قبل الظهور عليه، ولا توبة من تكررت ردته؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137] . وقال أحمد: لا تقبل توبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 من سب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال الخرقي: ومن قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل، مسلمًا كان أو كافرًا، وقال أبو الخطاب: هل تقبل توبة من سب الله تعالى ورسوله؟ على روايتين: إحداهما: لا تقبل؛ لأن قتله موجب السب والقذف، فلا يسقط بالتوبة، كحد القذف. والثانية: تقبل لأنه لا يزيد على اتخاذ الصاحبة والولد لله سبحانه وتعالى، وقد سماه الله تعالى شتمًا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يخبر عن ربه تعالى أنه قال: «شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، أما شتمه إياي فقوله: إن لي صاحبة وولدًا» والتوبة من هذا مقبولة بالاتفاق. فصل وتثبت التوبة من الردة والكفر الأصلي، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؛ لخبر أنس، إلا أن يكون ممن يعتقد أن محمدًا بعث إلى العرب خاصة، أو يزعم أن محمدًا نبي يبعث غير نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يصح إسلامه حتى يشهد أن نبينا محمدًا نبي بعث إلى الناس كافة، أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خالف الإسلام؛ لأنه يحتمل أن يريد بالشهادة ما يعتقده. وإن شهد أن محمدًا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقط، ففيه روايتان: إحداهما: يحكم بإسلامه؛ لأنه لا يقر برسالته، إلا وهو مقر بمن أرسله. والثانية: إن كان ممن يقر بالتوحيد كاليهود، حكم بإسلامه؛ لأن كفره بجحده لرسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان ممن لا يوحد الله تعالى كالنصراني، لم يحكم بإسلامه، حتى يشهد أن لا إله إلا الله؛ لأنه غير موحد، فلا يحكم بإسلامه حتى يوحد الله تعالى، ويقر بما كان يجحده، وإن ارتد بجحد فرض، أو استحلال محرم، لم يصح إسلامه، حتى يرجع عما اعتقده، ويعيد الشهادتين؛ لأنه كذب الله تعالى ورسوله بما اعتقده، وإن صلى الكافر، حكمنا بإسلامه، سواء صلى جماعة، أو فرادى في دار الحرب، أو الإسلام؛ لأنها ركن يختص به الإسلام، فحكم بإسلامه، بها كالشهادتين، ولأن ما كان إسلامًا في دار الحرب، كان إسلامًا في دار الإسلام، كالشهادتين، وإن قال: أنا مؤمن، أو مسلم، حكم بإسلامه، وإن لم يلفظ بالشهادتين، ذكره القاضي؛ لأن ذلك اسم لشيء، فإذا أخبر به، فقد أخبر بذلك الشيء. فصل وإن أصر على الردة قتل بالسيف؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 ولا يقتله إلا الإمام؛ لأنه قتل يجب لحق الله تعالى، فكان إلى الإمام، كرجم الزاني، وإن قتله غيره بغير إذنه أساء، ويعزر لافتئاته على الإمام، ولا ضمان عليه؛ لأنه أتلف محلًا غير معصوم. فصل وإذا ارتد، لم يزل ملكه؛ لأنه سبب مبيح لدمه، فلم يزل ملكه، كزنا المحصن، وإن وجد منه سبب يقتضي الملك، كالاصطياد، والابتياع، ملك به كذلك، ويرفع الحاكم يده عن ماله، ويمنعه التصرف فيه، ويقضي ديونه من ماله، وأرش جناياته، وينفق على من يلزمه الإنفاق عليه، وإن تصرف المرتد في ماله، ببيع أو هبة ونحوها، كان تصرفه موقوفًا، إن أسلم تبينا وقوعه صحيحًا، وإن لم يسلم كان باطلًا؛ لأنه تعلق به حق جماعة المسلمين بردته، فأشبه تبرع المريض لوارثه، وقال أبو بكر: يزول ملكه بردته؛ لأن المسلمين ملكوا إراقة دمه، فوجب أن يملكوا ماله كالأصلي؛ لأنه زالت عصمته بردته، فوجب أن تزول عصمة ماله، فلا تصح تصرفاته، ولا تملك بأسباب الملك، ولا تنفق على أهله منه، فإن أسلم رد إليه تمليكًا مستأنفًا، وإن قتل أو مات قُضيت ديونه؛ لأن موته لا يمنع قضاء دينه. فصل ولا يجوز استرقاق المرتد؛ لأنه لا يجوز إقراره على ردته، وإن ارتد وله ولد، لم يجز استرقاق ولده؛ لأنه محكوم بإسلامه بإسلام والده، فإذا بلغ، استتيب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتل. والحمل كالولد الظاهر؛ لأنه يحكم له بالإسلام، ولهذا نورثه من والده المسلم دون المرتد، وإن ولد للمرتد ولد بعد ردته من كافرة، جاز استرقاقه؛ لأنه كافر وُلِدَ بين كافرين، فجاز استرقاقه، كولد الحربيين، ونقل الفضل بن زياد عن أحمد في المرتد: إذا تزوج في دار الحرب، وولد له، ما يصنع بولده؟ قال: يردون إلى الإسلام، ويكونون عبيدًا للمسلمين، فظاهر هذا أنه لا يجوز إقرار ولده على الكفر، ولا يقبل منه إلا الإسلام، وإذا أسلم بعد سبيه رق؛ لأنه ولد من لا يُقر على كفره، فلا يقر على كفره، كوالده الذي كان موجودًا قبل ردته. فصل وما يتلفه المرتد مضمون عليه؛ لأنه التزم حكم الإسلام بإسلامه واعترافه به، فلا يسقط عنه بجحده، كمن جحد الدين بعد إقراره به، فإن لحق بدار الحرب، فقد روي عن أحمد: أنه إذا لحق بدار الحرب، فقتل أو سرق، قال: قد زال عنه الحكم؛ يعني: لا يؤخذ بجنايته، ثم توقف بعد ذلك، فيحتمل أن يضمن ما أتلفه لما ذكرناه، ويحتمل أن لا يضمن؛ لأنه ممتنع بكفره في دار الحرب فلم يضمن، كالكافر الأصلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 وإن ارتدت طائفة وامتنعت، وجب على الإمام قتالها؛ لأن أبا بكر الصديق قاتل أهل الردة، ولأنهم كفار لا عهد لهم، فوجب قتالهم كالأصليين، وما أتلفوه في حال الحرب لم يضمنوه؛ لما روى طارق بن شهاب قال: جاء وفد بزاخة وغطفان إلى أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسألونه الصلح، فقال: تَدُونَ قتلانا، ولا نَدِي قتلاكم، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن قتلانا قُتلوا على أمر الله، ليس لهم ديات، فتفرق الناس على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه البخاري. وإن أتلفوا في غير دار الحرب شيئًا، ففيه وجهان؛ كالواحد إذا لحق بدار الحرب، وذكر ابن أبي موسى، والقاضي، وأبو الخطاب: أن ما أتلفه المرتد، فهو مضمون عليه، سواء كان واحدًا، أو جماعة ممتنعة بالحرب، ويحتمل في الجماعة الممتنعة ألا تضمن ما أتلفت. فصل ومن أكره على الإسلام بغير حق كالذمي والمستأمن، لم يصح إسلامه، ولم يثبت له أحكامه حتى يوجد منه ذلك، بعد زوال الإكراه. وإن أكره عليه بحق كالمرتد، ومن لا يجوز إقراره على دينه حكم بإسلامه، ومن أسلم ثم قال: لم أعتقد الإسلام، أو: لم أدر ما قلت، لم يقبل منه، وصار مرتدًا، نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعنه أنه يقبل منه. والمذهب: الأول. [ باب الحكم في الساحر ] السحر: عزائم ورقى وعُقَد تؤثر في الأبدان، والقلوب، فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه، قال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] ، وقال الله سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن في عقدهن، ولولا أن للسحر حقيقة، لم يأمر بالاستعاذة منه، وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سُحِرَ حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي أروان» رواه أحمد، والبخاري، ومسلم. وتعلم السحر، والعمل به حرام، فإن فعله رجل، وجب قتله إذا كان مسلماً؛ لما روي عن بجالة قال: كنت كاتباً لجَزْء بن معاوية عم الأحنف بن قيس؛ إذ جاءنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل موته بسنة: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر في يوم، رواه أحمد وأبو داود. وقتلت حفصة أمة لها سحرتها. ورأى جندب بن كعب رجلاً يعمل سحراً بين يدي الوليد بن عقبة، فضربه بالسيف. وأما ساحر أهل الكتاب، فلا يقتل. نص عليه أحمد. وقال: الشرك أعظم من ذلك. وقد سحر لبيد بن الأعصم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يقتله. قال أصحابنا: ويكفر بتعلم السحر، والعمل به؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] . فدل هذا على أنه يكفر بتعلمه. وهل يستتاب؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يستتاب؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يستتيبوهم، ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة. والثانية: يستتاب. فإن تاب، قبلت توبته، وخلي سبيله؛ لأن دينه لا يزيد على الشرك. والمشرك يستتاب، وتقبل توبته، فكذا الساحر. وعلمه بالسحر لا يمنع توبته، بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم. فصل الكاهن - الذي له رئي من الجن - والعراف، وقد نقل عن أحمد: أن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا؛ لأنهما يلبسان أمرهما، وليس هو من أمر الإسلام. قال أحمد: العراف طرف من السحر، والساحر أخبث؛ لأنه شعبة من الكفر. فصل فأما المعزم الذي يعزم على المصروع، ويزعم أنه يجمع الجن، وأنها تطيعه والذي يحل السحر، فذكرهما أصحابنا من السحرة الذين ذكرنا حكمهم. وقد توقف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 أحمد لما سئل عن رجل، يزعم أنه يحل السحر فقال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء، ويغيب فيه، ويفعل كذا، فنفض يده كالمنكر، وقال: ما أدري ما هذا؟ قيل له: فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر؟ قال: ما أدري ما هذا. وسئل ابن سيرين عن امرأة تعذبها السحرة، فقال رجل: أخط خطا عليها، وأغرز السكين عند مجمع الخط، وأقرأ عليها القرآن، فقال محمد: ما أعلم بقراءة القرآن بأساً على حال، ولا أدري ما الخط والسكين. وسئل سعيد بن المسيب عن رجل يؤخذ عن امرأته يلتمس من يداويه. قال: إنما نهى الله تعالى عما يضر، ولم ينه عما ينفع. إن استطعت أن تنفع أخاك، فافعل. وهذا يدل على أن مثل هذا، لا يكفر صاحبه، ولا يقتل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 [ كتاب الحدود ] [ باب المحارب ] كتاب الحدود باب حد المحارب وهو الذي يقطع الطريق، ويخيف السبيل، وعلى الإمام طلبه؛ ليدفع عن الناس شره، فإن ظفر به قبل أن يقتل، ويأخذ مالاً، ففيه روايتان: إحداهما: ينفيه، فلا يتركه يأوي بلداً. والثانية: يعزره بما يرى من حبس، وغيره. ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] وظاهر اللفظ وجوب نفيهم، ووجه الثانية: أنه قد قيل: إن نفيهم طلبهم لتعزيرهم، وإقامة حد الله تعالى فيهم. فروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: نفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا، فتقام عليهم الحدود، ولأن نفيهم من البلد يفضي إلى إغرائهم بما كانوا فيه. وإن شهر السلاح في الصحراء، فقتل وأخذ مالاً، قتل حتماً وإن عفا ولي الدم؛ لأنه حد، فلا يدخله عفو، كسائر الحدود، ثم يصلب قدر ما يشتهر أمره، ولا توقيت فيه؛ لأن التوقيت طريقه التوقيف، ولا توقيف فيه، ولا يصلب قبل القتل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» ثم ينزل ويصلى عليه، ويدفن. وإن مات قبل قتله، لم يصلب؛ لأنه تابع للقتل، فسقط بفواته. وإن قتل، ولم يأخذ مالاً قتل حتماً، ولم يصلب. وإن أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده اليمنى، ورجله اليسرى في مقام واحد، ثم حسمتا، وخلي؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس قال: «وادع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بردة الأسلمي، فجاء أناس يريدون الإسلام، فقطع عليهم أصحابه، فنزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحد فيهم: أن من قتل وأخذ المال، قتل وصلب. ومن قتل ولم يأخذ المال، قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف» ، وهذا نص. وحكم الردء حكم المباشر في جميع هذه الجنايات؛ لأنها محاربة، فاستوى فيها الردء والمباشر، كالجهاد يستوي الردء والمباشر في استحقاق الغنيمة. وذكر القاضي فيمن قتل وأخذ المال رواية أخرى: أنه يقطع، ثم يقتل؛ لأن القتل جزاء القتل، والقطع جزاء أخذ المال مفرداً، وإذا اجتمعا، وجب حدهما، كالزنا والسرقة. والأول أولى؛ لأنه متى كان في الحدود قتل، سقط ما دونه، كالرجم في الزنا، والقطع في السرقة. فصل ومن شرط المحارب أن يكون مع سلاح، أو يقاتل بسلاح؛ لأن من لا سلاح له لا منعة له. وإن قاتل بالعصا والحجارة، فهو محارب؛ لأنه سلاح يأتي على النفس ولأطرف، أشبه الحديد، وهل من شروطه أن يكون في الصحراء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكون محارباً حتى يشهر السلاح في الصحراء، فإن شهره في مصر أو قرية، وسعى فيها بالفساد، فليس بمحارب، هذا ظاهر كلام الخرقي؛ لأن الواجب على المحاربين يسمى: حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما يكون في الصحراء، ولأن المصر يلحق فيه الغوث غالباً، فتذهب شوكتهم، ويكونون مختلسين. وقال جماعة من أصحابنا: هم محاربون حيث كانوا، لعموم الآية فيهم، ولأن ضررهم في المصر أعظم، فكانوا بالحد أولى. وقال القاضي: إن كبسوا داراً في مصر بحيث يلحقهم الغوث عادة لم يكونوا محاربين. وإن حضروا قرية، أو بلداً؛ بحيث لا يلحقهم الغوث، لكثرة العدد، أو بعد البلد من الغوث، فهم قطاع طريق؛ لأن الغوث لا يلحقهم عادة فأشبهوا من في الصحراء. فصل ويشترط لتحتم القتل أن يقتل قاصداً لأخذ المال، فإن قتل لغير ذلك فليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 بمحارب، وحكمه حكم القاتل في المصر. وإن قتل المحارب من لا يكافئه، كحر قتل عبداً، أو مسلم قتل ذمياً، ففيه روايتان: إحداهما: يقتل ويصلب؛ لعموم ما روينا؛ ولأنه حد لله تعالى، فلم تعتبر فيه المكافأة. كقطع السارق. والثانية: لا تقتل به؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر» . وإن جرح إنساناً جرحاً يجب في مثله القصاص، وجب القصاص. وهل يتحتم؟ فيه وجهان: أحدهما: يتحتم؛ لأنه نوع قود، أشبه القود في النفس. والثاني: لا يتحتم؛ لأن الله تعالى ذكر حدود المحاربين، فذكر القتل والصلب، والقطع، ولم يذكر الجرح، فيكون حكمه حكم الجرح في غير المحاربة. فصل ويشترط لوجوب القطع في المحاربة ثلاثة أشياء: أحدها: أن يأخذ المال مجاهرة وقهراً، فإن أخذه مختفياً فهو سارق. وإن اختطفه وهرب به، فهو منتهب، لا قطع عليه؛ لأن عادة قطاع الطريق القهر، فيعتبر ذلك فيهم. والثاني: أن يأخذ ما يقطع السارق في مثله؛ لأنه قطع يجب بأخذ المال، فاعتبر النصاب، كقطع السارق. فإن أخذ جماعتهم ما يجب به القطع، قطعوا كالمشتركين في السرقة. والثالث: أن يأخذ من حرز، فإن أخذ منفرداً عن القافلة، أو من جمال ترك القائد تعهدها، لم يقطع لما ذكرناه. فصل وإذا كان المحارب معدوم اليد اليمنى، والرجل اليسرى، وأخذ المال، انبنى ذلك على الروايتين في السارق، إن قلنا: يؤتى على أطرافه كلها، قطعت هنا يده اليسرى، ورجله اليمنى، وإن قلنا: لا يؤتى عليها، سقط القطع. وإن وجد أحد طرفيه دون الآخر، قطع الموجود حسب؛ لأن ما يتعلق به الفرض معدوم، فسقط، كغسلها في الوضوء. وإن قطع القاطع يد المحارب اليسرى، ورجله اليمنى مع وجود الطرفين الآخرين، أساء، وأجزأ؛ لأننا لو أوجبنا قطع الطرفين الآخرين، أفضى إلى قطع أربعته بمحاربة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 فصل وإن تاب المحارب قبل القدرة عليه، سقط عنه حد المحاربة؛ لقول الله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] . فيسقط عنه انحتام القتل، والصلب، والقطع، والنفي، ولا يسقط حق الآدمي من القصاص، وغرامة المال، وحد القذف؛ لأنه حق للآدمي، فلم يسقط بالتوبة، كالضمان. وإن تاب بعد القدرة عليه، لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه؛ لأن الله تعالى شرطه في المغفرة لهم، كون التوبة قبل القدرة، فيدل على عدمها بعدها، ولأن إسقاطه بالتوبة بعد القدرة يفضي إلى إسقاطه بالكلية؛ لأنه يخبر بتوبته متى قدرنا عليه، ولا نأمن أن يكون تقية، فلا يسقط ما تيقنا وجوبه بالشك. فصل ومن وجب عليه حد لله تعالى فتاب، فهل يسقط عنه؟ فيه روايتان: إحداهما: يسقط؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39] وقال في الزانيين: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] ولأنه حد فسقط بالتوبة، كحد المحارب. والثانية: لا يسقط؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وقال سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ؛ ولأن ماعزاً والغامدية جاءا مقرين تائبين. فأقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما الحد. قال أصحابنا: ولا يعتبر إصلاح العمل مع التوبة في إسقاط الحد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التوبة تجب ما قبلها» ولأنها توبة من ذنب، فلم يعتبر في حكمها إصلاح العمل، كالإسلام. ويحتمل أن يعتبر إصلاح العمل مدة يتبين فيها أمره؛ لقول الله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] . وقال: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء: 16] علق الحكم على شرطين، فلا يثبت بدونهما، ولأنه لا يؤمن أن يكون إظهار التوبة تقية، فلا يتحقق وجودها، فلا يثبت الحكم بها بمجردها، كتوبة المحارب بعد القدرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 [ باب حد السرقة ] وحد السرقة: قطع اليد اليمنى؛ لقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ويعتبر في وجوبه أمور تسعة: أحدها: السرقة: وهو أخذ المال مختفياً، فإن اختطفه، أو اختلسه، فلا قطع عليه؛ لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المنتهب قطع» وروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ليس على الخائن، ولا المختلس قطع.» رواهما أبو داود، ولأن الله تعالى إنما أوجب القطع على السارق، وليس هؤلاء بسراق. وفي جاحد العارية روايتان: إحداهما: لا قطع عليه؛ لأنه خائن، فلا يقطع للخبر، ولأنه ليس بسارق، فلا يقطع، كجاحد الوديعة. وهذا اختيار أبي إسحاق بن شاقلا، وأبي الخطاب. والثانية: يجب عليه القطع؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع يدها.» متفق عليه. فصل الثاني: أن يكون مكلفاً، فلا يجب الحد على صبي، ولا مجنون؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» ولأنه إذا سقط عنهما التكليف في العبادات، والإثم في المعاصي، فالحد المبني على الدرء والإسقاط أولى. ولا قطع على مكره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ويخرج في قطع السكران وجهان، بناء على الروايتين في طلاقه. وقال القاضي: حكمه حكم الصاحي فيما يجب عليه من العقوبات. ويجب القطع على السارق من أهل الذمة، والمستأمنين، ويقطع المسلم بسرقة مالهما؛ لأنهم التزموا حكم الإسلام، فأشبهوا المسلم مع المسلم. فصل الثالث: أن يكون المسروق نصاباً، فلا قطع فيما دونه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً» متفق عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 وفي قدر النصاب روايتان: إحداهما: ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الورق، أو ما قيمته ذلك من غيرهما؛ لما روت عائشة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . وروى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم.» متفق عليهما. وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فما بلغ ثمن المجن، ففيه القطع» وعنه: أن ما عدا الأثمان تعتبر قيمته بالدراهم خاصة؛ لهذا الخبر. والثانية: الأصل الدراهم خاصة، ويقوم الذهب بها؛ لحديث ابن عمر، والأول أولى؛ لخبر عائشة، ولأن ما كان فيه أحد النقدين أصلاً، كان الآخر فيه أصلاً، كالديات، ونصب الزكوات. وسواء في هذا الصحاح، والمكسرة، والتبر، والمضروب، للخبر. فإن اشترك اثنان في هتك حرز، وسرقة نصاب منه، فعليهما القطع؛ لأنه قطع يجب على المنفرد، فوجب على المشتركين فيه، كالقصاص، ويحتمل ألا يجب؛ لأن كل واحد لم يسرق نصاباً، فلا يجب عليه القطع، للخبر، وكما لو انفرد بسرقته، فإن كان أحد الشريكين مما لا قطع عليه، كالأب والصبي، وكانت سرقة الأجنبي البالغ، نصاباً، فالقطع واجب عليه؛ لأن المانع اختص بأحدهما، فاختص السقوط به، كالقصاص، ويحتمل ألا يجب قطعه؛ لأن سرقتهما علة قطعهما، وسرقة الأب لا تصلح علة للقطع، فلم يجب على واحد منهما. وإن كانت سرقة الأجنبي، لم تبلغ نصاباً، لم يجب قطعه؛ لأن ما سرقه لم يجب به القطع، ولا يمكن بناء فعله على فعل شريكه؛ لأن فعل الشريك لا يوجب، ويحتمل أن يجب قطعه، كما في القصاص. ومن هتك حرزاً، فأخذ منه درهمين ثم عاد فسرق منه درهماً في ليلة أخرى، أو وقتين متباعدين، فلا قطع عليه؛ لأن كل سرقة منهما منفردة، لا تبلغ نصاباً، وإن تقاربا، وجب القطع؛ لأنهما سرقة واحدة من حرز هتكه، فأشبه ما لو أخرجهما معاً. وإذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه، فعلى فعل نفسه أولى، ومتى شككنا في المسروق، هل يبلغ نصاباً أو لا؟ لم يجب القطع؛ لأن الأصل عدمه، فلا يجب الشك. فصل والشرط الرابع: أن يكون المسروق مما يتمول في العادة؛ لأن القطع شرع لصيانة الأموال، فلا يجب في غيرها، وسواء في ذلك ما يبقى زمناً كالثياب، وما يفسده طول بقائه، كالفاكهة، والأطعمة الرطبة، وما أصله الإباحة، كالصيود، والفخار، والآجر، واللبن، والخشب؛ لأنه مال يتمول به عادة، فوجب القطع بسرقته كالأثمان. فإن سرق حراً صغيراً، فلا قطع عليه؛ لأنه ليس بمال. وعنه: يقطع. فإن قلنا: لا يقطع وكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 عليه حلي يبلغ نصاباً، ففيه وجهان: أحدهما: يقطع؛ لأنه سرق نصاباً من المال. والثاني: لا قطع عليه؛ لأن يد الصبي ثابتة على ما عليه، بدليل أن اللقيط يحكم له بما عليه، فأشبه ما لو سرق جملاً، صاحبه راكب عليه. وإن سرق عبداً صغيراً أو مجنوناً قطع؛ لأنه مال ممكن سرقته، وإن كان كبيراً عاقلاً، فلا قطع عليه؛ لأن سرقته غير ممكنة، فإن قهره وأخذه، كان غاصباً، لا سارقاً، إلا أن يكون نائماً، أو غريباً لا يميز بين سيده وغيره، فيقطع؛ لأن سرقته ممكنة. فإن كانت أم ولد كذلك، ففي قطع سارقها وجهان: أحدهما: يقطع؛ لأنها مضمونة بالقيمة، أشبهت القن. والثاني: لا يقطع؛ لأن بيعها محرم، أشبهت الحرة، ويقطع سارق الوقف؛ لأنه مملوك للموقوف عليه، ويحتمل أن لا يقطع؛ لأنه لا يحل بيعه، ولأنه غير مملوك على إحدى الروايتين. فإن سرق إناء يساوي نصاباً فيه خمر، أو ماء، ففيه وجهان: أحدهما: يقطع؛ لأنه سرق نصاباً فلزمه القطع، كما لو كان فيه بول. والثاني: لا يقطع؛ لأن الإناء يراد وعاء لما فيه، فصار تابعاً لما لا قطع فيه، أشبه ثياب الحر إذا سرقه. وإن سرق آلة لهو، كالطنبور والمزمار وشبهه، فلا قطع عليه؛ لأنه آلة معصية، فأشبه الخمر. وسواء بلغ قيمة خشبه مكسوراً نصاباً، أو لم يبلغ؛ لأن معظم المقصود منه كونه آلة المعصية، فصار المباح فيه تابعاً. وإن سرق إناء ذهب أو فضة تبلغ زنته نصاباً، قطع؛ لأن جوهره هو المقصود، والصناعة مغمورة فيه، فصارت تابعة له، بخلاف التي قبلها. وإن سرق صليباً، أو صنماً من ذهب أو فضة، فقال أبو الخطاب: فيه القطع، لما ذكرنا. وقال القاضي: لا قطع فيه؛ لأنه مجمع على تحريمه، أشبه الطنبور. فصل وإن سرق مصحفاً، فقال أبو الخطاب: عليه القطع، للآية، ولأنه متقوم يبلغ نصاباً، أشبه كتب الفقه. وقال أبو بكر والقاضي: لا قطع فيه؛ لأن المقصود منه كلام الله تعالى. فإن كان محلى بحلية تبلغ نصاباً، ففيه وجهان: أحدهما: يقطع، وهو قول القاضي؛ لأنه سرق نصاباً يجب به القطع منفرداً، فيجب به مع غيره، كما لو كانت الحلية منفصلة عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 والثاني: لا قطع فيها؛ لأنها تابعة لما لا قطع فيه، أشبه ثياب الحر، ويقطع بسرقة سائر الكتب المتقومة المباحة؛ لأنه يجوز بيعها، أشبهت الثياب. فإن كانت محرمة، ككتب البدع، والشعر المحرم، فلا قطع فيها؛ لأنها محرمة، أشبهت المزامير، ولا يقطع بسرقة الماء؛ لأنه لا يتمول عادة، ولا بسرقة السرجين، وإن كان طاهراً لذلك، ولأنه يوجد كثيراً مباحاً، فلا تكثر تعلق الرغبات به، فلا حاجة إلى الزجر عنه. وإن سرق كلأً، أو ملحاً، فقال أبو بكر: لا قطع عليه؛ لأنه مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه، أشبه الماء. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: يقطع؛ لأنه يتمول عادة أشبه الصيد، والثلج مثله. وقال القاضي: هو كالماء؛ لأنه ماء جامد. فصل الشرط الخامس: أن يكون المسروق مما لا شبهة للسارق فيه؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، فلا يقطع الوالد بسرقة مال ولده وإن سفل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» رواه أبو داود. والأم كالأب في هذا؛ لأنها أحد الأبوين أشبهت الأب ولا يقطع الابن بسرقة مال والده وإن علا في إحدى الروايتين؛ لأن بينهما قرابة تمنع شهادة أحدهما لصاحبه، أشبهت الأب. ويقطع سائر الأقارب بسرقة مال أقاربهم، لعدم ذلك فيهم، ولا يقطع العبد بسرقة مال سيده؛ لما روي أن عبد الله بن عمرو بن الحضرمي قال لعمر: إن عبدي سرق مرآة امرأتي، ثمنها ستون درهماً، فقال: أرسله، لا قطع عليه، غلامكم أخذ متاعكم؛ ولأن يده كيد مولاه، بدليل أنه لو كان في يده مال، فتنازعه السيد وأجنبي، كان لسيده. وإن سرق أحد الزوجين من مال الآخر الذي لم يحرزه عنه، لم يقطع؛ لأنه غير محرز عنه. وإن سرق مما أحرزه عنه ففيه روايتان: إحداهما: لا قطع عليه؛ لقول عمر: غلامكم أخذ متاعكم؛ ولأن أحدهما يرث صاحبه من غير حجب، وترد شهادته له، أشبه الولد، وهذا اختيار الخرقي وأبي بكر. والأخرى: يقطع، لعموم الآية، ولأنه سرق مالاً محرزاً عنه، لا شبهة له فيه، أشبه الأجنبي، ولا قطع على من سرق مالاً له فيه شركة؛ لأن له فيه حقاً، فكان ذلك شبهة، ولا قطع على مسلم بالسرقة من بيت المال لذلك، ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لابن مسعود حين سأله عمن سرق من بيت المال: أرسله، فما من أحد إلا وله في هذا المال حق. وإن سرق منه ذمي قطع؛ لأنه لا حق له فيه. ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق، أو لولده، أو لسيده، لم يقطع لذلك. وإن لم يكن كذلك، فسرق منها بعد إخراج الخمس، قطع؛ لأنه لا حق له فيها. وأن سرق قبل إخراج الخمس، لم يقطع؛ لأن له حقاً في خمس الخمس. وإن سرق مسكين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 من وقف المساكين لم يقطع؛ لأن له فيه حقاً، وإن سرق منه غني، قطع؛ لأنه لا حق له فيه، وإن سرق حصير مسجد، أو قنديله، أو نحوه مما جعل لنفع المصلين، لم يقطع؛ لأن له فيه حقاً. وإن سرق بابه، أو تأزيره، أو شيئاً من خشب سقفه، ففيه وجهان: أحدهما: يقطع؛ لأنه لا حق له فيه وهو محرز بحرز مثله، أشبه سارق ذلك من بيت آدمي. والثاني: لا قطع عليه؛ لأن المسجد كله إنما يراد لنفع المصلين، ولأنه ليس له مالك من المخلوقين. والكعبة وغيرها في هذا سواء، ولا يقطع بسرقة ستارتها الخارجة منها؛ لأنها غير محرزة. وقال القاضي: إن كانت مخيطة عليها، قطع سارقها لأن هذا حرز مثلها. فصل ولا قطع على الزوجة إذا منعت نفقتها فأخذت بقدرها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ولا على الضيف إذا منع قراه، فأخذ بقدره؛ لأن له حقاً. وإن سرق غير ذلك من البيت الذي هو فيه، لم يقطع؛ لأنه غير محرز عنه، وإن كان محرزاً عنه، فعليه القطع، لعدم الشبهة. ولا قطع على المضطر إذا سرق ما يأكله إذا لم يقدر على ذلك إلا بالسرقة؛ لأنه فعل ما له فعله. قال أحمد: لا قطع في المجاعة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا قطع في عام سنة. قيل لأحمد. تقول به؟ قال: أي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة والناس في شدة ومجاعة. ولا قطع على الغريم إذا جحده غريمه، أو منعه ولم يقدر على استيفاء دينه، فأخذ بقدره في أحد الوجهين، وهو اختيار أبي الخطاب؛ لأن طائفة من أهل العلم أباحت له ذلك، فيكون شبهة. وفي الآخر عليه القطع، وهو قول القاضي؛ لأنه ليس له الأخذ. فإن كان غريمه باذلاً له، قطع؛ لأنه لا شبهة له في السرقة، لإمكان التوصل إلى أخذه. وإن سرق المسروق منه مال السارق، والمغصوب منه مال الغاصب من حرز فيه ماله، ففيه وجهان: أحدهما: لا قطع عليه؛ لأنه هتك حرزاً له هتكه، لأخذ ماله. والثاني: يقطع؛ لأنه لما أخذ غير ماله، علم أنه قصد سرقة مال غيره. وإن سرق ماله من حرز لا مال له فيه، فحكمه حكم السارق من غريمه، وإن أحرز المغصوب أو المسروق، فسرقه أجنبي، لم يقطع؛ لأنه حرز لم يرضه مالكه. وإن غصب داراً، فأحرز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 فيها متاعه لم يقطع سارقه؛ لأنه لا حكم لحرزه حيث كان متعدياً به ظالماً فيه. وإن سرق المعير من الدار المستعارة أو المؤجر من الدار المستأجرة شيئاً، قطع؛ لأنه محرز عنه فأشبه الأجنبي. فصل السادس: أن يسرق من حرز؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلاً من مزينة سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثمار فقال: ما أخذ في أكمامه فاحتمل ففيه قيمته ومثله معه، وما كان في الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن» رواه أبو داود. ويعتبر الحرز بما يتعارفه الناس، فما عدوه حرزاً، فهو حرز، وما لا فلا؛ لأن الشرع لما اعتبر الحرز، ولم يبينه، علمنا أنه رده إلى العرف، كالقبض، والتفرق. وإحياء الموات. هذا ظاهر قول أصحابنا، وإليه ذهب ابن حامد، والقاضي. وذكر أبو بكر كلاماً يدل على أن الإحراز لا يختلف، فقال: إذا أفرد الشيء في الملك، فهو محرز، والعمل على الأول. فحرز الأثمان، والجواهر، ونحوها في الخانات الحريزة. والدور في العمران دونها الأغلاق والأقفال، أو حافظ مستيقظ، أو حمل صاحبها لها معه على ما جرت به العادة في جيبه، أو كمه، أو وسطه، أو معضدته ونحن ذلك. ونقل حنبل عن أحمد في الذي يأخذ من جيب الرجل، أو كمه: لا قطع عليه، وهذا محمول على من اختلس دون من سرق؛ لأنه قد بينه في رواية ابن منصور، فقال: الطرار يقطع إذا كان يطر سراً. وإن اختلس، لم يقطع، فأما الجواسق في البساتين، والخانات في البرية، فإن كانت مغلقة وفيها حافظ، فهي حرز، نائماً كان أو يقظان، وإن كانت مفتوحة، فلا تكون حرزاً إلا أن يكون الحافظ يقظان. وإن لم يكن فيها حافظ، فليست حرزاً بحال؛ لأن المال لا يحرز فيها من غير حافظ. والخيمة والخركاه المنصوبة، كالجواسق فيما ذكرنا. ويقطع سارقها متى كان فيها حافظ. وإن كان نائماً؛ لأنها تحرز بهذا، وحرز متاع الباعة من العطارين، وغيرهم بالدكاكين في الأسواق وراء الأغلاق والأقفال، وإن كانت مفتوحة، فبحافظ يقظان. وحرز قدور الباقلا في الدكاكين، وشرائح القصب، وما جرت العادة بإحرازها به. وحرز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 باب الدار والدكان نصبه في موضعه. وحرز حلقة الباب تسميرها فيه وحرز آجر الحائط وحجارته كونه مبنياً في الحائط. وحرز الخشب والحطب بالحظائر، وتغيبه بعضه على بعض، مقيد فوقه بحيث يعسر أخذ شيء منه. وإن كان في فندق مغلق، أو فيه حافظ، فهو محرز، وإن لم يقيد. وحرز متاع الباعة وأشباههم كونه بين أيديهم؛ لأنه محفوظ بذلك، فإن نام عنه أو اشتغل، أو جعله خلفه بحيث تناله اليد، خرج عن الحرز؛ لأنه غير محفوظ. وإن نام إنسان على ثوبه، أو متاعه، فقد أحرزه؛ لما «روى صفوان بن أمية أنه نام في المسجد، وتوسد رداءه، فأخذ من تحت رأسه، فجاء بسارقه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر به أن يقطع، فقال صفوان: يا رسول الله، لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فهلا قبل أن تأتيني به» رواه ابن ماجه. فإن تدحرج عنه، خرج من الحرز. فصل وحرز المواشي الراعية بنظر الراعي إليها، فما استتر عنه بحائل، أو نوم الراعي، خرج عن الحرز؛ لأنه غير محفوظ، وحرز البارك من الإبل المعلقة بالحافظ، نائماً كان أو يقظان؛ لأن العادة أن صاحبها يعقلها إذا نام، وإذا لم تكن معقلة فحرزها بحافظ يقظان، لما ذكرنا. وحرز الحمولة بسائق يراها، أو قائد يكثر الالتفات إليها، ويراها إذا التفت؛ لأنها لا تنحفظ إلا بذلك. فصل ومن ترك ثيابه في الحمام لا حافظ لها، فليست محرزة. وإن استحفظها إنساناً، فحفظها، فعن أحمد أنها غير محرزة أيضاً، إلا أن يتوسدها، أو يجلس عليها؛ لأن الحمام مستطرق، وقال القاضي في موضع: يخرج في المسألة روايتان، وفي موضع آخر: تصير محرزة بذلك، كالقماش بين يدي الباعة. وإن نام الحافظ أو اشتغل، فعليه الضمان، ولا قطع على السارق؛ لأنها خرجت عن الحرز. وإن لم يفرط في الحفظ، فلا ضمان عليه؛ لأنه مؤتمن. فصل وحرز الكفن كونه على الميت في القبر، فمن نبشه وسرقه، قطع؛ لأنه سارق، بدليل قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " سارق أمواتنا، كسارق أحيائنا "؛ ولأن القبر حرز الكفن؛ لأنه يوضع فيه عادة، ولا يعد واضعه مفرطاً، ولا مضيعاً وقد سرق منه، وما زاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 على الكفن المشروع، كاللفافة الرابعة، لم يكن القبر حرزاً له؛ لأن تركه فيه تضييع، فأشبه الكيس المدفون معه. وإن أكل الضبع الميت وبقي الكفن، فلا قطع على سارقه؛ لأنه غير محرز، ويكون للورثة؛ لأن لهم ما فضل عن حاجته من ماله. فصل السابع: أن يخرجه من الحرز، سواء أخرجه بيده، أو بفيه، أو رماه إلى خارج، أو اجتذبه بمحجن، أو بيده، أو تركه على ظهر بهيمة وساقها، أو على ماء جار، أو في مهب ريح فأطارته، أو على ماء راكد وحركه، أو فجره فخرج به، أو أمر صبياً مميزاً فأخرجه، أو فتح طاقاً فانهال الطعام إليه، أو بط جيبه إنسان، أو كمه فسقط المال، فأخذه، فعليه القطع في هذا كله؛ لأنه بسبب فعله، فأشبه ما أخرجه بيده، فإن جمعه في الحرز ثم تركه ومضى، أو أخذ منه، أو تركه في ماء راكد، ففجره غيره فخرج به، أو أخرج النباش الكفن من اللحد إلى القبر فتركه فيه، أو أتلف المتاع في الحرز، لم يقطع؛ لأنه لم يسرق. وإن ترك المتاع على دابة، فخرجت به بنفسها، أو في ماء راكد فانفجر، فخرج به، أو على حائط في غير مهب ريح، فهبت ريح فأطارته، ففيه وجهان: أحدهما: عليه القطع؛ لأن فعله سبب خروجه، أشبه ما لو ساق البهيمة. والثاني: لا قطع عليه؛ لأن ذلك لم يكن آلة للإخراج وإنما خرج بسبب حادث، أشبه ما لو فجر الماء آدمي آخر، أو ساق البهيمة غيره. وإن أخرجه من الحرز، فألقاه خارج الحرز، أو رده إلى الحرز لخوف، أو غيره، فعليه القطع؛ لأنه وجب بإخراجه. وإن أخرج خشبة، فألقاها ومنها شيء في الحرز، لم يقطع؛ لأن بعضها لا ينفرد عن البعض، ولذلك لو أمسك عمامة، وطرفها في يد صاحبها، لم يضمنها. وإن أخرج المتاع من البيت إلى صحن الدار، وكان البيت مغلقاً، ففتحه أو نقبه، قطع؛ لأنه أخرج المتاع من الحرز، وإن لم يكن كذلك، فلا قطع عليه؛ لأنه لم يخرجه من الحرز. فصل وإن دخل الحرز، فأكل طعاماً فيه وخرج منه، لم يقطع؛ لأنه أتلفه، ولم يخرجه. وإن ابتلع ديناراً فلم يخرج منه، فلا قطع عليه كذلك. وإن خرج منه، ففيه وجهان: أحدهما: يقطع؛ لأنه أخرجه في وعاء، أشبه ما لو أخرجه في كمه. والثاني: لا قطع عليه؛ لأنه ضمنه بالبلع. فكان ذلك إتلافاً. وإن دخل، فشرب لبن ماشية، فلا قطع عليه؛ لأنه أتلفه. وإن احتلب نصاباً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وأخرجه، قطع؛ لأنه محرز بحرز الماشية. وإن ذبح الشاة وشق الثوب، ثم أخرجه وقيمته بعد ذلك نصاباً، قطع؛ لأنه أخرج نصاباً من الحرز، وإلا فلا قطع فيه؛ لأنه لم يخرج نصاباً. وإن تطيب بطيب في الحرز، ثم خرج وعليه من عين الطيب، ما إذا لو جمع بلغ نصاباً، ففيه وجهان: أحدهما: يقطع؛ لأنه أخرج من الحرز نصاباً. والثاني: لا قطع عليه؛ لأنه أتلفه بالاستعمال. وإن لم يبق من عينه نصاب، لم يقطع وجهاً واحداً؛ لأنه لم يخرج نصاباً، أشبه ما لو أكله. فصل وإن أخرج نصاباً، فنقصت قيمته عن النصاب قبل القطع، قطع؛ لأنه وجد شرط القطع فيه وقت الوجوب، فلم يسقط القطع بفواته بعد ذلك، كالحرز إذا تغير، وإن ملك المسروق بهبة أو غيرها، لم يسقط القطع؛ لحديث سارق رداء صفوان؛ ولأن ملكه لمحل الجناية لا يسقط الحد، كما لو زنى بأمة ثم اشتراها. فصل وإن نقب الحرز، ثم دخل آخر، فأخرج المتاع، فلا قطع عليهما؛ لأن الأول لم يسرق. والثاني: سرق من حرز هتكه غيره. ويحتمل أن يقطعا إذا كانا شريكين. وإن نقبا معاً، ودخل أحدهما فأخرج المتاع، قطع الداخل؛ لأنه نقب وسرق، ولم يقطع الآخر؛ لأنه لم يسرق. وكذلك إذا رمى المتاع إلى خارج الحرز، فأخذه الآخر، أو خرج هو، فأخذه. وإن نقبا ودخلا، فأخرج أحدهما المتاع، فالقطع عليهما؛ لأن المخرج أخرجه بقوة صاحبه ومعونته، وإن دخل أحدهما، فقرب المتاع من النقب، فمد الخارج يده فأخرجه، أو شده الداخل بحبل، فمده الخارج، فأخرجه، قطعا، لاشتراكهما في هتك الحرز، وإخراج المتاع. فصل الثامن: أن تثبت السرقة عند الحاكم؛ لأنه المتولي لاستيفاء الحدود، فلا يجوز له استيفاء حد قبل ثبوته، ولا يثبت إلا ببينة، أو إقرار. فأما البينة فيشترط أن يكون فيها شاهدين ذكرين حرين مسلمين عدلين، فإذا وجب القطع بشهادتهما، ثم غابا، أو ماتا، لم يسقط القطع على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وأما الإقرار، فيعتبر أن يقر مرتين، لما روى أبو أمية المخزومي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص قد اعترف، فقال له: ما إخالك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 سرقت؟ قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً، فأمر به فقطع.» رواه أبو داود. ولو وجب القطع بأول مرة، لم يؤخره، وعن القاسم بن عبد الرحمن: أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتاه رجل، فقال: إني سرقت، فطرده، ثم عاد مرة أخرى، فقال: إني سرقت، فأمر به علي أن يقطع، وقال: شهدت على نفسك مرتين، وقطع يده. رواه الجوزجاني، ولأنه حد يتضمن إتلافاً، فاعتبر في إقراره التكرار، كحد الزنا. فصل قال أحمد: لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمقر بالسرقة: «ما إخالك سرقت» وطرد علي له. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجل فقال: أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه. ولا بأس بالشفاعة في السارق قبل أن يبلغ الإمام؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب» وقال الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الشفاعة في الحد: يفعل ذلك دون السلطان، فإذا بلغ الإمام، فلا أعفاه الله إن أعفاه. وإذا بلغ الإمام، حرمت الشفاعة فيه كذلك؛ لما روي: أن «أسامة بن زيد شفع في المخزومية التي سرقت، فغضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: أتشفع في حد من حدود الله» . وقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في حكمه. فصل التاسع: أن يأتي مالك المسروق ويدعيه سواء ثبتت سرقته ببينة، أو إقرار. وقال أبو بكر: ليس بشرط؛ لأن موجب الحد قد ثبت، فوجب من غير طلب، كالزنا. والأول: أولى؛ لأن المال يباح بالبذل والإباحة، فيحتمل أن مالكه أباحه إياه، أو أذن له في دخول حرزه، أو وقفه على طائفة السارق منهم، فاعتبر الطلب لنفي هذا الاحتمال، بخلاف الزنا. فإن حضر المالك وطالب، لكنه خالف المقر، فقال: لم تسرق مني، لكن غصبتني، أو انتهبت مني، أو خنتني، أو جحدت وديعتي، لم يقطع؛ لأنه لم يوافق دعوى المدعي. وإن كان النصاب لاثنين، فخالفه أحدهما في إقراره، لم يقطع؛ لأنه لم يوافق على سرقة النصاب، وإن كان لمن وافقه نصاب قطع، لموافقته على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 سرقة نصاب. وإن كان المالك غائباً وله وكيل حاضر، قام مقامه في الطلب. وإن لم يحضر له وكيل، فقال القاضي: يحبس حتى يحضر، وإن كانت العين في يده، حفظها الحاكم للغائب. فصل وإن ثبتت السرقة ببينة، فأنكر السارق، لم يلتفت إلى إنكاره؛ لأن الإنكار شرط سماع البينة في مواضع فلم يقدح فيها. وإن قال: إنما أخذت ملكي، أو لي فيه ملك، أو دخلت بإذن المالك، فالقول قول المسروق منه مع يمينه. وإن نكل، قضي عليه، وإن حلف، ففي القطع ثلاث روايات: إحداهن: لا يقطع؛ لأنه يحتمل صدقه، ولذلك أحلفنا خصمه، وهذا شبهة يندرئ بها الحد. والثانية: يقطع، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى إسقاط القطع، فتفوت مصلحته. والثالثة: إن كان معروفاً بالسرقة، لم تقبل دعواه؛ لأننا نعلم كذبه. وإن لم يعرف بالسرقة، قبلت دعواه، لاحتمال صدقه، فيصير ذلك شبهة، والأول أولى. فإن أقر العبد بسرقة مال في يده، وادعى ذلك المسروق منه، وكذبه السيد، وقال: بل هذه الدراهم لي، قطع العبد، وكانت الدراهم للسيد، نص عليه أحمد؛ لأن الموجب للقطع الإقرار مع مطالبة المدعي، وقد وجد ذلك، وتكون الدراهم للسيد؛ لأن ما في يد العبد محكوم به لسيده؛ لأن يده كيده. ويحتمل ألا يجب القطع؛ لأن المال محكوم به لسيده، فلا يجب القطع بأخذه، كما لو ثبت له ببينة، ولأنه لم تثبت المطالبة من المالك، فيكون ذلك محكوماً به للسيد. وإن طالب المالك وثبت القطع، ثم عفا عن المطالبة بعد ذلك، لم يسقط القطع، بدليل أن صفوان عفا عن الطلب من سارق ردائه، فلم يدرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه القطع، ولأنه قد وجب، فلم يسقط، كما لو وهبه إياه. وإن أكذب المدعي نفسه، وقال: لم يكن هذا المال لي، ولم يسرق مني شيئاً، أو أنا أذنت له في أخذه، ونحو هذا، سقط القطع؛ لأنه رجع عن شرط الوجوب، فأشبه رجوع البينة عن الشهادة، أو المقر عن الإقرار. فصل وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع؛ لأن في قراءة عبد الله بن مسعود: " فاقطعوا أيمانهما " ولما روي عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من مفصل الكوع، ولا مخالف لهما في الصحابة؛ ولأن البطش باليمنى وهو حاصل بالكف، وما زاد من الذراع تابع، لهذا تجب الدية فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 وحده، ويحسم موضع القطع، وهو: أن يغلى الزيت غلياً جيداً، ثم تغمس فيه، لتحسم العروق، وينقطع الدم؛ لما روى أبو هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق فقال: اذهبوا به، فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به فقطع وأتي به، فقال: تب إلى الله تعالى فقال: تبت إلى الله. فقال: تاب الله عليك» . ولا يجب الحسم؛ لأنه مداواة، فلم يجب على القاطع، كالمقتص، وثمن الزيت، وأجرة القاطع من بيت المال؛ لأنه من المصالح، فإن لم يكن للسارق يد يمنى، قطعت رجله اليسرى؛ لأنه معدوم اليمنى، فقطعت رجله اليسرى، كالسارق في المرة الثانية. وإن كانت يده ناقصة الأصابع، قطعت؛ لأن اسم اليد يقع عليها. فإن ذهبت الأصابع كلها، ففيه وجهان: أحدهما: يقطع الكف؛ لأنه بعض ما يقطع في السرقة، فوجب قطعه، كما لو كان عليه بعض الأصابع. والثاني: لا يقطع؛ لأنه تجب فيه دية اليد، أشبه الذراع، وإن كانت اليمنى شلاء، لم تقطع، نص عليه؛ لأنها ذاهبة النفع، فأشبه كفاً لا أصابع عليه، وينتقل إلى الرجل. وعنه: يسأل أهل الطب، فإن قالوا: إنها إذا قطعت، رقأ دمها، وانسدت عروقها، قطعت؛ لأن اسم اليد يقع عليها، فهي كالصحيحة. وإن قالوا: لا يرقأ دمها، لم تقطع؛ لأن ذلك يؤدي إلى تلفه. ويعدل إلى الرجل. وإن سرق وله يد صحيحة، فلم تقطع حتى ذهبت بآكلة، أو نحوها، سقط الحد؛ لأن الحد تعلق بها، فسقط بذهابها، كما لو مات من عليه الحد. فصل فإن سرق ثانياً، قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن سرق، فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» ؛ ولأنه في المحاربة تقطع يده اليمنى، ورجله اليسرى كذا هاهنا، وإنما قطعت اليسرى للرفق به؛ لأنه يتمكن من المشي على خشبة. ولو قطعت يمناه، لم يمكنه ذلك. وموضع القطع المفصل؛ لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنها أحد المقطوعين فتقطع من المفصل. كاليد. فصل فإن سرق ثالثة، ففيه روايتان: إحداهما: يحبس، ولا يقطع غير يد ورجل؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 قال: إني لأستحيي من الله ألا أدع له يداً يبطش بها، ولا رجلاً يمشي عليها؛ ولأن قطعها يفوت منفعة الحبس، فلم يشرع، كالقتل. والثانية: تقطع يده اليسرى، فإن عاد، فسرق مرة رابعة، قطعت رجله اليمنى؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» ؛ ولأنها يد تقطع قوداً، فجاز قطعها في السرقة كاليمنى، ولأن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قطعا اليد اليسرى في المرة الثالثة. فإن سرق بعد قطع يديه ورجليه، حبس وعزر، وكذلك إن سرق ثالثة على الرواية الأولى، فإنه يحبس ولا يقطع؛ لما روى سعيد بن منصور: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: أتي عمر بن الخطاب برجل أقطع اليد والرجل قد سرق، فأمر به عمر أن تقطع رجله، فقال علي: إنما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلى آخر الآية. وقد قطعت يد هذا ورجله، فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها، إما أن تعزره، أو تستودعه السجن، فاستودعه السجن. فصل فإن سرق ويده اليمنى صحيحة، واليسرى مقطوعة، أو شلاء، انبنى على الروايتين، فإن قلنا: إن يسراه تقطع في المرة الثالثة، قطعت يمناه هاهنا؛ لأنها موجودة، وسبب قطعها متحقق. وإن قلنا: لا تقطع يسراه، لم تقطع يمينه؛ لأن قطعها يفوت منفعة الحبس، ويتركه لا يد له يبطش بها، وكذلك إن كانت يسراه صحيحة فقطعت، أو شلت قبل يمينه، فالحكم على ما ذكرنا. وإن كانت اليد قد قطعت أصابعها، أو معظمها، فهو كقطعها؛ لأنه يفوت منفعة البطش. فصل وإذا وجب قطع يمنيه، فقطع القاطع يساره، أساء، وأجزأ، ولا تقطع يمينه، لئلا تقطع يداه بسرقة واحدة، ولأن قطعها يفوت منفعة البطش، ويتخرج على الرواية التي تقول: تقطع أربعته، أن تقطع يمناه، كما لو قطعت يسراه عدواناً، فعلى هذا إن كان السارق أخرجها عمداً عالماً أنها لا تجزئ، فلا ضمان على قاطعها؛ لأنه قطعها بإذنه. وإن أخرجها دهشة، أو ظناً أنها تجزئه، فعلى القاطع ضمانها بالقصاص إن تعمد، وبالدية إن كان جاهلاً بالحال؛ لأنه قطع يداً معصومة عمداً، فضمنها، كما لو قطع يد غير السارق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 فصل ومتى تكررت منه السرقة ولم يقطع، أجزأ قطع يده عن جميعها. وذكر القاضي فيما إذا طالب الجماعة متفرقين رواية أخرى: أنها لا تتداخل، والصحيح الأول ويقطع للثانية؛ لأنها أسباب حد تكررت قبل استيفائه فيجزئ حد واحد، كسائر الحدود. فأما إن قُطع بسرقة، ثم عاد فسرق، قُطع ثانية، سواء سرق العين التي قطع بها، أو لا أو غيرها، من المسروق منه الأول أو من غيره؛ لأنه حد يجب بفعل في عين، فكان تكرره في عين واحدة كتكرره في أعيان، كالزنا. فصل ويسن تعليق يد السارق بعد قطعها في عنقه؛ لما روى فضالة بن عبيد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه» رواه أبو داود. وفعل ذلك علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالذي قطعه؛ ولأنه أبلغ في الزجر. ولو قال السارق: أنا أقطع نفسي، لم يُمَكَّن؛ لأنه حق عليه، فلم يُمَكَّن من استيفائه من نفسه، كالقصاص. فصل وإذا قطع، فإن كان المسروق قائماً، رد إلى مالكه؛ لأنه ملكه، فرد إليه، كما قبل القطع. وإن كان تالفاً، فعلى السارق ضمانه؛ لأنه مال آدمي تلف تحت يد عادية، فوجب ضمانه، كالذي تلف في يد الغاصب، ولأن الضمان يجب للآدمي، والحد لحق الله تعالى، فوجبا جميعاً، كالدية، والكفارة في قتل الآدمي. [ باب حد الزنا ] الزنا حرام، وهو من الكبائر العظام، بدليل قول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] . «وروى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك» . متفق عليه. فصل والزنا: هو الوطء في الفرج لا يملكه، ولا يجب الحد بغير ذلك، لما روى ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لماعز: «لعلك قبلت، أو غمزت قال: لا. قال: أفنكتها لا يكني. قال: نعم. قال: فعند ذلك رجمه» . رواه البخاري. وفي رواية عن أبي هريرة قال: «أنكتها. قال: نعم، قال: حتى غاب ذاك منك في ذاك منها قال: نعم. قال: كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البئر؟ قال: نعم» . رواه أبو داود. وأدناه أن تغيب الحشفة في الفرج؛ للخبر، ولأن أحكام الوطء تتعلق بذلك، لا بما دونه، وسواء كان الفرج قبلاً، أو دبراً؛ لأن الدبر فرج مقصود، فتعلق الحد بالإيلاج فيه كالقبل، ولأنه إذا وجب الحد بالوطء في القبل وهو مما يستباح، فلأن يجب الوطء في الدبر الذي لا يستباح بحال أولى، ولو تلوط بغلام، لزمه الحد كذلك، وفي حده روايتان: إحداهما: يجب عليه حد الزنا، يرجم إن كان ثيباً، ويجلد إن كان بكراً؛ لأنه زان، بدليل ما روى أبو موسى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أتى الرجلُ الرجلَ، فهما زانيان. وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» ولأنه حد يجب بالوطء، فاختلف فيه البكر والثيب، كالزنا بالمرأة. والثانية: حده القتل، بكراً كان أو ثيباً؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . رواه أبو داود. وفي لفظ: «فارجموا الأعلى والأسفل» واحتج أحمد بعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرى رجمه؛ ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم، فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك. وإن وطئ الرجل امرأة ميتة، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه الحد؛ لأنه إيلاج في فرج محرم لا شبهة له فيه، أشبه الحية. والثاني: لا يجب؛ لأنه لا يقصد، فلا حاجة إلى الزجر عنه. وإن وطئ بهيمة ففيه روايتان: إحداهما: يُحَدّ؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» رواه أبو داود. ولما ذكرنا فيما تقدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 والثانية: لا يحد، ولكن يعزر؛ لأن الحد يجب للزجر عما يشتهى وتميل إليه النفس، وهذا مما تعافه وتنفر عنه. فإن قلنا: يحد، ففي حده وجهان: أحدهما: القتل للخبر. والثاني: كحد الزنا؛ لما ذكرنا في اللائط. وإن تدالكت المرأتان، فهما زانيتان، للخبر، ولا حد عليهما؛ لأنه لا إيلاج فيه، فأشبه المباشرة فيما دون الفرج، وعليهما التعزير؛ لأنها فاحشة لا حد فيها، أشبهت المباشرة دون الفرج. فصل ولا يجب الحد إلا بشروط خمسة: أحدها: أن يكون الزاني مكلفاً، كما ذكرنا في السرقة، فإن كان أحد الزانيين غير مكلف، أو مكرهاً، أو جاهلاً بالتحريم، وشريكه بخلاف ذلك، وجب الحد على من هو أهل للحد، دون الآخر؛ لأن أحدهما انفرد بما يوجب الحد، وانفرد الآخر بما يسقطه، فثبت في كل واحد منهما حكمه، دون صاحبه كما لو كان شريكه فذاً. وإن كان أحدهما محصناً، والآخر بكراً. فعلى المحصن حد المحصنين، وعلى البكر حد الأبكار كذلك. وإن أقر أحدهما بالزنا، دون الآخر، حُدّ المقر وحده؛ لما روى سهل بن سعد «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن رجلاً أتاه فأقر عنده أنه قد زنى بامرأة، فسماها له، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون قد زنت، فجلده الحد، وتركها.» رواه أبو داود؛ ولأن عدم الإقرار من صاحبه لا يبطل إقراره، كما لو سكت. فصل الشرط الثاني: أن يكون مختاراً، فإن أكرهت المرأة، فلا حد عليها، سواء أكرهت بالإلجاء أو بغيره، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . وروى سعيد بإسناده عن طارق بن شهاب قال: أتي عمر بامرأة قد زنت، قالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي، فخلى سبيلها ولم يضربها. وروي: أنه أتي بامرأة قد استسقت راعياً، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها. فقال لعلي: ما ترى فيها؟ فقال: إنها مضطرة، فأعطاها شيئاً وتركها. فأما الرجل إذا أكره بالتهديد، فقال أصحابنا: يجب عليه الحد؛ لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث عن الشهوة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 والاختيار، بخلاف المرأة، ويحتمل أن لا يجب عليه حد، لعموم الخبر، ولأن الحد يدرأ بالشبهات، وهذا من أعظمها. فأما إن استدخلت امرأة ذكره وهو نائم، فلا حد عليه؛ لأنه غير مكلف، ولم يفعل الزنا. فصل والثالث: أن يكون عالماً بالتحريم، ولا حد على من جهل التحريم؛ لما روي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما قالا: لا حد إلا على من علمه. وروى سعيد بن المسيب قال: ذكر الزنا بالشام، فقال رجل: زنيت البارحة، قالوا: ما تقول؟ قال: ما علمت أن الله حرمه، فكتب بها إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب: إن كان يعلم أن الله حرمه، فحدوه، وإن لم يكن علم، فأعلموه، فإن عاد فارجموه. وسواء جهل تحريم الزنا، أو تحريم عين المرأة، مثل أن تزف إليه غير زوجته، فيظنها زوجته، أو يدفع إليه غير جاريته، فيظنها جاريته، أو يجد على فراشه امرأة يحسبها زوجته أو جاريته، فيطأها، فلا حد عليه؛ لأنه غير قاصد لفعل المحرم. ومن ادعى الجهل بتحريم الزنا، ممن نشأ بين المسلمين، لم يصدق؛ لأننا نعلم كذبه. وإن كان حديث عهد بالإسلام، أو بإفاقة من جنون، أو ناشئاً ببادية بعيدة عن المسلمين، صدق؛ لأنه يحتمل الصدق، فلم يجب الحد مع الشك في الشرط. وإن ادعى الجهل بتحريم شيء من الأنكحة الباطلة، كنكاح المعتدة، أو وطء الجارية المرهونة بإذن الراهن، وادعى الجهل بالتحريم قُبِلَ؛ لأن تحريم ذلك يحتاج إلى فقه، ويحتمل أن لا يقبل، إلا ممن يقبل قوله في الجهل بتحريم الزنا؛ لأنه زنا، والأول أصح؛ لما روي عن عبيد بن نضلة قال: رفع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امرأة تزوجت في عدتها، فقال: هل علمتما؟ فقالا: لا. قال: لو علمتما لرجمتكما، فجلده أسواطاً، ثم فرق بينهما. وإن ادعى الجهل بانقضاء العدة، قبل إذا كان يحتمل ذلك؛ لأنه مما يخفى. فصل الرابع: انتفاء الشبهة، فلا حد عليه بوطء الجارية المشتركة بينه وبين غيره، أو وطء مكاتبته، أو جاريته المرهونة، أو المزوجة، أو جارية ابنه، أو وطء زوجته أو جاريته في دبرها، ولا بوطء امرأة في نكاح مختلف في صحته، كالنكاح بلا ولي أو بلا شهود، ونكاح الشغار، والمتعة، وأشباه ذلك؛ لأن الحد مبني على الدرء والإسقاط بالشبهات، وهذه شبهات فيسقط بها. فصل فأما الأنكحة المجمع على بطلانها، كنكاح الخامسة، والمعتدة، والمزوجة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 ومطلقته ثلاثاً، وذوات محارمه من نسب، أو رضاع، فلا يمنع وجوب الحد، لما ذكرنا من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وروى أبو بكر بإسناده عن خلاس عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه رفع إليه امرأة تزوجت ولها زوج، فكتمته، فرجمها وجلد زوجها الآخر مائة جلدة، ولأنه وطء محرم بالإجماع في غير ملك، ولا شبهة ملك، أشبه وطأها قبل العقد. وفي حد الواطئ لذات محرمه بعقد أو بغير عقد، روايتان: إحداهما: حده حد الزنا؛ لعموم الآية والخبر فيه. والثانية: يقتل بكل حال، لما «روى البراء قال: لقيت عمي ومعه الراية، قال: فقلت: إلى أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده، أن أضرب عنقه، وآخذ ماله.» قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى ابن ماجه بإسناده عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقع على ذات محرم فاقتلوه» . فصل فإن ملك من يحرم عليه بالرضاع، كأمه، وأخته، فوطئها، ففيه وجهان: أحدهما: عليه الحد؛ لأنها لا تستباح بحال، فأشبهت المحرمة بالنسب. والثاني: لا حد عليه؛ لأنها مملوكته، فأشبهت مكاتبته. بخلاف ذات محرمه من النسب. فإنه لا يثبت ملكه عليها، ولا يصح عقد تزويجها. فصل وإن استأجر أمة ليزني بها، أو لغير ذلك، فزنى بها، فعليه الحد؛ لأنه لا تصح إجارتها للزنا، فوجوده كعدمه، ولا تأثير لعقد الإجارة على المنافع في إباحة الوطء فكان كالمعدوم. ومن وطئ جارية غيره، أو زوجته بإذنه، فهو زان عليه الحد؛ لأنه لا يستباح بالبذل والإباحة، سواء كانت جارية أبيه، أو أمه، أو أخته، أو غيرهم، إلا جارية ابنه، لما ذكرنا، وذكر ابن أبي موسى قولاً في الابن يطأ جارية أبيه: لا حد عليه؛ لأنه لا يقطع بسرقة ماله، فلا يلزمه حد بوطء جاريته، كالأب، وجارية زوجته، إذا أذنت له في وطئها، فإنه يجلد مائة، ولا يرجم بكراً كان، أو ثيباً، ولا تغريب عليه؛ لما روى حبيب بن سالم أن عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إن كانت أحلتها لك، جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك، رجمتك بالحجارة، فوجدوه قد أحلتها له، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 فجلده مائة. رواه أبو داود. فإن علقت منه. فهل يلحقه نسبه؟ فيه روايتان: إحداهما: يلحق به؛ لأنه وطء لا حد فيه، أشبه وطء الأمة المشتركة. والثانية: لا يلحق به؛ لأنه وطء في غير ملك، ولا شبهة ملك، أشبه ما لو لم تأذن له. فصل الخامس: ثبوت الزنا عند الحاكم؛ لما ذكرنا في السرقة، ولا يثبت إلا بأحد شيئين: إقرار، أو بينة؛ لأنه لا يعلم الزنا الموجب للحد إلا بهما، ويعتبر في الإقرار ثلاثة أمور: أحدها: أن يقر أربع مرات، سواء كان في مجلس واحد، أو مجالس؛ لما روى أبو هريرة قال: «أتى رجل من الأسلميين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أبك جنون قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارجموه» متفق عليه. ولو وجب الحد بأول مرة، لم يعرض عنه. وفي حديث آخر: «حتى قالها أربع مرات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك قد قلتها أربع مرار، فبمن؟ قال: بفلانة» . رواه أبو داود. وفي حديث، «فقال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - له عند النبي: إن أقررت أربعاً، رجمك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . الأمر الثاني: أن يذكر حقيقة الفعل؛ لما روينا في أول الباب، ولأنه يحتمل أن يعتقد أن ما دون ذلك زنا موجب للحد، فيجب بيانه. فإن لم يذكر حقيقته، استفصله الحاكم، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماعز. الثالث: أن يكون ثابت العقل. فإن كان مجنوناً، أو سكراناً، لم يثبت بقوله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لماعز: «أبك جنون» وروي أنه استنكهه، ليعلم أبه سكر، أم لا، ولأنه إذا لم يكن عاقلاً، لا تحصل الثقة بقوله. فصل وإن ثبتت ببينة، اعتبر فيهم ستة شروط: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 أحدها: أن يكونوا أربعة؛ لقول الله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] . وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . الثاني: أن يكونوا رجالاً كلهم؛ لأن في شهادة النساء شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. والثالث: أن يكونوا أحراراً؛ لأن شهادة العبيد مختلف فيها، فيكون ذلك شبهة فيما يدرأ بالشبهات. الرابع: أن يكونوا عدولاً؛ لأن ذلك مشترط في سائر الحقوق، ففي الحد أولى. الخامس: أن يصفوا الزنا، فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها، كالمرود في المكحلة؛ لما ذكرنا في الإقرار. السادس: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد، سواء جاءوا جملة، أو سبق بعضهم بعضاً؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة، حدهم حد القذف، ولو لم يشترط المجلس، لم يجز أن يحدهم؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو جاء الرابع بعد حد الثلاثة، لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط المجلس، لوجب أن يقبل. فصل وإن حبلت امرأة لا زوج لها، ولا سيد، لم يلزمها حد؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه: أتى بامرأة ليس لها زوج وقد حملت، فسألها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقالت: إني امرأة ثقيلة الرأس، ووقع علي رجل، وأنا نائمة، فما استيقظت حتى فرغ، فدرأ عنها الحد؛ ولأنه يحتمل أن يكون من وطء شبهة، أو إكراه. والحد يدرأ بالشبهات. ولا يجوز للحاكم أن يقيم الحد بعلمه؛ لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه متهم في حكمه بعلمه، فوجب أن لا يتمكن منه مع التهمة فيه. فصل ومن وجب عليه حد الزنا، لم يخل من أحوال أربعة: أحدها: أن يكون محصناً، فحده الرجم حتى الموت؛ لما روي عن عمر بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن الله بعث محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها، وعقلتها، ووعيتها، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى. فالرجم حق على من زنى وقد أحصن من الرجال والنساء إذا قامت ببينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف. وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة، متفق عليه؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزاً والغامدية، ورجم الخلفاء بعده. وهل يجب الجلد مع الرجم؟ فيه روايتان: إحداهما: يجب؛ لقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فلما وجب الرجم بالسنة، انضم إلى ما في كتاب الله تعالى، ولهذا قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في شراحة: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . رواه مسلم. والثانية: لا جلد عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزاً والغامدية، ولم يجلدهما. وقال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» . ولم يأمره بجلدها، ولو وجب لأمر به، ولأنه معصية توجب القتل، فلم توجب عقوبة أخرى، كالردة. الثاني: الحر غير المحصن، فحده مائة جلدة وتغريب عام؛ للآية وخبر عُبادة. الثالث: المملوك، فحده خمسون جلدة بكراً كان أو ثيباً، رجلاً أو امرأة، لقول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . والعذاب المذكور في الكتاب مائة جلدة، فنصف ذلك خمسون، ولا تغريب عليه؛ لأن تغريبه إضرار بسيده دونه، ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن. فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير» متفق عليه. ولم يأمر بتغريبها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 الرابع: من بعضه حر، فحده بالحساب من حد حر وعبد. فالذي نصفه حر، حده خمس وسبعون جلدة، وتغريب نصف عام؛ لأنه يتبعض، فكان في حقه بالحساب، كالميراث. والمكاتب، وأم الولد، والمدبر حكمهم حكم القن في الحد؛ لأنهم عبيد، ومن لزمه حد وهو رقيق، فعتق قبل إقامته، فعليه حد الرقيق؛ لأنه الذي وجب عليه. ولو زنى ذمي حر، ثم لحق بدار الحرب، فاسترق، حد حد الأحرار كذلك. فصل والمحصن: من كملت فيه أربعة أشياء: أحدها: الإصابة في القبل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . ولا يكون ثيباً إلا بذلك. الثاني: كون الوطء في نكاح. فلو وطئ بشبهة، أو زنا، أو تسرية، لم يصر محصناً، للإجماع، ولأن النعمة إنما تكمل بالوطء في ذلك. ولو وطئ في نكاح فاسد، لم يصر محصناً؛ لأنه ليس بنكاح في الشرع، ولذلك لا يحنث به الحالف على اجتناب النكاح. الثالث: كون الوطء في حال الكمال بالبلوغ، والعقل، والحرية؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . فلو كان الوطء بدون الكمال إحصاناً، لما علق الرجم بالإحصان؛ لأنه من لم يكمل بهذه الأمور، لا يرجم، ولأن الإحصان كمال، فيشترط أن يكون في حال الكمال. الرابع: أن يكون شريكه في الوطء مثله في الكمال؛ لأنه إذا كان ناقصاً لم يحصل الإحصان، فلم يحصل لشريكه كوطء الشبهة. ولا يشترط الإسلام في الإحصان؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بيهوديين زنيا فرجمهما» . وإن تزوج مسلم ذمية، فأصابها، صارا محصنين؛ لكمال الشروط الأربعة فيهما. فصل ومن حرمت مباشرته بحكم الزنا واللواط، حرمت مباشرته فيما دون الفرج لشهوة، وقبلته، والتلذذ بلمسه لشهوة، أو نظرة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» . فإذا حرمت الخلوة بها، فمباشرتها أولى؛ لأنها أدعى إلى الزنا، ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 حد في هذا؛ لما روى ابن مسعود «أن رجلاً جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إني وجدت امرأة في البستان، فأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها، فافعل بي ما شئت، فقرأ عليه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] .» متفق عليه، وعليه التعزير؛ لأنها معصية ليس فيها حد ولا كفارة، فأشبهت ضرب الناس والتعدي عليهم. فصل ويحرم وطء امرأته وجاريته في دبرهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن» رواه ابن ماجه، ولأنه ليس بمحل للولد أشبه دبر الغلام، ولا حد فيه؛ لأنه في زوجته وما ملكت يمينه، فيكون شبهة، ولكن يعزر، لما ذكرناه، ويحرم الاستمناء باليد؛ لأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل، فحرمت كاللواط، ولا حد فيه؛ لأنه لا إيلاج فيه، فإن خشي الزنا، أبيح له؛ لأنه يروى عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فصل ومن أتى بهيمة، وقلنا: لا يحد، فعليه التعزير، ويجب قتل البهيمة؛ لحديث ابن عباس، فإن كانت مأكولة، ففيها وجهان: أحدهما: تذبح، ويحل أكلها؛ لقول الله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] . والثاني: تحرم؛ لأن ابن عباس قال: ما أرى أنه أمر بقتلها إلا لأنه كره أكلها، وقد عمل بها بذلك العمل؛ ولأنه حيوان أبيح قتله لحق الله تعالى، فحرم أكله، كالفواسق. فإن كانت البهيمة لغيره، وجب عليه ضمانها إن منعناه أكلها؛ لأنه سبب تلفها. إن أبيح أكلها، لزمه ضمان نقصها. فصل ولا يؤخر حد الزنا، لمرض ولا شدة حر، ولا برد؛ لأنه واجب فلا يجوز تأخيره لغير عذر، وقد روي عن عمر أنه أقام الحد على قدامة بن مظعون وهو مريض؛ لأنه إن كان رجماً فالمقصود قتله، فلا معنى لتأخيره، وإن كان جلداً أمكن الإتيان به بسوط يؤمن معه التلف في حال المرض، فلا حاجة إلى التأخير. ويحتمل أن يؤخر الجلد عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 المريض المرجو زوال مرضه؛ لما «روى علي أن جارية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي، فقال: أحسنت» رواه مسلم. فصل ولا يحفر للمرجوم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحفر لماعز، وسواء كان رجلاً أو امرأة. قال أحمد: أكثر الأحاديث على أنه لا يحفر للمرجوم. وقال القاضي: إن ثبت زنا المرأة بإقرارها، لم يحفر لها لتتمكن من الهرب إن أرادت، وإن ثبت ببينة، حفر لها إلى الصدر؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم امرأة، فحفر لها إلى الثندوة.» رواه أبو داود. ولأنه أستر لها، وعلى كل حال يشد على المرأة ثيابها، لئلا تتكشف، ويدور الناس حول المرجوم، ويرجمونه حتى يموت، فإن هرب المحدود والحد ببينة أتبع حتى يقتل؛ لأنه لا سبيل إلى تركه، وإن ثبت بإقراره، ترك؛ لما روي «أن ماعز بن مالك لما وجد مس الحجارة خرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز عنه أصحابه، فنزع له بوظيف بعير، فرماه به، فقتله، ثم أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر ذلك له، فقال: هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه» رواه أبو داود؛ ولأنه يحتمل أن ذلك لرجوعه عن الإقرار، ورجوعه مقبول. فإن لم يترك، وقتل، فلا ضمان فيه؛ لحديث ماعز، ولأن إباحة دمه متيقنة، فلا يجب ضمانه بالشك، وإن ترك، ثم أقام على الإقرار، أقيم عليه الحد. فصل وإن كان الحد جلداً، لم يمد المحدود، ولم يربط؛ لما روي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ليس في هذه الأمة مد، ولا تجريد، ولا غل، ولا صفد، ويفرق الضرب على أعضائه كلها إلا وجه، والرأس، والفرج، وموضع القتل؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال للجلاد: اضرب، وأوجع، واتق الرأس والوجه والفرج. وقال: لكل موضع من الجسد حظ إلا الوجه والفرج؛ ولأن القصد الردع، لا القتل. ويضرب الرجل قائماً، ليتمكن من تفريق الضرب على أعضائه، والمرأة جالسة؛ لأنه أستر لها، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها لئلا تتكشف. فصل فإن كان مريضاً، أو نضو الخلق. أو في شدة حر، أو برد، أقيم الحد بسوط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 يؤمن التلف معه، فإن كان لا يطيق الضرب لضعفه وكثرة ضرره، ضرب بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، أو ضربتين، أو بسوط فيه خمسون شمراخاً؛ لما روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف «عن بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلداً على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل ما به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يؤخذ له مائة شمراخ، فيضربونه بها ضربة واحدة.» أخرجه أبو داود والنسائي. فصل ومن لزمه التغريب، غرب عاما إلى مسافة القصر؛ لأن أحكام السفر من القصر والفطر لا تثبت بدونه. وعنه في المرأة: إنها تغرب إلى ما دون مسافة القصر؛ لتقرب من أهلها، فيحفظونها، ويحتمل مثل ذلك في الرجل؛ لأنه يسمى نفيا وتغريبا، فيتناوله لفظ الخبر. وحيث رأى الإمام أن يغربه فله ذلك، وإن كان بعيدا؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غرب إلى الشام والعراق. وإن رأى الزيادة على الحول لم يجز؛ لأن مدة الحول منصوص عليها، فلم يدخلها الاجتهاد، والمسافة غير منصوص عليها فرجع فيها إلى الاجتهاد. ومتى عاد قبل الحول رد إلى التغريب حتى يكمل الحول. فإن زنى الغريب غرب إلى غير بلده، فإن زنى في البلد الآخر غرب إلى غيره؛ لأن الأمر بالنفي يتناوله حيث كان. فصل لا تغرب المرأة إلا مع ذي محرم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ليلة إلا مع ذي حرمة من أهلها» فإن أعوز المحرم، خرجت مع امرأة ثقة، فإن أعوز، استؤجر لها من مالها محرم لها، فإن أعوز، فمن بيت المال، فإن أعوز، نفيت، بغير محرم؛ لأنه حق لا سبيل إلى تأخيره، فأشبه الهجرة. ويحتمل سقوط النفي هاهنا؛ لئلا يفضي إلى إغرائها بالفجور، وتعريضها للفتنة، ومخالفة خبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر بغير محرم، ويخص عموم حديث النفي بخبر النهي عن السفر بغير محرم، ويحتمل أن تنفى إلى دون مسافة القصر جمعاً بين الخبرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 فصل ويجب أن يحضر حد الزنا طائفة؛ لقول الله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . وقال أصحابنا: أقل ذلك واحد مع الذي يقيم الحد؛ لأن اسم الطائفة يقع على واحد، بدليل قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} [الحجرات: 9] إلى قَوْله تَعَالَى: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقد فسره ابن عباس بذلك. والمستحب أن يحضر أربعة؛ لأن بهم يثبت الحد، والله أعلم. [ باب حد القذف ] باب حكم القذف وهو الرمي بالزنا، وهو محرم وكبيرة؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله، ما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات» متفق عليه. فصل ويجب الحد على القاذف بشروط أربعة: أحدها: أن يكون مكلفاً لما تقدم. والثاني: أن يكون المقذوف محصناً؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . مفهومه أنه لا يجلد بقذف غير المحصن. والمحصن: هو الحر المسلم العاقل العفيف عن الزنا الذي يجامع مثله، فلا يجب الحد على قاذف الكافر، والمملوك، والفاجر؛ لأن حرمتهم ناقصة، فلم تنتهض لإيجاب الحد، ولا يجب على قاذف الجنون؛ لأن زناه لا يوجب الحد عليه، فلم يجب الحد بالقذف به، كالوطء دون الفرج، ولا يجب الحد على قاذف الصغير الذي لا يجامع مثله كذلك، ولأنه يتيقن كذب القاذف فيلحق العار به، دون المقذوف. وهل يشترط البلوغ؟ فيه روايتان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 إحداهما: يشترط؛ لما ذكرنا في المجنون. والثانية: لا يشترط، بل متى قذف من يجامع مثله، فعليه الحد؛ لأنه عاقل حر عفيف، يتعير بالقذف، أشبه البالغ. وإن قذف مجبوباً، أو رتقاء، فعليه الحد، لعموم الآية؛ ولأن تعذر الوطء في حقهما بأمر خفي لا يعلم به، فلا ينتفي العار عنه. فصل الثالث: أن يكون القاذف والداً، فإن قذف والد ولده وإن سفل، فلا حد عليه، أباً كان أو أماً؛ لأنها عقوبة تجب لحق الآدمي، فلم تجب لولد على والده، كالقصاص. ولو قذف زوجته، فماتت وله منها ولد، أو قذفت زوجها ولها منه ولد، سقط الحد؛ لأنه لما لم يثبت له على والده بقذفه، فلم يثبت له عليه بالإرث. وإن كان للميت ولد آخر من غيره، ثبت الحد؛ لأنه يثبت لكل واحد من الورثة على الانفراد. فصل الرابع: أن يقذف بالزنا الموجب للحد، فإن قذف بالوطء دون الفرج والقبلة، لم يجب الحد به، لما تقدم. والقذف صريح وكناية؛ فالصريح أن يقول: زنيت، أو يا زاني، أو زنى فرجك، أو دبرك أو ذكرك، ونحوه مما لا يحتمل غير القذف، فهذا يجب به الحد، ولا يقبل تفسيره بما يحيله؛ لأنه صريح فيه، أشبه التصريح بالطلاق. وإن قال: يا لوطي، فقال أكثر أصحابنا: هو صريح، وقال الخرقي: إذا قال: أردت أنك من قوم لوط، فلا حد عليه، وهذا بعيد؛ لأن قوم لوط أهلكهم الله فلم يبق منهم أحد. وإن قال: زنى فلان، وأنت أزنى منه، فهو قاذف لهما؛ لأنه وصف هذا بالزنى على وجه المبالغة؛ لأن لفظة أفعل للتفضيل. وإن قال: أنت أزنى من فلان، أو أزنى الناس، فهو قاذف للمخاطب كذلك، وليس بقاذف لفلان؛ لأن لفظة أفعل يستعمل للمنفرد بالفعل، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} [يونس: 35] وإخباره عن قوم لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] وقال القاضي: هو قذف لهما؛ لأن لفظة أفعل يقتضي اشتراكهما في الفعل، وانفراد أحدهما بمزية. وإن قال: زنأت بالهمزة، فهو قذف في قول أبي بكر وأبي الخطاب؛ لأن العامة لا تفهم منه إلا القذف. وقال ابن حامد: إن كان القاذف عامياً فهو قاذف، وإن كان يعلم العربية، فليس بقاذف؛ لأن معناه طلعت، كما قال الشاعر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل وسواء قال في الجبل، أو لم يقل؛ لأن معناها لا يختلف بذلك وعدمه. وإن قال لرجل: يا زانية، أو لامرأة: يا زاني، فهو قاذف لهما؛ لأن اللفظ صريح في الزنا وزيادة هاء التأنيث في المذكر، وحذفها من المؤنث خطأ لا يغير المعنى، فلم يمنع الحد كاللحن، هذا قول أبي بكر. وقال ابن حامد: ليس بقذف يوجب الحد؛ لأنه يحتمل أن يريد بذلك أنك علامة في الزنا، كالراوية والحفظة. وإن قال لامرأة: زنيت بفتح التاء، ولرجل زنيت بكسرها، فهو قاذف لهما؛ لأنه خاطبهما بنسبة الزنا إليهما، فأشبه ما لو لم يلحن. وإن قذف رجلاً. فقال آخر: صدقت، ففي المصدق وجهان: أحدهما: يكون قاذفاً؛ لأن تصديقه ينصرف إلى الكلام الذي قبله، كما لو قال: لي عليك ألف. قال: صدقت. والثاني: لا يكون قذفاً؛ لأنه يحتمل بتصديقه في غير هذا. وإن قال: أخبرني فلان أنك تزني، فكذبه الآخر، فليس بقاذف؛ لأنه إنما أخبر عن غيره، فأشبه ما لو صدقه الآخر، ويحتمل أنه قاذف، ذكره أبو الخطاب؛ لأنه نسب إليه الزنا. وإن قال رجل لامرأة: زنيت، فقالت: بك، فلا حد عليهما؛ لأنها صدقته، فسقط الحد عنه، ولا حد عليها؛ لأنها لم تقذفه؛ لأنه يتصور زناها به من غير أن يكون زانياً، بأن تكون عالمة بأنه أجنبي، وهو يظنها زوجته، أو نائماً، استدخلت ذكره ونحو ذلك. وإن قال: زنت يداك، أو رجلاك، لم يكن قاذفاً في ظاهر المذهب، وهو قول ابن حامد؛ لأن زنا هذه الأعضاء لا يوجب الحد، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، يصدق ذلك الفرج، أو يكذبه» . ويحتمل أن يكون قاذفاً؛ لأنه أضاف الزنا إلى عضو منه، فأشبه ما لو قال: زنى فرجك. وإن قال: زنى بدنك، ففيه وجهان: أحدهما: هو كقوله: زنت يداك؛ لأن الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة، فلم يكن قذفاً. والثاني: عليه الحد؛ لأنه أضاف الزنا إلى جميع البدن والفرج منه. فصل وأما الكناية، فنحو قوله: يا قحبة، يا فاجرة، يا خبيثة، أو يقول للرجل: يا مخنث، أو يا نبطي يا فارسي وليس هو كذلك، أو يقول لزوجة رجل: قد فضحتيه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 وجعلت له قروناً، ونكست رأسه، أو يقول لمن يخاصمه: يا حلال ابن الحلال ما يعرفك الناس بالزنا، ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، فهذا ليس صريح في القذف؛ لأنه يحتمل الفجور، والخبث بغير الزنا. والقحبة المتعرضة للزنا وإن لم تفعله، والمخنث المتطبع بطباع التأنيث، وسائر ما ذكرنا يحتمل غير الزنا، فلم يجب به الحد مع الاحتمال. وعنه: أن الحد يجب بذلك كله؛ لما روى سالم عن أبيه: أن رجلاً قال: ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، فجلده عمر الحد. وروى الأثرم: أن عثمان جلد رجلاً قال لآخر: يا ابن شامة الوذر، يعرض بزنا أمه؛ ولأن هذه الألفاظ يراد بها القذف عرفاً فجرت مجرى الصريح، ولأن الكناية مع القرينة كالصريح في إفادة الحكم، بدليل الطلاق والعتاق، كذا هاهنا. وفيما إذا قال: يا نبطي قد نفاه عن نسبه، فيكون قاذفاً لأمه أو لإحدى جداته. وإن قال لثابت النسب: لست بابن فلان، فهو قذف لأمه في الظاهر من المذهب؛ لما روي عن ابن مسعود أنه قال: لا حد إلا في اثنين، قذف محصنة، أو نفي رجل عن أبيه؛ ولأنه لا يكون لغير أبيه إلا بزنا أمه. ويحتمل ألا يكون قذفاً؛ لأنه يحتمل أنه لا تشبهه في كرمه وأخلاقه. وإن كان الولد منفياً باللعان، فليس بقذف؛ لأن الشرع نفاه. وإن قال لابنه: لست بابني، فقال القاضي: ليس بقذف؛ لأن الإنسان يغلظ لولده في القول تأديباً. فصل ومن قال لامرأة: أكرهت على الزنا، فلا حد عليه؛ لأنه لم يقذفها بالزنا وعليه التعزير؛ لأنه ألحق بها العار. وكل موضع لا يجب فيه الحد مما ذكرنا، يوجب التعزير؛ لأنه أذى لمن لا يحل أذاه. وإذا تقاصر عن الحد، أوجب التعزير، كالزنا فيما دون الفرج. فصل وحد القذف ثمانون جلدة إن كان القاذف حراً؛ لقول الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وإن كان عبداً، فأربعون؛ لما روى يحيى بن سعيد الأنصاري قال: ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مملوكاً افترى على حر ثمانين، فبلغ عبد الله بن عامر بن ربيعة، فقال: أدركت الناس زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى اليوم، فما رأيت أحدا ضرب المملوك المفتري ثمانين قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو؛ ولأنه حد يتبعض. فكان المملوك على النصف من الحر، كحد الزنا. وإن كان القاذف بعضه حر، فعليه بالحساب لما ذكرنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 فصل والحد في القذف والتعزير الواجب بما دونه حق للمقذوف، يستوفى إذا طالب، ويسقط إذا عفا عنه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج يقول: تصدقت بعرضي» والصدقة بالعرض لا تكون إلا بالعفو عما يجب له، ولأنه جزاء جناية عليه لا يستوفى إلا بمطالبته، فكان له، كالقصاص. وعنه: أنه حق لله تعالى؛ لأنه حد فكان حقاً لله كسائر الحدود. فعلى هذا لا يستوفى إلا بمطالبة الآدمي، ولا يسقط بعد وجوبه بالعفو، كالقطع في السرقة. ولو قال لغيره: اقذفني، فقذفه، لم يجب الحد؛ لأنه إذن في سبه، فلم يوجب الحد كالقصاص، والقطع في السرقة. فصل وإن جن من له الحد، لم يكن لوليه المطالبة به؛ لأنه يجب للتشفي، ودرك الغيظ، فأخر إلى الإفاقة، كالقصاص. وإن قذف مملوكاً، فالطلب بالتعزير والعفو عنه له، دون سيده؛ لأنه ليس بمال، ولا بدل مال، فأشبه فسخ النكاح للمعتقة تحت العبد. وإن مات العبد، سقط؛ لأنه لو ملكه السيد بحق الملك، لملكه في حياته، والعبد لا يورث. وإن سمع الإمام رجلاً يقذف آخر في حضرته، أو غيبته، لم يلزمه أن يسأله عن ذلك ويحققه؛ لأن القذف لا يوجب حداً حتى يطالب به صاحبه، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات فلا يجب المبالغة في إثباتها. فصل ومن قذف جماعة لا يتصور الزنا من جميعهم، كأهل البلدة الكبيرة، فلا حد عليه؛ لأنه لا عار على المقذوف بذلك، للقطع بكذب القاذف، وإن قذف جماعة يمكن زناهم بكلمات، فعليه لكل واحد حد. وإن قذفهم بكلمة واحدة. ففيه ثلاث روايات: إحداهن: عليه حد واحد؛ لأن كلمة القذف واحدة، فلم يجب بها أكثر من حد واحد، كما لو كان المقذوف واحداً، ولأنه بالحد الواحد يظهر كذبه، ويزول عار القذف عن جميعهم، فعلى هذا إن طلبه الجميع أقيم لهم، وإن طلبه واحد، أقيم له، أيضاً، ولا مطالبة لغيره. وإن أسقط أحدهم حقه، لم يسقط حق غيره؛ لأنه ثابت لهم على سبيل البدل، فأشبه ولاية النكاح. والثاني: عليه لكل واحد حد؛ لأنه قذفه، فلزمه الحد له، كما لو قذفه بكلمة مفردة. والثالث: إن طلبوه جملة، فحد واحد؛ لأنه يقع استيفاؤه لجميعهم. وإن طلبوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 متفرقاً، أقيم لكل مطالب مرة؛ لأن استيفاء المطالب الأول له خاصة، فلم يسقط به حق الباقين. وإن قال لامرأة: زنى بك فلان، فهي كالتي قبلها؛ لأنه قذفهما بكلمة واحدة ويحتمل ألا يجب إلا حد واحد، وجهاً واحداً؛ لأن القذف لهما بزنا واحد، يسقط حده ببينة واحدة، ولعان واحد إن كانت المرأة زوجته. فصل ومن وجبت عليه حدود قذف لجماعة، فأيهم طالب بحده، استوفي له، ثم إذا طالب غيره استوفي له، كالديون. فإن اجتمعا في الطلب قدم أسبقهما حقاً؛ لأن السابق أولى. فإن تساويا، أقرع بينهما إن تشاحا. ولو قال: يا زاني ابن الزانية، كان قاذفاً لهما بكلمتين. فأيهما طالب حد له. فإن اجتمعا وتشاحا، حد للابن أولاً؛ لأنه بدأ بقذفه، ثم يحد لأمه. ومتى حد مرة، لم يحد لآخر حتى يبرأ ظهره؛ لأنه لا يؤمن مع الموالاة التلف. فإن كان القاذف عبداً فكذلك؛ لأنهما حدان، فأشبها حدي الحر. ويحتمل أن لا يوالى بينهما، ولأنهما جميعاً كحد حر، فيوالى بينهما، كما يوالى بينه. فصل وإن قذف واحداً مرات، ولم يحد، فحد واحد؛ لأنها من جنس واحد لمستحق واحد. فإذا كانت قبل الإقامة، تداخلت، كسائر الحدود، وإن حد مرة، ثم قذفه بذلك الزنا، عزر ولم يحد؛ لأن أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا، فجلده عمر، ثم أعاد أبو بكرة القذف، فأراد عمر جلده، فقال علي: إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبه، فترك عمر جلده. يعني: إن نزلته منزلة أجنبي شهد بزناه، فقد كملت شهادة أربعة. فإن لم تجعله كشاهد آخر، فلا تحده، ولأنه قد حصل التكذيب بالحد، فاستغني عما سواه. وإن قذفه بزنا آخر عقيب الحد، ففيه روايتان: إحداهما: يحد؛ لأنه قذف بعد الحد، لم يظهر كذبه فيه بحد، فلزمه الحد، كما لو قذفه بعد زمن طويل. والثانية: لا حد عليه؛ لأنه قد حد له مرة، فلا يحد له ثانياً، كما لو قذفه بالزنا الأول. وإن قذفه بعد طول الفصل، حد؛ لأنه لا تسقط حرمة عرض المقذوف بإقامة الحد له، وذكر القاضي فيها روايتين كالتي قبلها: فصل وإذا قال الرجل: يا ولد الزنا، أو يا ابن الزانية، فهو قاذف لأمه. فإن كانت حية، فهو قاذف لها دونه؛ لأن الحق لها، ويعتبر فيها شروط الإحصان؛ لأنها المقذوفة. وإن كانت أمه ميتة، فالقذف له؛ لأنه قدح في نسبه. وعلى سياق هذا، لو قذف جدته، ملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 المطالبة بالحد؛ لما روى الأشعث بن قيس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا أوتى برجل يقول: إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته» لقول ابن مسعود: لا حد إلا في قذف محصنة، أو نفي رجل عن أبيه. فعلى هذا، يعتبر الإحصان في الرجل، دون أمه. فلو كانت أمه ميتة أو مشركة، أو أمة، وهو محصن، لوجب له. وهذا اختيار الخرقي، وقال أبو بكر: لا حد على قاذف ميت؛ لأنه لا يطالب فلم يحد قاذفه كما لو قذف غير الأم، ولا خلاف في أنه لو قذف أباه أو أخاه، لم يلزمه حد؛ لأنه لم يقدح في نسبه، بخلاف مسألتنا، ولو مات المقذوف قبل المطالبة بالحد، لم يجب. وإن مات بعد المطالبة به، قام وارثه مقامه؛ لأنه حق له يجب بالمطالبة، فأشبه رجوع الأب فيما وهب لولده. فصل وإذا شهد على إنسان بالزنا دون الأربعة، فعليهم الحد، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ولأن أبا بكرة، ونافعاً وشبل بن معبد، شهدوا على المغيرة بن شعبة، ولم يكمل زياد شهادته، فحد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الثلاثة بمحضر من الصحابة، فكان ذلك إجماعاً، وكذلك إن لم يكمل الرابع شهادته، فعليهم الحد كذلك. وإن شهد ثلاثة، وزوج المرأة، حد الثلاثة؛ لأن الزوج غير مقبول الشهادة على زوجته بالزنا، لإقراره على نفسه بعداوتها، لجنايتها عليه، بإفساد فراشه، وإلحاق العار به، وعلى الزوج الحد، إلا أن يسقطه عنه بلعانه. وإن شهد أربعة، فبانوا فساقاً، أو عبيداً، أو عمياناً، أو بعضهم، ففيهم ثلاث روايات: إحداهن: عليهم الحد؛ لأن شهادتهم بالزنا لم تكمل، فلزمهم الحد، كما لو شهد ثلاثة. والثانية: لا حد عليهم؛ لقول الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وهؤلاء أربعة؛ ولأنه أحرزوا ظهورهم بكمال عددهم، فأشبه ما لو شهد أربعة بزناها، فشهد ثقات أنها عذراء. والثالثة: إن كانوا عمياناً، فعليهم الحد، وإن كانوا فساقاً، أو عبيداً، فلا حد عليهم؛ لأن الأعمى يشهد بما لم يره يقيناً، فيكون شاهد زور يقيناً، وغيرهم بخلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 ذلك. وإن كان فيهم صبي، أو مجنون، أو من لا تقبل شهادته، فكذلك، والأولى أصح؛ لأن من لا شهادة له، وجوده كعدمه، فأشبه نقص العدد. ولو شهد ثلاثة رجال وامرأتان، حد الجميع؛ لأن شهادة النساء في هذا الباب، كعدمها. فصل وإن شهد أربعة بالزنا، ثم رجع أحدهم، فعليهم الحد؛ لأنه نقص عدد الشهود، فلزمهم الحد، كما لو كانوا ثلاثة. وعنه: يحد الثلاثة دون الرابع، اختارها أبو بكر، وابن حامد؛ لأن رجوعه قبل الحد، كالتوبة قبل تنفيذ الحكم، فيسقط الحد عنه، وإن رجعوا كلهم، فعليهم الحد؛ لأنهم يقرون على أنفسهم أنهم قذفة، ويحتمل أن لا يجب عليهم الحد، كالتي قبلها، وإن شهد أربعة، فلم تكمل شهادتهم، لاختلافهم في المكان أو الزمان. أو كونهم لم يأتوا في مجلس واحد، أو لم يصفوا الزنا، أو بعضهم، فهم قذفة، عليهم الحد؛ لأن شهادة الأربعة لم تكمل، فلزمهم الحد، كما لو نقص عددهم. وإن شهد أربعة بالزنا على امرأة، فشهد ثقات من النساء أنها عذراء، فلا حد على واحد منهم؛ لأن ثبوت عذرة المرأة، دليل على براءتها، فينتفي الحد عنها. لظهور براءتها، وصدق الشهود محتمل، لجواز أن يطأها، ثم تعود عذرتها، فانتفى الحد عنهم لاحتمال صدقهم. فصل وإذا قذف امرأة، وقال: كنت زائل العقل حين قذفتها، ولم يعرف له زوال عقل قبل ذلك، فالقول قولها؛ لأن الظاهر عقله، فأشبه ما لو ضرب ملفوفاً، وادعى أنه كان ميتاً. وإن عرف له زوال عقل، بجنون، أو تبرسم، أو نحوه، فالقول قوله؛ لأن الأصل براءته من الحد، وصدقه محتمل، ولأن الحد يدرأ بالشبهات. وإن قال: زنيت إذ كنت مشركة، أو أمة، ولم تكن كذلك، حد؛ لأنه يعلم كذبه في وصفها بذلك. وإن كانت مشركة أو أمة، لم يحد؛ لأنه أضاف قذفها إلى حال فيها غير محصنة. وعنه: يحد، حكاها أبو الخطاب؛ لأن القذف في حال لمحصنة. وإن قال: زنيت أنت مشركة، وقال: أردت أنك زنيت في تلك الحال، فقالت: بل قذفتني، ونسبتني إلى الشرك في هذه الحال، فقال القاضي: يحد؛ لأنه خاطبها بالقذف في الحال، فالظاهر إرادة القذف في الحال. واختار أبو الخطاب: أنه لا يحد؛ لأنهما اختلفا في إرادته بكلامه، وهو أعلم بمراده، واللفظ محتمل لما ادعاه، بأن تكون الواو للحال. وإن قال لها: زنيت، ثم قال: أردت في الحال التي كنت غير محصنة، وقالت: أردت قذفي في الحال، حد؛ لأنه قذفها في الحال، فلا يقبل قوله فيما يحيله، وإن قال: إنما كان قذفي لك قبل إحصانك، وقالت: بل بعده. فإن ثبت أنها كانت غير محصنة، فالقول قوله؛ لأن الأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 براءة ذمته. وإن لم يثبت ذلك، فالقول قولها؛ لأن الأصل في الدار، الإسلام والحرية، وكذلك إن كانت مسلمة، فادعى أنها ارتدت، فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤها على دينها. فصل وإن ادعت امرأة أو زوجها قذفها، فأنكر، فقامت عليه ببينة، فله أن يلاعن؛ لأن إنكار القذف، لا يكذب ما يلاعن عليه من الزنا؛ لأن القذف الكذب، وهو يدعي أنه صادق، فجاز أن يلاعن، كما لو ادعى عليه وديعة، فقال: ما لك عندي شيء، ثم ادعى تلفها، قبل منه، لكون إنكاره لم يمنع الإيداع، كذا هاهنا. [ باب الأشربة ] كل شراب أسكر كثيره، فقليله حرام؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وكل مسكر خمر، فيدخل في عموم الآية. وقد روى عبد الله بن عمر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» رواه مسلم وأبو داود، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نزل تحريم الخمر. وهي: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر: ما خامر العقل. متفق عليه. وروت عائشة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام» رواه أبو داود؛ ولأنه شراب يسكر كثيره، فحرم قليله، كعصير العنب. فصل وكل عصير غلى، وقذف بزبده، فهو حرام، لما روى الشالنجي بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اشربوا العصير ثلاثاً ما لم يغل» . «وعن أبي هريرة قال: علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صائماً، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به فإذا هو ينش، فقال: اضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر» رواه أبو داود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 والنسائي؛ ولأنه إذا غلى واشتد، صار مسكراً. فإن علم من شيء أنه لا يسكر، كالفقاع، فلا بأس به وإن غلى؛ لأن العلة في التحريم الإسكار، فلا يثبت الحكم بدونها. وإن أتى على العصير ثلاث، فقال أصحابنا: يحرم وإن لم يغل؛ للخبر. «وروى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينبذ له الزبيب، فيشربه اليوم، والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيهراق أو يسقى الخدم» ؛ ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالباً، وهي خفية تحتاج إلى ضابط. والثلاث تصلح ضابطاً لها. وقد قال ابن عمر: اشربه ما لم يأخذه شيطانه. قال: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في الثلاث. والنبيذ، كالعصير فيما ذكرنا. وهو: ماء ينبذ فيه تمرات، أو زبيب، ليجتذب ملوحته، كان أهل الحجاز يفعلونه. فصل ويكره الخليطان. وهو: أن ينبذ في الماء شيئين؛ لما «روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن ينتبذ البسر والرطب جميعاً. ونهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً.» رواه أبو داود. وفي رواية: «وانتبذوا كل واحد على حدة.» قال أحمد: الخليطان حرام. قال القاضي: يعني: إذا اشتد وأسكر. وإنما نهي عنه؛ لأنه يسرع إلى السكر. فإذا لم يسكر، لم يحرم؛ لما «روي عن عائشة قالت: كنا ننبذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب، فنطرحها فيه، ثم نصب عليه الماء، فننبذه غدوة، فيشربه عشية، وننبذه عشية، فيشربه غدوة.» أخرجه أبو داود. ويجوز الانتباذ في الأوعية كلها؛ لما روي عن بريدة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء، غير أن لا تشربوا مسكراً» رواه مسلم. وما لا يسكر من الدبس، والخل، ورب الخروب، وسائر المربيات، فهو حلال؛ لأن تخصيص المسكر بالتحريم دليل على إباحة ما سواه؛ لأن الله تعالى قال: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] . وهذا منها. فصل ومن شرب مسكراً - وهو مسلم مكلف - مختار، يعلم أنها تسكر، لزمه الحد، لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر فاجلدوه» رواه أبو داود؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه جلدوا فيه الحد، وفي قدره روايتان: إحداهما: أربعون؛ لما روى حصين بن المنذر أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، ثم قال: جلد النبي أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين. وكل سنة. وهذا أحب إلي. رواه مسلم. والثانية: ثمانون؛ لما روى أنس، أن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن: اجعله كأخف الحدود، فضرب عمر ثمانين. متفق عليه. وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فاتفقوا عليه، فكان إجماعاً. وحد العبد نصف حد الحر؛ لأنه حد يتبعض، فأشبه الحد في الزنا والقذف. ويجلد بالسوط، ولأن عمر وعلياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جلدا بالسياط، ولأنه حد فيه ضرب، فكان بالسوط، كحد الزنا. فصل ولا يثبت إلا ببينة، أو إقرار. فالبينة شاهدان عدلان. ويقبل فيه إقرار مرة؛ لأنه حد ليس فيه إتلاف بحال، فأشبه حد القذف، ولا يحد بوجود الرائحة منه؛ لأنه يحتمل أنه تمضمض بها، أو ظنها لا تسكر، والحد يدرأ بالشبهات. عنه: أنه يحد؛ لأن عمر وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حدا بالرائحة، وإن وجد سكران، أو تيقنا المسكر، فعن أحمد: أنه لا يحد؛ لأنه يحتمل أن يكون مكرهاً، أو ظن أنها لا تسكر، وعلى الرواية التي يحد بالرائحة، يجب أن يحد هاهنا؛ لأن حصيناً قال: شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر، فشهد أحدهما أنه رآه شربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيأها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلي: أقم عليه الحد، ففعل. وقال عثمان: لقد تنطعت في الشهادة. [ باب إقامة الحد ] لا يجوز لأحد إقامة الحد إلا للإمام، أو نائبه؛ لأنه حق الله تعالى. ويفتقر إلى الاجتهاد. ولا يؤمن في استيفائه الحيف، فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقيم الحد في حياته، ثم خلفاؤه بعده. ولا يلزم الإمام حضور إقامته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 فارجمها» وأمر برجم ماعز ولم يحضر. وأتي بسارق، فقال: «اذهبوا فاقطعوه» . وجميع الحدود في هذا سواء، حد القذف وغيره؛ لأنه لا يؤمن فيه الحيف، والزيادة على الواجب. ويفتقر إلى الاجتهاد، فأشبه سائر الحدود، إلا أن للسيد إقامة الحد على رقيقه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد» . وروى علي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» . ولا يملك إقامته إلا بشروط أربعة: أحدها: أن يكون مكلفاً، عالماً بالحدود وكيفية إقامتها؛ لأنه إذا لم يعلم، لا يمكنه الإتيان به على وجهه. وهل تشترط عدالته؟ فيه وجهان: أحدهما: تشترط؛ لأنه ولاية، فنافاها الفسق، كولاية التزويج؛ ولأنه لا يؤمن من الفاسق التعدي بزيادة أو نقص. والثاني: لا يشترط؛ لأنها ولاية ثبتت بالملك، أشبهت ولاية التأديب. وفي اشتراط الذكورية وجهان، كما ذكرنا في العدالة. فإن قلنا: تشترط، ففي أمة المرأة وجهان: أحدهما: يفوض حدها إلى وليها، كتزويجها. والثاني: يفوض إلى الإمام، كأمة الصغير. وهل تشترط الحرية؟ فيه وجهان. ووجههما ما تقدم. فإن قلنا: تشترط، لم يثبت لمكاتب؛ لأنه ليس من أهل الولاية، ويفوض إلى الإمام. الشرط الثاني: أن يختص بالمملوك، فأما المشترك، والأمة المزوجة، والمكاتبة، فلا يقيم الحد عليهم إلا الإمام؛ لأن ابن عمر قال ذلك، ولا مخالف له في الصحابة، ولأنه لم تكمل ولايته عليهم، فأشبهوا من بعضه حر. الشرط الثالث: أن يكون الحد جلداً، كحد الزنا والشرب والقذف. فأما القطع والقتل في الردة، فلا يملكه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر بالجلد، فلا يثبت في غيره؛ ولأن الجلد تأديب، فيملكه السيد، كتأديبه على حقوقه. وفي تفويضه إليه ستر على عبده، كيلا يفتضح بإقامة الإمام له، فتنقص قيمته. وهذا منتف في القطع والقتل؛ ولأن فيهما إتلافاً فيحتاج إلى مزيد احتياط. قال القاضي: وكلام أحمد يقتضي رواية أخرى: أنه يقيمهما؛ لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» ولأن ابن عمر قطع عبداً سرق. وحفصة قتلت أمة سحرتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 الشرط الرابع: أن يثبت عنده سببه بإقرار، أو بينة. فإن ثبت بإقرار، فللسيد أن يسمعه، ويقيم الحد به إذا كان عالماً بشروط الإقرار وكيفيته. وإن ثبت ببينة، اعتبر ثبوتها عند الحاكم؛ لأن للحاكم ولاية البحث عن العدالة، والاجتهاد فيها، ومعرفة شروطها، بخلاف غيره. وذكر القاضي: أن السيد إن عرف شروطها، وأحسن استماعها، ملك سماعها، وإقامة الحد بها، كالإقرار. ولا يقيم الحد بعلمه ورؤيته؛ لأن الإمام لا يقيمه بعلمه، فالسيد أولى. وعن أحمد: أنه يقيمه بعلمه؛ لأنه ثبت عنده أشبه ما لو أقر به عنده. فصل ولا يقام الحد على حامل حتى تضع، سواء كان الحد رجماً أو غيره؛ لأنه لا يؤمن تلف الولد. وقد روى بريدة: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إني فجرت، فوالله إني لحبلى، فقال لها: ارجعي حتى تلدي فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي، فقال: ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه. فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي، فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحفر لها، وأمر بها فرجمت.» رواه أبو داود. فإن كان الحد قتلاً، فالحكم فيه على ما ذكرنا في القصاص في الحامل. وإن كان جلداً، وكانت عقيب الولادة قوية يؤمن تلفها، أقيم عليها الحد، وإن كانت ضعيفة أو في نفاسها، فقال أبو بكر: يقام حدها بشيء يؤمن معه تلفها، ولا تؤخر، كالمريض. وقال القاضي: ظاهر كلام الخرقي، تأخيرها حتى تطهر من نفاسها، ويؤمن معه تلفها؛ لما روي عن علي قال: «فجرت جارية لآل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا علي انطلق فأقم عليها الحد فانطلقت، فإذا بها دم يسيل لم ينقطع، فأتيته فأخبرته، فقال: دعها حتى ينقطع عنها الدم، ثم أقم عليها.» رواه مسلم بنحو هذا المعنى. ولا يجلد السكران حتى يصحو؛ لأن المقصود زجره وتنكيله، ولا يحصل في حال سكره. فصل ولا يقام الحد في المسجد، جلداً كان أو غيره؛ لما روى حكيم بن حزام، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود» ؛ ولأنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود شيء، فيتلوث به المسجد، فإن أقيم به سقط الفرض؛ لأن المقصود حاصل. والمرتكب للنهي غير المحدود، فلم يمنع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 ذلك سقوط الفرض عنه، كما لو اقتص في غير المسجد. فصل ومن أقيم عليه الحد، فمات منه، فالحق قتله، ولا شيء على من حده جلداً كان أو غيره؛ لأنه حد وجب لله، فلم يود من مات به، كالقطع في السرقة. وإن زاد على الحد، فمات، وجب ضمانه؛ لأنه تعدى تعدياً أعان على تلفه، فوجب عليه ضمانه، كما لو ضربه أجنبي. وفي قدره روايتان: إحداهما: الدية كلها؛ لأنه قتل حصل بأمر من جهة الله، وعدوان، فكان الضمان على العادي الدية، كما لو ضرب مريضاً سوطاً فقتله. والثانية: نصف الدية؛ لأنه مات بفعل مضمون وغيره، فكان على العادي، نصف الدية، كما لو جرح نفسه، وجرحه آخر، فمات. وسواء زاد سوطاً، أو أكثر، وسواء زاد خطأ، أو عمداً؛ لأن الخطأ يضمن، كالعمد. ومتى كانت الزيادة من قبل الجلاد، فالضمان على عاقلته في الخطأ، وشبه العمد. وإن كان له من يعد عليه، إما الإمام، أو غيره، فلم يخبره بانتهاء العدد، فالضمان على من يعد؛ لأن الخطأ منه. وإن أمره الإمام بالزيادة، فزاد جاهلاً بتحريم الزيادة، فالضمان على الإمام، كما لو أمره بقتل معصوم يجهل المأمور حاله. وإن علم تحريم ذلك، فالضمان عليه. وقال القاضي: هو على الإمام، كما لو جهل الحال، ومتى كانت الزيادة من الإمام عمداً، فالضمان على عاقلته؛ لأنه عمد الخطأ، إلا أن يكون مما يقتل غالباً، فعليه في ماله؛ لأنه عمد. وإن كان خطأ، ففيه روايتان: إحداهما: الضمان على عاقلته؛ لأنها جناية خطأ تحمل مثلها العاقلة، فكانت على عاقلته، كما لو أخطأ في غير الحكم. والثانية: هي في بيت المال؛ لأنه نائب الله تعالى، فيتعلق الحكم بمال الله، ولأن خطأه يكثر، فإيجاب عقله على عاقلته إجحاف بهم. فصل وإذا اجتمع عليه حدود من جنس، مثل أن زنى مرات، أو شرب الخمر مرات، ولم يحد، فحد واحد؛ لأنها طهرة سببها واحد، فتداخلت، كالطهارة. وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها، أقيمت كلها؛ لأن أسبابها مختلفة، فلم تتداخل، كالطهارات المختلفة، ويبدأ بالأخف فالأخف؛ لأننا إذا بدأنا بالأغلظ، لم نأمن أن يموت فيفوت به سائرها، وأخفها حد الشرب إن قلنا: هو أربعون، فيبدأ به، ثم بحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 القذف. وإن قلنا: هو ثمانون، بدئ بحد القذف؛ لأنه كحد الشرب في عدده، ويرجح لكونه حق آدمي، ثم بحد الشرب، ثم بحد للزنا، ثم بقطع للسرقة، ولا يقام الثاني حتى يبرأ من الأول؛ لأننا لا نأمن من تلفه بموالاتها، والمقصود زجره لا قتله. وإن اجتمع قطع السرقة، وقطع المحاربة، قطعت يده لهما؛ لأن محلهما واحد، ثم تقطع رجله في الحال؛ لأن قطعهما حد واحد، فتجب الموالاة فيه، كالجلدات في الزنا، فأما إن كان في الحدود لله تعالى قتل، كالرجم في الزنا، أو القتل للمحاربة، قتل، وسقط سائرها؛ لأن ذلك يروى عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنها حدود لله تعالى فيها قتل، فاجتزئ به عنها، كما لو قطع في المحاربة، وأخذ المال، ولأن زجره يحصل بالقتل، فلا حاجة إلى غيره. فصل وإن اجتمعت حدود للآدميين، استوفيت كلها، سواء كان فيها قتل، أو لم يكن. ويبدأ بأخفها، لما ذكرنا. وإن اجتمعت حدود لله تعالى، وللآدمي، ولا قتل فيها استوفيت كلها، إلا أن يتفق الحقان في محل واحد، كالقطع للقصاص والسرقة، فإنه يقدم القصاص؛ لأنه حق آدمي، ويسقط الحد لفوات محله. وإن كان فيها قطع، سقط ما سواه من حدود الله، وتستوفى حقوق الآدميين، ثم يقتل، لما ذكرناه. فصل والضرب في الزنا أشد منه في سائر الحدود؛ لأن الله تعالى، خصه بمزيد تأكيد بقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] ولأن الفاحشة به أعظم، فكانت عقوبته أشد، ثم بعده الضرب في حد القذف؛ لأنه يليه في العدد، وهو حق آدمي، ثم الضرب في الشرب؛ لأنه أخف الحدود، وهو محض حق الله تعالى، ثم التعزير؛ لأنه لا يبلغ به الحد. وذكر الخرقي: أن العبد يضرب بدون سوط الحر؛ لأن حده أقل عدداً، فيكون أخف سوطاً، كالشرب مع الزنا. ويحتمل التسوية بينهما في السوط؛ لأن الله تعالى قال: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . ولا يتحقق النصف إذا نصفنا العدد، إلا مع تساوي السوطين. فصل ويضرب في جميع الحدود بسوط وسط، لا جديد، ولا خلق، لما روي «أن رجلاً اعترف عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا، فدعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوط، فأتي بسوط مكسور، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 فقال: فوق هذا وأتي بسوط جديد لم تكسر ثمرته، فقال: بين هذين.» رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلاً. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين، وهكذا الضرب يكون وسطاً، لا شديد فيقتل، ولا ضعيف فلا يردع، ولا يرفع باعه كل الرفع، ولا يحطه كل الحط، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يبدي إبطه في شيء من الحدود. يعني: لا يبالغ في رفع يده؛ لأن المقصود أدبه، لا قتله. [ باب التعزير ] وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، كوطء جاريته المشتركة، أو المزوجة، ومباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وسرقة ما لا يوجب الحد، والجناية بما لا يوجب القصاص ونحوه؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه سئل عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث. قال: هن فواحش، فيهن تعزير، ليس فيهن حد. ويجوز بالضرب، وبالحبس، والتوبيخ. ولا يجوز قطع شيء من أعضائه، ولا جرحه؛ لأنه لم يرد الشرع بذلك، ولا يتعين الجلد، إلا في وضعين: أحدهما: إذا وطئ جارية زوجته بإذنها، فإنه يجلد مائة؛ لما ذكرنا من حديث النعمان بن بشير. والثاني: إذا وطئ الأمة المشتركة، فإنه يجلد مائة إلا سوطاً؛ لما روى سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد إلا سوطاً، ولا تقدير فيما عداهما، إلا أنه لا يزاد على عشر جلدات؛ لما روى أبو بردة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ولا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» متفق عليه. وعنه: أن وطء الجارية المشتركة، لا يزاد فيه على عشر جلدات، للخبر. وعنه: ما يدل على أن ما كان سببه الوطء يجلد مائة إلا سوطاً؛ لخبر عمر. وما كان سببه غير الوطء، لم يبلغ به أدنى الحدود، فلا يعزر الحر بما يجلد به في الخمر، ولا يبلغ بالعبد حده؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من بلغ حداً في غير حد، فهو من المعتدين» فصل ويجب التعزير في الموضعين اللذين ورد الخبر فيهما، وما عداهما يفوض إلى اجتهاد الإمام؛ لما «روي أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني لقيت امرأة، فأصبت منها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 ما دون أن أطأها، فقال: أصليت معنا؟ قال: نعم. فتلا عليه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] .» فإن جاء تائباً معترفاً يظهر منه الندم والإقلاع، جاز ترك تعزيره للخبر. وإن لم يكن كذلك، وجب تعزيره؛ لأنه أدب مشروع لحق الله تعالى، فوجب كالحد. فصل وإن مات من التعزير، لم يجب ضمانه؛ لأنه مات من عقوبة مشروعة للردع والزجر، فلم يضمن ما تلف بها، كالحد. وإن تجاوز التعزير المشروع، ضمن، كما لو تجاوز الحد في الحد. [ باب دفع الصائل ] كل من قصد إنساناً في نفسه، أو أهله، أو ماله، أو دخل منزله بغير إذنه، فله دفعه؛ لما روى عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل، فهو شهيد» . رواه الخلال بإسناده. وقال الحسن: من عرض لك في مالك، فقاتله، فإن قتلته فإلى النار، وإن قتلك فشهيد؛ ولأنه لو لم يدفعه لاستولى قطاع الطرق على أموال الناس، واستولى الظلمة والفساق على أنفس أهل الدين وأموالهم. ولا يجب الدفع؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في الفتنة: «اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف، فغط وجهك» . وفي لفظ: «فكن كخير ابني آدم» وفي لفظ: «فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» ؛ ولأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يدفع عن نفسه، إلا أن يراد أهله، فيجب الدفع؛ لأنه لا يجوز إقرار المنكر مع إمكان دفعه، وللمسلمين عون المظلوم، ودفع الظالم؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قال: كيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: ترده عن ظلمه» وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المؤمنون يتعاونون على الفتان» ولأنهم لو لم يتعاونوا على دفع الظلم، لقهرهم الظلمة وقطاع الطريق. فصل ويدفع الصائل بأسهل ما يمكن الدفع به، فإن أمكن دفعه بيده، لم يجز ضربه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 بالعصا، وإن اندفع بالعصا، لم يجز ضربه بحديدة، وإن أمكنه دفعه بقطع عضو، لم يجز قتله، وإن لم يمكن إلا بالقتل، قتله ولم يضمنه؛ لأنه قتل بحق فلم يضمنه، كالباغي. وإن قتل الدافع، فهو شهيد، وعلى الصائل ضمانه، للخبر ولأنه قتل مظلوماً، فأشبه ما لو قتله في غير الدفع. فإن أمكنه دفعه بغير قطع شيء منه، فقطع منه عضواً، ضمنه، وإن أمكنه دفعه بقطع عضو، فقتله، أو قطع زيادة على ما يندفع به، ضمنه؛ لأنه جنى عليه بغير حق، أشبه الجاني ابتداء، ولأنه معصوم أبيح منه ما يندفع به شره، ففيما عداه يبقى على العصمة. فإذا ضربه فعطله، لم يجز أن يضربه أخرى؛ لأنه قد انكف أذاه وهو المقصود. وإن قطع يده، فولى عنه، فضربه، فقطع رجله، ضمن رجله؛ لأنها قطعت بغير حق، ولم يضمن اليد؛ لأنها قطعت بحق. وإن مات منهما، فلا قصاص في النفس؛ لأنه من مباح ومحظور، ويضمن نصف ديته. فصل وإن عض يد إنسان، فانتزعها من فيه، فانقلعت ثناياه، لم يضمنها؛ لما روى عمران بن حصين «أن يعلى بن أمية قاتل رجلاً، فعض أحدهما يد صاحبه، فانتزع يده من فيه، فانتزع ثنيته، فاختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له» متفق عليه؛ ولأن فعله ألجأه إلى الإتلاف، فلم يضمنه، كما لو رماه بحجر، فعاد عليه فقتله. وإن أراد رجل امرأة فقتلته دفعاً عن نفسها، لم تضمنه، نص عليه أحمد، وذكر حديثاً عن عبيد بن عمير أن رجلاً ضاف ناساً من هذيل، فأراد رجل منهم امرأة عن نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر: والله لا يودى أبداً. ولو وجد رجل رجلاً يزني بامرأته فقتلهما لم يضمنهما؛ لما روى سعيد بإسناده عن إبراهيم أن قوماً قالوا لعمر: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته، فقال عمر: ما يقول هؤلاء؟ قال: ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف، فإن كان بينهما أحد فقد قتله، فقال له عمر: ما تقول؟ قالوا: ضرب بسيفه، فقطع فخذي المرأة، فأصاب وسط الرجل، فقطعه باثنين، فقال عمر: إن عادوا فعد. إلا أن تكون المرأة مكرهة، فلا يحل قتلها. وإن قتلها، ضمنها؛ لأنه قتلها بغير حق. فصل ومن اطلع في بيت غيره من ثقب، أو شق باب، أو باب غير مفتوح. فرماه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 صاحب البيت بحصاة، أو طعنه بعود، فقلع عينه، لم يضمنها؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح» . وعن سهل بن سعد: «أن رجلاً اطلع في جحر من باب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحك رأسه بمدرى في يده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو علمت أنك تنظرني، لطعنت بها في عينك» متفق عليهما. ظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر أن لا يمكن دفعه إلا بذلك، لظاهر الخبر. قال ابن حامد: يدفعه أولاً بأسهل ما يمكن دفعه به، كالصائل سواء. وليس له رميه بحجر كبير يقتله، ولا بحديدة، فإن فعل، ضمنه؛ لأنه إنما يملك ما يقلع بع العين المبصرة التي حصل الأذى منها. فإن لم يمكن دفعه بالشيء اليسير، جاز بالكبير حتى يأتي ذلك على نفسه، ولا ضمان عليه؛ لأنه تلف بفعل جائز. وسواء كان في البيت حرمة ينظر إليها، أو لم يكن، لعموم الخبر. وإن كان المطلع أعمى، لم يجز رميه؛ لأنه لا ينظر، فصار وجهه، كقفا غيره. وإن اطلع ذو محرم لأهله، لم يجز رميه؛ لأنه غير ممنوع من النظر إلا أن تكون المرأة متجردة، فيجوز رميه؛ لأنه يحرم عليه النظر إليها متجردة كالأجنبي. ولو تجرد إنسان في طريق، لم يجز له رمي من نظر إليه؛ لأنه هتك نفسه بتجرده في غير موضع التجرد. فصل وإن صالت عليه بهيمة، فله دفعها بأسهل ما تندفع به، فإن لم يمكن إلا بالقتل فقتلها، لم يضمنها؛ لأنه إتلاف بدفع جائز، فلم يضمنه، كدفع الآدمي الصائل ولأنه حيوان قتله لدفع شره. أشبه الآدمي. فصل ومن قتل إنساناً، أو بهيمة، أو جنى عليهما، وادعى أنه فعل ذلك للدفع عن نفسه، أو حرمته، أو قتل رجلاً وامرأته، وادعى أنه وجده معها، فأنكر الولي، فالقول قول الولي، وله القصاص؛ لما روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عن رجل قتل امرأته ورجلاً معها، وادعى أنه وجده معها، فقال علي: إن جاء بأربعة شهداء، وإلا دفع برمته، ولأن القتل متحقق، وما يدعيه خلاف الظاهر. وإن أقام بينة أنه قصده بسلاح مشهور، فضربه هذا، لم يضمنه؛ لأن الظاهر أنه قصد قتله. وإن شهدت أنه دخل بسلاح غير مشهور، لم يسقط الضمان؛ لأنه ليس هاهنا ما يدفعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 فصل ومن اقتنى كلباً عقوراً، فأطلقه حتى عقر إنساناً أو دابة، أو اقتنى هرة تأكل الطيور، فأكلت طير إنسان، ضمنه؛ لأنه مفرط باقتنائه وترك حفظه. وإن دخل إنسان داره بغير إذنه، فعقره الكلب، لم يضمنه؛ لأنه متعد بالدخول، متسبب إلى إتلاف نفسه، فلم يضمنه، كما لو سقط في بئر فيها. فصل وما أتلفت البهائم من الزرع ليلاً، فضمانه على صاحبها. وما أتلفت منه نهاراً، لم يضمنه إلا أن تكون يده عليها؛ لما روى الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة: «أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت بالليل، فهو مضمون عليهم.» رواه أبو داود؛ ولأن عادة أهل المواشي إرسالها بالنهار للرعي، وحفظها ليلاً، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون الليل، فكان التفريط من تارك الحفظ في وقت عادته. وذكر القاضي: أنه متى لم يكن في القرية مرعى إلا بين زرعين، لا يمكن حفظ الزرع فيه من البهيمة، كساقية ونحوها، فليس لصاحبها إرسالها ليلاً، ولا نهاراً، فإن فعل، فهو مفرط، وعليه الضمان. ومتى كان التفريط في إرسال البهيمة من غير المالك، مثل أن أرسلها غيره، أو فتح بابها لص، أو غيره، فالضمان عليه دون المالك؛ لأنه سبب الإتلاف. فصل وإن أتلفت البهيمة غير الزرع، ولا يد لصاحبها عليها، لم يضمنه ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العجماء جبار» . يعني هدراً؛ لأن البهيمة لا تتلف ذلك عادة، فلم يجب حفظها عنه. فإن ابتلعت جوهرة إنسان، فطلب ذبحها ليأخذ جوهرته، فعليه ضمان ما نقص بالذبح؛ لأنه فعل ذلك لتخليص ماله، وليس على صاحب البهيمة ضمان نقص الجوهرة؛ لأنها نقصت بفعل غير مضمون. وإن كانت يد صاحبها عليها، ضمن الجوهرة؛ لأن فعلها منسوب إليه، ويخير بين ذبحها، ورد الجوهرة، وأرش نقصها، وبين غرمها بقيمتها، كمن غصب خيطاً فخاط به جرح حيوان. فإن عاد فذبحها رد الجوهرة إلى صاحبها، واسترجع القيمة، كما لو غصب عبداً فأبق، فرد قيمته، ثم قدر عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 [ كتاب الجهاد ] وهو فرض؛ لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] . وقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] وقَوْله تَعَالَى: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] . وهو من فروض الكفايات. إذا قام به من فيه كفاية، سقط عن الباقين؛ لقول الله سبحانه: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] إلى قوله: {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] . ولو كان فرضاً على الجميع، لما وعد تاركه الحسنى. وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] ؛ ولأنه لو فرض على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة، وطلب المعاش، والعلم، فيؤدي إلى خراب الأرض، وهلاك الخلق. ولا يجب إلا بشروط خمسة: أحدها: التكليف، فلا يجب على صبي، ولا مجنون، ولا كافر؛ لما تقدم؛ ولأن هذه من شرائط التكليف بسائر الفروع. وقد روي «عن ابن عمر أنه قال: عرضت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشر سنة، فلم يجزني في المقاتلة.» متفق عليه. ولأن المجنون لا يستطيع الجهاد، والكافر غير مأمون، والصبي ضعيف البنية. الثاني: السلامة من الضرر؛ لقوله سبحانه: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] وهو العمى، والعرج، والمرض، والضعف؛ لقول الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] . وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] . ومن كان في بصره سوء يمنعه من رؤية عدوه، وما يتقيه من سلاح، لم يلزمه الجهاد؛ لأنه في معنى الأعمى، في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 عدم إمكان القتال، وإن لم يمنعه من ذلك، لم يسقط عنه فرضه، ويجب على الأعشى الذي يبصر في النهار دون الليل، وعلى الأعور؛ لأنهما يتمكنان من القتال. ولا يجب على أقطع اليد، أو الرجل؛ لأنه إذا سقط عن الأعرج، فالأقطع أولى، ولأنه يحتاج إلى الرجلين في المشي، واليدين ليتقي بأحدهما، ويضرب بالأخرى، والأشل، كالأقطع. ومن أكثر أصابعه ذاهب، أو إبهامه، أو ما لا تبقى منفعة إليه بعد ذهابه، فهو كالأقطع كذلك. ومن كان عرجه يسيراً أو مرضه يسيراً، لا يمنعه الركوب والمشي، والعدو والقتال، لم يسقط عنه الجهاد؛ لأنه متمكن منه. الثالث: الحرية. فلا يجب على العبد؛ لقوله سبحانه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] . والعبد لا يجد ما ينفق، ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة، فلم يجب على العبد كالحج. الرابع: الذكورية: فلا يجب على المرأة؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة» ولأن الجهاد القتال، والمرأة ليست من أهله لضعفها وخورها. ولا يجب على خنثى مشكل؛ لأنه لا يعلم كونه رجلاً. الخامس: الاستطاعة؛ لقول الله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] ؛ ولأنه يحتاج إلى قطع مسافة، فأشبه الحج. وإن كان القتال قريباً من البلد، لم يشترط ذلك؛ لأنه لا يحتاج إلى ركوب، ولا نفقة طريق، والاستطاعة: وجدان الزاد، والسلاح، وآلة القتال، ومركوب يبلغه إذا كان على مسافة القصر؛ لقول الله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] . فصل ويتعين الجهاد في موضعين: إحداهما: إذا التقى الزحفان، تعين الجهاد على من حضر؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] . وقوله سبحانه: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 الآية. الثاني: إذا نزل الكفار ببلد المسلمين، تعين على أهله قتالهم، والنفير إليهم، ولم يجز لأحد التخلف، إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل، والمكان، والمال، ومن يمنعه الأمير الخروج؛ لقول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] ولأنهم في معنى حاضر الصف، فتعين عليهم، كما تعين عليه. فصل وأقل ما يفعل الجهاد مرة في كل عام؛ لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام مرة، وهي بدل عن النصرة، فكذلك مبدلها، وهو الجهاد، إلا لعذر من ضعف بالمسلمين، أو انتظار مدد، أو مانع في الطريق من قلة علف أو غيره، أو طمعه في إسلامهم بتأخير قتالهم، ونحو هذا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد صالح قريشاً عشر سنين، وأخر قتالهم حتى نقضوا عهده، وإن دعت الحاجة إلى فعله في العام أكثر من مرة، وجب؛ لأنه فرض كفاية، فكان على حسب الحاجة. فصل: ومن كان أحد أبويه مسلماً، لم يجز له الجهاد إلا بإذنه؛ لما روى ابن العباس قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أجاهد؟ قال: لك أبوان قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد» ، قال الترمذي: هذا حديث صحيح؛ ولأن الجهاد فرض كفاية، وبرهما فرض عين، فوجب تقديمه. فإن كانا كافرين، فلا إذن لهما؛ لأن أبا بكر الصديق، وأبا حذيفة بن عتبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وغيرهما كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم، ولأنهما متهمان في الدين. وإن كانا رقيقين، ففيه وجهان: أحدهما: يعتبر إذنهما؛ لأنهما كالحرين في البر والشفقة والدين. والثاني: لا إذن لهما؛ لأنه لا ولاية لهما، ولا نفقة ولا إذن لهما في أنفسهما، ففي غيرهما أولى، ولا إذن لغيرهما من الأقارب، كالجدين، وسائر الأقارب؛ لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا هو في معنى المنصوص عليه، لتأكيد حرمة الوالدين في البر، والتقديم في الإرث، والنفقة، والحجب، والولاية وغيرها. ومتى تعين الجهاد، فلا إذن لأبويه، لأنه صار فرض عين، فلم يعتبر إذنهما فيه، كالحج الواجب. وكذلك كل الفرائض، لا طاعة لهما في تركه؛ لأن تركه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 تعالى، كالسفر لطلب العلم الواجب الذي لا يقدر على تحصيله في بلده، ونحو ذلك. وإن أراد سفراً غير واجب، فمنعاه منه، لم يجز له؛ لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، قال: ارجع إليهما فأضحكهما، كما أبكيتهما» . من المسند. فصل: ولا يجوز لمن عليه دين الجهاد إلا بإذن غريمه إلا أن يقيم به كفيلاً، أو يعطي به رهناً، أو يكون له من يقضيه عنه؛ لما روى أبو قتادة «أن رجلاً جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن قتلت في سبيل الله، كفر الله خطاياي؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلا غير مدبر كفر الله عنك خطاياك، إلا الدين كذلك قال جبريل» رواه مسلم؛ ولأن فرض أداء الدين متعين عليه، فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم غيره فيه مقامه. والمؤجل، كالحال؛ لأنه يعرض نفسه للقتل، فيضيع الحق. فإن كان له مال غائب، فهو كالمعسر؛ لأنه قد يتلف، فيضيع الحق. وإن تعين عليه الجهاد، فلا إذن لغريمه؛ لما ذكرنا في الوالدين. وإن أذن له الغريم، جاز له الجهاد؛ لأن الحق له، فجاز بإذنه. فإن رجع عن الإذن، أو أذن له أبواه في الغزو، ثم رجعا، أو كانا كافرين فأسلما، أو رقيقين فعتقا قبل التقاء الزحفين، لم يجز الخروج إلا بإذن مستأنف. وإن كان بعده، فلا إذن لهما؛ لأنه صار متعيناً، فقدم؛ لما ذكرناه. فصل: وأفضل التطوع الجهاد في سبيل الله، نص عليه أحمد، وذكر له أمر الغزو، فجعل يبكي ويقول: ما من أعمال البر أفضل منه، وأي عمل أفضل منه؟ والذين يقاتلون في سبيل الله: هم الذين يدفعون عن الإسلام، وعن حريمهم، وقد بذلوا مهج أنفسهم، الناس آمنون، وهم خائفون. وقد روى أبو سعيد الخدري قال: «قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» . متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ أو أي الأعمال خير؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد سنام العمل، قيل: ثم أي؟ قال: ثم حج مبرور» حديث صحيح؛ ولأن نفعه عظيم، وخطره كبير، فكان أفضل مما دونه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وغزو البحر أفضل من غزو البر؛ لما روى أبو داود عن أم حرام عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المائد في البحر الذي يصيبه القيء، له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين» وروى ابن ماجه بإسناده عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر، كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين، كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح، إلا شهيد البحر، فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها، إلا الدين، ولشهيد البحر الذنوب والدين» ولأن غزو البحر أعظم خطراً، فإنه بين خطر القتل والغرق، ولا يمكنه الفرار دون أصحابه. فصل: وفي الرباط فضل عظيم: وهو المقام بالثغر مقوياً للمسلمين. والثغر: كل مكان يخيف العدو ويخافه. قال أحمد: ليس يعدل الرباط والجهاد شيء. وعن سلمان قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان» أخرجه مسلم. وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» . حديث صحيح. وليس لأقله وأكثره حد، وتمامه أربعون يوماً؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تمام الرباط أربعون يوماً» أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب. ويروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفاً؛ لأنه أنفع للمسلمين، وأشد خطراً، ولا يستحب نقل أهله إلى الثغر المخوف. نص عليه أحمد وقال: أخاف عليه الإثم؛ لأنه يعرض ذريته للمشركين. وقد قال عمر: لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر. ويستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم، ليكون أجمع لهم إذا حضر النفير. فيبلغ الخبر جميعهم، وتراهم عين الكفار، فتخافهم وتخوف منهم. قال الأوزاعي: لو أن لي ولاية على المساجد، يعني التي في الثغر، لسمرت أبوابها، يريد أن تكون صلاتهم في موضع واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 فصل ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ولأنهم أهم، فتجب البداءة بهم، إلا أن تدعو الحاجة إلى البداءة بغيرهم. إما لانتهاز فرصة فيهم أو خوف الضرر بتركهم، أو لمانع من قتال الأقرب، فيبدأ بالأبعد لذلك، ويستحب التحريض على القتال؛ لقول الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] ويستحب ذكر الله، والدعاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] ، ويستحب أن يدعو الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم؛ لما روى سهل بن سعد الساعدي قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر: إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» متفق عليه. ولا تجب الدعوة. نص عليه أحمد. وقال: إن الدعوة قد بلغت كل أحد، ولا أعرف اليوم أحداً يدعى، إنما كانت الدعوة في أول الإسلام. وقد روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون، وإبلهم تسقى على الماء، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية.» متفق عليه، وإن اتفق في الجزائر البعيدة، من لم تبلغه الدعوة، وجبت دعوته؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] . فلا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم. فصل ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين، ولا لجماعة أن يفروا من مثليهم؛ لقول الله تعالى {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] . وهذا أمر بلفظ الخبر؛ لأنه لو كان خبراً بمعناه، لم يكن تخفيفاً، ولوقع الخبر بخلاف المخبر، والأمر يقتضي الوجوب {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} [الأنفال: 16] وهو أن ينصرف من ضيق إلى سعة، أو من سفل إلى علو، أو من مكان منكشف إلى مستتر، أو من استقبال ريح أو شمس إلى استدبارهما، ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] ينضم إليهم ليقاتل معهم؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وسواء قربت الفئة أو بعدت؛ لما «روى ابن عمر: أنه كان في سرية من سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحاص المسلمون حيصة عظيمة، وكنت فيمن حاص، فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بغضب من الله؟! فجلسنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا فقلنا له: نحن الفرارون. فقال: لا بل أنتم العكارون أنا فئة كل مسلم» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أنا فئة كل مسلم، وقال: لو أن أبا عبيد تحيز إلي، لكنت له فئة وكان أبو عبيد بالعراق. وإن كان العدو أكثر من المثلين، لم تجب مصابرتهم؛ لأن الله تعالى لما فرض مصابرة المثلين، دل على إباحة الفرار من الزائد عليهما. وقال ابن عباس: من فر من اثنين، فقد فر. ومن فر من ثلاثة، فما فر. لكن إن غلب على ظنهم الظفر، فالأولى لهم الثبات، ليحصل لهم الأجر والغنيمة ومسرة المسلمين بظفرهم. وإن غلب على ظنهم الهلاك بالإقامة، والنجاة في الفرار. فالفرار أولى؛ لئلا يكسروا قلوب المسلمين بهلاكهم. وإن ثبتوا جاز؛ لأن لهم غرضاً في الشهادة. وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف، فالأولى الثبات؛ ليحصل لهم ثواب الشهداء الصابرين المقبلين؛ ولأنه يجوز أن يظفروا فيسلموا ويغنموا، فإن الله تعالى يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وإن خشوا الأسر، قاتلوا حتى يقتلوا لينالوا شرف الشهادة، ولا يتسلط الكفار على إهانتهم وتعذيبهم. وإن استأسروا جاز؛ لأن عاصم بن ثابت وخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة في عشرة رهط كانوا سرية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنفرت إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام، فعرضوا عليهم أن يستأسروا فأبوا، فقتلوا عاصماً في سبعة، ونزل إليهم خبيب وزيد على العهد والميثاق، فلم يذم أحداً منهم. وإن ألقى الكفار ناراً في سفينة فيها مسلمون، فما غلب على ظنهم السلامة فيه، فالأولى فعله؛ لأن فيهم صيانتهم عن الهلاك. وإن ثبتوا جاز. قال أحمد: كيف شاء صنع. وإن تساوى الأمران، فهم بالخيار بين المقام بالسفينة، وإلقاء نفوسهم في الماء؛ لأنهما موتتان، فيختار أيسرهما. وعنه: أنه يلزمهم المقام، لئلا يكون موته بفعله، فيكون معيناً على نفسه. [ باب ما يلزم الإمام وما يجوز له ] يجب عليه أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم، ويقويها بالعدد، والآلات ويؤمر عليهم أميراً ذا رأي، وشجاعة، ودين؛ لأنه إذا لم يفعل، لم يأمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 دخول الكفار من بعض الثغور، فيصيبون المسلمين. وإن احتاج إلى بناء حصن، أو حفر خندق، فعل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفر خندق على المدينة في غزوة الأحزاب. وإذا بعث جيشاً، أو سرية، لزمه أن يولي عليهم أميراً على الصفة المذكورة، ويوصيه بجيشه؛ لما روى بريدة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث أميراً على سرية، أو جيش، أمره بتقوى الله في خاصته، ومن معه من المسلمين» ، ولما بعث أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيوشه إلى الشام، خرج مع أمرائهم يشيعهم، ويوصيهم، ويعهد إليهم. فصل وإذا أراد الإمام، أو الأمير الغزو، لزمه أن يعرض جيشه، ويتعاهد الخيل والرجال، فلا يدع فرساً حطماً، وهو الكسير، ولا قحماً، وهو الكبير، ولا ضرعاً وهو الصغير، ولا هزيلاً يدخل معه أرض العدو، لئلا ينقطع فيها، وربما كانت سبباً للهزيمة. ولا يأذن لمخذل من الناس، وهو الذي يفند الناس عن الغزو، ولا لمرجف، وهو الذي يحدث بقوة الكفار، وضعف المسلمين، وهلاك بعضهم، ويخيل لهم أسباب ظفر عدوهم بهم، ولا لمن يعين العدو بمكاتبتهم، بأخبار المسلمين، والتجسس لهم، ولا لمن يضر المسلمين بإيقاع الاختلاف بينهم، ولا لمن يعرف بالنفاق والزندقة؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] . وقَوْله تَعَالَى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] قيل: معناه: لأوقعوا بينكم الاختلاف، وقيل: لأسرعوا في تفريق جمعكم؛ ولأن في حضورهم ضرراً، فيجب صيانة المسلمين عنه. ولا يأذن لطفل ولا مجنون؛ لأن دخولهم تعرض للهلاك، لغير فائدة. ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان؛ لأن فيهم معونة ونفعاً، ولا يأذن لمشرك؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى بدر، فتبعه رجل من المشركين، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: فارجع فلن نستعين بمشرك» . حديث حسن. فإن دعت حاجة إليه، ولم يكن حسن الرأي في المسلمين، لم يستعن به أيضاً؛ لأن ما يخشى من ضرره أكثر مما يرجى من نفعه، وإن كان حسن الرأي فيهم، جاز؛ لأن صفوان بن أمية شهد حنيناً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على شركه. ولا يأذن للمرأة الشابة الجميلة؛ لأنها ليست من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 أهل القتال، ولا يؤمن الضرر عليها وبها، ويجوز أن يأذن للطاعنة في السن، لسقي الماء، ومعالجة الجرحى؛ لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار، يسقين الماء، ويداوين الجرحى.» وهذا حديث صحيح. فصل ويستحب أن يخرج يوم الخميس؛ لما روى كعب بن مالك قال: «قلما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج في سفر إلا يوم الخميس.» ويعبئ جيشه، ويرتب في كل جانب كفؤاً؛ لما «روى أبو هريرة قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل خالداً على إحدى المجنبتين، وجعل الزبير في الأخرى، وجعل أبا عبيدة على الساقة» ؛ ولأن ذلك أحوط للحرب، وأبلغ في إرهاب العدو. ويعقد الألوية والرايات، ويجعل لكل طائفة لواء؛ لما روى ابن عباس: «أن أبا سفيان حين أسلم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال: فحبسته على الوادي، حيث أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومرت به القبائل على راياتها. وهو متحير في ألوانها» . لكنه يغاير ألوانها، ليعرف كل قوم راياتهم، ويعرف عليهم العرفاء، ويجعل لكل طائفة أميراً، ويكلفهم من السير ما يقدر عليه ضعيفهم؛ لئلا ينقطع عنهم، أو يشق عليه إلا أن تدعو حاجة إلى الجد في السير لمصلحة رآها، فيجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جد في السير حين بلغه قول عبد الله بن أبي: ليخرجن الأعز منها الأذل. ليشغل الناس عن الخوض فيه. ويتخير لهم من المنازل أصلحها لهم، ويتتبع مكامنها فيحوطها عليهم، ولا يغفل الحرس والطلائع، ليحفظهم من البيات. وقد «روى سهل بن الحنظلية: أنهم ساروا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين، فأطنبوا السير حتى إذا كان عشية، قال: من يحرسنا الليلة؟ فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله، قال: فاركب فركب فرساً له، وجاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال له: استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة، فلما أصبحنا، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال: هل أحسستم فارسكم قالوا: لا، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته قال: أبشروا فقد جاءكم فارسكم فإذا هو قد جاء، حتى وقف على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلم، فقال: إني انطلقت، حتى كنت في أعلى هذا الشعب، حيث أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أصبحت، اطلعت الشعبين كليهما فنظرت، فلم أر أحداً، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل نزلت الليلة قال: لا، إلا مصلياً، أو قاضياً حاجة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد وجبت، فلا عليك ألا تعمل بعدها.» رواه أبو داود. ويذكي العيون، ليعلم أخبار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 عدوه، فيتحرز منهم، ويتمكن من الفرصة فيهم، ويستشير ذوي الرأي من أصحابه؛ لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر الناس مشاورة لأصحابه. ويمنع جيشه من المعاصي، والتشاغل بالتجارة المانعة لهم من القتال، ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب الظفر، ويعد ذا الصبر منهم بالأجر والنفل، ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه؛ لئلا يعلم به عدوه، فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد غزوة، ورى بغيرها، ولا يميل مع أهله وموافقيه في مذهبه على مخالفيه؛ لئلا تنكسر قلوبهم، فيخذلوه عند الحاجة، ويعد لهم الزاد، ويراعي من معه، ويرزق كل واحد بحسب حاجته. فصل ويقاتل أهل الكتاب والمجوس، حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؛ لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا، في ظاهر المذهب. ولا يجوز قتل نسائهم، وصبيانهم؛ لما روى ابن عمر «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن قتل النساء والصبيان» ، متفق عليه؛ ولأنهما يصيران رقيقاً ومالاً للمسلمين، فقتلهما إتلاف لمال المسلمين. ولا قتل شيخ فإن؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة» رواه أبو داود؛ ولأنه لا نكاية له في الحرب، أشبه المرأة. ولا قتل زمن ولا أعمى؛ لأنهما في معنى الشيخ الفاني. ولا راهب؛ لما روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه أوصى يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام، فقال: لا تقتلوا الولدان، ولا النساء، ولا الشيوخ، وستجدون قوماً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم، ولا قتل خنثى مشكل، لأنه يحتمل أنه امرأة، فلا يجوز قتله مع الشك. ومن قاتل من هؤلاء كلهم، قتل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل يوم قريظة امرأة ألقت حجراً على محمود بن مسلمة. ومن كان ذا رأي يعين به في الحرب، جاز قتله؛ لأن الرأي في الحرب، أبلغ من القتال؛ لأنه الأصل. وعنه يصدر القتال. قال المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الفرسان وإن تترس الكفار بصبيانهم ونسائهم، جاز رميهم، بقصد المقاتلة؛ لأن المنع من رميهم، يفضي إلى تعطيل الجهاد. وإن تترسوا بأسارى المسلمين، أو أهل الذمة، لم يجز رميهم إلا في حال التحام الحرب، والخوف على المسلمين؛ لأنهم معصومون لأنفسهم، فلم يبح التعرض لإتلافهم من غير ضرورة. وفي حال الضرورة، يباح رميهم؛ لأن حفظ الجيش أهم. فصل ويجوز بيات الكفار، ورميهم بالمنجنيق والنار، وقطع المياه عنهم، وإن تضمن ذلك إتلاف النساء والصبيان؛ لما «روى الصعب بن جثامة، قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عن الدار من ديار المشركين، نبيتهم فنصيب من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم» متفق عليه. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصب منجنيقاً على أهل الطائف.» والتغريق بالماء في معناه. فإن كان فيهم مسلمون، فأمكن الفتح بدون ذلك، لم يجز رميهم؛ لأنه تعريض لقتلهم من غير حاجة، وإن لم يمكن بدونه، جاز؛ لأن تحريمه يفضي إلى تعطيل الجهاد. فصل ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من دوابهم؛ لأن قتلها وسيلة إلى الظفر بهم، فإذا صارت إلينا، لم يجز قتلها؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل شيء من الدواب صبراً» ولأنها مال المسلمين. ولا يجوز ذبحها إلا لأكل لا بد لهم منه. ولا يجوز تحريق النحل، ولا تغريقه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النحلة.» وقال أبو بكر: لا تحرقن نحلاً ولا تغرقنه. ويجوز أخذ الشهد، وفي أخذه كله روايتان: إحداهما: لا يجوز؛ لأن فيه قتل النحل وهلاكه. والثانية: يجوز؛ لأن هلاكه إنما يحصل ضمناً غير مقصود، فأشبه قتل النساء في البيات. ويجوز هدم بنيانهم، وقطع شجرهم، وحرق زرعهم إذا احتيج إليه، للتمكن من قتالهم ونحوه، ولا يجوز إذا كان فيه ضرر بالمسلمين، لحاجتهم إلى الاستظلال أو الاستتار به، أو الأكل منه، أو علف دوابهم. وما عدا ذلك، ففيه روايتان: إحداهما: جوازه؛ لقول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 وروى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة، فأنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] ولها يقول حسان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير رواه مسلم. » وروى أسامة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عهد إليه فقال: أغر على أُبْنَى صباحاً وحرق» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. والثانية: لا يجوز إلا أن يكونوا يفعلون ذلك بنا؛ لما روي أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ليزيد وهو يوصيه حين بعثه أميراً: يا يزيد لا تقتل صبياً، ولا امرأة، ولا هرماً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شجراً مثمراً، ولا دابة عجماء، ولا شاة إلا لمأكلة، ولا تحرقن نحلاً ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن. رواه سعيد. فإن كانوا يفعلونه في بلدنا، جاز فعله بهم، لينتهوا، وإن أخذنا منهم مالاً، فعجزنا عن تخليصه إلى دار الإسلام. جاز إتلافه كيلا ينتفعوا به. فصل ويخير الإمام في الأسرى من أهل القتال بين أربعة أشياء؛ القتل، والفداء، والمن، والاسترقاق. فأما الفداء والمن، فقول الله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ على أبي عزة الجمحي الشاعر ومَنَّ على أبي العاص بن الربيع، ومَنَّ على ثمامة بن أثال الحنفي. وفادى أسيراً برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف، وفادى أُسارى بدر بالمال. وأما القتل، «فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل يوم بدر النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط صبراً» ، «وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحي» ، وقتل قريظة؛ ولأنه أنكى فيهم وأبلغ في إرهابهم، فيكون أولى. وأما الاسترقاق فيجوز في أهل الكتاب والمجوس؛ لأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية، فالرق أولى؛ لأنه أبلغ في صغارهم، وإن كان من غيرهم، ففيه روايتان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 إحداهما: لا يجوز إرقاقه. اختارها الخرقي؛ لأنه لا يقر بالجزية، فلم يجز إرقاقه، كالمرتد. والثانية: يجوز؛ لأنه كافر أصلي، فأشبه الكتابي. وإن أسلم الأسير، حرم قتله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ويتخير فيه بين المن عليه؛ لأنه إذا جاز المن عليه حال كفره، ففي حال إسلامه أولى، بين إرقاقه وفدائه. وقال أصحابنا: يصير رقيقاً بنفس الإسلام، ويسقط التخيير؛ لأنه ممن يحرم قتله، فأشبه المرأة. وأما النساء والصبيان، فإنهم يصيرون رقيقاً بنفس السبي؛ لأنهم مال لا ضرر في اقتنائه، فأشبهوا البهائم. وأما الرجال الذين يحرم قتلهم، كالشيخ الفاني ونحوه، فلا يجوز سبيهم؛ لأنه لا نفع من استرقاقهم، ولا يحل قتلهم. إذا ثبت هذا. فإن التخيير الثابت في الأسرى تخيير مصلحة واجتهاد، لا تخيير شهوة، فمتى رأى المصلحة للمسلمين في إحدى الخصال، تعينت عليه ، ولم يجز له غيرها؛ لأنه ناظر للمسلمين فلم يجز له ترك ما فيه الحظ لهم، كولي اليتيم، فمتى رأى القتل، ضرب عنقه بالسيف؛ لقول الله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالذين قتلهم، فضربت أعناقهم، ولا يجوز التمثيل به؛ لما روى بريدة، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أمر أميراً على جيش، أو سرية قال: اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تغلوا» وإن اختار الفداء، جاز أن يفاديهم بأسارى المسلمين، وجاز بالمال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين. وقال أبو الخطاب: لا يجوز فداؤهم بالمال في أحد الوجهين، فإن فادى بالمال، أو استرقهم، كان الرقيق، والمال للغانمين. وليس له إطلاق الأسارى ولا المال إلا برضاهم؛ لما روى مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاءه وفد هوازن مسلمين قال: إن إخوانكم جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد عليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك، فليفعل، ومن أحب أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فليفعل فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله.» أخرجه البخاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 فصل: ومنع أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فداء النساء بالمال؛ لأن في بقائهن في الرق تعريضا لهن للإسلام، لمعاشرتهن للمسلمين، وجوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع رجلين من المسلمين؛ ولأن في ذلك استنقاذ مسلم متحقق إسلامه. وإن أسلمت لم يجز ردها إلى الكفار، بفداء ولا غيره، لقول الله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، ولا يجوز المفاداة بالصبيان بحال؛ لأنهم يصيرون مسلمين بإسلام سابيهم. فصل: ولا يجوز بيع رقيق المسلمين لكافر. نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كتب إلى أمراء الأمصار: ينهاهم عنه؛ ولأن في بقائهم رقيقا للمسلمين، تعريضا لهم للإسلام، وفي بيعهم لكافر، تفويت ذلك، فلم يجز. فصل: وإن أسر من يقر بالجزية فبذلها، لم يلزم قبولها؛ لأنه قد ثبت حق التخيير فيه بين الأمور الأربعة، فلم يسقط ببذله، ويجوز للإمام إجابته إليها إذا رأى ذلك؛ لأنه بمنزلة المن عليه. فصل: ويكره نقل رءوس الكفار من بلد إلى بلد، ورميها في المنجنيق؛ لأن فيه مُثْلَة، وقد روى عقبة بن عامر: أنه قدم على أبي بكر برأس بَنَّاق البطريق، فأنكر ذلك، فقيل: يا خليفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنهم يفعلون بنا هذا، قال: فَاسْتِنَانٌ بفارس والروم؟ لا يحمل رأس، وإنما يكفي الكتاب والخبر. رواه سعيد. فصل: إذا حصر الإمام حصنا، فرأى المصلحة في مصابرته، لزمه ذلك؛ لأن عليه فعل ما فيه الحظ للمسلمين. وإن كانت المصلحة في الانصراف، انصرف لذلك. وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا، فقال: إنا قافلون إن شاء الله غدا فقال المسلمون: أنرجع ولم نفتتحه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغدوا على القتال فغدوا عليه، فأصابهم جراح، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا قافلون غدا فأعجبهم، فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 وإن أسلم أهل الحصن قبل فتحه، عصموا دماءهم وأموالهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . وإن طلبوا النزول على حكم حاكم، جاز؛ «لأن بني قريظة حين حصرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم: بقتل مقاتليهم، وسبي ذراريهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. » ويجب أن يكون الحاكم بالغا عاقلا حرا مسلما ذكرا عدلا عالما؛ لأنه ولاية حكم، فأشبه ولاية القضاء، ولا يشترط أن يكون بصيرا؛ لأن الذي يقتضي الحكم فيهم هو الذي يشتهر من حالهم، وذلك يُدرك بالسمع، فأشبه الشهادة فيما طريقه السمع. ويكره أن يكون حسن الرأي فيهم؛ لأنه يخشى ميله إليهم. ويجوز حكمه؛ لأنه عدل في دينه. فإن نزلوا على حكم من يختاره الإمام، جاز؛ لأنه لا يختار إلا من يجوز حكمه. ولا يجوز أن ينزلوا على حكم من يختارونه؛ لأنهم قد يختارون من لا يصلح. ويجوز أن ينزلوا على حكم اثنين، أو أكثر؛ لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي، فأشبه التحكيم في اختيار الإمام. وإن نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه، أو حكم من يجوز، فمات قبل الحكم، وجب ردهم إلى حصنهم؛ لأنهم نزلوا على أمان، فلا يجوز أخذهم، ولا يجوز للحاكم الحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين؛ لأنه نائب الإمام، فقام مقامه في اختيار الأحظ من الأمور الأربعة. فإن حكم بالمن، فقال القاضي: يلزم حكمه كذلك. وقال أبو الخطاب: لا يلزم؛ لأن الإمام إذا لم يره، تبين أنه لا حظ فيه، فلم يلزم حكمه به. فإن حكم بعقد الذمة، ففيه وجهان: أحدهما: يلزم حكمه؛ لأنهم رضوا بحكمه. والثاني: لا يجوز؛ لأنه عقد معاوضة، فلم يجز إلا برضا الفريقين، فإن حكم بالقتل والسبي، جاز؛ لأن سعدا حكم به في بني قريظة، فصادف حكم الله تعالى. وللإمام أن يمن على من حكم عليه بالقتل؛ لأن ثابت بن قيس بن شماس سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي بعد الحكم عليهم، فوهبه له، وأطلق له أهله وماله. وإن حكم باسترقاقهم، لم يجز أن يمن عليهم، إلا برضا الغانمين؛ لأنهم صاروا مالا لهم. وإن حكم بالقتل فأسلموا، عصموا دماءهم؛ لأن قتل المسلم حرام، ولم يعصموا أموالهم؛ لأنها صارت للمسلمين قبل إسلامهم. وفي استرقاقهم روايتان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 إحداهما: لا يسترقون، ذكره القاضي؛ لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم، فأشبه ما لو أسلموا قبل القدرة عليهم. والثانية: يسترقون؛ لأنهم أسلموا بعد القدرة عليهم، ووجوب قتلهم، فأشبهوا الأسير إذا أسلم بعد اختيار الإمام قتله. فصل: ومن أسلم قبل القدرة عليه، عصم نفسه وماله، وأولاده الصغار، للخبر المذكور. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حاصر بني قريظة، فأسلم ابنا سبيعة، فأحرز إسلامهما أموالهما وأولادهما؛ ولأن الأولاد تبع لوالدهما في الإسلام، فكذلك في العصمة. وإن كان للمسلم منفعة بإجارة، لم تملك عليه؛ لأنها مال. ولا يعصم زوجته؛ لأن النكاح ليس بمال. ولا يجري مجراه، وإن كانت حاملا منه، فولده مسلم معصوم. ويجوز استرقاقها؛ لأنها حربية، لا أمان لها ولا يعصم أولاده البالغين؛ لأنهم لا يتبعونه في دينه فكذلك في عصمته. وإذا ادعى الأسير أنه أسلم قبل الأسر. لم يقبل إلا ببينة. فإن شهد له مسلم وحلف معه، ثبت ذلك له؛ لأن ابن مسعود شهد لسهيل بن بيضاء أنه سمعه يذكر الإسلام، فقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهادته وأطلقه من الأسر. فصل: ومن أسلم من الأبوين، كان أولاده الأصاغر تبعا له في الإسلام، رجلا كان أو امرأة، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] ، ويتبعه الحمل؛ لأنه لا يصح إسلامه بنفسه، فتبعه كالولد. وإن لم يسلم واحد منهما، فولدهما كافر؛ لأنه لا حكم لنفسه، فتبع أبويه، كولد المسلم. فإن مات الأبوان أو أحدهما في دار الإسلام، حكم بإسلام الولد، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» فجعل التبعية لأبويه معا. فإذا مات أحدهما، انقطعت التبعية، فوجب بقاؤه على حكم الفطرة؛ ولأن الدار يغلب فيها حكم الإسلام، بدليل الحكم بإسلام لقيطها. وإنما منع ظهور حكمها اتباعه لأبويه، فإذا مات أحدهما، اختل المانع، فظهر حكم الدار. والحكم في المجنون الذي يبلغ مجنونا، كالحكم في الصبي؛ لأنه لا حكم لقوله، فتبع في الإسلام كالطفل؛ ولأنه يتبع والديه في الكفر، ففي الإسلام أولى؛ وإن بلغ عاقلا ثم جن، ففيه وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 أحدهما: يتبع أباه؛ لأنه لا حكم لقوله. والثاني: لا يتبع؛ لأنه زال حكم التبعية، ببلوغه عاقلا، فلا يعود. فصل: وإن سبي الطفل منفردا عن أبويه، تبع سابيه في الإسلام؛ لأنه زال حكم أبويه، لإفراده عنهما، واختلاف الدار بهما، فأشبه ما لو ماتا؛ ولأن سابيه، كأبيه في حضانته، فكان مثله في استتباعه، وإن سبي معهما، تبعهما، لخبر أبي هريرة؛ ولأنه لم ينفرد عنهما، أشبه ما لو كان ذميا. وإن سبي مع أحد أبويه، حكم بإسلامه؛ لأنه انقطع اتباعه لأحد أبويه، فأشبه ما لو أسلم، أو مات، وقال أبو الخطاب: يتبع أباه، وقال القاضي: فيه روايتان: أشهرهما: أنه يحكم بإسلامه، لما ذكرنا. والثانية: يتبع أباه. فصل: ولا يجوز التفريق في السبي بين الوالدة وولدها، ولا بين الوالد وولده، ولا بين ذوي رحم محرم، إذا كان أحدهما صغيرا. فإن كانا بالغين، فعلى روايتين، ذكرناهما في البيع. فإن اشترى من المغنم اثنين على أنه يحرم التفريق بينهما، فتبين أنه جائز، وجب رد الفضل الذي حصل بإباحة التفريق؛ لأنه تبين له فضل لم يعلم به البائع، فوجب رده، كما لو قبض الثمن على أنه عشرة، فبان أحد عشر. ولو اشترى من المغنم جارية معها مال، أو حلي، أو ثياب غير لباسها، لزمه رده. نص عليه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع عبدا وله مال، فماله للبائع» لأن البيع إنما وقع عليها دونه. فصل: إذا سبيت المرأة دون زوجها، انفسخ نكاحها، لقول الله تعالى: « {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . قال أبو سعيد الخدري: نزلت هذه الآية في سبي أوطاس، أصبنا سبايا ولهن أزواج في قومهن، فذكر ذلك لرسول الله، فنزلت الآية» . قال الترمذي: هذا حديث حسن؛ ولأنه استولى على محل حق الكافر الحربي، فأزاله، كما لو سبيت أمته. وقال أبو الخطاب: عندي لا ينفسخ. وإن سبي الرجل وحده، لم ينفسخ نكاحه؛ لأنه لم يستول على محل حقه، أشبه ما لو لم يسب؛ وإن سبي الزوجان، لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 ينفسخ نكاحهما؛ لأن الرق لا يمنع ابتداء النكاح، فلم يقطع استدامته، كالعتق. ويحتمل أن ينفسخ نكاحهما؛ لأنه استولى على محل حقه، فزال ملكه عنه، كماله، أو كما لم يسب معها. فصل: وإن أسلم عبد الحربي ولم يخرج إلينا، فهو على رقه؛ لأن يد سيده لم تزل عنه، فلم يزل ملكه، كما لو لم يسلم، وإن خرج إلينا، صار حرا؛ لأنه أزال يد سيده قهرا، فزال ملكه، كما لو استولى عليه مسلم. وإن أسر سيده، وأخذ ماله وعياله، فالمال له، والسبي رقيقه؛ لأن دار الحرب دار قهر، فما استولى عليها فيها، فهو للمستولي. وقد روى أبو سعيد الأعشم قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العبد، إذا أخرج من دار الحرب قبل سيده، أنه حر، فإن خرج سيده بعد، لم يرد إليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد، رد على سيده» ، رواه سعيد. فصل: وليس للإمام أن يقيم حدا في أرض الحرب، ولا يستوفي قصاصا، لما روي عن بسر بن أرطاة، أنه «أتى برجل في الغزاة، قد سرق بختية، فقال: لولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعتك» . رواه أبو داود. وروى سعيد بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى الناس: أن لا يجلدن أمير جيش، ولا سرية، رجلا من المسلمين حدا وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلا، لئلا تلحقه حمية الشيطان، فيلحق بالكفار؛ ولأنا لا نأمن أن يحمله الخوف من الحد، فيلحق بالكفار، فيجب تأخيره. فإذا قفل وخرج من دار الحرب، أقيم عليه حد ما فعل في دار الحرب؛ لأنه واجب لوجود سببه، تأخر لعارض زال بقفوله، فتجب إقامته، كما لو أخر لمرض. وأما الثغور، فتقام بها الحدود والقصاص؛ لأنها دار إسلام. وقد كتب عمر إلى أبي عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن يجلد من شرب الخمر عنده ثمانين. وكتب إلى خالد يأمره بمثل ذلك. [ ما يلزم الجيش من طاعة الإمام ] باب ما يلزم الجيش من طاعة الإمام يلزم الجيش طاعة أميرهم، وامتثال أوامره، والانتهاء عن مناهيه، لقول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أطاعني فقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري، فقد عصاني» رواه النسائي. ولا يجوز الخروج إلى الغزو إلا بإذنه؛ لأنه أعلم بمصالح الحرب، والطرقات، ومكامن العدو، وكثرتهم وقلتهم، فيجب الرجوع إلى رأيه، إلا أن يعرض ما يمنع، من استئذانه من مفاجأة عدو يخاف الضرر بتأخير حربه، أو فرصة يخاف فوتها بانتظار رأيه، فيجوز من غير إذنه. قال أحمد: وإذا نادى الإمام: الصلاة جامعة، لأمر يحدث يشاور فيه، لم يتخلف أحد إلا من عذر. وإن غضب على رجل، فقال: اخرج، عليك ألا تصحبني، فلا يصحبه حتى يأذن له. فصل: ويُغْزَى مع كل بر وفاجر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا.» رواه أبو داود؛ ولأن تركه مع الفاجر يُفضي إلى تعطيل الجهاد وظهور العدو. وقال أحمد: لا يعجبني أن يخرج مع القائد إذا عرف بالهزيمة، وتضييع المسلمين، فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر، والغلول، يغزى معه إذا كان له شفقة وحيطة على المسلمين. إنما فجوره على نفسه، ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» متفق عليه فصل: وإذا غزا الأمير بالناس، لم يجز لأحد أن يخرج من المعسكر لتعلّف، ولا احتطاب، ولا غارة، ولا غير ذلك إلا بإذنه، لقول الله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ؛ ولأن الأمير أعرف بحال الناس، ومكامن العدو، وقربه وبعده، ومواضع الأمن، فلا يأذن لهم، إلا مع أمنه عليهم، وإن خرجوا من غير أمره، لم يأمنوا كمينا للعدو. أو مهلكة يهلكون بها، وربما رحل الجيش فيضيع الخارج. فصل: وتجوز المبارزة في الحرب، وهو: أن يخرج الرجل من المسلمين، إلى الرجل من الكافرين بين الصفين، ليقاتل كل واحد منهما صاحبه؛ لأن حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، بارزوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، بأمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] الآيات ولا يجوز إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر القتال موكول إليه، وهو أعلم برجاله، فلا يؤمن مع مخالفته، أن يتم ما ينكسر به الجيش. ومتى خرج كافر يطلب البراز، جاز رميه وقتله؛ لأنه مشرك لا أمان له، إلا أن تجري العادة بينهم بترك التعرض لمن يطلب البراز، فلا يجوز التعرض له؛ لأن ذلك يجري مجرى الشرط، ويستحب لمن يعلم من نفسه الشدة والشجاعة مبارزته؛ لأن في ترك مبارزته كسرا على المسلمين. ويكره للضعيف الخروج إليه لأن القصد إظهار القوة. والظاهر من مبارزة الضعيف خلاف ذلك. فإن طلب الشجاع المبارزة ابتداء، أبيح له؛ لأن فيه إظهار القوة، ولا يستحب؛ لأنه لا حاجة إليه، ولا يأمن الغلبة، فيكسر قلوب المسلمين. ومتى تبارزا بشرط أن لا يعين واحدا أصحابه، لم يجز رمي الكافر، وفاء بشرطه. فإن ولى مثخنا، أو محتازا، أو ولى عنه المسلم، جاز رميه؛ لأنه شرط الأمان حال القتال، وقد انقضى القتال فزال الأمان. وإن استنجد الكافر أصحابه، أو بدءوا بإعانته، فلم يمنعهم، انتقض أمانه لنقضه إياه. وإن منعهم فلم يقبلوا منه، فهو على أمانه؛ لأنه لم ينقضه. وإن شرط أن لا يرميه أحد حتى يرجع إلى صفه، وفي له بشرطه. فإن ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله، جاز رميه؛ لأنه نقض الشرط، فسقط أمانه. فصل: ومن أسر أسيرا، لم يكن له قتله حتى يأتي به الإمام، فيرى فيه رأيه؛ لأنه إذا صار أسيرا فالخيرة فيه إلى الإمام. وعنه: ما يدل على إباحة قتله؛ لأنه في وقت الحرب، فأشبه قتله حال القتال. وإن امتنع الأسير أن ينقاد معه. فله إكراهه بالضرب وغيره، فإن لم يمكنه إكراهه، أو خافه على نفسه، أو خاف انقلابه، فله قتله؛ لأنه كافر لا أمان له، يخاف شره، فأبيح قتله، كما قبل الأسر. وإن كان امتناعه لمرض، أبيح قتله، كما يجوز أن يذفف على جريحهم. وقد توقف أحمد عن قتله، والأولى إباحته. ومتى قتل أسيره، أو أسير غيره قبل بلوغه إلى الإمام، أو بعده قبل الحكم باسترقاقه، لم يضمنه؛ لأنه ليس بمال، ولذلك أبيح للأمير إتلافه. وإن قتل امرأة أو صبيا قبل الاستيلاء عليهم، لم يضمنهم؛ لأنهم لم يصيروا مالا للمسلمين وإن قتلهم بعد الاستيلاء عليهم ضمنهم لأنهم يصيرون رقيقا بنفس السبي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 فصل: وإذا وجد المسلمون بأرض الحرب طعاما أو علفا، فلهم الأكل منه، وعلف دوابهم مع الحاجة وعدمها من غير إذن الإمام، لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه، ثم ينصرف. وروي أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا فتحنا أرضا كثيرة الطعام والعلف، وكرهنا أن نقدم في شيء من ذلك. فكتب إليه: دع الناس يعلفون، ويأكلون، فمن باع منهم شيئا، بذهب أو فضة، ففيه خمس الله، وسهام المسلمين. رواهما سعيد؛ ولأن الحاجة تدعو إليه، ففي المنع ضرر بالجيش؛ لأنه يشق عليهم حمل الزاد والعلف. ولآخذه أن يعطيه لمن يحتاج إليه، فيكون أحق به. وليس له بيعه؛ لأن الحاجة تدعو إلى الأكل دون البيع، فإن باعه لبعض الغانمين، صار الآخذ أحق به؛ لأنه صار في يده، وهو من الغانمين الذين لهم الأكل منه. وله أخذ ما دفع من ثمنه؛ لأنه دفعه إلى من لا يستحق، فإن رد الطعام إلى البائع، صار البائع أحق به؛ لأنه صار إليه. وإن باعه لغير الغانمين، فالبيع باطل، ويرد المبيع إلى الغنيمة؛ لأنه لا يملك بيعه. فإن تعذر رده، رد ثمنه، لخبر عمر؛ ولأنه تعذر رد المبيع، فوجب رد قيمته، كالمغصوب. وإن وجد دهنا مأكولا، فله أكله؛ لأنه من الطعام. وقد روى عبد الله بن مغفل قال: «دلي جراب من شحم يوم خيبر، فأتينه فالتزمته وقلت: هذا لي، فالتفت فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتسم لي، فاستحييت منه» . متفق عليه. وإن أراد أن يدهن به، أو يدهن به دابته، فقال أحمد: إذا كان من ضرورة، أو صداع، فلا بأس، وإن كان للزينة، فلا يعجبني. وذلك لأن ما تدعو الحاجة إليه من هذا، فهو مثل الطعام في الحاجة إليه، فأبيح، ولا حاجة إلى الزينة، فلم تبح، كلبس الثوب. وليس له غسل ثيابه بالصابون؛ لأنه للزينة والتحسين , قال القاضي: وليس له إطعام الجوارح، كالفهد والكلب، والصقر؛ لأنه لا حاجة إليه. وما يحتاج إليه من المشروبات للدواء، أبيح له تناوله؛ لأنه طعام احتاج إليه، فأشبه الفاكهة. فصل: وإن أحرزت الغنيمة، فقال الخرقي: لا يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة، بأن لا يجدوا ما يأكلون. ونص عليه أحمد؛ لأن المسلمين ملكوها بحيازتها، فلم يجز الأكل منها، كما لو حيزت إلى بلد الإسلام. وقال القاضي: لهم الأكل منها ما لم تحرز بدار الإسلام، أو تقسم؛ لأن الحاجة تدعو إلى الأكل منها، فأشبه ما قبل الحيازة. ويحتمل أن الخرقي أراد بالإحراز إدخالها دار الإسلام، فيكون معنى القولين واحدا. وإذا وجد في دار الحرب حيوانا مأكولا، فقال الخرقي: لا تعقر شاة، ولا دابة إلا لأكل لا بد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 منه؛ لأنها تقتنى لغير الأكل، فأشبهت الفرس. وقال القاضي: يجوز ذبح ما جرت العادة بذبحه للأكل، كالشاة وما دونها؛ لأنها مما تؤكل عادة، فأشبه الطعام. فأما الطيور، كالدجاج ونحوها، فيباح ذبحها وأكلها. نص عليه أحمد؛ لأن هذا مما لا يمكن حمله إلى دار الإسلام. فأشبه الطعام. فصل: ومن فضل معه من الطعام والعلف كثير، فأدخله البلد، فعليه رده إلى المغنم؛ لأنه إنما أبيح للحاجة وقد زالت الحاجة. وإن كان يسيرا، ففيه روايتان: إحداهما: يجب رده؛ لأنه أبيح للحاجة وقد زالت. والثانية: له أخذه؛ لأنه أخذ ما له أخذه، فلم يجب رده، كالسلب؛ ولأن اليسير تجري المسامحة فيه. قال الأوزاعي: أدركت الناس يقدمون من أرض العدو. بفضل الطعام والعلف، فيعلفون دوابهم، ويهديه بعضهم إلى بعض، لا ينكره إمام، ولا عامل ولا جماعة، وكانوا يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم إلى بعض. فصل: ولا يجوز أخذ إبرة، ولا خيط، ولا شعر، ولا صوف، لما روي «أن رجلا أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبة من شعر الغنم، فقال: يا رسول الله، إنا نعمل الشعر فهبها لي، قال: نصيبي منها لك» رواه سعيد. ولا يجوز أخذ جلد، سواء كان جلد ما نذبحه، أو غيره؛ لأنه إذا لم يجز أخذ الشعر، فالجلد أولى؛ ولأنه ليس بمأكول، أشبه الثياب. ولا يجوز ركوب دابة من المغنم، ولا لبس ثوب، لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلق رده فيه» وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أن له ركوب الفرس عند الحاجة حتى تنقضي الحرب، ثم يردها؛ لأنها من آلات الحرب، فأشبهت السلاح. فصل: ومن أخذ من مباحات دار الحرب شيئا، كالصيد، والحجر، والحشيش والشجر ونحوها، فاحتاج إليه للأكل والعلف، انتفع به. وإن لم يحتج إليه لذلك، وله قيمة في موضعه، فهو غنيمة؛ لأنه وصل إليه بقوة الجيش. وإن لم يكن له قيمة في موضعه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 وإنما يصير له قيمة بنقله، فهو لآخذه؛ لأنه إنما صارت له قيمة بفعله، وكذلك الركاز. وإن وجد لقطة يعلم أنها للكفار، فهي غنيمة. وإن احتمل أن تكون لمسلم، عرفها حولا، ثم ردها في الغنيمة إن لم تعرف لذلك. وإن ترك صاحب المغنم شيئا عجز عن حمله، فقال: من أخذ منه شيئا، فهو له، فهو لمن أخذه. نص عليه؛ لأنه بمنزلة ما لا قيمة له في دارهم. وإن لم يقل ذلك، فأكثر الروايات عن أحمد أنه لآخذه كذلك. وعنه: يكون غنيمة؛ لأنه ذو قيمة، فهو كالصيد. فصل: ومن وجد كتبا فيها كفر، فعليه إتلافها؛ لأن قراءتها والنظر فيها معصية، وكذلك كتب التوراة والإنجيل؛ لأنها مبدلة منسوخة منهي عن قراءتها. وإن أمكن الانتفاع بجلودها، أو رقها إذا غسل، فعل ذلك. وإن وجد خمرا، وجبت إراقته؛ لأن شربه معصية. وإن وجد خنزيرا، قتله. وإن وجد كلبا لا يباح اقتناؤه تركه، وإن أبيح اقتناؤه، فله أخذه لنفسه ودفعه إلى من ينتفع به من الغانمين، أو أهل الخمس؛ لأن الكلب لا قيمة له. وإن وجد فهدا معلما، أو بازيا، فهو غنيمة؛ لأن له قيمة. [ باب الأنفال والأسلاب ] النفل: ما يعطاه زيادة على سهمه. وهو نوعان: أحدهما: ما يستحق بالشرط، وهو ضربان: أحدهما: أن الأمير إذا دخل دار الحرب غازيا، بعث سرية بين يديه تغير على العدو، ويجعل لهم الربع بعد الخمس. فإذا قفل، بعث سرية تغير، ويجعل لهم الثلث بعد الخمس، فما قدمت به السرية خمسه، ثم أعطى السرية ما جعل لها، ثم قسم الباقي في الجيش والسرية معه، لما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال: «شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة» . وفي لفظ: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل الربع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس، إذا قفل» ، رواهما أبو داود. وعن عبادة بن الصامت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى الأثرم عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لجرير بن عبد الله لما قدم عليه في قومه يريد الشام: هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 من كل أرض وسبي؟ ولا تجوز الزيادة على الثلث؛ لأن نفل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتهى إليه ويجوز النقص منه؛ لأنه إذا جاز أن لا ينفل شيئا، فلأن يجوز تنفيل القليل أولى، ولا يستحق هذا النفل إلا بالشرط. نص عليه؛ لأن استحقاقه بغير شرط إنما يثبت بالشرع، ولم يرد الشرع باستحقاقه على الإطلاق. الضرب الثاني: أن يجعل الأمير جعلا لمن يعمل عملا فيه غناء عن المسلمين، مثل أن يقول: من طلع هذا الحصن، فله كذا أو من نقبه، أو من جاء بأسير، فله كذا، ومن جاء بعشرة رءوس، فله رأس، وأشباه هذا مما يراه الإمام مصلحة للمسلمين، فيجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل قتيلا، فله سلبه» ويجوز أن يجعل الجعل من مال المسلمين، ومما يؤخذ من المشركين، فإن جعله من مال المسلمين لم يجز إلا معلوما مقدرا، كالجعل في المسابقة، ورد الضالة. وإن كان من الكفار، جاز مجهولا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الثلث والربع، وسلب المقتول، وهو مجهول؛ ولأنه ضرر فيه على المسلمين، فجاز مع الجهالة، كسلب القتيل. النوع الثاني: أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء، لغنائه وبأسه، أو لمكروه تحمله، ككونه طليعة، أو عينا، فيجوز من غير شرط، لما روى سلمة بن الأكوع قال: «أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتبعتهم، وذكر الحديث إلى قوله: فأعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم الفارس والراجل» ، وعنه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا بكر، فبيتنا عدونا، فقتلت منهم تسعة أهل أبيات، فأخذت منهم امرأة، فنفلنيها أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما قدمت المدينة استوهبها مني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوهبتها له» ، رواهما أبو داود؛ ولأن في هذا تحريضا على القتال، ونفعا للمسلمين، والدفع عنهم، فجاز، كإعطاء السهم. فصل: إذا قال: من دلني على القلعة الفلانية، أو من دلني على طريق سهل، ونحو ذلك، فله كذا - جاز. فإن كان الجعل جارية من القلعة، جاز أن تكون معينة، وغير معينة كجارية مطلقة. فإن لم تفتح القلعة، فلا شيء له؛ لأن تقدير الكلام: من دلني على القلعة ففتحها الله علينا، فله جارية منها، لتعذر تسليمه جارية منها قبل فتحها، فإن فتحت، فلم يكن فيها جارية، أو لم يكن فيها المعينة، فلا شيء له؛ لأنه شرط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 معدوما. وإن كانت فيها فماتت قبل الفتح، فلا شيء له؛ لأنها غير مقدور عليها، أشبهت المعدومة. وإن كانت باقية، سلمت إليه؛ لأنه استحقها بالشرط. فإن كانت قد أسلمت قبل الفتح، عصمت نفسها بإسلامها، وله قيمتها؛ لأنه تعذر تسليمها مع وجودها، والقدرة عليها. وإن أسلمت بعد الفتح، سلمت إليه إن كان مسلما، وإن كان مشركا، انتقل إلى قيمتها، لتعذر تسليمها إليه مع القدرة عليها فإن أسلم بعد ذلك، احتمل أن لا يستحقها؛ لأن حقه انتقل إلى قيمتها، واحتمل أن يستحقها؛ لأن تعذر تسليمها إليه لمانع زال فأشبه من غصب عبدا، فأبق، ثم قدر عليه. وإن فتحت القلعة صلحا، فاستثنى الأمير الجارية وسلمها، جاز. وإن وقع مطلقا، فرضي مستحقها بقيمتها، أعطيها. وإن أبى وامتنع صاحب القلعة من بذلها بقيمتها، فسخ الصلح، لتعذر إمضائه، لسبق حق الدال، وتعذر إيصاله إليه مع تمام المصلحة، ويحتمل أن يعطى مستحقها قيمتها؛ لأنه تعذر دفعها إليه، فأشبه ما لو أسلمت. فصل: ومن قتل في وقت الحرب كافرا، فله سلبه، لما روى أبو قتادة، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قتل قتيلا له عليه بينة، فله سلبه» متفق عليه. وعن أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: من قتل كافرا فله سلبه فقتل أبو طلحة عشرين رجلا، وأخذ أسلابهم» . ولا يقبل دعوى القتل إلا ببينة، للخبر. ولا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، نص عليه؛ لأنه دعوى القتل، فأشبه قتل المسلم. وقياس المذهب أن يقبل فيها ما يقبل في الأموال؛ لأن مقصوده المال، فأشبه الشهادة على الغصب، والجناية الموجبة للمال. ويحتمل أن يقبل فيه قول واحد؛ لأن أبا قتادة، لما شهد له الرجل الذي أخذ سلبه، دفعه إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله وحده، ولا يخمس السلب؛ لأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فله سلبه» يتناول جميعه. وقد روى عوف بن مالك، وخالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في السلب للقاتل، ولم يخمس السلب» . رواه أبو داود. فصل: ولا يستحقه إلا بشروط أربعة: أحدها: أن يكون القاتل ذا حق في المغنم، حرا كان أو عبدا، رجلا أو صبيا، أو امرأة لعموم الخبر. وإن لم يكن ذا حق، كالمخذل، والمرجف، والكافر إذا حضر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 بغير إذن، لم يستحقه؛ لأنه لا حق له في السهم الثابت، فغيره أولى. والثاني: أن يغرر بنفسه في قتله، كالمبارز، فإن قتله بسهم رماه من صف المسلمين ونحوه، لم يستحقه؛ لأنه إنما ورد الخبر في المبارز ونحوه. الثالث: أن يقتله وهو مقبل على الحرب، فإن قتل أسيرا، أو مثخنا، أو منهزما إلى غير فئة، لم يستحقه؛ لأن ابن مسعود ذفف على أبي جهل يوم بدر، فلم يعط سلبه؛ ولأن استحقاق السلب للمخاطرة، والتغرير بالنفس، ولا خطر هاهنا. وإن قتل موليا ليكر، أو متحيزا إلى فئة، فله سلبه؛ لأن سلمة بن الأكوع، أدرك طليعة للكفار موليا، فقتله، «فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من قتله؟ قالوا: ابن الأكوع، قال: فله سلبه أجمع» ؛ ولأن القتال كر وفر. الرابع: أن يقتله لأن الخبر خص القاتل بالسلب، فاختص به دون غيره، فإن أسره لم يستحق سلبه كذلك. وقال القاضي: له سلبه، سواء قتله الإمام، أو من عليه، أو فاداه، وله فداؤه؛ لأن مال حصل بسبب تغريره في تحصيله، أشبه سلب القتيل. وظاهر كلام أحمد أنه يشترط أن ينفرد بقتله؛ لأنه قال في رواية حرب: له سلبه إذا انفرد بقتله؛ ولأنه يستحق للتغرير بالنفس، ولا يحصل مع الاشتراك، وإن قطع أحدهما يده، أو رجله وقتله الآخر، فكذلك؛ لأنهما شريكان فيه. وإن قطع أحدهما أربعته وقتله الآخر، فسلبه للقاطع؛ لأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل، وتمم عليه ابن مسعود، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسلبه لمعاذ؛ ولأن القاطع كفى شره، فأشبه القاتل، وإن قطع يديه أو رجليه، فكذلك لأنه قد عطله، ويحتمل أن لا يستحقه؛ لأنه إن قطع رجليه، قاتل بيديه، وإن قطع يديه فهو يعدو، ويكثر ويهيب، فما كفى شره. وإن عانق رجلا فقتله الآخر فالسلب للقاتل للخبر؛ ولأنه قاتل لمن لم يكف المسلمون شره، أشبه المطلق. وظاهر المذهب أنه يستحق، وإن لم يشرطه الإمام له، للخبر، إلا أنه أعجب أحمد أن لا يأخذه إلا بإذن الإمام؛ لأنه أمر مجتهد فيه، فلا يأخذه إلا بإذنه كالسهم. وعنه: لا يستحقه إلا بجعل الإمام قبل قتله، أو تنفيله بعده؛ لأنه نفل فلا يستحقه إلا بإذنه، كسائر الأنفال. فصل: والسلب: ما على القتيل من ثيابه، وحليه، وسلاحه، وإن كثر، لما روي أن عمرو بن معديكرب حمل على أسوار، فطعنه، فدق صلبه، فصرعه، فنزل إليه، فقطع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 يديه، وأخذ سوارين كانا عليه، ويلمقا من ديباج وسيفا ومنطقة، فسلم ذلك له. وبارز البراء مرزبان الزارة، فقتله، فبلغ سواراه ومنطقته ثلاثين ألفا. وفي الدابة وآلتها روايتان: إحداهما: هي من السلب، اختارها الخرقي؛ لأنها يستعان بها في الحرب، فهي كالسلاح. والثانية: ليست منه، اختارها الخلال، وأبو بكر؛ لأن السلب ما كان على البدن، والدابة ليست كذلك. فإن كان يقاتل وهو ممسك بعنانها، فعن أحمد أنها من السلب؛ لأنه يركبها إذا احتاج إليها. وعنه: ليست منه؛ لأنه ليس بمستعين بها في حال قتاله، أشبهت التي في رحله. فإن كان معه فرس مجنوبة إلى فرسه، فليست من السلب كذلك، وكذلك المال الذي في كمرانه، وغيره، ورحله، وسلاحه الذي ليس معه حال قتله، ليس من السلب؛ لأن سلبه ما عليه حال قتله، أو ما يستعان به في القتال. [ باب قسمة الغنائم ] الغنيمة: ما أخذ من مال الكفار بإيجاف، فخمسها لأهل الخمس، وأربعة أخماسها للغانمين، لقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. فأضافها إليهم ثم جعل خمسها لله فدل على أن أربعة أخماسها لهم. ثم قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم الغنائم كذلك. والإمام مخير بين قسمتها في دار الحرب، وبين تأخير القسمة إلى دار الإسلام، أي ذلك رأى المصلحة فيه فعل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين جميعا، فقسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء، قريبا من بدر، وغنائم بني المصطلق على مياههم، وغنائم حنين بأوطاس واد من حنين، وقسم فداء أسارى بدر بالمدينة، وهو غنيمة؛ ولأن المسلمين قد ملكوا الغنيمة بالاستيلاء التام في دار الحرب، فجازت قسمتها، كما لو جاوزها إلى دار الإسلام. فصل: فإذا أراد القسمة بدأ بالأسلاب، فدفعها إلى أهلها وإن كان فيها مال المسلم، دفع إليه لأنه استحقه بسبب سابق، ثم يدفع منه أجرة الحافظ، والناقل، والقاسم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 والحاسب؛ لأنه لمصلحة الغنيمة. وفي الرضخ وجهان: أحدهما: هو من أصل الغنيمة؛ لأنه يستحقه للمعاونة في تحصيلها، أشبه أجرة النقال. والثاني: من أربعة الأخماس؛ لأنه استحق بحضور الوقعة، أشبه السهمان. فعلى الأول يعطى الرضخ لأهله، ثم يقسم الباقي على خمسة أسهم، سهم منها لأهل الخمس، ثم يدفع الأنفال مما بقي، ثم يقسم الباقي بين الغانمين، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه، لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم يوم خيبر، للفارس ثلاثة أسهم، سهمان لفرسه، وسهم له» . متفق عليه، وعن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الفارس ثلاثة أسهم، وأعطى الراجل سهما» . رواه الأثرم. فصل: ويقسم ما بين الغانمين، كقسمة المتاع بين الشركاء، فيقوم ما عدا الأثمان، ويدفعها إليهم بقيمتها، فإن أمكن تخصيص كل إنسان بعين، كجارية وفرس وثوب، فعل، وإن لم يمكن، شرك بين الجماعة في العين الواحدة. ويقسم الغنيمة بين من شهد الوقعة من أهل القتال، من قاتل ومن لم يقاتل، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة. ولأن غير المقاتل ردء له ومعين فيشاركه، كرد المحارب. فأما غير أهل القتال، كالطفل، والمجنون، ومن ينبغي للإمام منعه كالمرجف والمخذل، والمعين للعدو، فلا شيء له وإن قاتل؛ لأن ضره أكثر من نفعه. ومن كان مريضا مرضا يمنعه القتال، فلا سهم له، كالمجنون، وإن لم يمنعه القتال، كالحمى الخفيفة والصداع، والسعال، أسهم له؛ لأنه من أهل القتال. فصل: ولا يسهم لفرس ينبغي للإمام منعه كالقحم، والحطم، والضرع، والأعجف لما ذكرنا في الرجل، ولا لغير الخيل من البغال والحمير، والإبل لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسهم لغير الخيل؛ ولأنها لا تلحق بالخيل في التأثير في الحرب والكر والفر، فلم تلحق بها في السهم. وهذا اختيار أبي الخطاب. وروي عن أحمد فيمن غزا على بعير لا يقدر على غيره، قسم له ولبعيره سهمان، لقول الله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ولأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض، أشبه الفرس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 فصل: وفي غير العربي من الخيل أربع روايات: إحداهن: أنه كالعربي في سهمه، اختارها الخلال؛ ولأن اسم الفرس شامل له؛ ولأنه حيوان ذو سهم، فاستوى العربي وغيره، كالرجال. والثانية: له سهم واحد، اختارها الخرقي، لما روى أبو الأقمر قال: غارت الخيل على الشام، فأدركت العراب من يومها، وأدركت الكوادن ضحى الغد، وعلى الخيل رجل من همدان يقال له: المنذر بن أبي حميضة فقال: لا أجعل التي أدركت من يومها مثل التي لم تدرك، ففضل الخيل، فقال عمر: هبلت الوداعي أمه، امضوها على ما قال. أخرجه سعيد؛ ولأنهما تختلف غناؤهما فاختلفت سهمانهما، كالفارس والراجل. الثالثة: ما أدرك منها إدراك العراب، فله سهمها؛ لأنه عمل عملها، وساواها في جنسها، فساواها في سهمها، كما لو اتفق نوعهما. والرابعة: لا سهم له؛ لأنه لا يعمل عمل العراب أشبه البغال. فصل: ومن غزا على فرسين، قسم لهما أربعة أسهم، ولصاحبهما سهم، ولا يسهم لأكثر من فرسين، لما روى الأوزاعي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس» . وعن أزهر بن عبد الله: أن عمر كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح: أن أسهم للفرس سهمين، وللفرسين أربعة أسهم، ولصاحبهما سهما، فذلك خمسة أسهم. وما كان فوق الفرسين، فهو جنائب. فصل: ومن غزا على فرس حبيس، فله سهمه؛ لأنه استحق نفعه، فملك سهمه، كالمستعار. ومن غصب فرسا، فقاتل عليه، فسهم الفرس لمالكه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل للفرس سهمين، فكانا لمالكها، كما لو كان راكبها. وإن كان الفرس عارية أو بأجرة، فسهمها لراكبها لأنه ملك نفعه. وهذا من نفعه. وعنه: أن سهم المستعار لمالكه؛ لأنه من نمائه، أشبه ولده. وإن قاتل العبد على فرس سيده، قسم للفرس لأنه قوتل عليه في الحرب فاستحق السهم، كما لو قاتل عليه حر، ويكون سهمه لمالكه. ومن دخل أرض الحرب فارسا، وحضر الوقعة غير فارس لموت فرسه، أو بيعه، أو إجارته، أو إعارته أو غصبه أو ضيعته، فله سهم راجل. وإن دخل راجلا، فملك فرسا، أو استأجره فحضر به الوقعة فله سهم فارس؛ لأن الفرس حيوان ذو سهم، فاعتبر وجوده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 حال القتال فيسهم له مع وجوده، ولا يسهم له مع العدم، كالآدمي. فصل: ولا يسهم لامرأة ولا صبي ولا مملوك؛ لأنهم من غير أهل القتال. ويرضخ لهم دون السهم، لما روى ابن عباس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بالنساء فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة. وأما سهم، فلم يضرب لهن» . رواه مسلم. وقال سعيد بن المسيب: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة في صدر هذه الأمة. وقال تميم بن قرع: كنت في الجيش الذي فتح الإسكندرية في المرة الآخرة، فلم يسهم لي عمرو شيئا وقال: غلام لم يحتلم، فسألوا أبا بصرة الغفاري، وعقبة بن عامر، فقالا: انظروا، فإن كان قد أشعر فاقسموا له، فنظر إلي بعض القوم، فإذا أنا قد أنبت، فقسم لي. وقال الجوزجاني: هذا من مشاهير حديث مصر، وجيده. وعن عمير مولى آبي اللحم قال: «شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرني فقلدت سيفا، فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشيء من خرثي المتاع.» رواه أحمد، وأبو داود والترمذي. والمكاتب والمدبر، كالقن؛ لأنه عبد، فأما المعتق بعضه، فظاهر كلام أحمد أنه يرضخ له؛ لأنه لم تكمل له الحرية، أشبه القن. وقال أبو بكر: يسهم له بقدر ما فيه من الحرية والرق؛ لأنه يتجزأ، فقسم على قدر ما فيه كالميراث. قال ابن أبي موسى: هذا هو الصحيح. ومن أعتق قبل انقضاء الحرب، أو بلغ، أسهم له؛ لأنه صار من أهل الاستحقاق، فأشبه المدد إذا لحق. والرضخ غير مقدر لكنه يرجع فيه إلى اجتهاد أمير الجيش، فيفضل ذا الغناء على من دونه في النفع؛ لأن الشرع لم يرد بتقديره، فرجع في تقديره إلى الاجتهاد كالتعزير. ولا يبلغ بالرضخ لراجل سهم راجل؛ لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه، كالتعزير عن الحد. والحكومة لا يبلغ بها أرش العضو. ويكون الرضخ من أربعة أخماس الغنيمة؛ لأنهم من المجاهدين، فكان حقهم من أربعة الأخماس، كذوي السهمان. فصل: وإذا غزا الكافر معنا من غير إذن الأمير فلا سهم له؛ لأنهم ممن يستحق المنع من الغزو، فأشبه المخذل. وإن غزا بإذنه ففيه روايتان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 إحداهما: لا سهم له؛ لأنه من غير أهل الجهاد، فلم يسهم له، كالعبد. فعلى هذا يرضخ له كالعبد. والثانية: يسهم له. اختارها الخرقي، لما روى سعيد بإسناده عن الزهري «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بناس من اليهود في حربه، فأسهم لهم» . وروي «أن صفوان بن أمية خرج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين وهو على شركه، فأسهم له» ؛ ولأن الكفر نقص دين، فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق. فصل: ومن استؤجر على الجهاد من غير أهل القتال، كالكافر والعبد، لم يستحق غير الأجرة. وهكذا الأجير للخدمة، والذي يكري دابته. فأما المسلم الحر إذا استؤجر للجهاد، فقال القاضي: لا يصح استئجاره؛ لأن الغزو يتعين بحضوره على من هو من أهله، فلا يصح أن يفعله عن غيره، كالحج. فعلى هذا: يرد الأجرة وله سهمه؛ لأن غزوه بغير أجرة. وظاهر كلام أحمد والخرقي صحة الإجارة لمن لم يتعين عليه الجهاد؛ لأنه مما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، فجاز استئجار الحر المسلم عليه، كبناء المساجد؛ ولأن ما صحت إجارة العبد والكافر عليه، صح إجارة الحر المسلم عليه، كالبناء. فعلى هذا إذا حضر القتال، فظاهر نص أحمد والخرقي أنه لا يسهم له، لما روى «يعلى بن منية أنه استأجر أجيرا يكفيه من الغزو، قال: فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمة، أردت أن أجري له سهمه، فذكرت الدنانير، فجئت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أمره، فقال: ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى» رواه أبو داود؛ ولأن غزوه بعوض، فكأنه واقع من غيره، فلم يثبت له حكمه وفائدته، كما له حج عن غيره. واستحقاق الغنيمة من أحكامه وفوائده، وروي عن أحمد أنه يسهم له. قال الخلال: وهو الذي أعتمد عليه من قول أبي عبد الله، لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: «للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي» . رواه أبو داود. وعن جبير بن نفير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل الذين يغزون عن أمتي، ويأخذون الجعل، ويتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» . رواه سعيد؛ ولأنه حاضر للوقعة من أهل القتال، فأشبه أهل الديوان. فأما التاجر والصانع وأشباههما، فيسهم لهم إذا حضروا القتال، نص عليه أحمد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغنيمة لمن حضر الوقعة. قال القاضي: هذا إذا كان قصدهم الجهاد، ويقاتلون إذا احتيج إليهم وأمكنهم، وكذلك من يكري دابته. ومن لم يكن كذلك، لم يسهم له؛ لأنه لا نفع في حضوره، أشبه المخذل. فصل: وإذا لحق الجيش مدد، أو أسير أفلت، أو فودي به قبل انقضاء الحرب، أسهم لهم، وإن كان بعد انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة لم يسهم لهم، لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغنيمة لمن شهد الوقعة. ولما روى أبو هريرة «أن أبان بن سعيد وأصحابه قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر بعد أن فتحها، فقال: اقسم لنا يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجلس يا أبان ولم يقسم له» . رواه أبو داود؛ ولأنهم إذا قدموا قبل انقضاء الحرب، فقد شاركوا الغانمين في السبب، فشاركوهم في الاستحقاق، كما لو قدموا قبل الحرب. وإذا قدموا بعد ذلك، فلا شيء لهم؛ لأنهم لم يشاركوهم في السبب ولأنهم حضروا بعد أن صارت الغنيمة للغانمين، فأشبه ما لو حضروا بعد القسمة. وإن حضروا بعد تقضي الحرب، وقبل إحراز الغنيمة، فظاهر كلام الخرقي أنهم يشاركونهم؛ لأن الغنيمة تملك بحيازتها، والاستيلاء عليها، ولا يتم إلا بحيازتها، وظاهر قول القاضي: أنهم لا يشاركونهم؛ لأنه ذكر أن الغنيمة تملك بتقضي الحرب قبل الحيازة؛ لأنها صارت مقدورا عليها بإزالة يد الكفار عنها، فأشبه ما بعد الحيازة، وإن حازها الغانمون، ثم جاءهم الكفار يقاتلونهم عليها فأدركهم المدد، فقاتلوا معهم حتى سلموا الغنيمة، فنص أحمد: أنه لا شيء للمدد؛ لأن الأولين ملكوها، والمدد يقاتلون عن الغانمين بعد ملكهم للغنيمة، فأشبهت سائر أموالهم، وإن استنقذها الكفار من أيديهم، ثم جاءهم المدد، فقاتلوا معهم حتى استنقذوها، فقال أحمد: أعجب إلي أن يصطلحوا. فصل: وإذا غزا الأمير بجيش، فأسرى سرية، أو سرايا إلى جهة مقصده، أو غيره، فغنمت، شاركهم الجيش وإن غنم الجيش، شارك سراياه؛ لأنه يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين هزم هوازن بحنين، أسرى قبل أوطاس سرية، فغنمت، فقسم غنائمهم بين الجميع. وفي تنفيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السرية الثلث والربع، دليل على مقاسمة الجيش لها الباقي؛ ولأن الجميع جيش واحد، فلم يختص بعضهم بغنيمة، كأحد جانبي الجيش، وإن بعث السرايا، وأقام الجيش في بلد الإسلام، فلكل سرية غنيمتها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث السرايا من المدينة، فلم يشاركهم أهل المدينة في غنائمهم. وإن خلف الأمير قوما في بلد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 العدو لضعف، أو غيره، وغزا فغنم، فأقاموا في بلد العدو حتى رجع، شاركوهم. نص عليه. سواء رجع عليهم، أو من غير طريقهم؛ لأنهم كالسرية، وإن رجعوا إلى حصون المسلمين، أو بلادهم، فلا سهم لهم؛ لأنهم برجوعهم صاروا كالمقيمين بدار الإسلام. فصل: ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش، كالبريد، والطليعة، والجاسوس، فلم يحضر الغنيمة أسهم له؛ لأنه في مصلحة الجيش، أشبه السرية؛ ولأنه إذا أسهم للمتخلف عن الجيش، فلهؤلاء أولى. وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من بدر ولم يحضرها، لاشتغاله بتمريض رقية ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل: ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه؛ لأنه ثبت ملكه فيه، فقام وارثه مقامه، كما بعد القسمة. وإن أسر، فله سهمه كذلك. وإن أسر، أو مات قبل تقضي الحرب، فلا شيء له لأنه لم يملك شيئا. فصل: وإذا قال الإمام: من أخذ شيئا، فهو له، ففيه روايتان: إحداهما: يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم بدر: «ومن أخذ شيئا فهو له» ولأنهم غزوا على هذا ورضوا به. والثانية: لا يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم الغنائم، والخلفاء بعده؛ ولأن ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال، فيفضي إلى ظفر العدو بهم، وقصة بدر منسوخة بقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] . فصل: فأما تفضيل بعض الغانمين على بعض، فإن كان على سبيل التنفيل لبعضهم، فقد ذكرناه. وإن كان على غير ذلك، لم يجز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سوى بينهم؛ ولأنهم اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية، فيجب التسوية بينهم، كسائر الشركاء. فصل: ومن غل من الغنيمة وهو أن يكتم ما غنمه، أو شيئا منه، وجب إحراق رحله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 إلا السلاح والمصحف، وما فيه روح، لما روى صالح بن محمد بن زائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه، فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل، فأحرقوا متاعه واضربوه» قال: فوجدنا في متاعه مصحفا، فسألنا سالما عنه، فقال: بعه وتصدق بثمنه. ولا يحرق المصحف والحيوان لحرمته، ولا ثيابه؛ لأنه يبقى عريانا، ولا ما غله لأنه للمسلمين. وإن مات قبل إحراق متاعه، لم يحرق؛ لأنه عقوبة فسقط بموته، كالحد؛ ولأن ماله ينتقل إلى وارثه فيصير إحراقه عقوبة لغير الجاني، ولا يحرم الغال سهمه؛ لأن سبب استحقاقه متحقق. فصل: وإذا كان في السبي، من يعتق على بعض الغانمين بالملك، أو عتق عبدا من الغنيمة عتق عليه كله، وعليه قيمته، يرد في المقسم إن كان موسرا؛ لأنه ملك جزءا منه بفعله، فعتق عليه جميعه، كما لو اشترى جزءا منه. وإن كان معسرا، لم يعتق عليه، إلا ما ملك منه كذلك. ومن وطئ جارية من المغنم، ممن له فيها حق أو لولده، فلا حد عليه للشبهة ويعزر، وعليه مهرها؛ لأنه وطء سقط فيه الحد عن الواطئ للشبهة، فوجب به المهر، كالوطء في نكاح فاسد، وإن أحبلها، ثبت نسب الولد، وينعقد حرا للشبهة، وتصير أم ولد له، وعليه قيمتها ترد في المغنم. وهل يلزمه قيمة الولد؟ فيه روايتان: إحداهما: تلزمه لأنه فوت رقه. والثانية: لا يجب؛ لأنه ينعقد حرا، فلم يدخل في ملك الغانمين. فصل: ويجوز للأمير البيع من الغنيمة قبل القسمة للغانمين، ولغيرهم إذا رأى المصلحة فيه؛ لأن الولاية ثابتة له عليها، وقد تدعو الحاجة إلى ذلك لإزالة كلفة نقلها، أو لتعذر قسمتها بعينها، ويجوز لكل واحد من الغانمين، بيع ما يحصل له بعد القسم، والتصرف فيه كيف شاء؛ لأن ملكه ثابت فيه. فإن باع الأمير، أو بعض الغانمين في دار الحرب شيئا، فغلب عليه العدو قبل إخراجه إلى دار الإسلام، ففيه روايتان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 إحداهما: هو من ضمان المشتري. اختارها الخلال وصاحبه؛ لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه التصرف فيه، فكان من ضمانه، كما لو اشتراه في دار الإسلام. والثانية: ينفسخ البيع، ويسقط الثمن عن المشتري، أو يرد إليه إن كان أخذ منه. اختارها الخرقي؛ لأنه لم يكمل قبضه، لكونه في دار الحرب، في خطر قهر العدو، فلم يضمنه المشتري كالثمر في الشجر. هذا إذا أخذ بغير تفريط من المشتري، فإن أخذ منه لخروجه من العسكر، فهو من ضمانه؛ لأنه ذهب بتفريطه، أشبه ما لو أتلفه. فصل: قال أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : ولا يجوز لأمير الجيش، أن يشتري من مغنم المسلمين شيئا؛ لأنه يحابي؛ ولأن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] رد ما اشتراه ابنه، في غزوة جلولاء، فأما إن وكل من يشتري له، ممن لا يعرف أنه وكيله، صح الشراء، لعدم المحاباة. ورخص أبو عبد الله، فيما إذا قوم أصحاب المقاسم، فقالوا: جلود الماعز بكذا، والخرفان بكذا، فاحتاج أحد الغانمين إلى أخذ شيء منه بتلك القيمة أن يأخذه، ولا يأتي المقاسم، لأجل المشقة في استئذانهم في جميع ذلك. فصل: وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين، أو أهل الذمة، ثم ظهر عليه المسلمون، فأدركه صاحبه قبل قسمه، وجب رده إليه، لما روى ابن عمر أنه ذهب فرس له، فأخذه العدو، فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعنه: «أن غلاما له أبق إلى أرض العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ابن عمر، ولم يقسم» . رواهما أبو داود. فإن لم يرده إليه الإمام، وقسمه مع العلم، لم تصح قسمته؛ لأنه قسم مال مسلم، يجب رده إليه فأشبه المغصوب، ولصاحبه أخذه بغير شيء. فأما إن أدركه صاحبه بعد القسم ففيه روايتان: إحداهما: لا حق له فيه، لما روي أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما أحرز المشركون من المسلمين، ثم ظهر المسلمون عليهم بعد، قال: من وجد عين ماله بعينه، فهو أحق به ما لم يقسم. وقال سلمان بن ربيعة: إذا قسم، فلا حق له فيه. رواهما سعيد. وروى أصحابنا عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ماله قبل أن يقسم، فهو له. وإن أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شيء» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 والثانية: هو أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلا وجد بعيرا له، كان المشركون أصابوه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أصبته قبل القسمة، فهو لك، وإن أصبته بعدما قسم، أخذته بالقيمة» ؛ ولأن امتناع أخذه خشية ضياع حق آخذه من الغنيمة أو تضييع الثمن على المشتري، وهذا ينجبر بأداء الثمن، فوجب أن يأخذه بالثمن، كالشقص المشفوع. وإن أخذ أحد الرعية مال المسلم من الكفار بغير عوض، كالهبة، والسرقة، فصاحبه أحق به، لما روي: «أن قوما أغاروا على سرح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذوا ناقته، وجارية من الأنصار، فأقامت عندهم أياما، ثم خرجت في بعض الليل، قالت: فما وضعت يدي على ناقة، إلا رغت، حتى وضعتها على ناقة ذلول، فامتطيتها، ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة، فإذا هي ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذها، فقلت: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحرها، فقال: بئس ما جازيتها، لا نذر في معصية» وفي لفظ: «لا نذر فيما لا يملك ابن آدم» ؛ ولأنه حصل في يده بغير عوض ولا قسمة، أشبه ما لو أدركه في الغنيمة، قبل القسمة. وإن أخذه من الكفار بثمن فحكمه حكم المقسوم. هل يكون صاحبه أحق به بالثمن، أو لا يستحقه؟ يحتمل وجهين؛ لما روى الشعبي قال: أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب، فأصابوا سبايا العرب، فكتب السائب بن الأقرع، إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم قد اشتراه التجار من أهل ماه، فكتب عمر فيمن أصاب رقيقه، ومتاعه في أيدي التجار بعدما اقتسم، فلا سبيل إليه، وأيما حر اشتراه التجار، فإنه ترد إليهم رءوس أموالهم. فإن الحر لا يباع، ولا يشترى. رواه سعيد. فصل: وإن استولى حربي على مال مسلم، ثم أسلم، أو دخل إلينا بأمان، فهو له. نص عليه أحمد. وإن كان قد أتلفه أو باعه فلا شيء عليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» ، وإن كان أخذه من المستولي عليه بسرقة، أو هبة، أو شراء، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه قد حصل منه الاستيلاء، والأخرى صاحبه أحق به بالقيمة؛ لأنه كالمقسوم. فإن استولى على جارية، فاستولدها، فهي أم ولد له. فإن غنمها المسلمون فأدركها صاحبها، أخذها، وكان أولادها غنيمة؛ لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر لها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 فصل: وإن استولى الكفار على حر من المسلمين، أو أهل الذمة، لم يملكوه. وإن اشتراه رجل منهم فعلى الأسير أداء ما اشتراه به، لما ذكرنا من خبر عمر. وإن استولوا على عبد، فحكمه حكم الأموال، قنا كان أو مدبرا، أو مكاتبا أو مدبرا؛ لأنه يضمن بالقيمة. وهل يكون سيده أحق به بالثمن بعد القسمة؟ على الروايتين. وإن استولوا على أم ولد، فأدركها صاحبها بعد القسمة، أو في يد مشتريها من الكفار، فهو أحق بها بالقيمة بكل حال؛ لأنه قد حصل فيها سبب للحرية لازم، فأثر ذلك في منع إقرار اليد عليها. فإن لم يحب سيد المكاتب أخذه. فهو في يد مشتريه، أو من أعطيه من الغانمين فبقي على ما بقي عليه من كتابته، يعتق بالأداء. وولاؤه لمن يؤدي إليه. فصل: وإن غنم المسلمون من الكفار شيئا عليه علامة المسلمين، ولم يعرف صاحبه، فهو غنيمة، تجوز قسمته؛ لأنه قد وجد سبب الملك وهو الاستيلاء، ولم يتحقق ما يمنعه. فإن كان فيها شيء موسوم عليه، حبيس، رد إلى أهله؛ لأنه قد عرف مصرفه، وإن كان فيها عبد فقال: أنا لفلان، قبل منه ورد إلى صاحبه، وإن أصابوا مركبا، كان للمسلمين، وفيه النواتية، فقالوا: هذا لفلان، وهذا لفلان، لم يقسم. نص أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على هذا كله. فصل: وإذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام، فغنموا، ففي غنيمتهم ثلاث روايات: إحداهن: فيها الخمس وسائرها لهم؛ لعموم قوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . والثانية: هي لهم من غير خمس؛ لأنه اكتساب مباح من غير جهاد، فأشبه الاحتطاب. والثالثة: هي فيء لا شيء لهم فيها؛ لأنهم عصاة بفعلهم، فلم يملكوه، كالسرقة من المسلمين. وإن كانت الطائفة ذات منعة فكذلك، لما ذكرنا من التعليل، وقيل: لا يكون لهم بغير خمس، رواية واحدة لأنها غنيمة، فلا يستحقونها بغير خمس للآية، وكسائر الغنائم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 فصل: ومن أجر نفسه على حفظ الغنيمة أو سوق دوابها، أو رعيها أو حملها، فله أجرته؛ لأنه فعل بالمسلمين إليه حاجة لم يتعين عليه فعله، فأبيح له إجارة نفسه فيه، كالدلالة على الطريق. وليس له ركوب دابة من المغنم، ولا حبيس؛ لأنه يستعمل دابة المسلمين فيما يختص نفعه به، فلم يجز، كما لو أجر نفسه لأجنبي. فإن فعل فعليه أجرة مثل الدابة، يرد في المغنم إن كانت من الغنيمة، أو تصرف في نفقة دابة الحبيس، إن كانت حبيسا. وإن شرط له في الإجارة ركوب دابة من المغنم، جاز؛ لأن ركوبها من الأجرة، فجازت من المغنم، كما لو أجر نفسه بدابة من المغنم. فصل: وما أهداه أهل الحرب لأمير الجيش، أو غيره من أهل الجيش في دار الحرب، فهو غنيمة؛ لأنه يغلب على الظن أنه بذله خوفا من المسلمين. وإن كانت الهدية من دار الحرب إلى دار الإسلام، فهي لمن أهدي إليه؛ لأنه تبرع له بذلك من غير خوف، فأشبه هدية المسلمين. فصل: وإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد، وإن حصلت غنائم، قسمها أهلها بينهم على موجب الشرع؛ لأنها مال لهم مشترك، فجاز لهم قسمته كسائر الأموال. فإن كان فيها إماء، أخروا قسمتهن حتى يظهر إمام؛ لأن في قسمتهن إباحة الفروج، فاحتيط في بابها. [ باب قسمة الخمس ] يقسم الخمس على خمسة أسهم: سهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، لقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] . فسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصرف في مصالح المسلمين، لما روى جبير بن مطعم «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تناول بيده وبرة من بعير ثم قال: والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» فجعله لجميع المسلمين. ولا يمكن صرفه إلى جميعهم إلا بصرفه في مصالحهم، من سد الثغور، وكفاية أهلها، وشراء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 الكراع والسلاح، ثم الأهم فالأهم، على ما سنذكره في الفيء. وعنه: أن سهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختص بأهل الديوان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحقه لحصول النصرة، فيكون لمن يقوم مقامه في النصرة. وعنه: أنه يصرف في الكراع والسلاح. فصل: وسهم ذي القربى لبني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، لما روى جبير بن مطعم، قال: «لما كان يوم خيبر، وضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب، جئت أنا وعثمان، فقلنا: يا رسول الله، إن إخواننا بني هاشم لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا؟ وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال: إنهم لم يفارقوني في جاهلية وإسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ثم شبك بين أصابعه» . رواه أبو داود. ويجب تعميمهم به حيث كانوا، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ولأنه حق يستحق بالقرابة، فوجب تعميمهم به كالميراث. ويعطى الغني والفقير والذكر والأنثى كذلك؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى منه العباس وهو غني، وأعطى صفية عمته. ويقسم للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه يستحق بقرابة الأب بالشرع، أشبه الميراث، ويحتمل أن يسوى بينهما، كالمستحق بالوصية للقرابة. فصل: وأما سهم اليتامى، فهو لصغير لا أب له، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد احتلام» . ويعتبر أن يكون فقيرا؛ لأن غناه بالمال أكثر من غناه بالأب، وسهم المساكين للفقراء، أو المساكين الذين يستحقون من الزكاة؛ لأنه متى أفرد لفظ المساكين أو الفقراء، تناول الصنفين، بدليل مصرف الكفارات، والوصايا والنذور. وسهم ابن السبيل للصنف المذكور في أصناف الزكاة. فصل: ولا حق في الخمس لكافر؛ لأنه عطية من الله، فلم يكن لكافر فيه حق كالزكاة، ولا للعبد؛ لأن ما يعطاه لسيده، فكانت العطية لسيده دونه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 [ باب قسمة الفيء ] باب قسم الفيء فصل: وهو: كل مال أخذ من المشركين بغير قتال كالجزية، والخراج، والعشور المأخوذة من تجارهم، وما تركوه فزعا وهربوا، أو بذلوه لنا في الهدنة، ونحو ذلك، فذكر الخرقي: أنه يخمس، فيصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة، لقول الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] وهؤلاء أهل الخمس، وهذا إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وظاهر المذهب أنه لا يخمس، لقول الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ... الآيات. فجعله كله لجميع المسلمين. قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما قرأها: هذه استوعبت المسلمين، ولئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه. وعلى كلتا الروايتين يبدأ فيه بالأهم فالأهم. وأهم المصالح كفاية أجناد المسلمين بأرزاقهم، وسد الثغور بمن فيه كفاية. وكفايتهم بأرزاقهم، وبناء ما يحتاج إلى بنائه منها، وحفره الخنادق، وشراء ما يحتاج إليه من الكراع والسلاح، ثم الأهم فالأهم من عمارة القناطر والطرق والمساجد، وكري الأنهار، وسد البثوق، وأرزاق القضاة، والأئمة، والمؤذنين، ومن يحتاج إليه المسلمون، وكل ما يعود نفعه إلى المسلمين، ثم ما فضل قسمه على المسلمين، لما ذكرنا من الآية، وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذكر القاضي: أن الفيء لأهل الجهاد خاصة دون غيرهم من الأعراب، ومن لا يعد نفسه للجهاد؛ لأنه ذلك كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحصول النصرة به، فلما مات أعطي لمن يقوم مقامه في ذلك، وهم المقاتلة دون غيرهم. فصل: ويفرض للمقاتلة من المسلمين قدر كفايتهم؛ لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فيجب أن يكفوا المؤنة، ويتعاهد عدد عيالهم لأنهم قد يزيدون وينقصون، ويتعرف أسعار ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة؛ لأنه قد يغلو ويرخص، لتكون أعطيتهم على قدر كفايتهم، ولا يفرض في المقاتلة لصبي ولا مجنون، ولا عبد ولا امرأة، ولا ضعيف عاجز عن الجهاد، ولا لمريض لا يرجى برؤه؛ لأنهم من غير أهل الجهاد. ويفرض للمريض المرجو برؤه؛ لأن أحدا لا يخلو من عارض. وإن مات مجاهد وله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 عائلة، أجري عليهم قدر كفايتهم؛ لأن فيه تطييب قلوب المجاهدين، فمتى علموا أن عيالهم يكفون المؤنة بعد موتهم، توفروا على الجهاد. وإن علموا خلاف ذلك، توفروا على الكسب، وآثروه على الجهاد. فإذا بلغ الذكور منهم، فاختاروا أن يكونوا من المقاتلة، فرض لهم. وإن لم يختاروا، تركوا. ومتى تزوجت المرأة، سقط حقها؛ لأنها خرجت من عيال الميت. ومن مات بعد حلول وقت العطاء، دفع إلى ورثته حقه؛ لأنه مات بعد الاستحقاق، فانتقل حقه إلى وارثه، كسائر الموروثات. فصل: وينبغي للإمام أن يضع ديوانا يكتب فيه أسماء المقاتلة، وقدر أرزاقهم لما روي عن أبي هريرة قال: قدمت على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثمانمائة ألف درهم، فلما أصبح، أرسل إلى نفر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لهم: قد جاء للناس مال لم يأتيهم مثله منذ كان الإسلام، أشيروا علي بمن أبدأ؟ قالوا: بك يا أمير المؤمنين، إنك ولي ذلك. قال: لا، ولكن ابدءوا بأهل بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الأقرب فالأقرب، فوضع الديوان على ذلك، ويجعل لكل طائفة عريفا يقوم بأمرهم ويجمعهم وقت العطاء، ووقت الغزو؛ لأنه يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل عام خيبر على كل عشرة عريفا، ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين. ولا يجعل في أقل من ذلك، لئلا يشغلهم عن الغزو، ويبدأ ببني هاشم؛ لأنهم أقارب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكرنا من خبر عمر، ثم ببني المطلب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه. ثم ببني عبد شمس؛ لأنه أخو هاشم لأبيه وأمه. قال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: عبد شمس كان يتلو هاشما، وهما بعد لأم وأب، ثم ببني نوفل؛ لأنه أخو هاشم لأبيه، ثم يعطى بنو عبد العزى، وعبد الدار ويقدم عبد العزى؛ لأن فيهم أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن خديجة منهم، فعلى هذا: يعطى الأقرب فالأقرب، حتى تنقضي قريش، وهم بنو النضر بن كنانة، ثم يقدم الأنصار على سائر العرب لسابقتهم وآثارهم الجميلة، ثم سائر العرب، ثم العجم، وإن استوى اثنان في الدرجة، قدم أسنهما، ثم أقدمهما هجرة وسابقة. فصل: واختلفت الرواية عن أحمد في جواز تفضيل بعضهم على بعض، فروي عنه: أنه يسوى بينهم في العطاء، ولا يجوز التفضيل؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سوى بينهم فيه، وقال: فضائلهم عند ربهم؛ ولأن الغنائم تقسم بين من حضر الوقعة على السواء، فكذلك الفيء. وعنه: أن للإمام تفضيل قوم على قوم؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قسم بينهم على السوابق، وقال: لا أجعل من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم النفل بين أهله متفاضلا، وهذا في معناه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 فصل: ومن ضل من أهل الحرب الطريق، فوقع في دار الإسلام، أو حملته الريح في المركب إلينا، أو شرد من دوابهم فحصل في أيدينا، ذكر أبو الخطاب، فيه روايتين: إحداهما: يكون فيئا؛ لأنه مال مشرك ظهر عليه بغير قتال، أشبه ما تركوه فزعا وهربوا. والثانية: هو لمن أخذه؛ لأنه مباح ظهر عليه بغير جهاد، فكان لآخذه كمباحات دار الإسلام. وقد روي عن أحمد فيمن ضل الطريق منهم، فدخل إلى قرية، قال: هو لأهل القرية كلهم، وقال في عبد أبق إلى أرض الروم، ثم رجع ومعه متاع: فالعبد لمولاه، وما معه من المتاع والمال فهو للمسلمين. قال القاضي: هذا على الرواية التي تجعل غنيمة الذين دخلوا أرض الحرب بغير إذن الإمام فيئا، فأما على الرواية الأخرى، فيكون المال لسيده؛ لأنه كسب عبده، وفي تخميسه روايتان. ولو أسر الكفار رجلا، فغنم منهم شيئا، وخرج به إلى دار الإسلام، كان له؛ لأنه كسبه، ويحتمل أن يجب فيه الخمس؛ لأنه غنيمة. وقد روى الأوزاعي أنه لما أقفل عمر بن عبد العزيز الجيش الذين كانوا مع مسلمة، كسر مركب بعضهم، فأخذ المشركون ناسا من القبط، فكانوا خدما لهم ثم خرجوا إلى عبد لهم، وخلف القبط في مركبهم، ورفع القبط القلع، وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم، فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت، فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب إليهم عمر: نفلوهم القلع وكل شيء جاءوا به، إلا الخمس. رواه سعيد. ويحتمل أن يكون فيئا، استدلالا بقول عمر: نفلوهم الذي جاءوا به، ولو كان لهم، لم يكن نفلا. [ باب حكم الأرضين المغنومة ] الأرض التي بأيدي المسلمين تنقسم قسمين: أحدهما: ما هو مملوك لأهله، لا خراج عليه، وهو ما أسلم عليه أهله، كأرض مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو غنمه المسلمون فقسم بينهم، كأرض خيبر التي قسمها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أصحابه الذين افتتحوها، أو ما صالح أهله على أن الأرض لهم، كأرض اليمن، والحيرة وبانقيا، وأليس من العراق، أو ما أحياه المسلمون من موات الأرض، كأرض البصرة، كانت سبخة، فأحياها عتبة بن غزوان، وعثمان بن أبي العاص، فهذا ملك لأهله، لهم التصرف فيه، بالبيع وسائر التصرفات؛ لأنه مملوك لهم، أشبه الثياب والسلاح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 القسم الثاني: ما وقفه الأئمة على المسلمين ولم يقسموه، كأرض الشام كلها، ما خلا مدنها، والعراق كله إلا ما ذكرنا منه، والجزيرة ومصر، والمغرب وسائر ما افتتح عنوة، فهذا وقفه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن بعده من الأئمة، ولم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أحد من أصحابه - أنه قسم أرضا عنوة غير خيبر. وروى أبو عبيد بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قدم الجابية، فأراد قسمة الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ: والله إذا ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها اليوم، صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد، والمرأة الواحدة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا، فانظروا أمرا يسع أولهم وآخرهم، فصار عمر إلى قول معاذ. ولما افتتح عمرو بن العاص مصر، طلب منه الزبير قسمتها، فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب عمر: أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة. وروي عن بكير بن عامر، قال: اشترى عتبة بن فرقد أرضا من أرض الخراج، فأتى عمر فأخبره، فقال عمر: ممن اشتريتها؟ قال: من أهلها، قال: فهؤلاء أهلها، للمسلمين، أبعتموه شيئا؟ قالوا: لا، قال: فاذهب فاطلب مالك. وعن عبد الله بن المغفل أنه قال: لا تشتر من أرض السواد، إلا من أهل الحيرة، وبانقيا، وأليس. روى هذا كله أبو عبيد. وقد اشتهرت قصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ضرب الخراج على أرض السواد، وإقراره في يد أهله بالخراج الذي ضربه، وجعل ذلك أجرة له، ولم يقدر مدته، لعموم المصلحة فيه، فهذا لا يجوز بيعه، ولا شراؤه، لخبر عتبة بن فرقد؛ ولأنه موقوف للمسلمين كلهم، فلم يجز بيعه، كسائر الوقوف. فأما إجارته فجائزة؛ لأنه مستأجر في أيدي أربابه بالخراج. وإجارة المستأجر جائزة. وذكر القاضي في إجارته روايتين، والصحيح ما ذكرناه. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: أنه كره بيعها، وأجاز شراءها؛ لأنه استنقاذ لها، فجاز، كشراء الأسير. ومن كانت في يده أرض، فهو أحق بها بالخراج، كالمستأجر. وتنتقل إلى وارثه بعده، على وجه الذي كانت في يد موروثه. وإن آثر بها أحدا، صار الثاني أحق بها. وإن عجز رب الأرض عن عمارتها، وأداء خراجها، أجبر على رفع يده عنها، ودفعت إلى غيره؛ لأن الأرض للمسلمين، فلا يجوز تعطيلها عليهم. فصل: ويجب الخراج في العامر الذي يمكن زرعه، والانتفاع به، فأما الموات الذي لا يمكن زرعه، فلا خراج فيه؛ لأن الخراج أجرة الأرض، ولا أجرة لهذا. وعنه: يجب فيه الخراج إذا كان على صفة يمكن إحياؤه، ليحييه من هو في يده، أو يرفع يده عنه فيحييه غيره، وينتفع به. وما كان من الأرض لا يمكن زرعها حتى تراح عاما، وتزرع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 عاما، فخراجها على النصف من خراج غيرها؛ لأن نفعها على النصف، وحكم الخراج حكم الدين يطالب به الموسر، وينظر به المعسر؛ لأنه أجرة، فأشبه أجرة المساكن. وإن رأى الإمام المصلحة في ترك خراج إنسان له، أو تخفيفه، جاز له؛ لأنه فيء، فكان النظر فيه إلى الإمام. ويجوز لصاحب الأرض أن يرشو العامل، ليدفع عنه الظلم في خراجه؛ لأنه يتوصل بماله إلى كف اليد العادية عنه. ولا يجوز له ذلك، ليدع له من خراجه شيئا؛ لأنه رشوة، لإبطال حق، فحرمت على الآخذ والمعطي، كرشوة الحاكم، ليحكم له بغير الحق. فصل: ولا يسقط خراج هذه الأرض بإسلام أهلها، أو انتقالها إلى مسلم؛ لأنه أجرة، فأشبه أجرة المساكن. قال أحمد: ما كان من أرض عنوة، ثم أسلم صاحبها، وضعت عنه الجزية وأقر على أرض الخراج. وقال أيضا: أرض أهل الذمة فيها الخراج، فإن اشتراها المسلم، ففيها الخراج؛ لأنه حق على الأرض. قال: ويكره للمسلم أن يشتري من أرض الخراج والمزارع؛ لأن في الخراج معنى الذلة، وبهذا وردت الأخبار عن عمر وغيره. ومعنى الشراء هاهنا: أن يتقبل الأرض بما عليها من خراجها؛ لأن شراء هذه الأرض غير جائز، أو يكون على الرواية التي أجاز شراءها، لكونه استنقاذا لها، فهو كاستنقاذ الأسير. فصل: ويعتبر الخراج بما تحمله الأرض من القليل والكثير، والمرجع فيه إلى اجتهاد الإمام، في إحدى الروايات، وهي اختيار الخلال وعامة شيوخنا؛ لأنها أجرة، فلم تتقدر بمقدار ما لا يختلف، كأجرة المساكن. والثانية: يرجع فيه إلى ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لا تجوز الزيادة عليه، ولا النقصان منه؛ لأن اجتهاد عمر أولى من قول غيره. والثالثة: تجوز الزيادة عليه، ولا يجوز النقصان، لما روى عمرو بن ميمون: أنه سمع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول لحذيفة، وعثمان بن حنيف: لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق، فقال عثمان: والله لئن زدت عليهم، لا تشق عليهم ولا تجهدهم. فدل على إباحة الزيادة ما لم يجهدهم. واختلف عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قدر الخراج، إلا أنه روي عن عمرو بن ميمون: أنه وضع على كل جريب، من أرض السواد قفيزا ودرهما. قال أحمد: أعلى وأصح حديث في أرض السواد، حديث عمرو بن ميمون في الدرهم والقفيز. وهذا يدل على أنه أخذ به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 فصل: قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قدر القفيز، صاع قدره ثمانية أرطال. قال القاضي: عندي أن ثمانية أرطال بالمكي، فيكون ستة عشر رطلا بالعراقي. وقال أبو بكر: قد قيل: إن قدره ثلاثون رطلا، وينبغي أن يكون من جنس ما تخرجه الأرض؛ لأنه روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه ضرب على الطعام درهما، وقفيز حنطة، وعلى الشعير درهما وقفيز شعير. فصل: والجريب: عشر قصبات في عشر قصبات. والقصبة: ستة أذرع بذراع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو ذراع وسط، لا أطول ذراع ولا أقصرها، وقبضة وإبهام قائمة، وما بين الشجر من بياض الأرض تبع لها. ومن ظلم في خراجه، لم يحتسبه من العشر؛ لأنه ظلم، فلم يحتسبه من العشر، كالغصب. وعنه: يحتسبه من العشر؛ لأن الآخذ لهما واحد، وهذا اختيار أبي بكر. فصل: وما فتح عنوة، فالإمام مخير بين قسمته بين الغانمين، فيصير ملكا لهم، لا خراج عليه، وبين وقفها على المسلمين، وضرب الخراج عليها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين في خيبر، فقسم نصفها، ووقف نصفها، وعمر وقف كل شيء فتحه ولم يقسمه، فدل على جواز الأمرين، وليس له إلا فعل ما يرى المصلحة فيه، فما فعل من ذلك، لزم. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هم على ما يفعل الفاتح، إذا كان من أئمة الهدى. وعنه: أن الأرض تصير وقفا بنفس الظهور عليها؛ لأن الأئمة بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقسموا أرضا افتتحوها؛ ولأن في قسمتها المحذور الذي ذكره معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وإنما قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصف خيبر في بدء الإسلام، لضعفهم وحاجتهم. وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة: أنها تقسم بين الغانمين من غير تخيير، لعموم قوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ؛ لأن فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى من فعل غيره، والأول أولى؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن بعده، لم يقسموا الأرض، وتابعهم علماء الصحابة عليه، فحصل إجماعا. وما وقفه الإمام، فهو مخير بين إقرار أهله فيه بالخراج وبين إجلائهم، وجلب غيرهم؛ لأن الأرض قد ملكت عليهم. فأما ما جلا عنها أهلها خوفا من المسلمين، فتصير وقفا بنفس الظهور عليها؛ لأنها ليست غنيمة، فتقسم. وعنه: لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 تصير وقفا حتى يقفها الإمام؛ لأن الوقف لا يثبت بنفسه. وحكمها حكم العنوة إذا وقفت، وكذلك الحكم فيما صالحونا عليه، على أن الأرض للمسلمين، وتقر في أيديهم بالخراج. فأما إن صالحناهم على أن الأرض لهم، ولنا عليها الخراج، فهذه ملك لأربابها، متى أسلموا، سقط عنهم؛ لأنه بمنزلة الجزية، فيسقط بالإسلام، كالجزية. ولهم بيعها والتصرف فيها. وإن انتقلت إلى مسلم، لم يؤخذ خراجها، لما ذكرناه. [ باب الأمان ] يحوز عقد الأمان لجميع الكفار وآحادهم، لقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] . وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل.» رواه البخاري. وتصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار، ذكرا كان أو أنثى، حرا أو عبدا للخبر، وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين، فيجوز. وعن فضيل بن يزيد الرقاشي قال: جهز عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيشا فكنت فيه، فحضرنا موضعا، فرأينا أنا سنفتحها اليوم، وجعلنا نقبل ونروح، فبقي عبد منا، فراطنهم وراطنوه، فكتب لهم الأمان في صحيفة، وشدها على سهم، ورمى بها إليهم، فأخذوها، وخرجوا، فكتب بذلك إلى عمر، فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه. رواهما سعيد، ويصح أمان الأسير المسلم إذا عقده غير مكره، كذلك. فصل: ولا يصح من كافر، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يسعى بها أدناهم» وليس الكافر منهم؛ ولأنه متهم في الدين. ولا من مجنون، ولا طفل؛ لأنه لا حكم لقولهما، ولا مكره؛ لأنه عقد أكره عليه بغير حق، فلم يصح، كالبيع، وفي الصبي المميز روايتان: إحداهما: لا يصح منه؛ لأن القلم مرفوع عنه، ولا يلزمه بقوله حكم، فلا يلزم غيره كالمجنون. والثانية: يصح، لعموم الخبر؛ ولأنه مسلم عاقل فصح أمانه، كالبالغ، فإن دخل مشرك بأمان من لا يصح أمانه، عالما بفساده، جاز قتله، وأخذ ماله؛ لأنه حربي لا أمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 له وإن لم يعرف، عرف ذلك، ورد إلى مأمنه، ولم يجز قتله؛ لأنه دخل على أنه بأمان. فصل: وللإمام عقده لجميع الكفار؛ لأن له الولاية على جميع المسلمين، وللأمير عقده لمن أقيم بإزائه؛ لأن إليه الأمر فيهم. وأما سائر الرعية، فلهم عقده للواحد، والعشرة، والحصن الصغير، لحديث عمر في أمان العبد. ولا يصح لأهل بلدة ورستاق ونحوهم؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد، والافتئات على الإمام. وللإمام والأمير أمان الأسير؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمن الهرمزان وهو أسير؛ ولأن له المن عليه، فالأمان أولى، وليس ذلك لغيره؛ لأن أمر الأسير إلى الإمام، فلم يجز لغيره الافتئات عليه. وذكر أبو الخطاب: أن ذلك لكل مسلم؛ لأن زينب ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره، فأمضاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فصل: ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله، ويعرف الشريعة، وجب أن يعطاه، ثم يرد إلى مأمنه، لقول الله سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] . ويجوز عقده للمستأمن غير مقيد بمدة؛ لأن ذلك لا يفضي إلى ترك الجهاد. قال القاضي: يجوز أن يقيموا في دارنا مدة الهدنة، بغير جزية، وهو ظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن من جاز إقراره بغير جزية فيما دون السنة، جاز فيما زاد كالمرأة، وقال أبو الخطاب: عندي لا يجوز أن يقيموا سنة فصاعدا بغير جزية، لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . فصل: ويحصل الأمان بما يدل عليه من قول وغيره، فالقول مثل: أمنتك، أو أنت آمن، أو أجرتك، أو أنت مجار، أو في جواري، أو في ذمتي، أو في أماني، أو في خفارتي، أو لا بأس عليك، أو لا خوف عليك، أو لا تخف، أو مترس بالفارسية، ونحو ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الفتح: «من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن» . وقال لأم هانئ: «قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت» . وقال أنس لعمر في قصة الهرمزان: ليس لك إلى قتله سبيل، قد قلت: تكلم لا بأس عليك، فأمسك عمر. وروى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 زر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الله يعلم كل لسان، فمن أتى منكم أعجميا، فقال له: مترس، فقد أمنه، وإن أشار إليه بالأمان، فهو أمان، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك، فنزل إليه، فقتله، لقتلته به، فإن قال المسلم: لم أرد به الأمان، فالقول قوله؛ لأنه أعلم بنيته، ويرد المشرك إلى مأمنه؛ لأنه نزل على أنه آمن. وإن قال له: قف، أو قم، أو ألق سلاحك، فقال أصحابنا: هو أمان؛ لأن الكافر يعتقده أمانا، فأشبه قوله: لا تخف. ويحتمل أن يرجع فيه إلى النية، فإن نوى به الأمان، كان أمانا لأنه يحتمله. وإن لم ينو، لم يكن أمانا؛ لأنه يستعمل للإرهاب والتخويف والتهديد، فلم ينصرف إلى الأمان بغير نية، وإذا اختلفا في نيته، فالقول قول المسلم، لما ذكرنا، وإن قال الكافر: أنت آمن، فرد الأمان، لم ينعقد؛ لأنه إيجاب حق بعقده، فلم يصح مع الرد، كالبيع. وإن قبله ثم رده انتقض؛ لأنه حق له، فسقط بإسقاطه، كالرق. وأما الفعل، فإذا دخل الحربي دار الإسلام، رسولا أو تاجرا، وقد جرت العادة بدخول تجارهم إلينا، كان أمانا له، ولم يجز التعرض له؛ «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرسولي مسيلمة: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما» رواه أبو داود والنسائي بمعناه؛ ولأنهم دخلوا يعتقدون الأمان، فأشبه ما لو دخلوا بإشارة المسلم. وإن دخل مسلم دار الحرب رسولا، أو تاجرا وقد جرت العادة بدخول تجارنا إليهم، صار في أمانهم، وصاروا في أمان منه؛ لأن الأمان إذا انعقد من أحد الطرفين، انعقد من الآخر، فلا تحل خيانتهم في أموالهم، ولا معاملتهم بالربا؛ لأن من حرم ماله عليك، ومالك عليه، حرمت معاملته بالربا، كالمسلم في دار الإسلام. وإذا أخذ المسلمون حربيا، فادعى أنه جاء مستأمنا نظرنا، فإن كان بغير سلاح، قبل قوله؛ لأن تركه السلاح دليل على قصد الأمان. وإن كان معه سلاح، لم يقبل منه، نص عليه أحمد؛ لأن حمله لآلة الحرب دليل على أنه محارب. وقال أحمد: إذا لقي الرجل العلج، فطلب منه الأمان، لم يعطه. وإن كان المسلمون جماعة أعطوه الأمان؛ لأن الواحد لا يأمن غدر العلج عند خلوته به، والجماعة يأمنون ذلك. فصل: ومن جاء بحربي، فادعى الحربي أنه أمنه، فأنكر المسلم، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: القول قول المسلم؛ لأن الأصل معه. وهو إباحة دم الحربي، وعدم الأمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 والثانية: القول قول الأسير؛ لأنه يدعي حقن دمه، فيكون ذلك شبهة في درء القتل. والثالثة: القول قول من يدل ظاهر الحال على صدقه، فمتى كان أقوى من المسلم ومعه سلاحه، فالقول قوله: لأن الظاهر معه، وإن كان ضعيفا مأخوذا سلاحه، فالقول قول المسلم؛ لأن الظاهر معه. فصل: وإذا دخل حربي دار الإسلام بأمان، ثبت الأمان لنفسه وماله الذي معه؛ لأن الأمان يقتضي ترك التعرض له بما يضره، وأخذ ماله يضره، فإن أودع ماله، أو أقرضه مسلما، أو ذميا، ثم عاد إلى دار الحرب رسولا، أو تاجرا، أو متنزها ليعود إلى دار الإسلام، فهو على أمانه. وإن دخل مستوطنا، أو محاربا، انتقض الأمان في نفسه؛ لأنه تركه وبقي في ماله؛ لأنه بطل في نفسه بعوده، ولم يوجد ذلك في المال؛ ولأن الأمان ثبت للمال بأخذ المودع والمقترض له، فأشبه ما لو استودعه في دار الحرب، ودخل به دار الإسلام. فإن طلبه صاحبه، بعث به إليه، وإن مات، بعث إلى وارثه، وكذلك إن مات المستأمن في دار الإسلام، بعث ماله إلى وارثه؛ لأن الأمان حق لازم تعلق بالمال. فإذا انتقل إلى الوارث، انتقل بحقه، كسائر ماله، وإن لم يكن له وارث، فهو فيء؛ لأنه مال انتقل عن الكافر ولا مستحق له، فأشبه مال الذمي الذي يموت ولا وارث له، وإن سبي مالكه، كان موقوفا، فإن عتق، رد إليه، وإن مات في الرق، أو قتل، فماله فيء؛ لأنه لا يورث، فأشبه مال من لا وارث له. فصل: وإن أخذ المسلم من الحربي في دار الحرب مالا، مضاربة، أو وديعة، ودخل به دار الإسلام، فهو في أمان، حكمه مثل ما ذكرنا، وإن أخذه ببيع في الذمة، أو اقتراض، فالثمن في ذمته، عليه أداؤه إليه. وإن اقترض حربي من حربي مالا، ثم دخل إلينا فأسلم، فعليه رد البدل؛ لأنه أخذه على سبيل المعاوضة، فأشبه ما لو تزوج حربية، ثم أسلم، فإنه يلزمه مهرها. فصل: وإن حصر المسلمون حصنا، فطلب رجل منهم الأمان، ليفتح لهم الحصن، جاز إعطاؤه. وكذلك إن طلبه لجماعة معينين، جاز، لما روي أن المهاجر بن أبي أمية لما حصر النجير، بعث إليه الأشعث بن قيس: تعطيني الأمان لعشرة وأفتح لك الحصن؟ ففعل. فإن فتح الحصن، فادعى الأمان منهم جماعة، كل واحد يقول أنا المعطى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 وأشكل، لم يجز قتل واحد منهم؛ لأنه اشتبه المباح بالمحرم، فوجب تغليب التحريم، كما لو اختلطت أخته بأجنبيات، وفي استرقاقهم وجهان: أحدهما: لا يسترق واحد منهم كذلك، قال القاضي: هذا المنصوص عليه. والثاني: يقرع بينهم، فيخرج صاحب الأمان بالقرعة، ويسترق الباقون، اختارها أبو بكر؛ لأنه اشتبه الحر بالرقيق، فوجب أن يخرج بالقرعة، كما لو أعتق عبدا من عبيده وأشكل، وإن أسلم واحد في الحصن قبل فتحه، ثم فتح، فادعى كل واحد منهم أنه المسلم، خرج فيها ما في التي قبلها؛ لأنها في معناها. فصل: وإذا أسر الكفار أسيرا، فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة، كانوا في أمان منه، ولم يكن له أن يهرب منهم، ولا أن يخونهم في أموالهم؛ لأنهم على هذا أطلقوه. وإن أطلقوه ولم يشرطوا عليه شيئا، فله أن يقتل، ويسرق، ويهرب؛ لأنه لم يصدر منه ما يثبت به الأمان. وكذلك إن أطلقوه على أن يكون رقيقا لهم، وملكا؛ لأنه حر لا يثبت عليه الملك، ولم يصدر منه أمان. فإن أطلقوه وأمنوه، ولم يشرطوا عليه شيئا، كان له الهرب؛ لأنه ليس بمال لهم، ولم يكن له خيانتهم في أموالهم وأنفسهم؛ لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه، وإن شرطوا عليه الإقامة عندهم، فالتزمه، لزمه الوفاء لهم. نص عليه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] . وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المؤمنون عند شروطهم» . وإن شرطوا عليه أن يبعث إليهم فداءه من دار الإسلام، لزمه ذلك، لما ذكرنا؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل الحديبية على رد من جاء، وَفَّى لهم، وقال: «إنا لا يصلح في ديننا الغدر» ، فإن عجز عن الفداء، كان في ذمته، يبعثه إليهم متى قدر، كثمن المبيع. وإن شرطوا عليه أنه إن لم يقدر على الفداء، رجع عليهم، فلم يقدر عليه، وكان رجلا لزمه الوفاء في إحدى الروايتين، لما ذكرناه. والثانية: لا يعود إليهم؛ لأن العود إليهم معصية، فلم يلزم بالشرط. وإن كانت امرأة، لم ترجع إليهم رواية واحدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل الحديبية على رد من جاءه، منعه الله تعالى رد النساء؛ ولأن في ردها تسليطا على وطئها حراما، فلم يجز. وإن كان الأسير شرط لهم ذلك مكروها بضرب وتعذيب، لم يلزمه الوفاء لهم بشرط مما شرطه. وإن اشترى الأسير منهم شيئا مختارا، أو اقترضه، لزمه الوفاء لهم؛ لأنه عقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 معارضة، فأشبه غير الأسير. وإن كان مكروها لم يصح، فإن أكرهوه على قبضه، لم يلزمه ضمانه وإن تلف، وعليه رده إن كان باقيا؛ لأنهم دفعوه إليه بحكم عقد فاسد، وإن قبضه باختياره، فعليه ضمانه كذلك، والله أعلم. [ باب الهدنة ] ومعناها: موادعة أهل الحرب، ولا يجوز ذلك إلا على وجه النظر للمسلمين، وتحصيل المصلحة لهم، لقول الله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] ؛ ولأن هدنتهم من غير حاجة، ترك للجهاد الواجب لغير فائدة، فإن رأى الإمام المصلحة فيها، جازت، لقول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] ، وقَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، وروى مروان ومسور بن مخرمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح سهيل بن عمرو بالحديبية، على وضع القتال عشر سنين» ، ووادع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبائل من المشركين، وقريظة، والنضير؛ ولأنه قد تكون المصلحة في الهدنة لضعف المسلمين عن قتالهم، أو طمع في إسلامهم، أو التزامهم الجزية، أو غير ذلك. ولا يجوز عقدها إلا من الإمام، أو نائبه؛ لأنه عقد يقتضي الأمان لجميع المشركين، فلم يجز لغيرهما، كعقد الذمة. فصل: ولا يجوز عقد الهدنة مطلقا غير مقدرة بمدة؛ لأن إطلاقها يقتضي التأبيد، فيفضي إلى ترك الجهاد أبدا. ويرجع في تقديرها إلى رأي الإمام على ما يراه من المصلحة في قليل وكثير. وقال القاضي: وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز أكثر من عشر سنين. وهو اختيار أبي بكر؛ لأن الأمر بالجهاد يشمل الأوقات كلها، خص منه مدة العشر بصلح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل الحديبية على عشر، ففيما زاد يبقى على العموم. ووجه الأول: أنه عقد يجوز في العشر، فجاز فيما زاد عليها، كالإجارة. فإن هادنهم أكثر من قدر الحاجة، بطل في الزائد، وهل يبطل في قدر الحاجة على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 وجهين، بناء على تفريق الصفقة. وكذلك إذا هادنهم أكثر من عشر على الرواية الأخرى بطل في الزيادة، وفي مدة العشر وجهان. فإن قال هادنتكم ما شئتم، لم يصح؛ لأنه جعل الكفار متحكمين على المسلمين، وإن قال: هادنتكم ما شئنا، أو ما شاء فلان، أو شرط أن له نقضها متى شاء، لم يصح؛ لأنه ينافي مقتضى العقد؛ ولأنه عقد مؤقت، فلم يجز تعليقه على مشيئة أحدهما، كالإجارة. وقال القاضي: يصح لأنه جعل التحكم إليه. وإن قال: إلى أن يشاء الله، أو نقركم ما أقركم الله، لم يجز؛ لأنه لا طريق إلى معرفة ما عند الله. فصل: وتجوز الهدنة على غير مال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل الحديبية، وغيرهم بغير مال. وتجوز على مال يأخذه منهم؛ لأنه إذا جازت بغير مال، فعلى مال أولى، فأما مصالحتهم على مال يدفعه إليهم، فقد أطلق أحمد المنع منه؛ لأن فيه صغارا على المسلمين. وهذا محمول على غير حال الضرورة. فأما عند الحاجة، مثل أن يخاف على المسلمين قتلا، أو أسرا، أو تعذيب من عندهم من الأسارى، فيجوز، لما روى الزهري قال: «أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عيينة بن حصن وهو مع أبي سفيان: أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار، أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب فأرسل إليه عيينة: إن جعلت لي الشطر، فعلت.» فلولا أنه جائز، لما جعله له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأن الضرر المخوف أعظم من الضرر ببذل المال. فجاز دفع أعلاهما بأدناهما. فصل: ويجوز في عقد الصلح شرط رد من جاء من أهل الحرب من الرجال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرط ذلك في صلح الحديبية. ولا يجوز شرط رد النساء المسلمات، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] . ولما عقد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلح في الحديبية، جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أخواها يطلبانها، فأنزل الله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله منع الصلح في النساء» ؛ ولأنه لا يؤمن أن تتزوج بمشرك، فيصيبها، أو تفتن في دينها. ولا يجوز رد الصبيان العقلاء؛ لأنهم بمنزلة المرأة في ضعف قلوبهم، وقلة معرفتهم، فلا يؤمن أن يفتتنوا عن دينهم. وإن شرط رد الرجال بها، لزم الوفاء لهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 بمعنى أنهم إن جاءوا في طلب من جاء منهم، لم يمنعوا من أخذه ولا يجبره الإمام على الرجوع معهم وله أن يأمره سرا بالفرار منهم وقتالهم؛ لأن أبا بصير جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلح الحديبية، فجاء الكفار في طلبه، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا يصلح في ديننا الغدر، وقد علمت ما عاهدناهم عليه، ولعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا» ، فرجع معهم، فقتل أحدهم، ورجع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يلمه، ولم ينكر عليه. وإن جاءت امرأة مسلمة، لم يجز ردها، ولا يجب رد مهرها؛ لأن بضعها لا يدخل في الأمان. وإنما رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المهر؛ لأنه شرط رد النساء، فكان شرطا صحيحا، فلما نسخ ذلك، وجب رد البدل، لصحة الشرط، بخلاف حكم من بعده. فصل: وإن شرط في الهدنة شرطا فاسدا، كرد المرأة أو مهرها، أو السلاح، أو إدخالهم الحرم، أو شرط لهم مالا، فهل يبطل عقد الهدنة؟ على وجهين؛ بناء على الشروط الفاسدة. ومتى وقع العقد باطلا، فدخل بعض الكفار دار الإسلام معتقدا للأمان، كان آمنا؛ لأنه دخل بناء على العقد. ويرد إلى دار الحرب. ولا يقر في دار الإسلام؛ لأن الأمان لم يصح. فصل: وإن عقدت الهدنة على مدة، وجب الوفاء بها، لما ذكرنا في أول الباب؛ ولأننا لو نقضنا عهدهم عند قدرتنا عليهم، لنقضوا عهدنا عند قدرتهم علينا، فيذهب معنى الصلح. وإن مات الإمام أو عزل وولي غيره، لزمه إمضاؤه؛ لأنه عقد لازم، فلم يجز نقضه بموت عاقده، كعقد الذمة. وعلى الإمام منع من يقصدهم من أهل دار الإسلام من المسلمين، وأهل ذمتهم؛ لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم. ولا يجب منعهم ممن يقصدهم من أهل الحرب، ولا منع بعضهم من بعض؛ لأن الهدنة لم تعقد على ذلك. فإن سباهم قوم، لم يكن للمسلمين شراؤهم؛ لأنهم في عهدهم، فلم يملكوهم، كأهل الذمة. وإن أتلف عليهم المسلمون شيئا، لزمهم ضمانه؛ لأنهم في عهد، فأشبه أهل الذمة. وإن جاءنا منهم عبد أو أمة، مسلما، لم يرد إليهم؛ لأنه صار حرا بقهره سيده، وإزالة يده بدخوله دار الإسلام. فصل: ومن أتلف منهم شيئا على مسلم، لزمه ضمانه، وإن قتله، فعليه القصاص. وإن قذفه فعليه الحد؛ لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم، وأمانهم من المسلمين، في النفس، والمال، والعرض، فلزمهم ما يجب في ذلك. ومن شرب منهم خمرا أو زنى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 لم يحد لأنه حق الله تعالى ولم يلتزموه بالهدنة. وإن سرق مال مسلم، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقطع؛ لأنه حق خالص لله تعالى، أشبه حد الزنا. والثاني: يقطع؛ لأنه يجب لصيانة حق الآدمي، فأشبه حد القذف. فصل: وإن نقض أهل الذمة العهد بقتال، أو مظاهرة عدو، أو قتل مسلم، أو أخذ مال، انتقض عهدهم؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] ... الآية، والتي بعدها، وقَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، وقوله سبحانه: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] ؛ ولأن الهدنة تقتضي الكف، فانتقضت بتركه، ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام؛ لأنه إنما يحتاج إلى حكمه في أمر محتمل، وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد. وإن نقض بعضهم، وسكت سائرهم، انتقضت الهدنة في الجميع؛ لأن ناقة صالح عقرها واحد، فلم ينكر عليه قومه، فعذبهم الله سبحانه جميعا. ولما هادن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريشا، دخلت خزاعة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبنو بكر مع قريش، فعدت بنو بكر على خزاعة، وأعانهم نفر من قريش، وأمسك سائر قريش، فكان ذلك نقض عهدهم، فسار إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى فتح مكة. فإن أنكر الممسك على الناقض، أو اعتزلهم، أو راسل الإمام به، لم ينتقض عهده؛ لأنه لم ينقض، ولا رضي بالنقض. ويؤمر بتسليم الناقض، أو التميز عنه. فإن لم يفعل مع القدرة عليه، انتقضت هدنته أيضا؛ لأنه صار مظاهرا للناقض. وإن لم يقدر على ذلك، فحكمه حكم الأسير. فإذا أسر الإمام منهم قوما، فادعوا أنهم ممن لم ينقض، وأشكل، قبل قولهم؛ لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم. فصل: وإن خاف الإمام نقض العهد منهم، جاز أن ينبذ إليهم عهدهم، لقول الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] ، يعني: أعلمهم بنقض العهد، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم، ولا يكفي بمجرد الخوف حتى تظهر أمارة النقض. ولا يفعل ذلك إلا الإمام؛ لأن نقضها لخوف الخيانة، يحتاج إلى نظر واجتهاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 فافتقر إلى الحكم، وإن خاف خيانة أهل الذمة، لم ينبذ إليهم عهدهم؛ لأن النظر في عقدها إليهم. وكذلك إذا طلبوا الذمة، لزمته إجابتهم إليه. والنظر في الهدنة إلى الإمام، فكان النظر إليه عند الخوف. ومتى نقضها في دارنا منهم أحد، وجب ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا بأمان، فوجب ردهم إلى مأمنهم، كما لو أفردهم بالأمان، وإن كان عليهم حق، استوفي منهم. [ باب عقد الذمة ] ولا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام، أو نائبه؛ لأنه عقد مؤيد تتعلق به المصالح العامة، فلم يصح من غير الإمام ونائبه. ويجوز عقدها لأهل الكتاب، والمجوس، لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، ولما روى عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر. وسواء كانوا عربا أو عجما؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذا إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، أو عدله معافر» . رواه أبو داود. وكانوا عربا. وأهل الكتاب: هم اليهود والنصارى، ومن وافقهم في أصل دينهم، وآمن بنبيهم وكتابهم، كالسامرة الموافقة لليهود في موسى والتوراة، والفرنج يوافقون النصارى في عيسى والإنجيل. وليس المجوس بأهل كتاب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ، ولا المتمسك بدين إبراهيم وشيث وداود بكتابي، ولا تعقد له ذمة، لقول الله سبحانه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ، ولا يجوز عقد الذمة لغير أهل الكتاب والمجوس، كعبدة الأوثان، ومن عبد ما استحسن، والدهرية، ونحوهم، لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . ثم خص أهل الكتاب بإعطاء الجزية، وألحق بهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المجوس، فبقي من عداهم على مقتضى العموم؛ ولأنهم تغلظ كفرهم، لكفرهم بجميع أنبياء الله تعالى وكتبه. وروى الحسن بن ثواب عن أحمد: أن الجزية تقبل من جميع الكفار، إلا من عبدة الأوثان من العرب؛ لأنه تغلظ كفرهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 بدينهم وجنسهم، لكونهم رهط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغيرهم لم يتغلظ كفرهم من الجهتين، فقبلت الجزية منهم، كالمجوس. وأما الصابئون، فينظر فيهم. فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين، في نبيهم وكتابهم، فهم فرقة منهم. وإن لم يوافقوا واحدا منهم، فهم غير أهل الكتاب، حكمهم حكم عبدة الأوثان. فصل: ومن دخل في دين أهل الكتاب، أو المجوس من سائر الكفار، صار منهم، وحكمه حكمهم. سواء دخل قبل بعث نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو بعده، لعموم النصوص فيهم. قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد. وقال أبو الخطاب: من دخل بعد بعث نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قبل بعثه، وبعد تبديل كتابهم، لم تعقد له الذمة؛ لأنه دخل في دين باطل. ومن كان أحد أبويه ممن تعقد له الذمة، والآخر ممن لا تعقد له، عقدت له الذمة، لما ذكرنا؛ ولأنه تبع لمن يؤخذ منه الجزية؛ لأنه تبعه في الدين، فتبعه في الجزية، وقال أبو الخطاب: فيه وجهان. وإن ظهر المسلمون على قوم لا يعرف دينهم، فادعوا أنهم أهل كتاب، قبل منهم؛ لأنهم لا يعرف دينهم إلا من جهتهم. فإن أسلم منهم اثنان، وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب، وكانا عدلين نبذ إليهم عهدهم؛ لأنه بان بطلانهم دعواهم. فصل: ومن عقدت له الذمة، أخذت منه الجزية. وفي قدرها ثلاث روايات. إحداهن: يرجع إلى ما فرضه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليهم، على الموسر ثمانية وأربعون درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهما، وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهما، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرضها كذلك بمحضر من الصحابة، وتابعه سائر الخلفاء بعده، فكان إجماعا. والثانية: يرجع إلى اجتهاد الإمام، في الزيادة على ذلك والنقصان منه، على ما يراه من المصلحة بعد أن لا يكلفهم فوق طاقتهم؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له: خذ من كل حالم دينارا» رواه أبو داود. وعمر زاد عليهم، فدل على جواز الزيادة والنقصان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 والثالثة: يجوز الزيادة، ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زاد على ما فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم ينقص. فإذا قلنا: لا تجوز الزيادة، فمتى بذلوا القدر الواجب، لزم قبوله، وحرم قتالهم، لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] . فمد قتالهم إلى إعطائها، أي: بذلها. وإن قلنا له الزيادة، فله أن يزيد بقدر ما يراه. ولا يحرم قتالهم، إلا أن يبذلوا ما طلب منهم. فصل: ويؤخذ من نصارى بني تغلب، مكان الجزية الزكاة، مثلي ما يؤخذ من المسلمين، من جميع أموالهم الزكاتية، لما روى: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دعاهم إلى بذل الجزية، فأبوا، وأنفوا، وقالوا: نحن عرب، خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة، فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة، فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين، إن القوم لهم بأس وشدة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عليك عدوك بهم، خذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر في طلبهم، فردهم وضعف عليهم من كل خمس من الإبل شاتين، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين، ومن كل عشرين دينارا دينارا، ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم، ومما سقت السماء الخمس، وفيما سقي بنضح، أو غرب، أو دولاب، العشر. فاستقر ذلك من قول عمر، ولم يخالفه غيره من الصحابة فكان إجماعا. قال أصحابنا: حكم المأخوذ منهم حكم الزكاة، في أنه يؤخذ من مال كل من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما. فعلى هذا يؤخذ من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم، وزمناهم، ومكافيفهم، وشيوخهم؛ لأنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضكم من بعض، فأجابهم؛ ولأنهم صينوا عن السبي بهذا الصلح، فجاز أن يدخلوا في الواجب به، كالرجال. ولا يؤخذ من مال لم يبلغ نصابا، ولا من مال غير زكاتي كذلك. ومن كان المأخوذ منه أقل من دينار، أجزأ عنه. ومن ليس له نصاب زكاتي، فلا شيء عليه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صالحهم على هذا. واختلف أصحابنا في مصرفه، فقال القاضي: مصرفه مصرف الفيء؛ لأنه جزية باسم الزكاة. ومعنى الشيء أخص به من اسمه؛ ولأنه مال مشرك أخذ بغير قتال، فكان فيئا كالجزية. وقال أبو الخطاب: مصرفه مصرف الصدقة؛ لأنه سلك به مسلكها في قدر المأخوذ، والمأخوذ منه: فكذلك في المصرف. فإن بذل تغلبي الجزية، مكان المفروض عليهم، وكان حربيا، قبل منه؛ لأنه كتابي لم يصالح على غير الجزية، فحقن دمه بها كغيره. وإن كان ممن عقد الذمة، لم يقبل منه؛ لأن الصلح وقع على غير ذلك، فلم يجز تغييره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 فصل: فأما سائر أهل الكتاب من النصارى وغيرهم، فلا يقبل منهم إلا الجزية، ولا يؤخذون بما يؤخذ به بنو تغلب. نص عليه أحمد، للآية والأخبار. والعرب وغيرهم في هذا سواء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذا إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، وهم عرب. وإنما خص بنو تغلب بالصدقة، لصلحهم، فبقي من عداهم على مقتضى النصوص. وذكر القاضي: أن تنوخ وبهرا، كبني تغلب، وأن عمر صالحهم. وقال أبو الخطاب: وكذلك الحكم فيمن تنصر من تنوخ وبهرا، أو تهود من كنانة، وحمير، أو تمجس من تميم؛ لأنهم عرب، فأشبهوا بني تغلب. والصحيح الأول. ولم يصح عن عمر ولا غيره مصالحة غير بني تغلب على غير الجزية. فصل: ولا جزية على صبي، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا» ، وروى أسلم أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أمراء الأجناد: لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي. رواه سعيد؛ ولأنها تجب لحقن الدم، وهو محقون بدونها، ولا على امرأة كذلك، ولا على خنثى مشكل؛ لأنه لا يعلم كونه رجلا، فلم تجب عليه مع الشك، ولا على مجنون؛ لأنه في معنى الصبي، فنقيسه عليه، ولا على زمن، ولا أعمى، ولا شيخ فان، ولا راهب؛ لأن دماءهم محقونة، فأشبهوا الصبي والمرأة، ولا على فقير عاجز عن أدائها، لقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . فأما المعتمل الذي يقدر على كسب ما يقوم بكفايته، فعليه الجزية؛ لأنه في حكم الأغنياء، ولا تجب على مملوك، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا جزية على مملوك؛ ولأنه لا يقتل بالكفر، أشبه الصبي. وعن أحمد: أن على الذمي أداء الجزية عن مملوكه. وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأنه ذكر مكلف قوي مكتسب، أشبه الحر. ومن كان بعضه حرا، فعليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية؛ لأن حكمه يتبعض، فقسم على قدر ما فيه من الحرية والرق، كالميراث. فصل: ومن بلغ من صبيانهم، أو أفاق من مجانينهم، أو عتق من عبيدهم، فهو من أهلها بالعقد الأول؛ لأنه تبع من عليه الجزية في الأمان، فيتبعه في الذمة، وتعتبر جزيته بحاله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 لا بحال غيره؛ لأنه حكم يختلف باختلاف الحال، فاعتبر بحاله، كالزكاة. فإن كان في أثناء الحول، أخذ في آخر الحول بقدر ما أدرك منه، لئلا تختلف أحوالهم، فيشق ضبطها. ومن كان يجن ويفيق إفاقة مضبوطة، كيوم ويوم، أو نصف الحول ونصفه، ففيه وجهان: أحدهما: يعتبر بالأغلب منهما؛ لأن الاعتبار في الأصول بالأغلب. والثاني: تلفق إفاقته، فإذا بلغ حولا، أخذت الجزية، فإن كان سواء، ففيه وجهان: أحدهما: يؤخذ في كل حول نصف جزية؛ لأن الجزية تؤخذ في كل حول، فيؤخذ منه بقدر ما عليه. والثاني: تلفق إفاقته، فإذا بلغت حولا، أخذت منه؛ لأن حوله لا يكمل إلا حينئذ. فصل: وإذا كان في الحصن نساء أو من لا جزية عليه، فطلبوا عقد الذمة بغير جزية، أجيبوا إليها؛ لأنهم محقونون بدونها. وإن بذلوا جزية، أخبروا أنه لا جزية عليهم، فإن تبرعوا بها، كانت هبة، متى امتنعوا منهم، لم يحوجوا إليها. فصل: وتجب الجزية في آخر كل حول؛ لأنه مال يتكرر بتكرر كل الحول، فوجب في آخره، كالزكاة، والدية. فإن جن قبل انقضائه جنونا مطبقا، أو مات أو أسلم، فلا جزية عليه؛ لأنه خرج عن أهلية الوجوب قبل الوجوب فلم يجب عليه، كما لو مات بعض العاقلة قبل الحول، وإن جن أو مات بعد الحول، لم تسقط عنه؛ لأنه دين وجب عليه في حياته، فأشبه العقل ودين الآدمي. وإن أسلم بعد الحول، سقطت عنه، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المسلم جزية» رواه الخلال. وقال أحمد: قد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن أخذها في كفه، ثم أسلم، ردها. وروى أبو عبيد: أن يهوديا أسلم، فطولب بالجزية، وقيل: إنما أسلمت تعوذا، قال: إن في الإسلام معاذا، فرفع إلى عمر، فقال: إن في الإسلام معاذا، فكتب أن لا تؤخذ منه الجزية؛ ولأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر، فيسقطها الإسلام، كالقتل. وإن اجتمعت على الذمي جزية سنين، أخذت منه، ولم تتداخل؛ لأن الحق مالي يجب في آخر كل حول، فلم تتداخل، كالدية والزكاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 فصل: ويجوز أن يشرط عليهم مع الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين، لما روى الأحنف بن قيس: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة، وأن يصلحوا القناطر، وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم، فعليهم ديته، رواه الإمام أحمد؛ ولأن فيه مصلحة، فإنه ربما تعذر الشراء على المسلمين، ولا يلزمنهم ذلك إلا برضاهم؛ لأنه أداء مال فلم يلزمهم بغير رضاهم، كالجزية، وإن امتنعوا من قبول الشرط، لم تعقد لهم الذمة؛ لأنه شرط سائغ، فإذا امتنعوا منه، لم تعقد لهم، كالجزية. فإن لم تشترط عليهم الضيافة، لم تجب؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ: خذ من كل حالم دينارا» ولم يذكر الضيافة. ومن أصحابنا من قال: تجب بغير شرط، كما تجب على المسلمين. وتقسم الضيافة عليهم على قدر جزيتهم، والأولى أن يبين عدد أيام الضيافة من السنة، وعدد من يضاف من الرجال والفرسان، وقدر الطعام والإدام والعلوفة؛ لأنه أبعد من اللبس. فإن أطلق ذلك، جاز. ولا يجب عليهم في الضيافة أكثر من يوم وليلة؛ لأن ذلك الواجب على المسلم، ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم، لما روى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا: إن المسلمين إذا مروا بنا، كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال: أطعموهم مما تأكلون، ولا تزيدوهم على ذلك. ولا تزاد الضيافة على ثلاثة أيام، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضيافة ثلاثة أيام» . وذكر القاضي: أن تقدير أيام الضيافة، وعدد من يضاف، والطعام، والإدام، والعلوفة شرط؛ لأنه من الجزية، فاعتبر العلم به، كالنقود. والأول أولى؛ لأن عمر لم يقدره، ولما شكوا إليه اعتداء الأضياف، قال: أطعموهم مما تأكلون. وللمسلمين النزول في الكنائس، والبيع؛ لأن عمر صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب كنائسهم، وبيعهم لمن يجتاز بهم من المسلمين، ليدخلها المسلمون ركبانا. فإن لم يجدوا مكانا، فلهم النزول في الأفنية، وفضول المنازل من غير أن يحولوا ذا منزل عن منزله. فإن لم يسعهم، فالسابق أحق، فإن تساووا، وتشاحوا، أقرع بينهم. فإن امتنع أهل الذمة مما شرط عليهم، أجبروا عليه، فإن لم يمكن إلا بالمقاتلة، قوتلوا، فإن قاتلوا، انتفض عهدهم. فصل: ويثبت الإمام عدد أهل الذمة، وأسماءهم، وأنسابهم، ودينهم، وحلاهم التي لا تتغير بالأيام، كالطول، والقصر، والبياض، والسواد، والسمرة، فيكتب أدعج العينين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 أقنى الأنف، مقرون الحاجبين. ويثبت ما يأخذ منهم، ويجعل لكل طائفة عريفا، يجمعهم عند أداء الجزية، ويعرف من يبلغ من غلمانهم، ويفيق من مجانينهم، ويقدم من غائبهم، ومن يموت أو يسلم؛ لأنه أمكن لاستيفاء الجزية وأحوط. وتؤخذ الجزية مما تيسر من أموالهم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا، أو عدله معافر» . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذ من أهل نجران ألفي حلة، وكان علي يأخذ من كل ذي صناعة من صناعته التي عنده، ومن قبضت جزيته، كتب له براءة، لتكون له حجة إذا احتاج إليها، ويمتهنون عند أخذ الجزية منهم، ويطال قيامهم، وتجر أيديهم عند أخذها. ومن بعثها منهم، لم تقبل حتى يحضر فيؤديها، لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . فصل: إذا مات الإمام، أو عزل وولي غيره، لم يحتج إلى تجديد عقد؛ لأن الخلفاء لم يجددوا لمن كان في زمنهم عقدا؛ ولأنه عقد لازم، فأشبه الإجارة، فإن عرف الثاني مبلغ المشروط عليهم، أقرهم عليه، وإن لم يعرف رجع إلى قولهم فيما يسوغ جعله جزية؛ لأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم. فإن ثبت بعد ذلك أنهم نقصوا من الشروط التي عليهم شيئا، رجع عليهم فيما نقص. وإن قال بعضهم: كنا نؤدي دينارا، وقال بعضهم: كنا نؤدي دينارين، أخذ كل واحد منهم بإقراره، ولم يقبل قول بعضهم على بعض؛ لأن أقوالهم غير مقبولة. [ باب المأخوذ من أحكام أهل الذمة ] لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين، بذل الجزية، والتزام أحكام الملة من حقوق الآدميين في العقود والمعاملات، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات. فإن عقد على غير هذين الشرطين، لم يصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . قيل: الصغار: جريان أحكام المسلمين عليهم. ومن ادعى منهم كتابا من عمر أو علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بالبراءة من الجزية، لم يصدق؛ لأنه لا أصل له، ولم يذكره علماء الإسلام، وأخبار أهل الذمة لا تقبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 فصل: ويلزمهم التميز عن المسلمين في أربعة أشياء: لباسهم، وشعورهم، وركوبهم، وكناهم؛ لما روى إسماعيل بن عياش، عن غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، وأن لا نتكنى بكناهم، وأن نجز مقادم رءوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير في أوساطنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف. وذكر سائره. رواه الخلال بإسناده. وذكر في آخره: فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: أن أمض لهم ما سألوا. فيجعلون فيما يظهر من ثيابهم ثوبا يخالف لونه لون سائر ثيابهم، كالعسلي والأدكن، والأزرق، والأصفر. ويشدون الزنانير في أوساطهم فوق ثيابهم، وإن لبسوا العمائم، أو القلانس، جعلوا فيها خرقة تخالف لونها، ويختم في رقاب رجالهم ونسائهم خواتيم من رصاص، أو حديد، ليتميزوا في الحمام عن المسلمين. وتأخذ نساؤهم بالغيار والزنار تحت ثيابهن، لئلا تنكشف رءوسهن إن شددنه فوق ثيابهن، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أهل الآفاق: مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن. وإن لبسن الخفاف، جعلن الخفين من لونين، ليتميزن عن نساء المسلمين. فإن شرط عليهم الجمع بين الزنار والغيار، أخذوا به. وإن شرط أحدهما، اكتفي به، ولا يمنعون من لبس فاخر الثياب، والطيلسان؛ لأن التمييز حصل بما ذكرناه. وأما التميز في الشعور، فبأن يحذفوا مقاديم رءوسهم، ولا يفرقون شعورهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق شعره. وأما التميز في الركوب، فلا يركبون الخيل؛ لأن ركوبها عز، ولهم ركوب ما سواها على غير السروج، وروي عن ابن عمر: أن عمر أمر أن يركبوا عرضا على الأكف بالعرض، ولا يتكنون بكنى المسلمين، كأبي القاسم، وأبي بكر، وأبي عبد الله، ونحوها، ولا يمنعون من الكنى بالكلية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسقف نجران: «أسلم أبا الحارث» ، وقال عمر لنصراني: يا أبا حسان، أسلم تسلم. ذكرهما أحمد. فصل: ولا يتصدرون في المجالس عند المسلمين؛ لأن في كتابهم لعبد الرحمن بن غنم: وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشد الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 المجالس، ولا نطلع عليهم في منازلهم. ولا يبدءون بالسلام، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا لقيتم اليهود في الطريق فاضطرهم إلى أضيقها، ولا تبدءوهم بالسلام» . وإن سلموا عليه، قال: وعليكم، لما روى أبو بصرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا غادون، فلا تبدءوهم بالسلام، وإن سلموا عليكم، فقولوا: وعليكم» . قيل لأحمد: فإنا نأتيهم في منازلهم وعندهم قوم مسلمون، أفنسلم عليهم؟ قال: نعم، ننوي السلام على المسلمين. فصل: ويمنعون من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم المسلمين، لقولهم في شروطهم: ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى» ، وفي مساواتهم وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه لا يفضي إلى علو الكفر. والثاني: لا يجوز؛ لأن القصد علو الإسلام، ولا يحصل مع المساواة. فإن لم يكن لهم جار مسلم، لم يمنعوا من تعلية بنيانهم؛ لأنه لا يضر المسلمين. وإن ملكوا دارا عالية من مسلم، لم يؤمروا بنقضها؛ لأنهم ملكوها على هذه الصفة. فصل: ويمنعون من إظهار المنكر، كالخمر، والخنزير، وضرب الناقوس، ورفع أصواتهم بكتابهم، وإظهار أعيادهم، وصلبهم، لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم: إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليبا، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا القراءة في صلاتنا فيما يحضره المسلمون، وأن لا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين، وأن لا نخرج باعوثا، ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، ولا نجاورهم بالخنازير، ولا نظهر شركا، ولا نرغب في ديننا، ولا ندعو إليه أحدا. والباعوث: عيد يجتمعون له، كما يخرج المسلمون يوم الفطر والأضحى. فصل: ويمنعون من إحداث البيع، والكنائس والصوامع في بلاد المسلمين، لما روي في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 شروطهم لعبد الرحمن بن غنم: إن شرطنا لك على أنفسنا، أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديرا، ولا قلاية، ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين. وما كان فيها قبل الفتح في بلد فتح صلحا، أقر؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أقروهم على كنائسهم، وبيعهم، وما فتح عنوة فكذلك؛ لأن الكنائس والبيع، موجودة في جميع بلاد المسلمين من غير نكير، ولم تهدمها الصحابة في بلد فتحوه. وفيه وجه آخر، أنها تهدم لأنها بلاد مملوكة للمسلمين، فلم يجز أن يكون فيها بيعة، كالتي مصرها المسلمون، ويجوز رم ما تشعث من بيعهم وكنائسهم رواية واحدة؛ لأنه أبقى لها فأشبه تطيين سطوحها. وأما تجديد ما خرب منها فلا يجوز؛ لقولهم: ولا نجدد ما خرب من كنائسنا؛ ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام، فمنع منه كابتداء بنائها. وعنه: يجوز؛ لأنه أبقى لها، أشبه لَمْ مَا تشعث. وإن عقدت لهم الذمة في بلد ينفردون به، لم يمنعوا من شيء مما ذكرناه، ولم يأخذوا بغيار، ولا زنار؛ لأنهم في بلدانهم، فلم يمنعوا من إظهار دينهم. فصل: وينعون من سكنى الحجاز؛ لما روى أبو عبيدة بن الجراح: أن «آخر ما تكلم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أخرجوا اليهود من الحجاز» ، رواه أحمد وأبو داود. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» رواه مسلم. والمراد الحجاز، بدليل أن أحدا من الخلفاء لم يخرج أحدا من اليمن، ولا أهل تيماء، فدل على أن المراد به الحجاز، وهو مكة، والمدينة، واليمامة، وخيبر، وفدك، وما والاها - سمي حجازا؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد - وليس نجران من الحجاز، وإنما أجلاهم عمر منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالحهم على ألا ياكلوا الربا فأكلوه، ونقضوا العهد، فأمر بإجلائهم، فأجلاهم عمر. ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير إقامة؛ لأنهم كانوا يدخلونه في زمن عمر، وعثمان، والخلفاء بعدهم. ولا يجوز لهم الدخول، إلا بإذن الإمام؛ لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين، فوقف على رأي الإمام، كدخول الحربي دار الإسلام، فمن استأذن منهم في الدخول فيما للمسلمين فيه نفع، كتجارة، ورسالة، ونحوها، أذن له لما فيه من المصلحة، فإذا دخل، لم يقم في موضع أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أذن لمن دخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 منهم تاجرا، في إقامة ثلاثة أيام. فإذا انتقل إلى موضع آخر، فله أن يقيم فيه ثلاثة أخر؛ لأنه لا يصير مقيما في موضع، فأشبه المسافر، وإن مرض فعجز عن الخروج، أقام حتى يبرأ؛ لأنه موضع ضرورة، وإن مات دفن فيه؛ لأنه موضع حاجة. فصل: ويمنعون من دخول الحرم؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] . والمسجد الحرام: الحرم، بدليل قوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وأراد مكة؛ لأنه أسري به من بيت أم هانئ. فإن جاء رسولا، خرج إليه من يسمع منه، فإن لم يكن له بد من لقاء الإمام، خرج إليه، ولم يأذن له، فإن دخله عالما بالمنع، عزر، وإن كان جاهلا، أخرج ونهي وهدد، وإن كان مريضا، أو ميتا، أخرج ولم يدفن فيه، فإن دفن نبش وأخرج إلا أن يكون قد بلي؛ لأنه إذا لم يجز دخوله في حياته، فدفن جيفته فيه أولى. وحد الحرم: من طريق المدينة، على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة تسعة أميال، ومن طريق عرفة سبعة أميال، ومن طريق جدة عشرة أميال، فإن صالحهم على دخوله لم يجز، وإن كان بعوض لم يجز. فإن دخلوا إلى الموضع الذي صالحهم عليه، أخذ منهم العوض؛ لأنهم استوفوا المعوض، فلزمهم العوض. فإن دخلوا إلى بعضه، أخذ منهم بقدره. فصل: وليس لهم دخول مساجد الحل، بغير إذن مسلم. فإن دخل عزر، لما روت أم غراب قالت: رأيت عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المنبر وبصر بمجوسي، فنزل، فضربه، وأخرجه من أبواب كندة. فإن أذن له مسلم في الدخول، جاز في الصحيح من المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم عليه وفد الطائف، فأنزلهم المسجد قبل إسلامهم. وعنه: لا يجوز؛ لما روى عياض الأشعري: أن أبا موسى قدم على عمر ومعه نصراني، فأعجب عمر خطه، وقال: قل لكاتبك هذا يقرأ علينا كتابه، قال: إنه لا يدخل المسجد. قال: لم؟ أجنب هو؟ قال: هو نصراني، فانتهره عمر؛ ولأن الجنب يمنع المسجد، فالمشرك أولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 فصل: وعلى الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع من يقصدهم بأذى، من المسلمين والكفار، واستنقاذ من أسر منهم، بعد استنقاذ أسارى المسلمين، واسترجاع ما أخذ منهم؛ لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم، وحفظ أموالهم، وإن أخذ منهم خمر، أو خنزير، لم يجب استرجاعه؛ لأنه محرم، لا يحل اقتناؤه. وإن أخذ منهم أهل الحرب مالا، ثم قدر عليه المسلمون، رد إليهم إذا علم به قبل القسمة، كمال المسلم. وحكم أموالهم في الضمان حكم أموال المسلمين. فصل: وإذا تحاكم مسلم وذمي إلى الحاكم، لزمه الحكم بينهما؛ لأن إنصاف المسلم والإنصاف منه واجب. وإن تحاكم ذميان إليه، ففيه روايتان: إحداهما: يلزمه الحكم بينهما، لقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ؛ ولأن دفع الظلم عنهم واجب، والحكم طريق له، فوجب كالحكم بين المسلمين. والثانية: لا يجب، بل يخير بين الحكم بينهم وبين تركهم، لقول الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ؛ ولأنهما كافران، فلم يجب الحكم بينهما كالمستأمنين، ولا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام، لقول الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] ، وإن دعي أحدهما إلى الحكم، لزمته الإجابة، وإن تحاكم إليه مستأمنان، خير بين الحكم بينهما وبين تركهما، للآية. وإن دعاهما إلى الحكم أو أحدهما، لم يلزمهما الحضور؛ لأن قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] نزلت في المعاهدين قبل الولاية. فصل: ومن أتى محرما من أهل الذمة، مما يعتقد تحريمه في دينه، كالقتل، والزنا، والسرقة، والقذف، وجب عليه ما يجب على المسلم؛ لما روى أنس: «أن يهوديا، قتل جارية على أوضاح لها، فقتله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين حجرين» . متفق عليه. وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما، فرجمهما» ؛ ولأنه محرم في دينه، وقد التزم حكم الإسلام، فثبت في حقه حكمه، كالمسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 فأما ما لا يعتقد تحريمه، كشرب الخمر، ونحوه، فلا حد عليه فيه؛ لأنه يعتقد حله، فلم يجب عليه عقوبة، كالكفر، ولا يمكن من التظاهر به؛ لأنه منكر، فلا يمكن من إظهاره، فإن أظهره عزر. [ باب العشور ] من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده ثم عاد، أخذ منه نصف عشر ما معه من المال، لما روى أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك إلى العشور، فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ فقال: ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر. رواه الإمام أحمد. والذكر والأنثى سواء في هذا؛ للخبر؛ ولأنه حق مال التجارة، فوجب على الأنثى كالزكاة، وقال القاضي: لا يجب على النساء؛ لأنه لا جزية عليهن، فعلى قوله لا تؤخذ إلا ممن تجب عليه الجزية من أهل الذمة، والأول أصح. وسواء كان تغلبيا، أو غيره، لعموم هذا الخبر؛ ولأن الواجب على التغلبي ضعف ما على المسلم، وذلك نصف العشر. وعن أحمد: أن الواجب عليه العشر، لما روى زياد بن حدير، قال: بعثني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مصدقا، فأمرني أن آخذ من نصارى بني تغلب العشر، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر. رواه أحمد أيضا. وإن دخل إلينا تاجر حربي، أخذ منه العشر، لما روى لاحق بن حميد، قال: قالوا لعمر: كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟ قال: كيف يأخذون منكم؟ قالوا: العشر. قال: فكذلك خذوا منهم. وإن رأى الإمام التخفيف عليهم، أو الترك لمصلحة، فعل ذلك؛ لأنه فيء، فملك تخفيفه كالخراج. وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر، ومن الحنطة والزبيب نصف العشر، ليكثر الحمل إلى المدينة. وذكر القاضي: أنهم إذا دخلوا بميرة، لم يؤخذ منهم شيء؛ لأنهم لنفع المسلمين. وظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يؤخذ من الكل، وحديث عمر دليل عليه؛ لأنه أخذ من الحنطة والزبيب. فإن كانت تجارته في الخمر وخنزير، ففيه روايتان: إحداهما: يؤخذ من ثمنها حقها. قال أحمد في حديث سويد بن غفلة في قول عمر: ولوهم بيع الخمر والخنزير لعشرها. هذا إسناد جيد، ولا يكون ذلك إلا على الآخذ منها. والثانية: لا يؤخذ منها شيء، لما روى أبو عبيد بإسناده: أن عتبة بن فرقد بعث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 إلى عمر بأربعين ألف درهم صدقة الخمر، فكتب إليه عمر: بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين، فأخبر بذلك الناس، وقال: والله لا استعملتك على شيء بعدها، فنزعه، وقول عمر: ولوهم بيعها وخذوا من ثمنها في الخراج؛ لأن بلالا قال لعمر: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوها منهم وخذوا أنتم من الثمن. فصل: ولا يؤخذ في السنة إلا مرة، نص عليه أحمد، وقال ابن حامد: يؤخذ من الحربي كلما دخل إلينا؛ لأننا لو لم نأخذ منه كل مرة، لم نأمن أن لا يدخل إذا جاء وقت السنة فيتعذر الأخذ، والأول أصح، لما روي أن نصرانيا جاء إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: إن عاملك عشرني مرتين. قال عمر: ومن أنت؟ قال: أنا الشيخ النصراني. قال عمر: وأنا الشيخ الحنيف، ثم كتب إلى عامله أن لا تعشر في السنة إلا مرة، رواه الإمام أحمد. ولأنه حق مال التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة، كالزكاة. وما ذكره ابن حامد لا يلزم؛ لأنه يوجد منه أول مرة، ثم لا يؤخذ منه شيء حتى يحول عليه الحول. وينبغي أن يكتب له كتابا بما أخذ منه، ووقت الأخذ، وقدر المال؛ ليكون حجة له حتى لا يؤخذ منه عشر ما أدى عشره قبل انقضاء الحول. فصل: ولا يجب في أقل من عشرة دنانير. نص عليه. وهل يجب العشر في العشرة، أو في العشرين؟ على روايتين: إحداهما: تجب في العشرة؛ لأنها مال يبلغ واجبه نصف مثقال، فوجب فيه كالعشرين للمسلم. والثانية: لا يجب إلا في عشرين؛ لأنه لا يجب في أقل منها زكاة على مسلم، ولا تغلبي، فلم يجب فيه على ذمي شيء، كاليسير. وقال ابن حامد: يجب في القليل والكثير؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خذ من كل عشرين درهما درهما. فصل: وإن مر على العاشر منتقل بماله، لم يؤخذ منه لأنه لغير التجارة، وإن كانت معه تجارة، وعليه دين، فظاهر كلام أحمد أنه يمنع الأخذ منه؛ لأنه حق مال يتعلق بالتجارة، فمنع الدين وجوبه كالزكاة. ولا تقبل دعوى الدين إلا ببينة؛ لأن الأصل براءة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 ذمته منه وإن كانت معه جارية، فادعى أنها ابنته، ففيه روايتان: إحداهما: يقبل؛ لأن الأصل عدم الملك فيها. والثانية: لا يقبل؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليها. [ باب ما ينتقض به عهد الذمة ] باب ما ينتقض به العهد ينتقض عهد الذمي بأحد ثلاثة أشياء: الامتناع من بذل الجزية، والامتناع من التزام أحكام الإسلام، وقتال المسلمين، سواء شرط عليهم أو لم يشرط؛ لأن الله أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية، ويلتزموا أحكام الملة، فإذا امتنعوا من ذلك وجب قتالهم. فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد؛ لأن العقد يقتضي الأمان من الجانبين، والقتال ينافيه، فانتقض العهد به. فأما ما سوى ذلك فقسمان: أحدهما: ما فيه ضرر بالمسلمين، وهو ثمانية أشياء: قتل مسلم، أو فتنه عن دينه، أو قطع الطريق عليه، أو الزنا بمسلمة أو إصابتها باسم نكاح، أو إيواء جاسوس، أو دلالة على عورات المسلمين، أو ذكر الله تعالى أو رسوله أو كتابه بسوء، ففيه روايتان: إحداهما: ينتقض العهد به، سواء شرط أو لم يشرط، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه رفع إليه رجل أراد استكراه مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم، وأمر به، فصلب في بيت المقدس. وقيل لابن عمر: إن راهبا يشتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعط الأمان على هذا. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر عبد الرحمن بن غنم: أن يُلْحِق في كتاب صلح الجزيرة: ومن ضرب مسلما فقد خلع عهده؛ ولأنه لم يف بمقتضى الذمة، وهو الأمن من جانبه، فانتقض عهده، كما لو قاتل المسلمين. والثانية: لا ينتقض العهد به، ويقام عليه حد ذلك؛ لأن ما يقتضيه العهد من التزام أداء الجزية، وأحكام المسلمين، والكف عن قتالهم - باق، فوجب بقاء العهد، فأما سائر الخصال، كالتميز عن المسلمين، وترك إظهار المنكر، ونحوه، فإن لم يشترط عليهم، لم ينتقض عهدهم به؛ لأن العقد لا يقتضيها، ولا ضرر على المسلمين فيها، وإن شرطت عليهم، فظاهر كلام الخرقي أن عهدهم ينتقض بمخالفتها، لقوله: ومن نقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه، حل دمه وماله. ووجهه: أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم، بعد استيفاء الشروط: وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل من أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 المعاندة والشقاق؛ ولأنه عقد بشرط، فزال بزوال شرطه، كما لو امتنع من بذل الجزية. وقال غيره من أصحابنا: لا ينتقض العهد به؛ لأنه لا ضرر على المسلمين فيه، ولا ينافي عقد الذمة، ولكنه يعزر، ويلزم ما تركه. فصل: ومن نقض العهد، خير الإمام فيه بين أربعة أشياء، كالأسير الحربي؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلب الذي أراد استكراه المرأة؛ ولأنه كافر لا أمان له، فأشبه الحربي. ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه؛ لأن النقض وجد منه دونهم، فاختص حكمه به، ولو هرب بأهله وذريته إلى دار الحرب، لم ينتقض عهد ذريته، ولم يجز سبيهم لذلك، فأما المرأة فإن هربت طائعة انتقض عهدها؛ لأن النقض وجد منها، وإن لم تكن طائعة لم ينتقض عهدها؛ لأنه لم يوجد منها. ومن ولد له بعد دخوله دار الحرب، فلا عهد له. والله تعالى أعلم. تم، والحمد لله على تمامه، والله المسئول الزيادة من إنعامه، فرغ من تصنيفه عشية يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة بمدينة دمشق المحروسة، والله المحمود المشكور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 [ كتاب الأيمان ] لا تنعقد اليمين إلا من مختار، فأما الصبي، والمجنون، والنائم، فلا تنعقد أيمانهم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» ... الحديث. وفي السكران وجهان، بناء على طلاقه. ولا تنعقد يمين المكره؛ لأنه قول أكره عليه بغير حق، فلم يصح، ككلمة الكفر. وتنعقد اليمين من الكافر، وتلزمه الكفارة بالحنث، سواء حنث في الكفر أو الإسلام؛ «لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوف بنذرك» ؛ ولأنه من أهل القسم، يصح استحلافه عند الحاكم، فانعقدت يمينه كالمسلم. فصل: واليمين على أربعة أضرب: يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها، وهي اليمين على مستقبل متصور، عاقدا عليه قلبه، فتوجب الكفارة، لقول الله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] . الضرب الثاني: لغو اليمين، فلا كفارة فيه، لقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] ، واللغو نوعان: أحدهما: أن تجري اليمين على لسانه من غير قصد إليها، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يعني اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله» رواه البخاري وأبو داود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 وقال القاضي: هو أن يريد أن يقول: والله، فيجري على لسانه: لا والله، أو عكس ذلك. والثاني: أن يحلف على شيء، يظنه كما حلف، فيتبين بخلافه. وعنه: في هذا النوع الكفارة؛ لأن ظاهر حديث عائشة حصر اللغو في النوع الأول، وظاهر المذهب الأول؛ لأن هذا يمين على ماض فلم يوجب الكفارة، كالغموس. الضرب الثالث: يمين الغموس، وهي التي يحلفها كاذبا، عالما بكذبه، فلا كفارة فيها في ظاهر المذهب؛ لأنها يمين غير منعقدة لا توجب برا، ولا يمكن فيها فلم توجب كفارة، كاللغو. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خمس من الكبائر لا كفارة لهن» ، ذكر منهن: «الحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم» . وعن أحمد: أن الكفارة تجب فيها؛ لأنه حالف مخالف مع القصد، فلزمته الكفارة كالحالف على مستقبل. الضرب الرابع: أن يحلف على مستحيل، كصوم أمس، والجمع بين الضدين، وشرب ماء إناء لا ماء فيه، فلا كفارة فيها؛ لأنها غير منعقدة، لعدم تصور البر فيها، كيمين الغموس. وقال القاضي: قياس المذهب أن تجب فيها الكفارة؛ لأنها يمين على مستقبل. وإن حلف على مستحيل عادة، كإحياء الميت، وقلب الأعيان، فقال القاضي وأبو الخطاب: فيها كفارة؛ لأنه متوهم التصور. وقياس المذهب أنها كالتي قبلها؛ لأنها لا توجب برا، ولا يمكن فيها. فصل: فإن استثنى عقيب يمينه، فقال: إن شاء الله، لم يحنث، لما روى عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: من حلف فقال إن شاء الله - لم يحنث» ، رواه أبو داود؛ لأنه علق المحلوف عليه بشرط يلزم من وجوده وجوده، ومن عدمه عدمه، فلم يتصور الحنث فيها. ويشترط أن يكون متصلا باليمين، ولا يفصل بينهما بكلام أجنبي، ولا سكوت يمكن الكلام فيه؛ لأن الاستثناء من تمام الكلام، فاعتبر اتصاله به كالشرط وخبر المبتدأ. وعنه: يجوز الاستثناء ما لم يطل الفصل، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأغزون قريشا، ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله» رواه أبو داود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وقال بعض أصحابنا: يجوز الاستثناء ما دام في المجلس، واشترط القاضي أن يقصد الاستثناء، فإن سبق لسانه إليه من غير قصد كالعادة، لم يصح الاستثناء؛ لأن اليمين يعتبر لها القصد، فكذلك ما يرفع حكمها، ولا ينفعه الاستثناء بقلبه حتى يقول بلسانه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن شاء الله فعلقه بالقول؛ ولأن اليمين لا تنعقد بالنية، فكذلك الاستثناء، إلا أن أحمد قال: إن كان مظلوما، فاستثنى في نفسه، رجوت أن يجوز إذا حلف على نفسه، وذلك لأنه بمنزلة التأويل، يجوز للمظلوم دون غيره. فصل: ولا تنعقد اليمين إلا باسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفاته، لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحف بالله، أو ليصمت» متفق عليه. وعن ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حلف بغير الله فقد أشرك» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. فلو حلف بالكعبة أو بنبي، أو عرش، أو كرسي، أو غير ذلك، لم تنعقد يمينه. وعنه: من حلف بحق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحنث، فعليه الكفارة؛ لأنه أحد شرطي الشهادة، فأشبه الحلف باسم الله، والأول أولى، لدخوله في عموم الأحاديث وشبهه، كسائر الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. فصل: وأسماء الله ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا يشارك الله تعالى فيه غيره، نحو: الله، والرحمن، ومالك يوم الدين، ورب العالمين، والحي الذي لا يموت، فالحلف بها يمين بكل حال. الثاني: ما يسمى به غير الله، وإطلاقه ينصرف إليه، كالملك، والجبار والسلطان والرحيم، والقادر، فهذا إن نوى اليمين، أو أطلق، كان يمينا؛ لأنه بإطلاقه ينصرف إليه، وإن نوى به غير الله، لم يكن يمينا؛ لأنه نوى ما يحتمله، مما لو صرح به لم يكن يمينا. قال طلحة العاقولي: إذا قال: والخالق والرزاق والرب، كان يمينا بكل حال؛ لأنها لا تستعمل مع لام التعريف، إلا في اسم الله تعالى، فأشبهت القسم الأول. الثالث: ما لا ينصرف بالإطلاق إلى اسم الله تعالى، كالحي، والعالم، والموجود، والمؤمن، والكريم. فهذا إن أطلق لم يكن يمينا؛ لأنه لا ينصرف مع الإطلاق إليه، وإن قصد باليمين اسم الله، كان يمينا. وقال القاضي: لا يكون يمينا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 لأن اليمين إنما تنعقد لحرمة الاسم، ومع الاشتراك لا حرمة له، والأول أصح؛ لأنه أقسم بالله قاصدا للحلف به، فكان يمينا كالذي قبله. فصل: وصفات الله تعالى تنقسم قسمين: أحدهما: ما هو صفة لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها، كعظمة الله، وعزته، وجلاله، وكبريائه، فالقسم بها يمين منعقدة؛ لأنها صفة من صفات ذات الله لم يزل موصوفا بها، أشبهت أسماءه. والثاني: ما هو صفة حقيقية، ويعبر به عن غير ذلك مجازا، كعلم الله وقدرته، فإن أطلق كان يمينا، فإن نوى بعلم الله معلومه، وبقدرته مقدوره، فالمنصوص عن أحمد أنه يمين؛ لأنه موضوع لليمين، فلا يقبل منه غيره، ويحتمل أن لا يكون يمينا؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله مما ليس بيمين، فأشبه القسم بالقادر. وإن أقسم بحق الله، كان يمينا؛ لأنه إذا اقترن به عرف الاستعمال باليمين، انصرف إلى ما يستحقه لنفسه من العظمة والكبرياء، فأشبه قدرة الله. وإن قال: لعمر الله، كان يمينا؛ لأنه أقسم بصفة من صفات الله، فهو كالحالف ببقاء الله. ويقال: الْعَمْرُ وَالْعُمُرُ وَاحِدٌ، فهو قسم ببقاء الله. وقد ثبت لها عرف الاستعمال. قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] . وقال النابغة: فلا لعمر الذي قد زرته حججا ... وما هريق على الأنصاب من جسد وإن قال: وايم الله، أو وايمن الله، فهو يمين، كما ذكرنا في الذي قبله، وإن حلف بالقرآن، أو بكلام الله، فهي يمين منعقدة؛ لأن كلام الله صفة من صفاته، والقرآن هو كلام الله. وإن حلف بسورة منه، فهي يمين؛ لأنها من القرآن، وكذلك إن حلف بالمصحف؛ لأن القرآن فيه. قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] . وإن حلف بعهد الله، أو ميثاقه، أو أمانته، فهو يمين؛ لأنه يحتمل كلام الله الذي أمرنا به ونهانا، كقول تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [يس: 60] ، وقرينة الاستعمال صارفة إليه. وإن قال: والعهد والميثاق والأمانة، ونوى ذلك كان يمينا. وإن أطلق ففيه روايتان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 إحداهما: يكون يمينا كذلك؛ ولأن اللام إن كانت للتعريف، صرفته إلى عهد الله وميثاقه، وإن كانت للاستغراق، دخل ذلك فيه. والثانية: لا كفارة فيه؛ لأنه يحتمل غير ما تجب به الكفارة. فصل: وحروف القسم ثلاثة: الباء وهي الأصل تدخل على المُظهَر والمضمر، والواو وهي بدل منها، تدخل على المظهر وحده، والتاء وهي بدل من الواو. وتدخل على اسم الله تعالى وحده، فبأيها أقسم كان قسما صحيحا. وإن أقسم بغير حرف، فقال: الله لأقومن، بالنصب، أو الجر - كان صحيحا؛ لأنه لغة صحيحة. وقد ورد به عرف الاستعمال في الشرع. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لركانة بن عبد يزيد: «الله ما أردت إلا واحدة، قال: الله ما أردت إلا واحدة» . فإن قال: الله - بالرفع - لأقومن، ونوى اليمين، كان يمينا مع لحنه، وإن لم يرد اليمين لم يكن يمينا؛ لأنه لم يأت بالموضوع، ولا قصده. وقال أبو الخطاب: يكون يمينا، إلا أن يكون من أهل العربية. وإن قال: لاها الله، ونوى اليمين، كان يمينا؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في سلب قتيل أبي قتادة: لاها الله، إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن الله وعن رسوله، فيعطيك سلبه، وإن قال: أشهد بالله، أو أقسم بالله أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله، أو شهدت بالله، ونوى اليمين، أو أطلق، كان يمينا؛ لأنه قد ثبت له عرف الشرع والاستعمال. فإن قصد بذلك الخبر عما يفعله ثانيا، أو عما فعله ماضيا، لم يكن يمينا. وكذلك القول في: أعزم بالله، وعزمت بالله، في ظاهر كلام الخرقي. وقال أبو بكر: إن أطلق، لم يكن يمينا؛ لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الاستعمال. وإن قال: قسما بالله، أو ألية بالله، فهو يمين؛ لأن تقديره: أقسمت قسما، وآليت ألية. فإن قال: أقسمت، أو آليت، أو حلفت، أو شهدت لأفعلن، ونوى اليمين بالله - فهو يمين؛ لأنه نوى ما يحتمله مما هو يمين. وإن أطلق، ففيه روايتان: إحداهما: هو يمين؛ لأنه ثبت له عرف الشرع والاستعمال، «فإن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تقسم يا أبا بكر» . وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو: آليت لا تنفك عيني حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 والثانية: تنعقد اليمين؛ لأنه يحتمل القسم بغير اسم الله تعالى. وإن قال: حلفت بالله وأراد الخبر، لم يكن يمينا، اختاره أبو بكر. وعنه: عليه الكفارة لإقراره على نفسه، والأول المذهب؛ لأنه حكم بينه وبين الله تعالى، فلا يلزمه ما لم يوجد سببه. وإن قال: عليّ يمين، فكذلك. فإن أراد عقد اليمين، لم يكن يمينا؛ لأنه لم يأت باسم الله، ولا صفته، فلم يكن يمينا، كسائر الكلام. فصل: ويجاب القسم بأحرف خمسة: إن، واللام في الإيجاب، كقول الله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] ، وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] ، و"ما" و"لا" و"إن" الخفيفة في النفي كقول الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] ، وقوله سبحانه: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] ، وتحذف "لا" وهي مرادة، كقول الله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] . وقال امرؤ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا أي: لا أبرح. فإن قال: بالله صل لم تنعقد يمينه؛ لأنه لم يجبه بجواب القسم، وإن قال: تالله لتفعلن، انعقدت يمينه، والكفارة على الحالف؛ لأنه الحانث. فصل: وإن حرم على نفسه شيئا، وقال: ما أحل الله علي حرام، فهي يمين. سواء أطلق ذلك، أو علقه على شرط، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قوله تعلى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] يعني: التكفير. قالت عائشة: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمكث عند زينب، ويشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحدانا، فقالت ذلك، فقال: لا، بل شربت عسلا ولن أعود له، فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] » . متفق عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 وإن حرم أمته، أو أم ولده، فهو كتحريم ماله؛ لأنها مال له. وقد قال الحسن: إن الآية نزلت في تحريم مارية القبطية. فصل: وإن حلف بالخروج من الإسلام، فقال: هو بريء من الإسلام، أو كافر، أو يهودي، إن فعل - أثم؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من حلف بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا، فهو كما قال.» متفق عليه. وفي لفظ: «من حلف أنه بريء من الإسلام، فإن كان قد كذب، فهو كما قال، وإن كان صادقا لم يرجع إلى الإسلام سالما» . وهل تنعقد يمينه موجبة للكفارة؟ فيه روايتان: إحداهما: تنعقد، لما روى أبو بكر بإسناده عن زيد بن ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه سئل عن الرجل يقول: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها، فيحنث في هذه الأشياء، قال: عليه كفارة يمين» . والثانية: لا كفارة عليه؛ لأنه لم يحلف باسم الله، ولا صفته، فأشبه الحالف بمحو المصحف. وإن حلف باستحلال الزنا والخمر، أو ترك الصلاة، أو الصيام، فهو كالحالف بالكفر؛ لأن ذلك كفر. وإن حلف بمحو المصحف، وقتل النفس التي حرم الله ومعصيته في كل ما أمر، أو لعن نفسه، فلا كفارة فيه، نص عليه؛ لأنه لا يوجب الكفر. وإن قال: لا يراني الله في موضع كذا، فذكر القاضي: أن أحمد نص على أنه موجب للكفارة. فصل: وإن حلف رجل، فقال آخر: يميني في يمينك، يريد أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك، لم تنعقد يمينه؛ لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية؛ لأن تعلق الكفارة بها لحرمة اللفظ، ولا يوجد في الكناية. وإن كان ذلك في الطلاق، انعقدت يمينه؛ لأن الطلاق ينعقد بالكناية. وإن قال: أيمان البيعة تلزمني ولا يعرفها، أو لا نية له، لم يلزمه حكمها؛ لأن هذا كناية، فيعتبر له النية. ولا تصح النية لما لا يعرفه. وإن عرفها، ونوى التزام ما فيها، انعقدت يمينه بالطلاق، والعتاق؛ لأن اليمين بها تنعقد بالكناية، ولم تنعقد باليمين بالله؛ لأنها لا تنعقد بالكناية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 وأيمان البيعة أيمان رتبها الحجاج، تشتمل على اليمين بالله تعالى والعتاق، والطلاق، والحج، وصدقة المال، يستحلف بها الناس عند عقد البيعة. فصل: والحالف مخير في يمينه بين البر، وبين التكفير. ولا يحرم المحلوف عليه بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» . وإن فعل المحلوف عليه ناسياً، أو مكرهاً، لم يحنث، لقول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه والدارقطني؛ ولأنه غير قاصد للمخالفة، فلم يحنث، كالنائم. وعنه: أنه يحنث؛ لأنه فعل المحلوف عليه قاصداً لفعله، أشبه غير الناسي. وإن فعله جاهلاً، كرجل حلف لا يكلم فلاناً، فكلمه يظنه غيره، أو سلم على جماعة هو فيهم ولم يعلم به، أو حلف لا يفارقه حتى يقضيه حقه. فأعطاه قدر حقه، ففارقه، فوجده رديئاً، ففيه روايتان، كالناسي؛ لأنه غير قاصد للمخالفة. ومن حلف على غيره، ألا يفعل وكان المحلوف عليه ممن يمتنع بيمينه، فهو في الجهل والنسيان، كالحالف. وإن كان ممن لا يمتنع بيمينه، كالسلطان، والحاج، استوى في الحنث العلم والجهل والنسيان؛ لأنه مما لا يؤثر اليمين في امتناعه، فأشبه تعليق الطلاق بطلوع الشمس. [ باب كفارة اليمين ] ومن حلف، فهو مخير في التكفير قبل الحنث أو بعده، سواء كانت الكفارة صوماً أو غيره، لما روى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا عبد الرحمن بن سمرة، إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير» متفق عليه. وفي لفظ: «ثم ائت الذي هو خير» رواه أبو داود؛ لأنه كفر بعد سببه، فجاز ككفارة الظهار، والقتل بعد الجرح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 فصل: وهو مخير في أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم، أو يعتق رقبة. فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، لقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] . وقد شرحنا العتق والإطعام في كفارة الظهار. فأما الكسوة، فلا يجزئه أقل من كسوة عشرة مساكين، للآية. وتقدر الكسوة بما يجزئ في الصلاة، وهو ثوب للرجل، وللمرأة درع وخمار يستر جميعها. ولا يجزئ السراويل، ولا إزار وحده؛ لأن التكفير عبادة تعتبر فيها الكسوة، فأشبهت الصلاة. وتجزئه كسوتهم من القطن والكتان والصوف، وسائر ما يسمى كسوة؛ لأن الله تعالى لم يعين جنسها، فوجب أن لا يتعين. وتجوز كسوتهم من الجديد واللبيس، إلا أن يكون مما ذهبت منفعته باللبس، فلا يجزئ؛ لأن ذلك معيب، فأشبه الحب المعيب. وإن كسا بعض المساكين من جنس وباقيهم من جنس آخر، أو أطعمهم من جنس، جاز؛ لأنه قد أطعم وكسا عشرة، فجاز، كما لو كان من جنس واحد. وإن أطعم بعضهم، وكسا باقيهم، جاز؛ لأنه أخرج من جنس المنصوص عليه بعدة العدد الواجب، فأجزأ، كما لو أخرجه من جنس واحد؛ ولأن كل واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد، فقام مقامه في بعضه كالتيمم مع الماء. وإن أعتق نصف عبد. وأطعم خمسة مساكين، أو كساهم، لم يجزئه؛ لأن مقصودهما مختلف متباعد، فلم يكمل أحدهما بصاحبه، كالإطعام والصيام. ويشترط التتابع في صوم الأيام الثلاثة، وعنه: لا يشترط؛ لأن الأمر بها مطلق، فلم يجز تقييده بغير دليل، فظاهر المذهب الأول؛ لأن في قراءة أبي وابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فالظاهر أنهما سمعاه من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيكون خبراً. فصل: وإن حلف العبد أجزأه الصيام؛ لأن ذلك فرض الحر المعسر، وهو أحسن من العبد حالاً، وإذا أذن له سيده في التكفير بالمال، لم يلزمه؛ لأنه غير مالك له. وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يجزئه غير الصيام. وقال غيره: فيه روايتان: إحداهما: لا يجزئه إلا الصيام؛ لأنه لا يملك المال، فلم يجز له التكفير به، كالحر يكفر بمال غيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 والثانية: له التكفير بالمال إذا أذن له سيده فيه. وملكه قدر ما يكفر به؛ لأنه قدر على التكفير بالمال، فصح تكفيره به، كالمعسر يملك ما يكفر به، فعلى هذا له التكفير بالإطعام. وهل له التكفير بالعتق؟ على روايتين: إحداهما: له ذلك؛ لأنه من صح تكفيره بالإطعام، صح تكفيره بالعتق، كالحر. والثانية: لا يجوز؛ لأن العتق يقتضي الولاية والإرث، وليس ذلك للعبد. فإن قلنا: يجوز، فأذن له في إعتاق نفسه عن كفارته، ففعل، ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنها رقبة تجزئ عن غيره. فأجزأت عنه كغيره. والثاني: لا تجزئه؛ لأنه لا يملك نفسه، فلا يجزئه التكفير بها، كما لو لم يؤذن له؛ ولأن الكفارة عنه، لم يجز صرفها إلى نفسه، كالحر. فأما إن أذن في العتق مطلقاً، لم يجز أن يعتق نفسه، كما لو وكل غريماً في إبراء بعض غرمائه، لم يملك إبراء نفسه. وقال أبو بكر: فيه وجه آخر أنه يجزئه. فإن حنث وهو عبد، فعتق، فقال الخرقي: لا يجزئه غير الصيام؛ لأنه حين الوجوب لا يجزئه غيره؛ ولأنه حكم تعلق بالعبد، فلم يتغير بحريته كالحد. ومن جعل للعبد التكفير بالمال في حال رقه، فهنا أولى. ومن اعتبر أغلظ الأحوال وكان موسراً، لم يجز له التكفير بغير المال. فصل: ومن حلف أيماناً كثيرة على شيء واحد، فحنث، لم يلزمه أكثر من كفارة؛ لأنها أسباب كفارات من جنس، فتداخلت، كالحدود. وإن حلف يميناً واحدة على أفعال مختلفة، فحنث في الجميع، أجزأه كفارة واحدة؛ لأنها يمين واحدة، فلم يحنث بها أكثر من كفارة، كما لو حلف على فعل واحد. وإن حنث بفعل واحد، انحلت يمينه في الباقي. وإن حلف أيماناً على أفعال فقال: والله لا أكلت، والله لا شربت، والله لا لبست، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه عن الجميع كفارة واحدة، اختارها أبو بكر والقاضي؛ لأنها كفارات من جنس واحد، فتداخلت، كالحدود. والثانية: يجب في كل يمين كفارة، وهو ظاهر قول الخرقي؛ لأنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى، فوجبت في كل يمين كفارتها، كالمختلفة الكفارة. قال أبو بكر: المذهب الأول، وقد رجع أحمد عن الرواية الأخرى. ولو حلف على شيء واحد بيمينين مختلفي الكفارة، كالظهار واليمين بالله، لزمته في كل يمين كفارتها؛ لأنها أجناس، فلم تتداخل، كالحدود من أجناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 فصل: ومن حلف بالقرآن، فحنث، فقياس المذهب أن عليه كفارة واحدة؛ لأن الحلف بصفات الله تعالى وتكرر اليمين بها، لا يوجب أكثر من كفارة واحدة، فهذا أولى. والمنصوص عنه أن عليه بكل آية كفارة؛ لأن ابن مسعود قال ذلك. قال أحمد: ما أعلم شيئاً يدفعه. ويحتمل أن ذلك ندب غير واجب؛ لأنه قال: عليه بكل آية كفارة يمين، فإن لم يمكنه، فعليه كفارة يمين. ورده إلى كفارة واحدة عند العجز، دليل على أن الزائد عليها غير واجب؛ إذ لو وجب، لم يسقط بالعجز، كالواحدة. [ باب جامع الأيمان ] ومبنى الأيمان على النية، فمتى نوى بيمينه ما يحتمله، تعلقت يمينه بما نواه، دون ما لفظ به، سواء نوى ظاهر اللفظ أو مجازه، مثل أن ينوي موضوع اللفظ، أو الخاص بالعام، أو العام بالخاص، أو غير ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» فتدخل فيه الأيمان؛ ولأن كلام الشارع يصرف إلى ما دل الدليل على أنه أراده دون ظاهر اللفظ، فكلام المتكلم مع اطلاعه على تعين إرادته أولى. فلو حلف ليأكلن لحماً أو فاكهة، أو ليشربن ماء، أو ليكلمن رجلاً، أو ليدخلن داراً، أو لا يفعل ذلك، وأراد بيمينه معيناً، تعلقت يمينه به دون غيره، وإن نوى الفعل أو الترك في وقت بعينه، اختص بما نواه. وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش، يريد قطع منته، تناولت يمينه كل ما يمتن به؛ لأن ذلك للتنبيه على ما هو أعلى منه، كقول الله تعالى: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 77] . يريد: ولا تظلمون شيئاً. وقال الشاعر: ولا يظلمون الناس حبة خردل وإن حلف: لا يلبس شيئاً من غزلها، يريد قطع منتها، فباعه وانتفع بثمنه، حنث، ولا يتعدى الحكم إلى كل ما فيه منة؛ لأن لكونه من غزلها أثراً في داعية اليمين، فلم يجز حذفه. وإن حلف: لا يأوي معها في دار، ينوي جفاءها، ولم يكن للدار أثر في القصد، فأوى معها في غيرها، حنث، ولا يحنث بصلتها بغير الإيواء؛ لأن له أثراً فلا يحذف. وإن قال: إن رأيتك تدخلين الدار، فأنت طالق، يقصد منعها الدخول بالكلية، حنث بدخولها وإن لم يرها، وإن لم يرد ذلك، لم يحنث حتى يراها تدخل اتباعاً للفظه. وإن حلف: ليقضينه حقه في غد، يريد ألا يتجاوزه بالقضاء، فقضاه قبله، لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 يحنث. وإن حلف: لا يبيع ثوبه بمائة. يريد ألا ينقصه، فباعه بأقل، حنث. وإن حلف: لا يتزوج، حنث بالعقد الصحيح. وإن حلف: ليتزوجن، بر بذلك، إلا أن يقصد بيمينه غيظ زوجته، أو يكون سبب يمينه يقتضي ذلك، فلا يبر إلا بتزويج يغيظها. فإن واطأها على التزوج والطلاق قبل الدخول، ليحل يمينه، أو يتزوج من لا يغيظها تزوجها، لم يبر. وقال أصحابنا فيمن حلف: ليتزوجن على امرأته، لا يبر حتى يتزوج نظيرتها، ويدخل بها، والصحيح أن هذا لا يعتبر؛ لأن غيظها يحصل بدونه. فصل: وإن تأول الظالم في يمينه، لم ينفعه تأويله، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» . رواه مسلم وأبو داود؛ ولأنه لو ساغ له التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين، وهو تعريف الحالف ليرتدع عن جحوده، خوفاً من عاقبة اليمين الكاذبة. وإن كان مظلوماً، فله تأويله، نص عليه أحمد في رجل له امرأتان، اسم كل واحدة فاطمة، فماتت إحداهما: فحلف بطلاق فاطمة ينوي الميتة، إن كان المستحلف ظالماً، فالنية نية صاحب الطلاق، وإن كان الحالف ظالماً، فالنية نية الذي أحلفه، لما روى أبو داود بإسناده عن سويد بن حنظلة قال: «خرجنا نريد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت: أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرنا ذلك له، فقال: أنت كنت أبرهم وأصدقهم، المسلم أخو المسلم» ؛ ولأنه نوى بكلامه ما يحتمله على وجه لا يبطل حق أحد، فجاز كما لو عنى به الظاهر. وإن لم يكن ظالماً، ولا مظلوماً، فظاهر كلام أحمد: أن له تأويله كذلك، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمزح ولا يقول إلا حقاً. وقال لرجل: «إنا حاملوك على ابن ناقة. فقال الرجل: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال: وهل تلد الإبل إلا النوق» . رواه أبو داود. وقال بعض أهل العلم: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف، يعني: التأويل. فصل: ومن لم تكن له نية، وكان ليمينه سبب هيجها، يقتضي معنى أعم من اللفظ، مثل من امتنت عليه زوجته، فحلف لا يشرب لها الماء من العطش، أو لا يلبس ثوباً من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 غزلها، أو حلف: لا يأوي معها في دار، لسبب يقتضي جفاءها، فحكمه حكم القاصد كذلك؛ لأن السبب دليل على النية والقصد، فقام مقامه. وإن كان اللفظ أعم من السبب، كرجل امتنت عليه زوجته ببيتها، فحلف لا يسكن بيتاً، أو دعاه إنسان إلى غداء، فحلف لا يتغدى، ففيه وجهان: أحدهما: يحمل اللفظ على عمومه؛ لأن كلام الشارع إذا ورد على سبب خاص، حمل على عمومه، ولم يختص محل سببه، فكذلك اليمين. والثاني: يختص بمحل السبب؛ لأن قرينة حاله دالة على إرادة الخاص، أشبه ما لو نواه؛ ولأننا أقمنا السبب مقام النية في التعميم، فكذلك في التخصيص. ولو حلف على شيء لسبب فزال، مثل من حلف لا يدخل بلداً، لظلم فيه، فزال، ثم دخله، فقال القاضي: يحنث. وذكر أن أحمد نص عليه. وإن حلف على زوجته أو عبده: ألا يخرجها إلا بإذنه، فخرجا عن ملكه، فقال القاضي: تنحل يمينه؛ لأن قرينة الحال تقتضي تخصيصهما بحالة الملك، فأشبه ما لو صرح به، فيخرج في هذه المسألة، وفي التي قبلها وجهان، قياساً لكل واحدة منهما على صاحبتها. وإن حلف لعامل: لا يخرج إلا بإذنه، فعزل، أو حلف: لا يرى منكراً إلا رفعه إلى القاضي فلان، فعزل، وأشباه هذا، ففيه وجهان كذلك. فإن قلنا: لا تنحل اليمين بعزله، فرفعه إليه بعد عزله، بر. وإن قلنا: تنحل بذلك، فرأى منكراً في ولايته وأمكنه رفعه إليه، فلم يرفعه إليه حتى عزل، ثم رفعه إليه، لم يبر. فصل: فإن عدم ذلك، تعلقت يمينه بما عينه، فمتى حلف لا أكلت هذا الرطب، أو هذا العنب، فصار دبساً، أو خلاً، أو ناطفاً، أو: لا أكلت هذا الحمل، فصار كبشاً، أو: لا أكلت هذا البر، فصار دقيقاً أو خبزاً أو هريسة، أو ما تولد من المحلوف عليه، فأكل منه، حنث، وإن حلف: لا كلمت هذا الصبي، فصار شيخاً، فكلمه، أو: لا دخلت هذه الدار، فصارت فضاء، أو مسجداً، أو حماماً، فدخلها، أو: لا لبست هذا الرداء، فلبسه قميصاً، أو سراويل، أو اعتم به، أو: لا ركبت هذه السفينة، فنقضت، ثم أعيدت وركبها، أو: لا كلمت زوجة فلان هذه، ولا عبده هذا، أو: لا دخلت داره هذه، أو: لا كلمت بكراً عند زيد، ولا هنداً زوجته، أو: لا كلمت زيداً سيد بكر، أو زوج هند، أو زيداً صديق سعد، فزال ملكه عنهن، وفعل ما حلف عليه، حنث؛ لأن عين المحلوف عليه باقية، فحنث به، كما لو حلف: لا أكلت هذا الكبش، فذبحه، وأكل من لحمه، ويحتمل أن لا يحنث في هذا كله. وإن استحالت العين، مثل أن حلف على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 هذا البر، فصار زرعاً، أو بيضة، فصارت فرخاً، أو على خمر، فصار خلاً، لم يحنث؛ لأن الأعيان استحالت، فزال حكم اليمين، ومتى كانت نية الحالف على شيء مقيد بصفة، تقيدت يمينه بذلك. ومتى حلف: لا يدخل دار فلان، ولا يكلم عبده ولا زوجته، ولا يركب دابته، وقصد معيناً، تعلقت اليمين بعينه، سواء بقي لفلان، أو انتفل عنه، ولا تتناول يمينه غير تلك الدار والعبد والدابة والزوجة؛ لأنه تعين بنيته. وإن لم يعين حنث بكلام كل عبد وزوجة له، ودخول كل دار مضافة إليه بملك أو إجارة أو سكنى؛ لأن الدار تضاف إلى ساكنها. قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . يريد: بيوت أزواجهن التي تسكنها. ولا يحنث بكلام عبد زال عنه ملك فلان، ولا دار. ولو حلف: لا يدخل دار عبد فلان، ولا يركب دابته، ولا يلبس ثوبه، فركب، أو لبس، أو سكن، أو ركب ما جعل برسمه، حنث، لما ذكرنا؛ ولأن إضافة الملكية هنا غير متحققة، فتعين صرفها إلى غير الملكية. فصل: وإن عدم التعيين، تعلقت يمينه بما تناوله الاسم، والأسماء ثلاثة أقسام: أحدها: الأسماء العرفية، وهي أسماء اشتهر في العرف استعمالها في غير موضوعها، وهي أربعة أنواع: أحدها: ما صارت الحقيقة فيه مغمورة، لا يعرفها أكثر الناس، كالراوية: للمزادة، وحقيقتها: البعير الذي يسقى عليه. والغائط والعذرة: للفضلة المستقذرة. وحقيقة الغائط: المكان المطمئن. والعذرة: فناء الدار. فهذا تنصرف اليمين عليه إلى الاسم العرفي دون الحقيقي؛ لأنه يعلم أنه لا يريد غيره، فصار كالمصرح به، ولو حلف: لا يأكل شواء، اختصت يمينه اللحم المشوي، دون المشوي من البيض وغيره، لاختصاص الشوي باللحم المشوي، دون غيره. وإن حلف على الدابة، لم تتناول يمينه آدمياً، ولا ما لا يسمى دابة في العرف، وإن حلف: لا استظل بسقف، لم تتناول يمينه السماء، وإن كان الله تعالى قد قال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] . ولو حلف على السراج، لم يتناول الشمس، لعدم تسميتها عرفاً. وإن اختلف أهل بلدين في تسمية عين، انصرفت يمين الحالف إلى تسمية أهل بلده؛ لأنه لا يريد غيره، فأشبه ما لو اختلفت اللغات. النوع الثاني: ما يزيل الاسم عن الحقيقي، مثل اسم اللحم، يتناول في الحقيقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 لحم السمك. قال الله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] ولا يفهم ذلك عند إطلاق الاسم، فذكر الخرقي أنه إذا حلف: لا يأكل لحماً، فأكل من لحم السمك، حنث لأن الله تعالى سماه لحماً؛ ولأنه لحم حيوان، فأشبه لحم الطير. وقال ابن أبي موسى: لا يدخل إلا أن ينويه؛ لأنه لا يطلق عليه اسم اللحم، أشبه الجراد؛ ولأن الظاهر أن الحالف لم يرده بيمينه، فأشبه النوع الذي قبله. وإن حلف: لا يدخل بيتاً، فنص أحمد على أن يمينه تتناول المسجد والحمام؛ لأن الله سمى المساجد بيوتاً، فقال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] . وفي الأثر: «بئس البيت الحمام» . وإذا كان بيتاً في الحقيقة، ويسميه الشارع، حنث بدخوله كغيره، ويحتمل ألا يحنث؛ لأنه لا يسمى في العرف بيتاً، أشبه النوع الأول. ويدخل في يمينه بيت الشعر والمدر؛ لأنه بيت حقيقة وعرفاً، ولا تدخل فيه الخيمة؛ لأنها لا تسمى بيتاً، ولا يدخل الدهليز، ولا الصفة، ولا صحن الدار كذلك. وإن حلف على الريحان، فقال القاضي. تختص يمينه الريحان الفارسي؛ لأنه المسمى عرفاً. وقال أبو الخطاب. تتناول كل نبت أو زهر طيب الريح، كالورد، والبنفسج، والنرجس، والمرزنجوش، ونحوه؛ لأنه يتناول اسم الريحان حقيقة. ولو حلف: لا يشم ورداً، ولا بنفسجاً، حنث بشمهما، رطبين كانا أو يابسين. فإن شم دهنهما، لم يحنث عند القاضي؛ لأنه لم يشمهما، ويحنث عند أبي الخطاب؛ لأن الشم إنما هو للرائحة، وريحهما في دهنهما. وإن حلف: لا يشتريهما، فاشترى دهنهما، لم يحنث وجهاً واحداً. النوع الثالث: ما يتناوله الاسم حقيقة وعرفاً، لكن أضاف إليه فعلاً لم تجر العادة بإضافته إلا إلى بعضه، ففيه وجهان: أحدهما: يتناول الاسم جميع المسمى، لعموم الاسم فيه. والثاني: يختص بما جرت العادة بإضافة الفعل إليه؛ لأن هذا قرينة دالة على اختصاصه بالإرادة، فأشبه ما لو خصه بنيته. فإذا حلف: لا يأكل رأساً، فقال القاضي: يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم، والطير، والصيد، والحيتان، والجراد، لعموم الاسم فيه حقيقة وعرفاً، فأشبه ما لو حلف: لا يشرب ماء، فإنه يحنث بشرب الماء الملح، والماء النجس. ومن حلف: لا يأكل خبزاً، حنث بأكل خبز الذرة والدخن، وإن لم تجر عادة أهل بلد الحالف بأكله. ولو حلف: لا يأكل لحماً، تناول يمينه لكل اللحم المحرم. وقال أبو الخطاب: لا يحنث بأكل رأس لم تجر العادة بأكله منفرداً لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 لا ينصرف إليه اللفظ عرفاً فلم يحنث بأكله، كما لو حلف: لا يأكل شواء، فأكل بيضاً مشوياً، وإن حلف: لا يأكل بيضاً، فعند القاضي: يحنث بأكل بيض كل حيوان، وعند أبي الخطاب: لا يحنث بأكل بيض لا يزايل بائضه في حياته، كبيض السمك والجراد. النوع الرابع: أسماء يقصد بها في الغالب معنى، فإذا أطلقها في اليمين، تعلقت يمينه بما يحصل ذلك المعنى. فإذا حلف: لا يضربه، فخنقه، أو نتف شعره، أو عصر ساقه، حنث؛ لأنه يقصد ترك تأليمه. وإن حلف ليضربنه، بر بفعل ذلك؛ لأنه يحصل مقصوده، ويسمى ضرباً. وإن ضربه بعد موته، لم يبر؛ لأنه لا يحصل مقصوده، وإن حلف: لا وطئت مدينة كذا راكباً، حنث؛ لأن ذلك يراد به اجتنابها. فصل: القسم الثاني: الأسماء الشرعية، وهي التي لها موضوع شرعي، كالوضوء، والطهارة، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، والبيع. فتعلق اليمين بالموضوع الشرعي؛ لأنه الظاهر. وتعلق اليمين بالصحيح منه دون الفاسد؛ لأنه المشروع. وقال ابن أبي موسى: من حلف لا يتزوج، لم يحنث إلا بتزويج صحيح. ومن حلف لا يشتري، فاشترى شراء فاسداً، ففيه روايتان. وإن تزوج تزويجاً مختلفاً فيه، أو اشترى شراء مختلفاً فيه، حنث؛ لأنه يطلق عليه الاسم. وقال أبو الخطاب: إن باع وقت النداء، أو تزوج بغير ولي، ففيه وجهان. وإن حلف: لا يبيع خمراً ولا حراً، حنث بفعل ذلك؛ لأنه يتعذر حمل يمينه على عقد صحيح، فيتعين الفاسد محملاً لها، ويحتمل أن لا يحنث؛ لأنه ليس ببيع في الشرع. وإن حلف: ليصلين وليصومن، فأقل ذلك صوم يوم، وصلاة ركعتين، كما لو نذر ذلك، وإن حلف: لا يصلي، ولا يصوم، فكذلك عند أبي الخطاب؛ لأن ما دونه لا يبر به، فلا يحنث بفعله، كغيره من الأفعال. وقال القاضي: يحنث بابتدائهما؛ لأنه يسمى مصلياً، وصائماً. ويحتمل أن يخرج هذا على الروايتين فيمن حلف لا يفعل شيئاً، ففعل بعضه. وإن حلف: لا يبيع، لم يحنث، حتى ينعقد البيع بالإيجاب والقبول. وإن حلف: لا يهبه. أو لا يعيره، فأوجب ذلك، فلم يقبل الآخر، حنث؛ لأن المقصود من الهبة فعل الواهب، لعدم العوض فيها، بخلاف البيع. فإن مقصود البائع لا يتم إلا بالقبول. وإن حلف: لا يتصدق عليه، فوهبه، لم يحنث؛ لأن الصدقة تختص بوصف زائد، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو عليها صدقة ولنا هدية» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وإن حلف: لا يهبه، فتصدق عليه تطوعاً، لم يحنث عند أبي الخطاب كذلك. وقال القاضي: يحنث؛ لأنه تبرع بعين في حياته، أشبه ما لو أهدى إليه، والصدقة نوع من الهبة فتتناولها يمين الحالف على الهبة، ولم تدخل الهبة في يمين الحالف على الصدقة، ولا يحنث بالصدقة الواجبة، وجهاً واحداً؛ لأنه ليس بتبرع. وإن أهدى إليه، أو أعمره، حنث؛ لأنه هبة. وإن وصى له، لم يحنث؛ لأن الملك إنما يثبت بعد انحلال اليمين بالموت. وإن أعاره، لم يحنث؛ لأنها لا تسمى هبة؛ ولأن الهبة تمليك الأعيان. وقال أبو الخطاب: يحنث؛ لأنها هبة المنافع. وإن حاباه في البيع لم يحنث، لما ذكرنا في العارية. وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر؛ أنه يحنث؛ لأنه تبرع عليه. وإن وقف عليه، ابتنى على ملك الموقوف عليه. وإن قلنا: يملك، حنث. وإلا، فلا. وقال أبو الخطاب. يحنث؛ لأنه تبرع عليه، ويحتمل أن لا يحنث بحال؛ لأنه لا يسمى هبة. فصل: القسم الثالث: ما له موضوع لغوي، لم يغلب استعماله في غيره، فتتناوله يمينه، مثل أن يحلف: لا يأكل لبناً، فيحنث بأكل ما يسمى لبناً، حليباً كان أو مخيضاً، مائعاً أو جامداً. ولا يحنث بأكل الخبز، والزبد والسمن والأقط والكشك؛ لأنه لا يسمى لبناً. وإن حلف على الزبد، لم تتناول يمينه سمناً ولا لبناً لم يظهر زبده. فإن ظهر زبده تناولته يمينه، وإن حلف على السمن، لم تتناول يمينه زبداً ولا لبناً، ويحنث بأكل ما حلف عليه مفرداً، وفي طبيخ يظهر طعمه فيه؛ لأنه أكل المحلوف عليه وغيره، وإن لم يظهر طعمه في الطبيخ لم يحنث بأكله؛ لأنه زال اسمه وطعمه، فلم يحنث بأكله، كالكشك. وإن حلف لا يأكل حنطة، فأكلها خبزاً، أو طبيخاً، حنث؛ لأن الحنطة لا تؤكل حباً عادة، فانصرفت يمينه إلى أكلها في جميع أحوالها، وإن أكل شعيراً فيه حبات حنطة، ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنه أكل حنطة، فأشبه ما لو حلف لا يأكل رطباً، فأكل منصفاً. والثاني: لا يحنث؛ لأنها مستهلكة في الشعير، أشبه السمن في الخبيص. فصل: وإن حلف لا يأكل فاكهة، تناولت يمينه كل ثمرة مأكولة تخرج من الشجر، كالعنب، والزبيب، والرطب، والتمر، والجوز، واللوز؛ لأنه يسمى فاكهة، ولا تتناول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 القثاء، والخيار، والباذنجان؛ لأنها من الخضر. وفي البطيخ وجهان: أحدهما: فاكهة؛ لأنه ينضج ويحلو، أشبه العنب. والثاني: ليس بفاكهة؛ لأنه ثمر بقلة، أشبه القثاء. فصل: والإدام: ما يؤكل مع الخبز عادة، سواء كان مما يصطبغ به، كالمرق، واللبن، والدهن والخل، أو مما لا يصطبغ به، كالشواء، والجبن، والزيتون؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نعم الإدام الخل» وقال: «اللحم سيد الإدام في الدنيا والآخرة» . فنص على هذين. وقسنا عليهما سائر ما ذكرنا؛ لأنه يؤتدم به عادة. وفي التمر وجهان: أحدهما: هو إدام، لما روى يوسف بن عبد الله بن سلام قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع تمرة على كسرة وقال: هذه إدام هذه» . رواه أبو داود. والثاني: أنه ليس بأدم؛ لأنه فاكهة أشبه الزبيب. وأما الطعام، فهو: اسم لكل مأكول، ومشروب على سبيل الاختيار. قال الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما تحرز لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم» . والحلال والحرام سواء في اليمين. وفي الماء والدواء وجهان: أحدهما: هو طعام، لقول الله تعالى في النهر: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] ؛ ولأنه مشروب، والدواء مأكول ومشروب، أشبه العسل. والثاني: ليس بطعام؛ لأنه لا يطلق عليه اسمه، والدواء إنما يؤكل عند الضرورة. وأما القوت: فما تبقى به البنية، كالخبز، والتمر، والزبيب، واللحم واللبن؛ لأن كل واحد من هذه يقتاته أهل بلد، ويحتمل ألا يدخل في يمينه ما لا يقتاته أهل بلده؛ لأن يمينه تنصرف إلى المتعارف عندهم. فصل: ومن حلف على اللحم، تناولت يمينه لحم الأنعام والصيد والطير والسباع، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 وكل ما يسمى لحماً، ولا تتناول يمينه الشحم، والألية، والمخ، والدماغ، والكبد، والطحال، والقلب، والرئة، والكلية، والكرش، والمصران، والقانصة، والكارع؛ لأنه ليس بلحم. ولا ينفرد عنه باسمه وصفته، فأشبه الجلد، وفي اللسان وجهان: أحدهما: يدخل؛ لأنه لحم حقيقة. والثاني: لا يدخل؛ لأنه ينفرد باسمه وصفته، أشبه القلب. وفي لحم الرأس وجهان: أحدهما: لا يدخل في يمينه. أومأ إليه أحمد فيمن حلف لا يشتري لحماً، فاشترى رأساً، أو كارعاً، لا يحنث إلا أن ينوي؛ لأن اسم اللحم، لا ينصرف عند الإطلاق إليه. والثاني: يحنث؛ لأنه لحم، وفي المرق وجهان: أحدهما: لا تتناوله يمينه؛ لأنه لا يسمى لحماً. والثاني: تتناوله يمينه. اختاره القاضي؛ لأن خاصية اللحم فيه، ولا تخلو من أجزائه. وفي اللحم الأبيض الذي على الظهر والجنب، وفي تضاعيف اللحم الأحمر، وجهان: أحدهما: هو لحم. وهذا قول القاضي، وأبي الخطاب؛ لأنه يسمى لحماً، ويسمى بائعه لحاماً، ولا يفرد عن اللحم. والثاني: هو شحم، هذا ظاهر قول الخرقي. واختيار طلحة العاقولي؛ لأنه يشبه الشحم في لونه وذوبه، ولا يسمى لحماً بمفرده، فعلى هذا يكون هذا، والألية، وشحم البطن، شحم تتناوله يمين الحالف على الشحم. وعلى قول القاضي: الشحم: اسم لشحم البطن خاصة، لا يتناوله غيره. ومن حلف لا يأكل شحماً، فأكل لحماً أحمر وحده، لم يحنث؛ لأنه لا يسمى شحماً، ولا يظهر فيه شحم. وقال الخرقي: يحنث؛ لأنه لا يخلو من شحم. فصل: ومن حلف على العنب، لم تتناول يمينه حصرماً، ولا زبيباً، ولا ما يتولد من العنب. ومن حلف على الزبيب، لم تتناول يمينه عنباً. ومن حلف لا يأكل رطباً، فأكل منصفاً، وهو الذي أرطب نصفه، أو أكل القدر الذي أرطب منه، حنث؛ لأنه أكل رطباً. وإن أكل القدر الذي لم يرطب، لم يحنث ومن حلف لا يكلم شيخاً، ولا عبداً، ولا يشتري جدياً، ولا يأكل لحماً طرياً، ولا رطباً جنياً، لم يحنث بغير الموصوف بتلك الصفة؛ لأن يمينه لم تتناول غيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 فصل: ومن حلف على الحلي، تناولت يمينه الخواتيم، والأسورة، والخلاخيل وكل ما يسمى حلياً، وتتناول اللؤلؤ والجواهر في المخنقة، لقول الله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] . ولا تتناول العقيق، والسبج؛ لأنه ليس بحلي، أشبه الودع والخرز. ولا تتناول السيف المحلى؛ لأن السيف ليس بحلية. والحلية إنما هي للسيف، وفي المنطقة المحلاة وجهان: أحدهما: هي كالسيف. والثاني: تتناولها اليمين؛ لأنها من حلي الرجال. وإن لبس الخاتم في أي أصابعه كان، حنث؛ لأنه قد لبسه، فأشبه لبسه في الخنصر. فصل: والحين عند إطلاقه: اسم لستة أشهر؛ لأن ذلك يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال عكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو عبيد في قول الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] . هو ستة أشهر، فيحمل مطلق كلام الآدمي على المطلق من كلام الله سبحانه. والحقب: ثمانون عاماً. قاله ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] . وإن حلف لا يكلمه وقتاً، أو دهراً، أو ملياً، أو طويلاً، أو قريباً، تناول أقل الزمان؛ لأن الاسم تناوله، وكذلك إذا حلف لا يكلمه زمناً، عند أبي الخطاب؛ لأنه في معنى وقت. وقال ابن أبي موسى: هو ثلاثة أشهر، وقال العاقولي: هو كالحين. والأول أصح. وقوله: عمراً، كقوله: وقتاً، عند أبي الخطاب، وعند العاقولي، هو كالحين، ويحتمل أن يحمل على أربعين عاماً، لقول الله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16] . ويعني: مدة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل بعثه، وكان أربعين عاماً. وإن حلف لا يكلمه الدهر، أو الأبد، أو الزمان، تناول الدهر؛ لأن الألف واللام تستغرق الجميع. وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 حلف على أشهر، أو أيام، فهي ثلاثة؛ لأنها أقل الجمع. وإن حلف على شهور، فكذلك عند أبي الخطاب؛ لأنها جمع. وقال غيره: هي اثنا عشر، لقول الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] ولأن هذا جمع كثرة، فلا يحمل على ما يحمل عليه جمع القلة. وإن حلف لا يأوي معه بيتاً. فدخلا بيتاً، حنث وإن قل لبثهما، لقول الله تعالى: {إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63] . قال أحمد: ما كان ذلك إلا ساعة. فصل: وإن حلف لا يدخل داراً، فدخلها مختاراً، حنث، راكباً كان أو ماشياً، أو محمولاً، أو على مأمن بابها، أو من ثقب فيها، أو من فوق جدارها؛ لأنه قد دخلها. وإن رقى على سطحها، حنث؛ لأنها منها. وكذلك يصح الاعتكاف في سطح المسجد، ويمنع الجنب اللبث فيه، إلا أن تكون بينة أو قرينة حالة تقتضي إخراج السطح من اليمين. وإن قال: على حائطها، أو عتبة بابها، ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنه دخل في حدها. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يسمى داخلاً. وإن تعلق على غصن شجرة منها حتى صار بين حيطانها، حنث. وإن صار مقابلاً لها، احتمل وجهين. وإن حلف لا يدخل من بابها، فحول بابها، ودخل من الثاني، حنث؛ لأنه بابها. وإن حلف لا يضع قدمه فيها، أو لا يطأها، فدخلها راكباً، أو حافياً، أو منتعلاً، حنث لأن معناه، أن لا يدخلها. فصل: وإن حلف على دار ليخرجن منها، اقتضت يمينه الخروج بنفسه، وأهله، وإن حلف ليخرجن من هذه البلد، اقتضت يمينه الخروج بنفسه؛ لأن الدار يخرج منها صاحبها كل يوم عادة. وظاهر حاله، إرادة خروج غير المعتاد، بخلاف البلد. وهل يحنث بالعود إليها؟ فيه روايتان: إحداهما: يحنث؛ لأن ظاهر حاله قصد هجرانها، ولا يحصل ذلك مع العود. والثانية: لا يحنث؛ لأن يمينه على الخروج وقد فعله، ولذلك لو حلف لا يخرج منها، حنث بمجرد الخروج. وحمل اليمين على المقصد مع عدمه وعدم سبب يقتضيه، لا يصح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 فصل: وإن حلف على زوجته، أن لا تخرج إلا بإذنه، أو بغير إذنه، أو إلى أن يأذن لها، أو إلا أن يأذن لها، أو حتى يأذن لها، فخرجت بغير إذنه، حنث وانحلت يمينه. وإن خرجت بإذنه، لم يحنث، ولم تنحل يمينه؛ لأنها فعلت غير المحلوف عليه، فأشبه ما لو فعلت غير الخروج. وإن أذن لها، ثم نهاها، فخرجت، حنث؛ لأن إذنه زال، فأشبه من لم يأذن وإن أذن لها من حيث لا تعلم، فخرجت، ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأن الإذن الإعلام، ولم يتحقق، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أي إعلام. وآذنتكم. أي: أعلمتكم. والثاني: لا يحنث؛ لأنه قد أذن، وكذلك ينعزل الوكيل بعزله قبل علمه. وإن حلف ألا تخرجي إلا بإذن زيد، فمات زيد، ثم خرجت، حنث؛ لأنها خرجت قبل إذنه، وإن حلف ألا تخرج إلى غير الحمام، فخرجت إلى الحمام وغيره، حنث؛ لأنها خرجت إلى غيره. وإن قال: إن خرجت إلا إلى الحمام، فأنت طالق، فخرجت إليه وإلى غيره، لم تطلق؛ لأنها خرجت إليه. وإن خرجت إلى الحمام، ثم عدلت إلى غيره، ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأنها لم تخرج إلى غيره. والثاني: يحنث؛ لأن قصده في الظاهر صيانتها من غيره ولم يحصل ذلك. فصل: ومن حلف: لا يسكن داراً هو ساكنها، وأقام فيها زمناً يمكنه الخروج، حنث، إلا أن تكون إقامته لنقل متاعه، فلا يحنث، ويكون نقله على ما جرت به العادة قليلاً. وإن خرج بنفسه دون أهله وماله، مع إمكان نقلهم، حنث؛ لأنه يقال: فلان ساكن الدار، مع كونه خارجاً منها، إلا أن يريد بخروجه السكنى منفرداً في غيرها، فلا يحنث، فإن أقام في الدار لإكراه، أو خوف، أو ليل، أو لأنه يحول بينه وبين الخروج أبواب مغلقة، أو لعدم ما ينقل عليه متاعه، أو منزلاً ينتقل إليه، أياماً وليالي في طلب النقلة، لم يحنث؛ لأن إقامته لدفع الضرر، وانتظار السكنى. وإن أقام غير ناو للنقلة، حنث. ولو وهب رحله، أو أعاره، أو أودعه وخرج بنفسه لا يريد العود، لم يحنث، وإن تردد إلى الدار لنقل متاعه، أو عيادة مريض، لم يحنث؛ لأنه ليس بسكنى. وإن امتنعت زوجته من الخروج معه، فخرج وتركها، لم يحنث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 فصل: وإن حلف لا يساكن فلاناً، فاستدام المساكنة، حنث. وإن سكنا في دارين متجاورتين، لم يحنث إلا أن ينوي، أو يكون سبب يمينه، يقتضي ذلك. وإن سكنا في دار واحدة، حنث، سواء سكنا بيتين، أو أحدهما بيتاً والآخر صفة. وإن كانا متساكنين، فأقاما حتى بنيا بينهما حاجزاً، وقسماها دارين، حنث، فإن خرجا منها، أو أحدهما، وقسماها دارين ثم سكناها، لم يحنث. فصل: وإن حلف لا يأكل شيئاً، فشربه، أو لا يشربه، فأكله، فقال الخرقي. يحنث؛ لأن هذه اليمين يقصد بها اجتناب الشيء، بدليل قَوْله تَعَالَى: {تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] . يتناول اجتنابها، ونهي الطبيب المريض عن أكل شيء يمنع تناوله، فحملت اليمين عليه، ونقل منها عن أحمد: لا يحنث؛ لأن الأفعال أنواع، كالأعيان. فالحالف على نوع، لا يحنث بفعل آخر، كالأعيان. قال القاضي: إنما الروايتان فيما إذا عين المحلوف عليه. فإن لم يعين، لم يحنث رواية واحدة. فأما إن حلف لا يطعمه، أولا يذوقه، تناول الأمرين. فإن حلف لا يأكله، ولا يشربه، فذاقه، لم يحنث. وإن حلف لا يأكل سكراً، فتركه في فمه حتى ذاب فبلعه، خرج على الروايتين. وإن حلف لا يشرب، فمص قصب السكر، لم يحنث. نص عليه. وكذلك إن حلف لا يأكله. قاله ابن أبي موسى. ويجيء على قول الخرقي أنه يحنث. والأكلة بالفتح: المرة من الأكل. والأكلة: اللقمة. فصل: وإن حلف لا يكلمه، ثم وصل بيمينه كلاماً، مثل أن يقول: فتحقق ذلك، أو: فاذهب، أو: فاسمع، حنث ثم؛ لأنه كلمة بعد يمينه. إلا أن ينوي أن لا يكلمه كلاماً منفصلاً، ويحتمل أن لا يحنث وإن أطلق؛ لأن إتيانه بكلام متصل يدل على قصده الكلام المنفصل. وإن كلم إنساناً ليسمع المحلوف عليه، حنث، نص عليه؛ لأن ذلك تكليم له في المعنى. قال الشاعر: إياك أعني فاسمعي يا جارة وإن ناداه بحيث يسمع، فلم يسمع، حنث. نص عليه؛ لأنه أراد تكليمه بما لفظ به. وإن زجره، فقال: تنح، أو اسكت. أو سمعه يتكلم، فقال: على الكاذب لعنة الله، حنث؛ لأنه كلمه. وإن سلم عليه، أو على جماعة هو فيهم يقصده معهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 حنث؛ لأنه كلمه. وإن قصدهم دونه، لم يحنث؛ لأن اللفظ العام يصح استعماله في الخصوص. وإن أطلق، حنث؛ لأن العام يحمل على عمومه ما لم يخصه مخصص. ويحتمل أن لا يحنث؛ لأنه يصلح للبعض، فلا يحنث بالاحتمال. وإن كاتبه، أو راسله، ففيه روايتان: إحداهما: يحنث، لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} [الشورى: 51] . فاستثنى ذلك من التكليم؛ ولأن ظاهر حاله قصد هجرانه، فتحمل يمينه عليه. والثانية: لا يحنث؛ لأنه ليس بتكليم، ولهذا صح نفيه، إلا أن ينويه، أو يكون سبب يمينه يقتضي مقاطعته وجفاءه. وفي الإشارة وجهان. بناء على الرسالة. فإن ناداه وهو غائب، أو ميت، أو أصم، أو مغمى عليه، لم يحنث؛ لأنه ليس بتكليم له. وقال أبو بكر: يحنث بتكليم الميت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمهم. والأول أصح؛ لأنه قد بطلت حواسه، وذهبت نفسه، وتكليم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم من خصائصه، فلا يقاس عليه. وإن حلف لا يتكلم، فقرأ، أو سبح، لم يحنث، لقول الله سبحانه: {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران: 41] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة» . متفق عليه. فإن حلف على ترك كلامه أياماً متتابعة، دخلت الليالي التي بين الأيام في يمينه؛ لأن الله تعالى: جعل آية زكريا ترك الكلام في الأيام، فدخلت الليالي فيه. فصل: فإن حلف على غريمه: لا افترقنا حتى أستوفي حقي منك، فهرب منه، حنث؛ لأن يمينه تقتضي ألا يحصل بينهما فرقة وقد حصلت. وإن حلف: لا فارقتك، فهرب منه، لم يحنث؛ لأن اليمين على فعل نفسه، ولم توجد المفارقة إلا من غريمه. وعنه: يحنث، كما ذكرنا في التي قبلها، وإن فارقه الغريم بإذنه، أو قدر على منعه من الهرب فلم يفعل، حنث؛ لأن معنى يمينه لألزمنك ولم يلزمه اختياراً، وإن أحاله ففارقه، حنث؛ لأنه فارقه قبل استيفاء حقه. فإن ظن أنه قد بر خرج على الروايتين في الجاهل. وإن قضاه عن حقه من غير جنسه، ففارقه، فقال ابن حامد: لا يحنث؛ لأنه وصل إلى حقه من غريمه. وقال القاضي: إن كان لفظه: لا فارقتك ولي قبلك حق، لم يحنث؛ لأنه لم يبق له قبله حق. وإن قال: حتى أستوفي حقي منك، حنث؛ لأن يمينه على نفس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 الحق، فإن فلسه الحاكم، وألزمه فراقه، فهو كالمكره وإن لم يلزمه فراقه، ففارقه، حنث؛ لأنه فارقه اختياراً، وإن أبرأه، ثم فارقه وكان لفظه: لا فارقتك ولي قبلك حق، لم يحنث. وإن قال: حتى أستوفي حقي منك، حنث. والفراق: ما عده الناس فراقاً، كالفرقة في البيع، وغيره. فصل: ومن حلف ليضربنه عشرة أسواط، فجمعها، وضربه بها ضربة واحدة، لم يبر؛ لأن السوط أقيم مقام المصدر، تقديره: عشر ضربات بسوط، ولذلك لم يلزمه الضرب بعشرة أسواط، ولا يبر إلا بضرب يؤلم؛ لأن هذا في العرف يقصد به التأليم، فانصرفت اليمين إليه، كما لو صرح به. فإن مات المحلوف عليه قبل ضربه، أو حلف ليشربن ماء، فتبدد، أو مات الحالف بعد إمكان الفعل، حنث؛ لأنه فاته المحلوف عليه بعد الإمكان، فحنث كما لو حلف ليحجن العام ففاته الحج، وإن تلف المحلوف عليه قبل الإمكان، حنث لما ذكرنا. ويتخرج ألا يحنث؛ لأنه عجز بغير فعله. أشبه المكره. وإن حلف ليضربنه في غد. فمات العبد اليوم، ففيه الوجهان. وإن مات الحالف اليوم، فلا حنث عليه؛ لأنه لم يفته فعله في وقته إلا بعد خروجه عن أهلية التكليف. وإن ضربه اليوم لم يبر. وقال القاضي: يبر كما لو حلف ليقضينه حقه غداً، فقضاه اليوم. والأول أصح؛ لأنه لم يفعل المحلوف في وقته، أشبه ما لو حلف ليصومن يوم الخميس، فصام الأربعاء. ويفارق قضاء الحق؛ لأنه يراد به ألا يتجاوز الوقت. وإن لم يبين وقت الضرب ولم ينوه، لم يحنث حتى يموت أحدهما؛ لأنه لا يفوته المحلوف عليه إلا به، بدليل قَوْله تَعَالَى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] . وهو حق وصدق ولم يأت بعد. فصل: إذا حلف ليفعلن شيئاً، لم يبر إلا بفعل جميعه. وإن حلف لا يفعله، ففعل بعضه. ففيه روايتان: إحداهما: لا يحنث؛ لأنه لا يبر بفعل البعض، فلا يحنث بفعله، كما لو نوى الجميع. والثانية: يحنث؛ لأن اليمين على الترك تقتضي المنع من فعله، فاقتضت المنع من فعل البعض، كالنهي، واليمين على الفعل يقتضي فعل الكل، كالأمر، وإذا حلف لا يأكل رغيفاً، فأكل بعضه، أو لا يكلم زيداً وعمراً، فكلم أحدهما، أو لا يدخل داراً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 فأدخل بعض جسده، ففيه الروايتان. وإن حلف لا يلبس ثوباً اشتراه زيد، أو نسجه، أو خاطه، أو من غزل امرأته، أو لا يدخل داره، فلبس ثوباً اشتراه زيد وبكر، أو خاطاه، أو نسجاه، أو فيه من غزل امرأته، أو دخل داراً لهما، ففيه وجهان بناء على الروايتين، وإن حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد، فأكل طعاماً اشترياه، حنث؛ لأن زيداً اشترى نصفه وقد أكله، بخلاف الثوب الذي اشتراه، فإن الاسم لجميعه، ونصفه ليس بثوب، ونصف الطعام طعام. ولو حلف لا يلبس ثوباً من غزل امرأته، فلبس ثوباً فيه من غزلها، حنث؛ لأنه لبس من غزلها. ولو اشترى زيد طعاماً فخلطه بطعام آخر، فأكل الحالف أكثر مما اشتراه الآخر، حنث؛ لأنه أكل مما اشتراه زيد. وإن أكل بقدره، أو دونه، ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنه يستحيل في العادة انفراد ما اشتراه أحدهما مما اشتراه الآخر، فيحنث ظاهراً. والأخر: لا يحنث؛ لأنه يحتمل أن يكون المأكول مما اشتراه غيره، فلا يحنث بالشك. وإن اشترى زيد نصفه مشاعاً، واشترى الآخر باقيه، فأكل منه، حنث؛ لأن كل جزء فيه من شراء زيد. وإن أكل طعاماً اشتراه زيد لغيره، حنث؛ لأنه فعل المحلوف عليه. وإن اشتراه زيد، ثم باع نصفه، فأكل منه، حنث أيضاً. ومن نوى بيمينه الجميع، أو البعض، أو لفظ به، أو دلت القرينة عليه، تقيدت يمينه بذلك وجهاً واحداً. فلو قال: والله لا أكلت هذا الطعام كله، أو: لا صمت هذا الشهر جميعه، أو نوى ذلك بقلبه، لم يحنث إلا بفعل الجميع. وإن حلف لا شربت ماء هذا النهر، ولا أكلت التمر، ولا كلمت الرجال، حنث بفعل البعض رواية واحدة؛ لأن فعل الجميع ممتنع بغير يمينه. ولو حلف ليفعلن ذلك، بر بفعل بعضه. وإذا حلف لا يشرب ماء النهر، فغرف منه بإناء، وشرب أو كرع فيه، حنث؛ لأنه شرب منه. وإن شرب من نهر يأخذ منه، ففيه احتمالان: أحدهما: يحنث؛ لأنه منه، أشبه ما في الإناء. والثاني: أنه إن زال عنه الاسم، لم يحنث؛ لأنه زال اسمه، فأشبه من حلف لا يأكل رطباً، فأكل تمراً. فصل: وإن حلف لا يفعل شيئين، ففعل أحدهما، ففيه الروايتان. ويحتمل أن يفرق بين اليمين بالله تعالى، والطلاق؛ لأن اليمين بالطلاق تعليق على شرط، وما علق على شرط لا يوجد قبل تمامه، وما علق على شرطين لا يوجد عند أحدهما، ولهذا إذا قال لزوجتيه: إذا حضتما فأنتما طالقتان، فحاضت إحداهما، لم تطلق واحدة منهما. ولو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 قال: إن كلمتك ودخلت دارك فأنت طالق، أو إن كلمتك، فدخلت دارك، أو ثم دخلت دارك، لم يحنث بفعل أحدهما وجهاً واحداً. فصل: ومن حلف لا يفعل شيئاً، فوكل من يفعله حنث؛ لأن الفعل يطلق على الموكل فيه والآمر به، فيحنث به، كما لو حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه. [ باب النذر ] وهو أن يقول: لله علي أن أفعل كذا، أو: إن رزقني الله مالاً، لأتصدقن أو: فعلي صوم شهر، لقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} [التوبة: 76] وقال ابن عمر في الرجل يقول: علي المشي إلى الكعبة: هذا نذر، فليمش. وهو سبعة أقسام: أحدها: نذر اللجاج، والغضب، وهو الذي يخرج مخرج اليمين للمنع من شيء، أو الحث عليه، كقوله: إن دخلت الدار، فلله علي الحج، أو صوم سنة، أو عتق عبدي، أو صدقة مالي، فهذا يمين يخير الناذر بين فعله وبين كفارة يمين، لما روى عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» رواه سعيد في سننه، وعن أحمد أنه تتعين الكفارة، ولا يجزئه غيرها، للخبر، والأول ظاهر المذهب؛ لأنه يمين، فيخير فيها بين الأمرين، كاليمين بالله تعالى؛ ولأن هذا جمع الصفتين، فيخرج عن العهد بكل واحد منهما. وإن قال: إن فعلت كذا، فعبدي حر، ففعله، عتق العبد؛ لأن العتق يصح تعليقه بالشرط، فأشبه الطلاق. فصل: القسم الثاني: النذر المبهم، أن يقول: لله علي نذر، فيجب كفارة اليمين، لما روى عقبة بن عامر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كفارة النذر - إذا لم يسم - كفارة يمين» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فصل: القسم الثالث: نذر المباح، كنذر لبس ثوبه، وأكل طعامه، وطلاق زوجته، فيتخير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 بين الوفاء به وكفارة اليمين، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله» رواه أبو داود. فإن لم يف، فعليه كفارة، لما روت عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» . رواه أبو داود. وإذا وجبت الكفارة في المعصية، ففي المباح أولى. وإن وفى به أجزأه، لما روي «أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال رسو الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوفي بنذرك» رواه سعيد. ويتخرج أنه لا كفارة فيه؛ لأنه لو نذر الاعتكاف أو الصلاة في موضع بعينه، جاز له الاعتكاف في غيره، ولا كفارة عليه. وقد روى ابن عباس قال: «بينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه» رواه البخاري. ولم يأمره بكفارة. فإن جمع بين مباح ومندوب، لزمه الوفاء بالمشروع، وحكمه في المباح كما لو انفرد، ولحديث أبي إسرائيل. وإن تضمن خصالاً كثيرة، أجزأته كفارة واحدة، كاليمين. وإن نذر مكروهاً، كره له الوفاء به، وإن وفى به أجزأه. فصل: القسم الرابع: نذر المعصية، كنذر شرب الخمر، وقتل النفس المحرمة، وظلم الناس، فلا يحل الوفاء به. ويوجب كفارة يمين، لحديث عائشة، ولما روى عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «النذر نذران، فما كان من نذر في طاعة الله، فذلك لله وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله، فلا وفاء فيه، ويكفره ما يكفر اليمين» رواه الجوزجاني؛ ولأن النذر كاليمين، واليمين على المعصية توجب الكفارة، فكذلك النذر. وعن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة فيه، لحديث أبي إسرائيل ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 «ليس على الرجل نذر فيما لا يملك» متفق عليه. وفي لفظ: «لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد» رواه مسلم؛ ولأنه نذر غير منعقد، فلم يوجب شيئاً، كيمين اللغو. وسواء كان النذر مطلقاً، أو معلقاً بشرط. وإن نذر ذبح ولده، ففيه روايتان: إحداهما: لا يوجب كفارة؛ لأنه نذر معصية، فأشبه نذر قتل أخيه. والثانية: عليه ذبح كبش؛ لأن الله تعالى أمر إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذبح ولده، فخرج عن عهدة الأمر بذبح كبش، فكذا نذر الآدمي يخرج عن عهدته بكبش؛ لأنه يقتضي الإكرام، كالأمر. فإذا ذبحه، فرقه على المساكين؛ لأن ما وجب كفارة، فرق على المساكين، كسائر الكفارات. وإن نذرت المرأة صوم يوم حيضها أو نفاسها، أو صوم يوم العيد، فهو نذر معصية موجبة كفارة، كشرب الخمر. وإن نذرت صوم يوم الخميس، فصادف حيضها أو يوم العيد، لم تصمه، وعليها القضاء؛ لأنها إنما قصدت الطاعة في محل يحتمل الطاعة، وهل تلزمها الكفارة مع القضاء؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمها لإخلالها بالمنذور في وقته، فأشبه ما لو حلفت على ذلك. والثاني: لا كفارة عليها؛ لأن المنذور محمول على المشروع. ولو أفطرت في رمضان لحيض، أو لمرض لم يلزمها إلا القضاء، فكذا هاهنا، ويتخرج أن لا يلزمها إلا الكفارة، كالتي قبلها، وإن نذر فعل طاعة على صفة محرمة، أو مكروهة، كنذر المرأة الحج حاسرة، وجب فعل الطاعة. وفي الكفارة لترك المعصية والمكروه وجهان: أحدهما: يجب، لما روى عقبة بن عامر قال: «نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة. فذكر ذلك عقبة لرسول الله فقال: مر أختك فلتركب، ولتختمر، ولتصم ثلاثة أيام» رواه الترمذي. والثاني: لا كفارة عليه، لما ذكرناه. وإن نذر أن يطوف على أربع، فقياس المذهب، أن يطوف طوافاً واحداً. وفي الكفارة وجهان. والمنصوص عن أحمد: أنه يطوف طوافين، لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال ذلك. وروي أيضاً عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أخرجه الدارقطني في سننه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 فصل: القسم الخامس: نذر الواجب كنذر صوم رمضان وصلاة الفرض، فقال أصحابنا: لا يوجب شيئاً لأنه التزام للازم، فلم يصح لاستحالته، كنذر المحال. وقياس المذهب أن ينعقد موجباً للكفارة إن تركه، كنذر المباح؛ لأن النذر كاليمين. فصل: وإن نذر صوم يوم يقدم فلان، فصادف رمضان، فحكمه حكم ما لو صادف يوم العيد. وقال الخرقي: يجزئه صيامه لرمضان ونذره؛ لأنه قد فعل الصيام. فصل: القسم السادس: نذر المستحيل، كصوم أمس، فلا ينعقد؛ لأنه لا يتصور انعقاده والوفاء به، فأشبه اليمين على المستحيل. ويحتمل أن يوجب الكفارة، كيمين الغموس. فصل: القسم السابع: نذر الطاعة تبرراً، فيلزم الوفاء به، سواء نذره مطلقاً، مثل أن يقول: لله علي صوم يوم. أو علقه على شرط، مثل أن يقول: إن شفاني الله من مرضي فلله علي صدقة درهم، فإذا وجد شرطه لزمه ما نذر. سواء كان للمنذور أصل في الوجوب، كالصلاة، والصوم، أو لم يكن له أصل في الوجوب، كالاعتكاف، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه» رواه البخاري. وإن نذر الصدقة بجميع ماله، أجزأته الصدقة بثلثه، لما روى كعب بن مالك قال: «قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يجزئك الثلث» رواه أبو داود. وفي لفظ: «أمسك عليك مالك» متفق عليه؛ ولأن الصدقة بجميع المال مكروهة، بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نهى عنها كعباً، وأبا لبابة، ولا ينهى عن القرب. فإن نذر الصدقة بمعين، وكان المعين يستغرق ماله، فهي كالتي قبلها. وإن كان بعض ماله، ففيه روايتان: إحداهما: تجزئه الصدقة بثلث؛ لأنه مال نذر الصدقة به، فأشبه جميع المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 والثانية: تلزمه الصدقة بجميعه، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، والقياس على سائر المنذورات، ويحتمل أنه إن كان الثلث فما دونه، لزمه. وإن كان أكثر، أخرج ثلث المال؛ لأنه حكم اعتبر فيه ثلث المال، فكان حكمه ما ذكرنا، كالوصية. فصل: ومن نذر صياماً، ولم يسم عدداً، ولم ينوه، لزمه صوم يوم؛ لأنه أقل صوم يصح في الشرع. وإن نذر صلاة، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه ركعة؛ لأن الوتر ركعة مشروعة. والثانية: لا يجزئه إلا ركعتان؛ لأن الركعة لا تجزئ في الفرض، فلا تجزئ في النذر كالسجدة. وإذا نذر عتق رقبة، فهي التي تجزئ عن الواجب؛ لأن المطلق يحمل على المعهود في الشرع، وذلك هو الواجب في الكفارة. وإن نذر هدياً، لم يجزئه إلا ما يجزئ في الأضحية كذلك. وعليه إيصاله إلى فقراء الحرم؛ لأن إطلاق الهدي يقتضي ذلك. قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام أو إتيانه، لزمه المشي في حج أو عمرة؛ لأن المشي إلى البيت المعهود شرعاً هو المشي في أحد النسكين، فحمل النذر المطلق عليه، ويلزمه المشي من دويرة أهله كذلك، وإن نذر المشي إلى البلد الحرام، أو بقعة منه، فهو كنذر المشي إلى البيت الحرام؛ لأن الحرم كله محل النسك، ولذلك صح إحرام المكي بالحج منه. وإن نذر المشي إلى غير الحرم، كعرفة وغيرها، لم يلزمه، وكان كنذر المباح، وكذلك إن نذر إتيان مسجد من مساجد الحل، لم يلزمه إلا مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمسجد الأقصى، فإنه يلزمه إتيانهما، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» منفق عليه. ويلزمه صلاة ركعتين فيهما؛ لأن القصد بنذره القربة، ولا يحصل إلا بالصلاة، فتضمنها نذره، كتضمن نذر المشي إلى المسجد الحرام أحد النسكين، وإن نذر الصلاة في مسجد. هو كنذر إتيانه، إلا أنه تلزمه الصلاة دون الإتيان، في غير المساجد الثلاثة، وتجزئ الصلاة في المسجد الحرام عن الصلاة في المسجدين الآخرين. والصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في المسجد الأقصى، لما ذكرنا في الاعتكاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 فصل: ومن عين بنذره أو بنيته شيئاً من عدد الصيام، أو الصلاة، أو الهدي، أو الرقاب، أجزأه ما عينه، صغيراً كان أو كبيراً، صحيحاً أو معيباً، مما يجزئ في الواجب، ومما لا يجزئ؛ لأن الوجوب ثبت بقوله، فيجب أن تتبع فيه صفته، كأوامر الشرع. وعنه فيمن قال: إن قدم فلان لأتصدقن بمال، هو في نفسه مال، يخرج ما شاء. وهذا يدل على أنه إنما يلزمه ما لفظ به دون ما نواه؛ لأن النذر باللفظ دون النية، والأولى أولى؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فتقيد به، كاليمين. فإن عين الهدي بغير الحيوان، جاز، ويتصدق به، أو بثمنه على مساكين الحرم؛ لأنه محل الهدي. وإن نذر هدي ما لا ينقل، كالدر ونحوه، بيع، وتصدق بثمنه. وإن عين نذر الهدي بموضع غير الحرم، لزمه ما عينه، ويتصدق به على فقراء ذلك الموضع إن لم يتضمن معصية، لما روي: «أن رجلاً نذر على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟ قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم، قالوا: لا، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوف بنذرك» . رواه أبو داود؛ ولأن معهود الشرع تفرقة اللحم بالمكان الذي نذر الذبح به، فكأنه نذر فرقة اللحم على فقراء أهله. فصل: إذا نذر صيام ثلاثين يوماً، لم يلزمه التتابع. نص عليه؛ لأن لفظه لا يقتضي التتابع. وعنه فيمن نذر صيام عشرة أيام: يلزمه التتابع؛ لأن الصيام الواجب بأصل الشرع متتابع. والأول أولى، وهذا محمول على من نوى التتابع أو شرطه، لما ذكرناه. وإن نذر صيام شهر، ففيه روايتان: إحداهما: لا يلزمه التتابع؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، وعلى ثلاثين يوماً، فلا يلزمه ما بين الهلالين، فصار كنذر ثلاثين يوماً. والثانية: يلزمه التتابع؛ لأن الشهر اسم لأيام متتابعة. فإن صام ما بين الهلالين، أجزأه، تاماً كان أو ناقصاً؛ لأنه شهر، وإن بدأ من أثناء شهر، لزمه ثلاثون يوماً؛ لأن الشهر العادي ثلاثون يوماً. وإن نذر صيام أشهر متتابعة، فبدأ من أول شهر، صامهن بالأهلة. وإن بدأ من أثناء شهر، صام شهراً بالعدد، وباقيها بالأهلة، لما ذكرنا في صوم الظهار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 فإن أفطر بالصيام المتتابع لغير عذر، لزمه الاستئناف؛ لأنه أمكنه الإتيان بالمنذور على صفته، فلزمه، كحال الابتداء. وإن أفطر لعذر يوجب الفطر، كالمرض المخوف، والحيض، خير بين الاستئناف؛ لأنه يجزئه مع عدم العذر، فمع العذر أولى، وبين البناء والتكفير؛ لأن الفطر لعذر لا يقتضي التتابع حكماً، بدليل فطر المظاهر في الشهرين لعذر، ويكفر لترك صفة النذر؛ لأن النذر كاليمين. وإن أفطر لعذر يبيح الفطر، كالسفر، ففيه وجهان: أحدهما: يقطع التتابع؛ لأنه أفطر باختياره، أشبه غير المعذور. والثاني: لا يقطعه؛ لأنه عذر للفطر في رمضان، فأشبه المرض. فأما إن نذر صوم شهر بعينه، فأفطر لغير عذر، ففيه روايتان: إحداهما: يلزمه الاستئناف؛ لأنه صوم يجب متتابعاً، أشبه المنذور متتابعاً. والثانية: لا يلزمه وجوب التتابع من جهة الوقت، لا للنذر، فلم يبطله الفطر كشهر رمضان. وإن أفطر لعذر، بنى، وعليه كفارة في الموضعين، لتركه صفة نذره. وعنه: لا تجب الكفارة مع العذر؛ لأنه تركه بأمر الشرع، فلم يلزمه كفارة، كما لو نذر الصدقة بجميع ماله، وتصدق بثلثه. فصل: وإن نذر صيام سنة معينة، لم يدخل في نذره رمضان، ويوما العيدين؛ لأنه لا يقبل الصوم عن النذر، فلم يدخل في نذره، كالليل. وفي أيام التشريق روايتان. وإن نذر صوم سنة، فهل يلزمه سنة متتابعة؟ فيه روايتان على ما ذكرنا في الشهر. فإن قلنا: يلزمه التتابع، فحكمها حكم المعينة، وإن قلنا: لا يلزمه التتابع، لزمه اثنا عشر شهراً بالأهلة، إلا أن يبتدئ صوم شهر من أثنائه، أو لا يوالي بينه، فيلزمه ثلاثون يوماً، فإن صام سنة متوالية، قضى عن شهر رمضان ويومي العيدين. فصل: وإن نذر صوم يوم يقدم فلان، فقدم ليلاً، لم يلزمه شيء؛ لأنه لم يتحقق شرطه، فلم يجب نذره. وإن قدم نهاراً، لم يخل من ثلاثة أحوال: أحدها: قدم والناذر مفطر، فيه روايتان: إحداها: لا يلزمه شيء؛ لأنه قدم في وقت لا يصح فيه صومه شرعاً، أشبه ما لو قدم ليلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 والثانية: يلزمه القضاء والكفارة؛ لأنه علق نذره بزمن المستقبل ولم يف به، فلزمه القضاء والكفارة، كما لو نذر صوم يوم الخميس فأفطره. الثاني: قدم والناذر صائم من رمضان، أو فرضاً غيره، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه صومه عنهما؛ لأنه نذر صومه وقد وفى به. والثانية: حكمه حكم من أفطره؛ لأنه لم يصمه عن نذره. الثالث: قدم والناذر صائم تطوعاً، أو ممسك، ففيه وجهان: أحدهما: يتم صومه، ويجزئه؛ لأن سبب الوجوب وجد في أثنائه قبل فطره، فأشبه ما لو قال: لله علي صوم بقية يومي. والثاني: يلزمه القضاء والكفارة؛ لأنه صوم واجب، فلم يصح بنية من النهار، كالقضاء. فصل: وإذا نذر الحج العام، وعليه حجة الإسلام، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه الحج عنهما. والثانية: يلزمه حجة أخرى، أصلها إذا نذر صوم يوم، فوافق يوماً من رمضان. فصل: وإذا عجز عن الوفاء بالنذر، لم يخل من خمسة أحوال: أحدها: أن يعجز عجزاً لا يرجى زواله، لكبر، أو مرض غير مرجو الزوال أو غيره، فعليه كفارة يمين لا غير، لما روى عقبة بن عامر قال: «نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتيته، فقال: لتمش ولتركب» متفق عليه؛ ولأن النذر كاليمين إلا فيما لا يطيق. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من نذر نذراً لا يطيقه، فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً يطيقه، فليف لله بما نذر. وسواء كان عاجزاً وقت النذر، أو تجدد العجز؛ لأنهما سواء في فوات النذر. وعن أحمد فيمن نذر صوماً، فعجز عنه لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه: أنه يطعم عن كل يوم مسكيناً. اختاره الخرقي؛ لأنه صوم وجد سبب إيجابه عيناً، فأشبه صوم رمضان، والأول أقيس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 الثاني: أن يعجز عجزاً مرجو الزوال نحو المرض. فإذا كان النذر غير موقت، أخره حتى يزول العارض ثم يأتي به، وإن كان موقتاً، كصوم شهر معين. فإذا زال العجز قضاه؛ لأنه صوم واجب يلزمه قضاؤه كرمضان، وعليه كفارة اليمين؛ لأن النذر كاليمين. وعنه: لا كفارة عليه؛ لأن المنذور محمول على المشروع، ولو أفطر في رمضان لعذر، لم يلزمه كفارة، كذا هاهنا. الثالث: أن يمنعه الشرع من الوفاء بنذره، مثل أن يصادف عيداً، أو حيضاً ففيه وجهان. بناء على الروايتين فيما قبلها. وإن صادف أيام التشريق، فكذلك في إحدى الروايتين، وفي الأخرى، يصح صيامها للفرض، لما ذكرنا في صيامها عن دم المتعة، وإن صادف رمضان لم يجزئ صومه عن النذر، وكان حكمه كما لو صادف يوم العيد. وقال الخرقي: يجزئه صيامه لرمضان، ونذره، وقد ذكر ذلك. الرابع: أن يصادفه النذر مجنوناً، فلا شيء عليه؛ لأنه خرج عن أهلية التكليف قبل وقت النذر، أشبه ما لو فاته. الخامس: أن يموت، فإن كان ذلك قبل وقت النذر، فلا شيء عليه؛ لأنه خرج عن أهلية التكليف. وإن كان بعده، أو كان النذر غير موقت، فعل ذلك وليه، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه» متفق عليه. وعن ابن عباس قال: «أتى رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها، ماتت، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو كان عليها دين، أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقض الله، فهو أحق بالقضاء» . رواه البخاري. فثبت القضاء للصوم والحج بالنص. وقسنا عليه غيره للمعنى المشترك بينهما. وفي الصلاة روايتان: إحداهما: تقضى عنه لما ذكرناه. والثانية: لا تقضى؛ لأنها لا تدخلها نيابة، ولا كفارة، فلم تقض عنه، كحالة الحياة وكل موضع قلنا: يقضي عنه الولي، فإنه على سبيل الندب، لا الوجوب؛ لأن قضاء دينه لا يجب على وليه. فكذلك النذر المشبه به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 [ كتاب الأقضية ] القضاء فرض على الكفاية، بدليل قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بين الناس، وبعث علياً إلى اليمن للقضاء، وحكم الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة في الأمصار؛ ولأن الظلم في الطباع، فيحتاج إلى حاكم ينصف المظلوم، فوجب نصبه، فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحداً، تعين عليه، فإن امتنع أجبر عليه؛ لأن الكفاية لا تحصل إلا به، وعن أحمد: أنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال: لا يأثم. وهذا يدل على أنه لا يجب عليه الدخول فيه؛ لأن عليه في التولي خطراً وغرراً، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جُعل قاضياً، فقد ذبح بغير سكين» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن. فلم يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره، فعلى هذا القول يكره له طلبه، لما فيه من الخطر؛ ولأن السلف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يأبون القضاء أشد الإباء ويفرون منه. وإن طلب فالأولى أن لا يدخل فيه؛ لأنه أسلم له. وقال ابن حامد: إن كان خاملاً، إذا ولي نشر علمه، فالأفضل الدخول فيه، لما يحصل من نشر العلم. وإن كان ينشر علمه بغير ولاية، فالأفضل أن لا يدخل فيه؛ لأن الاشتغال بنشر العلم مع السلامة أفضل. فأما من يوجد غيره ممن يصلح للقضاء، فلا يجب عليه الدخول فيه، ويكره له طلبه، لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدده» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. وإن طُلِبَ، فالأفضل له الامتناع إلا على قول ابن حامد على التفصيل الماضي. وأما من لا يُحسن القضاء، فيحرم عليه الدخول فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 واحد في الجنة، واثنان في النار، إلى قوله: ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه فصل: ويجوز للقاضي أخذ الرزق عند الحاجة، لما روي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما ولي الخلافة، أخذ الذراع، وخرج إلى السوق، فقيل له: لا يسعك هذا، فقال: ما كنت لأدع أهلي يضيعون من أجلكم، ففرضوا له كل يوم درهمين. وبعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكوفة عمار بن ياسر والياً، وابن مسعود قاضياً، وعثمان بن حنيف ماسحاً، وفرض لهم كل يوم شاة، نصفها لعمار، والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان. وكتب إلى معاذ، وأبي عبيدة في الشام: أن انظروا رجالاً من صالحي مَن قبلكم، فاستعلموهم على القضاء، وارزقوهم وأوسعوا عليهم من مال الله. فأما مع عدم الحاجة. ففيه وجهان: أحدهما: الجواز، لما ذكرنا؛ ولأنه يجوز للعامل الأخذ على العمالة مع الغنى، فكذلك القضاء. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، فلم يجز أخذ الأجرة عليه؛ كالصلاة. قال أحمد: ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجراً، وإن كان فبقدر شغله، مثل ولي اليتيم. وإذا قلنا: يجوز أخذ الرزق، فلم يجعل له شيء، فقال: لا أقضي بينكما إلا بجُعْل، جاز. فصل: ويشترط للقضاة عشرة أشياء: أن يكون مسلماً، عدلاً، بالغاً، عاقلاً؛ لأن هذه شروط الشهادة، فأولى أن تشترط للقضاء. الخامس: الذكورية، فلا يصح تولية المرأة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري؛ ولأن المرأة ناقصة العقل، غير أهل لحضور الرجال ومحافل الخصوم. ولا يصح تولية الخنثى؛ لأنه لم يعلم كونه ذكراً. السادس: الحرية. فلا يصح تولية العبد؛ لأنه منقوص برقه، مشغول بحقوق سيده، لا تقبل شهادته في جميع الأشياء، فلم يكن أهلاً للقضاء، كالمرأة. السابع: أن يكون متكلماً، لينطق بالفصل بين الخصوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 الثامن: أن يكون سميعاً ليسمع الدعوى، والإنكار، والبينة، والإقرار. التاسع: أن يكون بصيراً، ليعرف المدعي من المدعى عليه، والمقر من المقر له، والشاهد من المشهود عليه. العاشر: أن يكون مجتهداً، وهو العالم بطرق الأحكام، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة. ورجل عرف الحق فحكم فجار في الحكم، فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار» . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه؛ ولأنه إذا لم يجز أن يفتي الناس وهو لا يلزمهم الحكم، فلئلا يقضي بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى. ولا يشترط كونه كاتباً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد الحكام، وهو أمي. وقيل: يشترط؛ ليعلم ما يكتبه كاتبه، فيأمن تحريفه. فصل: ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، لئلا يطمع فيه الظالم، فينبسط عليه. ليناً من غير ضعف، لئلا يهابه صاحب الحق، فلا يتمكن من استيفاء حجته بين يديه. حليماً ذا أناة وفطنة ويقظة، لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة. ذا ورع وعفة، ونزاهة، وصدق. قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم. فصل: ولا تصح ولاية القضاة إلا بتولية الإمام، أو من فوض إليه الإمام؛ لأنه من المصالح العظام، فلم يصح إلا من جهة الإمام، كعقد الذمة. ومن شرط صحة التولية، معرفة المولي للمولى، وأنه على صفة تصلح للقضاء. فإن كان يعرفه، وإلا سأل عنه، فإذا علم ذلك ولاه. وألفاظ التولية تنقسم إلى صريح وكناية، فصريحها سبعة: وليتك الحكم، وقلدتك، واستنبتك، واستخلفتك، ورددت إليك الحكم، وفوضت إليك، وجعلت إليك، فإذا أتى بواحدة منها واتصل بها القبول، انعقدت الولاية. وأما الكناية، فهي أربعة: اعتمدت عليك في الحكم، وعولت عليك، ووكلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 إليك وأسندت إليك الحكم، فلا تنعقد التولية بها حتى تقترن بها قرينة، نحو: فاحكم فيما وكلت إليك، وانظر فيما أسندت إليك وتول فيما عولت عليك فيه؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها، من كونه يأخذ برأيه، وغير ذلك، فلا تنصرف إلى التولية إلا بقرينة. فصل: فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء، فحكماه ليحكم بينهما، جاز، لما روى أبو شريح أنه «قال: يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي علي الفريقان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أحسن هذا» . رواه النسائي؛ ولأن عمر وأبياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، تحاكما إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. فإذا حكم بينهما، لزم حكمه؛ لأن من جاز حكمه، لزم، كقاضي الإمام. فإن رجع أحد الخصمين عن تحكيمه، قبل شروعه في الحكم، فله ذلك؛ لأنه إنما صار حكماً لرضاه به، فاعتبر دوام الرضى. وإن رجع بعد شروعه فيه، وقبل تمامه، ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم، أشبه ما قبل الشروع. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما، إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه، رجع، فيبطل المقصود بذلك. واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم، فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان، قياساً على قاضي الإمام. وقال القاضي: يجوز حكمه في الأموال الخاصة. فأما النكاح والقصاص، وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها؛ لأنها مبنية على الاحتياط، فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام، كالحدود. فصل: ويجوز أن يولي في البلد الواحد قاضيين فأكثر، على أن يحكم كل واحد منهما في موضع، وأن يجعل إلى أحدهما القضاء في حق، وإلى الآخر في حق آخر، أو إلى أحدهما في زمن، وإلى الآخر في زمن آخر؛ لأنه نيابة عن الإمام، فكان على حسب الاستنابة. وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد وزمن واحد، وحق واحد؟ فيه وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 أحدهما: يجوز؛ لأنه نيابة، فجاز جعلها إلى اثنين، كالوكالة. والثاني: لا يجوز، فقد يختلفان، فتقف الحكومة. فصل: ولا يجوز تقليده القضاء على أن يحكم بمذهب معين، لقول الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] . وإنما يظهر له الحق بالدليل، فلا يتعين ذلك في مذهب بعينه. فإن قلد على هذا الشرط، بطل الشرط. وفي فساد التولية وجهان، بناء على الشروط الفاسدة في البيع. فصل: إذا ولاه قاضياً في غير بلده، كتب إليه العهد بما ولاه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن. وروى حارثة بن مضرب، أن عمر كتب إلى أهل الكوفة: أما بعد، فإني بعثت إليكم عماراً أميراً، وعبد الله قاضياً وأميراً، فاسمعوا لهما وأطيعوا، فقد آثرتكم بهما. فإن كان البلد الذي ولاه بعيداً، أشهد على التولية شاهدين لتثبت التولية بهما. وإن كان قريباً، فإن شاء أشهد، وإن شاء اكتفى بالاستفاضة؛ لأنها تثبت الولاية. ويستحب للقاضي السؤال عن حال البلد الذي وليه، ومن فيه من العلماء والأمناء؛ لأنه لا بد له منهم، فاستحب تقدم العلم بهم. ويستحب أن يدخل البلد يوم الخميس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك. فإذا دخل قصد الجامع، فصلى فيه ركعتين، وأمر بجمع الناس، فقرأ عليهم عهده ليعلموا التولية، وما فوض إليه، ويعد الناس يوماً لجلوسه، ثم يصير إلى منزله، ويجعل منزله في وسط البلد إن أمكن ليتساووا في قربه. فصل: وإن نهاه الذي ولاه عن الاستخلاف، لم يكن له ذلك؛ لأنه نائب فيتبع قول من استنابه. وإن لم ينهه، جاز له الاستخلاف؛ لأن الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين وإيصال الحق إلى مستحقه، فجاز أن يليه بنفسه وبغيره. فإذا استخلف القاضي خليفة، انعزل بموته وعزله؛ لأنه نائبه، فأشبه الوكيل. وإن ولى الإمام قاضياً، فهل ينعزل بموته وعزله؟ فيه وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 أحدهما: ينعزل كذلك، ولما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لأعزلن أبا مريم - يعنى عن قضاه البصرة - وأولي رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه، فعزله وولى كعب بن سوار. وولى علي أبا الأسود، ثم عزله فقال: لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟ فقال: إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين. والثاني: لا ينعزل؛ لأنه عقده لمصلحة المسلمين، فلم يملك عزله مع سداد حاله، كما لو عقد الولي النكاح على موليته، لم يملك فسخه. وإن اختل أحد الشروط، بأن يفسق، أو يختل عقله، أو بصره، انعزل بذلك؛ لأنه فات الشرط، فانتفى المشروط كالصلاة. فصل: وليس له أن يقضي ولا يولي ولا يسمع البينة، ولا يكاتب قاضياً في حكم في غير عمله، ولا يعتد بذلك إن فعله؛ لأنه لا ولاية له في غير عمله، أشبه سائر الرعية. فصل: ولا يجوز له أن يحكم لنفسه؛ لأنه لا يجوز أن يكون شاهداً لها، ويتحاكم هو وخصمه إلى قاض آخر. ويجوز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه؛ لأن عمر حاكم أبياً إلى زيد. وحاكم عثمان طلحة إلى جبير. ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا، ولا لولده وإن سفل؛ لأنه متهم في حقهما، فلم يجز حكمه لهما، كنفسه. وقال أبو بكر: يجوز حكمه لهما؛ لأنهما من رعيته، فجاز حكمه لهما، كالأجانب، وإن اتفقت حكومة بين والديه، أو ولديه، أو والده وولده، فالحكم فيهما، كما لو انفرد أحدهما؛ لأن ما منع منه في حق أحدهما إذا كان خصمه أجنبيا، منع منه إذا ساواه خصمه، كالشهادة. ويجوز له استخلاف والده وولده في أعماله؛ لأن غاية ما فيه أنهما يجريان مجراه. فصل: ولا يجوز له أن يرتشي في الحكم، لما روى عبد الله بن عمرو قال: «لعن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الراشي والمرتشي» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح؛ ولأنه أخذ مال على حرام، فكان حراماً، كمهر البغي. ولا يجوز له قبول الهدية ممن لم تجر عادته بها قبل الولاية، لما روى أبو حميد قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقه، فقال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر، فقال: ما بال العامل نبعثه فيقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 هذا لكم وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيء أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد منكم فيأخذ شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته» . متفق عليه. فدل على أن أهدي إليه مما كانت الولاية سبباً له محرم عليه. فأما من كانت عادته الهدية إليه قبل الولاية، فجائز قبولها؛ لأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا» . يدل على تعليل تحريم الهدية، لكون الولاية سببها، وهذه لم تكن سببها الولاية فجاز قبولها إلا أن تكون في حال الحكومة بينه وبين خصم له، فلا يجوز قبولها؛ لأنه يتهم، فهي كالرشوة. والأولى الورع عنها في غير حال الحكومة؛ لأنه لا يأمن أن تكون الحكومة منتظرة. فصل: ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما عدل وال اتجر في رعيته» . وقال شريح: شرط علي عمر حين ولاني القضاء: أن لا أبيع، ولا أبتاع، ولا أرشي، ولا أقضي وأنا غضبان؛ ولأنه يعرف، فيحابى، فيجري مجرى الهدية. ويستحب أن يوكل من لا يعرف أنه وكيله. فإذا عرف استبدل به حتى لا يحابى، فإن لم يمكنه الاستنابة، تولاه بنفسه؛ لأن أبا بكر الصديق أخذ الذراع وقصد السوق ليتجر فيه؛ ولأنه لا بد له منه. فإن كان لمن بايعه حكومة، استخلف من يحكم بينه وبين خصمه، كيلا يميل إليه. فصل: ويجوز للقاضي حضور الولائم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإجابة الداعي. ولا يخص بإجابته قوماً دون قوم؛ لأنه جور. فإن كثرت عليه وشغلته، ترك الجميع؛ لأنه يشتغل بها عما هو أوكد منها. وله عيادة المرضى، وشهود الجنائز، ويأتي مقدم الغائب؛ لأنه قربة وطاعة. وله أن يخص بذلك قوماً دون قوم؛ لأن هذه الأمور لحق نفسه طلباً لثواب الله تعالى، فكان له فعل ما أمكن منها دون ما لم يمكن. وحضور الوليمة لحق الداعي. فإذا خص بعضهم بها، حصل مراعياً لبعضهم دون بعض، فكان ذلك ميلاً. فصل: ولا يقضي في حال الغضب، ولا الجوع، والعطش، والحزن، والفرح المفرط، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 والنعاس الشديد، والمرض المقلق، ومدافعة الأخبثين، والحر المزعج، والبرد المؤلم، لما روى أبو بكرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» . متفق عليه. فثبت النص في الغضب، وقسنا عليه سائر المذكور؛ لأنه في معناه؛ ولأن هذه الأمور تشغل قلبه، فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم وتأمل الحادثة. فإن حكم في هذه الأحوال، ففيه وجهان: أحدهما: ينفذ حكمه، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختصم إليه الزبير، ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال للزبير: اسق زرعك ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر» . متفق عليه. فحكم في غضبه. والثاني: لا ينفذ حكمه؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وقيل: إنما يمنع الغضب الحكم قبل أن يتضح حكم المسألة؛ لأنه يشغله عن استيضاح الحق. أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم، لم يمنع حكمه فيها، كقصة الزبير. فصل: ويستحب للحاكم الجلوس للحكم في موضع بارز واسع يصل إليه كل أحد، ولا يحتجب من غير عذر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من ولي من أمر الناس شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم، احتجب الله دون حاجته وفقره» رواه الترمذي ويكون موضعاً لا يتأذى فيه بحر ولا برد ولا دخان ولا رائحة منتنة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أبي موسى: إياك والقلق والضجر. وهذه الأشياء تفضي إلى الضجر، وتمنعه من التوفر على الاجتهاد، ويمنع الخصوم من استيفاء الحجة، ولا بأس بالقضاء في المساجد، لما روي عن عمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا يقضون في المسجد. وقال مالك: هو من أمر الناس القديم. فإن اتفق لأحد الخصمين مانع من دخول المسجد، كالحيض، والكفر، وكل له وكيلاً أو انتظره حتى يخرج، فيحاكم إليه. فصل: وإن احتاج إلى أعوان لإحضار الخصوم، اتخذ أمناء كهولاً أو شيوخاً من أهل الدين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 ويوصيهم بالرفق بالخصوم. وإن دعت الحاجة إلى اتخاذ حاجب اتخذه أميناً بعيداً من الطمع، ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق. فصل: ويتخذ حبساً؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى داراً بمكة بأربعة آلاف اتخذها سجناً. واتخذ علي سجناً؛ ولأنه قد يحتاج إليه للتأديب واستيفاء الحق من المماطل، والاحتفاظ بمن عليه قصاص أو حد، حتى يستوفى. فصل: وينبغي أن يتخذ كاتباً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استكتب زيداً وغيره؛ ولأن الحاكم يكثر اشتغاله ونظره فلا يتمكن من الجمع بينهما وبين الكتابة. فإن أمكنة ولاية ذلك بنفسه، جاز. ومن شرط الكاتب أن يكون عارفاً بما يكاتب به القضاة من الأحكام. وما يكتبه من المحاضر، والسجلات؛ لأنه إذا لم يعرفه، أفسد ما يكتبه بجهله. وأن يكون عدلاً لأن الكتابة موضع أمانة، ولا تؤمن خيانة الفاسق. وأن يكون مسلماً؛ لأن الإسلام من شروط العدالة، ويستحب أن يكون ورعاً نزهاً، لئلا يستمال بالطمع. جيد الحفظ، ليكون أكمل. حراً، ليخرج من الخلاف. فإن كان عبداً، جاز؛ لأنه من أهل الشهادة. فصل: ولا يتخذ شهودا معينين، لا يقبل غيرهم؛ لأنه من ثبتت عدالته وجب قبول شهادته، فلم يجز تخصيص قوم بالقبول دون قوم. فصل: ويتخذ أصحاب مسائل يتعرف بهم أحوال من جهل عدالته من الشهود. ويجب أن يكونوا عدولاً برآء من الشحناء، بعداء من العصبية في نسب أو مذهب، كيلا يحملهم ذلك على تزكية فاسق، أو جرح عدل. وأن يكونوا وافري العقول ليصلوا إلى المطلوب. ولا يسألوا عدواً ولا صديقاً؛ لأن الصديق يظهر الجميل ويستر القبيح. والعدو بخلاف ذلك. فإذا شهد عنده من يعرفه بالعدالة، قبل شهادته. وإن علم فسقه لم يقبلها، ويعمل بعلمه في العدالة والفسق. وإن جهل إسلامه سأل عنه، ولم يعمل بظاهر الدار؛ لأن أعرابياً شهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برؤية الهلال، فلم يحكم بشهادته حتى سأله عن إسلامه؛ ولأنه يتعلق بشهادته حق على غيره، فلم يعمل بظاهر الدار. ويقبل قوله في إسلام نفسه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل قول الأعرابي في ذلك؛ ولأنه بقوله يصير مسلماً. وإن لم تعرف عدالته لم يحكم حتى تثبت عدالته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 وعنه: يحكم بشهادة من جهل عدالته ما لم يقل المشهود عليه: هو فاسق، لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المسلمون عدول بعضهم على بعض؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما شهد عنده الأعرابي برؤية الهلال، لم يسأل عن عدالته؛ ولأن العدالة تخفى ويدل عليها الإسلام، فاكتفى به. والأول: المذهب لقول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وقال سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وروى سليمان بن حرب قال: شهد رجل عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له عمر: إني لست أعرفك، ولا يضرك أنني لا أعرفك، فائتني برجل يعرفك، فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين. قال: بأي شيء تعرفه. قال: بالعدالة. قال: فهو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: فلست تعرفه. ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك؛ ولأنه لا يؤمن أن يكون فاسقاً. فإذا أراد أن يعرف عدالته، كتب اسمه، ونسبه، وكنيته، وحليته، وصنعته، ومسكنه، حتى لا ينسبه، ومن شهد له وعليه، لئلا يكون ممن لا تقبل شهادته للمشهود له، من والد أو ولد، ولا تقبل شهادته على المشهود عليه من عدو، وقدر ما يشهد به لئلا يكون ممن يقبل قوله في القليل دون الكثير. ويبعث ما كتبه مع أصحاب المسائل، ويجتهد أن لا يعرفهم المشهود له، ولا المشهود عليه، لئلا يحتالا في تعديل الشهود أو جرحهم، ولا المسؤولون، لئلا يحتال أعداؤهم في جرحهم، وأصدقاؤهم في تعديلهم. ويجتهد أن لا يعلم بعض أهل المسائل ببعض، كيلا يجمعهم الهوى على التواطؤ على جرح أو تعديل. ويأمرهم القاضي: أن يسألوا عنه معارفه من أهل سوقه، ومسجده، وجيرانه. فإذا عاد أهل المسائل بجرح أو تعديل، ففيه وجهان: أحدهما: يكتفي بقولهم؛ لأن الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم، فعلى هذا: يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم بلفظ الشهادة، ويعتبر عدولهم كما في سائر المعدلين. والثاني: لا يكتفي بهم؛ لأنهم شهود فرع، فلا يكتفى بهم مع القدرة على شهود الأصل. لكن يعينون من أخبرهم بالجرح أو العدالة، ليستحضر الحاكم اثنين منهم، فيسمع منهم الجرح والتعديل بلفظ الشهادة والعدد، فعلى هذا: لا يعتبر العدد في أصحاب المسائل، بل يجوز أن يكون واحداً؛ لأنه مخبر عن شاهد، ليس بشاهد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 فصل: ولا يقبل الجرح والتعديل من أقل من اثنين؛ لأنه إخبار عن صفة من يبنى الحكم على صفته، فأشبه الإحصان. وعنه: يكتفى بواحد. اختارها أبو بكر؛ لأنه إخبار عن حال من لا حق له، فأشبه أخبار الديانات؛ ولأنه يكتفى في تعديل راوي الحديث وجرحه بقول واحد، فكذلك في غيره. والأول: المذهب، لما ذكرنا. وإنما اكتفي في تعديل الراوي بواحد؛ لأنه فرع على الرواية المنقولة من واحد، بخلاف الشهادة، ويعتبر فيه اللفظ بالشهادة؛ لأنه شهادة إلا على الرواية التي قلنا: هو خبر، فلا يعتبر فيه لفظ الشهادة، ويكفي في التعديل قوله: أشهد أنه عدل. وإن لم يقل: علي ولي؛ لأنه لا يكون عدلاً، إلا له وعليه. ولا يكفي أن يقول: لا أعلم فيه إلا الخير؛ لأنه لم يصرح بالتعديل. وإن شهد بالجرح واحد، وبالتعديل اثنان، ثبتت العدالة؛ لأن بينة الجرح لم تكمل. وإن شهد بالجرح اثنان، قدم الجرح على التعديل؛ لأن الشاهد به يخبر عن أمر باطني خفي على المعدل، وشاهد العدالة يخبر عن أمر ظاهر، فقدم من يخبر عن الباطن؛ ولأن الجارح مثبت، والمعدل ناف، فقدم الإثبات. وإن شهد بالجرح اثنان، وبالعدالة أربعة، قدم الجرح؛ لأن بينته كملت، ولا يقبل الجرح إلا مفسراً بأن يذكر السبب الذي به جرح، ولا يكفي أن يشهد أنه فاسق، أنه ليس بعدل، وعنه: يكتفى بذلك، كما يكتفى في التعديل أن يشهد أنه عدل. والأول: المذهب؛ لأن الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان، فيحتمل أن يعتقد الشاهد فسقه بما لا يعتقده الحاكم فسقاً. والجرح والتعديل إلى الحاكم، فوجب بيانه، لينظر فيه. ولا يجوز أن يشهد بالجرح إلا من يعلم ذلك بمشاهدة الأفعال، كالسرقة، وشرب الخمر. أو بالسماع في الأقوال، كالقذف، والبدعة، أو بالاستفاضة بالخبر؛ لأنه شهادة عن علم. فإن قال: بلغني كذا، أو قيل لي، لم يجز أن يشهد به، لقول الله تعالى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة ممن تقدمت معرفته، وطالت صحبته، لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأن المقصود علم عدالته في الباطن، ولا يعلم ذلك إلا من تقدمت معرفته، ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء؛ لأنه شهادة بما ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، أشبه الحدود. فصل: وإذ لم تثبت عدالته، فقال المشهود عليه: هو عدل، حكم بشهادته؛ لأن البحث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 عن عدالته لحق المشهود عليه، وإنه ممن يثبت بالحق بقوله، فوجب الحكم به. وفيه وجه آخر: إنه لا يثبت؛ لأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى، ولهذا لو رضي المشهود عليه، أن يحكم عليه بشهادة فاسق، لم يحكم عليه بها. فصل: ومن ثبتت عدالته، ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب، حكم بشهادته. وإن كان بعده بزمن طويل، ففيه وجهان: الوجه الأول: يحكم بشهادته؛ لأن عدالته قد ثبتت، والأصل بقاؤها. والثاني: يعيد السؤال؛ لأن مع طول الزمان تتغير الأحوال. وإن شهد عنده عدول، فارتاب بشهادتهم، استحب له تفريقهم، وسؤال كل واحد منهم على الانفراد عن صفه التحمل، ومكانه، وزمانه. فإن اختلفوا سقطت شهادتهم. وإن اتفقوا، وعظهم، لما روى أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: كنت عند محارب بن دثار، وهو قاضي الكوفة، فجاءه رجل، فادعى على رجل حقاً، فأنكره، فأحضر المدعي شاهدين، فشهدا له، فقال المشهود عليه: والذى تقوم به السماوات والأرض لقد كذبا علي، وكان محارب بن دثار متكئاً، فاستوى جالساً، وقال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الطير لتخفق بأجنحتها، وترمى بما في حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار» . فإن صدقتما فاثبتا، وإن كذبتما، فغطيا رؤوسكما وانصرفا، فغطيا رؤوسهما وانصرفا. فصل: ويستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء من أهل كل مذهب، يشاورهم فيما يشكل عليه، لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مشاورتهم لغنياً، ولكن أراد أن يستن بذلك الحكام. وروى عبد الرحمن بن القاسم: أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه، دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، دعا عمر، وعثمان، وعلياً، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، فمضى أبو بكر على ذلك، ثم ولي عمر، فكان يدعو هؤلاء النفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فإذا اتفق أمر مشكل شاورهم. فإن اتضح له الحق، حكم به. وإن لم يتضح له أخره، ولم يقلد غيره، ضاق الوقت أو اتسع؛ لأنه مجتهد فلم يقلد غيره، كما لو اتسع الوقت. وإن فوض الحكم في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 الحادثة إلى من اتضح له الحق، فحكم فيها، جاز. وإن حكم باجتهاده ثم تبين له الخطأ بنص أو إجماع، نقضه، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ردوا الجهالات إلى السنة. وكتب إلى أبي موسى: لا يمنعنك قضاء قضيت به، ثم راجعت نفسك، فهديت لرشدك، أن تراجع الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل؛ ولأنه مفرط في حكمه، غير معذور فيه، فوجب نقضه. وإن تغير اجتهاده، ولم يخالف نصاً، ولا إجماعاً، لم ينقض حكمه، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه حكم في المشركة بإسقاط ولد الأبوين، ثم شرك بينهم بعد، وقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما قضينا. وقضى في الحد بقضايا مختلفة، ولم يرد الأولى؛ ولأنه لو نقض الحكم بمثله، لأدى إلى نقض النقض، والى أن لا تثبت قضية. فصل: وليس على القاضي تتبع قضايا من قبله؛ لأن الظاهر أنه لا يولى للقضاء إلا من يصلح، والظاهر إصابته الحق. وإن علم أن القاضي قبله لا يصلح للقضاء، نقض من أحكامه ما خالف الحق، وإن لم يخالف نصاً ولا إجماعاً؛ لأنه ممن لا يجوز قضاؤه، أشبه حكم بعض الرعية، ويبقي ما وافق الحق؛ لأن الحق وصل إلى مستحقه، فلا حاجة إلى نقضه. وقال أبو الخطاب: ينقضه أيضاً ليحكم به. وإن كان يصلح للقضاء، لم يجز أن ينقض من قضاياه، إلا ما خالف نصاً أو إجماعاً، لما ذكرنا في حكم نفسه. وإن تظلم متظلم من القاضي قبله وسأل إحضاره، لم يحضره حتى يسأله عما بينهما؛ لأنه ربما قصد تبديله. فإن قال: لي عليه مال من معاملة، أو غصب، أو رشوة، أحضره، وإن قال: حكم علي بشهادة فاسقين، أو عدوين، أو جار علي في الحكم، وله بينة، أحضره، أو وكيله، وحكم له بها. وإن لم يكن له بينة، ففيه وجهان: أحدهما: يحضره، كما لو ادعى عليه مالاً. والثاني: لا يحضره لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه. فإن أحضره فاعترف، حكم عليه، وإن أنكر، قبل قوله بغير يمين؛ لأن قوله مقبول بحال ولايته. فصل: ويخرج القاضي إلى مجلس قضائه على أعدل أحواله، ويقول عند خروجه: بسم الله، آمنت بالله، واعتصمت بالله وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويدعو بما روت أم سلمة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا خرج من بيته قال: «اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أزل، أو أضل أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 صحيح، ويسأله أن يعصمه، ويعينه. ويجلس مستقبل القبلة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» ويكون عليه سكينة ووقار في مشيه وجلوسه، ويبسط تحته شيئاً يجلس عليه، ليكون أوقر له، ويترك القمطر مختوماً بين يديه، ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر، والسجلات، ويجلس الكاتب قريباً منه، ليرى ما يكتبه فإن غلط رد عليه. فصل: ويبدأ في نظره بالمحبوسين؛ لأن الحبس عقوبة، وربما كان فيهم من يجب إطلاقه، فاستحب البداءة بهم، فيكتب أسماء المحبوسين، وينادي في البلدان: القاضي ينظر في أمرهم يوم كذا، فليحضر من له محبوس، فإذا حضروا، أخرج رقعة، فأخرج صاحبها فنظر بينه وبين خصمه، فإن وجب إطلاقه أطلقه، وإن وجب حبسه أعيد. فإن قال: حبست بدين أنا معسر به، فصدقه خصمه، أو ثبت إعساره ببينة، أطلقه، وإن كذبه ولم يثبت إعساره، أعيد إلى الحبس. فإن ادعى خصمه أن له داراً، وأقام بها بينة، فقال المحبوس: هي لزيد، فكذبه زيد، بيعت الدار، وقضي الدين؛ لأن إقراره سقط بإكذابه، وإن صدقه زيد وله بينة، فهي له؛ لأن بينته قويت بإقرار صاحب اليد. وإن قال: حبست في ثمن كلب، أو خمر أرقته لذمي. فقال القاضي: يطلقه لأن غرمه ليس بواجب. وفيه وجه آخر: أن الثاني ينفذ حكم الأول؛ لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده، ويحتمل أن يتوقف ويجتهد في أن يصطلحا على شيء؛ لأنه لا يمكنه فعل الأمرين المتقدمين. وإن قال: حبست ظلماً، ولا حق علي، نادى الحاكم بذلك. فإن لم يظهر له خصم، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه لا خصم له، ولا حق عليه، ويخلي سبيله، والله أعلم. فصل: ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء؛ لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله. فإن ادعى رجل أنه وصي ميت، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل عدم الوصية. فإن أقام بينة، وكان عدلاً قوياً، أقره على الوصية، وإن كان فاسقاً أو ضعيفاً، ضم إليه أميناً يتقوى به، أو أبدله إن رأى إبداله. وإن أقام بينة أن الحاكم الذي قبله أنفذ الوصية، أنفذها، ولم يسأل عن عدالته؛ لأن الظاهر أنه لا ينفذ ذلك إلا لمن هو أهل. وإن كان وصياً في تفرقة ثلثه، ففرقه وهو عدل، فلا شيء عليه. وإن كان فاسقاً والوصية لمعينين، فلا شيء عليه أيضاً؛ لأنه دفعه إلى مستحقه، وإن كان لغير معين، ففيه وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 أحدهما: لا غرم عليه؛ لأنه دفعه إلى مستحقه بإذن الميت، أشبه ما لو كان لمعينين. والثاني: يغرم لأنه فرقه ولم تكن له تفرقته، فغرمه، كما لو جعلت تفرقته إلى غيره، والله تعالى أعلم [ باب ما على القاضي في الخصوم ] يلزمه أن يسوي بين الخصمين في الدخول عليه، والمجلس، والخطاب، والإقبال عليهما، والسماع منهما، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين، فليعدل بينهم في لحظه، وإشارته، ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين، ما لا يرفعه على الآخر» رواه عمر بن شيبة في كتاب قضاة البصرة. وكتب عمر إلى أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: واس الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك. وجاء رجل إلى شريح وعنده السري، فقال: اعدل بي على هذا الجالس إلى جنبك، فقال شريح للسري: قم فاجلس مع خصمك. قال: إني أسمعك من مكاني، قال: لا. قم فاجلس مع خصمك، إن مجلسك برتبته، وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر؛ ولأن إيثار أحد الخصمين في بعض ما ذكرنا يكسر خصمه. والمستحب أن يجلسهما بين يديه، لما روى ابن الزبير قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي» . رواه أبو داود ولأنه أمكن لخطابهما، فإن كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً، جاز رفع المسلم عليه، لما روى إبراهيم التيمي: أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حاكم يهودياً إلى شريح، فقام شريح من مجلسه، فأجلس علياً فيه، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو كان خصمي مسلماً لجلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تساووهم في المجالس» . ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه، لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه نزل به رجل، فقال: ألك خصم؟ قال: نعم. قال: تحول عنا، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه» . ولا يسار أحدهما، ولا يلقنه حجته، ولا يأمره بإقرار ولا إنكار، لما فيه من الضرر. فإن لم يحسن الدعوى، ففيه وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 أحدهما: لا يجوز له تلقينه كيف يدعي؛ لأن في تلقينه ما يثبت حقه به، أشبه تلقينه الحجة. والثاني: يجوز؛ لأنه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه، وله أن يزن عن أحدهما ما وجب عليه؛ لأنه نفع لخصمه، ولا يكون إلا بعد انقضاء الحكم، وله أن يشفع لأحدهما إلى الآخر؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شفع إلى كعب بن مالك في أن يحط عن ابن أبي حدرد بعض دينه» . متفق عليه. وإن أحب غلبة أحدهما ولم يظهر منه ذلك بقول، ولا فعل، فلا شيء عليه؛ لأن التسوية في المحبة والميل بالقلب لا يستطاع، فأشبه التسوية بين النساء. ولا ينتهر خصماً دون الآخر، لئلا يكسره، إلا أن يظهر منه لدد، أو سوء أدب، فينهاه فإن عاد زجره. فإن عاد، عزره. ولا يزجر شاهداً، ولا يتعيبه؛ لأن ذلك يمنعه أداء الشهادة على وجهها ويدعوه إلى ترك القيام بتحملها وأدائها، وفيه تضييع للحقوق. فصل: وإذا حضر القاضي خصوم كثيرة، قدم الأول، فالأول؛ لأن الأول سبق إلى حق له، فقدم، كما لو سبق إلى موضع مباح. فإن حضروا دفعة واحدة أو أشكل السابق، أقرع بينهم، فمن قرع، قدم؛ لأنهم تساووا، فقدم أحدهم بالقرعة، كالنساء إذا أراد السفر بإحداهن. وإن ثبت السبق لأحدهم، فآثر غيره بسبقه، جاز؛ لأن الحق له، فجاز إيثاره به، كما لو سبق إلى مباح. ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة واحدة، كيلا يستوعب المجلس بدعاويه، فيضر بغيره. وإن حضر مقيمون ومسافرون قليل في وقت واحد، وهم على الخروج، قدموا؛ لأن عليهم ضرراً في المقام، وإن كانوا مثل المقيمين. ولا يزال ضرر بمثله. وإن تقدم خصمان، فادعى أحدهما حقاً على الآخر فقال الآخر: أنا جئت به، وأنا المدعي، قدم السابق بالدعوى؛ لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل، وللسابق حق السبق، فقدم. فصل: وإذا كان بين اثنين خصومة، فدعا أحدهما صاحبه إلى مجلس الحكم، لزمته إجابته، لقول الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] . فإن لم يحضر فاستعدي عليه، لزم الحاكم أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 يعديه؛ لأن تركه يفضي إلى تضييع الحقوق. فإن استدعاه الحاكم، لزمته الإجابة، فإن أبى تقدم إلى صاحب الشرط ليحضره. وإن استعدى على غائب، وكان الغائب في بلد فيه حاكم، كتب إليه، لينظر بينهما، وإن لم يكن ثم حاكم، وكان ثم من يتوسط بينهما، كتب إليه لينظر بينهما. فإن لم يكن ثم من ينظر بينهما، لم يحضره حتى يحقق الدعوى؛ لأنه يجوز أن يكون المدعى ليس بحق، كثمن الكلب، والخمر، فلا يكلفه مشقة الحضور، كما لا يقضي به فإذا حقق الدعوى أحضره، بعدت المسافة أو قربت، لما روي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى المهاجر بن أبي أمية: أن ابعث إلي بقيس بن المكشوح في وثاق، فأحلفه خمسين يميناً، على منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ما قتل داذويه؛ ولأننا لو لم نلزمه الحضور، جعل البعد طريقاً إلى إبطال الحقوق. وإن استعداه على امرأة برزة، فهي كالرجل؛ لأنها مثله في الخروج إلى الحاجات. وإن كانت غير برزة. لم تكلف الحضور، وتوكل من يحاكم عنها. فإن توجهت اليمين عليها، بعث إليها من يحلفها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ولم يكلفها الحضور. [ باب صفة القضاء ] إذا حضر القاضي خصمان، فادعى أحدهما على الآخر شيئاً تصح دعواه، فللقاضي مطالبة الخصم بالخروج من دعواه قبل سؤاله؛ لأن شاهد الحال يدل على طلب المطالبة، فيقول له الحاكم: ما تقول فيما يدعى عليك؟ فإن أقر لزمه الحق. ولا يحكم به إلا بمطالبة المدعي؛ لأن الحكم حق له، فلم يجز استيفاؤه بغير إذنه. فإذا طالبه حكم له. فيقول: قد ألزمتك ذلك، أو قضيت عليك، أو أخرج له منه. ويحتمل جواز الحكم من غير مطالبة؛ لأن قرينة حاله تدل على إرادة ذلك؛ ولأن أكثر الناس لا يعلمون توقف الحكم على طلبهم، فتوقف الحكم عليه يفضي إلى فوات حقه؛ ولأنه لم ينقل هذا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن خلفائه، فاشتراطه يخالف ظاهر حالهم. وإن أنكر، فلم يعرف المدعي وقت البينة، قال له القاضي: ألك بينة؟ وإن كان يعلم فللقاضي أن يقول ذلك، وله أن يسكت. فإن قال: ما لي بينة، قال له الحاكم: فلك يمينه. فإن سأله إحلافه، أحلفه. ولا يجوز إحلافه قبل مطالبة المدعي، فإن فعل لم يعتد بها؛ لأنها يمين قبل وقتها، وللمدعي المطالبة بإعادتها. وإن أمسك المدعي عن إحلافه. ثم أراد إحلافه، فله ذلك؛ لأن حقه لم يسقط بالتأخير. وإن قال: أبرأتك من اليمين، سقط حقه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 منها في هذه الدعوى. وله استئناف الدعوى، والطلب باليمين فيها؛ لأن حقه لم يسقط بالإبراء من اليمين. وهذه الدعوى غير التي أبرأه من اليمين فيها. فإذا حلف سقطت الدعوى، لما روى وائل بن حجر: «أن رجلاً من حضرموت ورجلاً من كندة أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الحضرمي: إن هذا غلبني على أرضي ورثتها من أبي، وقال الكندي: أرضي وفي يدي لا حق له فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شاهداك أو يمينه، فقال: إنه لا يتورع من شيء، فقال: ليس لك إلا ذلك.» رواه مسلم بمعناه. فإن امتنع عن اليمين لم يسأل عن سبب امتناعه، فإن بدا فقال: أريد أن أنظر في حسابي، أمهل ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة، ولا يمهل أكثر منها؛ لأنه كثير. وقال أبو الخطاب: لا يمهل لأن الحق توجه عليه حالاً، فلا يمهل به، كالمال. وإن لم يذكر عذراً لامتناعه، قال له الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلاً وقضيت عليك، ويكرر ذلك عليه ثلاثاً، فإن حلف، وإلا حكم عليه، لما روى أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبداً، فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالماً بعيبه، فأنكر ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان، فقال له عثمان: احلف أنك ما علمت به عيباً، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اليمين على المدعى عليه» فحصرها في جنبته، فلم يشرع لغيره. واختار أبو الخطاب أنه لا يحكم بالنكول، ولكن ترد اليمين على خصمه، وقال: قد صوبه أحمد، وقال: ما هو ببعيد، يحلف ويستحق، فيقول الحاكم لخصمه: أتحلف وتستحق؟ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد اليمين على صاحب الحق» . رواه الدارقطني. وروي أن المقداد اقترض من عثمان مالاً، فتحاكما إلى عمر، فقال عثمان: هو سبعة آلاف، وقال المقداد: هو أربعة آلاف، فقال المقداد لعثمان: احلف أنه سبعة آلاف، فقال عمر: أنصفك. فإن حلف المدعي حكم له، وإن نكل سئل عن سبب نكوله؛ لأنه لا يجب بنكوله لغيره حق، بخلاف المدعى عليه. فإن قال: امتنعت؛ لأن لي بينة أقيمها، أو حساباً أنظر فيه، فهو على حقه من اليمين، ولا يضيق عليه في المدة؛ لأنه لا يتأخر بتركه إلا حقه، بخلاف المدعى عليه. فإن قال: لا أريد أن أحلف، فهو ناكل. فإن عاد فبذل اليمين، لم تسمع منه في هذه الدعوى؛ لأنه أسقط حقه منها. فإن عاد في مجلس آخر، واستأنف الدعوى، أعيد الحكم بينهما، كالأول. فإن بذل اليمين هاهنا حكم بها؛ لأنها يمين في دعوى أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 فصل: وإن كان للمدعي بينة عادلة، قدمت على يمين المدعى عليه، للخبر؛ ولأنها لا تهمة فيها؛ لأنها من جهة غيره، واليمين بينهم فيها. ولا يجوز سماع البينة والحكم بها إلا بمسألة المدعي؛ لأنه حق له، فلا يستوفى إلا بإذنه. فإن شهدت البينة، فقال المدعى عليه: أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة، لم يحلف؛ لأن في ذلك طعناً في البينة. وإن قال: قضيته، أو: أبرأني منه، أو: أحلته به، فأنكر المدعي، فسأل إحلافه، أحلف له؛ لأن ذلك ليس بتكذيب للبينة. فإن كانت البينة غير عادلة، قال له الحاكم: زدني شهوداً، فإن قال المدعي: لي بينة غائبة فأحلف المدعى عليه، أحلف؛ لأن الغائبة كالمعدومة، لتعذر إقامتها. ومتى حضرت بينته وطلب سماعها وجب سماعها والحكم بها، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة؛ ولأن البينة كالإقرار، ثم يجب الحكم بالإقرار بعد اليمين كذلك بالبينة، وإن قال: لي بينة حاضرة، ولكني أريد يمينه ثم أقيم بينتي، لم يستحلف؛ لأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة وحدها، فلم يشرع معها غيرها، كما لو أقامها. وإن قال: أحلفوه ولا أقيم بينتي، حلف؛ لأن له في هذا غرضاً وهو أن يخاف، فيقر، فيثبت الحكم بإقراره، وهو أسهل من إثباته بالبينة. فإذا حلف فهل يمكن المدعي من إقامة البينة؟ على وجهين. وإن قال: ما لي بينة، ثم جاء ببينته، لم تسمع؛ لأنه أكذبها بإنكاره. وإن قال: ما أعلم لي بينة، ثم أقام بينة، أو قال شاهدان: نحن نشهد لك، فقال: هذان بينتي، سمعت؛ لأنه لم يكذب بينته. وإن قال: ما أريد أن تشهدا لي، وأريد يمينه، حلف لما ذكرناه. وإن قال: لي بينة، وأريد ملازمة خصمي، أو حبسه حتى أقيمها، لم يكن له ذلك، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك» . فصل: وإذا شهد شاهدان، فلم يعلم خصمه أن له جرحهما، قال له الحاكم: قد أطردتك جرحهما. وإن كان يعلم، فله أن يقول له ذلك، وله أن يسكت. فإن سأل خصمه الإنظار ليجرحهما، أنظر ثلاثاً، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال في كتابه إلى أبي موسى: واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة، أخذت له حقه، وإلا استحللت القضية عليه، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى. وإن قال: لي بينة بالقضاء أو الإبراء، أمهل ثلاثاً، فإن لم يأت بها، حلف المدعي على نفي ذلك، وقضى له، وله ملازمته إلى أن يقيم بينة بالجرح أو القضاء؛ لأن الحق قد ثبت في الظاهر. وإن شهد شاهدان، ولم تثبت عدالتهما في الباطن، فسأل المدعي حبس الخصم إلى أن يسأل عن عدالة الشهود، حبس؛ لأن الظاهر العدالة، وعدم الفسق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 ويحتمل أن لا يحبس؛ لأن الأصل براءة ذمته. وإن شهد له واحد، فسأله حبسه حتى يقيم له شاهداً آخر، ففيه وجهان: أحدهما: يحبس كما لو جهل عدالة الشهود. والثاني: لا يحبس؛ لأن البينة لم تتم. فصل: وإن علم الحاكم الحال، لم يجز أن يحكم بعلمه، في حد ولا غيره، في ظاهر المذهب، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه تداعى عنده رجلان، فقال له أحدهما: أنت شاهدي، فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد. وقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو رأيت رجلاً على حد، لم أحده حتى تقوم البينة عندي؛ ولأنه متهم في الحكم بعلمه، فلم يجز، كالحكم لولده. وعنه: يجوز له الحكم بعلمه سواء علمه في ولايته أو قبلها، «ولأن هنداً قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني لي ولولدي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقضى بعلمه؛ ولأنه حق علمه، فجاز الحكم به، كالتعديل والجرح، وكما لو ثبت بالبينة. فصل: وإن كان للمدعي شاهد واحد عدل، في المال، أو ما يقصد به المال، حلف المدعي مع شهادته، وحكم له به؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قضى بشاهد ويمين» . رواه مسلم. فإن أبى أن يحلف، وقال: أريد يمين المدعى عليه أحلفناه. فإن نكل المدعى عليه، قضي عليه. ومن قال: ترد اليمين، فهل ترد هاهنا؟ يحتمل وجهين: أحدهما: لا ترد؛ لأنها كانت في جنبته، وقد أسقطها بنكوله عنها، وصارت في جنبة غيره، فلم تعد إليه، كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين، فردت على المدعي، فنكل عنها. والثاني: ترد عليه؛ لأن هذه غير اليمين الأولى؛ ولأن سبب الأولى قوة جنبة المدعي بالشاهد. وسبب الثانية نكول المدعى عليه، فسقوط إحداهما لا يوجب سقوط الأخرى. فإن سكت المدعى عليه، فلم ينكر ولم يقر، حبسه الحاكم حتى يجيب، ولم يجعله بذلك ناكلاً. ذكره القاضي في المجرد. وذكر أبو الخطاب أن الحاكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 يقول له: إن أجبت وإلا جعلتك ناكلا، وحكمت عليك، ويكرر ذلك ثلاثاً، فإن أجاب وإلا حكم عليه؛ لأنه ناكل عما يلزمه جوابه، فأشبه الناكل عن اليمين. فصل: ومتى اتضح الحكم للقاضي، لزمه الحكم به، ولم يجز ترديد الخصمين؛ لأن الحكم لازم، وأداء الحق واجب، فلم يجز تأخيره. وإن كان فيه لبس أمرهما بالصلح، فإن أبيا، أخرهما، ولا يحكم حتى يزول اللبس، ويتضح وجه الصواب؛ لأن الحكم بالجهل حرام. [ باب القضاء على الغائب وحكم كتاب القاضي ] إن حضر رجل يدعي على رجل غائب عن البلد ولا بينة معه، لم تسمع دعواه؛ لأن سماعها لا يفيد. وإن كانت له بينة، سمع الدعوى، والبينة وحكم بها؛ لأنها بينة مسموعة، فيحكم بها، كما لو شهدت على حاضر. وعن أحمد: لا يجوز القضاء على الغائب. وهو اختيار ابن أبي موسى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك لا تدري بما تقضي» . رواه الترمذي. وقال: حديث حسن؛ ولأنه قضى لأحد الخصمين وحده، فلم يجز، كما لو كان الآخر في البلد؛ ولأنه يحتمل القضاء والإبراء، وكون الشاهد مجروحاً، فلم يجز الحكم، كالأصل. ولو ادعى على حاضر لم تسمع البينة، حتى يحضر، لما ذكرنا؛ ولأنه يمكن سماع قوله، فلم يحكم قبل سماعه، كحاضر المجلس. وتعتبر الغيبة إلى مسافة القصر؛ لأنها الغيبة التي تبنى عليها الأحكام. فإن امتنع الخصم في البلد من الحضور عند الحاكم، وتعذر إحضاره، حكم عليه؛ لأنه لو لم يحكم عليه، لجعل الامتناع والاستتار طريقاً إلى تضييع الحقوق، ويكون حكمه حكم الغائب. وإن هرب المدعى عليه بعد الدعوى، فهو كما لو هرب قبلها في الحكم عليه. ولو كانت الدعوى على صبي أو مجنون، لحكم عليه بالبينة؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، فهو كالغائب، ولا يمين على المدعي في هذه المواضع كلها؛ لأنه أقام البينة بحقه فلم يستحلف، كما لو كان خصمه حاضراً. وعنه: يستحلف؛ لأنه يجب الاحتياط. ويحتمل أن يكون قد قضاه أو أبرأه، أو غير ذلك، وكذلك لو كان حاضراً، فادعى بعض ذلك وطلب اليمين، أجيب إليها، فمع الغيبة أولى، وكذلك الحكم إن كانت الدعوى على مجنون، أو صبي؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، فهو كالغائب. فصل: ويجوز للقاضي أن يكتب إلى قاض آخر بما ثبت عنده، ليحكم به، وبما حكم به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 لينفذه، لما روى الضحاك بن سفيان قال: «كتب إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» . أخرجه أبو داود والترمذي؛ ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك. فإن كتب بما حكم به لينفذه، جاز في المسافة القريبة والبعيدة؛ لأن إمضاء حكم القاضي لازم لكل قريب وبعيد. وإن كتب بما ثبت عنده ليحكم به، لم يجز إلا إذا كان بينهما مسافة القصر؛ لأن القاضي الكاتب فيما حمل شهود الكتاب، كشاهد الأصل، وشهود الكتاب كشاهد الفرع. ولا تقبل شهادة الفرع مع قرب الأصل. فصل: ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان عدلان لأن ما أمكن إثباته بالشهادة، لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر، كالمفقود. ويتخرج أن يجوز قبوله بغير شهادة، إذا عرف المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه، كقولنا في الوصية. والأول أولى؛ لأن الخط يشبه الخط، والختم يشبه الختم، فلا يؤمن التزوير عليه. فإذا أراد إنفاذ كتاب، أحضر شاهدين وقرأ الكتاب عليهما، أو يقرؤه غيره وهو يسمعه، والمستحب أن ينظر الشاهدان في الكتاب حتى لا يحرف ما فيه. وإن لم ينظرا جاز؛ لأنهما يؤديان ما سمعا. فإذا وصلا إلى القاضي المكتوب إليه، قرآ الكتاب عليه، وقالا: نشهد أن هذا كتاب فلان إليك سمعناه وأشهدنا به، كتب إليك بما فيه. فإن قالا: نشهد أن فلاناً هذا كتب إليك بما في هذا الكتاب، وسلماه إليه من غير قراءته عليه، لم يقبله؛ لأنه ربما زور عليهما، وإن لم يختم الكتاب، أو ختمه فانكسر الختم، لم يضر؛ لأن المعول على ما فيه. وإن انمحى بعضه وهما يحفظان ما فيه، أو معهما نسخة أخرى، شهدا، وقبل الحاكم. وإن لم يحفظاه، ولا معهما نسخة أخرى، لم يشهدا؛ لأنهما لا يعلمان ما انمحى منه. فصل: وإن مات الكاتب، أو عزل، جاز للمكتوب إليه قبول الكتاب، والعمل به؛ لأنه إن كان الكتاب بما حكم به، وجب تنفيذه عل كل أحد، وإن كان فيما ثبت لينفذ، فالكاتب كشاهد الأصل. وموت شاهد الأصل لا يمنع قبول شاهد الفرع. وإن فسق الكاتب، ثم وصل كتابه، وجب قبوله فيما حكم به؛ لأن الحكم لا يبطل بالفسق بعده، ولم يقبل فيما ثبت عنده؛ لأنه كشاهد الأصل. وشاهد الأصل إذا فسق قبل الحكم، لم يحكم بشهادة الفرع. وإن مات المكتوب إليه أو عزل، أو ولي غيره، قبل الثاني الكتاب؛ لأن المعول عل ما حفظه الشهود وتحملوه. ومن تحمل شهادة وشهد بها، وجب على كل قاض الحكم بشهادته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 فصل: وإذا وصل الكتاب إليه، فأحضر الخصم، فقال: لست فلان ابن فلان، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. فإن أقام المدعي بينة أنه فلان ابن فلان، ثبت ذلك، فإن قال: المحكوم عليه غيري، لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد أن له من يشاركه في جميع ما سمي ووصف به؛ لأن الأصل عدم المشاركة. فإن قامت بالمشاركة بينة، توقف عن الحكم حتى يثبت من المحكوم عليه منهما. فإذا ثبت، حكم به. فإن قال المحكوم عليه: اكتب إلى الحاكم الكاتب أنك حكمت علي حتى لا يدعى ثانياً، ففيه وجهان. أحدهما: تلزمه إجابته ليخلص مما يخافه. والثاني: لا يلزمه؛ لأن الحاكم إنما يكتب بما حكم به، أو ثبت عنده، والحاكم هو الذي حكم به، أو ثبت عنده دون غيره. فصل: إذا ثبت عنده حق بالإقرار، فسأله المقر له أن يشهد على نفسه بما ثبت عنده من الإقرار، لزمه ذلك؛ لأنه لا يؤمن أن ينكر المقر، فلزمه الإشهاد، ليكون حجة له إذا أنكر. وإن ثبت عنده الحق بنكول المدعى عليه، فسأله المدعي أن يشهد على نفسه بثبوت النكول، لزمه؛ لأنه لا يؤمن أن ينكر بعد ذلك، ويحلف. وإن ثبت عنده بيمين المدعي بعد نكول المدعى عليه، فسأله أن يشهد على نفسه بذلك، لزمه؛ لأنه لا حجة للمدعي غير الإشهاد. وإن ثبت ببينة، فسأله المدعي الإشهاد، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه؛ لأن له بالحق بينة، فلم يلزم القاضي تجديد بينة أخرى، وإن ادعى عليه حقاً. الثاني: يلزمه؛ لأن في الشهادة على نفسه تعديلاً لبينته، وإثباتاً لحقه، وإلزاماً لخصمه. وإن ادعى عليه حقاً، فأنكره، وحلف عليه، وسأله الحالف أن يشهد على براءته، لزمه، ليكون حجة له في سقوط الدعوى، حتى لا يطالبه بالحق مرة أخرى. وإن سأله في هذه المسائل أن يكتب له محضراً بما جرى، وما ثبت له به الحق. فإن لم يكن قرطاس من بيت المال، ولم يأته المكتوب له بقرطاس، لم يلزمه أن يكتب له؛ لأن عليه الكتاب دون الغرم. وإن كان عنده قرطاس من بيت المال، أو أتاه صاحبه بقرطاس. فهل يلزمه كتابة المحضر؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه لأنه وثيقة بالحق، فلزمه كالإشهاد على نفسه. والثاني: لا يلزمه؛ لأن الحق يثبت باليمين، أو البينة دون المحضر. وإن سأله أن يسجل به، وهو أن يذكر ما يكتبه في المحضر، ويشهد على إنفاذه أسجل له. وهل يلزمه ذلك؟ على وجهين كما ذكرنا في المحضر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 فصل: وصفة المحضر: حضر القاضي فلان ابن فلان، قاضي عبد الله الإمام على كذا. وإن كان خليفة قاض قال: خليفة فلان: قاضي الإمام فلان، بمجلس حكمه وقضائه، فلان ابن فلان الفلاني، وأحضر معه فلان ابن فلان الفلاني، ويرفع في نسبهما، حتى يتميزا، وإن ذكر حليتهما، كان آكد. وإن كان الحاكم لا يعرف الخصمين، قال: مدع ذكر أنه فلان ابن فلان الفلاني، وأحضر معه مدعى عليه، ذكر أنه فلان ابن فلان الفلاني، ويرفع في نسبهما، ويذكر حليتهما؛ لأن الاعتماد عليهما، فادعى عليه كذا، فأقر له به. ولا يحتاج أن يذكر بمجلس حكمه وقضائه؛ لأن الإقرار يصح في غير مجلس الحكم. وإن كتب أنه شهد على إقراره شاهدان، كان آكد. وإن أنكر وحلف، قال: فأنكر فسأل الحاكم المدعي: ألك بينة؟ فلم يكن له بينة، فقال: لك يمينه، فسأله أن يستحلفه، فأحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت واحد؛ لأن الاستحلاف لا يكون إلا في مجلس الحكم. وإن قضى بالنكول قال: فعرض اليمين على المدعى عليه، فنكل عنها، فسأل خصمه أن يقضي عليه بالحق، فقضى عليه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا. وإن رد اليمين على المدعي فحلف، وحكم له، ذكر ذلك، ويعلم في رأس المحضر: الحمد لله رب العالمين، أو نحوه، وإن ثبت الحق ببينة، كتب الحاكم في آخر المحضر: شهد عندي بذلك فلان مع علامته في رأس المحضر. وصفة السجل أن يكتب: هذا ما أشهد عليه القاضي فلان ابن فلان، قاضي الإمام فلان، في موضع كذا في وقت كذا، أنه ثبت عنده، بشهادة فلان وفلان، وينسبهما، وقد عرفهما بما ساغ له به قبول شهادتهما عنده، بما في كتاب نسخته، وينسخ الكتاب، ثم يكتب بعد ذلك: فحكم به وأنفذه وأمضاه، بعد أن سأله فلان ابن فلان أن يحكم له به. ولا يحتاج أن يذكر له بمحضر المدعى عليه؛ لأن القضاء على الغائب جائز. فإن ذكره احتياطاً، قال: بعد أن أحضر من ساغ له للدعوى عليه، ويكتب المحضر، أو المسجل نسختين، يدفع إحداهما إلى صاحب الحق، والأخرى في ديوان الحكم، فإن هلكت إحداهما وجدت الأخرى. وما يحصل عنده من المحاضر والسجلات في كل شهر، أو أسبوع على قدر كثرتها أو قلتها، يشد عليها إضبارة، ويكتب عليها: سجلات كذا، ومحاضر كذا، في شهر كذا، في سنة كذا، ليسهل إخراجه عند طلبه. فإن تولى ذلك بنفسه، وإلا وكل أمينه. فإن حضر رجلان عند الحاكم، فادعى أحدهما أن له في ديوان الحكم حجة على خصمه، فوجدها وكان حكماً حكم به غيره، لم يحكم به، إلا أن يشهد شاهدان أن هذا حكم حكم به فلان القاضي، ولا يكفي الخط والختم؛ لأنه يحتمل التزوير في الخط والختم. وإن كان حكماً حكم هو به، فذكر الحكم وعلم به، عمل به، وألزم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 خصمه حكمه. وإن لم يذكر الحكم به، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجوز له الحكم به؛ لأنه يحتمل التزوير في الخط والختم، فلم يجز له الحكم به. كحكم غيره. والثانية: يجوز الحكم به؛ لأنه إذا كان بخطه تحت ختمه، لم يحتمل أن يكون غير صحيح إلا احتمالا بعيداً، كاحتمال كذب الشاهدين، فلا يعول على مثله. فإن شهد به شاهدان، وجب الحكم به؛ لأنه حكم شهد به عدلان، فوجب قبوله، كحكم غيره، أو كما لو شهدا به عند غيره. فصل: وإذا قال: حكمت لفلان بكذا، قبل قوله؛ لأنه يملك الحكم به فملك الإقرار به، كالزوج لما ملك الطلاق، ملك الإقرار به. وإن قال ذلك بعد عزله، قبل أيضاً؛ لأن عزله لا يمنع قبول قوله كما لو كتب إلى غيره، فوصل الكتاب بعد عزله؛ ولأنه أخبر بما حكم به، وهو غير متهم، فيجب قبوله، كحال الولاية. ويحتمل أن لا يقبل قوله؛ لأنه لا يملك الحكم، فلم يملك الإقرار به. [ باب القسمة ] الأصل في القسمة، الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء: 8] . وأما السنة: فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة» . وقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغنائم بين أصحابه، وأجمعت الأمة على جوازها. والعبرة تقتضيها لحاجة الشركاء، ليتخلصوا من سوء المشاركة وكثرة الأيدي، ويتصرف كل واحد في المال على الكمال، على حسب الاختيار. فصل: ويجوز للشركاء أن يقتسموا بأنفسهم، وأن ينصبوا قاسماً يقسم بينهم، وأن يسألوا الحاكم قاسماً يقسم بينهم؛ لأن الحق لهم، فجاز ما تراضوا عليه. ويجب أن يكون القاسم عالماً بالقسمة، ليوصل إلى كل ذي حق حقه، كما يجب أن يكون الحاكم عالماً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 بالحكم، ليحكم بالحق. فإن كان منصوباً من جهة الحاكم، فمن شرطه أن يكون عدلاً؛ لأنه نصبه لإلزام الحكم، فاشترطت عدالته، كالحاكم. وإن كان منصوباً من جهتهما، لم تشترط عدالته؛ لأنه نائبهما، فأشبه الوكيل، إلا أنه إن كان عدلاً، كان القاسم كالحاكم في لزوم قسمته؛ لأنه يصير بتراضيهما، كالمنصوب من جهة الحاكم، وإن لم يكن عدلاً، لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما، كما لو اقتسما بأنفسهما. ويجزئ قاسم واحد، إن خلت القسمة من تقويم؛ لأنه حكم بينهما، فأشبه الحاكم. وإن كان فيها تقويم، لم يجز أقل من قاسمين؛ لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين. فصل: وعلى الإمام أن يرزق القاسم من بيت المال؛ لأنه من المصالح. وقد روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، اتخذ قاسماً جعل له رزقاً في بيت المال؛ ولأن هذا من المصالح، فأشبه رزق الحاكم. فإن لم يعط من بيت المال شيئاً، فأجرته على الشركاء على قدر أملاكهم، سواء طلباها معاً، أو أحدهما؛ لأنها مؤنة تتعلق بالملك، فكانت على قدر الأملاك، كنفقة العبد. وإن كان الشركاء نصبوا قاسماً، فأجرته بينهم على ما شرطوه؛ لأنه أجيرهم. فصل: وإذا كان في القسمة رد عوض، فهي بيع، لأن صاحب الرد بذل المال عوضاً عما حصل له من حق شريكه، وهذا هو البيع. وإن لم يكن فيها رد، فهي إفراز النصيبين، وتميز الحقين، وليست بيعاً، ولذلك جاز تعليقها على القرعة، وتقدرت بقدر الحق، ودخلها الإجبار. ولو كانت بيعاً حتماً لم يجز ذلك فيها، كما في سائر البيوع. وحكي عن أبي عبد الله بن بطة: أنها بيع؛ لأن أحدهما يبذل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر، وهذا حقيقة البيع. والمذهب الأول. فيجوز قسمة الثمار على الشجر خرصاً، وقسمة المكيل وزنا، والموزون كيلاً، والتفرق قبل القبض. ولا يحنث بها من حلف أن لا يبيع. وإن كان العقار وقفاً أو نصفه، جازت القسمة، وإن قلنا: هي بيع، لم يجز شي من ذلك؛ لأن بيعه غير جائز. وإن كان فيها رد، لم تجز قسمة الوقف؛ لأنه لا يجوز بيع شيء منه، وإن كان بعضه طلقاً، وبعضه وقفاً، والرد من صاحب الطلق، لم يجز؛ لأنه يشتري بعض الوقف. وإن كان صاحب الوقف، جاز؛ ولأنه يشتري بعض الطلق. فصل: إذا طلب أحد الشريكين القسمة، فأبى الآخر من غير ضرر، كالحبوب والأدهان، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 والثياب الغليظة، والأراضي، والدور التي يمكن قسمتها بالتعديل من غير رد عوض، ولا ضرر، أجبر الممتنع عليها؛ لأن طالبها يطلب إزالة الضرر عنه وعن شريكه من غير ضرر بأحد، فوجب إجابته إليه. وسواء كانت الأرض متساوية الأجر، أو مختلفة، بعضها عامر، وبعضها خراب، أو بعضها ذو بناء، أو شجر، أو بئر، وبعضها بياض، أو يسقى بعضها سيحاً، وبعضها بناضح. وإن كان عليهما ضرر في القسمة، كالجواهر، والثياب التي ينقصها القطع، والرحى الواحدة، والبئر، والحمام الصغير، لم يجبر الممتنع، لما روى مالك في موطئه عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار» . من المسند؛ ولأنه إتلاف مال، وسفه يستحق به الحجر، فلم يجبر عليه، كهدم البناء. وإن كان على أحدهما ضرر دون الآخر، كدار لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها، يستضر صاحب الثلث بالقسمة دون شركائه، فطلبها المستضر، ففيه وجهان: أحدهما: يجبر الممتنع؛ لأنه مطالب بقسمة لا ضرر عليه فيها، فلزمته الإجابة، كالتي قبلها. والثاني: لا يجبر؛ لأن طلب المستضر سفه، فلم تلزم إجابته، كما لو استضرا معاً. وإن طلبها غير المستضر، فقال أبو الخطاب: لا يجبر الممتنع. وهذا ظاهر كلام أحمد؛ لأنه قال: كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها. وذلك، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» ؛ ولأنها قسمة تضره، فلم يجبر عليها، كما لو استضر. وقال القاضي: يجبر؛ لأنه يطالب بحق ينفع الطالب، فوجبت إجابته، كقضاء الدين. وفي الضرر المانع روايتان: إحداهما: هو أن لا يتمكن أحدهما من الانتفاع بنصيبه مفرداً، كالدار الصغيرة التي لا يمكن سكنى نصيب أحدهما منفرداً. وهذا قول الخرقي؛ لأن ضرر نقص القيمة ينجبر بزوال ضرر الشركة، فيصير كالمعدوم. والثانية: هو أن تنقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة؛ لأنه ضرر، فمنع وجوب القسمة، للخبر، والقياس الأول. فصل: وإن كان بينهما أرض مختلفة الأجزاء، وأمكنت التسوية، بأن يكون الجيد في مقدمها، والرديء في مؤخرها، فيقسمانها نصفين فيحصل في كل قسم من الجيد والرديء مثل ما في الآخر، قسم كذلك. وإن لم يمكن، لكون الجيد في أحد النصفين، وأمكن التعديل بجعل ثلثيها في المساحة في مقابلة ثلثها الجيد، أجبر الممتنع؛ لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 يوجب التساوي بالتعديل من غير رد، فأشبه ما لو تساويا في الذرع، وأجرة القاسم بينهما سواء، لتساويهما في أصل الملك. ويحتمل أن يجب على صاحب الثلث ثلثها، وعلى الآخر ثلثاها، لتفاضلهما بالمأخوذ بالقسمة. فإن أمكن القسمة بالتعديل والرد فدعى كل واحد منهما إلى أحدهما، أجيب من طلب قسمة التعديل؛ لأن ذلك مستحق. ولا يلزم إجابة الآخر؛ لأنه بيع، فلا يجبر عليه غيره. فصل: وإن كان بينهما دور، أو أرض مختلفة في بعضها نخل، وفي بعضها شجر، وبعضها يسقى سيحاً، وبعضها يسقى بالنواضح، فطلب أحدهما قسمتها أعياناً بالقيمة، وطلب الآخر قسمة كل عين على حدة، قسمت كل عين على حدة؛ لأن لكل واحد منهما حقاً في الجميع، فجاز له طلبه من الجميع. وإن كانت بينهما عضائد متلاصقة، فطلب أحدهما قسمتها أعياناً، وطلب الآخر قسمة كل واحدة منهما، لم يجبر واحد منهما؛ لأن كل واحدة مسكن منفرد في قسمته ضرر. وإن كانت كباراً يمكن قسمتها بغير ضرر، قسمت كل واحدة على حدتها، كالدور المتفرقة. وإن كانت بينهما دار، لها علو وسفل، فطلب أحدهما أن يجعل العلو لأحدهما، والسفل للآخر، فأبى الآخر، لم يجبر؛ لأن العلو تابع للعرصة، فلا يجوز جعله في القسمة متبوعاً. وإن طلب قسمة السفل وحده، أو العلو وحده، لم تجب إجابته؛ لأن القسمة تراد للتمييز، ومع بقاء الإشاعة في أحدهما لا يحصل التمييز. وإن طلب قسمة السفل منفرداً والعلو منفرداً، لم تجب إجابته؛ لأنه قد يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر، أو بعضه، فلا يتميز الحقان. وإن طلبا قسمتهما معاً وكانت لا تضر، أجبر الممتنع، لما تقدم. فصل: وإن كان بين ملكيهما عرصة حائط، فطلب أحدهما قسمتها طولاً، ليحصل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض، فقال أصحابنا: يجبر الممتنع؛ لأنه لا ضرر. ويحتمل أن لا يجبر؛ لأنه يفضي إلى بقاء ملكه الذي يلي نصيب صاحبه بغير حائط. وإن طلب قسمتها عرضاً، ليحصل لكل واحد نصف العرض في كمال الطول، وكان يحصل لكل واحد منهما ما لا يمكن أن يبنى فيه حائط، لم يجبر الممتنع؛ لأنه يتضرر. وإن حصل له ما يمكنه بناء حائط فيه، أجبر الممتنع؛ لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد منهما الانتفاع به مقسوماً، ويحتمل أن لا يجبر؛ لأنه لا تدخله القرعة خوفاً من أن يحصل لكل واحد منهما ما يلي ملك الآخر. وإن كان بينهما حائط، فطلب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 أحدهما قسمته طولاً في كمال العرض، ففيه وجهان: أحدهما: تجب إجابته، لما ذكرنا في العرصة. والثاني: لا تجب؛ لأنه إن قطع الحائط، ففيه إتلاف. وإن لم يقطع أفضى إلى الضرر؛ لأن في تجميل أحدهما له ثقلاً على نصيب صاحبه. وإن طلب قسمته عرضاً في كمال الطول، لم يجبر الممتنع؛ لأن فيه إفساداً، وفي جميع ذلك متى اتفقا على القسمة، جاز. فصل: وإن كان بينهما أرض مزروعة، فطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع لزم إجابته؛ لأن الزرع لم يمنع جواز القسمة، فلم يمنع وجوبها، كالقماش في الدار، فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مبقى إلى الحصاد. ذكره أصحابنا، والأولى أنها لا تجب؛ لأنه يلزم منها إبقاء الزرع المشترك في الأرض المقسومة إلى الحصاد، بخلاف القماش، كما لو بيعت الأرض. وإن طلب قسمة الزرع منفرداً، لم يلزم إجابته؛ لأنه لا يمكن تعديله. ويشترط بقاؤه في الأرض المشتركة. وإن طلب قسمة الأرض مع الزرع، وكان قصيلاً، لزمته إجابته؛ لأن الزرع، كالشجر في الأرض، فلم يمنع الإجبار. وإن كان سنابل مشتداً حبها فكذلك، إلا عند من جعل له القسمة بيعاً، فلا يجوز؛ لأنه يبيع بعضه ببعض من غير كيل. وإن كان بذراً لم تجز قسمته؛ لأنه مجهول، لا يمكن تعديله، فيكون قسمة مجهول ومعلوم، ويحتمل الجواز؛ لأنه بيع لا يمنع البيع إذا اشترطه المبتاع، فكذلك لا يمنع القسمة. فصل: إذا كان بينهما ثياب، أو حيوانات، أو خشب، أو عمد، أو أحجار متفاضلة، فطلب أحدهما قسمتها أعياناً بالقيمة، لم تجب إجابته؛ لأن ذلك بيع. وإن كانت متماثلة، فقال القاضي: تجب إجابته؛ لأنها متماثلة، أشبهت أجزاء الأرض المتماثلة، ويحتمل أن لا يلزم إجابته؛ لأنها أعيان متفرقة، فأشبهت العضائد والدور المتفرقة. فصل: إذا كانت بينهما عين، فأرادا قسمة منافعها بالمهايأة، بأن تجعل في يد أحدهما مدة، وفي يد الآخر مثلها، جاز؛ لأن المنافع كالأعيان، فجازت قسمتها. وإن امتنع أحدهما، لم يجبر؛ لأن حق كل واحد منهما معجل، فلم يجبر على تأخيره بالمهايأة، فإن تهايآه، اختص كل واحد منهما بمنفعته في مدته، وكسبه. وفي الأكساب النادرة، كاللقطة، والهبة، والركاز، وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 أحدهما: يدخل فيها؛ لأنها كسب، أشبه المعتاد. والثاني: لا يدخل؛ لأن المهايأة، كالبيع، فلا يدخل فيها، إلا ما يقدر عليه في العادة، والنادر لا يقدر عليه عادة، فلا يدخل فيها، ويكون بينهما. ونفقة الحيوان في مدة كل واحد منهما عليه؛ لأن نفعه له، فكانت مؤنته عليه، كالمنفرد به. فصل: وصفة القسمة أن يحصي القاسم عدد أهل [السهمان] ثم يعدل السهمان بالأجزاء، أو بالقيمة، أو بالرد، وإن كانت تقتضيه. ثم لا يخلو من حالين: أحدهما: أن تتساوى سهمانهم، كأرض بين ستة، لكل واحد سدسها. فهذا يخير فيه بين إخراج الأسماء على السهام، بأن يكتب اسم كل واحد في رقعة، ويدرجها في بنادق شمع متساوية، ويطرح عليها ثوباً، ويقال لمن لم يحضر ذلك: أدخل يدك فأخرج بندقة على هذا السهم الأول. فمن خرج اسمه، فهو له: ثم على الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، ويتعين السهم السادس للسادس. وبين إخراج السهام على الأسماء، بأن يكتب في رقعة السهم الأول، وفي أخرى الثاني حتى يستوفي جميع السهام، ثم يأمر بإخراج بندقة على اسم أحد الشركاء، فما خرج، فهو له، كذلك إلى آخرها. الحال الثاني: أن تختلف سهمانهم، مثل أن يكون لأحدهم نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر سدسها، فإنه يعدل السهام بعدد أقلها، ويجعلها ستة، ويخرج الأسماء على السهام لا غير، فيخرج بندقة على السهم الأول. فإن خرج اسم صاحب النصف أخذه، والثاني، والثالث. ثم يخرج بندقة على السهم الرابع. فإن خرجت لصاحب الثلث أخذه، والخامس. ويتعين السادس لصاحب السدس. وإنما قلنا: يأخذه والذي يليه، ليجتمع حقه، ولا يتضرر بتفرقته. ولا يخرج في هذا القسم السهام على الأسماء، لئلا يخرج السهم الرابع لصاحب النصف، فيقول: خذه وسهمين قبله، فيقول صاحباه: يأخذه وسهمين بعده، فيختلفان؛ ولأنه لو خرج لصاحب السدس السهم الثاني، ثم خرج لصاحب النصف السهم الأول، لتفرق نصيبه. فصل: وإذا قسم بينهما قاسم الحاكم قسمة إجبار، فأقرع بينهما، لزمت قسمته بغير رضاهما؛ لأن رضاهما لا يتعين في ابتداء القسمة، فلا يتعين في أثنائها. وإن نصبا عدلاً عالماً يقسم بينهما، لزمتهما قسمته بالقرعة؛ لأن الحاكم الذي ينصبانه كحاكم الإمام في لزوم حكمه، فقاسمهما كقاسم الإمام في لزوم قسمته. وإن كان فاسقاً، أو جاهلاً بالقسمة، أو قسما بأنفسهما لم يلزم إلا بتراضيهما؛ لأن رضاهما معتبر في الأول، ولم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 يوجد ما يزيله، فوجب استمراره. وإن كان في القسمة رد، فتولاها قاسم الحاكم، ففيها وجهان: أحدهما: لا يلزم إلا بالتراضي كذلك؛ ولأنها بيع، فلا يلزم بغير التراضي، كسائر البيع. والثاني: يلزم بالقرعة؛ لأن القاسم، كالحاكم. وقرعته كحكمه، وإن تراضيا على أن يأخذ كل واحد منهما، سهماً بغير قرعة، أو خير أحدهما صاحبه، فاختار أحد السهمين، جاز ويلزم بتراضيهما وتفرقهما، كالبيع. فصل: وإن ادعى أحدهما غلطاً في قسمة الإجبار، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن القاسم كالحاكم، فلم تقبل دعوى الغلط عليه بغير بينة، كالحاكم. فإن أقام البينة نقصت القسمة. وإن لم يكن له بينة، وطلب يمين شريكه، أحلف له. وإن ادعى الغلط في قسمة لا تلزم إلا بتراضيهما، لم تسمع دعواه؛ لأنه رضي بذلك، ورضاه بالزيادة في نصيب شريكه تلزمه. فصل: وإن ظهر بعض نصيب أحدهما مستحقاً، بطلت القسمة؛ لأنه بقي له حق في نصيب شريكه، فعادت الإشاعة. وإن كان المستحق في نصيبهما على السواء وكان معيناً، لم تبطل القسمة؛ لأن الباقي مع كل واحد قدر حقه، ويحتمل أن تبطل القسمة؛ لأنه لم يتعين الباقي لكل واحد منهما في مقابلة ما بقي للآخر. وإن كان مشاعاً بطلت القسمة؛ لأن الثالث شريكهما لم يأذن في القسمة، ولم يحضر، فأشبه ما لو علما به. وإن قسما أرضاً نصفين، وبنى أحدهما في نصيبه داراً، ثم استحق ما في يده، ونقض بناؤه، رجع على شريكه بنصف البناء؛ لأن القسمة كالبيع. ولو باعه نصف الدار، رجع عليه بنصف ما غرم، كذا ها هنا. فصل:. إذا اقتسم الوارثان، فظهر على الميت دين متعلق بالتركة، انبنى ذلك على أن الدين، هل يمنع تصرف الورثة في التركة؟ وفيه وجهان: أحدهما: يمنع، فلا تصح القسمة. والثاني: لا يمنع، فتكون القسمة صحيحة، هذه هي المذهب؛ لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها، لكن إن امتنعا من وفاء الدين، بيعت في الدين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 وبطلت القسمة، هذا هو المذهب. وإن وفى أحدهما دون الآخر، صح في نصيب من وفى، وبطل في نصيب الآخر. فصل: وإذا سأل أحد الشريكين الحاكم القسمة بينه وبين شريكه فيما تدخله قسمة الإجبار، لم يجبه إلى ذلك حتى يثبت عنده ملكها؛ لأن في قسمة الإجبار حكماً عليه، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك. وإن سأله الشريكان القسمة أجابهما إليها، ولم يحتج إلى إثبات الملك؛ لأن يدهما دليل ملكهما، ولا منازع لهما، فيثبت لهما من حيث الظاهر. ولكنه يثبت في القضية أن قسمه إياه بينهما بإقرارهما، لا ببينة شهدت لهما بملكهما، وكل ذي حجة على حجته، لئلا يتخذ القسمة حجة على من ينازعه في الملك. [ باب الدعاوى ] لا تصح دعوى المجهول في غير الوصية والإقرار؛ لأن القصد في الحكم فصل الخصومة والتزام الحق، ولا يمكن ذلك في المجهول. فإن كان المدعى ديناً، ذكر الجنس والنوع والصفة. وإن كان عيناً باقية ذكر صفتها. وإن ذكر قيمتها، كان أحوط. وإن كانت تالفة لها مثل، ذكر صفتها. وإن ذكر القيمة كان أحوط. وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمتها. وإن كان سيفاً محلى بذهب، أو فضة، قومه بغير جنس حليته. وإن كان محلى بهما، قومه بما شاء منهما للحاجة. وإن ادعى حقاً من وصية أو إقرار، جاز أن يدعي مجهولاً؛ لأنهما يصحان بالمجهول. وإذا ادعى مالاً، لم يحتج إلى ذكر سببه الذي ملك به؛ لأن أسبابه كثيرة، فيشق معرفة كل درهم منه. فصل: وإن ادعى عقد نكاح، لزم ذكر شروطه، فيقول: تزوجتها بولي مرشد، وشاهدي عدل، وإذنها، إن كان إذنها معتبراً؛ لأنه مبني على الاحتياط. وتتعلق العقوبة بجنسه، فاشترط ذكر شروطه، كالقتل. وإن ادعى استدامة النكاح، ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه ذكر الشروط؛ لأنه يثبت بالاستفاضة التي لا يعلم معها اجتماع الشروط. والثاني: يلزم؛ لأنها دعوى في النكاح، أشبه العقد. وإن ادعى عقداً يستحق به المال، كالبيع والإجارة، لم يحتج إلى ذكر شروطه؛ لأن مقصوده المال، أشبه دعوى العين. ويحتمل أن يفتقر إلى ذلك لأنه عقد، فأشبه النكاح. وإن ادعى قصاصاً في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 نفس أو طرف، فلا بد من ذكر صفة الجناية، وأنها عمد، منفرداً بها، أو مشاركاً فيها، ويذكر صفة العمد؛ لأنه قد يعتقد ما ليس بعمد عمداً. والقتل مما لا يمكن تلافيه، فلا يؤمن أن يقتص ممن لا يجب القصاص فيه، وهو ما لا يمكن تلافيه، فوجب الاحتياط فيه. فصل: وما لزم ذكره في الدعوى، فلم يذكره، سأله الحاكم عنه ليذكره، فتصير الدعوى معلومة، فيمكن الحكم بها، والله أعلم. فصل: واذا ادعت المرأة النكاح على رجل، وذكرت معه حقاً من حقوق النكاح، سمعت دعواها؛ لأن حاصل دعواها دعوى الحق من المهر، والنفقة، ونحوهما، وذكر النكاح لبيان السبب. وإن لم تذكر معه حقاً، فذكر القاضي أن دعواها تسمع أيضاً؛ لأن النكاح يتضمن حقوقاً، فصح دعواها له، كالبيع. وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر، أن دعواها لا تسمع؛ لأنه حق عليها، فدعواها له إقرار، ولا يسمع مع إنكار المقر له. فصل: وإذا ادعى مالاً مضافاً إلى سببه، فقال: أقرضته ألفاً، أو أتلف علي ألفاً، فقال: ما أقرضني، وما أتلفت عليه، صح الجواب؛ لأنه نفى ما ادعى عليه. وإن قال: لا يستحق علي شيئاً، ولم يتعرض لما ذكر المدعي، صح الجواب أيضاً؛ لأنه إذا لم يستحق عليه شيئاً، برئ منه. فصل: وإذا ادعى على رجل عيناً في يده، أو ديناً في ذمته، فأنكره، ولا بينة له، فالقول قول المنكر مع يمينه، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» . رواه البخاري ومسلم. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة الحضرمي والكندي: «شاهداك أو يمينه» ؛ ولأن الأصل براءة ذمته من الدين، والظاهر من اليد الملك. وإذا تداعيا عيناً في أيديهما، ولا بينة، حلفا، وجعلت بينهما نصفين، لما روى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين تداعيا دابة ليس لأحدهما بينة، فجعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم» . رواه مسلم. ولأن يد كل واحد منهما على نصفها، فكان القول قوله فيه، كما لو كانت العين في يد أحدهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 وإن تداعيا عيناً في يد غيرهما، ولا بينة لواحد منهما، أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حلف أنها له وسلمت إليه، لما روى أبو هريرة «أن رجلين تداعيا عيناً لم يكن لواحد منهما بينة، فأمرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستهما على اليمين، أحبا أم كرها» . رواه أبو داود؛ ولأنهما تساويا، ولا بينة لهما، فيقرع بينهما، كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما. وإن كانت للمدعي أو لأحد المتداعيين بينة، حكم له بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث الحضرمي: «ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه» ؛ ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك، لا تهمة فيها، فكانت أولى من اليمين التي يتهم فيها. فصل: وإن ادعيا عيناً في يد غيرهما، فأقام كل واحد منهما بينة، ففيها ثلاث روايات، إحداهن، تقدم بينة المدعي، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» فجعل البينة للمدعي؛ ولأن بينة المدعي أكثر فائدة؛ لأنها تثبت شيئاً لم يكن. وبينة المنكر إنما تثبت ظاهراً دلت اليد عليه، فلم تفد؛ ولأنه يجوز أن يكون مستند بينة المنكر، رؤية التصرف، ومشاهدة اليد، فأشبهت اليد المفردة. والثانية: تقدم بينة المنكر؛ لأنهما تعارضتا، ومع صاحب اليد ترجيح بها، فقدمت، كالنصين إذا تعارضا والقياس مع أحدهما. والثالثة: إن شهدت بينة المدعى عليه بالسبب من نتاج، أو نسج، أو قطيعة، أو كانت أقدم تاريخاً، قدمت وإلا فلا، لما روى جابر «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دابة، أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة أنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي هي في يده» ؛ ولأنها إذا شهدت بالسبب، أفادت ما لا تفيد اليد، وترجحت باليد، فوجب ترجيحها، وكل من قضي له ببينة، لم يستحلف معها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شاهداك، أو يمينه، ليس لك إلا ذلك» ؛ ولأن اليمين تكفي وحدها في حق من شرعت في حقه، فالبينة أولى؛ لأنها أقوى. وسواء كان الخصم ممن يعبر عن نفسه، كالمكلف، أو ممن لا يعبر عن نفسه، كغيره، لما ذكرنا. فصل: فإن ادعى الخارج أن الدابة ملكه، أودعها إياه، أو أجره إياها، وأنكر الآخر، وأقاما بينتين، فبينة الخارج أولى. وقال القاضي: بينة الداخل أولى؛ لأنه الخارج في المعنى، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي» ؛ ولأن اليمين على الداخل، فكانت بينة الخارج مقدمة، كما لو لم يدع الوديعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 فصل: وإن تداعيا عيناً في يديهما، وأقام كل واحد منهما بينة أنها ملكه، تعارضتا، وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو موسى: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير، فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبعير بينهما نصفين» . رواه أبو داود؛ ولأن بينة الداخل أو الخارج مقدمة، فكل واحد خارج في نصفها، داخل في نصفها الآخر، فقدمت بينته في أحد النصفين. وهل يلزم اليمين كل واحد منهما في النصف المحكوم له به؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يلزم، لما ذكرنا. والثانية: تجب اليمين؛ لأن البينتين تساوتا فتساقطتا، فصارا كمن لا بينة لهما. وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حلف وأخذها؛ لأنهما لما تساويا وجب المصير إلى القرعة، كالعبيد في العتق؛ والأول أولى؛ للخبر والمعنى. فصل: وإن تداعيا عيناً في يد غيرهما، فاعترف أنه لا يملكها، وأقام كل واحد منهما البينة أنها له، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: تسقط البينتان، ويقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حلف أنها له وسلمت إليه؛ لأنهما تساويا من غير ترجيح بيد ولا غيرها، فوجب أن يسقطا، كالنصين ويصار إلى القرعة، كالعبيد إذا تساووا. وقد روى الشافعي حديثاً رفعه إلى ابن المسيب «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر، وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة، فأسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» . والثانية: تقسم العين بينهما، لحديث أبي موسى؛ لأنهما تساويا في الدعوى والبينة واليد، فوجب أن تقسم العين بينهما، كما لو كانت في أيديهما. والثالثة: يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، أخذها بغير يمين؛ لأن القرعة أوجبت العمل بإحدى البينتين، ولا حاجة إلى اليمين مع البينة. فصل: وإذا ادعى عيناً في يد إنسان، فأقر بها لغيره وصدقه المقر له، حكم له؛ لأنه مصدق فيما بيده، وقد صدقه المقر له، فصار كصاحب اليد، وتنتقل الخصومة إليه، وعلى المقر اليمين لأنه لا يعلم أنها للمدعي لأنه لو أقر بها له، لزمه غرمها، ومن لزمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 الغرم مع الإقرار، لزمته اليمين مع الإنكار. فإن نكل عنها مع طلبها منه، قضي عليه بالغرم وإن أكذبه المقر له، وقال: ليست لي، وكان للمدعي بينة حكم له. وإن لم يكن له بينة، ففيه وجهان: أحدهما: تدفع إليه؛ لأنه يدعيها ولا منازع له فيها، أشبه التي في يده؛ ولأن صاحب اليد لو ادعاها ثم نكل، قضي عليه، فمع عدم ادعائه لها أولى. والثاني: لا تدفع إليه؛ لأنه ليس له إلا مجرد الدعوى، فلا يحكم بها، كما لو أنكره الآخر، فعلى هذا يأخذها الإمام، يحفظها حتى يظهر صاحبها؛ لأنه لم يثبت لها مستحق، فهي كالضالة. ويحتمل أن تقر في يد المقر؛ لأنه لم يثبت صحة إقراره. فإن أقر المقر له بها للمدعي، سلمت إليه؛ لأنه قام مقام صاحب اليد لو ادعاها، فقام مقامه في الإقرار بها. وإن أقر بها صاحب اليد لغائب معين، صار الغائب الخصم فيها. فإن أقام المقر بينة أنها للغائب، سمعها الحاكم لإزالة التهمة، وإسقاط اليمين عنه، ولم يحكم بها للغائب؛ لأنه إنما يقضي بها إذا أقامها المدعي أو وكيله. وليس المدعي واحداً منهما. ومتى لم يكن للمدعي بينة، لم يقض له بها؛ لأنه لا يقضى على الغائب بغير حجة. فإن أقام بينة سمعها الحاكم، وقضى بها. والغائب على خصومته متى حضر، فإذا حضر فأقام بينة أنها ملكه، تعارضت البينتان، وأقرت في يد المدعي إن قلنا: إن بينة الخارج مقدمة؛ لأنه خارج. وإن قلنا: تقدم بينة الداخل، فهي للغائب؛ لأنه صاحب اليد، وإن ادعى الحاضر أنها معه بأجرة، أو عارية، وأقام بينة، لم يقض له بها؛ لأن ثبوت الإجارة والعارية يترتب على الملك، ولا يثبت الملك بها، فكذلك فرعها. وإن أقر الحاضر بها لمجهول، لم تسمع. وقيل: إن أقررت بها لمعروف، وإلا جعلناك ناكلاً، وقضينا عليك له. فإن أصر، قضي عليه بنكوله. فإن قال بعد ذلك: هي لي، لم يقبل في أحد الوجهين؛ لأنه اعترف أنها ليست له. والثاني: تسمع؛ لأن قوله ذلك لم يصح، فلم يمنع صحة الدعوى لنفسه. فصل: وإن ادعى أن هذه العين كانت ملكه، لم تسمع دعواه حتى يدعي ملكها في الحال؛ لأن الخلاف في ملكه لها في الحال. وإن ادعى ملكها في الحال، فشهدت بينته أنها كانت ملكه أمس، أو أنها كانت في يده أمس، لم تسمع لأنها شهدت بغير ما ادعاه. ويحتمل أن تسمع، ويقضى بها؛ لأنها تثبت الملك في الزمن الماضي، فيجب استدامته حتى يعلم زواله. فإن انضم إليها بيان سبب يد الثاني، فقالت: نشهد أنها ملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 هذا أمس، فغصبها هذا منه، أو سقطت، فالتقطها هذا، حكم له بها؛ لأنه تثبت أن يد الثاني عدوان، ليست دليلاً للملك، فيجب القضاء باستدامة الملك الماضي، وإن ادعى جارية أو ثمرة، فشهدت بينة أن الجارية بنت أمته، والثمرة ثمرة شجرته، لم يحكم له بها؛ لأنه يجوز أن تلدها، أو تثمرها قبل ملكه. فإن قالت مع ذلك: ولدتها في ملكها، وأثمرتها في ملكه، حكم له بها؛ لأنها شهدت أنها نماء ملكه، فصار كما لو شهدت أن الغزل من قطنه، وإن شهدت بينة أن الغزل من قطنه، أو الطير من بيضته، أو الدقيق من حنطته، حكم له بها؛ لأن الجميع عين ماله، وإنما تغيرت صفته. فصل: وإن كانت في يد زيد دار، فادعى آخر أنه ابتاعها من غيره وهي ملكه، فأقام ذلك بينة، حكم له بها؛ لأنه ابتاعها من مالكها. وإن شهدت أنه باعه إياها، وسلمها إليه، حكم له بها؛ لأنه لم يسلمها إليه إلا وهي في يده. وإن لم يذكر الملك ولا التسليم، لم يحكم بها؛ لأنه لا يمكن أن يبيعه ما لا يملكه، فلا تزال يد صاحب اليد. وإن ادعاها رجلان، فشهد لأحدهما رجلان، أن صاحب اليد غصبه إياها، وشهد للآخر شاهدان، أن صاحب اليد أقر له بها، حكم للمغصوب منه؛ لأنه ثبت أن صاحب اليد غاصب، وإقرار الغاصب غير مقبول. فصل: وإذا تداعى رجلان داراً ذكر كل واحد منهما أنه ابتاعها من زيد، ونقده ثمنها، أو ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد وهي ملكه، وادعى آخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه، ولكل واحد منهما بينة بدعواه، واختلف تاريخهما، فهي للأول؛ لأنه ابتاعها من مالكها، وإن استوى تاريخهما أو أطلقتا، أو أطلقت إحداهما وأرخت الأخرى، تعارضتا، فإن كانت الدار في يد أحدهما، ابتنى على بينة الداخل والخارج، وإن كانت في يد غيرهما، فادعاها لنفسه، وقلنا: تسقط البينتان، حلف لكل واحد منهما يميناً وأخذها. وإن قلنا: يستعملان، بأن يقرع بينهما، قرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف، وأخذها. وإن قلنا: تقسم بينهما، فلكل واحد منهما نصفها بنصف الثمن. وقد نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الكوسج، في رجل أقام البينة أنه اشترى سلعة بمائة، فأقام الآخر بينة أنه اشتراها بمائتين، فكل واحد منهما يستحق نصف السلعة بنصف الثمن، فيكونان شريكين. فإن لم يدعها صاحب اليد، فإن قلنا: تسقط البينتان، رجع إليه، فإن أقر بها لأحدهما، سلمت إليه، ويحلف كل واحد منهما للذي أنكره. وإن أقر بها لهما، قسمت بينهما، ويحلف لكل واحد منهما يميناً، ويحلف كل واحد منهما لصاحبه على النصف المحكوم له به، وإن قلنا: تستعمل البينتان، لم يفد إقراره شيئاً؛ لأنه قد ثبت زوال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 ملكه، وأن يده لا حكم لها، فصار كالأجنبي، ولو كان في يده عبد، فادعى رجل أنه اشتراه منه، وادعى العبد أنه أعتقه، وأقاما بينتين، فالحكم على ما مضى من التفصيل، ومتى قلنا: تقسم العين بينهما، عتق نصف العبد، وللآخر نصفه بنصف الثمن. فصل: فإن كان في يده دار، فادعى رجل أنه باعه إياها بمائة في رمضان، وأنه يستحق ثمنها عليه، وادعى آخر أنه باعه إياها في شوال، وأنه استحق عليه ثمنها، ولا بينة لهما، فأنكرهما حلف لكل واحد منهما يميناً، وبرئ. وإن أقاما بينتين بدعواهما، لزمه اليمين لكل واحد منهما؛ لأنه يمكن أن يشتريها من الأول في رمضان، ثم تصير للثاني، فيبيعها الآخر في شوال. وإن اتفق تاريخهما تعارضتا. فإن قلنا بسقوطهما، صارا كمن لا بينة لهما. وإن قلنا: يستعملان، قسم الثمن بينهما على رواية، ويقدم أحدهما بالقرعة رواية أخرى. وإن أطلقتا، أو أطلقت إحداهما وأرخت الأخرى، لزمه الثمنان لهما؛ لأنه أمكن صدق البينتين بأن يكونا في زمنين، فوجب تصديقهما كالمختلفي التاريخ، ويحتمل تعارضهما، لاحتمال استواء تاريخهما. والأصل براءة الذمة. والأول أولى. فصل: إذا قال لعبده: إن قُتِلْت، فأنت حر، فادعى العبد أنه قُتِلَ، وادعى الوارث أنه مات، ولا بينة لهما، فالقول قول الوارث مع يمينه. وإن أقام كل واحد منهما بينة، ففيه وجهان: أحدهما: يتعارضان، ويبقى العبد رقيقاً لأن كل واحدة منهما تثبت ما شهدت به، وتنفي ما شهدت به الأخرى، فهما سواء. والثاني: تقدم بينة العبد؛ لأنها تثبت القتل، وهو صفة زائدة على الموت، فقد تضمنت زيادة أثبتتها. وقول المثبت مقدم. وإن قال لأحد العبدين: إن مت في رمضان، فأنت حر، وقال للآخر: إن مت في شوال، فأنت حر، ولا بينة لهما، فأنكرهما الوارث، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل موته في غيرهما. والأصل بقاء الرق. وإن اعترف لهما، فالقول قول من يدعي موته في شوال؛ لأن الأصل بقاء الحياة. وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه، ففيه وجهان: أحدهما: يتعارضان؛ لأن موته في أحد الزمانين ينفي موته في الآخر، فيبقى العبدان على الرق. ذكره أصحابنا. وقياس المذهب أن يقرع بينهما ويعتق أحدهما؛ لأنا علمنا حرية أحدهما لا بعينه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 والوجه الثاني: تقدم بينة رمضان؛ لأنه يحتمل أنه خفي موته في رمضان على البينة الأخرى، وعلمته الأولى. وإن قال لعبد: إن مت من مرضي هذا، فأنت حر، وقال لآخر: إن برئت، فأنت حر، ولا بينة لهما، فالقول قول الأول؛ لأن الأصل عدم البرء، وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه، تعارضتا، والحكم فيها كالتي قبلها؛ لأن كل واحدة منهما تنفي ما أثبتته الأخرى، ويحتمل تقديم بينة البرء، ولأنه يجوز أن تعلمه إحداهما، وتخفى على الأخرى. فصل وإذا كان في يد رجل عين، فادعاها نفسان، وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما فيها، كالإرث، والشراء في صفقة واحدة، فأقر لأحدهما بنصفها، شاركه الآخر فيه؛ لأن دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء منها، وكذلك لو كان طعاماً، فهلك بعضه، كان باقيه بينهما، فيجب أن يكون المجحود، والمقر به بينهما، وإن لم يعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي الاشتراك، فأقر لأحدهما بنصفها، لم يشاركه الآخر؛ لأن دعواه لا تقتضي الاشتراك في كل جزء، وإن أقر له بجميعها، وكان المقر له قد أقر لشريكه في الدعوى بنصفها، لزمه دفعه إليه؛ لأنه أقر له به، فإذا وصل إليه، لزمه حكم إقراره، وإن لم يكن أقر له، وادعى جميعها، حكم له به، وانتقلت الخصومة في النصف إليه؛ لأنه يجوز أن يكون الجميع له، ويخص النصف بالدعوى؛ لأن له عليه بينة، أو يظن أنه يقر له به، ومن يملك الجميع، فهو يملك النصف، فإن قال: النصف لي، والباقي لا أعلم صاحبه، أعطي النصف الذي ادعاه، وفي النصف الباقي ثلاثة أوجه، تقدم ذكرها فيمن ادعى عيناً في يد رجل، فأقر بها لغيره، وكذبه المقر له. فصل فإن كان في أيديهما دار، ادعى أحدهما نصفها، وادعاها الآخر كلها، ولا بينة لهما، فهي بينهما نصفين، وعلى مدعي النصف اليمين لصاحبه؛ لأن يده على نصفها، فالقول قوله فيه مع يمينه، ولا منازع لصاحبه في نصفها الآخر وهو في يده، فإن أقام كل واحد منهما بينة، تعارضتا، وأيهما يقدم؟ ينبني على الخلاف في تقديم بينة المدعي والمنكر. وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي، فتكون الدار كلها لمدعي الكل، وإن كانت الدار في يد ثالث لا يدعيها، فلصاحب الكل نصفها الذي لا ينازع فيه، فإن لم يكن لهما بينة، أقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف، وأخذ النصف الآخر، وإن كان لأحدهما بينة، حكم بها، وإن كانت لكل واحد منهما بينة، تعارضتا، وسقطتا، وصارا كمن لا بينة لهما، يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف وأخذ النصف، وعنه: تقسم بينهما، فيصير لمدعي الكل ثلاثة أرباعها، على ما مضى فيمن تداعيا عيناً في يد غيرهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 فصل ولو ادعى إنسان أن أباه مات، وخلفه وأخاً له غائباً، أو صغيراً أو مجنوناً، وخلف عيناً لهما في يد إنسان، فأنكر المدعى عليه، فأقام المدعي بينة بدعواه، ثبتت العين للميت، وانتزعت من يد المنكر، ودفع نصفها إلى المدعي، وحفظ الحاكم نصيب الغائب له، ولو ادعى الدار له ولأجنبي، لم ينزع الحاكم نصيب الأجنبي من المنكر؛ لأن الشريك ينوب عن نفسه، وها هنا يثبت الحق للميت، فتقضى ديونه منه، وتنفذ وصاياه، ولأن الأخ ها هنا يشارك أخاه فيما أخذه إذا تعذر عليه أخذ الباقي، بخلاف الأجنبي، وإن كان المدعى ديناً في ذمة إنسان، فهل يقبض الحاكم نصيب أخي المدعي؟ فيه وجهان: أحدهما: يقبضه؛ لأنه أنفع لصاحبه؛ إذ قد تتعذر البينة عليه عند قدومه، أو يعزل الحاكم، فوجب أن يقبضه كالعين. والثاني: لا يقبضه؛ لأن الذمة أحوط له من يد الأمين؛ لأنه قد يتلف إذا قبضه. فصل إذا مات رجل وخلف ولدين، مسلماً وكافراً، فادعى كل واحد منهما أن أباه مات على دينه، ليرثه دونه أخيه، فإن عُلم أصل دينه، فالقول قول من يبقيه عليه مع يمينه؛ لأنه الأصل، فلا يُزال بالشك، وإن لم يُعرف أصل دينه، فقال الخرقي: القول قول الكافر؛ لأنه لو كان مسلماً أصلياً، لم يقر ولده على الكفر في دار الإسلام، فيكون ذلك دليلاً على أنه كان كافراً، قال ابن أبي موسى: وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: أن الميراث بينهما نصفين، فإن أقام كل واحد منهما بينة أن أباه مات على دينه، فقال الخرقي وابن أبي موسى: يكونان كمن لا بينة لهما، وقد ذكرنا أن البينتين إذا تعارضتا، قدم أحدهما بالقرعة في وجه، وتقسم العين بينهما في وجه، ويحتمل أن تقدم بينة المسلم ها هنا؛ لأنه يجوز أن تكون اطلعت على أمر خفي على البينة الأخرى، وإن قالت إحدى البينتين: نعرفه مسلماً، وقالت الأخرى: نعرفه كافراً، واختلف تاريخهما، عمل بالآخرة منهما؛ لأنه ثبت بها أنه انتقل عما شهدت به الأولى، وإن اتفق تاريخهما، تعارضتا، وإن أطلقتا، أو أطلقت إحداهما، قدمت بينة المسلم؛ لأن الإسلام يطرأ على الكفر، وذكر القاضي أن قياس المذهب فيهما إذا لم يكن لهما بينة، مثل ما إذا تداعيا عيناً، وإن كانت التركة في أيديهما، تحالفا، وكانت بينهما، وإن كانت في يد غيرهما، أقرع بينهما، والأول أولى؛ لأن صاحب اليد معترف أن هذه تركة للميت، فلا تدل يده على الملك، وإن ادعى كل واحد منهما أن هذه التركة لي ورثتها عن أبي، ولم يعترف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 أحدهما بأخوة الآخر، فهي كما قال القاضي، سواء ذكرا أباً واحداً أو أبوين، وإن خلف ابناً مسلماً، أو أخاً كافراً، فاختلف في دينه عند موته، فالحكم على ما ذكرناه، وإن خلف أبوين وابنين، فادعى الأبوان، أنه مات على دينهما، وادعى الابنان، أنه مات على دينهما، فذلك بمنزلة معرفة أصل دينه؛ لأن الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه، فيكون القول قولهما ما لم تقم بينة بخلافه. فصل وإن خلف ابنين، كان أحدهما عبداً، فادعى أنه عتق قبل موت أبيه، وأنكره أخوه، فالقول قول المنكر؛ لأن الأصل عدم العتق، فإن اتفقا على أنه عتق في رمضان، واختلفا في وقت موت الأب، فقال الحر: مات في شعبان، وقال الآخر: مات في شوال، فالقول قول المعتق؛ لأن الأصل بقاء الحياة، وكذلك إن مات مسلم، وله ولدان مسلم وكافر، فأسلم الكافر، واختلفا في وقت إسلامه. فصل وإذا مات رجل، فادعى إنسان أنه وارثه، لم تسمع الدعوى حتى يبين سبب الإرث، لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يرث به، ولا يقبل إلا ببينة تشهد أنه وارثه، لا نعلم له وارثاً سواه، ويبين السبب، كما يبين المدعى، فيدفع إليه ميراثه؛ لأن الظاهر عدم وارث، فإن لم يقولا: لا وارث له سواه، وكان للمشهود له فرض، لا يمكن إسقاطه، أعطي اليقين كالزوج يعطى ربعاً عائلاً، والزوجة تعطى ربع تسع، وكل واحد من الأبوين يعطى سدساً عائلاً، ولا يعطى من سوى هؤلاء شيئاً؛ لأنه يحتمل أن يكون محجوباً، أو لا يعلم ماله بيقين كالولد، فإن قالا: نشهد أن هذا ولد فلان، ولا نعلم له ولداً سواه، قبلت شهادتهما، ويدفع إليه ربع وسدس، إن كان ذكراً؛ لأنه أقل ما يرث، مع زوج وأبوين، والخمسان إن كان أنثى؛ لأنه أقل ما يرث مع زوج وأبوين وبنت ابن، فإن كان الميت رجلاً، فأقل ما يرث الابن نصف وثلث ثمن، والبنت النصف عائلاً، ويبعث الحاكم إلى البلدان التي دخلها الميت، فيسأل عن أحواله، ويستكشف، فإن لم يظهر له وارث، توقف مدة بحيث لو كان له وارث، ظهر، فإن لم يظهر له غيره، دفع إليه كمال ميراثه؛ لأن البحث مع هذه الشهادة، كشهادة أهل الخبرة، أنهم لا يعلمون وارثاً سواه. فصل ولو مات رجل، وخلف ابناً وزوجة وداراً، فادعت الزوجة أنه أصدقها إياها، وأنكر الابن، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الصداق، فإن أقامت بينة بدعواها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 وأقام الابن بينة، أن أباه تركها ميراثاً، قدمت بينة الزوجة؛ لأنها تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الإرث، وكذلك إن ادعت هي أو غيرها شراءها، أو اتهابها، فالحكم كذلك لما ذكرنا. فصل وإذا تنازع الزوجان في متاع البيت حال الزوجية، أو بعد الفرقة، أو تنازع ورثتهما بعد موتهما، أو أحدهما وورثة الآخر، ولا بينة لهما، حكم بما يصلح للرجال من ثيابهم، وعمائمهم، وسلاحهم، ونحو ذلك للرجل، وما يصلح للنساء من ثيابهن، ومقانعهن، وحليهن، ومغازلهن، ونحو ذلك للمرأة، وما يصلح لهما من الفرش، والحصر، والآنية، ونحو ذلك، فهو بينهما؛ لأن الظاهر أن من يصلح له شيء، فهو له، فرجح قوله فيه، كصاحب اليد. قال القاضي: هذا إذا كانت أيديهما عليه من طريق الحكم، بأن يكون في منزلهما، فإن كان في يد أحدهما المشاهدة، فهو له، وإن كان في أيديهما، فهو بينهما؛ لأن اليد المشاهدة أقوى، فرجح بها. فصل وإن اختلف صانعان في دكان في الآلات التي فيه، حكم بآلة كل صناعة لصاحبها؛ لأن الظاهر معه، وإن تنازعا في شيء خارج من الدكان، لم يرجح دعوى أحدهما، بصلاحية المدعى له؛ لأنه إنما يصلح للترجيح مع اليد الحكمية، ولا يكفي مع انفراده، كما لو اختلف الزوجان في متاع خارج من البيت. فصل وإن تنازع رب الدار، والمكتري في شيء في الدار المكتراة، وكان مما يتبع الدار في البيع، كالسلم المسمر، والرف المسمر، والخابية المنصوبة، والمفاتيح، فهو لرب الدار؛ لأنه من توابعها، فأشبه الشجرة المغروسة فيها، فإن كان مما لا يتبعها، كالفرش، والأواني، فهو للمكتري؛ لأن يده عليه، والعادة أن الإنسان يؤجر داره فارغة، وإن تنازعا في رفوف موضوعة على أوتاد فعن أحمد: أنه لرب الدار؛ لأن الظاهر أنه يترك الرفوف فيها، فأشبه المتصلة، وقال القاضي: يتحالفان ويكون بينهما؛ لأن هذا الظاهر معارض بكون الرفوف لا تتبع الدار في البيع، فاستويا. وقال أبو الخطاب: إن كان لها شكل منصوب في الدار فهو لصاحبها؛ لأن أحدهما له، فكان الآخر له، وإن لم يكن لها شكل منصوب، فهو للمكتري؛ لأن يده عليه، وهو مما لا يتبع الدار، فأشبه الفرس. وإن اختلفا في مصرع باب مقلوع، فالحكم فيه، كالحكم في الرف، إلا أن القاضي قال: إن كان له شكل في الدار، فالقول قول رب الدار، وإلا فالقول قول المكتري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 فصل وإن اختلف رب الدار والخياط الذي فيها، في الإبرة والمقص، فهما للخياط؛ لأن تصرفه فيهما أظهر، وإن اختلفا في الثوب، فهو لصاحب الدار؛ لأن الظاهر أنه لا يحمل قميصه يخيطه في دار غيره، وإن اختلف النجار ورب الدار، فالقول قول النجار في القدوم والمنشار، والقول قول رب الدار في الرفوف والخشب، لما ذكرناه، وإن تنازع رجلان دابة، أحدهما راكبها، أو له حمل عليها، والآخر آخذ بزمامها، فهي لراكبها؛ لأن تصرفه فيها أقوى، ويده آكد، فإن كان لأحدهما عليها حمل، والآخر راكبها، فهي للراكب؛ لأن يده عليها وعلى الحمل، وإن اختلف صاحب الدابة وراكبها في حملها، فهو لراكبها؛ لأن يده على الدابة، فتكون يده على حملها، وإن تنازعا في رحل الدابة وسرجها، فهو لصاحبها؛ لأنه تابع للدابة، والعادة جارية بأن ذلك يكون لصاحبها. فصل وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببناء أحدهما عقداً، لا يمكن إحداثه، فالقول قوله فيه؛ لأن الظاهر أنه بناه مع ملكه، وإن كان له عليه أزج فهو له؛ لأن الظاهر أنه لا يضع أزجه إلا على ملكه، ولا يرجح أحدهما بوضع خشبه عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن لا يمنع المرء جاره من وضع خشبه على حائطه، وإن كان معقوداً ببناء كل واحد منهما، أو محلولاً منهما، أو لكل واحد منهما عليه أزج، أو لا أزج لواحد منهما تحالفا، وكان بينهما؛ لأنهما استويا فيه مع ثبوت يديهما عليه، فأشبه ما لو تنازعا داراً في يديهما. وإن تنازع صاحب العلو والسفل السقف الذي بينهما، فهو بينهما؛ لأنه حاجز توسط بين ملكيهما، أشبه الحائط بين الملكين، وإن تنازعا درجة تحتها مسكن، فهي بينهما؛ لأنهما تساويا في الانتفاع بها، وإن لم يكن تحتها مسكن، أو تنازعا سلماً منصوباً، فهو لصاحب العلو؛ لأنها وضعت لنفعه، وإن كانت تحتها جب، فهي لصاحب العلو؛ لأن المقصود بها نفعه، وإن تنازعا حائط العلو، فهو لصاحبه؛ لأنه مختص بنفعه، وإن تنازعا حائط السفل، احتمل أن يكون بينهما؛ لأنه لنفعهما، فهو كالسلم تحته مسكن واحتمل أن يكون لصاحب السفل؛ لأنه لم تجر العادة ببيت لا حائط له، وإن تنازعا صحن الدار والدرجة فيه، فهو بينهما؛ لأن لكل واحد منهما عليه يداً، وإن لم يكن فيه درجة، فهو لصاحب السفل، ولهذا يملك منع صاحب العلو من الاستطراق فيه، وإن تنازعا مسناة بين أرض أحدهما، ونهر الآخر، فهي بينهما؛ لأنه حائط بين ملكيهما، ينتفع به كل واحد منهما، أشبه الحائط بين الدارين، وإن تنازعا عمامة في يد أحدهما طرفها، وباقيها في يد الآخر، تحالفا وكانت بينهما؛ لأن يد كل واحد منهما ثابتة عليها. وإن كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 أحدهما لابسها، والآخر آخذ بطرفها، أو تنازعا قميصاً، أحدهما لابسه، والآخر آخذ بكمه، فهو للابسه؛ لأن المنتفع به المتصرف فيه، وإن تنازعا عبداً، عليه ثياب لأحدهما، فهما سواء؛ لأن نفع الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحبه. فصل وإن كان في يده غلام بالغ عاقل، فادعاه عبداً له، فصدقه، حكم له بملكه، وإن كذبه، فالقول قوله؛ لأن الظاهر الحرية، وإن كان طفلاً لا يميز، فهو للمدعي؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، أشبه البهيمة، فإن بلغ فقال: إني حر، لم يقبل منه؛ لأنه حكم برقه قبل دعواه، وإن لم يدع ملكه، لكنه كان في يده يتصرف فيه، فهو كما لو ادعى رقه؛ لأن اليد دليل الملك، فإن ادعى أجنبي نسبه، ثبت ولم يزل ملك سيده؛ لأنه يجوز أن يكون ولده وهو مملوك إلا أن يكون المدعي امرأة، فتثبت حرية ولدها، أو يكون رجلاً عربياً، فإن فيه روايتين: إحداهما: لا يسترق ولده فيحكم بحريته حينئذ، وإن كان الصبي مميزاً، فأنكر رق نفسه، ففيه وجهان: أحدهما: لا يثبت رقه؛ لأنه معرب عن نفسه في دعوى الحرية، فأشبه البالغ. والثاني: يثبت الملك عليه؛ لأنه لا قول له، فأشبه الطفل، ولو ادعى رجلان رق كبير في أيديهما، فأقر لأحدهما، فهو لمن أقر له؛ لأن رقه إنما يثبت بإقراره، وإن جحدهما، فالقول قوله، فإن أقام كل واحد منهما بينة بملكه تعارضتا، فإن قلنا بسقوطهما، رجع إلى قوله، وإن قلنا بقسمته بينهما أو بقرعته بينهما، عمل على حسب ذلك. فصل ولو كان في يده صغيرة، فادعى نكاحها، لم تقبل دعواه، ولا يخلى بينه وبينها إلا أن تكون بينة؛ لأن النكاح لا يثبت إلا بعقد وشهادة، بخلاف الرق، فإذا كبرت، واعترفت له بالنكاح، قبل إقرارها والله أعلم. فصل ومن كان له حق على من يقر به ويبذله، لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه؛ لأن الخيرة إلى الغريم في تعيين ما يقضيه، فإن أخذ من ماله شيئاً بغير اختياره، لزمه رده؛ لأنه لا يجوز أن يتملك غير ماله بغير ضرورة، فإن أتلفه، صار ديناً في ذمته، فإن كان من جنس حقه تقاص الدينان، وتساقطا، وإن كان من غير جنسه، صار دين كل واحد منهما فى ذمة الآخر. وإن كان من عليه الدين مانعاً له، بجحد، أو تعد، فالمذهب أنه ليس له الأخذ أيضاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 تخن من خانك» والأخذ من ماله بغير علمه خيانة، ولأنه إن أخذ من غير جنس حقه، فهي معاوضة بغير تراض منهما، فلا يجوز؛ لقول الله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وإن أخذ من جنسه، فليس له تعيين الحق بغير رضى صاحبه، كحالة البذل، قال ابن عقيل: وجعل أصحابنا المحدثون لجواز الأخذ وجهاً، وخرجه أبو الخطاب احتمالاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» حين أخبرته أن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيها ما يكفيها، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن محلوب ومركوب بنفقته» ، فعلى هذا إن أخذ من جنس حقه، أخذ قدره، وإن أخذ من غير جنسه، اجتهد في تقويمه، كقولنا في المرتهن: يركب ويحلب بقدر العلف. فصل وإذا ادعى حقاً على إنسان، وأقام به شاهدين، فلم يعرف الحاكم عدالتهما، فسأل حبس غريمه حتى تثبت عدالة شهوده، أجيب إليه؛ لأن الظاهر عدالة المسلم، ولأن الذي على الشاهد قد أتى به، وإنما بقي ما على الحاكم، وهو الكشف عن عدالة الشهود. وإن أقام شاهداً واحداً في حق، لا يثبت إلا بشاهدين، وسأل حبس غريمه، ليقيم آخر، لم يحبس؛ لأن الحبس عذاب، فلا يتوجب قبل تمام البينة، وإن كان الحق مما يثبت بشاهد واحد، احتمل أن يحبس؛ لأن الشاهد حجة فيه، واليمين إنما هي مقوية، واحتمل أن لا يحبس؛ لأن الحجة ما تمت، ويحتمل أنه إن كان المدعي باذلاً لليمين، ولم تثبت عدالة الشاهد، حبس؛ لأنها في معنى التي قبلها، وإن كان التوقف عن الحكم لغير ذلك، لم يحبس؛ لأنه إن حبس ليقيم شاهداً آخر، فهي كالتي لا تثبت إلا بشاهدين، وإن حبس ليحلف الخصم، فلا حاجة إلى الحبس مع إمكان اليمين في الحال، وكل موضع حبس على تعديل الشهود، استديم حبسه حتى تثبت عدالتهم، أو فسقهم، وإن حبس، ليقيم شاهداً آخر، حبس ثلاثاً، فإن أقام الخصم شاهداً، وإلا خلي سبيله، وإن ادعى العبد أن سيده أعتقه، وأقام شاهدين، فلم يعدلا، فسأل الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة شهوده، فعل ذلك، ويؤخره الحاكم، وينفق عليه من كسبه لما ذكرنا فيما تقدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 [ باب اليمين في الدعاوى ] ومن ادعى حقاً من المال، أو يقصد به المال، كالبيع، والإجارة، فأنكر المدعى عليه، فعليه اليمين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين، على المدعى عليه» رواه مسلم ورواه البخاري بمعناه. ولحديث الحضرمي والكندي، فأما غير ذلك من الحقوق، وهو ما لا يثبت إلا بشاهدين، وهو القصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء، ففيه روايتان: إحداهما: لا يستحلف فيها؛ لأن البدل لا يدخلها، فلم يستحلف فيها، كحقوق الله تعالى. والثانية: يستحلف في الطلاق، والقصاص، والقذف. وذكر الخرقي: أنه يستحلف في مدة الإيلاء، وتستحلف المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها، قبل رجعة زوجها، وذكر أبو الخطاب: أنه يستحلف في كل حق لآدمي، لعموم الخبر، وهو ظاهر في القصاص؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لادعى قوم دماء رجال وأموالهم» ، ولأنها دعوى صحيحة في حق آدمي فيستحلف عليه، كدعوى المال، فإذا توجهت اليمين عليه في المال، فحلف، برىء، وإن نكل، قضي عليه بعد أن يقول له الحاكم: إن حلفت، وإلا قضيت عليك ثلاثاً. ولا ترد اليمين على المدعي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اليمين على المدعى عليه» ، فحصرها في جانبه. وادعى زيد بن ثابت على ابن عمر: أنه باعه عبداً يعلم عيبه عند عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: أحلف أنك ما بعته وبه عيب علمته، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد، ولم يرد اليمين، وقال أبو الخطاب: ترد اليمين على المدعي، فيحلف، ويحكم له بما ادعاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 وقال: قد صوبه أحمد، وقال: ما هو ببعيد، يحلف ويستحق، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رد اليمين على طالب الحق» رواه الدارقطني. ولا ترد إلا أن يردها المدعى عليه، فإن نكل المدعي عن اليمين أيضاً، أخر الحكم حتى يحتكما في مجلس آخر. فإن كانت الدعوى في غير المال، فنكل المدعى عليه، لم يقض بالنكول، وهل يحبس حتى يقرأ ويحلف، أم يخلى سبيله؟ على وجهين: أصلهما إذا نكلت الزوجة عن اللعان، وروي عن أحمد في القذف والقصاص فيما دون النفس: أنه يقضى فيه بالنكول، إلا أن أبا بكر قال: هو قول قديم، المذهب على خلافه. فصل واليمين المشروعة التي يبرأ بها المطلوب هى اليمين بالله تعالى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] ، وقال سبحانه: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] ، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لركانة بن عبد يزيد في الطلاق: الله ما أردت إلا واحدة؟ قال: الله ما أردت إلا واحدة» . وسواء كان الحالف مسلماً، أو كافراً، عدلاً أو فاسقاً؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للحضرمي المدعي على الكندي: ليس لك إلا يمينه، فقال الحضرمي: إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، قال: ليس لك منه إلا ذلك» . «وقال الأشعث بن قيس: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني فقدمته إلى النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك بينة؟ قلت لا، قال لليهودي: احلف ثلاثاً، قلت: إذاً يحلف، فيذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] » رواه أبو داود وأين حلف، ومتى حلف، أجزأ، لظاهر ما روينا، وحلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حكومة لأبي في النخل في مجلس زيد، فلم ينكره أحد. واختار الخرقي تغليظها في حق الكافر خاصة في المكان واللفظ، فقال: واليمين التي يبرأ بها المطلوب، هي اليمين بالله، إلا أنه إن كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 يهودياً، قيل له: قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى، وإن كان نصرانياً، قيل له: قل: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وإن كان لهم مواضع يعظمونها، ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين، حلفوا فيها، لما روى أبو هريرة قال: «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني لليهود: نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى؟» رواه أبو داود. وعلى هذا يحلف المجوسي: قل: والله الذي خلقني ورزقني، ويحلف الوثني، ومن لا يعبد الله، بالله وحده، واختار أبو الخطاب: أن الحاكم إن رأى تغليظها في حق المسلم والكافر في اللفظ، والمكان، والزمان، فعل وتغليظها في حق المسلم باللفظ، مثل قوله: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية. وفي الزمان أن يحلف بعد العصر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] ويحلف بين الأذانين، وفي المكان: أن يحلف بين الركن والمقام بمكة، وعند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، وعند الصخرة بالقدس، وعند المنبر في سائر المساجد، لما روى مالك في الموطأ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار» ولأنه ثبت التغليظ في أهل الذمة، فنقيس عليهم غيرهم، ولا تغلظ إلا فيما له خطر، كالنصاب من المال، والقصاص، والطلاق، والعتق ونحوه. فصل ويستحلف على حسب جوابه، فإذا ادعى عليه قرضاً، أو بيعاً فأجاب بأنه: ما أقرضني، ولا باعني، حلف على ذلك، وإن أجاب: بأنه لا يستحق علي شيئاً، حلف عليه؛ لأن اليمين شرعت لتحقيق جوابه، وتأكيد صدقه فيما أخبر به، فكانت على حسبه، فإن ادعى ألفاً، فجوابه لا يستحق علي الألف، ولا شيئاً منها، أو لا يستحق علي شيئاً، ويحلف كذلك، ولا يكتفى منه بأنه لا يستحق علي الألف؛ لأن ذلك لا ينفي استحقاقه بعضها، وإن ادعى على معسر حقاً هو عليه، لم يجز له أن يحلف أنه لا يستحق علي شيئاً؛ لأنه كذب، فإن الحق في ذمته. فصل ومتى كانت الدعوى على الخصم في نفسه، حلف على البتات في النفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 والإثبات، لما روى ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «استحلف رجلاً، فقال: قل: والله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء، رواه» أبو داود ولأن له طريقاً إلى العلم به، فلزمه القطع بنفيه. فإن كانت الدعوى عليه في حق غيره في الإثبات، حلف على البت؛ لأن له طريقاً إلى العلم به، وفي النفي يحلف على نفي علمه، نص عليه أحمد وذكر حديث القاسم بن عبد الرحمن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون. » وفي حديث الحضرمي: «ولكن أحلفه: والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه» رواه أبو داود: ولأنه لا يمكنه الإحاطة بنفي فعل غيره، فلم يكلف ذلك، وذكر ابن أبي موسى عنه: أنه قال: على كل حال اليمين على العلم فيما يدعي عليه في نفسه، أو فيما يدعي على ميته، قال: وبالأول أقول، قال: وعنه فيمن باع سلعة، فظهر المشتري على عيب بها، وأنكره البائع، هل اليمين على علمه، أو على البتات؟ على روايتين. وإن باع عبداً فأبق عند المشتري، هل يحلف على علمه، أو على أنه لم يأبق عنده؟ على روايتين. فصل وإذا ادعى عليه جماعة حقاً، فأنكر، لزمه لكل واحد يمين؛ لأنه منكر لحق كل واحد منهم، فإن قال: أنا أحلف للجميع يميناً واحدة، لم يقبل منه، وإن رضي الجماعة بيمين واحدة، جاز؛ لأن الحق لهم، لا يخرج عنهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 [ كتاب الشهادات ] تحملها وأداؤها فرض؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] . وقوله سبحانه: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، ولأنها أمانة، فيلزمه أداؤها عند طلبها، كالوديعة، وهي فرض كفاية، إن لم يوجد من يكتفى به غير اثنين، تعين عليهما؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بهما، وإن قام بها من يكفي، سقطت عمن سواهم؛ لأن القصد حفظ الحقوق، وقد حصل. ويستحب الإشهاد على العقود كلها؛ لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]- يعني: في المداينة -. ولا يجب في عقد غير النكاح والرجعة؛ لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يتبايعون في عصره في الأسواق من غير إشهاد، فلم ينكر عليهم، ولأن في إيجابه حرجاً، فسقط بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . فصل ومن كانت عنده شهادة لآدمي عالم بها، لم يشهد حتى يسأله صاحبها، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون» ، متفق عليه. وإن لم يعلم بها، استحب إعلامه بها، وله أداؤها قبل إعلامه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» رواه أبو داود، فتعين حمل الحديث على هذه الصورة، جمعاً بين الخبرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 ومن كانت عنده شهادة في حد الله، لم يستحب أداؤها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ستر عورة مسلم، ستره الله في الدنيا والآخرة» . وتجوز الشهادة به؛ لقول الله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] ، والله أعلم. [ باب من تقبل شهادته ومن ترد ] يعتبر في الشاهد المقبول شهادته ستة شروط: أحدها: العقل، فلا تقبل شهادة طفل، ولا مجنون، ولا سكران، ولا مبرسم؛ لأن قولهم على أنفسهم لا يقبل، فعلى غيرهم أولى. والثاني: البلوغ، فلا تقبل شهادة صبي؛ لقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، والصبي ليس من رجالنا، ولأنه ليس بمكلف، أشبه المجنون، وعنه: تقبل شهادة ابن العشر إذا كان عاقلاً؛ لأنه يؤمر بالصلاة، ويضرب عليها، أشبه البالغ. وعنه: تقبل شهادته في الجروح خاصة، إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها؛ لأنه قول ابن الزبير، والمذهب الأول. والثالث: الضبط فلا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله، لاحتمال أن يكون من غلطه، وتقبل شهادته من يقبل ذلك منه؛ لأن أحداً لا يسلم من الغلط. والرابع: النطق، فلا تقبل شهادة الأخرس بالإشارة؛ لأنها محتملة، فلم تقبل، كإشارة الناطق، وإنما قبلت في أحكامه المختصة به، للضرورة، وهي ها هنا معدومة. والخامس: الإسلام، فلا تقبل شهادة كافر بحال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وقال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، والكافر ليس بعدل، ولا مرضي، ولا هو منا، إلا أن شهادة أهل الكتاب، تقبل في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم، ويستحلف مع شهادته بعد العصر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] الآيات، نزلت في تميم الداري وعدي وكانا نصرانيين، شهدا بوصية مولى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 لعمرو بن العاص، روى هذه القصة أبو داود وغيره، وروى حنبل عن أحمد: أن شهادة بعضهم على بعض جائزة، لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة بعض أهل الذمة على بعض» ، رواه ابن ماجة، ولأن بعضهم يلي بعضاً، فتجوز شهادتهم عليهم، كالمسلمين، والمذهب الأول. قال الخلال: غلط حنبل فيما رواه لا شك فيه، والخبر يرويه مجالد، وهو ضعيف، ويحتمل أنه أراد اليمين فإنها شهادة. فصل الشرط السادس: العدالة، فلا تقبل شهادة فاسق؛ لقول الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه» ، رواه أبو داود. ويعتبر في العدالة شيئان: أحدهما: اجتناب الكبائر، والإدمان على الصغائر، والكبائر كل ما فيه حد، أو وعيد، فمن فعل كبيرة، أو أكثر من الصغائر، فلا تقبل شهادته؛ لأنه لا يؤمن من مثله شهادة الزور، ولأن الله تعالى نص على القاذف، فقسنا عليه مرتكب الكبائر، واعتبرنا في مرتكب الصغائر الأغلب؛ لأن الحكم للأغلب، بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] ، والآية التي بعدها. ولا يقدح فيه في عمل صغيرة نادراً؛ لأن أحداً لا يسلم منها، ولهذا روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما» والثاني: المروءة، فلا تقبل شهادة غير ذي المروءة، كالمغني، والرقاص، والطفيلي، والمتمسخر، ومن يحدث بمباضعة أهله، ومن يكشف عورته في الحمام، أو غيره، أو يكشف رأسه في موضع لا عادة بكشفه فيه، ويمد رجليه في مجمع الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 وأشباه ذلك مما يجتنبه أهل المروءات؛ لأنه لا يأنف من الكذب، بدليل ما روى أبو مسعود البدري، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح، فاصنع ما شئت» ، وفي أصحاب الصنائع الدنيئة، كالكساح، والزبال، والقمام، والقراد، والكباش، والمشعوذ، والحجام وجهان: أحدهما: لا تقبل شهادته؛ لأن هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات، فأشبه ما قبله. والثاني: تقبل شهادتهم إذا حسنت طريقتهم في دينهم؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وألحق أصحابنا بهذه الصنائع، الحياكة، والدباغة، والحراسة، لدناءتها، والأولى في هذه قبول الشهادة؛ لأنه قد تولاها كثير من الصالحين وأهل المروءة. ومن كانت صناعته محرمة، كصانع المزامير، والطنابير، لا تقبل شهادته؛ لأنه مدمن على المعاصي، ساقط المروءة، وكذلك المقامر؛ لأن القمار من الميسر الذي أمر الله باجتنابه، وفيه دناءة، وسفه، وأكل مال بالباطل. فصل ويحرم اللعب بالنرد والشطرنج، وإن خلا من القمار، لما روى أبو موسى قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من لعب بالنردشير، فقد عصى الله ورسوله» ، رواه أبو داود. وعن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لله تعالى ثلاثمائة وستين نظرة، ليس لصاحب الشاه فيها نصيب» ، رواه أبو بكر. ومر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] ، ولأنه لعب يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، فأشبه القمار، والنرد أشد من الشطرنج، نص عليه أحمد للاتفاق عليه، وثبوت الخبر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 فأما اللعب بالحمام، فإن كان يقصد به تعليمها حمل الكتب ونحوها مما تدعو الحاجة إليه، فلا بأس به؛ لأنه كتأديب الفرس، وإن كان لغرض محرم من القمار، أو أخذ حمام غيره ونحوه، فهو محرم، وإن كان عبثاً، فهو دناءة وسفه، فما دام عليه صاحبه من المحرم والسفه، لم تقبل شهادته، لزوال عدالته، وما ندر لم يمنع؛ لأنه من الصغائر، فأما اللعب بآلات الحرب، كالمناضلة، وتأديب الفرس، والثقاف، فمندوب إليه، لما فيه من القوة للجهاد، وقد لعب الحبشة بالحراب والدوق، بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده. فصل وهي نوعان: محرم: وهي الآلات المطربة، من غير غناء كالمزمار، وسواء كان من عود أو قصب، كالشبابة، أو غيره، كالطنبور، والعود، والمعزفة، لما روى أبو أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله بعثني رحمة للعالمين، وأمرني بمحق المعازف والمزامير» رواه سعيد في " سننه "، ولأنها تطرب، وتصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، فحرمت كالخمر. النوع الثاني: مباح، وهو: الدف في النكاح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف» رواه الترمذي، وابن ماجة. وفي معناه، ما كان في حادث سرور، ويكره في غيره، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كان إذا سمع صوت الدف، بعث فنظر، فإن كان في وليمة سكت، وإن كان في غيره، عمد بالدرة، وهو مكروه للرجل على كل حال، لتشبهه بالنساء. وأما الضرب بالقصب، فليس بمطرب، فلا يحرم، وإنما هو تابع للغناء، فيتبعه في الكراهة، ومن أدمن على شيء من ذلك، ردت شهادته؛ لأنه إما معصية، وإما دناءة وسقوط مروءة. فصل قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يعجبني الغناء؛ لأنه ينبت النفاق في القلب، وقال: من خلف ولداً يتيماً له جارية مغنية تباع ساذجة، واختلف أصحابنا فيه، فذهب طائفة إلى تحريمه؛ لأنه يروى عن ابن عباس، وابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب» ، وذهب أبو بكر والخلال، إلى إباحته مع الكراهة، وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 قول القاضي: «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كانت عندي جاريتان تغنيان، فدخل أبو بكر، فقال: مزمور الشيطان في بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعهما فإنها أيام عيد» . قال أبو بكر: الغناء والنوح واحد، مباح ما لم يكن معهما منكر، ولا فيه طعن، وفي الجملة، من اتخذه صناعة يؤتى له، أو اتخذ غلاماً أو جارية مغنيين يجمع عليهما الناس، فلا شهادة له؛ لأنه سفه وسقوط مروءة، ومن كان يغشى بيوت الغناء، أو يغشاه المغنون للسماع متظاهراً به، وكثر منه، ردت شهادته، ومن استتر بذلك، أو غنى لنفسه قليلاً، لم ترد شهادته، فإن كثر مع الاستتار به، ردت شهادة صاحبه عند من حرمه؛ لأنه معصية، ومن أباحه، لم يردها؛ لأنه لا معصية فيه، ولم يتظاهر به، وأما الحداء، فمباح، لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء، وكان مع الرجال، وكان أنجشة مع النساء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن رواحة: حرك بالقوم، فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة، فأعنقت الإبل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنجشة: رويدك، رفقاً بالقوارير» . ونشيد الأعراب لا بأس به؛ لأنه كالحداء، وكذلك سائر الأصوات، إلا القراءة بالألحان، قال القاضي: هي مكروهة، وقال غيره: إن فرط فيها، فأشبع الحركات، حتى صارت الفتحة ألفاً، والضمة واواً، والكسرة ياء، حرم، لما فيه من تغيير القرآن، وإن لم يكن كذلك، فلا بأس به، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قرأ ورجع، وقال: «ما أذن الله لشيء، كإذنه لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، يجهر به» أي: استمع. «وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستمع إلى أبي موسى، وقال: لقد أوتيت مزماراً، من مزامير آل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 داود فقال أبو موسى: لو علمت أنك تستمع، لحبرته لك تحبيراً» . فصل والشعر كالكلام، حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه؛ لأنه كلام موزون مشغوله، وقد روى عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشعر كالكلام حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه» ، وقول الشعر مباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له شعراء، ويأتيه الشعراء فيسمع منهم. فصل وتمنع التهمة قبول الشهادة، وهي ستة أنواع؛ أحدها: كونه والداً وإن علا، أو ولداً وإن سفل، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة، ولا ولاء» ، والظنين المتهم، وكل واحد منهما، متهم في حق صاحبه؛ لأنه يميل إليه بطبعه، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاطمة بضعة مني، يريبني ما أرابها» . ويستحق أحدهما النفقة على صاحبه، ويعتق عليه إذا ملكه، وعنه: تقبل شهادتهما؛ لأنهما عدلان من رجالنا، فيدخلان في عموم الآيات والأخبار، وعنه: تقبل شهادة الولد لوالده، لدخوله في العموم، ولا تقبل شهادة الأب لابنه؛ لأن ماله كماله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» فكانت شهادته لنفسه، فأما شهادة أحدهما على صاحبه، فمقبولة؛ لأنه لا يتهم عليه، ولذلك قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] . وحكى القاضي رواية أخرى عن أحمد: أن شهادته عليه لا تقبل؛ لأن من لم تقبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 شهادته له، لم تقبل عليه، كغير العدل، والمذهب الأول كما ذكرنا، ولأن شهادته له ردت للتهمة، ولا تهمة في الشهادة عليه. الثاني: لا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه؛ لأنه ينتفع بشهادته لتبسط كل واحد منهما في مال الآخر عادة، واتساعه سعته، وإضافة مال كل منهما إلى الآخر. قال ابن مسعود لرجل قال له: إن غلامي سرق مرآة امرأتي قال: غلامكم سرق مالكم، لا قطع عليه، ولأنه إن كان الزوج الشاهد، فهو يجر إلى نفسه نفعاً؛ لأن قيمة بضع المرآة المملوك له، يزداد بيسارها، وإن كان الشاهد المرأة، فنفقتها تزداد بيساره، وعنه: أن شهادة أحدهما للآخر مقبولة، لدخوله في العموم. الثالث: الجار إلى نفسه، أو الدافع عنها، كشهادة الغرماء للمفلس أو الميت بدين، أو عين، فإنه لو ثبت له، تعلقت حقوقهم به بخلاف غيرهما من الغرماء، فإنه لا يتعلق حق الشاهد بما يشهد به، وكذلك لا تقبل شهادة الورثة للمورث، للجرح قبل الاندمال؛ لأنه قد يسري إلى نفسه، فتجب الدية لهم، ولا شهادة الوصي بمال الميت؛ لأنه يثبت له فيه حق التصرف، وكذلك شهادة الشريك لشريكه بمال الشركة، ولا الوكيل لموكله، فيما هو موكل فيه، ولا الشفيع ببيع الشقص المشفوع، ولا السيد لعبده المأذون، ولا لمكاتبه. قال القاضي: ولا تقبل شهادة الأجير لمستأجره، نص عليه أحمد. وأما الدافع عن نفسه، فمثل شهادة المشهود عليه بجرح الشهود، أو شهادة العاقلة بجرح شهود القتل الذين يحملون عقله، وشهادة الضامن بقضاء الدين، أو البراءة منه، فلا تقبل شهادة أحد؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولا ظنين في قرابة» ولا الظنين المتهم. فإن شهد الشريك لشريكه بغير مال الشركة، أو الوكيل بغير ما وكل به، أو العاقلة بما لا تحمل عقله، قبلت شهادتهم، لعدم التهمة فيهم، وإن شهد من العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ من لا يحمل العقل، لفقره أو بعده، احتمل أن تقبل شهادته كذلك، واحتمل أن لا تقبل؛ لأنه قد يوسر عند الحول فيحمل، أو يموت القريب فيحمل البعيد. الرابع: من ترد شهادته لفسقه، ثم أعادها بعد عدالته، لم تقبل للتهمة في أدائها، لكونه تعير بردها، فربما قصد بأدائها أن تقبل لإزالة العار الذي لحقه بردها، ولأنها ردت بالاجتهاد، فقبولها ينقض لذلك الاجتهاد، وإن شهد عبد فردت شهادته، ثم عتق، وأعادها، ففيه روايتان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 إحداهما: لا تقبل؛ لأنها شهادة مجتهد فيها، فإذا ردت لم تقبل مرة أخرى، كشهادة الفاسق. والثانية: تقبل؛ لأن العتق يظهر، وليس من فعله فيتهم في إظهاره، بخلاف العدالة، وإن شهد السيد لمكاتبه، أو الوارث لمورثه بالجرح قبل الاندمال، فردت شهادتهم، ثم زالت الموانع، فأعادوا الشهادة، ففي قبولها وجهان، كالروايتين والأولى أنها لا تقبل؛ لأنها شهادة ردت للتهمة، فلا تقبل إذا أعيدت، كالمردود للفسق. الخامس: من شهد بشهادة ترد في البعض، ردت في الكل، مثل من شهد على رجل، أنه قذفه وأجنبياً، أو قطع الطريق عليه، أو على أجنبي، أو شهد الأب لابنه وأجنبي بدين، أو لشريكه وأجنبي، فلا تقبل؛ لأنها شهادة متهم فيها، فلم تقبل. السادس: العداوة تمنع قبول شهادة العدو على عدوه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه» ولأنه يتهم في إرادة الضرر بعدوه، فلا تقبل شهادة الرجل على زوجته بالزنا؛ لأنه يقر بعدواته لها، ولأنه دعوى جناية في حقه، فلم تقبل؛ لأنه خصم، ولا تقبل شهادة المقطوع عليه الطريق على القاطع، ولا المقذوف على القاذف؛ لأنه عدو، فأما المتحاكمان على مال، فلا يمنع ذلك قبول شهادة أحدهما على صاحبه؛ لأنه ليس بعدواة. فصل وتقبل شهادة العدو لعدوه؛ لأنه غير متهم في شهادته له وشهادة الرجل لأبيه من الرضاع، وابنه، وسائر أقاربه، جائزة؛ لأنه لا نسب بينهما يوجب الإنفاق والصلة، وعتق أحدهما على صاحبه، بخلاف قرابة النسب، وتقبل شهادة الأخ من النسب لأخيه؛ لأنه عدل غير متهم، فيدخل في عموم الآيات والأخبار، ولا يصح قياسه على الوالد والولد، لما بينهما من التقارب، وتقبل شهادة الصديق الملاطف، وسائر الأقارب، لما ذكرنا، وتقبل شهادة ولد الزنى، والجندي، إذا سلما في دينهما كذلك، وتقبل شهادة الوصي والوكيل بعد العزل في أحد الوجهين كذلك، إلا أن يكونا قد خاصما فيما شهدا به؛ لأنهما صارا خصمين فيه، وتقبل شهادة الوارث بالجرح بعد الاندمال، لما ذكرناه. فصل ومن شهد شهادة زور، فسق، وردت شهادته؛ لأنها من الكبائر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 الوالدين وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت» متفق عليه. ويثبت أنه شاهد زور بأحد ثلاثة أشياء: أحدهما: أن يقر بذلك. والثاني: أن تقوم البينة به. الثالث: أن يشهد بما يقطع بكذبه، مثل أن يشهد بموت من تعلم حياته، أو يقتله في مكان، والمشهود عليه في ذلك الوقت في بلد آخر. ولا يثبت ذلك بتعارض الشهادتين؛ لأنه ليس تكذيب إحداهما أولى من الأخرى، ومتى ثبت أنه شاهد زور، عزره الحاكم، بما يراه من الضرب أو الحبس، وشهره، بأن يقيمه للناس في موضع يشتهر أنه شاهد زور؛ لأن فيه زجراً له ولغيره عن فعل مثله، فأما الغلط والنسيان، فلا يصير به شاهد زور؛ لأنه لم يتعمده، ولو غير العدل شهادته بحضرة الحاكم، فزاد فيها، أو نقص، قبلت ما يحكم بشهادته؛ لأنه يجوز أن يكون نسيه. فصل ومن قذف، أو فعل معصية توجب رد شهادته، فتاب، قبلت شهادته؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] ، نص على قبول شهادة القاذف إذا تاب، وقسنا عليه سائر من ذكرنا. إن قذف ولم يتب، لم تقبل شهادته، سواء جلد أو لم يجلد، للآية، ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي بكرة: تب، أقبل شهادتك، ولأن القذف معصية توجب حداً، فوجب أن ترد بها الشهادة قبل التوبة، وتقبل بعد التوبة، كالزنا، والتوبة من الذنب: الاستغفار، والندم على الفعل، والعزم على أن لا يعود، والإقلاع عن الذنب؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] ، الآية، والتي بعدها، وإن كانت مظلمة لآدمي، فالإقلاع عنها، والتخلص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 منها، بإيفاء صاحبها، أو التحلل منه؛ لأن الحق لأدمي، فلا يبرأ منه إلا بأدائه أو إبرائه، وإن عجز عن ذلك، عزم على إيفائه متى قدر، وإن كان قذفاً فإقلاعه عنه، إكذابه لنفسه؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: توبة القاذف إكذابه نفسه، ولأنه بالقذف ألحق العار به، فإكذابه نفسه يزيله، فإن لم يكن كاذباً، قال: قذفي لفلان كان باطلاً، وقد ندمت عليه، ولا يعتبر مع التوبة إصلاح العمل؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي بكرة: تب، أقبل شهادتك، ويحتمل أن يعتبر مضي مدة تعلم توبته فيها؛ لأن الله تعالى قال: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] ، وقال: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] . فصل وتقبل شهادة العبد، فيما خلا الحد، والقصاص لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، والعبد عدل تقبل روايته، وفتياه، وأخباره الدينية، فيدخل في العموم. وعن عقبة بن الحارث، أنه قال: «تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء، فقالت: أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: كيف وقد زعمت ذلك» متفق عليه، ولأنه عدل غير متهم، فأشبه الحر، ولا تقبل شهادته في الحد؛ لأنه يدرأ بالشبهات، وفي شهادة العبد شبهة، لوقوع الخلاف فيها، وفي القصاص احتمالان: أحدهما: لا تقبل فيه كذلك. والثاني: تقبل؛ لأنه حق آدمي، لا يصح الرجوع عن الإقرار به، فأشبه الأموال، وذكر الشريف، وأبو الخطاب في جميع العقوبات روايتين. فصل وتجوز شهادة الأمة، فيما تجوز به شهادة النساء، لحديث عقبة بن الحارث، وحكم المدبر، والمكاتب، وأم الولد، حكم القن في ذلك؛ لأنهم أرقاء. فصل ويعتبر استمرار شروط العدالة حتى يتصل بها الحكم، فإن شهد عند الحاكم، فلم يحكم بشهادته، حتى حدث منه ما لا تجوز معه شهادته، لم يحكم بها؛ لأن العدالة أن الإنسان يستبطن الفسق، ويظهر العدالة، فلا يؤمن أن يكون فاسقاً حين أداء شهادته، فلم يجز الحكم بها مع الشك فيها، وإن حدث ذلك منه بعد الحكم وقبل الاستيفاء، فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 كان ذلك حداً لله تعالى، لم يستوف؛ لأنه يدرأ بالشبهات ولا مطالب به، وهذه شبهة، وإن كان مالاً، استوفي؛ لأن الحكم قد تم، وثبت الاستحقاق بأمر ظاهر الصحة، فلا نبطله بأمر محتمل، وإن كان حد قذف، أو قصاص، ففيه وجهان: أحدهما: يستوفى؛ لأنه حق آدمي له مطالب، فأشبه المال. والثاني: لا يستوفى؛ لأنه عقوبة على البدن، تدرأ بالشبهات، أشبه الحد، فأما إن أديا الشهادة وهما من أهلها، ثم ماتا قبل الحكم بها، أو جنا، أو أغمي عليهما، حكم بها؛ لأن ذلك لا يؤثر في شهادتهما، فلا يدل على الكذب فيها. [ باب عدد الشهود ] والحقوق تنقسم ستة أقسام؛ أحدها: ما لا يكفي فيه إلا أربعة شهداء وهو الزنا؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . واللواط زناً، فلا يقبل فيه إلا أربعة كذلك، ولأنه فاحشة، بدليل قول الله تعالى لقوم لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] ، فيعتبر فيه الأربعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، فأما إتيان البهيمة، فإن قلنا: يجب به الحد، فهو كالزنا في الشهادة؛ لأنه فاحشة موجبة للحد، فأشبه الزنا، وإن قلنا: الواجب به التعزير، ففيه وجهان: أحدهما: يعتبر فيه الأربعة؛ لأنه فاحشة. والثاني: يثبت بشاهدين؛ لأنه لا يوجب الحد، فأشبه قبلة الأجنبية، وفي الإقرار بالزنا، وجهان: أحدهما: تعتبر له الأربعة؛ لأنه سبب يثبت به الزنا، فاعتبر فيه أربعة، كالشهادة. والثاني: يثبت بشاهدين؛ لأنه إقرار، فثبت بشاهدين، كسائر الأقارير، وإن كان المقر أعجمياً، ففي الترجمة وجهان، كالشهادة على الإقرار، فأما المباشرة دون الفرج، وسائر ما يوجب التعزير، فيكتفى فيه بشاهدين؛ لأنه ليس بزنا موجب للحد، فأشبه ظلم الناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 فصل الثاني: سائر العقوبات كالقصاص وسائر الحدود، فلا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، لما روي عن الزهري قال: «جرت السنة، من عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ألا تقبل شهادة النساء في الحدود،» ولأنها عقوبة مشروعة، فلا يقبل فيها إلا شهادة الرجال الأحرار، كحد الزنا، وسواء كان القصاص في النفس، أو ما دونها، كالموضحة، والأطراف،، فأما جنايات العمد التي لا توجب القصاص، كالجائفة، والمأمومة، وجناية الأب، فقال الخرقي: يقبل فيه رجل وامرأتان، أو رجل ويمين، وهذا ظاهر المذهب؛ لأنه لا يوجب إلا المال، فأشبه البيع، وقال ابن أبي موسى: فيه روايتان: إحداهما: كما ذكرنا. والثانية: لا يقبل إلا رجلان، قال: وهذا اختياري، وهو قول أبي بكر؛ لأنه جناية عمد، فأشبه الموضحة، وقيل: يقبل في الجائفة؛ لأنها لا توجب قصاصاً بحال، ولا يقبل في المأمومة وشبهها؛ لأنها لا توجب القود في الموضحة، ومن قال بالأول، لم يوجب القصاص في الموضحة، حتى يشهد بها من يثبت القصاص بشهادته. فصل القسم الثالث: المال وما يوجبه، كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصية له، والضمان، والكفالة، فيقبل فيه شهادة رجل وامرأتين؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، نص على المداينة، وقسنا عليه سائر ما ذكرنا. وقال ابن أبي موسى: لا تثبت الوصية إلا بشاهدين؛ لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] . فصل القسم الرابع: ما ليس بمال ولا عقوبة، كالنكاح، والطلاق، والرجعة، والعتق، والوكالة، والوصية إليه، والولاية، والعزل وشبهه، ففيه روايتان: إحداهما: لا يقبل فيه إلا رجلان؛ لقول الله تعالى في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فنقيس عليه سائر ما ذكرنا، ولأنه ليس بمال، ولا المقصود منه المال، أشبه العقوبات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 والثانية: يقبل فيه رجل وامرأتان، أو يمين؛ لأنه ليس بعقوبة، ولا يسقط بالشبهة، أشبه المال، وقال القاضي: النكاح وحقوقه لا يثبت إلا بشاهدين، وما عداه يخرج فيه روايتان، وكل ما يثبت بشاهد ويمين، لا يقبل فيه شهادة امرأتين ويمين، ولا أربع نسوة؛ لأن شهادة النساء ناقصة، وإنما انجبرت بانضمام الذكر إليهن، فلا يقبلن منفردات وإن كثرن. فصل وإن اختلف الزوجان في الصداق، ثبت بشهادة رجل وامرأتين؛ لأنه مال، وإن اختلفا في الخلع فادعاه الرجل، وأنكرته المرأة، قبل فيه رجل وامرأتان؛ لأنه بينة لإثبات المال، فإن ادعته المرأة وأنكره الرجل، لم يقبل فيه إلا رجلان؛ لأنه بينتهما لإثبات الفسخ، وإن اختلفا في عوضه خاصة، ثبت برجل وامرأتين؛ لأن الخلاف في المال، وإن شهد رجل وامرأتان بسرقة، ثبت المال دون القطع، وإن شهدوا بقتل عمد، لم يجب قصاص ولا دية؛ لأن السرقة توجب المال والقطع، فإذا قصرت عن أحدهما، ثبت الآخر، والقتل يوجب القصاص، والمال بدل، فإذا لم يثبت الأصل، لم توجب بدله، وإن قلنا: موجبه أحد شيئين، لم يتعين أحدهما إلا بالاختيار، فلو أوجبنا الدية وحدها، أوجبنا معيناً، وقال ابن أبي موسى: لا يجب المال فيما إذا شهدوا بالسرقة؛ لأنها شهادة لا توجب الحد، وهو أحد موجبيها، فإذا بطلت في أحدهما، بطلت في الآخر ولو كان في يد رجل جارية ذات ولد، فادعى رجل أنها أم ولده، وولدها منه، وشهد بذلك رجل وامرأتان، قضي له بالجارية؛ لأنها مملوكته، فثبت ذلك برجل وامرأتين، وإذا مات عتقت بإقراره، وفي الولد وجهان: أحدهما: يثبت نسبه وحريته؛ لأن الولد نماء الجارية، وقد ثبتت له، فتبعها الولد في الحكم، ثم ثبت نسبه وحريته بإقراره. والثاني: لا يثبتان؛ لأنهما لا يثبتان إلا بشاهدين، فإن ادعى أنها كانت ملكه فأعتقها، لم يثبت ذلك بشاهد وامرأتين؛ لأن البينة شهدت بملك قديم، فلم يثبت، والحرية لا تثبت برجلين وامرأتين، ويحتمل أن تثبت كالتي قبلها. فصل القسم الخامس: ما لا يطلع عليه الرجال، من الولادة، والرضاع، والعيوب تحت الثياب، والحيض، والعدة، فيقبل فيه شهادة امرأة عدلة، لحديث عقبة بن الحارث، ولأنه معنى يقبل فيه قول النساء المنفردات، فأشبه الرواية، وعنه: لا يقبل فيه إلا شهادة امرأتين؛ لأن الرجال أكمل منهن، ولا يقبل منهم إلا اثنان، فالنساء أولى، وتقبل شهادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 النساء في الاستهلال؛ لأنه يكون عند الولادة، ولا يحضرها الرجال، وتقبل شهادة المرضعة على الرضاع، لحديث عقبة، وإن شهد الرجل الواحد بما تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، فقال أبو الخطاب: يكتفى به؛ لأنه أكمل منها، ولأن ما يقبل فيه قول المرأة، يقبل فيه قول الرجل، كالرواية. فصل القسم السادس: ما لا يعرفه إلا أهل الطب، كالموضحة وشبهها، وداء الدواب الذي لا يعرفه إلا البيطار، فإذا لم يقدر على اثنين، قبل فيه قول الواحد العدل من أهل المعرفة؛ لأن مما يعسر عليه إشهاد اثنين، فيقبل فيه قول الواحد، كالمسألة قبلها، وإن أمكن إشهاد اثنين، لم يكتف بدونهما؛ لأنه الأصل. [ باب تحمل الشهادة وأدائها ] لا يجوز تحملها، وأداؤها، إلا عن علم؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وقوله سبحانه: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، فإن كانت الشهادة على فعل، كالخيانة والغصب، لم تجز إلا عن مشاهدة؛ لأنه لا يعمل إلا بها، فإن أراد أن ينظر إلى فرجي الزانيين، ليتحمل الشهادة عليهما، جاز؛ «لأن سعد بن عبادة قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم» ولأن أبا بكرة، ونافعاً، وشبل بن معبد، شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلم ينكر عليهم نظرهم. فصل وإن كانت الشهادة على قول، كالبيع، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والإقرار، لم يجز التحمل فيها إلا بسماع القول، ومعرفة القائل يقيناً؛ لأن العلم لا يحصل بدونهما، وإن لم يحصل العلم إلا بمشاهدة القائل، اعتبر ذلك، لتوقف العلم عليه، وإن حصل العلم بدونه، لمعرفته صوت القائل، كفى؛ لأنه علم المشهود عليه، فجازت الشهادة عليه، كما لو رآه. فصل وتجوز الشهادة بما علمه بالاستفاضة، في تسعة أشياء: النسب، والنكاح، والملك المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاية، والعزل؛ لأننا نشهد أن فاطمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وزوج علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأن نافعاً مولى ابن عمر، وأنهم قد ماتوا، ونعلم ذلك يقيناً، ولم نشاهده، قال مالك: ليس عندنا أحد يشهد على أجناس أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا على السماع، ولأن هذه الأمور، يتعذر في الغالب معرفة أسبابها، ويحصل العلم فيها بالاستفاضة، فجاز أن يشهد عليها بها، كالنسب، وظاهر كلام أحمد والخرقي، أنه لا يشهد بذلك، حتى يسمعه من عدد كثير يحصل له به العلم؛ لأن الشهادة لا تجوز إلا على ما علمه، وقال القاضي: يكفي أن يسمع من عدلين يسكن قلبه إلى خبرهما، فإن الحق يثبت بقول اثنين، فإن سمع رجلاً يقر بنسب أب، أو ابن، وصدقة المقر به، جاز أن يشهد به؛ لأنها شهادة على إقرار، وإن سكت، شهد به أيضاً؛ لأن السكوت في النسب إقرار به، بدليل أن من بشر بولد فسكت، كان مقراً به، ويحتمل أن لا يشهد به حتى يكرر؛ لأن السكوت محتمل، فاعتبر له التكرار، ليزول الاحتمال، وإن كذبه المقر به، لم يشهد به. فصل وإن سمع إنساناً يقر بحق، جاز أن يشهد عليه، وإن لم يقل له: اشهد علي؛ لأنه سمع إقراره يقيناً، فجاز أن يشهد به، كما يشهد على الفعل برؤيته، وعنه: لا يشهد حتى يستدعيه المقر ذلك، فيقول: اشهد علي، قياساً على الشهادة، وعنه: إن سمعه يقر بالدين، شهد عليه؛ لأنه معترف بثبوته، وإن سمعه يقر بسببه، كالقرض ونحوه، لم يشهد به؛ لأنه يجوز أن يكون قد وفاه، وعنه: يجوز أن يشهد بما سمعه، ولا يجب أداؤه حتى يقول له: اشهد علي، فإذا قاله، وجب عليه الأداء، إذا دعي لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، قال: إذا أشهدوا، والأول المذهب؛ لأنه يشهد بما سمعه يقيناً، فأشبه الشهادة بالاستفاضة، وفارق الشهادة على الشهادة؛ لأنها ضعيفة، فاعتبر تقويتها، بالاستدعاء. فصل ومن رأى في يد إنسان شيئاً مدة يسيرة، لم يجز أن يشهد له بالملك؛ لأن ملك غيره قد يكون في يده، ويجوز أن يشهد له باليد؛ لأنه شاهدها، وإن رآه في يده مدة طويلة يتصرف فيه تصرف الملاك، من النقص، والبناء، والسكنى، والاستغلال ونحوه، جاز أن يشهد له بالملك في قول ابن حامد؛ لأن اليد دليل الملك، واستمرارها من غير منازع يقويها، فجرت مجرى الاستفاضة، ويحتمل أن لا يشهد له إلا باليد؛ لأن اليد قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 تكون من غصب، وتوكيل، وإجارة، وعارية، فلم تحصر في الملك، فلم تجز الشهادة به مع الاحتمال. فصل وتجوز شهادة الأعمى بالاستفاضة؛ لأنه يحصل له العلم بها، كالبصير، وبالترجمة؛ لأنه يترجم ما يسمعه عند الحاكم، وفيما طريقه السماع، إذا عرف القائل يقيناً؛ لأنه تجوز روايته بالسماع، واستمتاعه بزوجته، فجازت شهادته، كالبصير، ولا يجوز أن يشهد على ما طريقه الرؤية؛ لأنه لا رؤية له، فإن تحمل الشهادة عليها وهو بصير، ثم عمي، جاز أن يشهد، إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه؛ لأنه يشهد على ما يعلمه، فإن لم يعرفه إلا بعينه، لم يشهد عليه، إلا أن يتيقن صوته، فيجوز أن يشهد عليه، لعلمه به. قال القاضي: يجوز أن يشهد عليه إذا وصفه بما يتميز به، ويحتمل ألا يشهد؛ لأن هذا مما لا ينضبط غالباً. فصل ولا تجوز الشهادة حتى يعرف المشهود عليه، والمشهود له، نص عليه أحمد، وقال: لا يشهد على امرأة، حتى ينظر إلى وجهها، ويعرف كلامها، فإن كانت ممن عرف اسمها، ودعيت، وذهبت، وجاءت فليشهد، وإلا فلا يشهد، ولا يجوز أن يقول لرجل: أتشهد أن هذه فلانة؟ ويشهد على شهادته. قال القاضي: يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب، لتجويز الشهادة بالاستفاضة. قال: ولا يشهد على امرأة إلا بإذن زوجها، ولا يشهد لرجل على رجل بحق وهو لا يعرف اسميهما، إلا إذا كانا شاهدين، فقال أشهد أن لهذا على هذا كذا، فأما إذا كانا غائبين، فلا. فصل ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلم، قال أحمد: لا يشهد على الوصية المختومة حتى يقرأها، فإن حضر جماعة، فقرأ الكتاب بعضهم، وسمعه بعضهم، جاز لجميعهم الشهادة به. فصل ويعتبر في أداء الشهادة الإتيان بلفظها فيقول: أشهد بكذا، فإن قال: أعلم وأتيقن، أو أحق ونحوه، لم يعتد به؛ لأنها مشتقة من اللفظ، وإذا شهد بأرض، أو دار، فلا بد من ذكر حدودها؛ لأنها لا تعلم إلا بذلك، وإن شهد بنكاح، اشترط ذكر شروطه، من الولي، والشهود، والإيجاب، والقبول؛ لأن الناس يختلفون فيها، وإن شهد بالرضاع، احتاج إلى وصفه، وأنه ارتضع من ثديها، أو من لبن حلب منه، وذكر عدد الرضعات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 وأنه في الحولين، ولو شهد أنه ابنها من الرضاع، لم يكف، لاختلاف الناس فيما يصير به ابناً. وإن رأى امرأة أخذت صبياً تحت ثيابها فأرضعته، لم يجز أن يشهد برضاعه؛ لأنه يجوز أن يتخذ شيئاً على هيئة الثدي يمتصه، غير الثدي، وإن شهد بالجناية، ذكر صفتها، فيقول: ضربه بالسيف، فقتله، أو أماته، أو فمات منه، أو فضربه فأوضحه، وإن قال: ضربه بالسيف، فمات، أو فاتضح، أو فوجدته ميتاً، أو موضحاً، لم تصح شهادته؛ لأنه قد يموت، أو يتضح من غير ضربة، وإن قال: ضربه فسال دمه، لم تثبت البازلة كذلك، وإن قال: فأسال دمه، ثبتت، وإن قال: ضربه فأوضحه، فوجدت في رأسه موضحتين، وجب دية موضحة؛ لأنه قد أثبتها، ولم يجب قصاص؛ لأننا لا ندري أيتهما التي شهد بها. فصل ومن شهد بالزنا، فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها، لئلا يراه على بهيمة، أو جارية ابنه، فيعتقده زنا، ويحتمل أن لا يقتصر إلى ذكر المزني بها؛ لأنه لا يفتقر إليه في الإقرار، ويفتقر إلى ذكر صفة الزنا، وأنه رأى ذكره في فرجها؛ لأن زياداً شهد على المغيرة، فلم يذكر ذلك، فلم يقم الحد عليه، فإن لم يذكر الشهود ذلك، سألهم الحاكم عنه، وهل يفتقر إلى ذكر الزمان والمكان؟ يحتمل وجهين: أحدهما: لا يفتقر إلى ذكرهما؛ لأن الأزمنة في الزنا واحد، فلا تختلف. والثاني: يفتقر إلى ذكره، لتكون شهادتهم على فعل واحد، لئلا يكون ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر، ولأن الناس اختلفوا في الشهادة بالحد مع تقادم الزمان، فقال ابن أبي موسى: لا تقبل؛ لأن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من شهد على رجل بحد، فلم يشهد عليه حين يصيبه، فإنما يشهد على ضغن، وقال غيره من أصحابنا: تقبل؛ لأنها شهادة بحق، فجازت مع تقادم الزمان، كالقصاص، ولأنه قد يعرض ما يمنعه الشهادة في حينها، ويتمكن منها بعد ذلك، ومن شهد على سرقة، ذكر السارق، والمسروق منه، الحرز، والنصاب؛ لأن الحكم يختلف باختلافها. ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتداً، فلم يجز الحكم به قبل البيان، كما لا يجوز الحكم بجرح الشاهد قبل بيان الجرح. فصل ويجوز للحاكم أن يعرض للشهود بالوقوف عن الشهادة في حدود الله تعالى؛ لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عرض لزياد في شهادته على المغيرة، فقال: إني لأرجو أن لا يفضح الله على يدك أحداً من أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال أبو الخطاب: في ذلك وجهان. فصل وكل حق لله تعالى، كالحدود، والحقوق المالية، وما كان حقاً لآدمي غير معين، كالوقوف على الفقراء، والمساجد، والمقبرة المسبلة، فلا يفتقر أداء الشهادة فيه إلى تقدم دعوى؛ لأنه لا يستحقها آدمي معين فيدعيها، وكذلك شهد أبو بكرة وأصحابه من غير دعوى، وما عدا ذلك، فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد تقدم الدعوى؛ لأن الشهادة فيه حق لآدمي، فلا يستوفى إلى بمطالبة وإذنه. فصل ومن كان له على غيره حق، فقضى بعضه، وأشهد البينة بقضائه، ثم جحد الباقي، شهد الشهود للمدعي بالدين، وعليه بما اقتضى، وإن قال: أشهد أن عليه ألفاً، ثم قال: قضاه منه بعضه، أفسد شهادته؛ لأن ما قضاه لم يبق عليه، وإن لم يقبض منه شيئاً، فقال المدعي للشاهد: اشهد لي ببعض الدين، فعنه: أنه لا يشهد إلا كما تحمل؛ لقول الله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] ، وقال أبو الخطاب: عندي يجوز ذلك؛ لأن من شهد بألف، فهو شاهد بخمسمائة، وإن غير العدل شهادته بحضرة الحاكم، فزاد، أو نقص، قبلت ما لم يحكم بشهادته، وإن ادعت عنده شهادة، فأنكر، ثم شهد بها وقال: كنت أنسيتها، قبلت؛ لأن ما قاله محتمل، فلا يجوز تكذيبه مع إمكان تصديقه. [ باب الشهادة على الشهادة ] تجوز الشهادة على الشهادة فيما يثبت بشاهد وامرأتين؛ لأنه مبني على المساهلة، فجازت فيه الشهادة، كالأموال، ولا يقبل في حد الله تعالى؛ لأن مبناه على الدرء بالشبهات، وهذه لا تخلو من شبهة، ولهذا اشترطنا لها عدم شهود الأصل، وظاهر كلام أحمد: أنها لا تقبل في قصاص، ولا حد قذف؛ لأنه عقوبة، فأشبه سائر الحدود. ونص على قبولها في الطلاق؛ لأنه لا يدرأ بالشبهات، فيخرج من هذا، وجوب قبولها في كل ما عدا الحدود والقصاص كذلك، وقال ابن حامد: لا تقبل في النكاح، ونحوه قول أبي بكر، فعلى قولهما: لا تقبل في غير المال، وما قصد به المال؛ لأنه لا يثبت إلا بشاهدين، فأشبه الحد، وما ثبت بالشهادة على الشهادة ثبت بكتاب القاضي إلى القاضي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 وما لا فلا؛ لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي فكان حكمه، حكم الشهادة على الشهادة. فصل ولها أربعة شروط أحدهما: تعذر شهود الأصل، لموت، أو مرض، أو غيبة، أو خوف، أو غيره؛ لأن شهادة الأصل أقوى؛ لأنها تثبت بنفس الحق وهذه لا تثبته ولأن سماع القاضي منهما متيقن، وصدق شاهدي الفرع عليهما مظنون فلم يقبل الأدنى مع القدرة على الأقوى، وفي قدر الغيبة وجهان: أحدهما: مسافة القصر؛ لأن من دونها في حكم الحاضر، ذكره أبو الخطاب. والثاني: أن يكون بمكان لا يمكنه الرجوع إلى منزله من يومه؛ لأن في تكليفه الحضور مع ذلك ضرراً، وقد نفاه الله تعالى بقوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] ، وما دون ذلك؛ لا مشقة فيه فوجب حضورهما منه. والشرط الثاني: أن يتحقق شروط الشهادة، من العدالة، وغيرها، في كل واحد من شهود الأصل والفرع؛ لأن الحكم ينبني على الشهادتين معاً، فإن عدل شهود الفرع شهود الأصل، فشهدوا على شهادتهم وعدالتهم، كفى ذلك؛ لأن شهادتهما بالحق مقبولة، فكذلك في العدالة، وإن لم يشهدوا بعدالتهم، تولى الحاكم ذلك. الشرط الثالث: أن يعين شهود الفرع شهود الأصل بأسمائهم، وأنسابهم، ولو قالوا: نشهد على شهادة عدلين، لم تقبل؛ لأنهما ربما كانا عدلين عندهما غير عدلين عند الحاكم، ولأنه يتعذر على الخصم جرحهما إذا لم يعرف عينهما. الشرط الرابع: أن يسترعيه شاهد الأصل الشهادة، فيقول: اشهد على شهادتي، آني أشهد لفلان على فلان بكذا، أو أقر عندي بكذا، نص عليه، ولو سمع رجلاً يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا، لم يجز أن يشهد به؛ لأنه يحتمل أنه أراد أن له ذلك عليه من وعد، فلم يجز أن يشهد مع الاحتمال بخلاف ما إذا استرعاه؛ لأنه لا يسترعيه إلا على واجب، وإن سمعه يسترعي غيره، جاز أن يشهد به كذلك، ويحتمل ألا يجوز؛ لأن في الشهادة على الشهادة معنى النيابة، فلا ينوب عنه إلا بأذنه، وإن سمعه يشهد عند الحاكم، أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سببه كقوله: أشهد أن لفلان على فلان ألفاً، من ثمن مبيع، ففيه روايتان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 إحداهما: لا يشهد به لما ذكرنا. والثانية: يجوز أن يشهد به؛ لأنه لا يحتمل مع ذلك إلا الوجوب، فيزول به الاحتمال، ويرتفع به الإشكال، فجاز أن يشهد به، كما لو استرعاه. فصل ويعتبر دوام هذه الشروط، إلى حين الحكم، فلو شهد الفروع عند الحاكم، فلم يحكم حتى حضر شهود الأصل، أو صحوا من المرض، وقف الحكم على سماع شهادتهم؛ لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فأشبه المتيمم يقدر على الماء، وإن فسق شهود الأصل، أو رجعوا عن الشهادة قبل الحكم، لم يحكم بها؛ لأن الحكم ينبني عليها، فأشبه ما لو فسق شهود الفرع، أو رجعوا. فصل واختلفت الرواية، في شرط خامس: هو اعتبار الذكورية في شهود الفرع، فعنه: لا يشترط؛ لأن الغرض إثبات المال، فجاز أن يثبت بشهادة النساء مع الرجال، كشهادة الأصل، والثانية يشترط؛ لأنه شهادتهم على شهادة الشاهدين، وليس ذلك بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال، أشبه النكاح، وأما شهود الأصل، فلا تعتبر فيهم الذكورية؛ لأنها شهادة بمال، وعنه: أنها تعتبر؛ لأن في الشهادة على الشهادة ضعفاً، فاعتبر تقويتها باعتبار الذكورية فيها. فصل ويجوز أن يشهد على كل واحد من شهود الأصل، شاهد فرع، فيشهد شاهدا فرع، على شاهدي أصل؛ لأن شهود الفرع، بدل من شهود الأصل، فاكتفي بمثل عددهم، وذكر ابن بطة أنه يشترط أن يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل، شاهدا فرع؛ لأن شاهدي الفرع، يثبتان شهادة شاهدي الأصل، فلا يثبت كل واحد منهما إلا باثنين، كما لو كانت الشهادة على إقراره، لكن إن شهد شاهدا الفرع على كل واحد من شاهدي الأصل، جاز؛ لأنه إثبات قول اثنين، فجاز بشاهدين، كالشهادة على إقرار نفسين. فصل ويؤدي الشهادة على الصفة التي تحملها، فيقول: أشهد أن فلاناً يشهد أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وإن سمعه يشهد عند الحاكم، أو يعزي الحق إلى سبب، ذكره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 [ باب اختلاف الشهود ] إذا ادعى ألفين على رجل فشهد له شاهد بهما، وشهد له آخر بألف، ثبت له الألف بشهادتهما، لاتفاقهما، ويحلف مع شاهده على الألف الآخر؛ لأن له بها شاهداً، وسواء شهدت البينة، بإقرار الخصم، أو ثبوت الحق عليه، وسواء ادعى ألفاً، أو أقل منه؛ لأنه يجوز أن يكون له حق فيدعي بعضه، ويجوز أن لا يعلم أن له من يشهد له بجميعه والله أعلم. فصل وإن شهد اثنان أنه زنى بها في بيت، وشهد آخران أنه زنى بها في بيت آخر، أو شهد اثنان أنه زنى بها غدوة، وشهد اثنان أنه زنى بها عشياً، فهم قذفة، وعليهم الحد، وقال أبو بكر: تكمل شهادتهم، ويحد المشهود عليه، وحكاه عن أحمد؛ لأنه قد شهد عليه أربعة بالزنا، فيدخل في عموم قوله سبحانه: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] ، والأول المذهب؛ لأنه لم يشهد الأربعة على فعل واحد، فأشبه ما لو شهد اثنان على رجل أنه زنا بامرأة، وشهد اثنان أنه زنا بامرأة أخرى، فيلزم الشهود الحد، دون المشهود عليه، وإن شهد اثنان أنه زنا بها في هذه الزاوية، واثنان أنه زنا بها في الزاوية الأخرى، وهما متباعدتان، فكذلك؛ لأنهما فعلان، وإن كانتا متقاربتين، كملت الشهادة؛ لأنه أمكن صدقهم، بأن تكون كل بينة نسبية إلى إحدى الروايتين، لقربه منهما. وإن شهد اثنان، أنه زنا بها مطاوعة، واثنان أنه زنا بها مكرهة، فلا حد على المرأة، ولا على الرجل؛ لأن الشهادة لم تكمل على واحد من الفعلين، فإن زنا المكرهة غير الزنا من المطاوعة، فأشبهت التي قبلها هذا قول أبي بكر والقاضي، واختار أبو الخطاب: أن الحد يجب على الرجل دون المرأة لاتفاق الأربعة على الشهادة بزناه، ولا حد على الشهود في قوله لكمالها، وعلى قول أبي بكر: فيهم وجهان: أحدهما: عليهم الحد؛ لأن البينة لم تكمل على فعل واحد، أشبه ما لو اختلفوا في البيت. والآخر أن الحد على شهود المطاوعة؛ لأنهم قذفوا المرأة، ولم تكمل البينة عليها. فصل وإن شهد أحدهما أنه قتله عمداً، وشهد الآخر أنه قتله خطأ، ثبت القتل، لاتفاقهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 عليه، ولم يثبت العمد، والقول قول المشهود عليه مع يمينه في أنه خطأ، ولا تحمله العاقلة؛ لأنه لم يثبت ببينة، وإن شهد أحدهما أنه قتله غدوة، وشهد الآخر أنه قتله عشياً، أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف، وشهد الآخر أنه قتله بسكين، لم يثبت القتل، اختاره القاضي؛ لأنهما لم يشهدا بفعل واحد، وعند أبي بكر: يثبت كالتي قبلها، فإن شهد شاهد أنه قذفه غدوة، وشهد آخر أنه قذفه عشياً، أو اختلفا في المكان، أو شهد أحدهما أنه قذفه بالعربية، وشهد الآخر أنه قذفه بالعجمية، لم تكمل شهادتهما؛ لأن البينة لم تكمل على قذف واحد، وكذلك إن كانت الشهادة بالنكاح أو بفعل، كالقتل، والسرقة، والغصب فاختلفا في المكان، أو الزمان، لم تكمل البينة كذلك، إلا على قول أبي بكر فإنها تكمل، ويثبت المشهود به، والمذهب: الأول، وإن شهد أحدهما أنه أقر بقذفه، أو بقتله يوم الجمعة، وشهد الآخر: أنه أقر بذلك يوم الخميس، أو اختلفا في المكان، أو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية، وشهد الآخر أنه أقر بالعجمية، ثبت المشهود به؛ لأنه المشهود به واحد وإن اختلفت العبارة، وإن كانت الشهادة بعقد غير النكاح، كالبيع، والطلاق، والرجعة، فقال أصحابنا: تكمل الشهادة؛ لأن المشهود به، قول، فأشبه الإقرار، ويحتمل أن لا تكمل الشهادة؛ لأن كل بيع أو طلاق لم يشهد به إلا واحد، فلم تكمل البينة، كالنكاح، وإن شهد أحدهما أنه غصبه هذا، وشهد الآخر أنه أقر بغصبه، كملت الشهادة، نص عليه أحمد في القتل؛ لأنه يجوز أن يكون الإقرار بالغصب الذي شهد به الآخر، فتكمل البينة على شيء واحد. وقال القاضي: لا تكمل؛ لأن ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر. فصل وإن شهد أحدهما أنه سرق ثوباً غدوة، وشهد الآخر أنه سرقه بعينه عشياً، لم يجب الحد؛ لأن البينة لم تكمل على سرقة واحدة، وله أن يحلف مع أحدهما، ويغرم المشهود عليه؛ لأن الغرم يثبت بشاهد ويمين، فإن كان مكان كل شاهد شاهدان، تعارضت البينتان. ذكره القاضي لأن كل شاهدين بينة، والتعارض إنما يكون في البينة، بخلاف التي قبلها، فإن كل شاهد، ليس بينة، فلا يتعارضان، ويحتمل أن لا يتعارضا هاهنا؛ لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يسرقه غدوة، ثم يعود إلى مالكه فيسرقه عشية، ومع إمكان الجمع لا تعارض، فعلى هذا يجب على السارق الحد والغرم، وإن لم تعين البينة الثوب، فلا تعارض بينهما وجهاً واحداً، ويجب للمسروق منه الثوبان، وعلى السارق القطع، وإن شهد أحدهما أنه سرق ثوباً قيمته ثمن دينار، وشهد الآخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع دينار. لم تكمل بينة الحد، لاختلافهما في النصاب، ووجب للمشهود له ثمن دينار، لاتفاقهما عليه، وحلف مع الآخر على الثمن الآخر إن أحب؛ لأن الغرم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 يثبت بشاهد واحد ويمين، وإن كان مكان كل شاهد شاهدان، تعارضت البينتان، ولا حد، ووجب ما اتفقوا عليه، وسقط الزائد، لتعارض البينتين فيه. فصل وإذا شهد عدلان على ميت أحدهما شهد) أنه أعتق سالماً في مرضه: وهو ثلث ماله، وشهد الآخر أنه أعتق غانماً، وهو ثلث ماله، عتق السابق منهما، فإن جهل السابق منهما، أقرع بينهما فأعتق من تخرج له القرعة، كما لو أعتقهما بكلمة واحدة، وإن شهدت إحداهما أنه وصى بعتق سالم، وشهدت الأخرى أنه وصى بعتق غانم، أقرع بينهما، فأعتق أحدهما بالقرعة، سواء تقدمت وصيته أو تأخرت؛ لأن الوصية يستوي فيها المقدم والمؤخر. وقال أبو بكر وابن أبي موسى: يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأنهما سواء في الوصية، فيجب أن يتساويا في الحرية، والأول قياس المذهب، بدليل ما لو أعتقهما بكلمة واحدة، وإن كانت إحدى البينتين وارثة عادلة، ولم تطعن في شهادة الأجنبية، فالحكم كذلك، وإن كذبت الأجنبية، وقالت: ما أعتق إلا سالما وحده، عتق سالم كله، لإقرار الورثة بحريته، ولم يقبل تكذيبهم، لأنه نفي فيكون حكم غانم على ما تقدم، في أنه يعتق إذا تقدم تاريخ عتقه، ويرق إذا تأخر ويقرع بينهما إذا استويا، أو جهل الحال، وإن كانت الوارثة غير عادلة، عتق غانم كله، ولم يزاحمه من شهدت به الوارثة؛ لأن شهادة الفاسق كعدمها، ثم إن طعنت في شهادة الأجنبية، عتق سالم كله، لإقرارها بحريته، وإن لم تطعن فيها، فذكر القاضي: أنه يعتق من سالم نصفه؛ لأنه ثبت عتقه بإقرارهم، وعتق غانم بالبينة، فصار كأنه أعتق العبدين معاً إلا في أنه لا ينتقض عتق غانم، لشهادة الوارثة لفسقها. فصل فإن شهد اثنان على اثنين بقتل رجل، فشهد الآخران أن الأولين قتلاه، فصدق الولي الأولين، حكم بشهادتهما؛ لأنهما غير متهمين، وإن صدق الآخرين وحدهما، لم يحكم له بشيء؛ لأنهما متهمان، لكونهما يدفعان عن أنفسهما القتل، وإن صدق الجميع، فكذلك لأنهما متعارضتان، فلا يمكن الجمع بينهما. فصل وإن ادعى على رجل، أنه قتل وليه عمداً، وأقام شاهداً، فأقر بقتله خطأ، ثبت قتل الخطأ بإقراره، وعليه الدية، ولم يثبت العمد؛ لأنه لا يثبت إلا بشاهدين، وهل يحلف على نفيه؟ على وجهين، وإن قتل رجل رجلاً عمداً، وله وارثان، فشهد أحدهما على الآخر أنه عفا عن القود والمال، سقط القود، وإن كان الشاهد فاسقاً؛ لأنه شهادته تضمنت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 الإقرار بسقوطه، ويثبت نصيب الشاهد من الدية؛ لأنه ما عفا، وأما نصيب المشهود عليه، فإن كان الشاهد فاسقاً، حلف: ما عفوت، واستحق نصيبه من الدية، وإن كان عدلاً، حلف القاتل معه، وسقط نصف الدية؛ لأن ما طريقه المال يثبت بشاهد ويمين، وفي كيفية اليمين وجهان: أحدهما: أنه قد عفا عن المال؛ لأن القود سقط بغير يمين. والثاني: يحلف أنه قد عفا عن القود والمال؛ لأنه قد يعفو عن الدية ولا يسقط حقه منها، إذا قلنا: موجب العمد القصاص عيناً. فصل وإذا ادعى على رجلين، أنهما رهناه عبداً لهما بدين له عليهما، فأنكراه وشهد كل واحد منهما، على صاحبه، فشهادتهما صحيحة، وله أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير رهناً، أو مع أحدهما ويصير نصفه رهناً؛ لأن إنكاره لا يقدح في شهادته، كما لو كانت الدعوى في عين أخرى، ويحتمل أن لا تقبل شهادتهما؛ لأنه يدعي أن كل واحد منهما كاذب. [ باب الرجوع عن الشهادة ] إذا رجع الشاهدان قبل الحكم بشهادتهما، لم يحكم بها؛ لأنها شرط الحكم، فيشترط استدامتها إلى انقضائه، كعدالتهما. فإن رجعا بعد الحكم بها في حد، أو قصاص، قبل الاستيفاء، لم يجز استيفاؤه؛ لأنه يدرأ بالشبهات، وهذا من أعظمها، وإن كان المشهود به غير ذلك، وجب استيفاؤه؛ لأن حق المشهود له قد وجب وحكم به، فلم يسقط بقولهما المشكوك فيه، وإن رجعا بعد الاستيفاء في حد، أو قصاص، وقالا: عمدنا ذلك ليقتل، فعليهما القصاص، لما ذكرنا في الجنايات، وإن قالا: عمدنا الشهادة، ولم نعلم أنه يقتل، فعليهما دية مغلظة؛ لأنه شبه عمد وإن قالا: أخطأنا، فعليهما الدية مخففة، ولا تحملها العاقلة؛ لأنها وجبت باعترافهما، وإن اتفقا على أن أحدهما عامد، والآخر مخطىء، فلا قصاص عليهما، وعلى العامد نصف دية مغلظة، وعلى الآخر نصفها مخففة، وإن قال أحدهما: عمدنا جميعاً. وقال الآخر: أخطأنا جميعاً، فعلى العامد القود، لإقراره بما يوجبه، وعلى المخطئ نصف الدية مخففاً، وإن قال كل واحد منهما: عمدت، وأخطأ صاحبي، ففيه وجهان: أحدهما: لا قود عليهما؛ لأنه لا يؤاخذ كل واحد منهما إلا بإقراره، ولم يقر بما يوجب القصاص؛ لأنه أقر بعمد فيه شركة خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 والثاني: عليهما القود؛ لأن كل واحد منهما مقر بالعمد، وإن قال أحدهما: عمدنا معاً، وقال الآخر: عمدت وأخطأ صاحبي فعلى الأول القود. وفي الثاني وجهان. وإن قال: كل واحد منهما عمدت، ولا أدري ما فعل صاحبي فعليهما القود؛ لأننا تبينا وقوعهما عمداً، وإن رجع أحدهما وحده، فحكمه حكم ما لو رجع صاحبه معه. فصل إذا شهد خمسة بالزنا على رجل، فقتل ثم رجعوا وقالوا: عمدنا، قتلوا كلهم، وإن قالوا: أخطأنا غرموا الدية أخماساً؛ لأن القتل حصل بقول جميعهم، وإن رجع واحد منهم، وقال: عمدنا اقتص منه، وإن قال: أخطأنا فعليه خمس الدية، لأنه يقر بما لو وافقه أصحابه عليه، لزمهم القود أو قسطه من الدية، فلزمه ذلك وإن لم يوافقوه، كما لو كانوا أربعة، وإن رجع اثنان، فعليهما خمسا الدية، وإن كانوا ثلاثة، فعليهم ثلاثة أخماس الدية؛ لأن الإتلاف حصل بشهادتهم، فأشبه ما لو رجعوا كلهم، وإن شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان، فقتل، ثم رجعوا عن الشهادة، فالضمان على الجميع؛ لأن القتل حصل بقولهم، فأشبه ما لو شهد الجميع بالزنا. وفي كيفية الضمان وجهان: أحدهما: توزع الدية على عددهم؛ لأن القتل حصل بجميعهم، أشبه ما لو اتفقت شهادتهم. والثاني: على شهود الإحصان النصف، وعلى شهود الزنا النصف؛ لأنه قتل بنوعين من البينة، فقسمت الدية عليهما، وإن شهد أربعة بالزنا، واثنان منهم بالإحصان، فعلى الوجه الأول على شهود الإحصان ثلثا الدية، وعلى الآخر ثلاثة أرباعها، ويحتمل أن لا يجب عليهما إلا النصف، لأنهم كأربعة أنفس، جنى اثنان جنايتين، وجنى الآخران أربع جنايات. فصل وإن شهدا بمال، ثم رجعا بعد الحكم به، غرماه، ولا يرجع على المحكوم له به سواء كان المال تالفاً، أو قائماً؛ لأنهما حالا بينه وبين ماله بعدوان، فلزمهما الضمان، كما لو غصباه، فإن رجع أحدهما غرم النصف، وإن كانوا ثلاثة، فالضمان بينهم على عددهم، وإن رجع أحدهم، فعليه بقسطه، لما ذكرنا. وإن شهد رجل وامرأتان، ثم رجعوا، فعلى الرجل النصف، وعلى كل واحدة منهما الربع؛ لأنهما كرجل، وإن شهد رجل وعشر نسوة، ثم رجعوا، فعلى الرجل السدس، وعليهن خمسة أسداس، وإن رجع بعضهم، فعلى الراجع بقسطه، لما ذكرناه، وإن حكم له بشاهد ويمين، ثم رجع الشاهد، فعليه غرامة المال كله في أحد الوجهين؛ لأن الحكم بشهادته، وإنما اليمين مقوية له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 والثاني: يلزمه نصف المال؛ لأن الملك استند إلى شهادته ويمين المدعي، فتوزع الحق عليهما، كالشاهد والمرأتين. فصل وإن شهد اثنان بحرية عبد، فحكم بشهادتهما، ثم رجعا، غرما للسيد قيمته، لما ذكرنا، وإن شهدا بطلاق قبل الدخول، فحكم به، ثم رجعا، فعليهما نصف الصداق المسمى؛ لأنهما أغرماه للزوج، فلزمهما ذلك، كما لو شهدا بالنصف، وإن كان ذلك بعد الدخول، فلا ضمان عليهما لأن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم، فلم يضمناه، كما لو أخرجته عن ملكه بالردة، أو بالقتل، وإن شهدا بكتابة عبده، فحكم بها، ثم رجعا، فعليهما ما بين قيمته سليماً ومكاتباً، فإن أدى وعتق، فعليهما ما بين قيمته وكتابته، لأنهما فوتاه ذلك، ويحتمل أن يرجع عليهما بجميع قيمته؛ لأن ما أداه كان من كسبه الذي يملكه، وإن لم يعتق، لم يرجع عليهما بشيء، وإن شهدا لأمة بالاستيلاد، فرجعا، فعليهما ما نقص من قيمتها، فإن عتقت بموت سيدها، ضمنا تمام قيمتها؛ لأنهما فوتا رقها على الورثة. فصل وإذا حكم بشهادة الفروع، ثم رجعوا عن الشهادة، ضمنوا ولو رجع شهود الأصل، لم يضمنوا، ذكره القاضي؛ لأنه لم يلجئوا الحاكم إلى الحكم، ويحتمل أن يضمنوا؛ لأنهم سبب في الحكم، فيضمنوا كالمزكيين، وشهود الإحصان. فصل وإذا شهد الشهود بحد فزكاهم اثنان، فبان أنهم ممن لا تقبل شهادتهم، لفسق، أو كفر، فالضمان على المزكيين، لأنهم شهدوا بشهادة زور أفضت إلى الحكم، فلزمهم الضمان، كالشهود إذا رجعوا عن الشهادة، ولا شيء على الشهود؛ لأنهم يقولون: شهدنا بحق، ولا على الحاكم؛ لأن المزكيين ألجآه إلى الحكم، وقال القاضي: الضمان عليه؛ لأنه فرط في الحكم بمن لا يجوز الحكم بشهادته، ولا شيء على المزكيين؛ لأنهما لم يشهدا بالحق، وقال أبو الخطاب: الضمان على الشهود؛ لأنهم فوتوا الحق على مستحقه بشهادتهم الباطلة، فلزمهم الضمان، كما لو رجعوا عن الشهادة، والأول أصح؛ لأن الحاكم أتى بما عليه، والشهود لم يعترفوا ببطلان شهادتهم، وإنما التفريط من المزكيين، فكان الضمان عليهما. فإن تبين أن المزكيين فاسقان، أو كافران، فالضمان على الحاكم لتفريطه، وكذلك إن حكم بشهادة فاسقين، أو كافرين، من غير تزكية، فالضمان عليه كذلك، وإن كانت الشهادة بمال، نقض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 الحكم، وأمر برد المال إن كان قائماً، أو قيمته إن كان تالفاً؛ لأنهما ليسا من أهل الشهادة، فوجب نقض الحكم، كما لو كانا صبيين، وعنه: أنه لا ينقض الحكم إذا كانا فاسقين، ويغرم الشاهدان المال؛ لأنهما سبب الحكم بشهادة ظاهرها الزور، فأشبه ما لو رجعا. والأول أولى؛ لأنهما لم يعترفا ببطلان شهادتهما، لكن تبين فقد شرط الحكم، فوجب أن يقضى بنقضه، كما لو تبين أن حكمه بالقياس مخالف للنص. فصل ومن حكم له بمال، أو بضع، أو غيرهما بشهادة زور أو يمين فاجرة، لم يحل له ما حكم به، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بما أسمع، وأظنه صادقاً، فمن قضيت له، بشيء من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو يدعها» متفق عليه، ولأنه يقطع بتحريم ما حكم له به قبل الحكم، فلا يحل له بالحكم كما لو حكم له بما يخالف النص، أو الإجماع، وحكي عن أحمد رواية أخرى: أن حكم الحاكم ينفذ في الفسوخ، والعقود؛ لأنه حكم باجتهاده، فنفذ حكمه، كما لو حكم في المجتهدات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 [ كتاب الإقرار ] والحكم به واجب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» . ورجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزاً والغامدية، والجهنية، بإقرارهم، ولأنه إذا وجب الحكم بالبينة، فلأن يجب بالإقرار مع بعده من الريبة أولى، فإن كان المقر به حقاً لآدمي، أو لله تعالى، لا يسقط بالشبهة، كالزكاة، والكفارة، ودعت الحاجة إلى الإقرار به لزمه ذلك؛ لقول الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] ، والإملال: الإقرار وإن كان حداً لله، لم يلزمه الإقرار به؛ لأنه مندوب إلى الستر على نفسه. فصل ولا يصح الإقرار إلا من عاقل مختار، فأما الطفل والمجنون، والنائم، والمبرسم، فلا يصح إقرارهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» ولأنه التزام حق بالقول، فلم يصح منهم كالبيع، فإن قال: أقررت قبل البلوغ، فالقول قوله مع يمينه إذا كان اختلافهما بعد بلوغه في أحد الوجهين، فأما السكران بسبب مباح، فهو كالمجنون؛ لأنه غير عاقل، والسكران بمعصية، حكم إقراره حكم طلاقه، ولا يصح إقرار المكره؛ لقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه سعيد، ولأنه قول أكره عليه بغير حق، فلم يصح كالبيع. وإذا ادعى أنه أقر مكرهاً، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل السلامة. فإذا ثبت أنه كان مقيداً، أو محبوساً، أو موكلاً به، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن هذه دلالة الإكراه، وإن ادعى أنه كان زائل العقل، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل السلامة، فإن أكره على الإقرار بشيء، فأقر بغيره، لزمه إقراره؛ لأنه غير مكره على ما أقر به، وكذلك إن أكره على الإقرار لإنسان، فأقر لغيره، ولا يصح إقرار الصبي المحجور عليه، وإن كان عاقلاً؛ لأنه لا يصح بيعه، وإن كان العاقل مأذوناً له في التجارة، جاز إقراره فيما أذن له فيه، وقال أبو بكر: لا يصح إقراره إلا في الشيء اليسير، والأول أصح؛ لأنه يصح تصرفه فيه، فصح إقراره به كالبالغ. فصل ويصح إقرار العبد بالحد والقصاص فيما دون النفس؛ لأن الحق له، دون مولاه، ولأن إقرار مولاه عليه به لا يصح، فلو لم يقبل إقراره به لتعطل، وأما القصاص في النفس، فظاهر قول الخرقي أنه يصح إقراره به، وهو اختيار أبي الخطاب كذلك. وعن أحمد: أنه لا يصح إقراره به؛ لأنه يسقط به حق سيده، أشبه الإقرار بقتل الخطأ، ولأنه متهم في أن يقر لمن يعفو على مال، فتستحق رقبته ليتخلص من سيده، ولا يقبل إقراره بجناية الخطأ، ولا بعمد موجبه المال؛ لأنه إيجاب حق في رقبة مملوكة لمولاه، فلم يقبل كإقراره على عبد سواه، ويقبل إقرار المولى عليه بذلك؛ لأنه يقر بحق في ماله، فأشبه ما لو أقر لرجل بملك العبد، ولا يقبل إقراره عليه بحد ولا قصاص؛ لأنه لا يملك منه إلا المال، لكن إن أقر عليه بقصاص قبل إقراره فيما يتعلق بالمال، فيملك المقر له مطالبته بالمال؛ لأنه أقر بما يضمن وجوب المال، فلزمه، كما لو أقر الموسر بعتق نصيبه من العبد المشترك، وإن أقر العبد المشترك بسرقة موجبها المال، لم يقبل، ويقبل إقرار المولى عليه لذلك، وإن كان موجبها القطع دون المال، قبل إقرار العبد بها دون المولى، وإن كان موجبها القطع والمال، فأقر بها العبد، وجب قطعه دون المال، سواء كان في يده أو يد سيده، باقياً، أو تالفاً، لما تقدم وإن أقر العبد غير المأذون له بدين، لم يقبل، ويتعلق بذمته، يتبع به بعد العتق، وإن أقر المأذون له قبل إقراره في دين المعاملة في قدر ما أذن له فيه، وإن أقر بقرض أو أرش جناية، لم يقبل؛ لأنه أقر بغير مأذون له فيه، فلم يقبل، كغير المأذون له. وإن حجر السيد عليه، ثم أقر بدين، لم يقبل؛ لأنه محجور عليه بالرق، فلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 يصح إقراره، كما لو كان عليه دين يحيط بتركته، وإن أقر السيد أنه باع عبد نفسه، فكذبه العبد، عتق، ولم يلزمه شيء سوى اليمين على الثمن؛ لأن السيد أقر بحريته وادعى الثمن، فإن ادعى أنه باعه أجنبياً فأعتقه، فأنكره، عتق العبد على سيده، وحلف المنكر على الثمن. فأما المكاتب، فحكمه حكم الحر في إقراره؛ لأن تصرفه صحيح، وحكم أم الولد والمدبر حكم القن؛ لأن تصرفه بغير إذن سيده لا يصح. فصل وإقرار المريض بدين الأجنبي صحيح؛ لأنه غير متهم في حقه، وعنه: لا يقبل في مرض موته؛ لأن حق الورثة تعلق بماله، فلم يقبل إقراره به، كالمفلس، وعنه: يقبل إقراره بثلث المال دون ما زاد؛ لأنه يملك التصرف فيه بالوصية، فملك الإقرار به، والأول: ظاهر المذهب، لما ذكرنا، فإن ثبت عليه دين في الصحة، ثم أقر بدين في مرض موته، واتسع ماله لهما، تساويا، وإن ضاق عنهما، فظاهر كلام الخرقي، والتميمي، أنهما يتحاصان فيه؛ لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال، فتساويا كدين الصحة، وقال القاضي: قياس المذهب، أنه يقدم الدين الثابت على الدين الذي أقر به في المرض؛ لأنه أقر بعد تعلق حق الأجنبي بماله، فلم يشارك المقر له من ثبت حقه قبل التعلق، كما لو أقر بعد الفلس، وإن أقر لهما جميعاً في المرض، تساويا، ولم يقدم السابق منهما؛ لأنهما تساويا في الحال، فأشبه غريمي الصحة، وإن أقر المريض لوارث، لم يقبل إلا ببينة؛ لأنه إيصال للمال إلى الوارث بقوله، فلم يصح، كالوصية، إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فما دون، فيصح؛ لأن سببه ثابت، وهو النكاح وإن أقر لوارثه، فلم يمت حتى صار غير وارث، لم يصح، وإن أقر لغير وارث، فصار وارثاً قبل الموت، صح إقراره له، نص عليهما أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه إقرار لوارث في الأولى، ولغير وارث في الثانية، متهم في الأولى، غير متهم في الثانية، فأشبه الشهادة، وذكر أبو الخطاب في المسألتين رواية أخرى خلاف ما قلنا؛ لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث، فاعتبر بحالة الموت، كالوصية، فإن أقر المريض بوارث، ففيه روايتان: إحداهما: يصح؛ لأنه عند الإقرار غير وارث. والثانية: لا يصح؛ لأنه حين الموت وارث، ويمكن أن تكون هذه مبنية على المسألتين قبلها، وإن ملك ابن عمه، وأقر أنه كان أعتقه في صحته، وهو أقرب عصبته، عتق ولم يرثه؛ لأنه توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته، لكونه إقراراً لوارثه، وإذا بطلت حريته، سقط ميراثه، فيفضي توريثه إلى إسقاط ميراثه، ويحتمل أن يرث؛ لأنه حين الإقرار غير وارث، فأشبه الإقرار بوارث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 فصل ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق المقر به، فإن أقر لعبد بالنكاح، أو القصاص، أو تعزير القذف، صح الإقرار به وإن كذبه المولى؛ لأن الحق له دون المولى، وإن أقر له بمال، فالإقرار لمولاه، يلزم بتصديقه، ويبطل برده؛ لأن يد العبد كيد سيده، وإن أقر لبهيمة لم يصح، ولم يكن لمالكها، لأن البهيمة لا تملك ولا لها أهلية الملك، وإن أقر لحمل بمال، وعزاه إلى إرث، أو وصية، صح؛ لأنه يملك بهما، وإن لم يعزه، فقال ابن حامد: يصح أيضاً؛ لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح، فصح له الإقرار المطلق، كالطفل، وقال أبو الحسن التميمي: لا يصح؛ لأنه لا يثبت له الملك بغيرهما، فعلى قول ابن حامد: إن ولدت ذكراً وأنثى، كان بينهما نصفين؛ لأنه شرك بينهما في الإقرار، فأشبه ما لو أقر لهما بعد الولادة، وإن قال: لهذا الحمل علي ألف أقرضتها، فقياس المذهب، صحة إقراره؛ لأنه وصله بما يسقطه، فسقطت الصلة دون الإقرار، كما لو قال: له علي ألف لا يلزمني، وإن قال: أقرضني ألفاً، لم يصح؛ لأن القرض إذا سقط، لم يبق شيء يصح به الإقرار، ومتى أقر لحمل بمال وعزاه إلى وصية، فخرج الطفل ميتاً، عاد إلى ورثة الموصي، وإن عزاه إلى إرث، عاد إلى شركائه في الميراث، وإن أطلق، كلف ذكر السبب ليعمل به، فإن مات قبل التفسير، بطل الإقرار، كالمقر لرجل لا يعرف مراد إقراره، وإن أقر لمسجد، أو مصنع وعزاه إلى سبب صحيح، من غلة وقفه ونحوه صح، وإن أطلق، فيه وجهان بناء على ما تقدم. فصل ومن أقر لرجل بمال في يده وكذبه المقر له، بطل إقراره له؛ لأنه لا يقبل قوله عليه في ثبوت ملكه، ويقر المال في يد المقر في أحد الوجهين؛ لأنه كان في يده، فإذا بطل إقراره، بقي كأنه لم يقر به، وفي الآخر يأخذه الإمام، فيحفظه حتى يظهر مالكه؛ لأنه بإقراره خرج عن ملكه، ولم يدخل في ملك المقر له، وكل واحد منهما ينكر ملكه، فهو كالمال الضائع، فإن ادعاه ثالث، فأقر له المقر له، صح؛ لأنه صار بمنزلة صاحب اليد. فصل إذا قال: لي عليك ألف، فقال: نعم، أو أجل أو صدقت، أو إي لعمري، كان مقراً بها؛ لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق، وإن قال: أعطني عبدي هذا، أو اقضني الألف التي لي عليك، فقال: نعم، كان مقراً؛ لأنه تصديق، وإن قال: أنا مقر بدعواك، كان مقراً؛ لأنه صدقه، وإن لم يقل: بدعواك، ففيه وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 أحدهما: يكون مقراً؛ لأنه جواب الدعوى، فانصرف إليها. والثاني: لا يكون مقراً؛ لأنه يحتمل أنه أراد: إني مقر ببطلان دعواك، وإن قال: أنا أقر، لم يكن مقراً؛ لأنه وعد بالإقرار، وإن قال: أنا لا أنكر، لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل: لا أنكر بطلان دعواك، وإن قال: لا أنكر أن تكون محقاً، لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل أن يريد: محقاً في اعتقادك، ويحتمل أن يكون مقراً؛ لأنه جواب الدعوى، فانصرف إليها، وإن قال: لا أنكر أنك محق في دعواك، كان مقراً؛ لأنه لا يحتمل إلا الدعوى التي عليه، وإن قال: "لعل" أو "عسى" لم يكن مقراً؛ لأنهما للترجي، وإن قال: "أظن" أو أحسب أو أقدر لم يكن مقراً؛ لأن هذه وضعت للشك، وإن قال: لك علي ألف في علمي، كان مقراً بها؛ لأن ما عليه في علمه لا يحتمل غير الوجوب، وإن ادعى عليه ألفاً، وقال: خذ، أو اتزن، أو افتح كمك، لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل ضد الجواب، أو اتزن من غيري، أو افتح كمك للطمع، وإن قال: خذها، أو اتزنها، فكذلك؛ لأنه لم يقر أنه واجب، ويحتمل أن يكون مقراً؛ لأن هذه الكناية ترجع إلى المذكور في الدعوى، وإن قال: هي صحاح، ففيها وجهان، كالتي قبلها، وإن قال: له علي ألف إن شاء الله، كان مقراً؛ لأنه وصل إقراره بما يسقط جملة، فسقطت الصلة وحدها، كما لو قال: له علي ألف لا تلزمني، وإن قال: له علي ألف إلا أن يشاء الله، صح إقراره كذلك، وإن قال: له علي ألف إن شاء زيد، فقال القاضي: يكون إقراره صحيحاً كذلك؛ ولأن الحق الثابت في الحال لا يقف على شرط مستقبل، فسقط الاستثناء، ويحتمل أن لا يكون إقراراً؛ لأنه علقه على شرط مقيد، يمكن الوقوف عليه، أشبه ما لو قال: له علي ألف إن شهد بها فلان، وإن قال: له علي ألف إن شهد بها فلان، أو إن شهد علي فلان بها فهو صادق، ففيه وجهان: أحدهما: يكون مقراً؛ لأنه أقر بها عند الشرط، ولا تكون عند الشرط إلا وهي عليه في الحال وإن قال: إن شهد بها فلان صدقته، لم يكن مقراً؛ لأنه قد يصدقه بما لم يصدق فيه، وإن قال: له علي ألف إذا جاء رأس الشهر، كان مقراً؛ لأنه بدأ بالإقرار، وبين بالثاني المحل، وإن قال: إذا جاء رأس الشهر، فله علي ألف، فليس بإقرار؛ لأنه بدأ بالشرط، وأخبر أن الوجوب إنما يوجد عند رأس الشهر، والإقرار لا يتعلق على شرط. فصل إذا قال: له علي ألف قضيتها إياه، لزمه الألف، ولم تسمع دعوى القضاء؛ لأنه أقر أن الألف عليه في الحال، وقوله قضيتها، يرفع ما أقر به كله، فلم يقبل، كاستثناء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 الكل، ولأنه بدعوى القضاء يكذب نفسه في الإقرار، فلم تسمع، كما لو قال: له علي ألف، ولا شيء له علي، وقال القاضي: يقبل؛ لأنه ما أقر به بكلام متصل، أشبه استثناء البعض، وإن قال: قضيته منها مائة، ففيه روايتان: إحداهما: يقبل؛ لأنه رفع بعض ما أقر به بكلام متصل، أشبه استثناء المائة. والثانية: لا يقبل؛ لأنه يكذب نفسه؛ لأنه لو قضاه مائة، لم يكن له عليه ألف، والاستثناء لا يرفع ما أقر به، وإنما يمنع دخول ما استثناه في المستثنى منه، وإن قال: كان له علي ألف فقضيتها ففيه روايتان: إحداهما: لا تقبل دعوى القضاء؛ لأنه أقر بالدين وادعى براءته منه، فقبل إقراره، ولا تسمع دعواه إلا ببينة، كما لو ادعى ذلك بكلام منفصل. والثانية: يقبل، اختاره الخرقي؛ لأنه قول يمكن صحته، ولا تناقض فيه من جهة اللفظ، فوجب قبوله، كاستثناء البعض. قال القاضي: المذهب أن هذا ليس بإقرار، وإن قال: لي عليك ألف، فقال: قضيتك منها مائة، فقال القاضي: ليس هذا إقراراً بشيء؛ لأن المائة قد رفعها بقوله، والباقي لم يقر به، وقوله: منها، يحتمل أنه أراد مما يدعيه، وإن قال: كان له علي ألف وسكت، فهو مقر بها؛ لأنه أقر بوجوبها عليه، وثبوتها في ذمته، والأصل بقاؤه حتى يوجد ما يرفعه. [ باب الاستثناء في الإقرار ] باب الاستثناء الاستثناء يمنع أن يدخل في الإقرار ما لولاه لدخل، ولا يرفع ما ثبت؛ لأنه لو ثبت بالإقرار شيء، لم يقدر المقر على رفعه، فيصح استثناء ما دون النصف؛ لأنه لغة العرب، قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] ولا يصح استثناء أكثر من النصف، لأنه ليس من لسانهم، قال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير. ولو قال: له علي مائة إلا تسعة وتسعين، لم يكن متكلماً بالعربية، وفي استثناء النصف وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه ليس بالأكثر. والثاني: لا يصح لأنه لم يأت في لسانهم إلا في القليل من الكثير، فإذا قال: له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 علي عشرة إلا درهمين، لزمته ثمانية، وإن قال: إلا ثمانية، لزمته العشرة، وإن قال: إلا خمسة، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه خمسة. والآخر: يلزمه عشرة. فصل ولا يصح الاستثناء من غير الجنس، ولا من غير النوع، فلو قال: له علي عشرة دراهم إلا ثوباً، لزمته العشرة، وإن قال: له علي قفيز تمر معقلي، إلا مكوكاً برنياً، لزمه القفيز كله، ولم يصح الاستثناء؛ لأن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه، ولأنه مشتق من: ثنيت فلاناً عن رأيه، إذا صرفته عما كان عازماً عليه، وثنيت عنان دابتي، إذا رددتها عن وجهها الذي كانت ذاهبة إليه، ولا يوجد هذا في غير الجنس والنوع، ولأن الاستثناء من غير الجنس لا يكون إلا في الجحد بمعنى "لكن" والإقرار إثبات، فإن استثنى أحد النقدين من الآخر، لم يصح في إحدى الروايتين، اختارها أبو بكر، لما ذكرنا. والأخرى: يصح، اختارها الخرقي؛ لأنهما كالجنس الواحد، لاجتماعهما في أنهما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، ويعبر بأحدهما عن الآخر، وتعلم قيمته منه، فأشبها النوع الواحد، بخلاف غيرهما. فصل وإن أقر بدار إلا بيتاً منها عينه، لم يدخل البيت في إقراره؛ لأنه استثناه، وإن قال: هذا البيت لي، وهذه الدار له أو هذه الدار له وهذا البيت لي، صح؛ لأنه في معنى الاستثناء، لكونه أخرج بعض ما دخل في اللفظ بكلام متصل، وإن قال: إلا ثلثها، أو إلا ربعها، صح، وكان مقراً بالباقي، فإن قال: له هذه الدار إلا نصفها، صح، وكان مقراً بالنصف؛ لأن هذا بدل البعض، وهو سائغ. قال الله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] ، ويصح ذلك فما دون النصف، كقوله: له هذه الدار إلا ربعها، أو أقل، كقولهم: رأيت زيداً وجهه، وإن قال: له هذه الدار سكناها، أو قال: هي له سكنى، أو عارية، صح، وهذا بدل الاشتمال، كقوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] ، فهو في معنى الاستثناء في كونه إخراجاً للبعض، ويفارقه في جواز إخراج أكثر من النصف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 فصل وإن قال: له هؤلاء العبيد إلا هذا، كان مقراً بمن دون المستثنى، وإن قال: إلا واحداً، رجع في تعيين المستثنى إليه؛ لأنه لا يعرف إلا من جهته، وكذلك إن قال: غصبتك هؤلاء العبيد إلا واحداً، رجع في تفسير الواحد إليه، فإن هلكوا إلا واحداً، ففسر به المستثنى، قبل في الغصب، وجهاً واحداً؛ لأنه يلزمه غرامة ما تلف، وفي الإقرار وجهان: أحدهما: يقبل أيضاً؛ لأنه يحتمل ما قاله. والثاني: لا يقبل، ذكره أبو الخطاب؛ لأنه يرفع جميع ما أقر به، وإن قتلوا إلا واحداً، قبل تفسيره به، وجهاً واحداً؛ لأنه، لا يرفع جملة الإقرار، لوجوب قيمة الباقين للمقر له. فصل إذا استثنى بعد الاستثناء بحرف العطف، كان مضافاً إلى الاستثناء الأول، فإذا قال: له علي عشرة إلا ثلاثة، وإلا درهمين، كان مستثنياً لخمسة من العشرة، وإن كان الثاني غير معطوف، كان مستثنياً من الاستثناء، فيكون استثناؤه من الإثبات نفياً، ومن النفي إثباتاً، وهو جائز في اللغة. قال الله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] . فأذا قال: له علي عشرة إلا ثلاثة، إلا درهماً، كان مقراً بثمانية، وإن قال: له علي عشرة إلا خمسة، إلا ثلاثة، إلا درهمين، إلا درهماً، لم يصح على قول من منع استثناء النصف، ولزمته عشرة، وعلى قول غيره يصح، ويكون مقراً بسبعة، ولو قال: عشرة إلا ستة، إلا أربعة، إلا درهمين، فهو مقر بستة؛ لأنه أثبت عشرة، ثم نفى ستة، ثم أثبت أربعة، ثم نفى درهمين، بقي ستة. فصل وإن عطف جملة على جملة بالواو، ثم استثنى، ففيه وجهان: أحدهما: يعود الاستثناء إليهما جميعاً؛ لأن العطف جعل الجملتين كالجملة الواحدة، فعاد الاستثناء إليهما، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن الرجل الرجل في بيته، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 والثاني: لا يعود إلا إلى التي تليه؛ لأن عوده إلى ما يليه متيقن، وما زاد مشكوك فيه، فلا يثبت بالشك، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] . فلو قال: علي أربعة وثلاثة، إلا درهمين، صح على الوجه الأول، وبطل على الثاني؛ لأنه استثناء الأكثر، فإن وجدت قرينة صارفة إلى أحد الاحتمالين، انصرف إليه، وكذلك إن عطف على المستثنى، مثل قوله: له علي عشرة إلا أربعة وثلاثة، ففيه وجهان: أحدهما: يصيران كجملة واحدة، فيبطل الاستثناء كله لزيادته على النصف. والثاني: لا يصيران كجملة واحدة فيبطل الاستثناء الثاني وحده. فصل وإذا قال: له عندي تمر في جراب، أو سكين في قراب، أو دراهم في كيس، أو في صندوق، وثوب في منديل: وزيت في زق، وفص في خاتم، فقال ابن حامد: يكون مقراً بالمظروف وحده؛ لأن إقراره، لم يتناول الظرف، فيحتمل أنه أراد: في ظرف لي، وفيه وجه آخر: أنه يكون مقراً بالجميع؛ لأنه ذكره في سياق الإقرار، فكان مقراً به، كالمظروف، وقال: له عندي جراب فيه تمر، أو قراب فيه سكين، وسائر ما مثلنا، أو دابة عليه سرج، أو عبد عليه عمامة، فعلى الوجهين كما ذكرنا، وإن قال: له عندي ثوب مطرز، أو خاتم بفص، أو سرج مفضض، وأطلق، لزمه الثوب بتطريزه، والخاتم بفصه، والسرج بفضته؛ لأنه صفة له. فصل وإذا قال: له علي ألف درهم زيوف، أو ناقصة، أو مكسرة، أو إلى شهر، بكلام متصل، لزمه ما أقر به على صفته؛ لأنه إنما يلزمه بقوله، فأتبع قوله فيه، إلا أن يفسر الزيوف بما لا قيمة له، فلا يقبل؛ لأنه أثبت في ذمته شيئاً، وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة، وذكر أبو الخطاب: احتمالاً في أنه لا يقبل قوله: مؤجلة؛ لأن التأجيل يمنع استيفاء الحق في الحال، والمذهب: أنه يقبل؛ لأنه يحتمل ما قاله، فوجب اتباعه، كما لو قال: ناقصة، فأما إن سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه، ثم وصفها بشيء من هذه الصفات، لم يقبل، ولزمه ألف جياد وازنة صحاح حالة؛ لأن إطلاقها يقتضي ذلك، بدليل ما لو باعه: بألف درهم وأطلق، فإنها تلزمه كذلك: فإذا سكت، استقرت في ذمته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 كذلك، فلا يتمكن من تغييرها، ولا فرق بين الإقرار بها من غصب، أو وديعة، أو قرض، أو غيره، وإن كان المقر في بلد أوزانهم ناقصة، أو مغشوشة، ففسر إقراره، بدراهم البلد، قبل؛ لأن إطلاقه ينصرف إليها، بدليل إيجابها في ثمن المبيع، ويحتمل أن لا يقبل تفسيره بها؛ لأن إطلاق الدراهم تنصرف إلى دراهم الإسلام، وهو: ما كان عشرة منه وزن سبعة مثاقيل، وتكون فضة خالصة، وهي: التي قدر بها الشرع نصب الزكوات، والديات، والجزية، ونصاب القطع في السرقة، ويخالف الإقرار البيع من حيث إنه أقر بحق سابق، والبيع إيجاب في الحال، وإن أقر بدراهم صغار، فظاهر كلام الخرقي: أنه يقبل تفسيره بدراهم ناقصة؛ لأن الصغر في الذات وصف لا يثبت في الذمة، فلا ينصرف الإقرار إليه؛ لأنه إخبار عما في الذمة، ويحتمل أن لا يقبل تفسيره بناقص؛ لأنه يحتمل صغيراً في ذاته، وهو وازن، وإن أقر بدرهم كبير، لزمه درهم من دراهم الإسلام؛ لأنه كبير في العرف، وإن قال: له علي دراهم عدداً، لزمته وازنة؛ لأن الدراهم تقتضي أن تكون وازنة، وذكر العدد لا ينفي كونها وازنة، فوجب الجميع، وإن فسر الدراهم بسكة البلد، أو سكة تزيد عليها، قبل؛ لأنه غير متهم، وإن كانت تنقص عنها، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأن إطلاقه يحمل على دراهم البلد، كما في البيع. والثاني: يقبل؛ لأنه فسرها بدراهم الإسلام، وإن قال: له علي دريهم، لزمه درهم وازن؛ لأنه هو المعروف، والتصغير قد يكون لقلته عنده، أو لمحبته، أو غير ذلك، وإن قال: له علي دراهم، لزمه ثلاثة؛ لأنها أقل الجمع، وإن قال: دراهم كثيرة، لم يلزمه أكثر من ثلاثة؛ لأنها كثيرة بالإضافة إلى ما دونها، ويحتمل أنها كثيرة عنده، أو في نفسه، وإن قال: له علي ما بين درهم إلى عشرة، لزمه ثمانية؛ لأنها الذي بينهما. وإن قال: من درهم إلى عشرة، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه تسعة؛ لأن الواحد أول العدد، فيدخل فيه، ولا يدخل العاشر؛ لأنه غاية ينتهي إليها، فلم يدخل. والثاني: يلزمه عشرة؛ لأن العاشر أحد الطرفين، فيدخل فيه كالأول، ويحتمل أن يلزمه ثمانية كالتي قبلها. فصل وإذا قال: له علي ألف لا يلزمني، أو من ثمن خمر، أو خنزير، أو تكفلت به عن فلان على أني بالخيار، لزمه ما أقر به، وسقط ما وصله به؛ لأنه يسقط ما أقر به، فلم يقبل، كاستثناء الكل، وإن قال: هذا العبد لفلان رهن عندي على دين لي عليه، فأنكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 المقر له الدين، لزمه العبد، والقول قول المالك في نفي الدين مع يمينه؛ لأن العين ثبتت له بالإقرار، وادعى المقر ديناً، فكان القول قول من ينكره، وكذلك لو أقر بدار، وقال: قد استأجرتها، أو بثوب، وادعى أنه قصره أو خاطه بأجرة، أو بعبد، وادعى استحقاق خدمته، أو أقر بسكنى دار غيره، فادعى أنه سكنها بإذنه، فالقول قول المالك مع يمينه لما ذكرناه. وإن قال: له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، ففيه وجهان: أحدهما: القول قول المالك كما ذكرنا. والثاني: القول قول المقر؛ لأنه أقر بحق في مقابلة حق لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا لم يسلم له ماله، لم يسلم ما عليه، كما لو قال لرجل: بعتك هذا بألف، وقال بل ملكتنيه بغير شيء، وفارق ما لو قال: لك عندي رهن، فقال المالك: بل وديعة؛ لأن الدين بنفسك عن الرهن، والثمن لا ينفك عن المبيع، ولو قال: له علي ألف من ثمن مبيع، ثم سكت، ثم قال: لم أقبضه قبل، كالمتصل؛ لأن إقراره تعلق بالمبيع، والأصل عدم القبض، فقبل قوله فيه، ولو قال: له علي ألف، ثم سكت، ثم قال: من ثمن مبيع لم أقبضه، لم يقبل؛ لأنه فسر إقراره بما يمنع وجوب التسليم بكلام منفصل، كما لو قال: له علي ألف، ثم سكت، ثم قال قبضتها. فصل وإذا قال: له عندي ألف، ثم قال: هي وديعة، قبل تفسيره، سواء قال ذلك متصلاً أو منفصلاً؛ لأنه فسر لفظه بما يقتضيه، فقبل، كما لو قال: له علي ألف وفسره بدين، فعند ذلك تثبت أحكام الوديعة، بحيث لو ادعى تلفها، كان القول قوله، ولو قال: له عندي ألف فطالبه به بعد مدة، فقال: كانت وديعة، فتلفت، أو قال: رددتها عليك، فالقول قوله، نص عليه أحمد، كما ذكرنا، ولو قال: لك عندي وديعة وقد تلفت، فقال القاضي: يقبل قوله كذلك، ويتوجه أن لا يقبل ها هنا؛ لأن الألف المردود والتالف ليس عنده، ولا هي وديعة: وإن قال: كانت عندي فظننتها باقية، ثم عرفت أنها هلكت، فالحكم فيها كالتي قبلها. ولو قال: له عندي ألف، ثم فسره بدين عليه، قبل؛ لأنه يقر بما هو أغلظ، وإن قال: له علي ألف، ثم قال: وديعة، وقال المقر له: بل هي دين، فالقول قول المقر له؛ لأن "علي" للإيجاب في الذمة، والإقرار يؤخذ فيه بظاهر اللفظ، بدليل أنه لو أقر بدراهم، أخذ بثلاثة، فعند ذلك تثبت أحكام الدين، فلا تسمع دعواه تلفها. وإن قال: لك علي ألف، ثم أحضرها وقال: هذه التي أقررت بها، وهي وديعة، فقال المقر له: هذه وديعة، والمقر به غيرها، دين عليك، فالقول قول المقر له، لما ذكرناه. هذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي: القول قول المقر، إلا أن يكون قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 علي ألف في ذمتي، فيكون القول قول المقر له، قال: وقد قيل: القول قول المقر؛ لأنه يحتمل أنه أراد: في ذمتي أداؤها، أو يكون وديعة تعدى فيها، وإذا لم يقل: في ذمتي، قبل قوله؛ لأن الوديعة عليه حفظها وأداؤها؛ لأن حروف الصلة يخلف بعضها بعضاً، قال الله تعالى إخباراً عن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14] أي: عندي. وإن قال: له علي ألف وديعة، قبل؛ لأنه وصل كلامه بما يحتمله، فصح، كما لو قال: ألف نقص، وإن قال: له علي ألف وديعة ديناً، أو مضاربة ديناً، صح؛ لأنه قد يتعدى فيها فتكون ديناً. [ باب الرجوع عن الإقرار ] ومن أقر بحق لآدمي، أو حق لله تعالى، لا تسقطه الشبهة، كالزكاة، والكفارة، ثم رجع عن إقراره لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق ثبت لغيره، فلم يسقط بغير رضاه، كما لو ثبت ببينة، وإن أقر بحد، ثم رجع عنه، قبل رجوعه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتاه ماعز، فشهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هل بك جنون» ؟ متفق عليه، فلو لم يسقط بالرجوع، لما عرض له به، ولو أقيم عليه بعض الحد، ثم رجع، قبل رجوعه، ويخلى سبيله، لما روي «أن ماعزاً هرب في أثناء رجمه، قال جابر: فأدركناه بالحرة، فرجمناه حتى مات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فهلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه» ، ولأنه إذا سقط جميعه بالرجوع، فبعضه أولى وإن هرب في أثناء الحد ترك، لما رويناه، ولأنه يحتمل الرجوع، فإن لم يتركوه حتى قتلوه، لم يضمنوه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يضمنهم ديته، ولأن الهرب ليس بصريح في الرجوع، فلم يسقط به المتيقن. فصل وإذا قال: هذه الدار لزيد، بل لعمرو، أو غصبتها من زيد، بل من عمرو، حكم بها لزيد؛ لأن إقراره له بها، ولم يقبل رجوعه عن إقراره له؛ لأنه حق لآدمي، ويلزمه أن يغرم قيمتها لعمرو؛ لأنه حال بينه وبين ماله، لإقراره به لغيره، فلزمه ضمانه، كما لو أتلفه، وإن قال: غصبتها من أحدهما، طولب بالتعيين، فإن عين أحدهما، لزمه دفعها إليه، وعليه اليمين للآخر، فإن نكل عنها، غرم له، لما ذكرنا. وإن قال: غصبتها من زيد، وملكها لعمرو، لزمه دفعها إلى زيد، لإقراره له باليد، ولا يقبل قوله: ملكها لعمرو؛ لأنه إقرار على غيره، ولا يغرم لعمرو شيئاً؛ لأنه لا تفريط منه، إذ يجوز أن يكون ملكها لعمرو، وهي في يد زيد بإجارة، أو غيرها. وإن قال: ملكتها لزيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 وغصبتها من عمرو، فالحكم فيها كالتي قبلها. لا فرق بين التقديم والتأخير، ويحتمل أن يلزمه تسليمها إلى زيد، ويلزمه ضمانها لعمرو، كما لو قال: غصبتها من زيد، بل من عمرو. وإذا مات رجل وخلف ألفاً، فادعاها رجل، فأقر له بها الوارث، ثم ادعاها آخر، فأقر له بها، فهي للأول، ويغرمها للثاني، لما ذكرنا في أول الفصل، وإن ادعى رجل على ميت ألفاً، فصدقه الوارث، ثم ادعى آخر على الميت ألفاً، فصدقه الوارث، فقال الخرقي: إن كان في مجلس واحد، فهي بينهما؛ لأن حكم المجلس الواحد حكم الحال الواحد. وإن كان في مجلسين، فهي للأول؛ لأنه استحق تسليمها كلها بالإقرار له، فلا يقبل إقرار الوارث بما يسقط حقه؛ لأنه إقرار على غيره. [ باب الإقرار بالمجمل ] إذا قال: له علي شيء، أو كذا، قيل له: فسره، فإن أبى، حبس حتى يفسره؛ لأنه أقر بالحق، وامتنع من أدائه، فحبس عليه، وقال القاضي: إذا امتنع من البيان، قيل للمقر له: فسره أنت، ثم يسأل المقر: فإن صدقه، ثبت عليه، وإن أبى، جعل ناكلاً، وقضي عليه، وإذا مات، أخذ ورثته بمثل ذلك، وإن فسره بمال قبل وإن قل؛ لأنه شيء، وإن فسره بقشر جوزة، وحبة حنطة، ونحوهما مما لا يتمول عادة، لم تقبل؛ لأن إقراره اعتراف بحق عليه، وهذا لا يثبت في الذمة، وكذلك إن فسره بكلب، أو حيوان يحرم اقتناؤه، وإن فسره بكلب يجوز اقتناؤه أو جلد ميتة، غير مدبوغ، ففيه وجهان: أحدهما: يقبل؛ لأنه يجب عليه رده، فالوجوب ثابت عليه. والثاني: لا يقبل؛ لأن إقراره يقتضي وجوب ضمانه عليه، وهذا لا يضمنه، وإن فسره بحد قذف، أو شفعة، قبل؛ لأنه حق عليه في ذمته، وإن قال: غصبتك لم يلزمه شيء؛ لأنه قد يغصبه نفسه، وإن قال: غصبتك شيئاً، لزمه حق يؤخذ بتفسيره على ما بيناه. فصل وإن أقر بمال، قبل تفسيره بالقليل والكثير؛ لأن اسم المال يقع عليه، وإن قال له علي مال عظيم، أو كثير، أو جليل، أو خطير، فكذلك؛ لأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه، ويحتمل أنه أراد عظمه عنده، لقلة ماله، وفقر نفسه. وإن قال: له علي أكثر من مال فلان، قبل تفسيره بالقليل والكثير؛ لأنه يحتمل أنه أراد أكثر بقاء نفعاً، أو لكونه حلالاً، سواء علم مال فلان، أو جهله، هذا قول أصحابنا. والأولى أنه يلزمه أكثر منه قدراً؛ لأنه ظاهر اللفظ السابق إلى الفهم، فلزمه، كما لو أقر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 بدراهم، لزمه ثلاثة، ولم يقبل تفسيره بما دونها. فصل إذا قال: له علي كذا درهم بالجر، قبل تفسيره بجزء من درهم؛ لأن "كذا" يحتمل، أن يكون جزءاً مضافاً إلى درهم، وإن قال: كذا درهم مرفوعاً، لزمه درهم؛ لأن تقديره: شيء هو درهم، وإن قال: كذا درهماً، فكذلك، ويكون نصبه على التمييز. وإن قال: كذا كذا درهم، فالحكم فيها كغير المكررة؛ لأن التكرير للتأكيد، وإن قال: كذا وكذا درهم، فكذلك؛ لأنه بمنزلة قوله: شيئان هما درهم، وفي الخفض بمنزلة: جزء درهم، وفي النصب وجهان: أحدهما: يلزمه درهم، اختاره ابن حامد والقاضي؛ لأن الدرهم الواحد يجوز أن يكون تفسيراً لشيئين، كل واحد بعض درهم. والثاني: يلزمه درهمان، اختاره التميمي؛ لأنه ذكر جملتين فسرهما بدرهم، فيعود التفسير إلى كل واحد منهما، كقوله: عشرون درهماً، وحكي عن التميمي أيضاً: أنه يلزمه، أكثر من درهم، جعل الدرهم تفسيراً لما يليه، ورجع في تفسير الأولى إليه. فصل وإن قال: له علي ألف، رجع في تفسير جنسها إليه، فإن فسرها بأجناس، قبل منه؛ لأنه يحتمل ذلك، وإن قال: له علي ألف ودرهم، أو درهم وألف، ففيه وجهان: أحدهما: الجميع دراهم، اختاره ابن حامد، والقاضي؛ لأنه ذكر مبهماً مع مفسر، فكان المبهم من جنس المفسر، كما لو قال: مائة وخمسون درهماً، ولأن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى، كقول الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] . والثاني: يرجع في تفسير الألف إليه؛ لأن العطف لا يقتضي التسوية بين المعطوفين في الجنس، بدليل أنه يجوز أن يقول: رأيت رجلًا وحماراً، وإن قال: له علي ألف، إلا خمسين درهماً، فعلى الوجهين. أحدهما: يكون الجميع دراهم؛ لأن الاستثناء، المطلق، ينصرف إلى الاستثناء من الجنس، بدليل ما لو قال: له علي ألف درهم إلا خمسين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 والثاني: يرجع في تفسير الألف إليه؛ لأنه يحتمل أنه أراد الاستثناء من غير الجنس، وإن قال: له علي ألف وخمسون درهماً، أو ألف وثلاثة دراهم، فالجميع دراهم؛ لأن الدرهم المفسر في كلامهم يفسر جميع ما قبله، كقوله سبحانه: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] وقوله: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4] والفرق بينها وبين التي قبلها أن الدرهم هاهنا للتفسير، لا يجب به زيادة على العدد، وفي التي قبلها، ذكر للإيجاب، ولهذا يجب به زيادة على الألف، ويحتمل أن يرجع في تفسير الألف إليه، لما ذكرنا في التي قبلها. فصل وإذا أقر بألف في وقت، ثم أقر بألف في وقت آخر، لزمه ألف واحد؛ لأنه خبر، فيجوز أن يكون الثاني خبراً عما أخبر به في الأول، وإن قال: ألف من قرض، ثم قال ألف من ثمن مبيع، لزمه الألفان؛ لأن الثاني غير الأول، وإن قال: ألف وألف، أو فألف، أو ثم ألف، لزمه ألفان؛ لأن العطف يقتضي كون المعطوف غير المعطوف عليه. وإن قال: له علي درهم ودرهمان، لزمه ثلاثة كذلك، وإن قال: له علي درهم، ودرهم، ودرهم، لزمه ثلاثة كذلك، وقال بعض أصحابنا: إن قال: أردت بالثالث التوكيد، قبل؛ لأنه في لفظ الثاني وكذلك الحكم إن قال: له علي درهم، فدرهم، فدرهم، أو درهم، ثم درهم، ثم درهم، وإن قال: له علي درهم، ودرهم، ثم درهم، لزمته ثلاثة؛ لأن الثالث لا يصلح للتأكيد، لمخالفته للثاني، وإن قال: له علي درهم، بل درهم، لزمه درهم؛ لأنه لم يقر بأكثر منه، ويحتمل أن يلزمه درهمان؛ لأنه أضرب عن الأول، فلم يسقط بإضرابه، وأثبت الثاني معه، ذكره أبو بكر، وابن أبي موسى. وإن قال: له علي درهم، بل درهمان، لزمه درهمان، وإن قال: له علي درهم، بل دينار، لزمه درهم ودينار؛ لأنه أضرب عن الدرهم فلم يسقط، وأثبت معه ديناراً، فلزماه، وإن قال: له علي هذا الدرهم، بل هذان الدرهمان، لزمه ثلاثة كذلك، وإن قال: له علي قفيز حنطة بل، قفيزا شعير، لزمه الثلاثة كذلك، وإن قال: له علي درهم، نصفه، لزمه نصف درهم؛ لأن هذا بدل البعض، وهو سائغ، فينزل منزلة الاستثناء. وإن قال: له علي درهم، أو دينار لزمه أحدهما، يرجع في تعيينه إليه، ويؤخذ به؛ لأنه أقر بأحدهما. وإن قال: له علي درهم في دينار، لزمه درهم؛ لأنه يجوز أن يريد: في دينار لي، وإن قال: له علي درهم فوق درهم، أو تحت درهم، فقال القاضي: يلزمه درهم؛ لأنه يحتمل فوق درهم، أو تحته في الجودة، فلم يلزمه زيادة مع الاحتمال، وقال أبو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 الخطاب: يلزمه درهمان؛ لأنه إقرار بدرهم، مقرون بآخر، فلزماه جميعاً، وإن قال: له علي درهم مع درهم، أو معه درهم، أو قبله درهم، أو بعده درهم، لزمه درهمان؛ لأن "قبل" و "بعد" يستعملان للتقديم والتأخير في الوجوب، فحمل عليه، وإن قال: له علي درهم في عشرة، وفسره بإرادة الحساب، لزمه عشرة، وإن فسره بدرهم مع عشرة، لزمه أحد عشر، وإن لم يفسره لزمه درهم؛ لأنه يحتمل: في عشرة لي، إلا أن يكون عرفهم استعمالهم "في" ذلك، بمعنى "مع" فيحتمل وجهين. فصل وإن قال: له في هذا العبد شركة، أو هو شركة بيننا أو هو لي وله، كان مقراً بجزء من العبد، يؤخذ بتفسيره، ويقبل بتفسيره بالقليل والكثير؛ لأن اللفظ يقع عليه، وإن قال: له في هذا العبد ألف، طولب بالبيان. فإن قال: وزن في ثمنه ألفاً عني، كانت قرضاً، وإن لم يقل: عني، كان شريكاً بقدرها، وإن قال: أوصي له بألف من ثمنه، قبل، وإن فسرها: بألف من جناية جناها العبد، قبل أيضاً؛ لأنه يحتمل ذلك، وإن قال: هو رهن عندي بألف ففيه وجهان: أحدهما: يقبل؛ لأن الدين يتعلق بالرهن، فصح تفسيره به، كالجناية. والثانية: لا يقبل؛ لأن حق المرتهن في الذمة لا في العبد، وإن قال: له في ميراث أبي ألف، لزمه تسليمها إليه؛ لأن حق المرتهن في الذمة لا في العبد، وإن قال له في ميراث أبي ألف لزمه تسليمها إليه، وإن قال: له في ميراثي من أبي ألف، وقال: أردت هبة، وبدا لي من تقبيضها، قبل منه؛ لأنه أضاف الميراث إلى نفسه، ولا ينتقل ماله إلى غيره إلا من جهته وإن قال: له في هذا المال ألف، لزمه، وإن قال: له في مالي هذا ألف، أو من مالي هذا ألف، وفسره بدين، أو وديعة، قبل منه؛ لأنه يحتمل صدقه فقبل كالأول. فصل ومن شهد بحرية عبد غيره، أو أقر بها، ثم اشتراه، عتق عليه، لاعترافه بحريته، ويكون بيعاً في حق البائع، واستخلاصاً في حق المشتري، وولاؤه موقوف؛ لأن أحداً لا يدعيه، فإذ مات وخلف مالاً، فقال القاضي: للمشتري منه قدر ثمنه عوضاً عما استخصله به، كما لو استنقذ أسيراً من بلد الروم بثمن، وإن رجع البائع فصدق المشتري في إعتاقه، لزمه رد الثمن عليه، والولاء له؛ لأنه إقرار بسبب للميراث لا منازع له فيه، فقبل، كالإقرار بالنسب، وإن رجع المشتري عن الشهادة بالحرية، لم يقبل في الحرية؛ لأنه حق لغيره، وقيل في الولاء لعدم المنازع له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 [ باب الإقرار بالنسب ] إذا أقر رجل بنسب مجهول النسب يمكن كونه منه، وهو صغير، أو مجنون، ثبت نسبه منه؛ لأنه أقر له بحق، فثبت، كما لو أقر له بمال، فإن بلغ الصبي، وأفاق المجنون، وأنكر النسب، لم يسقط؛ لأنه نسب حكم بثبوته، فلم يسقط برده، كما لو قامت به بينة. وإن كان المقر به بالغاً عاقلاً لم يثبت نسبه حتى يصدقه؛ لأن له فيه قولاً صحيحاً، فاعتبر تصديقه، كما لو أقر له بمال، وإن كان المقر به ميتاً، ثبت نسبه وإن كان بالغاً؛ لأنه لا قول له، أشبه المجنون. ومتى ثبت نسب المقر له به، فرجع المقر عن الإقرار، لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق لغيره، وإن صدقه المقر له في الرجوع، ففيه وجهان. أحدهما: لا يسقط؛ لأن النسب إذا ثبت، لم يسقط بالاتفاق على نفيه، كالثابت بالفراش. والثاني: يقبل؛ لأنهما اتفقا على الرجوع عن الإقرار، أشبه الرجوع عن الإقرار بالمال. فصل وإن أقر على أبيه أو غيره بنسب في حياته، لم يقبل إقراره؛ لأن إقرار الرجل على غيره غير مقبول، وإن أقر بعد موته وكان الميت قد نفاه، لم يثبت؛ لأنه يحمل على غيره نسباً قد حكم بنفيه، وإن لم يكن نفاه، ولكن المقر غير وارث، لم يقبل إقراره؛ لأنه لا يقبل إقراره في المال، فكذا في النسب، وإن كان وارثاً ومعه شريك في الميراث لم يثبت النسب بقوله؛ لأنه لا يثبت في حق شريكه، فوجب أن لا يثبت في حقه، وإن كان هو الوارث وحده، ثبت النسب بقوله، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «اختصم سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي؛ وُلد على فراشه، وقال سعد: ابن أخي عهد إلي فيه أخي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش» ، متفق عليه؛ ولأن الوارث يقوم مقام موروثه في حقوقه، وهذا من حقوقه، وإن كان المقر بنتاً واحدة، ثبت النسب بقولها؛ لأنها ترث المال كله بالفرض والرد، وإن خلف زوجة، فأقرت بابن لزوجها، فوافقها الإمام، ثبت نسبه، وإلا فلا. وإن خلف ابنين عاقلاً، ومجنوناً، فأقر العاقل بأخ، لم يثبت النسب؛ لأنه لا يرث المال كله، فإن مات المجنون، وله وارث غير أخيه، لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 يثبت النسب إلا باتفاقهم جميعاً، وإن لم يخلف وارثاً إلا أخاه، قام مقامه في الإقرار، وإن كانا عاقلين، فأقر أحدهما بنسب صغير ثم مات الآخر، ففيه وجهان: أحدهم: يثبت النسب؛ لأن المقر صار جميع الورثة. والثاني: لا يثبت؛ لأن تكذيبه لشريكه يبطل الحكم بنسبه، فلم يثبت، كما لو أنكر الأب نسبه في حياته، فأقر به الوارث، وإن خلف ابناً، فأقر بأخ، ثبت نسبه. فإن أقر الثالث، ثبت نسبه أيضاً، فإن أنكر الثالث الثاني ففيه وجهان: أحدهما: يسقط نسبه؛ لأن الثالث ابن، فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني. والثاني: لا يسقط؛ لأنه ثبت نسبه: قبل الثالث، ولأن الثالث فرع على نسب الثاني، فلا يسقط الفرع أصله، وإن خلف أبناً، فأقر بأخوين له في وقت واحد، فصدق كل واحد منهما لصاحبه، ثبت نسبهما، وإن تكاذبا، لم يثبت نسب واحد منهما في أحد الوجهين؛ لأنه لم يجتمع كل الورثة على الإقرار لهما، وفي الآخر يثبت نسبهما؛ لأنه ثبت بقول ثابت النسب قبلهما، فلم يؤثر إنكارهما، وإن صدق أحدهما بصاحبه، وكذب به الآخر، ثبت نسب المصدق به، وفي الآخر وجهان، وإن أقر ابن الوارث، بنسب أحد التوأمين، ثبت نسبهما، فإن كذب أحدهما بصاحبه، لم يؤثر التكذيب لأنهما لا يفترقان في النسب، وإن أقر الوارث بنسب من يحجبه، كأخ أقر بابن للميت، ثبت نسبه، وورث دونه؛ لأن حجبه لو منع إقراره، لما صح إقرار الابن بأخ؛ لأنه يخرج بإقراره عن كونه كل الورثة. فصل إذا كان لرجل أمة لها ثلاثة أولاد، ولم يقر بوطئها، ولا زوج لها فقال: أحد أولادها ابني، أخذ ببيان النسب والتعيين، فإذا عين أحدهما، ثبت نسبه وحريته، فإن قال: هو من نكاح فعليه الولاء لأبيه؛ لأنه قد مسه رق، والأمة وولداها الآخران رقيق قن؛ لأنها لم تعلق منه بِحُرّ في ملكه، وإن قال: من وطء شبهة، فالولد حر الأصل، وأمه وأخواه مملوكون، وإذا قال: استولدتها في ملكي، فالولد حر الأصل، ولا ولاء عليه، والجارية أم ولد، فإن كان المعين الأكبر، فأخواه ابنا أم ولد، حكمهما حكمها؛ لأنها ولدتهما بعد استيلادهما وثبوت حكم أم الولد لها، وإن عين الأوسط، فالأكبر رقيق، والأصغر له حكم أمه، وإن عين الأصغر، فأخواه رقيق؛ لأنها ولدتهما قبل كونها أم ولده وإن مات قبل البيان، أخذ ورثته بالبيان، ويقوم بيانهم مقام بيانه، فإن بينوا النسب دون الاستيلاد، ثبت النسب وحرية الولد، ولم تصر الأمة أم ولد؛ لاحتمال كونه من نكاح وغيره، وإن لم يعينوا أحداً منهم، عرضوا على القافة، فإن ألحقوا به واحداً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 ألحقناه به، ولا يثبت حكم الاستيلاد لغيره، وإن لم يكن قافة، وأشكل، أقرعنا بينهم، لتميز الحرية، فمن وقعت عليه القرعة، عتق، وورث، ويحتمل أن تصير الأمة أم ولد في هذه المواضع؛ لأنه أقر بولدها وهي في ملكه، فالظاهر أنه استولدها في ملكه. فصل فإن كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد، ولا زوج لواحدة منهما، ولم يقر بوطئها، فقال: أحد هذين ابني، أخذ بالبيان، فإن عين أحدهما، ثبت نسبه وحريته، ويطالب ببيان الاستيلاد فإن قال: استولدتها في ملكي، فالولد حر الأصل، وأمه أم ولد، وإن قال: من نكاح، أم وطء شبهة، فالأمة رقيق قن، وترق الأخرى وولدها. فإن ادعت الأخرى أنها المستولدة، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم استيلادها، وإن مات قبل البيان، قام وارثه مقامه على ما بينا في المسألة التي قبلها، فإن لم يكن له وارث،، أو لم يعين الوارث، عرضا على القافة، فألحق بمن ألحقته به القافة، وإن لم يكن قافة، أو أشكل أقرع بينهما، فيعتق أحدهما بالقرعة، وقياس المذهب أنه يثبت نسبه ويرث أيضاً. فصل وإن خلف رجل ابنين، فأقر أحدهما بدين على أبيه لأجنبي، وكان عدلاً، فللغريم أن يحلف مع شهادته، ويأخذ دينه، وإن لم يكن عدلاً، حلف المنكر، وبرئ، ويلزم المقر من الدين بقدر ميراثه؛ لأنه لو لزمه بإقراره جميع الدين، لم تقبل شهادته على أخيه، لكونه يدفع بها عن نفسه ضرراً، ولأنه لا يرث إلا نصف التركة، فلم يلزمه أكثر من نصف الدين، كما لو وافقه أخوه، وإن لم يخلف الميت تركة، لم يلزم الوارث من الدين شيء؛ لأنه لا يلزمه أداء دينه إذا كان حياً مفلساً، فكذلك إذا كان ميتاً. وإن كانت له تركة، تعلق الدين بها، فإن أحب الوارث تسليمها في الدين، لم يلزمه سوى ذلك، وإن أحب استخلاصها وإيفاء الدين من ماله، فله ذلك، ويلزمه أقل الأمرين من قيمتها، أو قدر الدين بمنزلة دين الجناية في رقبة الجاني، وإذا قال الرجل في مرضه: هذه الألف لقطة، فتصدقوا بها، ولا مال له سواها، فقال أبو الخطاب: يلزمهم التصدق بثلثها؛ لأنها جميع ماله، والأمر بالصدقة بها وصية بجميع المال، فلا يلزمهم منها إلا الثلث، وقال القاضي: يلزمهم الصدقة بجميعها؛ لأن أمره بالصدقة بها يدل على تعديه فيها على وجه تلزمهم الصدقة بجميعها، فيكون ذلك إقراراً منه لغير وارث، فيجب امتثاله والله أعلم. تم بحمد الله ومنته الجزء الرابع من الكافي في فقه الإمام أحمد وبه تمام الكتاب والحمد لله رب العالمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316