الكتاب: الحاوي للفتاوي المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت-لبنان عام النشر: 1424 هـ - 2004 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الحاوي للفتاوي السيوطي الكتاب: الحاوي للفتاوي المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت-لبنان عام النشر: 1424 هـ - 2004 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [ الفتاوى الفقهية ] [ مقدمة المؤلف ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ جَامِعِ الشَّتَاتِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ. وَبَعْدُ: فَقَدِ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي جَمْعِ نُبَذٍ مِنْ مُهِمَّاتِ الْفَتَاوِي الَّتِي أَفْتَيْتُ بِهَا عَلَى كَثْرَتِهَا جِدًّا، مُقْتَصِرًا عَلَى الْمُهِمِّ وَالْعَوِيصِ، وَمَا فِي تَدْوِينِهِ نَفْعٌ وَإِجْدَا، وَتَرَكْتُ غَالِبَ الْوَاضِحَاتِ، وَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَذْهَانِ الْقَادِحَاتِ، وَبَدَأْتُ بِالْفِقْهِيَّاتِ مُرَتَّبَةً عَلَى الْأَبْوَابِ، ثُمَّ بِالتَّفْسِيرِ، ثُمَّ بِالْحَدِيثِ، ثُمَّ بِالْأُصُولِ، ثُمَّ بِالنَّحْوِ وَالْإِعْرَابِ، ثُمَّ بِسَائِرِ الْفُنُونِ إِفَادَةً لِلطُّلَّابِ، وَسَمَّيْتُ هَذَا الْمَجْمُوعَ: (الْحَاوِي لِلْفَتَاوِي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 [كِتَابُ الطَّهَارَةِ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ: إِنَّهُ الَّذِي يَقُولُ رَائِيهِ: هَذَا مَاءٌ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْأَصْحَابُ هَلْ يُنَافِي قَوْلَ كَثِيرٍ مِنْ شَارِحِي الْمِنْهَاجِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ وَلَا تَغَيُّرَ فَطَهُورٌ إِنَّهُ نَكَّرَ الْمَاءَ لِيَشْمَلَ الطَّهُورَ وَالطَّاهِرَ وَالْمُتَنَجِّسَ حَيْثُ جَعَلَ التَّنْكِيرَ وَالْعُرْيَ عَنِ الْقَيْدِ وَصْفًا لِلْمَاءِ فِي الْأَوَّلِ بِالْإِطْلَاقِ دُونَ الثَّانِي إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ؟. الْجَوَابُ: إِنَّ الْمَذْكُورَ فِي حَدِّ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ: " إِنَّهُ الَّذِي يَقُولُ رَائِيهِ: هَذَا مَاءٌ " رَاجِعٌ إِلَى الْعُرْفِ، وَالْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَإِنَّ الْمَاءَ فِي اللُّغَةِ يَصْدُقُ بِالطَّهُورِ وَبِالطَّاهِرِ وَبِالنَّجِسِ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِ التَّنْبِيهِ بَابُ الْمِيَاهِ إِنَّهُ جَمَعَ الْمَاءَ، وَإِنْ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ، وَاسْمُ الْجِنْسِ لَا يُجْمَعُ إِلَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ ; لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْمَاءِ مُخْتَلِفَةٌ، فَيَتَنَوَّعُ إِلَى طَهُورٍ، وَطَاهِرٍ، وَنَجِسٍ، وَحَرَامٍ، وَمَكْرُوهٍ. فَعُلِمَ بِذَلِكَ صِدْقُهُ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ لُغَةً، وَأَمَّا الضَّابِطُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِّ الْمُطْلَقِ فَإِنَّمَا أُخِذَ مِنَ الْعُرْفِ لِاعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ، وَالْعُرْفُ لَا يُطْلِقُ الْمَاءَ عَلَى مَا عَدَا الْمُطْلَقَ إِلَّا مُقَيَّدًا، لَا مُطْلَقًا بِأَنْ يَقُولَ: مَاءٌ نَجِسٌ، أَوْ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ، أَوْ مَاءُ زَعْفَرَانٍ، وَيُؤَكِّدُ كَوْنَهُمْ نَظَرُوا فِي ضَابِطِ الْمُطْلَقِ إِلَى الْعُرْفِ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فِي سَلْبِهِ عَنِ الْمُتَغَيِّرِ بِالْمُخَالَطِ فِي الْكَثِيرِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ =مَاءً لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِهِ ; لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنَاهَا الْعُرْفُ، وَالْعُرْفُ لَا يُسَمِّي هَذَا مَاءًا، وَقَوْلُهُمْ فِي قَاعِدَةِ مَا لَا ضَابِطَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا اللُّغَةِ: إِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَعُلِمَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ ضَابِطٌ جَرَى عَلَى الْمُصْطَلَحِ الْعُرْفِيِّ، وَالثَّانِيَ تَعْبِيرٌ جَرَى عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَالْمُنَكَّرُ بِوَضْعِهِ شَامِلٌ لِلْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ. مَسْأَلَةٌ: فِي الْقَطِرَانِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْقِرَبِ إِذَا تَغَيَّرَ بِهِ طَعْمُ الْمَاءِ، أَوْ لَوْنُهُ، أَوْ رِيحُهُ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ حَتَّى يَسْلُبَ الطَّهُورِيَّةَ؟ وَهَلْ هُوَ مُجَاوِرٌ، أَوْ مُخَالِطٌ، وَالزِّفْتُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْجِرَارِ إِذَا غَيَّرَ الْمَاءَ هَلْ يَسْلُبُهُ الطَّهُورِيَّةَ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: قَالَ النووي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الْأُمِّ: إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ قَطِرَانٍ فَتَغَيَّرَ رِيحُهُ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ بِأَسْطُرٍ: إِذَا تَغَيَّرَ بِالْقَطِرَانِ لَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ. فَقَالَ الْأَصْحَابُ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلْ عَلَى حَالَيْنِ فَإِنَّ الْقَطِرَانَ ضَرْبَانِ: مُخْتَلِطٌ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: هُمَا قَوْلَانِ، وَهُوَ غَلَطٌ. هَذَا كَلَامُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، قُلْتُ: بَقِيَ صُورَتَانِ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِمَا إِحْدَاهُمَا: مَا إِذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا =فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي تَغَيُّرِ الرِّيحِ وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّغَيُّرَ بِاللَّوْنِ دَلِيلُ الْمُجَاوَرَةِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا إِذَا كَانَ مِنْ صَلَاحِ الْوِعَاءِ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَنَّ الْقِرَبَ إِذَا لَمْ تُدْهَنْ بِهِ أَسْرَعَ إِلَيْهَا الْفَسَادُ، فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا حِينَئِذٍ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ كَالَّذِي فِي مَقَرِّ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: لَا. وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ. [بَابُ الْآنِيَةِ] مَسْأَلَةٌ: قَالُوا: لَوِ اشْتَرَى آنِيَةَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَازَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى قَوْلِنَا لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. الْجَوَابُ: لَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّ مُرَادَهُمْ صِحَّةُ الشِّرَاءِ لَا إِبَاحَتُهُ، وَقَدْ يَصِحُّ الشَّيْءُ مَعَ تَحْرِيمِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى أَنَّ النووي قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: يَنْبَغِي تَخْرِيجُهُ عَلَى جَوَازِ الِاتِّخَاذِ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ كَانَ كَبَيْعِ الْمُغَنِّيَةِ. [بَابُ أَسْبَابِ الْحَدَثِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الْآنَ فِي شَرْحِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِتَارِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ: وَيَكْفِي السَّتْرُ بِالْوَهْدَةِ وَنَحْوِهَا وَبِإِرْخَاءِ الذَّيْلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ عَدِّ السَّتْرِ مِنَ الْآدَابِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ مَنْ يَرَى عَوْرَتَهُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نَظَرُهَا، أَمَّا بِحَضْرَتِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَكَشْفُ عَوْرَتِهِ بِحَضْرَتِهِ حَرَامٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبَا التَّوَسُّطِ، وَالْخَادِمُ، والبلقيني فِي فَتَاوِيهِ وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ شهاب الدين ابن النقيب فِي نُكَتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَيُبْعِدُ وَيَسْتَتِرُ أَيْ: وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَلَوْ بِشَجَرَةٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ جمال الدين الأسنوي فِي الْقِطْعَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَتِرُ عَنْ عُيُونِ النَّاسِ فَتَحَرَّرَ أَنَّ الْمُرَادَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَنْ عُيُونِ النَّاظِرِينَ، وَقَدْ قَالَ أَعْنِي الأسنوي فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: يُقَدِّمُ دَاخِلُ الْخَلَاءِ يَسَارَهُ وَالْخَارِجُ يَمِينَهُ. تَنْبِيهٌ: جَمِيعُ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْآدَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ إِلَّا الِاسْتِقْبَالَ وَالِاسْتِدْبَارَ فِي الصَّحْرَاءِ قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَسَنَذْكُرُ مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَاعْلَمْهُ، ثُمَّ قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ: وَيُحَرَّمَانِ بِالصَّحْرَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تَنْبِيهَاتٌ: أَحَدُهَا أَنَّ عُدُولَ الْمُصَنِّفِ هُنَا إِلَى التَّحْرِيمِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآدَابِ يُعَرِّفُكَ عَدَمَ تَحْرِيمِهَا وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا سَبَقَ انْتَهَى، وَقَدْ قَالُوا فِي الْغُسْلِ: إِنَّهُ يَحْرُمُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ لَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَالْمَسْؤُولُ بَيَانُ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ هَلْ هُوَ عَدَمُ جَوَازِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ لَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْغُسْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ؟ أَوْ جَوَازُ الْكَشْفِ لِذَلِكَ وَعَلَى النَّاسِ غَضُّ أَبْصَارِهِمْ، وَبَيَانُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَهَا مُخَالِفٌ لِبَعْضٍ، وَإِذَا قُلْتُمْ: إِنَّ بَعْضَهَا يُخَالِفُ الْبَاقِيَ فَمَا الْفَرْقُ؟ وَهَلْ يُقَالُ: إِنَّ الْغُسْلَ مَحَلُّ حَاجَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُمْكِنُ مَعَ السَّتْرِ بِالْإِزَارِ، وَالْبَوْلُ وَالِاسْتِنْجَاءُ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فِي الْجُمْلَةِ فَيُسَامَحُ فِيهِمَا بِمَا لَا يُسَامَحُ فِي الْغُسْلِ؟ وَالْمَسْؤُولُ بَيَانُ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مُتَفَضِّلِينَ بِعَزْوِ مَا يَكُونُ مَنْقُولًا وَبِتَوْجِيهِ غَيْرِهِ لِتَكْمُلَ الْفَائِدَةُ. الْجَوَابُ: الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْغُسْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ، فَالَّذِي قَالَهُ الشَّارِحُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا اسْتِشْكَالُهُ بِقَوْلِ الأسنوي: إِنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْبَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَعَدَّ مِنْ ذَلِكَ السَّتْرَ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ عَنْ عُيُونِ النَّاسِ فَقَدْ تَبِعَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَكْثَرَ الْأَصْحَابِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْحَابِ: الجيلي، ثُمَّ النووي كِلَاهُمَا فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ فَقَالَا: إِنَّ عَدَّ ذَلِكَ أَدَبًا فِيهِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ حَسَنَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ عَنِ الْعُيُونِ فَيُمْكِنُ حَمْلُ الْعُيُونِ عَلَى عُيُونِ الْجِنِّ فَيَصِحُّ عَدٌّ ذَلِكَ أَدَبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَقَدْ ظَهَرَ لِي تَأْوِيلٌ حَسَنٌ لِعِبَارَةِ مَنْ قَالَ: عَنْ عُيُونِ النَّاسِ. ذَكَرْتُهُ فِي حَاشِيَةِ الرَّوْضَةِ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْحَاضِرِينَ، بَلْ مَنْ قَدْ يَمُرُّ مِنَ الطَّارِقِينَ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فَخُوطِبَ مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ وَهُوَ خَالٍ مِنَ الْمَارِّينَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلِاسْتِتَارِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ بِلَا سُتْرَةٍ يَمُرُّ عَلَيْهِ فَجْأَةً مَارٌّ فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ، وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ وَقَدْ يَفْرَغُ مِنْ حَاجَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُرَّ أَحَدٌ، أَوْ يَشْعُرَ بِمَنْ مَرَّ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ فَيَنْحَرِفَ، أَوْ يُرْخِيَ ذَيْلَهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ حَسَنٌ، أَوْ مُتَعَيِّنٌ، فَيُفَسِّرُ قَوْلَهُمْ: عَنْ عُيُونِ النَّاسِ. أَيِ: الطَّارِقِينَ بَغْتَةً، لَا الْحَاضِرِينَ، أَمَّا الْحَاضِرُونَ فَالسَّتْرُ عَنْهُمْ وَاجِبٌ. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّظَرَ مِنَ الْحَاضِرِينَ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ فَكَانَ السَّتْرُ وَاجِبًا، وَمِنَ الطَّارِقِينَ مُتَوَقَّعٌ أَوْ مُتَوَهَّمٌ فَكَانَ أَدَبًا إِذْ لَا تَكْلِيفَ قَبْلَ الْحُصُولِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ صُورَةٍ وَصُورَةٍ، فَمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ النَّاسِ بِحَيْثُ يُمَيِّزُ الْبَصَرُ عَوْرَتَهُ حَرُمَ الْكَشْفُ لِلْبَوْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِحَضْرَتِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ بَعِيدًا وَهُمْ يَرَوْنَهُ عَلَى بُعْدٍ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ لِعَوْرَتِهِ وَلَا إِدْرَاكٍ لِلَوْنِ جِلْدِهِ، بَلْ إِنَّمَا يَرَوْنَ شَبَحًا كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا لِمَنْ يَسْتَنْجِي عَلَى شُطُوطِ الْأَنْهَارِ، فَهَذَا يَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ بِالْجَوَازِ وَيَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَوَازِ أَيْضًا فِي صُورَةٍ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَهُ الْبَوْلُ وَهُوَ فِي مَكَانٍ مَحْبُوسٍ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَلَا سَبِيلَ إِلَى جِهَةٍ يَسْتَتِرُ بِهَا، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ التَّكَشُّفُ لِلْبَوْلِ وَعَلَيْهِمْ غَضُّ أَبْصَارِهِمْ، وَكَذَا لَوِ احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِنْجَاءِ وَقَدْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَجِدْ بِحَضْرَةِ الْمَاءِ مَكَانًا خَالِيًا، فَهَذَا أَيْضًا يَجُوزُ لَهُ وَعَلَيْهِمُ الْغَضُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: لَوْ شَمَّ الشَّخْصُ يَدَهُ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأَدْرَكَ فِيهَا رَائِحَةَ النَّجَاسَةِ فَقَدْ صَرَّحَ النووي بِنَجَاسَةِ الْيَدِ دُونَ الْمَحَلِّ وَهُوَ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ الْيَدَ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الْمَحَلِّ =وَمُكْتَسَبَةٌ مِنْهُ. الْجَوَابُ: ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ مَا لَوْ غُسِلَتِ النَّجَاسَةُ وَبَقِيَتْ رَائِحَتُهَا يَعْنِي مَعَ الْعُسْرِ وَالْأَرْجَحُ فِيهَا الطَّهَارَةُ فَكَذَلِكَ هُنَا الْأَرْجَحُ طَهَارَةُ الْمَحَلِّ، وَأَمَّا الْيَدُ فَلَمْ تُغْسَلْ بَعْدُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى النَّجَاسَةِ يَجِبُ غَسْلُهَا. [بَابُ الْوُضُوءِ] مَسْأَلَةٌ: لَوْ بَالَغَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَهُوَ صَائِمٌ هَلْ يَحْرُمُ، أَوْ يُكْرَهُ؟ . الْجَوَابُ: الْمُبَالَغَةُ لِلصَّائِمِ مَكْرُوهَةٌ، صَرَّحَ بِالْكَرَاهَةِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. مَسْأَلَةٌ: لَوْ نَوَى الِاغْتِرَافَ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَهَلْ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ لِكَوْنِ نِيَّةِ الِاغْتِرَافِ قَاطِعَةً لِرَفْعِ الْحَدَثِ كَمَا لَوْ طَرَأَتْ نِيَّةُ التَّبَرُّدِ؟ . الْجَوَابُ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ جلال الدين البلقيني وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ نِيَّةَ التَّبَرُّدِ فِيهَا صَرْفٌ لِغَرَضٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَنْوِي الِاغْتِرَافَ لِمَنْعِ حُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ، فَهَذَا وَلَا بُدَّ يَكُونُ ذَاكِرًا لِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ. [بَابُ مَسْحِ الْخُفِّ] مَسْأَلَةٌ: لَوْ كَانَ سَلِيمَ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَالْأُخْرَى عَلِيلَةٌ بِحَيْثُ يَسْقُطُ غَسْلُهَا فَهَلْ يَجُوزُ لُبْسُ الْخُفِّ فِي إِحْدَاهُمَا؟ وَقَدْ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ بِالصِّحَّةِ وَقَطَعَ العمراني بِالْمَنْعِ الْجَوَابُ: قَدْ صُحِّحَ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ مَقَالَةُ العمراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 [بَابُ الْغُسْلِ] مَسْأَلَةٌ: إِذَا اغْتَسَلَ عَنِ الْجَنَابَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْوُضُوءِ الَّذِي يَتَوَضَّأَهُ قَبْلَهُ الْمُوَالَاةُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا تَوَضَّأَ هَذَا الْوُضُوءَ، ثُمَّ انْتَهَى بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ قَبْلَ الْغُسْلِ مَعَ قُرْبِ الزَّمَنِ هَلْ يُشْتَرَطُ إِعَادَتُهُ لِتَحْصِيلِ السُّنَّةِ أَمْ لَا؟ ، وَهَلْ سُنَّةُ الْوُضُوءِ كَذَلِكَ إِذَا انْتَهَتْ قَبْلَ تَمَامِهِ؟ . الْجَوَابُ: لَا تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ وَلَا الْإِعَادَةُ. مَسْأَلَةٌ: لَوْ أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ بَعْضَ وَلَدٍ، وَلَمْ تَرَ بَلَلًا فَلَا غُسْلَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ مَعَ قَوْلِنَا أَنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ مِنْ مَنِيِّهِمَا. الْجَوَابُ: لَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِبَعْضِ الْوَلَدِ فِي كَلَامِهِمْ وَقَدْ قَالُوا فِيمَا لَوْ أَلْقَتْ عَلَقَةً، أَوْ مُضْغَةً بِلَا بَلَلٍ: إِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْضَ الْوَلَدِ كَذَلِكَ وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ. مَسْأَلَةٌ: الْبَلَلُ الْخَارِجُ عَلَى الْوَلَدِ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ، أَوْ نَجِسٌ وَهَلْ يُنَجِّسُ مَا أَصَابَهُ؟ . الْجَوَابُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي مَا نَصُّهُ: فَصْلٌ: فَأَمَّا حَمْلُ الْمَيِّتَةِ فَإِنِ انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا حَيًّا، فَهُوَ طَاهِرٌ، وَلَكِنْ قَدْ نَجُسَ ظَاهِرُ جِسْمِهِ بِالْبَلَلِ الْخَارِجِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ قَدِ انْفَصَلَ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا كَانَ فِي الْبَلَلِ الْخَارِجِ مَعَهُ وَمَعَ الْبَيْضَةِ مِنَ الطَّائِرِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا. أَحَدُهُمَا: نَجِسٌ كَالْبَوْلِ وَالثَّانِي: طَاهِرٌ كَالْمَنِيِّ وَهَكَذَا الْبَلَلُ الْخَارِجُ مِنَ الْفَرْجِ فِي حَالِ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ: يَجِبُ غَسْلُ الْبَيْضَةِ إِنْ وَقَعَتْ حَالَةَ الِانْفِصَالِ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ لَا يَجِبُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: بَلَلُ بَاطِنِ الْفَرْجِ طَاهِرٌ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: بَلَلُ بَاطِنِ الْفَرْجِ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: وَفِي نَجَاسَةِ بَيْضِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَجْهَانِ كَمَنِيِّهِ فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ طَاهِرٌ فَهَلْ يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، وَفِي فَتَاوَى ابن الصلاح سُئِلَ هَلْ يَكُونُ الْمَوْلُودُ إِذَا وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ نَجِسًا أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ الظَّاهِرِ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْآنِيَةِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الْبَيْضَةُ الْخَارِجَةُ فِي حَيَاةِ الدَّجَاجَةِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ ظَاهِرِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ والروياني وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِنَاءً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَكَذَا الْوَجْهَانِ فِي الْوَلَدِ الْخَارِجِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ والروياني. وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَيْضًا فِي بَابِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَهَلْ يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِ الْبَيْضِ إِذَا وَقَعَ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ طَاهِرَةٌ أَمْ نَجِسَةٌ وَقَطَعَ ابن الصباغ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَقَالَ: الْوَلَدُ إِذَا خَرَجَ طَاهِرًا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَا الْبَيْضُ، وَقَالَ بَعْدَهُ بِأَوْرَاقٍ مَا نَصُّهُ: الرَّابِعَةُ فِي الْفَتَاوِي الْمَنْقُولَةِ عَنْ صَاحِبِ الشَّامِلِ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْجَوْفِ طَاهِرًا لَا يُحْتَاجُ إِلَى غَسْلِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبِيضُ كَذَلِكَ فَلَا يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ، قَالَ: وَالنَّجَاسَةُ الْبَاطِنَةُ لَا حُكْمَ لَهَا، وَلِهَذَا اللَّبَنُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَهُوَ طَاهِرٌ حَلَالٌ. وَقَالَ الأسنوي فِي الْمُهِمَّاتِ: رَأَيْتُ فِي الْكَافِي للخوارزمي أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِوُقُوعِ الْمَوْلُودِ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مُفَرَّعًا عَلَى الْخِلَافِ وَأَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْغُسْلِ لِكَوْنِهِ نَجِسًا مَعْفُوًّا عَنْهُ انْتَهَى. لَكِنْ جَزَمَ الرافعي فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ بِنَجَاسَةِ الْبَلَلِ الْخَارِجِ مَعَ الْوَلَدِ وَنَقَلَهُ الزركشي فِي الْخَادِمِ، وَحَكَاهُ عَنْ تَصْحِيحِ الروياني فِي الْبَحْرِ فَإِنْ قَصَدَ الرافعي وَلَدَ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ ; لِأَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَهُ نَجَاسَةُ مَنِيِّ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، وَنَجَاسَةُ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَإِنْ أَرَادَ الْآدَمِيَّ وَغَيْرَهُ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْبِنَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَا بِقَصْدِ الْقُرْآنِ؟ . الْجَوَابُ: يَجُوزُ لِلْجُنُبِ إِيرَادُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْقُرْآنَ، بَلْ قَصَدَ الذِّكْرَ، أَوِ الْوَعْظَ، أَوِ الْإِخْبَارَ مِثْلَ {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: 12] وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَا بِقَصْدِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إِيرَادُهُ بِلَا قَصْدِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ الْخُلُوُّ عَنْ قَصْدِ الْقُرْآنِ فِي آيَةٍ، أَوْ نَحْوِهَا، أَمَّا مِثْلُ سُورَةٍ كَامِلَةٍ ; فَإِنَّهَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا لَا يُقْصَدُ مِنْهَا كُلِّهَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ، وَاللَّفْظُ مَوْضُوعٌ لِلتِّلَاوَةِ. [بَابُ النَّجَاسَةِ] [ مسائل متفرقة ] بَابُ النَّجَاسَةِ مَسْأَلَةٌ: الْأَرْضُ التُّرَابِيَّةُ إِذَا تَنَجَّسَتْ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً، ثُمَّ وَطِئَهَا شَخْصٌ وَعَلِقَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 التُّرَابُ، أَوِ الْوَحْلُ الْمُتَنَجِّسُ فَهَلْ يُحْتَاجُ فِي تَطْهِيرِهِ إِلَى تَعْفِيرٍ أَمْ لَا؟ ، وَإِذَا قُلْتُمْ إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْفِيرٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَقَدْ عُفِّرَ فِي الْأُولَى بِجَامِعِ أَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَجِبُ تَعْفِيرُهُ إِذْ هُوَ مِنْ شَيْءٍ لَا يُطْلَبُ تَعْفِيرُهُ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ لَا يُطْلَبُ تَعْفِيرُهُ. الْجَوَابُ: يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْفِيرِ وَذَلِكَ مَنْقُولٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ التُّرَابِيَّةِ حَيْثُ لَا تَحْتَاجُ هِيَ أَنْ لَا تُعَفَّرَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَتْرِيبِ التُّرَابِ وَهُنَا الْمُتَنَجِّسُ غَيْرُ التُّرَابِ وَهُوَ الْبَدَنُ، أَوِ الثَّوْبُ بِالتُّرَابِ الْمُتَنَجِّسِ، وَالتُّرَابُ الْمُتَنَجِّسُ لَا يَكْفِي فِي الْوُلُوغِ وَفِي وَجْهٍ يَكْفِي فَلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى هَذَا. قَالَ ابن السبكي فِي الطَّبَقَاتِ: كَانَ أبو بكر الضبعي يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ تُرَابَ الْوُلُوغِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا، وَهُوَ وَجْهٌ غَرِيبٌ حَكَاهُ الرافعي، قَالَ أبو عاصم وَذَكَرَ أَنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فَأَصَابَ ذِرَاعَهُ طِينٌ مِنْ وَحْلِ كَلْبٍ فَأَمَرَ جَارِيَتَهُ بِغَسْلِهِ وَتَعْفِيرِهِ فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَمَا فِي الطِّينِ تُرَابٌ. فَقَالَ: أَحْسَنْتِ، أَنْتِ أَفْقَهُ مِنِّي. انْتَهَى مَا حَكَاهُ ابن السبكي، وَهَذِهِ عَيْنُ الْمَسْأَلَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا، وَقَدْ صَرَّحَ ابن السبكي بِأَنَّ ارْتِضَاءَهُ بِعَدَمِ التَّعْفِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِهِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالتُّرَابِ النَّجِسِ، وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ فَيَكُونُ عَلَى مُقَابِلِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ مُحْتَاجًا إِلَى التَّعْفِيرِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا عِلَّتَهُ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُصِيبُ مِنَ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ التَّعْفِيرِ، فَهُوَ أَنَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَقَعَ تَعْفِيرُهُ لَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يُطْلَبْ تَعْفِيرُهُ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ غُسَالَةِ النَّجَاسَةِ كَحُكْمِ الْمَغْسُولِ بِهَا بَعْدَ غَسْلِهَا فَمَا كَانَ حُكْمَهُ كَانَ حُكْمَ مَا أَصَابَتْهُ. مَسْأَلَةٌ: لَوْ أَكَلَ الشَّخْصُ لَحْمَ كَلْبٍ، أَوْ خِنْزِيرِ وَارِثِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحَالَةٍ هَلْ يُسَبِّعُ الْمَحَلَّ؟ . الْجَوَابُ: لَا يُسَبِّعُ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ. مَسْأَلَةٌ: إِذَا وَقَعَ، أَوْ أُلْقِيَ فِي الْخَمْرِ عَيْنٌ طَاهِرَةٌ كَحَصَاةٍ، أَوْ جَرِيدَةٍ، أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يُؤْكَلُ وَأُزِيلَ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ خَلًّا هَلْ تُطَهَّرُ أَوَّلًا؟ وَإِذَا بَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ حَتَّى صَارَتْ خَلًّا هَلْ تُنَجِّسُهَا أَوَّلًا؟ وَإِذَا انْفَصَلَ شَيْءٌ مِنَ الْخَمْرِ، أَوْ فُصِلَ وَعَادَ إِلَيْهِ، أَوْ أُعِيدَ، أَوْ صُبَّ عَلَيْهَا خَمْرٌ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ خَلًّا هَلْ تُطَهَّرُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: عَنِ الصُّورَةِ الْأُولَى أَنَّهَا تُطَهَّرُ فَفِي فَتَاوَى النووي: إِذَا وَقَعَتْ فِي الْخَمْرِ نَجَاسَةٌ أُخْرَى كَعَظْمِ مَيْتَةٍ وَنَحْوِهِ فَأُخْرِجَتْ مِنْهَا، ثُمَّ انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا لَمْ تُطَهَّرْ بِلَا خِلَافٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَعِبَارَةُ الزركشي فِي الدِّيبَاجِ: الْخَمْرُ إِذَا تَخَلَّلَتْ تُطَهَّرُ إِجْمَاعًا، قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: هَذَا إِنْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أُخْرَى فَإِنْ وَقَعَتْ، ثُمَّ أُخْرِجَتْ وَتَخَلَّلَتْ لَمْ تُطَهَّرْ قَطْعًا، فَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَاقِعُ نَجَاسَةً وَأُخْرِجَتْ قَبْلَ التَّخْلِيلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَاقَاهَا عَيْنٌ طَاهِرَةٌ وَأُخْرِجَتْ قَبْلَ التَّخْلِيلِ ; فَإِنَّهَا تُطَهَّرُ إِذَا تَخَلَّلَتْ فَإِنَّ الْمُدْرِكَ هُنَا طَرْفٌ نَجِسٌ أَجْنَبِيٌّ، وَمِنْهُ أَخْذُ مَنْ أَخَذَ أَنَّ النَّجِسَ نَجِسٌ، وَهُوَ هُنَا مَفْقُودٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا عَسَاهُ يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الْعَيْنَ تَنْجُسُ، ثُمَّ =تُنَجِّسُ فَإِنَّ ذَاكَ إِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ بَعْدَ الِانْقِلَابِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ أَنَّ طُرُوءَ النَّجِسِ الْأَجْنَبِيِّ يَمْنَعُ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْحَجَرِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مَرُّ الْحَجَرِ الطَّاهِرِ مِنْ أَوَّلِ الْمَحَلِّ إِلَى آخِرِهِ وَإِنْ تَلَوَّثَ بِأَوَّلِ جُزْءٍ إِذَا لَمْ يَنْفَصِلْ، وَكَذَا مَرُّ الْمَاءِ عَلَى الثَّوْبِ النَّجِسِ الْمُرَادِ تَطْهِيرُهُ وَعَلَى مَحَلِّ الْحَدَثِ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ النَّجِسَةِ وَالطَّاهِرَةِ فِي الْمُلَاقَاةِ قَبْلَ التَّخْلِيلِ لِمَا فِي الْأُولَى مِنْ طُرُوءِ نَجَاسَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ قَوْلُ النووي: نَجَاسَةٌ أُخْرَى، وَالتَّفْرِقَةُ فِي الطَّاهِرَةِ بَيْنَ مَا إِذَا زَالَتْ قَبْلَ التَّخْلِيلِ، وَمَا إِذَا بَقِيَتْ بَعْدَهُ ; فَإِنَّهَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى =مُشَاكِلَةٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُغَايِرَةٌ، فَإِنَّهَا فِي الْأُولَى مُتَلَوِّثَةٌ بِخَمْرٍ فِي خَمْرٍ فَلَا تُؤَثِّرُ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُتَلَوِّثَةٌ بِخَمْرٍ فِي خَلٍّ فَتَنْجُسُ، وَعَنِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا لَا تُطَهَّرُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهِيَ مَنْقُولُ الْكُتُبِ، وَعَنِ الثَّالِثَةِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تُطَهَّرُ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي وَضْعِ الْخَمْرِ فِي الدَّنِّ بَيْنَ أَنْ يُوضَعَ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَصَبُّ خَمْرٍ عَلَى خَمْرٍ بِمَثَابَةِ مَا لَوْ وُضِعَ فِي الدَّنِّ أَوَّلًا كُوزٌ مِنْهُ، ثُمَّ كُوزٌ، ثُمَّ كُوزٌ وَهَكَذَا، فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ طُولِ الزَّمَانِ وَقِصَرِهِ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهِ خَمْرٌ مِنْ =خَارِجٍ، أَوْ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُعَادُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [تُحْفَةُ الْأَنْجَابِ بِمَسْأَلَةِ السِّنْجَابِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَرَدَ عَلَيَّ سُؤَالٌ صُورَتُهُ: مَا قَوْلُ مَوْلَانَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ حَافِظِ الْعَصْرِ مُجْتَهِدِ الْوَقْتِ عَالِمِ أَهْلِ الْأَرْضِ الْمَبْعُوثِ فِي الْمِائَةِ التَّاسِعَةِ فِي شَعَرِ السِّنْجَابِ وَنَحْوِهِ مِنْ شُعُورِ الْمَيْتَةِ هَلْ يُطَهَّرُ بِالدِّبَاغِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ، أَوْ لَا؟ وَلَسْنَا نَسْأَلُكُمْ عَنْ مَشْهُورِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ قَوْلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ الطَّهَارَةِ، بَلْ نَسْأَلُكُمْ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ وَالنَّظَرُ مِنْ حَيْثُ الِاجْتِهَادُ، وَالْمَسْؤُولُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاجْتِهَادِ وَأَصْحَابِ الِاخْتِيَارَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيرِ مُقَدِّمَتَيْنِ: الْأُولَى فِي أَنَّ الشَّعَرَ هَلْ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، أَوْ لَا يَنْجُسُ بِهِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى طَهَارَتِهِ؟ وَالثَّانِيَةُ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ وَعَدِمَهَا وَحُجَجِ كُلٍّ مِنْهُمَا. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَجَاسَةِ الشَّعَرِ بِالْمَوْتِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى نَجَاسَتِهِ مِنْهُمْ عطاء، وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ: الْبُوَيْطِيُّ، والمزني، والربيع المرادي، وَحَرْمَلَةُ، وَأَصْحَابُ الْقَدِيمِ، وَصَحَّحَهُ جُمْهُورُ الْمُصَحِّحِينَ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّ الشَّعَرَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ. مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ الْكُوفِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: حَكَى ابن شريح، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ، عَنِ المزني، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ تَنَجُّسِ الشَّعَرِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، والمزني، وابن المنذر، وداود، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْجُسُ شَيْءٌ مِنَ الشَّعَرِ بِالْمَوْتِ إِلَّا شَعْرَ الْخِنْزِيرِ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَيْتَةِ: " «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَبِأَنَّ الشَّعَرَ لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا جُزَّ لَا يَأْلَمُ صَاحِبُهُ، فَلَا يُحِلُّهُ الْمَوْتُ الْمُقْتَضِي لِلتَّنْجِيسِ، فَلَا يَكُونُ نَجِسًا، بَلْ يَبْقَى عَلَى طَهَارَتِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَبِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِتَنْجِيسِ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ مَا فِيهَا مِنَ الزُّهُومَةِ، وَلَا زُهُومَةَ فِي الشَّعَرِ، فَلَا =يَنْجُسُ، وَحَكَى العبدري، عَنِ الحسن، وعطاء، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ الشَّعَرَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَلَكِنْ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أم سلمة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا بَأْسَ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَلَا بِشَعَرِهَا إِذَا غُسِلَ» " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى شَعَرِ غَيْرِهَا إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ كَسَائِرِ الْجَامِدَاتِ إِذَا طَرَأَتْ نَجَاسَتُهَا، وَحَكَى الرَّبِيعُ الْجِيزِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّعَرَ تَابِعٌ لِلْجِلْدِ يَطْهُرُ بِطَهَارَتِهِ وَيَنْجُسُ بِنَجَاسَتِهِ، وَهَذَا أَقْوَى الْمَذَاهِبِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فَلِلْعُلَمَاءِ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ سَبْعَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ شَيْءٌ مِنْهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ، وعائشة، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أحمد، وَرِوَايَةٌ عَنْ مالك. وَالثَّانِي: يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ جِلْدُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وابن المبارك، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَرِوَايَةُ أشهب عَنْ مالك. وَالثَّالِثُ: يَطْهُرُ بِهِ كُلُّ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إِلَّا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْمُتَوَلِّدَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَالرَّابِعُ: يَطْهُرُ بِهِ الْجَمِيعُ إِلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مالك حَكَاهَا ابن القطان. وَالْخَامِسُ: يَطْهُرُ الْجَمِيعُ حَتَّى =الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ إِلَّا أَنَّهُ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لَا فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مالك فِيمَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْهُ. وَالسَّادِسُ: يَطْهُرُ الْجَمِيعُ حَتَّى الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قَالَهُ داود وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أبي يوسف وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ سُحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَالسَّابِعُ: يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ - حَكَوْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْجِلْدِ وَغَيْرِهِ، وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: «أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ " أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ» ، وَلَا عَصَبٍ " وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ عُمْدَتُهُمْ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ فِي حرملة، وأحمد فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ أحمد بن الحسين يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ ابن عكيم هَذَا لِقَوْلِهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ، وَكَانَ يَقُولُ هَذَا آخِرُ الْأَمْرِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، فَلَا يَطْهُرُ بِشَيْءٍ كَاللَّحْمِ وَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نَجُسَ بِهِ هُوَ الْمَوْتُ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهُ لَا يَزُولُ بِالدَّبْغِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» "، وَفِي لَفْظٍ " «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» " وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: " هَلَّا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ. قَالَ: " إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» ، وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سودة زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْتَبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا. رَوَى أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَاتَتْ شَاةٌ لسودة فَقَالَتْ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَتْ فُلَانَةُ. يَعْنِي الشَّاةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَهَلَّا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا؟ " قَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ» - فَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَى مالك فِي الْمُوَطَّأِ، وأبو داود، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ عَنْ عائشة: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ» . وَرَوَى أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَصَحَّحَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ سِقَاءٍ فَقِيلَ لَهُ: أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَقَالَ: (دِبَاغُهُ يَذْهَبُ بِخُبْثِهِ - أَوْ نَجَسِهِ، أَوْ رِجْسِهِ) » . وَرَوَى أحمد، وأبو داود، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ جون بن قتادة، عَنْ سلمة بن المحبق: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ. قَالَ: (أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا؟) قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: (فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا) » . وَرَوَى أبو داود، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ميمونة قَالَتْ: «مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجَالٌ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ الْحِمَارِ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا) قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ، وَالْقَرَظُ) » . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا، أَوَ لَيْسَ فِي الْمَاءِ وَالْقَرَظِ مَا يُطَهِّرُهَا) » ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ: ( «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» ) ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَهُ قَالَ: ( «إِنَّمَا حَرُمَ لَحْمُهَا وَدِبَاغُ إِهَابِهَا طَهُورُهُ» ) ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَهُ قَالَ: ( «إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ لَحْمُهَا وَرُخِّصَ لَكُمْ فِي مَسْكِهَا» ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذِهِ أَسَانِيدُ صِحَاحٌ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عائشة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «ذَكَاةُ الْمَيْتَةِ دِبَاغُهَا» ) ، وَفِي لَفْظٍ: ( «طَهُورُهَا دِبَاغُهَا» ) . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «دِبَاغُ كُلِّ إِهَابٍ طَهُورُهُ» ) . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» ) . وَرَوَى الخطيب فِي تَلْخِيصِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ حَدِيثِ جابر مِثْلَهُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ عَنْ أبي أمامة «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَمَرَّ بِأَهْلِ أَبْيَاتٍ مِنَ الْعَرَبِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ (هَلْ مِنْ مَاءٍ لِوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا مَاءٌ إِلَّا فِي إِهَابِ مَيْتَةٍ دَبَغْنَاهَا بِلَبَنٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ (أَنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ) فَأُتِيَ بِهِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى» ، وَرَوَى أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، ادْعُ لِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ بِوُضُوءٍ. فَقُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُ وُضُوءًا. فَقَالُوا: أَخْبِرْهُ أَنَّ دَلْوَنَا جِلْدُ مَيْتَةٍ، فَقَالَ: سَلْهُمْ: هَلْ دَبَغُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: (فَإِنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ) » . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ. فَقَالَ: (مَا ضَرَّ أَهْلَ هَذِهِ لَوِ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا؟) » . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ سنان بن سلمة «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى جَذَعَةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: (مَا ضَرَّ أَهْلَ هَذِهِ لَوِ انْتَفَعُوا بِمَسْكِهَا؟) » . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى شَاةٍ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَقَالُوا: مَيْتَةٌ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادْبَغُوا إِهَابَهَا، فَإِنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ) » . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طَهُورُهَا» ) . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عائشة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «طَهُورُ الْأَدِيمِ دِبَاغُهُ» ) . وَرَوَى أبو يعلى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ «عَنْ أم سلمة: أَنَّهَا كَانَتْ لَهَا شَاةٌ فَمَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟) قُلْنَا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ دِبَاغَهَا يَحِلُّ كَمَا يَحِلُّ الْخَلُّ مِنَ الْخَمْرِ) » . وَرَوَى أحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: «طَلَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً مِنِ امْرَأَةٍ أَعْرَابِيَّةٍ فَقَالَتْ: هَذِهِ الْقِرْبَةُ مِسْكُ مَيْتَةٍ، وَلَا أُحِبُّ أُنَجِّسُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ دَبَغَتْهَا، فَهُوَ طَهُورُهَا. فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: لَقَدْ دَبَغْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِمَاءٍ مِنْهَا» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوْهَبَ وُضُوءًا فَقِيلَ لَهُ: لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ إِلَّا فِي مَسْكِ مَيْتَةٍ، فَقَالَ: (أَدَبَغْتُمُوهُ) ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: (فَهَلُمَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ طَهُورُهُ) » . وَرَوَى الحارث بن أبي أسامة فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كُنَّا نُصِيبُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَانِمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَسْقِيَةَ وَالْأَوْعِيَةَ فَنُقَسِّمُهَا، كُلُّهَا مَيْتَةٌ» . وَبِالْقِيَاسِ ; لِأَنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَجَازَ أَنْ يُطَهَّرَ كَجِلْدِ الْمُذَكَّاةِ إِذَا تَنَجَّسَ. وَأَجَابُوا عَنِ احْتِجَاجِ الْأَوَّلِينَ بِالْآيَةِ بِأَنَّهَا عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ فَأَجَابَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وابن عكيم لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَكَذَا قَالَ أبو حاتم، وَقَالَ ابن دقيق العيد: رُوِيَ أَنَّ إسحاق بن راهويه نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا، فَقَالَ لَهُ إسحاق: مَا الدَّلِيلُ؟ فَقَالَ: حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عبيد الله بن عبد الله عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ميمونة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا» ؟) ، فَقَالَ لَهُ إسحاق: حَدِيثُ ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 عكيم «كَتَبَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنْ: (لَا تَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلَا عَصَبٍ) » ، فَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِحَدِيثِ ميمونة ; لِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا كِتَابٌ وَذَاكَ سَمَاعٌ، فَقَالَ إسحاق: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كسرى وقيصر وَكَانَتْ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ عِنْدَ اللَّهِ فَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أحمد ذَهَبَ إِلَى حَدِيثِ ابن عكيم، وَأَفْتَى بِهِ، وَرَجَعَ إسحاق إِلَى حَدِيثِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابن دقيق العيد: كَانَ وَالِدِي يَحْكِي عَنِ الْحَافِظِ أبي الحسن المقدسي، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ حُجَّةَ الشَّافِعِيِّ بَاقِيَةٌ، يُرِيدُ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّرْجِيحِ بِالسَّمَاعِ وَالْكِتَابِ، لَا فِي إِبْطَالِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ. وَقَالَ الخطابي: مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ جَوَازُ الدِّبَاغِ وَالْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْإِهَابِ إِذَا دُبِغَ وَوَهَّنُوا هَذَا الْحَدِيثَ ; لِأَنَّ ابن عكيم لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ كِتَابٍ أَتَاهُمْ قَالَ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ إِنَّمَا جَاءَ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَتْرُكَ بِهِ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي قَدْ جَاءَتْ فِي الدِّبَاغِ وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّسْخِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ عَلَّلُوا حَدِيثَ ابن عكيم بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ فِي إِسْنَادِهِ حَيْثُ رَوَى بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: عَنِ ابن عكيم عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ جُهَيْنَةَ كَذَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَهَؤُلَاءِ الْأَشْيَاخُ مَجْهُولُونَ لَمْ تَثْبُتْ صُحْبَتُهُمْ، وَقَدْ حَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِهَذَا الِاضْطِرَابِ، وَقَالَ الخلال: لَمَّا رَأَى أبو عبد الله تَزَلْزُلَ الرُّوَاةِ فِيهِ تَوَقَّفَ فِيهِ، وَقَدْ رَوَى قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ وَرَوَى بِشَهْرَيْنِ وَرَوَى بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَرَوَى بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَرَوَى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ وَهَذَا الِاضْطِرَابُ فِي الْمَتْنِ وَأُجِيبَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ أَخْبَارَ الدِّبَاغِ أَصَحُّ إِسْنَادًا وَأَكْثَرُ =رُوَاةً فَهِيَ أَقْوَى وَأَوْلَى، وَبِأَنَّهُ عَامٌّ فِي النَّهْيِ وَأَخْبَارُ الدِّبَاغِ مُخَصَّصَةٌ لِلنَّهْيِ بِمَا قَبْلَ الدِّبَاغِ مُصَرِّحَةٌ بِجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَبِأَنَّ الْإِهَابَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْجِلْدُ قَبْلَ أَنْ يُدْبَغَ، وَلَا يُسَمَّى بَعْدَهُ إِهَابًا - كَذَا قَالَهُ الخليل بن أحمد، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَكَذَا قَالَهُ الجوهري وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَهَذَا مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الْخَبَرُ مُتَأَخِّرٌ فَيُقَدَّمُ وَيَكُونُ نَاسِخًا فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا لَا نُسَلِّمُ تَأَخُّرَهُ عَنْ أَخْبَارِ الدِّبَاغِ ; لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 شَهْرَيْنِ وَشَهْرٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ رُوِيَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ وَرُوِيَ بِشَهْرَيْنِ وَرُوِيَ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَثِيرٌ مِنَ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ فِيهِ تَارِيخٌ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أبي داود فَحَصَلَ فِيهِ نَوْعُ اضْطِرَابٍ فَلَمْ يَبْقَ تَارِيخٌ يُعْتَمَدُ. الثَّالِثُ: لَوْ سُلِّمَ تَأَخُّرُهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ ; لِأَنَّهُ عَامٌّ وَأَخْبَارُ الدِّبَاغِ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مِنْ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ: عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى اللَّحْمِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ نُصُوصٍ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَالثَّانِي أَنَّ الدِّبَاغَ فِي اللَّحْمِ لَا يَتَأَتَّى، وَلَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ، بَلْ يَمْحَقُهُ بِخِلَافِ الْجِلْدِ، فَإِنَّهُ يُنَظِّفُهُ وَيُطَيِّبُهُ وَيَصْلُبُهُ، وَبِهَذَيْنَ الْجَوَابَيْنِ يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِمُ: الْعِلَّةُ فِي التَّنْجِيسِ الْمَوْتُ، وَهُوَ قَائِمٌ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي بِمَا رَوَاهُ أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ والحاكم وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَامِرِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ «نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ أَنْ تُفْتَرَشَ» . قَالُوا: فَلَوْ كَانَتْ تُطَهَّرُ بِالدِّبَاغِ لَمْ يَنْهَ عَنِ افْتِرَاشِهَا مُطْلَقًا، وَبِحَدِيثِ سلمة بن المحبق السَّابِقِ " «دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا» " قَالُوا: وَذَكَاةُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَا تُطَهِّرُهُ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ فَلَمْ يَطْهُرْ جِلْدُهُ بِالدَّبْغِ كَالْكَلْبِ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِالتَّمَسُّكِ بِعُمُومٍ (أَيُّمَا إِهَابٍ) وَ (إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ) وَأَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ ; فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ جِلْدٍ، قَالُوا: وَأَمَّا الْجَوَابُ: عَنْ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ السِّبَاعِ حِينَئِذٍ، بَلْ كُلُّ الْجُلُودِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ قَبْلَ الدِّبَاغِ غَالِبًا، أَوْ كَثِيرًا، وَأَمَّا حَدِيثُ سلمة فَمَعْنَاهُ أَنَّ دِبَاغَ الْأَدِيمِ مُطَهِّرٌ لَهُ وَمُبِيحٌ لِاسْتِعْمَالِهِ كَالذَّكَاةِ فِيمَا يُؤْكَلُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَلْبِ فَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بِأَنَّهُ نَجِسٌ فِي حَيَاتِهِ، فَلَا يَزِيدُ الدِّبَاغُ عَلَى الْحَيَاةِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الرَّابِعِ، وَالْخَامِسِ، وَالسَّادِسِ بِعُمُومِ أَحَادِيثِ الدِّبَاغِ وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْهَا بِأَنَّهَا خُصَّ مِنْهَا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا نَجِسَانِ فِي الْحَيَاةِ، فَلَا يَزِيدُ الدِّبَاغُ عَلَيْهَا. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ السَّابِعِ بِرِوَايَةٍ وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟» ) ، وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّبَاغَ، وَأَجَابَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُطْلَقَةٌ فَتُحْمَلُ عَلَى الرِّوَايَاتِ الْمُقَيَّدَةِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَنَعُودُ إِلَى مَسْأَلَتِنَا فَنَقُولُ: مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الشَّعْرَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ وَهُمْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا إِشْكَالَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَكَذَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ وَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَوَّلِ قَوْلَيْهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ فَهَلْ يَطْهُرُ الشَّعْرُ عِنْدَهُ بِالدِّبَاغِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ، أَوْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: فَإِنْ دُبِغَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ قَالَ فِي الْأُمِّ: لَا يَطْهُرُ الشَّعْرُ ; لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ يَطْهُرُ ; لِأَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ عَلَى جِلْدٍ، فَهُوَ كَالْجِلْدِ فِي الطَّهَارَةِ كَشَعْرِ الْحَيَوَانِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: هَذَانِ الْقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ مَشْهُورَانِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ، والشاشي، والرافعي، وَقَطَعَ بِهِ الجرجاني فِي التَّحْرِيرِ قَالَ: وَصَحَّحَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، والروياني طَهَارَتَهُ قَالَ الروياني: لِأَنَّ الصَّحَابَةَ فِي زَمَنِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَّمُوا الْفِرَاءَ الْمَغْنُومَةَ مِنَ الْفُرْسِ، وَهِيَ ذَبَائِحُ مَجُوسَ وَاسْتَدَلَّ مَنْ صَحَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِحَدِيثِ أسامة السَّابِقِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ» ، وَرَوَى أبو داود، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ «عَنِ المقدام بن معد يكرب أَنَّهُ قَالَ لمعاوية: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» ، وَرَوَى أبو داود «عَنْ معاوية أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ؟ قَالُوا: نَعَمْ» . قَالَ الْأَصْحَابُ: يُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ مُتَنَاوِلٌ لِمَا بَعْدَ الدِّبَاغِ وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَائِدًا إِلَى نَفْسِ الْجِلْدِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ بِالدِّبَاغِ بِالدَّلَائِلِ السَّابِقَةِ، فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الشَّعْرِ، هَذَا مَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَأَقُولُ: الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ مَا رَجَّحَهُ الإسفراييني والروياني مِنْ طَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ. وَقَدْ رَجَّحَهُ أَيْضًا العبادي، وَقَالَ: عَلَيْهِ تَدُلُّ الْآثَارُ، وَصَحَّحَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ فِي الْمُرْشِدِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ: وَالشَّيْخُ تقي الدين السبكي قَالَ وَلَدُهُ فِي التَّوْشِيحِ: صَحَّحَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ طَهَارَةَ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ قَالَ الْوَالِدُ فِي مَجَامِيعِهِ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ وَأَفْتَى بِهِ لِلْحَدِيثِ، وَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الشَّعْرَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، قُلْتُ: وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَا اخْتَرْتُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني قَالَ: «رَأَيْتُ عَلَى ابن أبي وعلة السبائي فَرْوًا فَمَسِسْتُهُ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَمَسُّهُ؟ قَدْ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ: أَنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ، وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَأْتُونَ بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: دِبَاغُهُ طَهُورُهُ» . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَخِيهِ عبد الجبار بن مسلم عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ لَحْمَهَا، فَأَمَّا الْجِلْدُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ» ، وَرِجَالُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ إِلَّا عبد الجبار، فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ. وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ: «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا» . دُونَ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ عبد الجبار، بَلْ تُوبِعَ، فَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شبابة عَنْ أبي بكر الهذلي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عبيد الله بن عبد الله عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، وَهُوَ اللَّحْمُ، فَأَمَّا الْجِلْدُ، وَالشَّعْرُ، وَالصُّوفُ، فَهُوَ حَلَالٌ» . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ زافر بن سليمان عَنْ أبي بكر الهذلي بِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زافر بن سليمان عَنْ أبي بكر الهذلي أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ عبيد الله بن عبد الله «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَيْتَةِ حَلَالٌ إِلَّا مَا أُكِلَ مِنْهَا» ، فَأَمَّا الْجِلْدُ وَالْفَرْوُ وَالشَّعْرُ وَالصُّوفُ فَكُلُّ هَذَا حَلَالٌ ; لِأَنَّهُ لَا يُذَكَّى، وَلَهُ شَاهِدٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يوسف بن السعد عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: «سَمِعْتُ أم سلمة تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَلَا بِصُوفِهَا وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ» . وَلَهُ شَاهِدٌ ثَانٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عبد الله بن قيس البصري أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا وَدَمُهَا. وَشَاهِدٌ ثَالِثٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أبي وائل عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفِرَاءِ: ذَكَاتُهُ دِبَاغُهُ، وَشَاهِدٌ رَابِعٌ أَخْرَجَهُ أحمد، وَالْبَيْهَقِيُّ «مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 لَيْلَى فَأَتَاهُ ذُو ضَفْرَتَيْنِ، فَقَالَ: يَا أبا عيسى حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ فِي الْفِرَاءِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُصَلِّي فِي الْفِرَاءِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ الدِّبَاغُ. قَالَ ثابت: فَلَمَّا وَلَّى قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ؟» . وَشَاهِدٌ خَامِسٌ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي الصَّلَاةِ فِي الْفِرَاءِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ الدِّبَاغُ» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَأَلَ داود السراج الحسن عَنْ جُلُودِ النَّمِرِ وَالسَّمُّورِ تُدْبَغُ بِالْمِلْحِ قَالَ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا. فَهَذِهِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ صَرِيحَةٌ فِي الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ صَرِيحٍ، حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ، فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ» - هَذَا الْحَدِيثُ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحٌ فِي إِبَاحَةِ الْفِرَاءِ كَمَا هُوَ نَصٌّ اسْتَدَلُّوا بِهِ فِي إِبَاحَةِ الْجُبْنِ، وَلِهَذَا بَوَّبَ عَلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ (بَابَ لُبْسِ الْفِرَاءِ) ، وَإِنَّمَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ هَذَيْنِ بِخُصُوصِهِمَا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ نَجَاسَتِهِمَا لِمَا فِي الْجُبْنِ مِنَ الْإِنْفَحَةِ، وَلِكَوْنِ الْفِرَاءِ مِنْ مَيْتَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْفِرَاءَ الْمُذَكَّاةَ لَمْ يُحْسِنِ السُّؤَالَ عَنْهَا لِلْعِلْمِ بِطَهَارَتِهَا قَطْعًا، وَقَدْ أَجَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا مَعًا بِأَنَّهُمَا مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ مَوْقُوفٌ عَلَى سلمان، وَأَخْرَجَ عَنِ الحسن مُرْسَلًا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنِ المغيرة يُشِيرُ إِلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ المغيرة وَلَهُ شَاهِدٌ آخَرُ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ راشد الحماني قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَلَيْهِ فَرْوٌ أَحْمَرُ، فَقَالَ: كَانَتْ لُحُفُنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَلْبَسُهَا وَنُصَلِّي فِيهَا، رِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ إِلَّا أحمد بن القاسم، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْفَرْوُ الَّذِي رَآهُ عَلَى أَنَسٍ مِنْ مُذَكًّى لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ إِنْكَارٍ حَتَّى احْتَاجَ أَنَسٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى طَهَارَتِهَا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَهَا وَيُصَلُّونَ فِيهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَصْلِ حَدِيثِ سلمان شَاهِدٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. أَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وابن المنذر، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذهبي فِي مُخْتَصَرِهِ، وابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ عَافِيَةٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ» ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ: إِنَّهُ يُفِيدُهَا فِي الشَّعْرِ قَصْدًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا تَبَعًا لِلْجِلْدِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ، وَشَاهِدٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ جابر. أَخْرَجَ ابن مردويه عَنْ جابر قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: يَا كعب، مَا أَحَلَّ رَبُّكَ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ عَفْوٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ» {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] . وَلَهُ شَاهِدٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ أبي ثعلبة وَيُؤَيِّدُ أَنَّ سُؤَالَهُمْ فِي حَدِيثِ سلمان عَنِ الْجُبْنِ ; لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِنْفَحَةِ، وَعَنِ الْفِرَاءِ ; لِأَجْلِ كَوْنِهِ مِنْ مَيْتَةٍ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ. قَالَ: ذَكَرْنَا الْجُبْنَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقُلْنَا: إِنَّهُ يُصْنَعُ فِيهِ أَنَافِحُ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ عمر: سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَكُلُوا. وَرَوَى سعيد أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجُبْنَةٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ مِنْ صَنْعَةِ الْمَجُوسِ، فَقَالَ: (اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَكُلُوا) » . وَرَوَى سعيد أَيْضًا «عَنْ إسحاق بن عبد الله بن الحارث قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلِيِّ بن عباس، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ يُصْنَعُ لَنَا بِالْعِرَاقِ مِنْ هَذَا الْجُبْنِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يُصْنَعُ فِيهِ مِنْ أَنَافِحِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مِنْ أَنَافِحِ الْمَيْتَةِ، فَلَا تَأْكُلْهُ، وَمَا لَمْ تَعْلَمْ فَكُلْهُ، قَالَ لَهُ أَبِي: وَإِنَّهُ يُصْنَعُ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْفِرَاءِ وَبَلَغَنِي أَنَّهَا تُصْنَعُ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دِبَاغُ كُلِّ أَدِيمٍ ذَكَاتُهُ) » . وَرَوَاهُ الدُّولَابِيُّ فِي الْكُنَى «عَنْ إسحاق بن عبد الله بن الحارث قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: الْفِرَاءُ تُصْنَعُ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (ذَكَاةُ كُلِّ مَسْكٍ دِبَاغُهُ) » ، فَهَذَا أَيْضًا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُ الْفِرَاءَ مُطْلَقًا جِلْدًا، أَوْ شَعْرًا. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِطَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ إِطْلَاقُ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي دِبَاغِ إِهَابِ الشَّاةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الشَّعْرُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ: انْزِعُوا شَعْرَهَا وَادْبَغُوا الْجِلْدَ وَانْتَفِعُوا بِهِ وَحْدَهُ ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ بَيَانٍ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَلَمَّا أَطْلَقَ وَلَمْ يُفَصِّلْ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى شَعْرِ الْمَأْكُولِ إِذَا ذُكِّيَ وَأُخِذَ فِي حَيَاتِهِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْآيَةَ خُوطِبَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي أَوَاخِرِ تَعْدَادِ النِّعَمِ {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81] ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَذْبَحُونَ لِلْأَصْنَامِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ يَتَوَقَّفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فِي أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ فَكَانَتْ ذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةً، وَقَدْ وَرَدَتِ الْآيَةُ امْتِنَانًا عَلَيْهِمْ بِالِانْتِفَاعِ بِشُعُورِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ طُهْرُهَا، وَقَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ إِنَّ (مِنْ) فِي الْآيَةِ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ الطَّاهِرُ يُنَازَعُ فِيهِ بِأَنَّ (مِنْ) هَذِهِ لَيْسَتْ هِيَ التَّبْعِيضِيَّةَ، بَلْ هِيَ التَّجْرِيدِيَّةُ كَمَا يَفْهَمُهُ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِعِلْمِ الْبَيَانِ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي الْآيَةِ فَهِيَ كَالْمِثَالِ الَّذِي يُمَثِّلُ بِهِ أَرْبَابُ الْبَيَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ لِي: مِنْ فُلَانٍ صِدِيقٍ حَمِيمٍ، أَيْ أَنَّ فُلَانًا نَفْسَهُ صَدِيقٌ حَمِيمٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَهُ صَدِيقٌ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ. اسْتِدْلَالٌ آخَرُ: قَالَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لِطَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ بِنَفْسِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ( «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» ) ; لِأَنَّ اسْمَ الْإِهَابِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْجِلْدِ بِشَعْرِهِ، فَيُقَالُ: هَذَا إِهَابُ الْمَيْتَةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا إِهَابُهَا وَشَعْرُهَا، وَإِذَا انْطَلَقَ الِاسْمُ عَلَيْهِ حَصَلَتِ الطَّهَارَةُ قَالَ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ «حَدِيثُ أبي الخير قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى ابن وعلة فَرْوًا فَكَلَّمْتُهُ فِيهِ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: إِنَّا نَكُونُ بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ، وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ، وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَنُؤْتَى بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ سَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: (دِبَاغُهُ طَهُورُهُ) » . وَحَدِيثُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِي الْمَسْجِدِ فَأَتَى شَيْخٌ ذُو ضَفْرَتَيْنِ، فَقَالَ: يَا أبا عيسى، حَدِّثْنِي حَدِيثَ أَبِيكَ فِي الْفِرَاءِ، فَقَالَ: «حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُصَلِّي فِي الْفِرَاءِ؟ قَالَ: فَأَيْنَ الدَّبْغُ؟ فَلَمَّا وَلَّى، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ.» قَالَ هَذَا الْمُجْتَهِدُ الْمَذْكُورُ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ نَجَاسَةِ الشُّعُورِ أَصْلًا وَرَأْسًا بِأَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى مُقَدِّمَةٍ فِي الدَّلِيلِ، وَطَرِيقُهُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ نَجُسَ الشَّعْرُ بِالْمَوْتِ، لَكَانَ طَاهِرًا بَعْدَ الدِّبَاغِ، لَكِنْ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَلَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ. بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ الدِّبَاغَ إِنَّمَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فِي مَا لَهُ أَثَرٌ، وَلَا أَثَرَ لِلدِّبَاغِ فِي الشَّعْرِ، فَلَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ، وَبَيَانُ أَنَّهُ طَاهِرٌ بَعْدَ الدِّبَاغِ أَنَّ اسْمَ الْإِهَابِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِالشَّعْرِ الْمُتَّصِلِ بِهِ، فَيُقَالُ: هَذَا إِهَابُ الشَّاةِ مَثَلًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا إِهَابُهَا وَشَعْرُهَا. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الْإِهَابِ عَلَى الْجِلْدِ بِشَعْرِهِ، وَإِذَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» ) وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ يَمْنَعُ الْمُلَازَمَةَ، وَقَوْلُهُ فِي تَقْرِيرِهَا: إِنَّ الدِّبَاغَ إِنَّمَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فِيمَا لَهُ أَثَرٌ يُقَالُ عَلَيْهِ: إِنَّمَا يُفِيدُهَا فِيمَا لَهُ فِيهِ أَثَرٌ قَصْدًا أَوْ تَبَعًا الْأَوَّلُ مُسْلِمٌ صَاحِبُ الْخَادِمِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: - كَأَنَّهُ يَعْنِي البلقيني وَهُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ جِهَةٍ لَا سِيَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَانْطِلَاقُ لِفْظِ الْإِهَابِ عَلَى الْجَمِيعِ. انْتَهَى. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقِيَاسِيَّةِ عَلَى طَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ الْقِيَاسُ عَلَى دَنِّ الْخَمْرِ إِذَا صَارَتْ خَلًّا، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ تَبَعًا لَهَا، فَإِنِ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ بِأَنَّ ذَاكَ مِنْ مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، قُلْنَا: وَهَذَا مِنْ مَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ فِي قَوَاعِدِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ مَسْأَلَةُ مَا لَوْ وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ، فَإِنَّ الْمَاءَ وَالْإِنَاءَ يُنَجَّسَانِ مَعًا فَلَوْ كُوثِرَ الْمَاءُ حَتَّى بَلَغَ قُلَّتَيْنِ، فَإِنَّ الْمَاءَ يَطْهُرُ وَكَذَا الْإِنَاءُ تَبَعًا لَهُ فِي أَحَدِ الْأَوْجُهِ، فَهَذَا حُكْمٌ بِالطَّهَارَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِطِهَارَةِ الشَّعْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ لِلْجِلْدِ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ مَسْأَلَةُ الدَّمِ الْبَاقِي عَلَى اللَّحْمِ وَعِظَامِهِ، فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ تَبَعًا لِلَّحْمِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ كَمَا ارْتَضَاهُ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَقَالَ: قَدْ ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ الْمُفَسِّرُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَنُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَدَلِيلُهُ الْمَشَقَّةُ فِي الِاحْتِرَازِ مِنْهُ، وَصَرَّحَ أحمد وَأَصْحَابُهُ بِأَنَّ مَا يَبْقَى مِنَ الدَّمِ فِي اللَّحْمِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَوْ عَلَتْ حُمْرَةُ الدَّمِ فِي الْقِدْرِ لَعَسُرَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَحَكَوْهُ عَنْ عائشة، وعكرمة، وَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وأبي يوسف، وأحمد، وإسحاق، وَغَيْرِهِمْ. قُلْتُ: مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدَّمِ النَّجَاسَةُ، وَهِيَ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي الشَّعْرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَئِمَّةِ عَلَى عَدَمِ تَنْجِيسِ الشَّعْرِ بِالْمَوْتِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنَ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الدَّمِ تَبَعًا لِلَّحْمِ. اسْتِدْلَالٌ آخَرُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ قِيَامَ الْعَكْسِ: قَالُوا: إِذَا جُزَّ الشَّعْرُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ الْمَأْكُولِ، فَهُوَ طَاهِرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] امْتَنَّ بِهِ فَكَانَ طَاهِرًا وَالْمَأْخُوذُ بِهِ مِنَ الْمَذْبُوحِ لَا يَفِي بِالْحَاجَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَانَ شَامِلًا لِمَا جُزَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَوْ قُطِعَ فِي الْحَيَاةِ عُضْوٌ عَلَيْهِ شَعْرٌ حُكِمَ بِنَجَاسَةِ الشَّعْرِ تَبَعًا لِلْعُضْوِ الْمَحْكُومِ بِنَجَاسَتِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ مَيِّتٌ» . فَكَمَا حُكِمَ بِنَجَاسَةِ الشَّعْرِ تَبَعًا لِلْجُزْءِ الْمُتَّصِلِ بِهِ الْمَحْكُومُ بِنَجَاسَتِهِ كَذَلِكَ قِيَاسُهُ عَكْسُهُ إِذَا حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الشَّعْرِ الْمُتَّصِلِ بِهِ تَبَعًا، وَشَاهِدُ أَصْلِ قِيَاسِ الْعَكْسِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَلَهُ فِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أَجْرٌ؟ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي احْتَجَجْنَا بِهَا صَرِيحَةٌ فِي الْمَقْصُودِ، وَالْأَحَادِيثَ الَّتِي احْتُجَّ بِهَا لِلنَّجَاسَةِ، وَهِيَ أَحَادِيثُ النَّهْيِ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً، وَإِنَّمَا اسْتُدِلَّ بِهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ وَاللُّزُومِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَمَا كَانَ صَرِيحًا، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا كَانَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ. وَقَدْ سَلَكَ ابن دقيق العيد فِي التَّرْجِيحِ مَسْلَكًا آخَرَ، فَقَالَ: نَهْيُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ مَخْصُوصٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» ) غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَيُرَجَّحُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى مُعَارِضِهِ، هَذَا كَلَامُ ابن دقيق العيد. وَمَسْلَكٌ آخَرُ فِي الْجَوَابِ، وَهُوَ أَنَّا نَمْنَعُ عَنْ كَوْنِ النَّهْيِ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ لِأَجْلِ شَعْرِهَا، بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ أَشَارَ إِلَيْهِ الخطابي، وَهُوَ أَنَّهَا إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا مَرَاكِبُ أَهْلِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَتَمَامُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ صُنْعِ الْأَعَاجِمِ، وَقَدْ صَحَّتِ الْأَحَادِيثُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِفِعْلِ الْأَعَاجِمِ أَيِ الْفُرْسِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهْيَ مُطْلَقٌ، وَلَوْ كَانَ لِأَجْلِ نَجَاسَةِ الشَّعْرِ لَكَانَ يَزُولُ بِنَتْفِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ شَامِلٌ لِلْحَالَتَيْنِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِ نَجَاسَةِ الشَّعْرِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ السِّبَاعِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّ الْغَنَمَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ كَانَتْ تُسَاوِي السِّبَاعَ فِي ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ النَّجَاسَةِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ السِّبَاعِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ. وَأَمْرٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ أبا داود رَوَى فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ معاوية قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَرْكَبُوا الْخَزَّ وَالنِّمَارَ» " فَقِرَانُ الْخَزِّ بِالنِّمَارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلسَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ لَا لِلنَّجَاسَةِ، وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ أحمد، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمِيثَرَةِ، وَالْقَسِّيَّةِ، وَحَلْقَةِ الذَّهَبِ، وَالْمُفْدَمِ» قَالَ يزيد: الْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ، وَالْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ مِنْ إِبْرَيْسَمٍ، وَالْمُفْدَمُ الْمُشَبَّعُ بِالْعُصْفُرِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّخَتُّمَ بِالذَّهَبِ، وَالْقَسِّيَّةَ، وَثِيَابَ الْمُعَصْفَرِ، وَالْمُفْدَمَ، وَالنُّمُورَ» . فَقِرَانُ جِلْدِ السِّبَاعِ وَالنُّمُورِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلسَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ لَا لِلنَّجَاسَةِ. وَرَوَى أبو داود أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ» ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْخُيَلَاءِ لَا لِلنَّجَاسَةِ ; لِأَنَّ الْجِلْدَ النَّجِسَ لَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ لُبْسُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الرَّطْبَةِ، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى ذَمِّ اقْتِنَائِهِ مُطْلَقًا فَعُرِفَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ الْخُيَلَاءُ كَأَوَانِي النَّقْدَيْنِ حُرِّمَتْ لِلْخُيَلَاءِ فَحَرُمَ اقْتِنَاؤُهَا، وَأَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّهْيُ لِنَجَاسَةِ الشَّعْرِ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ إِلَّا الْجُلُوسُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فِيهِ الشَّعْرُ خَاصَّةً، وَلَوْ قَلَبَهُ وَجَلَسَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا شَعْرَ فِيهِ لَمْ يَمْتَنِعْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَجْهَ مِنَ الْجِلْدِ قَدْ طَهُرَ بِالدِّبَاغِ قَطْعًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّهْيَ شَامِلٌ لِلْوَجْهَيْنِ مَعًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ معاوية: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا تَجْلِسُوا عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ» ) . وَعِنْدَ الحارث بن أبي أسامة فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى أَنْ تُفْتَرَشَ مُسُوكُ السِّبَاعِ» . فَهَذِهِ إِطْلَاقَاتٌ شَامِلَةٌ لِلْجِلْدِ بِوَجْهَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنَى السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ لَا لِلنَّجَاسَةِ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَذْكُرِ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يَحْرُمُ الْجُلُوسُ عَلَى جِلْدِ الْمَيْتَةِ النَّجِسِ إِنَّمَا ذَكَرُوا تَحْرِيمَ لُبْسِهِ وَلَحَاقُ الِافْتِرَاشِ بِهِ قَدْ لَا يُسَلَّمُ، وَالْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ النَّجَاسَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عبد الملك بن ميسرة، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَتَاهُمْ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ فِي أَرْضٍ تَأْكُلُونَ طَعَامًا يُقَالُ لَهُ: الْجُبْنُ، فَانْظُرُوا مَا حَلَالُهُ مِنْ حَرَامِهِ، وَتَلْبَسُونَ الْفِرَاءَ، فَانْظُرُوا ذَكِيَّهُ مِنْ مَيِّتِهِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عمر فِي الْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ أَيْضًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أبي وائل عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفِرَاءِ: ذَكَاتُهُ دِبَاغُهُ، الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مِنْ عمر لَيْسَ قَوْلًا بِأَنَّ الشَّعْرَ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ وَيَطْهُرُ بِهِ الْجِلْدُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُطَهِّرُ الْجِلْدَ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَذْهَبٌ لَهُ فَكَانَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الدِّبَاغَ يُطَهِّرُ الْجِلْدَ وَالشَّعْرَ مَعًا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يُطَهِّرُ لَا الْجِلْدَ، وَلَا الشَّعْرَ. فَكُلُّ رِوَايَةٍ مَحْمُولَةٌ عَلَى قَوْلٍ مِنْ قَوْلَيْهِ. فَهَذَا مَا أَدَّانَا إِلَيْهِ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَجَبْنَا بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا الْتَمَسَ السَّائِلُ، وَقَدْ سَمَّيْنَا هَذَا الْكِتَابَ (تُحْفَةَ الْأَنْجَابِ بِمَسْأَلَةِ السِّنْجَابِ) وَكَانَ إِمْلَاؤُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ مُحَرَّمٍ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 [بَابُ التَّيَمُّمِ] مَسْأَلَةٌ: تُرَابُ الْمَسْجِدِ إِذَا تَيَمَّمَ بِهِ شَخْصٌ وَقُلْتُمْ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ هَلْ يَسْتَبِيحُ بِهِ مَا نَوَاهُ؟ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ كَاسْتِعْمَالِ الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالثَّوْبِ الْحَرِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا لَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ يَسْتَبِيحُ مَا نَوَاهُ كَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ وَالتَّيَمُّمِ بِتُرَابٍ مَغْصُوبٍ، وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمُسْبَلِ لِلشُّرْبِ صَحِيحٌ مَعَ تَحْرِيمِهِ، وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأَخِيرَةُ فَقَدْ فَرَّقَ الْأَصْحَابُ بِفُرُوقٍ مِنْهَا أَنَّ نَجَاسَةَ مَحَلِّ النَّجْوِ نَاقِضَةٌ لِلطَّهَارَةِ مُوجِبَةٌ لِلتَّيَمُّمِ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا - كَذَا فَرَّقَ الداركي وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَأَقَرَّهُ النووي فِي شَرْحِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ نَجَاسَةَ غَيْرِ الِاسْتِنْجَاءِ لَا تَزُولُ إِلَّا بِالْمَاءِ، فَلَوْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ حَتَّى يُزِيلَهَا، لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ إِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ بِخِلَافِ الِاسْتِنْجَاءِ ; لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ بِالْحَجَرِ فَيُمْكِنُهُ تَقْدِيمُ الْحَجَرِ حَتَّى يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ فَلَزِمَهُ - كَذَلِكَ فَرَّقَ المتولي فِي التَّتِمَّةِ، قَالَ صَاحِبُ الْوَافِي: وَهَذَا فَرْقٌ دَقِيقٌ نَفِيسٌ. مَسْأَلَةٌ: لَوْ تَيَمَّمَ فِي مَوْضِعٍ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ الْمَاءِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَوْضِعٍ الْغَالِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ، أَوْ عَكْسُهُ فَهَلِ الْمُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَعَدَمِهِ مَوْضِعُ التَّيَمُّمِ، أَوْ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ، أَوْ هُمَا، وَهَلْ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ لِلْأَصْحَابِ؟ . الْجَوَابُ: هَذَا السُّؤَالُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ ; لِأَنَّ الِانْتِقَالَ يُوجِبُ تَجْدِيدَ طَلَبِ الْمَاءِ وَيُبْطِلُ التَّيَمُّمَ إِذَا تَوَهَّمَهُ، فَإِنْ فُرِضَ تَعَيَّنَ الْعَدَمُ بِحَيْثُ لَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ، وَلَا يَجِبُ تَجْدِيدُ الطَّلَبِ فَالْعِبْرَةُ فِيمَا يَظْهَرُ بِمَوْضِعِ الصَّلَاةِ. مَسْأَلَةٌ: فِي مَفْهُومِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَصَاحِبُ الْجَبَائِرِ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ وَضَعَهَا عَلَى طُهْرٍ، مَا الْمُرَادُ بِالطُّهْرِ هَلْ هُوَ عَنِ الْجَنَابَةِ، أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: الْمُرَادُ جِنْسُ الطُّهْرِ الَّذِي تَيَمَّمَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْغُسْلِ فَالْمُرَادُ طُهْرُ الْجَنَابَةِ، أَوْ فِي الْوُضُوءِ فَالْمُرَادُ طُهْرُ الْحَدَثِ صَرَّحَ بِهِ فِي الْخَادِمِ. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ الْمِنْهَاجِ: وَكَذَا اسْتِدَامَتُهَا إِلَى مَسْحِ شَيْءٍ مِنَ الْوَجْهِ هَلِ اسْتِدَامَتُهَا إِلَى الْوَجْهِ وَاجِبٌ ذِكْرًا؟ حَتَّى أَنَّهَا لَوْ عَزَبَتْ بَعْدَ النَّقْلِ، وَقَبْلَ الْوَجْهِ وَاسْتَحْضَرَهَا عِنْدَهُ لَا تَكْفِي، أَمِ الْوَاجِبُ اسْتِحْضَارُهَا عِنْدَ النَّقْلِ وَعِنْدَ الْوَجْهِ فَقَطْ حَتَّى لَوْ عَزَبَتْ بَيْنَهُمَا كَفَى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وَإِذَا تَيَمَّمَ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ فَهَلْ لَهُ صَلَاةُ النَّفْلِ؟ الْجَوَابُ: الْمُتَّجَهُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ وَصَرَّحَ بِهِ أبو خلف الطبري الِاكْتِفَاءُ بِهَا عِنْدَ النَّقْلِ وَالْمَسْحِ، وَلَوْ عَزَبَتْ بَيْنَهُمَا، وَلَا مَفْهُومَ لِتَعْبِيرِ الْمِنْهَاجِ بِالِاسْتِدَامَةِ، وَلَوْ تَيَمَّمَ لَمَسَ الْمُصْحَفَ فَلَيْسَ لَهُ صَلَاةُ النَّفْلِ، صَرَّحَ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ. مَسْأَلَةٌ: إِذَا تَيَمَّمَ الْخَطِيبُ لِخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، هَلْ يَقُولُ: نَوَيْتُ اسْتِبَاحَةَ فَرْضِ الْخُطْبَةِ أَمْ مَاذَا يَنْوِي؟ وَمَا كَيْفِيَّةُ نِيَّةِ الْمُتَيَمِّمِ، الْعَاجِزِ عَنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا إِذَا تَيَمَّمَ، وَغَاسِلُ الْمَيِّتِ إِذَا أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النِّيَّةَ، أَوْ قُلْتُمْ بِاسْتِحْبَابِهَا كَيْفَ يَقُولُ فِي الْغُسْلِ؟ وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وَيَمَّمَ الْمَيِّتَ كَيْفَ يَنْوِي؟ الْجَوَابُ: يَنْوِي الْخَطِيبُ اسْتِبَاحَةَ فَرْضِ الْخُطْبَةِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْأَصْحَابِ يَنْوِي الْمُتَيَمِّمُ اسْتِبَاحَةَ مَا لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِالطَّهَارَةِ وَيَنْوِي الْعَاجِزُ عَنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ التَّيَمُّمَ عَنْ سُنَّةِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ قُلْتُهُ تَفَقُّهًا، وَلَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا، وَأَمَا غَاسِلُ الْمَيِّتِ فَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَالَ نصر المقدسي وَصَاحِبُ الْبَيَانِ: صِفَةُ النِّيَّةِ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ عِنْدَ إِفَاضَةِ الْمَاءِ الْقَرَاحِ أَنَّهُ غُسْلٌ وَاجِبٌ، وَقَالَ الْقَاضِي أبو الطيب فِي كِتَابِهِ الْمُجَرَّدِ: يَنْوِي الْغُسْلَ الْوَاجِبَ، أَوِ الْفَرْضَ، أَوْ غُسْلَ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا إِذَا يَمَّمَ فَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا يَمَّمَ الْمَيِّتَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ كَمَا لَا يَحْتَاجُ غُسْلُهُ إِلَى نِيَّةٍ فِي الْأَصَحِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْغُسْلِ كَمَا قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ النِّيَّةَ لَا تَجِبْ فِي الْوُضُوءِ، وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ. وَمَعَ ذَلِكَ أَوْجَبُوا النِّيَّةَ فِي التَّيَمُّمِ عَنْهُمَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: طَهَارَتَانِ أَنَّى يَفْتَرِقَانِ؟ وَهَذَا النَّصُّ إِذَا تُمُسِّكَ بِإِطْلَاقِهِ عَضَّدَ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ تَيَمُّمُ الْمَيِّتِ إِلَى نِيَّةٍ، فَإِنْ قُلْنَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، أَوْ يُسْتَحَبُّ نَوَى التَّيَمُّمَ الْوَاجِبَ، أَوِ الْبَدَلَ مِنَ الْغُسْلِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُمْ فِي الْجَبِيرَةِ إِنْ وُضِعَتْ عَلَى طُهْرٍ لَمْ يَقْضِ، هَلِ الْمُرَادُ طُهْرُ مَحَلِّهَا فَقَطْ، أَوْ تَمَامُ الْوُضُوءِ؟ . الْجَوَابُ: قَالَ الزركشي فِي الْخَادِمِ مَا نَصُّهُ: يَنْبَغِي أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْمُرَادِ بِالطُّهْرِ هَلْ هُوَ طُهْرٌ كَامِلٌ؟ وَهُوَ مَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ كَالْخُفِّ، أَوِ الْمُرَادُ طَهَارَةُ الْمَحَلِّ فَقَطْ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَصَرَّحَ الْإِمَامُ وَصَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ بِالْأَوَّلِ وَالْأَشْبَهُ الثَّانِي، وَقَالَ ابن الأستاذ: يَنْبَغِي أَنْ يَضَعَهَا عَلَى وُضُوءٍ كَامِلٍ، كَمَا فِي لُبْسِ الْخُفِّ انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 [بَابُ الْحَيْضِ] مَسْأَلَةٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مُعِيدِ مَا بَدَا ... بَعْدَ فَنَاءٍ لَمْ يَكُنْ ذَاكَ سُدَى ثُمَّ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْكَمِلْ ... عَلَى النَّبِيِّ الْهَاشِمِيِّ الْمُفَضَّلْ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَعِتْرَتِهْ ... وَكُلِّ مَنْ مَاتَ عَلَى مَحَبَّتِهْ جَوَابُكُمْ يَا سَادَةً أَفَادُوا ... طَالِبَهُمْ وَبِالْعُلُومِ سَادُوا فِي حَائِضٍ بِبَيْتِهَا مُقِيمَهْ ... ذِي جِدَّةٍ صَحِيحَةٍ سَلِيمَهْ بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا الْمُحَرِّمِ ... هَلْ يُسْتَبَاحُ الْوَطْءُ بِالتَّيَمُّمِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ ... بِظَنِّهَا الْغَالِبِ لِلْإِيذَاءِ وَبَيْتُهَا فِي خُطَّةِ الْحَمَّامِ ... مُطِيقَةُ السَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ ذِي سَعَةٍ لِأُجْرَةٍ وَغَيْرِهَا ، وَلَمْ تَكُنْ مَحْجُوبَةً فِي خِدْرِهَا ... فَهَلْ يُبِيحُ وَطْأَهَا التَّيَمُّمُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَمْ بِغُسْلٍ تُلْزَمُ ... أَمْ حُكْمُهَا فِي ذَاكَ حُكْمُ الْجُنُبِ وَالنُّفَسَاءُ حُكْمُهَا فِي الْمَذْهَبِ ... وَإِنْ أَبَحْتُمْ وَطْأَهَا بِالتُّرْبِ مَا قَوْلُكُمْ فِي مُحْرِمٍ يُلَبِّي ... فَهَلْ لَهُ اللُّبْسُ قُبَيْلَ الْعُذْرِ بِغَالِبِ الظَّنِّ بِغَيْرِ وِزْرِ ... أَمْ بَعْدَ مَا يَحْصُلُ عُذْرٌ ظَاهِرُ يَجُوزُ لُبْسٌ وَغِطَاءٌ سَاتِرُ ... وَلَوْ طَرَأَ عُذْرٌ وَزَالَ عَنْهُ هَلْ يَجِبُ النَّزْعُ بِبُرْءٍ مِنْهُ ... وَلَوْ تَمَادَى لَابِسًا وَالْعُذْرُ قَدْ زَالَ هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْوِزْرُ ... وَإِنْ بِغَيْرِ الْعُذْرِ لُبْسٌ حَصَلَا هَلِ الْفِدَا يُجْزِيهِ مِمَّا حَمَلَا ... أَمْ هُوَ عَاصٍ آثِمٌ وَالْجَانِي فِدَاهُ لَمْ يُنْجِهِ مِنَ الْعِصْيَانِ ... وَهَلْ بِهَذَا الْفِعْلِ بَرَّ حَجُّهُ أَمْ غَيْرُ مَبْرُورٍ كَمَا قَدْ وَجَّهُوا ... وَحَائِضٌ وَالنُّفَسَا هَلْ تَقْضِيَا صَوْمَهُمَا دُونَ صَلَاةٍ أُلْغِيَا ... أَمْ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا عِنْدَ قَضَا صَلَاةِ فَرْضٍ عَنْ أَدَاهَا أَعْرَضَا ... وَضِّحْ لَنَا الْجَوَابَ شَيْخَ السُّنَّهْ أَثَابَكَ اللَّهُ الْكَرِيمُ الْجَنَّهْ ... أَجِزْ جَوَابًا يَا جَلَالَ الدِّينِ لِعَبْدِكَ السَّائِلِ بِالتَّبْيِينِ ... يَا مَنْ لَهُ نَظْمٌ عَلَى الْفَتَاوِي يُشَوِّقُ كُلَّ عَالِمٍ وَرَاوِي ... لَا زَالَ نَادِيكَ الرَّحِيبُ مُحْتَفِلْ بِالْوَفْدِ عَنْ طُلَّابِ خَيْرٍ مُشْتَمِلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 يَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ وَيَا حَبْرَ النُّهَى ... وَمَنْ لَهُ مَرْتَبَةٌ تَعْلُو السُّهَا انْتَهَى الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى امْتِنَانِ ... يُعْجَزُ عَنْ إِحْصَاهُ بِاللِّسَانِ ثُمَّ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَدَا ... عَلَى النَّبِيِّ الْهَاشِمِيِّ أَحْمَدَا وَآلِهِ الْأُلَى حَوَوْا كُلَّ الشَّرَفْ ... وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ وَالسَّلَفْ إِنْ حَائِضٌ قَدْ أَقْلَعَتْ عَنْهَا الدَّمَا ... وَوُجِدَتْ فَاقِدَةً لِلْعُذْرِ مَا أَوْ كَانَ فِي بَلْدَتِهَا حَمَّامُ ... فَمَا إِلَى وِصَالِهَا مَرَامُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِالتُّرَابِ ... لِفَقْدِ هَذَيْنِ بِلَا ارْتِيَابِ وَمُحَرَّمٌ قَبْلَ طُرُوءِ الْعُذْرِ ... أَجِزْ لَهُ اللُّبْسَ بِغَيْرِ وِزْرِ بِغَالِبِ الظَّنِّ وَلَا تَوَقُّفْ ... عَلَى حُصُولِهِ فَهَذَا الْأَرْأَفْ نَظِيرُهُ مَنْ ظَنَّ مِنْ غُسْلٍ بِمَا ... حُصُولَ سُقْمٍ جَوَّزُوا التَّيَمُّمَا وَمَنْ تَزُلْ أَعْذَارُهُ فَلْيُقْلِعْ ... مُبَادِرًا وَلْيَقْضِ أَنْ لَمْ يَنْزِعْ وَلَيْسَ يُنْجِيهِ الْفِدَا مِنْ وِزْرِهِ ... كَمَنْ نَحُدُّهُ بِشُرْبِ خَمْرِهِ لَوْ كَانَ يُنْجِيهِ الْفِدَا مِنْ وِزْرِ ... لَسَرَى الْعُذْرُ بِغَيْرِ الْعُذْرِ وَلَا يَكُونُ حَجُّهُ مَبْرُورًا ... مَا لَمْ يَتُبْ يَكُنْ لَهُ طَهُورَا وَحَائِضٌ وَنُفَسَا فَلْيَقْضِيَا ... الصَّوْمَ لَا الصَّلَاةَ فِيمَا رُوِيَا وَلَيْسَ بَيْنَ تَيْنِ مِنْ خِلَافِ ... فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بِلَا خِلَافِ هَذَا جَوَابُ نَجْلِ الْأَسْيُوطِيِّ ... مُعْتَصِمًا بِرَبِّهِ الْقَوِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 [كِتَابُ الصَّلَاةِ] [ مسائل متفرقة ] مَسْأَلَةٌ: تَكْبِيرَةُ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ وَجَبَتْ مَعَ الظُّهْرِ ; لِأَنَّهَا تُجْمَعُ مَعَهَا، وَهُوَ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا. الْجَوَابُ: هَذَا مِنْ بَابِ النَّوْعِ الْمُسَمَّى فِي الْأُصُولِ بِقِيَاسِ الْعَكْسِ. مَسْأَلَةٌ: الْمَجْنُونُ هَلْ يَجُوزُ لَهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ - إِذَا أَفَاقَ - مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ أَمْ يُسْتَحَبُّ أَمْ يُكْرَهُ؟ الْجَوَابُ: الْقَضَاءُ لِلْمَجْنُونِ مُسْتَحَبٌّ ذَكَرَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ. [الْحَظُّ الْوَافِرُ مِنَ الْمَغْنَمِ فِي اسْتِدْرَاكِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ] مَسْأَلَةٌ: الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ وَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ فِي زَمَنِ الْكُفْرِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ ثَبَتَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَعَلَ ذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ لَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَأَمَّا الْإِجْمَالُ فَقَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالْحَجُّ، وَغَيْرُهَا مِنْ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُطَالَبُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا مَعَ كُفْرِهِمْ، وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْمَاضِي، فَاقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ اللُّزُومِ فَيَبْقَى الْجَوَازُ، وَعِبَارَةُ الْمُهَذَّبِ: فَإِذَا أَسْلَمَ لَمْ يُخَاطَبْ بِقَضَائِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَلِأَنَّ فِي إِيجَابِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ تَنْفِيرًا ; فَعُفِيَ عَنْهُ فَاقْتُصِرَ عَلَى نَفْيِ الْإِيجَابِ فَيَبْقَى الْجَوَازُ، أَوِ الِاسْتِحْبَابُ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ قَرَنُوا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْحَائِضِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا بَلَغَ، وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ يُسَنُّ لَهُ قَضَاؤُهَا، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمَجْنُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يُسْتَحَبُّ لَهُمَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ فِي زَمَنِ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ - كَذَا نَقَلَهُ الأسنوي عَنِ الْبَحْرِ للروياني، وَنُقِلَ عَنْهُ، وَعَنْ شَرْحِ الْوَسِيطِ للعجلي أَنَّ الْحَائِضَ يُكْرَهُ لَهَا الْقَضَاءُ. فَهَذِهِ فُرُوعٌ مَنْقُولَةٌ، وَالْكَافِرُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ، إِنْ لَمْ يَصِلِ الْأَمْرُ إِلَى دَرَجَةِ الِاسْتِحْبَابِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ بَلْ وَلَا بِالْكَرَاهَةِ، وَيُفَارِقُ الْحَائِضَ، فَإِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ لِلْحَائِضِ عَزِيمَةٌ وَبِسَبَبٍ لَيْسَتْ مُتَعَدِّيَةً بِهِ وَالْقَضَاءَ لَهَا بِدْعَةٌ، وَلِهَذَا قَالَتْ عائشة لِمَنْ سَأَلَتْهَا عَنْ ذَلِكَ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ . وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا، وَتَرْكُ الصَّلَاةِ لِلْكَافِرِ بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ بِهِ وَإِسْقَاطُ الْقَضَاءِ عَنْهُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ مَعَ قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ حَالَ الْكُفْرِ، وَعُقُوبَتُهُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. فَاتَّضَحَ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِضِ حَيْثُ يُكْرَهُ لَهَا الْقَضَاءُ، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ، بَلْ يَجُوزُ، أَوْ يُنْدَبُ، وَيُقَاسُ بِصَلَاةِ الْكَافِرِ جَمِيعُ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مِنْ زَكَاةٍ وَصَوْمٍ، هَذَا مَا أَخَذْتُهُ مِنْ نُصُوصِ الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ فَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا جَوَازُ ذَلِكَ، بَلْ نَدْبُهُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ وَغَيْرُهُمْ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ» . قَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَنْ قَالَ: إِنَّ نَذْرَ الْكَافِرِ لَا يَصِحُّ - وَهُمْ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا - حَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَيْ يُسْتَحَبُّ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ الْآنَ مِثْلَ الَّذِي نَذَرْتَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. انْتَهَى. وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَدَارَكَ الْقُرَبَ الَّتِي لَوْ فَعَلَهَا فِي حَالِ كُفْرِهِ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَزِمَتْهُ، وَهَذِهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لَا شُبْهَةَ فِيهَا، وَقَالَ الخطابي فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفَرَائِضِ مَأْمُورُونَ بِالطَّاعَةِ. وَقَالَ القمولي مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا فِي الْجَوَاهِرِ: إِذَا نَذَرَ الْكَافِرُ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ لَكِنْ يُنْدَبُ لَهُ الْوَفَاءُ إِذَا أَسْلَمَ فَلَوْ نَذَرَ الْيَهُودِيُّ، أَوِ النَّصْرَانِيُّ صَلَاةً، أَوْ صَوْمًا، ثُمَّ أَسْلَمَ اسْتُحِبَّ لَهُ الْوَفَاءُ، وَيَفْعَلُ صَلَاةَ شَرْعِنَا، وَصَوْمَ شَرْعِنَا، لَا صَلَاةَ شَرْعِهِ وَصَوْمَهُ. هَذَا كَلَامُ القمولي. وَقَالَ ابن دقيق العيد فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ: اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى صِحَّةَ النَّذْرِ مِنَ الْكَافِرِ، وَهُوَ قَوْلٌ، أَوْ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ، وَمَنْ يَقُولُ بِهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُؤَوِّلَ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ بِاعْتِكَافِ يَوْمٍ يُشْبِهُ مَا نَذَرَ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْذُورٌ لِشَبَهِهِ بِالنَّذْرِ وَقِيَامِهِ مَقَامَهُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فِعْلِ مَا نَوَاهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ. مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، أَوْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَشْيَاءُ كُنْتُ أَفْعَلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يَعْنِي أَتَبَرَّرُ بِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنَ الْخَيْرِ. قُلْتُ: فَوَاللَّهِ لَا أَدَعُ شَيْئًا مَنَعْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِلَّا فَعَلْتُ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَهُ» . قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا صَدَرَ مِنْهُ مَا صَدَرَ مِنَ الْقُرُبَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا تَامَّةً لِفَقْدِ وَصْفِ الْإِسْلَامِ فَأَعَادَ فِعْلَهَا فِي الْإِسْلَامِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا فَاتَ مِنْ وَصْفِ التَّمَامِ، وَأَخْرَجَ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ هشام عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَعْتَقَ حكيم مِائَةَ رَقَبَةٍ وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا أَسْلَمَ أَعْتَقَ مِائَةً وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ. هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِوَفَائِهِ بِمَا وَعَدَ بِهِ. وَمِنْهَا مَا رُوِيَ «أَنَّ أبا سفيان لَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا أَتْرُكُ مَوْقِفًا قَاتَلْتُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا قَاتَلْتُ مِثْلَهُ الْكُفَّارَ، وَلَا دِرْهَمًا أَنْفَقْتُهُ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا أَنْفَقْتُ مِثْلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ بِمَنْطُوقِهِ فِي اسْتِدْرَاكِ تَكْفِيرِ مَا مَضَى فِي الْكُفْرِ مِنْ فِعْلِ الْمَنَاهِي، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ فَيُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ وَيُؤْخَذُ مِنْ فَحْوَاهُ اسْتِحْبَابُ اسْتِدْرَاكِ مَا مَضَى فِي الْكُفْرِ مِنْ تَرْكِ الْأَوَامِرِ. وَأَخْرَجَ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَصَحَّحَهُ «عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ جِئْتُ: مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ، مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا أَدَعُ نَفَقَةً أَنْفَقْتُهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ مِثْلَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . هَذَا أَيْضًا مِنِ اسْتِدْرَاكِ تَكْفِيرِ مَا مَضَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ فِي حَالِ الْكُفْرِ. [بَابُ الْمَوَاقِيتِ] مَسْأَلَةٌ: فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ النواس بن سمعان قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا لُبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ تَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا، اقْدُرُوا لَهُ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ نَقَلَهُ القرطبي فِي التَّذْكِرَةِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَّ أَيَّامَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، السَّنَةُ كَنِصْفِ السَّنَةِ، وَالسَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَآخِرُ أَيَّامِهِ كَالشَّرَرَةِ يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، فَلَا يَبْلُغُ بَابَهَا الْآخَرَ حَتَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 يُمْسِيَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْقِصَارِ؟ قَالَ: (تَقْدُرُونَ فِيهَا الصَّلَاةَ، كَمَا تَقْدُرُونَهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الطِّوَالِ، ثُمَّ صَلُّوا) » . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ أسماء بنت يزيد بن السكن قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَاضْطِرَامِ السَّعَفَةِ فِي النَّارِ» . فَهَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الصِّحَّةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ بَيْنَهَا تَنَافٍ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لَيَالِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كُلُّهَا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَلَيَالِينَا هَذِهِ؟ أَمْ تَتْبَعُ كُلُّ لَيْلَةٍ يَوْمَهَا فِي الطُّولِ وَغَيْرِهِ؟ وَمَا كَيْفِيَّةُ التَّقْدِيرِ فِي الْقِصَرِ؟ هَلْ هُوَ مَثَلًا إِذَا كَانَ الْيَوْمُ ثَلَاثَةَ دَرَجٍ فَتَكُونُ حِصَّةُ الصُّبْحِ دَرَجَةً وَالظُّهْرُ كَذَلِكَ وَالْعَصْرُ كَذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ يَجْرِي عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْقِصَرِ أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا فِي النَّهَارِ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ؟ وَإِذَا لَمْ يَسَعِ الْوَقْتُ الْمُقَسَّطُ تِلْكَ الصَّلَاةَ فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقْضِيهَا؟ وَمَا كَيْفِيَّةُ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْقَصِيرِ؟ وَمَا طَرِيقُ حِسَابِ مُدَّةِ مَسْحِ الْخُفِّ؟ وَمَا كَيْفِيَّةُ الصَّوْمِ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَيَّامِ؟ وَهَلِ الزِّيَادَةُ فِي الطُّولِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مُخْتَصَّةٌ بِالثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الْأُولَى، أَوِ السَّبْعَةُ وَالثَّلَاثُونَ مُتَسَاوِيَةُ الطُّولِ؟ وَعَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ هَلْ يَخْتَصُّ الْقِصَرُ بِالْيَوْمِ الْأَخِيرِ أَمْ يَكُونُ الْقِصَرُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلِ التَّقْدِيرُ مُخْتَصٌّ بِصَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَقَطْ، وَالصُّبْحُ مُخْتَصٌّ بِمَا بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، أَمْ يُشَارِكُهُمَا، أَمْ كَيْفَ الْحَالُ؟ وَهَلْ مَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَالسَّاعَةُ كَالضَّرْبِ بِالنَّارِ» ) دَاخِلٌ فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ أَمْ هُوَ حَدِيثٌ بِرَأْسِهِ فِي غَيْرِ زَمَنِ الدَّجَّالِ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُتَسَاوِيَةً فِي الصِّحَّةِ، بَلِ الْأَوَّلُ مِنْهَا هُوَ الصَّحِيحُ وَالثَّانِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أبي أمامة، وَقَدْ نَبَّهَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ تَخْبِيطٌ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ التَّخْبِيطُ، فَقَدْ تَضَافَرَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مُدَّةَ لُبْثِهِ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا لَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَرَدَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَجُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: " «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي، فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ، لَا أَدْرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا، أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا» " الْحَدِيثَ، قَالَ الْحَافِظَ ابن حجر فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَالْجَزْمُ بِأَنَّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْدِيدِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ: " «فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» ". وَجَزَمَ الْحَافِظُ ابن كثير فِي تَارِيخِهِ أَيْضًا بِذَلِكَ، وَقَالَ: مُعَدَّلُ إِقَامَتِهِ سَنَةٌ وَشَهْرَانِ وَنِصْفٌ، وَأَمَّا اللَّيَالِي، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّقْدِيرِ إِذَا كَانَ الْيَوْمُ مَثَلًا ثَلَاثَ دَرَجٍ، فَلَا تَتَسَاوَى فِيهِ حِصَّةُ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، بَلْ يَتَفَاوَتُ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهَا الْآنَ، فَإِنَّهُ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الصُّبْحِ الْآنَ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، وَمِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَيُقَدَّرُ إِذْ ذَاكَ عَلَى حَسَبِ هَذَا التَّفَاوُتِ وَيُجْعَلُ وَقْتُ الظُّهْرِ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَهُوَ بَعْدَ مُضِيِّ أَكْثَرِ مِنْ دَرَجَةٍ وَنِصْفٍ إِذَا كَانَ الثَّلَاثُ دَرَجٍ مُقَدَّرَةً مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَبَعْدَ مُضِيِّ دَرَجَةٍ وَنِصْفٍ. وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَيُقَدَّرَانِ فِي الْأَيَّامِ الطِّوَالِ، الَّذِي كَسَنَةٍ وَالَّذِي كَشَهْرٍ وَالَّذِي كَجُمُعَةٍ، فَيُصَلِّي فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَسَنَةٍ أَلْفَ صَلَاةٍ وَثَمَانِمِائَةِ صَلَاةٍ وَثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ صُبْحًا وَثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ ظُهْرًا وَثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ عَصْرًا وَثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَغْرِبًا وَثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ عِشَاءً مِقْدَارُ كَلِّ صَلَاةٍ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ بِالدَّرَجِ وَالدَّقَائِقِ عَلَى حِسَابِ أَهْلِ الْمِيقَاتِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ وَقْتَ اللَّيْلِ صَارَ نَهَارًا. وَأَمَّا فِي الْأَيَّامِ الْقِصَارِ، فَإِنَّ كُلَّ اللَّيْلِ عَلَى طُولِهِ الْمُعْتَادِ فَوَاضِحٌ وَإِنْ تَبِعَ النَّهَارَ فِي الْقِصَرِ نُظِرَ إِنْ وَسِعَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ الْخَمْسَ الصَّلَوَاتِ وَجَبَتْ، وَإِنْ لَمْ يَسَعْ فَمُقْتَضَى حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّهَا تَجِبُ، وَقَدْ سُئِلَ مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِنَا عَنْ بِلَادٍ يَطْلُعُ فِيهَا الْفَجْرُ عَقِبَ مَا تَغْرُبُ الشَّمْسُ فَأَجَابَ البرهان الفزاري بِوُجُوبِ الْعِشَاءِ عَلَيْهِمْ وَيَقْضُونَهَا، وَأَفْتَى مُعَاصِرُوهُ بِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ، وَهُوَ الْوَقْتُ، فَعَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الفزاري لَا إِشْكَالَ وَعَلَى مَا أَفْتَى بِهِ غَيْرُهُ قَدْ يُقَالُ: هَذَا نَصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِمَّا غَلِطَ فِيهِ الرَّاوِي كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مِنْ نَصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ حِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ تَتَّسِعَ بِقَدْرِ مَا تُؤَدَّى فِيهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَلَا تَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ عِنْدِي أَرْجَحُ، بَلْ مُتَعَيِّنٌ. وَأَمَّا إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْيَوْمِ الْقَصِيرِ فَوَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ تُقَامُ بَعْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 مُضِيِّ نِصْفِ حِصَّةِ النَّهَارِ. وَأَمَّا حِسَابُ مُدَّةِ الْخُفِّ فَفِي الْأَيَّامِ الطِّوَالِ تُقَدَّرُ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا كَمَا حُسِبَتْ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ وَيُنْزَعُ عِنْدَ مُضِيِّ جَانِبٍ مِنَ الْيَوْمِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْأَيَّامِ الْقِصَارِ يَوْمٌ كَامِلٌ بِلَيْلَتِهِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ بِلَيَالِيهَا وَإِنْ قَصُرَتْ جِدًّا وَيُنْزَعُ بَعْدَ مُضِيِّهَا. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَفِي الْيَوْمِ الَّذِي كَسَنَةٍ يُعْتَبَرُ قَدْرُ مَجِيءِ رَمَضَانَ بِالْحِسَابِ وَيَصُومُ مِنَ النَّهَارِ جُزْءًا بِقَدْرِ نَهَارٍ بِالْحِسَابِ أَيْضًا وَيُفْطِرُ، ثُمَّ يَصُومُ وَهَكَذَا، وَفِي الْيَوْمِ الَّذِي كَشَهْرٍ يَصُومُ الْيَوْمَ كُلَّهُ عَنِ الشَّهْرِ وَيُفْطِرُ فِيهِ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَجِيءُ اللَّيْلُ بِالْحِسَابِ، وَفِي الْأَيَّامِ الْقِصَارِ يَصُومُ النَّهَارَ فَقَطْ وَيَحْسِبُ عَنْ يَوْمٍ كَامِلٍ وَأَنْ يُفْطِرَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَيُمْسِكَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَهَكَذَا، وَلَا يَضُرُّ قِصَرُهُ. وَيُقَاسُ بِذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَيَّامِ مِنَ الِاعْتِكَافِ وَالْعَدَدِ وَالْآجَالِ وَنَحْوِهَا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الطُّولَ مُخْتَصٌّ بِالْأَيَّامِ الْأُوَلِ الثَّلَاثَةِ وَالْبَاقِي مُتَسَاوِيَةٌ كَأَيَّامِنَا، وَظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ عَكْسُ ذَلِكَ، وَهُوَ قِصَرُ أَيَّامِهِ وَجُمَعِهِ وَشُهُورِهِ وَعَامِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ الْآنَ، وَلِهَذَا تَرَجَّحَ أَنَّ ذَلِكَ وَهْمٌ مِنَ الرَّاوِي وَتَخْبِيطٌ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ مَوْجُودَانِ، فَفِي أَيَّامِ مَا هُوَ زَائِدٌ فِي الطُّولِ كَسَنَةٍ وَشَهْرٍ وَجُمُعَةٍ، وَمَا هُوَ مُسَاوٍ لِأَيَّامِنَا الْآنَ، وَمَا هُوَ قَصِيرٌ عَنْهَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ آخِرُ أَيَّامِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ كَاضْطِرَامِ السَّعَفَةِ فِي النَّارِ، وَهَذَا الْجَمْعُ عِنْدِي أَفْيَدُ مِنْ تَخْطِئَةِ الرِّوَايَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَعَلَى هَذَا، فَلَا يَخْتَصُّ الْقِصَرُ بِالْيَوْمِ الْأَخِيرِ، بَلْ يَكُونُ فِيمَا قَبْلَهُ أَيْضًا، وَلَا يَخْتَصُّ التَّقْدِيرُ بِالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، بَلْ يُشَارِكُهُمَا الصُّبْحُ فِي الْأَيَّامِ الطِّوَالِ، وَفِي الْقِصَارِ تُصَلَّى عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِلَا تَقْدِيرٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ» " إِلَى آخِرِهِ، فَهُوَ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُ حَدِيثِ الدَّجَّالِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ نَقْصٌ حِسِّيٌّ، وَأَنَّ سَاعَاتِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ تَنْقُصُ قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقِيلَ: هُوَ مَعْنَوِيٌّ وَأَنَّ الْمُرَادَ سُرْعَةُ مَرِّ الْأَيَّامِ وَنَزْعُ الْبَرَكَةِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى مِنَ الزَّمَانِ وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ النووي تَبَعًا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ وَفِيهِ أَقْوَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْأَذَانِ] مَسْأَلَةٌ: مِنْ أمير المؤمنين خليفة الوقت الإمام المتوكل على الله وَرَدَ أَنَّ السَّامِعَ لِلْمُؤَذِّنِ فِي حَالِ قِيَامِهِ لَا يَجْلِسُ، وَفِي حَالِ جُلُوسِهِ يَسْتَمِرُّ عَلَى جُلُوسِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ لَا يَتَوَجَّهُ مِنْ مَكَانِهِ لِمُخَالَفَةِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَدْبَرَ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ هَلْ يُكْرَهُ لِسَامِعِ الْمُؤَذِّنِ فِي حَالِ الِاضْطِجَاعِ اسْتِمْرَارُهُ عَلَى الِاضْطِجَاعِ مَعَ حِكَايَتِهِ لِلَفْظِ الْمُؤَذِّنِ، أَوِ الْجُلُوسُ لَهُ أَوْلَى؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَغْلَظَ عَلَى مَنْ سَأَلَ عَنْ حَدِيثٍ فِي حَالِ قِيَامِهِ فَكَيْفَ الْحَالُ فِي ذَلِكَ. الْجَوَابُ: الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ وَارِدَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى الذِّكْرِ فِي كُلِّ حَالٍ وَأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عائشة قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» . وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَالْحَدِيثُ بَاقٍ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ أَنَّ السَّامِعَ لِلْمُؤَذِّنِ فِي حَالِ قِيَامِهِ لَا يَجْلِسُ، وَفِي حَالِ جُلُوسِهِ يَسْتَمِرُّ عَلَى جُلُوسِهِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا وَرَدَ قَطُّ فِي حَدِيثٍ لَا صَحِيحٍ، وَلَا ضَعِيفٍ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. فَيَجُوزُ لِلسَّامِعِ إِذَا كَانَ قَائِمًا أَنْ يَجْلِسَ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا أَنْ يَضْطَجِعَ، وَإِذَا كَانَ مُضْطَجِعًا أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الِاضْطِجَاعِ وَيُجِيبَ الْمُؤَذِّنَ حَالَ الِاضْطِجَاعِ، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ، وَالْكَرَاهَةُ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مِنْ نَهْيٍ خَاصٍّ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى وُجُودِهِ، بَلِ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ. وَأَمَّا إِغْلَاظُ الْإِمَامِ مَالِكٍ عَلَى مَنْ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ فِي حَالِ قِيَامِهِ، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ وَخُصُوصًا الْحَدِيثَ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ فِي التَّوْقِيرِ وَالتَّبْجِيلِ أَعْظَمُ مِمَّا يُطْلَبُ فِي الذِّكْرِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ عَنِ ابن المبارك أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ، وَهُوَ يَمْشِي، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ تَوْقِيرِ الْعِلْمِ. فَكَرِهَ ابن المبارك أَنْ يُسْأَلَ عَنْ حَدِيثٍ، وَهُوَ مَاشٍ فِي الطَّرِيقِ، وَعَدَّهُ مُنَافِيًا لِتَوْقِيرِ الْعِلْمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الذِّكْرَ لِلْمَاشِي فِي الطَّرِيقِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، بَلْ، وَلَا تُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْمَاشِي كَمَا ذَكَرَهُ النووي وَغَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: كَانَ مالك إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَدِّثَ تَوَضَّأَ وَجَلَسَ عَلَى صَدْرِ فِرَاشِهِ، وَسَرَّحَ لِحْيَتَهُ، وَتَمَكَّنَ فِي جُلُوسِهِ بِوَقَارٍ وَهَيْبَةٍ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أُعَظِّمَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ وَهُوَ قَائِمٌ، وَأَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ، وَهُوَ مَرِيضٌ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ فَجَلَسَ فَحَدَّثَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَدِدْتُ أَنَّكَ لَمْ تَتَعَنَّ، فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ أُحَدِّثَكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُضْطَجِعٌ. وَأَخْرَجَ عَنْ ضرار بن مرة قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُحَدِّثُوا عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ. فَهَذِهِ آدَابٌ اخْتَصَّ بِهَا نَشْرُ الْحَدِيثِ وَرِوَايَتُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، وَلَا يُطْلَبُ عِنْدَ الذِّكْرِ الِاعْتِنَاءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ تَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ وَالْجُلُوسِ عَلَى صَدْرِ فِرَاشٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وَنَحْوِهِ، وَلَا يُكْرَهُ الذِّكْرُ لِلْمُحَدِّثِ، بَلْ، وَلَا لِلْجُنُبِ، وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ نَشْرَ الْعِلْمِ يُطْلَبُ عِنْدَهُ آدَابٌ تَعْظِيمًا لَهُ يَخْتَصُّ بِهَا عَنِ الذِّكْرِ وَنَحْوِهِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَمُرَّ عَلَى حَدِيثٍ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، أَوْ نَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ نَشْرٍ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، أَوْ قَائِمٌ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِئَ أَحَدًا الْقُرْآنَ كُرِهَ لَهُ أَنْ يُقْرِئَهُ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، أَوْ قَائِمٌ، أَوْ مَاشٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ تَوْقِيرِ الْعِلْمِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ، وَهُوَ قَائِمٌ، أَوْ مَاشٍ، أَوْ مُضْطَجِعٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُجَرَّدُ قِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ لَا تَعْلِيمٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآدَابَ الْمَطْلُوبَةَ عِنْدَ تَعْلِيمِ النَّاسِ الْعِلْمَ وَنَشْرِهِ لَهُمْ لَا يَتَعَيَّنُ طَلَبُهَا عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ، فَلِلْقَارِئِ وَحْدَهُ حُكْمُ غَيْرِ الْمُقْرِئِ لِغَيْرِهِ، وَلِلنَّاظِرِ فِي الْحَدِيثِ وَحْدَهُ حُكْمُ غَيْرِ الرَّاوِي لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَالذَّاكِرُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ لَا حُكْمُ الْمُعَلِّمِ فَلِهَذَا لَمْ يُكْرَهْ لَهُ الذِّكْرُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَكُرِهَ السُّؤَالُ عَنِ الْحَدِيثِ فِي حَالِ الْقِيَامِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ لَا يَتَوَجَّهُ مِنْ مَكَانِهِ لِمُخَالَفَةِ الشَّيْطَانِ، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ لَكِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمَسْجِدِ، رَوَى مُسْلِمٌ، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أبي الشعثاء قَالَ: «كُنَّا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَلَا يَخْرُجْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ.» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَدْرَكَ الْآذَانَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ، فَهُوَ مُنَافِقٌ» " وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَحَارِيبِ الَّتِي يَمْتَنِعُ الِاجْتِهَادُ مَعَهَا فِي الْقِبْلَةِ أَنْ تَكُونَ فِي بَلْدَةٍ، أَوْ قَرْيَةٍ نَشَأَ بِهَا قُرُونٌ وَسَلِمَتْ مِنَ الطَّعْنِ، هَلْ قَوْلُهُمْ: قُرُونٌ مَجَازًا أَرَادُوا بِهِ أَنْ تَمْضِيَ عَلَيْهَا سُنُونَ تَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، أَوْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَمْضِيَ قُرُونٌ؟ وَالْقَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا هَذَا الْحُكْمُ؟ وَقَوْلُهُمْ: وَسَلِمَتْ مِنَ الطَّعْنِ مَا حَقِيقَةُ الطَّعْنِ الَّذِي يُخْرِجُهَا عَنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ؟ وَمَا ضَابِطُهُ هَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الطَّعْنِ؟ وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ أَكْثَرَ، وَمَنْ صَلَّى إِلَى مِحْرَابٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ قُرُونٌ، أَوْ طُعِنَ فِيهِ هَلْ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ مَا صَلَّاهُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ . وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِقْدَامِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهَا؟ هَلْ مَضَى عَلَيْهَا قُرُونٌ وَسَلِمَتْ مِنَ الطَّعْنِ؟ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا قَبْلَ الْبَحْثِ، وَإِذَا صَلَّى إِلَيْهَا قَبْلَهُ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ، أَوْ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ وَتَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 حَمْلًا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي وَضْعِ الْمِحْرَابِ أَنْ يُحْتَاطَ لَهُ وَيُوضَعَ بِحَقٍّ وَإِنْ كَانَ ظَنًّا حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ؟ وَإِذَا نَشَأَ جَمَاعَةٌ بِبَلْدَةٍ عُمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ نَحْوُ خَمْسِينَ سَنَةً وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى مِحْرَابِ زَاوِيَةٍ كَانَ عَلَى عَهْدِ آبَائِهِمْ بِبَلَدِهِمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَمَضَى عَلَيْهِ قُرُونٌ أَمْ لَا؟ وَلَا يَعْرِفُونَ هَلْ طَعَنَ فِيهِ أَحَدٌ أَمْ لَا؟ ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِمْ شَخْصٌ يَعْرِفُ الْمِيقَاتَ، فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا فَاسِدٌ، وَأَحْدَثَ لَهُمْ مِحْرَابًا غَيْرَهُ مُنْحَرِفًا عَنْهُ هَلْ يَلْزَمُهُمُ اتِّبَاعُ قَوْلِهِ وَتَرْكُ الْمِحْرَابِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَزِمَهُمْ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ مَا صَلَّوْهُ إِلَى الْأَوَّلِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقُرُونِ ثَلَثَمِائَةِ سَنَةٍ بِلَا شَكٍّ، وَلَا مِائَةَ سَنَةٍ، وَلَا نِصْفَهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ صَلَّوْا إِلَى هَذَا الْمِحْرَابِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ طَعَنَ فِيهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يُجْتَهَدُ فِيهِ فِي الْجِهَةِ، وَيُجْتَهَدُ فِيهِ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ، وَقَدْ عَبَّرَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِقَوْلِهِ فِي بَلَدٍ كَبِيرٍ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ يَكْثُرُ الْمَارُّونَ بِهَا حَيْثُ لَا يُقِرُّونَهُ عَلَى الْخَطَأِ فَلَمْ يَشْتَرِطْ قُرُونًا، وَإِنَّمَا شَرَطَ كَثْرَةَ الْمَارِّينَ وَذَلِكَ مَرْجِعُهُ إِلَى الْعُرْفِ، وَقَدْ يُكْتَفَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِسَنَةٍ، وَقَدْ يُحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ بِحَسَبِ كَثْرَةِ مُرُورِ النَّاسِ بِهَا، وَقِلَّتِهِ، فَالْمَرْجِعُ إِلَى كَثْرَةِ النَّاسِ لَا إِلَى طُولِ الزَّمَانِ، وَيَكْفِي الطَّعْنُ مِنْ وَاحِدٍ إِذَا ذَكَرَ لَهُ مُسْتَنَدًا، أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمِيقَاتِ، فَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ رُتْبَةِ الْيَقِينِ الَّذِي لَا يُجْتَهَدُ مَعَهُ. وَمَنْ صَلَّى إِلَى مِحْرَابٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ فَقْدَ شَرْطِهِ الْمَذْكُورِ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ ; لِأَنَّ وَاجِبَهُ حِينَئِذٍ الِاجْتِهَادُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَمِنْ وَاجِبِهِ الِاجْتِهَادُ إِذَا صَلَّى بِدُونِهِ أَعَادَ، وَيَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ قَبْلَ الْإِقْدَامِ الْبَحْثُ عَنْ وُجُودِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَإِذَا صَلَّى قِبَلَهُ بِدُونِ الِاجْتِهَادِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ، وَمِحْرَابُ الزَّاوِيَةِ الْمَذْكُورُ إِنْ كَانَتْ بَلْدَتُهُ كَبِيرَةً، أَوْ صَغِيرَةً كَثِيرَةَ الْمُرُورِ بِهَا، وَلَمْ يُسْمَعْ فِيهِ طَعْنٌ فَالصَّلَاةُ إِلَيْهِ صَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، وَلَمْ يَكْثُرِ الْمُرُورُ بِهَا، لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ، وَيَتَّبِعُ قَوْلَ الْمِيقَاتِيِّ فِي تَحْرِيفِهِ إِنْ كَانَ بَارِعًا فِي فَنِّهِ مَوْثُوقًا بِهِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَلَا يَلْزَمُ إِعَادَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَّلَوَاتِ. [بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ] [ مسائل متفرقة ] بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ مَسْأَلَةٌ: وَقَعَ فِي عِبَارَةِ عِدَّةٍ مِنَ الْكُتُبِ (بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ) وَمُرَادُهُ أَنْ يُبَيِّنَ فِي الْبَابِ الْهَيْئَةَ الْحَاصِلَةَ لِلصَّلَاةِ بِأَرْكَانِهَا وَعَوَارِضِهَا، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِضَافَةُ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ فَأَيُّ إِضَافَةٍ هِيَ؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الْجَوَابُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ الْبَيَانِيَّةَ هِيَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى مُرَادِفِهِ كَسَعِيدِ كُرْزٍ وَبَابِهِ، وَلَا يَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفٍ، وَلَا هِيَ مِنْ قِسْمِ الْمَحْضَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، بَلْ هِيَ إِمَّا غَيْرُ مَحْضَةٍ عَلَى رَأْيِ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِ، أَوْ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْمَحْضَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى رَأْيِ ابن مالك، وَصِفَةُ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مُرَادِفِهِ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَالْكَيْفِيَّةَ غَيْرُ الْمُكَيَّفِ، وَهِيَ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ، وَهِيَ مَحْضَةٌ تَتَبَيَّنُ مُفَارَقَتُهَا لِلْبَيَانِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. مَسْأَلَةٌ: إِذَا قَالَ الْمُصَلِّي: (الصِّرَاطَ الَّذِينَ) بِزِيَادَةِ " أَلْ " هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الظَّاهِرُ التَّفْرِقَةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَامِدِ وَغَيْرِهِ. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ هَلْ هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، أَوْ فَتْحِهَا؟ . الْجَوَابُ: هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَالتَّصْرِيفِ، وَأَلَّفْتُ فِي ذَلِكَ مُؤَلَّفًا سَمَّيْتُهُ أَوَّلًا: الْإِعْرَاضَ وَالتَّوَلِّيَ عَمَّنْ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، ثُمَّ عَدَلْتُ عَنْ هَذَا الِاسْمِ وَسَمَّيْتُهُ: الثُّبُوتَ فِي ضَبْطِ الْقُنُوتِ، وَهُوَ مُودَعٌ فِي الْجُزْءِ السَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ تَذْكِرَتِي، وَقُلْتُ فِي آخِرِهِ نَظْمًا: يَا قَارِئًا كُتُبَ التَّصْرِيفِ كُنْ يَقِظَا ... وَحَرِّرِ الْفَرْقَ فِي الْأَفْعَالِ تَحْرِيرَا عُزِ الْمُضَاعَفَ يَأْتِي فِي مُضَارِعِهِ ... تَثْلِيثُ عَيْنٍ بِفَرْقٍ جَاءَ مَشْهُورَا فَمَا كَقَدَّ وَضِدَّ الذُّلِّ مَعَ عَظُمَ ... كَذَا كَرُمْتَ عَلَيْنَا جَاءَ مَكْسُورَا وَمَا كَعَزَّ عَلَيْنَا الْحَالُ أَيْ صَعُبَتْ ... فَافْتَحْ مُضَارِعَهُ إِنْ كُنْتَ نِحْرِيرَا وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ الْأَفْعَالُ لَازِمَةٌ ... وَاضْمُمْ مُضَارِعَ فِعْلٍ لَيْسَ مَقْصُورَا عَزَّزْتَ زَيْدًا بِمَعْنَى قَدْ غَلَبْتَ كَذَا ... أَعَنْتَهُ فَكِلَا ذَا جَاءَ مَأْثُورَا وَقُلْ إِذَا كُنْتَ فِي ذِكْرِ الْقُنُوتِ، وَلَا ... يَعِزُّ يَا رَبِّ مَنْ عَادَيْتَ مَكْسُورَا وَاشْكُرْ لِأَهْلِ عُلُومِ الشَّرْعِ إِذْ شَرَحُوا ... لَكَ الصَّوَابَ وَأَبْدَوْا فِيهِ تَذْكِيرَا وَأَصْلَحُوا لَكَ لَفْظًا أَنْتَ مُفْتَقِرٌ ... إِلَيْهِ فِي كُلِّ صُبْحٍ لَيْسَ مَنْكُورَا لَا تَحْسَبَنَّ مَنْطِقًا يُحْكَى وَفَلْسَفَةً ... سَاوَى لَدَى عُلَمَاءِ الشَّرْعِ تَطْهِيرَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 [ذِكْرُ التَّشْنِيعِ فِي مَسْأَلَةِ التَّسْمِيعِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ فِي حَالِ ارْتِفَاعِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا يَقُولُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَبِهَذَا قَالَ عطاء، وأبو بردة، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وإسحاق، وداود، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقُولُ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقَطْ وَالْمَأْمُومُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. فَقَطْ، وَحَكَاهُ ابن المنذر عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمَالِكٍ، وأحمد قَالَ وَبِهِ أَقُولُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد: يَجْمَعُ الْإِمَامُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ وَيَقْتَصِرُ الْمَأْمُومُ عَلَى: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» " وَبِحَدِيثِ عائشة قَالَتْ: " «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا: فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» " رَوَاهُمَا الشَّيْخَانِ. وَلِأَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ فِي الِاحْتِجَاجِ مَسَالِكُ: (الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ) أَنْ لَا حُجَّةَ لِلْخُصُومِ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ إِذْ لَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ، بَلْ فِيهِمَا أَنَّ قَوْلَ الْمَأْمُومِ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. يَكُونُ عَقِبَ قَوْلِ الْإِمَامِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَالْوَاقِعُ فِي التَّصْوِيرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ التَّسْمِيعَ فِي حَالِ انْتِقَالِهِ، وَالْمَأْمُومَ يَقُولُ التَّحْمِيدَ فِي حَالِ اعْتِدَالِهِ، فَقَوْلُهُ يَقَعُ عَقِبَ قَوْلِ الْإِمَامِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا: آمِينَ» ) ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُؤَمِّنُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَلَا الضَّالِّينَ) ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِمَامَ يُؤَمِّنُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ لَكِنَّهُمَا مُسْتَفَادَانِ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى صَرِيحَةٍ، مِنْهَا هُنَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 إِذَا قَالَ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) » ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ حذيفة «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) .» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِثْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَمُسْلِمٌ مِثْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، فَلَمْ يَصْلُحِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِمَا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِمَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ، لَمْ يَصْلُحِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِمَا فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ أَيْضًا، كَمَا لَا يَخْفَى. (الْمَسْلَكُ الثَّانِي) : إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ، وَلَا [عَلَى] أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَثَبَتَ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ أَيْضًا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِوَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ كَتَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ وَتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. (الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ) : ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ مالك بن الحويرث أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ) ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ ; لِأَنَّهُ أَمَرَ الْأَئِمَّةَ بِأَنْ يُصَلُّوا، كَمَا صَلَّى، وَقَدْ ثَبَتَ بِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ «لَمَّا صَلَّى قَالَ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) » فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مُصَلٍّ يَقُولُ ذَلِكَ فَتَتَحَقَّقُ الْمِثْلِيَّةُ. (الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ) : نَقَلَ الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَهُ الطَّحَاوِيُّ حُجَّةً لَكَوْنِ الْإِمَامِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيَصْلُحُ جَعْلُهُ حُجَّةً لِكَوْنِ الْمَأْمُومِ أَيْضًا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِوَاءُ الثَّلَاثَةِ فِي الْمَشْرُوعِ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا مَا صَرَّحَ الشَّرْعُ بِاسْتِثْنَائِهِ. (الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ) : الِاسْتِئْنَاسُ بِمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ بريدة قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «يَا بريدة، إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَقُلْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» ) ، وَبِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قَالَ مَنْ وَرَاءَهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ، وَبِمَا أَخْرَجَهُ عَنِ ابن عون قَالَ: قَالَ محمد: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قَالَ مَنْ خَلْفَهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 (الْمَسْلَكُ السَّادِسُ) : إِنَّ الصَّلَاةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنْ لَا يَفْتُرَ عَنِ الذِّكْرِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالذِّكْرَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالِاعْتِدَالِ بَقِيَ أَحَدُ الْحَالَيْنِ خَالِيًا عَنِ الذِّكْرِ. (الْمَسْلَكُ السَّابِعُ) : قَالَ الْأَصْحَابُ: مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» . أَيْ قُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مَعَ مَا قَدْ عَلِمْتُمُوهُ مِنْ قَوْلِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ جَهْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهِ الْجَهْرُ، وَلَا يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ غَالِبًا ; لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ سِرًّا، وَكَانُوا يَعْلَمُونَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا، كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، مَعَ قَاعِدَةِ التَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقًا: فَكَانُوا مُوَافِقِينَ فِي: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْأَمْرِ بِهِ، وَلَا يَعْرِفُونَ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَأُمِرُوا بِهِ. (الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ) : الْقِيَاسُ عَلَى حَدِيثِ: «إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، فَقُولُوا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ، فَإِنَّ الرَّاجِحَ فِي مَذْهَبِ الْخَصْمِ أَنَّ السَّامِعَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَيْعَلَةِ وَالْحَوْقَلَةِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَقُولُوا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، أَيْ مَضْمُومًا إِلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا الْمُؤَذِّنُ فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْحَدِيثِ: فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أَيْ مَضْمُومًا إِلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا الْإِمَامُ. (الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ) : إِنَّ الْحَدِيثَ بَعْضُهُ مَنْسُوخٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ فِي بَقِيَّةِ أَبْعَاضِهِ نَسْخٌ، أَوْ تَخْصِيصٌ، أَوْ تَأْوِيلٌ، وَإِذَا طَرَقَهُ هَذَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ، قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابن عون، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يَقُولُ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ مَنْ خَلْفَهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. [بَابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ الأسنوي فِي أَوَّلِ بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ: احْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِالْفَرَائِضِ عَنِ النَّوَافِلِ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تُسَنُّ فِي بَعْضِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَعَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُسْتَحَبُّ إِعَادَتُهَا بِسَبَبٍ مَا كَالشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ، فَقَوْلُهُ: كَالشَّكِّ مُخَالِفٌ لِلْمُتَقَدِّمِ لَهُ مِنْ أَنَّ الشَّكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ فِي الطَّهَارَةِ مُبْطِلٌ، كَالشَّكِّ فِي النِّيَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الشَّكِّ فِي طَهَارَةِ الثَّوْبِ، أَوِ الْبَدَنِ، أَوِ الْمَكَانِ، أَوْ كَيْفَ الْحَالُ؟ . الْجَوَابُ: يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِعَدَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الْإِبْطَالِ، كَمَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالثَّانِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ الصُّورَةِ، فَالْإِبْطَالُ فِيمَا إِذَا شَكَّ، هَلْ كَانَ مُتَطَهِّرًا أَمْ لَا؟ وَالصِّحَّةُ وَاسْتِحْبَابُ الْإِعَادَةِ فِيمَا إِذَا كَانَ مُتَطَهِّرًا، وَشَكَّ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَيَقُّنِ الطَّهَارَةِ وَالشَّكِّ فِي الْحَدَثِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ كَالشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ، أَيْ هَلِ انْتَقَضَتْ أَمْ لَا؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ] مَسْأَلَةٌ: قَوْلُ الْمِنْهَاجِ، وَلَوْ نَقَلَ رُكْنًا قَوْلِيًّا إِلَى آخِرِهِ قَالَ الشَّارِحُ: التَّكْبِيرُ وَالسَّلَامُ دَاخِلَانِ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ مَعَ أَنَّ نَقْلَ السَّلَامِ مُبْطِلٌ، وَفِي التَّكْبِيرِ نَظَرٌ فَقَوْلُهُ: نَقْلُ السَّلَامِ مُبْطِلٌ. هَلْ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ أَمْ لَا؟ وَمَا وَجْهُ النَّظَرِ فِي التَّكْبِيرِ؟ . الْجَوَابُ: هُوَ خَاصٌّ بِحَالِ الْعَمْدِ، وَمُرَادُهُ بِالنَّظَرِ التَّوَقُّفُ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ بِالْبُطْلَانِ ; لِأَنَّهُ كَقَطْعِ الصَّلَاةِ وَالْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ، وَتَجْدِيدِ إِحْرَامٍ جَدِيدٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا ; لِأَنَّهُ زِيَادَةُ ذِكْرٍ، وَلَا تَضُرُّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُبْطِلًا إِذَا قَصَدَ بِهِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَتَجْدِيدَ إِحْرَامٍ جَدِيدٍ، كَمَسْأَلَةِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْإِشْفَاعِ، وَيَدْخُلُ بِالْأَوْتَارِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ الذِّكْرَ الْمَحْضَ، لَمْ تَبْطُلْ قَطْعًا، وَلَوْ قَصَدَ قَطْعَ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ، وَتَجْدِيدَ إِحْرَامٍ جَدِيدٍ، بَطَلَتْ قَطْعًا، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَصْدِ التَّجْدِيدِ، وَانْتَقَلَ دُونَ الْقَطْعِ فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ، وَهِيَ رُتْبَةٌ وُسْطَى فَيُحْتَمَلُ الْبُطْلَانُ وَعَدَمُهُ، وَهُوَ مَحَلُّ تُوَقُّفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ] مَسْأَلَةٌ: سَجَدَاتُ التِّلَاوَةِ الَّتِي اخْتُلِفَ فِي مَحَلِّهَا كَسَجْدَةِ " حم "، هَلْ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ كُلِّ مَحَلٍّ سَجْدَةٌ عَمَلًا بِالْقَوْلَيْنِ؟ . الْجَوَابُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى نَقْلٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ الْمَنْعُ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ آتِيًا بِسَجْدَةٍ لَمْ تُشْرَعْ، وَالتَّقَرُّبُ بِسَجْدَةٍ لَمْ تُشْرَعْ لَا يَجُوزُ، بَلْ يَسْجُدُ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْمَحَلِّ الثَّانِي، وَتُجْزِئُهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، أَمَّا الْقَائِلُ بِأَنَّهُ مَحَلُّهَا فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا الْقَائِلُ بِأَنَّ مَحَلَّهَا الْآيَةُ قَبْلَهَا، فَقِرَاءَةُ الْآيَةِ لَا يُطِيلُ الْفَصْلَ، وَالسُّجُودُ عَلَى قُرْبِ الْفَصْلِ مُجْزِئٌ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي آيَةِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا يُسَنُّ السُّجُودُ إِذَا قَرَأَ، أَوْ سَمِعَ الْآيَةَ كَامِلَةً، فَإِنْ قَرَأَ، أَوْ سَمِعَ بَعْضَهَا لَمْ يُسَنَّ لَهُ، وَقَدْ جَزَمَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ عَدُّوا الْآيَ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] آيَةٌ، وَكَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قَوْلُهُ فِي "حم" {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} [فصلت: 38]- إِلَى {يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] آيَةٌ فَهَلْ إِذَا قَرَأَ كُلًّا مِنْ هَاتَيْنِ يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ أَوْ لَا؟ حَتَّى يَضُمَّ إِلَيْهِمَا مَا قَبْلَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُهُ {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} [النمل: 25] إِلَى قَوْلِهِ {وَمَا يُعْلِنُونَ} [النمل: 74] وَقَوْلُهُ {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ} [فصلت: 37] إِلَى قَوْلِهِ {تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . الْجَوَابُ: نَعَمْ يُسَنُّ لَهُ السُّجُودُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ضَمِّ مَا قَبْلُ. [بَابُ صَلَاةِ النَّفْلِ] [قَوْلُهُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ هَلْ هُوَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَوْ بِالْمُعْجَمَةِ] بَابُ صَلَاةِ النَّفْلِ مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ هَلْ هُوَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، أَوْ بِالْمُعْجَمَةِ؟ . الْجَوَابُ: هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَأَلَّفْتُ فِيهِ مُؤَلَّفًا سَمَّيْتُهُ إِتْحَافَ الْوَفْدِ بِنَبَأِ سُورَةِ الْحَفْدِ، وَهُوَ مُودَعٌ فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ وَالثَّلَاثِينَ مِنَ التَّذْكِرَةِ. [جُزْءٌ فِي صَلَاةِ الضُّحَى] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ: فَقَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهَا، فَتَمَسَّكَ الْمُنْكِرُ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «عَنْ عائشة قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُسَبِّحُ سُبْحَةَ الضُّحَى وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا» . وَبِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ عبد الله بن شقيق قَالَ: «قُلْتُ لعائشة: أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا، إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ» ، فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ نَفْيٌ مِنْهَا، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَ فَصَمَّمَ بِأَنَّهُ لَوْ صَلَّاهَا لَمْ يَخْفَ عَلَى أَهْلِهِ، فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُلَازِمًا لَهَا فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ، بَلْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَقْتٌ فِي أَوْقَاتٍ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتٍ يَكُونُ مُسَافِرًا، وَفِي وَقْتٍ يَكُونُ حَاضِرًا، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْحَضَرِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ، فَإِذَا اعْتُبِرَ ذَلِكَ لَمْ يُصَادِفْ وَقْتَ الضُّحَى عِنْدَ عائشة إِلَّا فِي نَادِرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَمَا رَأَتْهُ صَلَّاهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ النَّادِرَةِ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُهُ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَبْلُغَهَا بِأَخْبَارِ غَيْرِهَا أَنَّهُ صَلَّاهَا، أَوْ بِأَخْبَارِهِ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ عَنْهَا أَيْضًا إِثْبَاتٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهَا مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهَا فِي ذَلِكَ وَمَعَ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِهَا، وَقَدْ أَوْرَدْتُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ فِي هَذَا الْجُزْءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 [ذِكْرُ اسْتِنْبَاطِهَا مِنَ الْقُرْآنِ] أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَلَبْتُ صَلَاةَ الضُّحَى فِي الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهَا هَهُنَا {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18] . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ صَلَاةَ الضُّحَى لَفِي الْقُرْآنِ، وَمَا يَغُوصُ عَلَيْهَا الْأَغْوَاصُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36] وَأَخْرَجَ الأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ عَنْ عون العقيلي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] قَالَ: الَّذِينَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الضُّحَى. [ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهَا] أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرُ أم هانئ ; فَإِنَّهَا قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ» . وَأَخْرَجَ أبو داود، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أم هانئ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ صَلَّى سُبْحَةَ الضُّحَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، سَلَّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ، عَنْ أم هانئ بنت أبي طالب قَالَتْ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَنَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: صَلَاةُ الضُّحَى» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عائشة، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ» . وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ، «عَنْ عائشة: أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي الضُّحَى، وَتَقُولُ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ.» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، والأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى سِتَّ رَكَعَاتٍ، فَمَا تَرَكْتُهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ أحمد، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ صَلَّى سُبْحَةَ الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الضُّحَى سِتَّ رَكَعَاتٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الْيَمَانِ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَرَّةِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَتَبِعْتُ أَثَرَهُ فَصَلَّى الضُّحَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ طَوَّلَ فِيهِنَّ، ثُمَّ انْصَرَفَ» . وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الضُّحَى بِبَقِيعِ الزُّبَيْرِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَقَالَ: إِنَّهَا صَلَاةُ رَغَبٍ وَرَهَبٍ» ". وَأَخْرَجَ أحمد عَنْ عتبان بن مالك " «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى سُبْحَةَ الضُّحَى، فَقَامُوا وَرَاءَهُ فَصَلَّوْا» ". وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُولَ: لَا يَدَعُهَا، وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُولَ: لَا يُصَلِّيهَا» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ بُشِّرَ بِرَأْسِ أبي جهل، وَبِالْفَتْحِ» . وَأَخْرَجَ أحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عائذ بن عمرو، قَالَ: «كَانَ فِي الْمَاءِ قِلَّةٌ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَضَحْنَا بِهِ، ثُمَّ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضُّحَى» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضُّحَى بِمَكَّةَ يَوْمَ فَتْحِهَا ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ فِيهَا وَالرُّكُوعَ» . وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتْرُكُ صَلَاةَ الضُّحَى فِي سَفَرٍ، وَلَا غَيْرِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الضُّحَى إِلَّا مَرَّةً» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهَارِ، فَقَالَ «كَانَ يُصَلِّي بِالنَّهَارِ سِتَّ عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَطْلَعِهَا قِيدَ رُمْحٍ، أَوْ رُمْحَيْنِ كَقَدْرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ مَغْرِبِهَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْتَقَلَ حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الضُّحَى صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَكَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَبَعْدَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» . وَأَخْرَجَ أحمد، وأبو يعلى بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى» ". وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: «أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ، وَالطَّعَامُ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: أَصْلِحُوهَا فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَسَجَدُوا الضُّحَى أَتَى بِالْقَصْعَةِ» - الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ ابن منده، وابن شاهين كِلَاهُمَا فِي الصَّحَابَةِ عَنْ قدامة، وحنظلة الثَّقَفِيَّيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَذَهَبَ كُلُّ أَحَدٍ وَانْقَلَبَ النَّاسُ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَرَكَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 رَكْعَتَيْنِ، أَوْ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الضُّحَى عِنْدَ الرُّكْنِ رَكْعَتَيْنِ» " فِيهِ نافع أبو هرمز مَتْرُوكٌ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ زاذان أبي عمر عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ، حَتَّى بَلَغَ مِائَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُتِبَ عَلَيَّ النَّحْرُ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ وَأُمِرْتُ بِصَلَاةِ الضُّحَى، وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِهَا» . [الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَمْرِ بِهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا] وَرَدَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ صَحَابِيًّا أَنَسٍ، L-1 وبريدة، وجابر، وحذيفة، والحسن بن علي، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وعبد الله بن جراد، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وابن عمرو، وعتبة بن عبد السلمي، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وعلي، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ومعاذ بن أنس الجهني، ونعيم بن همار، والنواس بن سمعان، وأبي أمامة، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وأبي ذر، وأبي مرة الطائفي، وأبي موسى، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وعائشة: (حَدِيثُ أَنَسٍ) أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ» ) . وَأَخْرَجَ الأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ» . وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَكْعَتَانِ مِنَ الضُّحَى تَعْدِلَانِ عِنْدَ اللَّهِ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مُتَقَبَّلَتَيْنِ» . وَأَخْرَجَ الأصبهاني عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أَنَسُ، صَلِّ صَلَاةَ الضُّحَى ; فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ» . وَأَخْرَجَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الضُّحَى، فَقَرَأَ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشْرًا، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ عَشْرًا، اسْتَوْجَبَ رِضْوَانَ اللَّهِ الْأَكْبَرَ» . وَأَخْرَجَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، أَوْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» . وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلِّ صَلَاةَ الضُّحَى ; فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْأَبْرَارِ، وَسَلِّمْ إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَكَ يَكْثُرُ خَيْرُ بَيْتِكَ» . وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الضُّحَى، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَّا أَصْحَابُ صَلَاةِ الضُّحَى، تَحِنُّ الضُّحَى إِلَى صَاحِبِهَا، كَمَا تَحِنُّ النَّاقَةُ إِلَى فَصِيلِهَا» . (حَدِيثُ بريدة) أَخْرَجَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ عَنْ بريدة، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فِي الْإِنْسَانِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ مَفْصِلٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ صَدَقَةً قَالُوا: مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ: النُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا، وَالشَّيْءُ تُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُكَ» . (حَدِيثُ جابر) أَخْرَجَ الأصبهاني عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا جابر، سَبَّحْتَ تَسْبِيحَةَ الضُّحَى، قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَادْخُلْ فَصَلِّ» . (حَدِيثُ حذيفة) أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحَافَظَ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى، وَلَمْ يَتَنَدَّ بِدَمٍ حَرَامٍ، فَإِنَّهُ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَلَيْسَ يَطْلُبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذِمَّتِهِ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِتَارِكٍ شَيْئًا مِنْ ذِمَّتِهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ» . (حَدِيثُ الحسن) أَخْرَجَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ الحسن بن علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَلْفَحَهُ، أَوْ تَطْعَمَهُ» . (حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ قُبَاءٍ وَهُمْ يُصَلُّونَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ - وَلَفْظُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إِذَا رَمِضَتِ الْفِصَالُ» . (حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وسمويه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 (حَدِيثُ عبد الله بن جراد) أَخْرَجَ الديلمي عَنْ عبد الله بن جراد عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُنَافِقُ لَا يُصَلِّي الضُّحَى، وَلَا يَقْرَأُ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] » . (حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنِ ابْنِ آدَمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَا الضُّحَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ شعبة مولى ابن عباس قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ لِي: سَقَطَ الْفَيْءُ؟ فَإِذَا قُلْتُ: نَعَمْ. قَامَ فَسَبَّحَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عطاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَاةُ الضُّحَى بَعْدَ أَنْ تَنْقَطِعَ الظِّلَالُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ: سُئِلَ عكرمة عَنْ صَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ الضُّحَى. قَالَ: كَانَ يُصَلِّيهَا الْيَوْمَ، وَيَدَعُهَا الْعَشْرَ. (حَدِيثُ ابن عمرو) أَخْرَجَ أحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا وَأَسْرَعُوا الرَّجْعَةَ، فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُرْبٍ مَغْزَاهُمْ، وَكَثْرَةِ غَنِيمَتِهِمْ، وَسُرْعَةِ رَجْعَتِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَقْرَبَ مِنْهُمْ مَغْزًى وَأَكْثَرَ غَنِيمَةً وَأَوْشَكَ رَجْعَةً؛ مَنْ تَوَضَّأَ، ثُمَّ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لِسُبْحَةِ الضُّحَى، فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ مَغْزًى، وَأَكْثَرُ غَنِيمَةً، وَأَوْشَكُ رَجْعَةً» . (حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، اضْمَنْ لِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى الضُّحَى، وَصَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْوِتْرَ فِي حَضَرٍ، وَلَا سَفَرٍ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» . حَدِيثُ (عتبة بن عبد السلمي) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، عَنْ عتبة بن عبد السلمي، وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ فِيهِ حَتَّى يُسَبِّحَ تَسْبِيحَةَ الضُّحَى - يَعْنِي صَلَاةَ الضُّحَى - كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ، أَوْ مُعْتَمِرٍ تَامٍّ لَهُ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ» . (حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عقبة قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ رَكْعَتَا الضُّحَى بِسُورَتَيْهِمَا، بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالضُّحَى» . وَأَخْرَجَ أحمد، وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 يعلى بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ، لَا تُعْجِزْنِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ» . وَأَخْرَجَ أبو يعلى عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ إِذَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسُ، فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، غُفِرَ لَهُ خَطَايَاهُ وَكَانَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . (حَدِيثُ علي) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، عَنْ أبي رملة الأزدي، عَنْ علي " أَنَّهُ رَآهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: هَلَّا تَرَكُوهَا حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ، أَوْ رُمْحَيْنِ صَلَّوْهَا ; فَتِلْكَ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ. (حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) أَخْرَجَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً، فَعُجِّلَتِ الْكَرَّةُ وَعَظُمَتِ الْغَنِيمَةُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا سَرِيَّةً قَطُّ أَعْجَلَ كَرَّةً، وَلَا أَعْظَمَ غَنِيمَةً، مِنْ سَرِيَّتِكَ الَّتِي بَعَثْتَ، قَالَ: أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَعْجَلَ كَرَّةً مِنْهُمْ، وَأَعْظَمَ غَنِيمَةً، قَالُوا: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَقْوَامٌ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ، ثُمَّ يَجْلِسُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ، فَهَؤُلَاءِ أَعْجَلُ كَرَّةً، وَأَعْظَمُ غَنِيمَةً مِنْهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: أَضْحُوا عِبَادَ اللَّهِ بِصَلَاةِ الضُّحَى. (حَدِيثُ معاذ بن أنس) أَخْرَجَ أبو داود، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ معاذ بن أنس الجهني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ يُسَبِّحُ رَكْعَتَيِ الضُّحَى، لَا يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، غُفِرَ لَهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . (حَدِيثُ نعيم بن همار) أَخْرَجَ أبو داود، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ نعيم بن همار قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تُعْجِزْنِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي أَوَّلِ نَهَارِكَ، أَكْفِكَ آخِرَهُ» . (حَدِيثُ النواس بن سمعان) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، عَنِ النواس بن سمعان عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «يَقُولُ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تُعْجِزْنِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، أَكْفِكَ آخِرَهُ» . (حَدِيثُ أبي أمامة) أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أبي أمامة قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ - وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ - فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ، وَمَنْ مَشَى إِلَى سُبْحَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الضُّحَى لَا يُنْهِضُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ، صَلَاةٌ عَلَى أَثَرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا، كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ» . وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِلَفْظِ " «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ، فَسَبَّحَ بِهِ سُبْحَةَ الضُّحَى، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ الْمُحْرِمِ» ، وَالْبَاقِي نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أبي أمامة «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] هَلْ تَدْرُونَ مَا وَفَّى؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَفَّى عَمَلَ يَوْمِهِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أبي أمامة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، ارْكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، أَكْفِكَ آخِرَهُ» . وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الْغَدَاةِ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ جَلَسَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، انْقَلَبَ بِأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَطْلَعِهَا كَهَيْئَتِهَا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَصَلَّى رَجُلٌ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، كَانَ لَهُ أَجْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكُفِّرَ عَنْهُ خَطِيئَتُهُ وَإِثْمُهُ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . (حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «أَوْصَانِي حَبِيبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ مَا عِشْتُ، بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَأَنْ لَا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وأبي ذر «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، أَكْفِكَ آخِرَهُ» . وَأَخْرَجَ أحمد، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَعْجِزَنَّ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، أَكْفِكَ آخِرَهُ» ". وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: لَا يُحَافِظُ عَلَى سُبْحَةِ الضُّحَى إِلَّا أَوَّابٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا كُتِبَ مِنَ الْعَابِدِينَ، وَمَنْ صَلَّى سِتًّا كُفِيَ الْيَوْمَ، وَمَنْ صَلَّى ثَمَانِيَةً كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . (حَدِيثُ أبي ذر) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وأبو داود عَنْ أبي ذر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنِ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ، تَسْلِيمُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَقِيَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُهُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَبُضْعَةُ أَهْلِهِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَا الضُّحَى» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالْبَيْهَقِيُّ والأصبهاني، وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ عَنْ أبي ذر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ صَلَّيْتَ الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ تُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا أَرْبَعًا كُتِبْتَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا سِتًّا كُتِبْتَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا ثَمَانِيًا كُتِبْتَ مِنَ الْفَائِزِينَ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا عَشْرًا لَمْ يُكْتَبْ لَكَ ذَلِكَ الْيَوْمَ ذَنْبٌ، وَإِنْ صَلَّيْتَهَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أبي ذر قَالَ: «أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُصَلِّيَ الضُّحَى فِي السَّفَرِ» . (حَدِيثُ أبي موسى) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أبي موسى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الضُّحَى وَقَبْلَ الْأُولَى أَرْبَعًا، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» . (حَدِيثُ أبي مرة الطائفي) أَخْرَجَ أحمد بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنْ أبي مرة الطائفي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، صَلِّ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، أَكْفِكَ آخِرَهُ» . (حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى سُبْحَةِ الضُّحَى غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَافِظُ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى إِلَّا أَوَّابٌ قَالَ: وَهِيَ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الضُّحَى، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُدِيمُونَ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى، هَذَا بَابُكُمْ فَادْخُلُوهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ أبو يعلى بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا، فَأَعْظَمُوا الْغَنِيمَةَ، وَأَسْرَعُوا الْكَرَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا بَعْثًا قَطُّ أَسْرَعَ كَرَّةً، وَلَا أَعْظَمَ غَنِيمَةً مِنْ هَذَا الْبَعْثِ، فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَسْرَعَ كَرَّةً مِنْهُمْ وَأَعْظَمَ غَنِيمَةً، رَجُلٌ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ الْغَدَاةَ، ثُمَّ عَقَّبَ بِصَلَاةِ الضَّحْوَةِ، فَقَدْ أَسْرَعَ الْكَرَّةَ وَأَعْظَمَ الْغَنِيمَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ مِنْ طَرِيقِ عبد الله بن مزيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكَ بِسَجْدَتَيِ الضُّحَى، هُمَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ نَاقَتَيْنِ دَهْمَاوَيْنِ مِنْ نِتَاجِ بَنِي بُحْتُرٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُصَلِّيَ الضُّحَى ; فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 (حَدِيثُ عائشة) أَخْرَجَ أبو يعلى، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عائشة، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فَقَعَدَ فِي مَقْعَدِهِ فَلَمْ يَلْغُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَيَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى يُصَلِّيَ الضُّحَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ عائشة قَالَتْ: مَنْ صَلَّى أَوَّلَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ. (مُرْسَلُ محمد بن كعب) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: مَنْ قَرَأَ فِي سُبْحَةِ الضُّحَى بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ. (مُرْسَلُ كعب) أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ كعب قَالَ: مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الضُّحَى فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ يُتِمُّ رُكُوعَهُمَا وَسُجُودَهُمَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ حَسَنَةً، وَأَخْرَجَ محمد بن نصر فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ .... . قَالَ: كَانَ يُقَالُ: صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ، وَصَلَاةُ الْمُنِيبِينَ، وَصَلَاةُ التَّوَّابِينَ، فَصَلَاةُ الْأَوَّابِينَ رَكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَصَلَاةُ الْمُنِيبِينَ الضُّحَى، وَصَلَاةُ التَّوَّابِينَ رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ. [تَنْبِيهٌ] : قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ بِانْحِصَارِ صَلَاةِ الضُّحَى فِي عَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَلَا مُسْتَنَدَ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ أَكْثَرَهَا ثِنْتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الحافظ أبو الفضل بن حجر وَغَيْرُهُ، قَالَ إسحاق بن راهويه فِي كِتَابِ عَدَدِ رَكَعَاتِ السُّنَّةِ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الضُّحَى يَوْمًا رَكْعَتَيْنِ، وَيَوْمًا أَرْبَعًا، وَيَوْمًا سِتًّا، وَيَوْمًا ثَمَانِيًا تَوْسِعَةً عَلَى أُمَّتِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الحسن قَالَ: كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مِنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً، يَجِيءُ بِالضُّحَى فَيُصَلِّي صَلَاةً طَوِيلَةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ. وَأَخْرَجَ أحمد فِي الزُّهْدِ عَنِ الحسن " أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ كَانَ مِنْ أَشَدِّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَخِّيًا لِلْعِبَادَةِ، وَكَانَ يُصَلِّي عَامَّةَ الضُّحَى، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ القاسم بن محمد قَالَ: كَانَتْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُغْلِقُ بَابَهَا، ثُمَّ تُطِيلُ صَلَاةَ الضُّحَى، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الرباب أَنَّ أبا ذر صَلَّى الضُّحَى فَأَطَالَ وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ طعمة بن ثابت قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الحسن، فَقَالَ: يَا أبا سعيد، هَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ الضُّحَى؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 يُصَلِّي أَرْبَعًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُدُّ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَأَخْرَجَ عَنْ إبراهيم أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الأسود كَمْ أُصَلِّي الضُّحَى قَالَ: كَمَا شِئْتَ؟ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ عَدَمُ انْحِصَارِهَا فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عون بن أبي شداد أَنَّ عبد الله بن غالب كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى مِائَةَ رَكْعَةٍ، قَالَ الحافظ أبو الفضل العراقي فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: لَمْ أَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ حَصَرَهَا فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَذَا لَمْ أَرَهُ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الروياني فَتَبِعَهُ الرافعي، وَمَنِ اخْتَصَرَ كَلَامَهُ. وَقَالَ الباجي مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ: لَيْسَ صَلَاةُ الضُّحَى مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَحْصُورَةِ بِالْعَدَدِ، فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، وَلَكِنَّهَا مِنَ الرَّغَائِبِ الَّتِي يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ مِنْهَا مَا أَمْكَنَهُ. (فَائِدَةٌ) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أم سلمة أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي الضُّحَى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، وَهِيَ قَاعِدَةٌ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّ عائشة تُصَلِّي أَرْبَعًا، فَقَالَتْ: إِنَّ عائشة امْرَأَةٌ شَابَّةٌ - هَذَا الْأَثَرُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ صَلَّاهَا قَاعِدًا ضَاعَفَ الرَّكَعَاتِ ; لِأَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ، فَمَنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى ثَمَانٍ وَصَلَّاهَا قَاعِدًا أَتَى بِسِتَّ عَشْرَةَ رَكْعَةً، أَوْ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَتَى بِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. (فَائِدَةٌ) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سعيد بن مرجانة قَالَ: جَلَسْتُ وَرَاءَ سعد بن مالك، وَهُوَ يُسَبِّحُ الضُّحَى فَرَكَعَ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ أَعُدُّهُنَّ لَا يَقْعُدُ فِيهِنَّ حَتَّى قَعَدَ فِي آخِرِهِنَّ فَتَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ. (فَائِدَةٌ) فِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ، وَمُسْنَدِ مطين وَتَهْذِيبِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى الضُّحَى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ: ذو الزوائد، وَلَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ: يُكَنَّى بأبي الزوائد، وَهَذَا الْأَثَرُ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وأبو الزوائد هَذَا لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَهُوَ جُهَنِيٌّ، وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ذو الأصابع قَالَ ابن حجر فِي الْإِصَابَةِ: وَعِنْدِي أَنَّهُ غَيْرُهُ، قُلْتُ: فَإِنْ صَحَّ مَا قَالَهُ الطَّبَرَانِيُّ فَقَدْ ذَكَرَ ابن دريد فِي الْوِشَاحِ أَنَّ اسْمَهُ معاوية، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ نَزَلَ فِلَسْطِينَ، وَلِذِي الزَّوَائِدِ حَدِيثٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَخْرَجَهُ أبو داود، وَقَدْ تَأَوَّلُوا هَذَا الْأَثَرَ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَلَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً، كَمَا تُصَلَّى التَّرَاوِيحُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ الضُّحَى فِي الْمَسْجِدِ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ والنووي كِلَاهُمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مُرَادُهُ أَنَّ إِظْهَارَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وَالِاجْتِمَاعُ لَهَا هُوَ الْبِدْعَةُ، لَا أَنَّ أَصْلَ صَلَاةِ الضُّحَى بِدْعَةٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ قُتِلَ عثمان، وَمَا أَحَدٌ يُسَبِّحُهَا، وَمَا أَحْدَثَ النَّاسُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهَا. [بَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ] [ مسائل متفرقة ] بَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَسْأَلَةٌ: فِي جَمَاعَةٍ انْتَظَرُوا سَكْتَةَ الْإِمَامِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ ; لِيَقْرَؤُوا فِيهَا الْفَاتِحَةَ، فَرَكَعَ الْإِمَامُ عَقِبَ فَاتِحَتِهِ هَلْ يَرْكَعُونَ مَعَهُ، وَيَتْرُكُونَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا؟ وَقَوْلُ المحب الطبري يُحْتَمَلُ أَنْ تُرَتَّبَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ السَّاهِي عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ حَتَّى رَكَعَ إِمَامُهُ، هَلْ هُوَ مُتَّجَهٌ أَمْ لَا؟ وَمَا حُكْمُ السَّاهِي الْمَذْكُورِ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ قَوْلُ المحب الطبري مُتَّجَهٌ، وَمَسْأَلَةُ السَّاهِي عَنِ الْفَاتِحَةِ حَتَّى رَكَعَ إِمَامُهُ فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَتَخَلَّفُ لِقِرَاءَتِهَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالثَّانِي: يَرْكَعُ مَعَ الْإِمَامِ لِلْمُوَافَقَةِ، ثُمَّ يَتَدَارَكُ رَكْعَةً بَعْدَ سَلَامِهِ، كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ ذَلِكَ بَعْدَ رُكُوعِهِ مَعَ الْإِمَامِ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُتَخَلِّفٌ لِعُذْرٍ فَلَهُ التَّخَلُّفُ بِثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ طَوِيلَةٍ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَالْمَجْزُومُ بِهِ فِي الْمِنْهَاجِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ لِتَقْصِيرِهِ بِالنِّسْيَانِ، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي فِي الْمُنْتَظِرِ سَكْتَةَ الْإِمَامِ لِيَقْرَأَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالتَّخَلُّفِ، وَبِكَوْنِهِ مَعْذُورًا مِنَ السَّاهِي ; لِأَنَّ السَّاهِيَ مَنْسُوبٌ إِلَى نَوْعِ تَقْصِيرٍ، وَهَذَا غَيْرُ مُقَصِّرٍ، بَلْ مُحَافِظٌ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ الْمَنْدُوبِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ حَتَّى يَفْرَغَ الْإِمَامُ مِنْ قِرَاءَتِهَا، فَهُوَ آتٍ بِمَا أُمِرَ بِهِ، غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى تَقْصِيرٍ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ مَسْبُوقًا فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْفَاتِحَةَ، وَشَكَّ هَلْ أَدْرَكَ زَمَنًا يَسَعُ الْفَاتِحَةَ؟ وَلَكِنِ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ، أَمْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنًا يَسَعُ ذَلِكَ فَمَا يُؤْمَرُ بِهِ هَلْ يَرْكَعُ مَعَ الْإِمَامِ، أَوْ يَتَأَخَّرُ لِلْقِرَاءَةِ؟ . الْجَوَابُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى نَقْلٍ فِي ذَلِكَ، وَالْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ أَنَّهُ كَالْمَسْبُوقِ يَرْكَعُ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إِدْرَاكِ زَمَنٍ يَسَعُ الْفَاتِحَةَ، وَالْأَصْلَ عَدَمُ الِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ، فَهَذَانَ أَصْلَانِ مُتَعَاضِدَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ، وَأَفْتَى الشيخ جلال الدين البكري فِي هَذِهِ [الْقَاعِدَةِ] الْوَاقِعَةِ بِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ، وَيَقْرَأُ كَمَنِ اشْتَغَلَ بِدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ قَالَ: لِأَنَّ شَكَّهُ فِي ذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَهُ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَاضِحٍ ; لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِالِاحْتِمَالِ الْمُجَرَّدِ، وَطَرْحٌ لِلْأَصْلِ، وَأَفْتَى الشيخ زكريا بِأَنَّهُ يَحْتَاطُ فَيَرْكَعُ مَعَ الْإِمَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ بَعْدَ سَلَامِهِ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ أَيْضًا ; لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ رَكْعَةٍ فِي الصَّلَاةِ لَا نَقُولُ بِلُزُومِهَا، وَأَمْرًا بِالرُّكُوعِ قَبْلَ إِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ، وَهُوَ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يُتِمَّهَا إِنْ قُلْنَا، وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِوُجُوبِ إِتْمَامِهَا. مَسْأَلَةٌ: مَأْمُومٌ اشْتَغَلَ عَنِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ بِالسُّجُودِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ السُّجُودِ وَجَدَ الْإِمَامَ قَدْ تَشَهَّدَ وَقَامَ، فَمَا الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمَأْمُومُ هَلْ يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يَقُومُ، أَوْ يَتْرُكُ التَّشَهُّدَ وَيَقُومُ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ: إِنَّهُ يَقُومُ وَيَتْرُكُ التَّشَهُّدَ فَهَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ حَتَّى لَوْ خَالَفَهُ وَتَشَهَّدَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا عَامِدًا أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُلْتُمْ: إِنَّهُ يَتَشَهَّدُ فَهَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَيْضًا ; لِأَنَّ إِمَامَهُ كَانَ فَعَلَهُ أَمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ؟. فَإِنْ قُلْتُمْ: أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ فَخَالَفَهُ، وَلَمْ يَتَشَهَّدْ فَمَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِذَا قُلْتُمْ إِنَّهُ يَتَشَهَّدُ وُجُوبًا، أَوِ اسْتِحْبَابًا، فَفَعَلَ التَّشَهُّدَ وَقَامَ فَوَجَدَ الْإِمَامَ قَدْ رَكَعَ فَهَلْ يَرْكَعُ مَعَهُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْقِرَاءَةُ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَخَلَّفَ وَيَقْرَأَ وَيَكُونَ مُتَخَلِّفًا بِعُذْرٍ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِسُقُوطِ الْقِرَاءَةِ فَمَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى سُقُوطِهَا عَنِ الْمَسْبُوقِ وَيَتَصَوَّرُ سُقُوطَهَا عَنْ غَيْرِ الْمَسْبُوقِ وَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ حَصَلَ لَهُ عُذْرٌ تَخَلَّفَ بِسَبَبِهِ عَنِ الْإِمَامِ بِأَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ طَوِيلَةٍ وَزَالَ عُذْرُهُ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ، كَمَا لَوْ كَانَ بَطِيءَ الْقِرَاءَةِ، أَوْ نَسِيَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، أَوِ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ بِسَبَبِ زَحْمَةٍ، أَوْ شَكٍّ بَعْدَ رُكُوعِ إِمَامِهِ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّ الْمَسْؤُولَ عَنْهُ ظَاهِرُهُ مُبَايِنٌ لِهَذَا الضَّابِطِ الْمَذْكُورِ إِنْ قُلْتُمْ بِسُقُوطِهَا إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَخَلُّفٌ بِأَرْكَانٍ؟ وَمَا مَعْنَى التَّخَلُّفِ بِأَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ، فَإِنَّهُ مُبْطِلٌ وَالْمَسْؤُولُ إِيضَاحُ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: قَدْ تَرَدَّدَ نَظَرِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَرَّاتٍ، وَالَّذِي تَحَرَّرَ لِي بِطَرِيقِ النَّظَرِ تَخْرِيجًا أَنَّ لَهُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: - الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا لِبُطْءِ الْقِرَاءَةِ فَتَأَخَّرَ لِإِتْمَامِ الْفَاتِحَةِ وَفَرَغَ مِنْهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْأَرْكَانِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَأَخَذَ فِي الرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ السُّجُودِ قَامَ الْإِمَامُ مِنَ التَّشَهُّدِ، وَهَذَا حُكْمُهُ وَاضِحٌ فِي التَّخَلُّفِ لِلتَّشَهُّدِ، وَسُقُوطُ الْقِرَاءَةِ عَنْهُ إِذَا قَامَ وَقَدْ رَكَعَ الْإِمَامُ ظَاهِرٌ. - الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَطَالَ السُّجُودَ غَفْلَةً وَسَهْوًا، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِهِ التَّشَهُّدَ ; لِأَنَّهُ لَزِمَهُ بِالْمُتَابَعَةِ لَكِنَّ الْأَوْجَهَ عِنْدِي أَنَّهُ يَجْلِسُ جُلُوسًا قَصِيرًا، وَلَا يَسْتَوْعِبُ التَّشَهُّدَ ; لِأَنَّهُ لَا يُلْزِمُهُ بِحَقِّ الْمُتَابَعَةِ إِلَّا الْجُلُوسُ دُونَ أَلْفَاظِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَلَسَ مَعَ الْإِمَامِ سَاكِتًا كَفَاهُ، فَإِنْ قَامَ، وَقَدْ رَكَعَ الْإِمَامُ فَفِي سُقُوطِ الْقِرَاءَةِ عَنْهُ نَظَرٌ لِعَدَمِ صِدْقِ الضَّابِطِ عَلَيْهِ. - الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ أَطَالَ السُّجُودَ عَمْدًا، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْحَالِ الثَّانِي بِتَقْصِيرِ الْجُلُوسِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وَأَمَّا سُقُوطُ الْقِرَاءَةِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ جَزْمًا ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ أَصْلًا، بَلْ عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِأَنَّ هَذَا التَّخَلُّفَ مُبْطِلٌ لِفُحْشِهِ لَمْ يَبْعُدْ لَكِنْ لَا مُسَاعِدَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَنْقُولِ، حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّ التَّخَلُّفَ بِرُكْنٍ، وَلَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يُبْطِلُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ رُكْنٍ وَرُكْنٍ، وَالْجَرْيُ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ أَوْلَى. مَسْأَلَةٌ: مَأْمُومٌ شَكَّ فِي السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَهَلْ يَسْجُدُهَا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ لَا يَسْجُدُهَا إِلَّا بَعْدَ سَلَامِهِ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ، فَإِنْ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ يَسْجُدُهَا قَبْلُ أَوْ بَعْدُ وَخَالَفَ فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؟ . الْجَوَابُ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَسْجُدُهَا عِنْدَ التَّذْكِيرِ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَلَا يَتَأَخَّرُ إِلَى بَعْدِ سَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَقُولُ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ أَنَّهُ كَمَنْ رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ شَكَّ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقِيَاسُ ; لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الرُّكُوعِ انْتَقَلَ مِنْ رُكْنٍ فِعْلِيٍّ إِلَى رُكْنٍ فِعْلِيٍّ، وَمُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيهِ وَاجِبَةٌ، وَهُنَا لَمْ يَنْتَقِلْ أَصْلًا، بَلِ الْجُلُوسُ الَّذِي هُوَ فِيهِ هُوَ جُلُوسٌ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ اسْتَمَرَّ فِيهِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ أَخَذَ فِي أَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ، فَهُوَ إِتْيَانٌ بِرُكْنٍ قَوْلِيٍّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، لَا أَنَّهُ انْتِقَالٌ، وَأَيْضًا فَمَسْأَلَةُ الرُّكُوعِ لَمْ يَتَخَلَّفْ فِيهَا عَنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْإِمَامُ، فَإِنَّهُ أَتَى بِالْقِيَامِ الَّذِي أَتَى بِهِ الْإِمَامُ وَأَكْثَرُ مَا تَرَكَ الْفَاتِحَةَ وَالْأَذْكَارَ الْقَوْلِيَّةَ لَا فُحْشَ فِي مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ فِيهَا، وَهُنَا قَدْ فَعَلَ الْإِمَامُ سُجُودًا لَمْ يَفْعَلْهُ هُوَ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ بِحَقِّ الْمُتَابَعَةِ وَالْمَشْيِ عَلَى تَرْتِيبِ صَلَاتِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ عِنْدَ تَذَكُّرِهِ، وَأَيْضًا فَمَسْأَلَةُ الرُّكُوعِ لَوْ عَادَ فِيهَا كَانَ فِيهَا فِعْلُ قِيَامٍ ثَانٍ وَرُكُوعٍ ثَانٍ، وَفِي هَذَا مُخَالَفَةٌ فَاحِشَةٌ لِلْإِمَامِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، وَأَيْضًا فَرُكْنُ الْقِرَاءَةِ أَضْعَفُ مِنْ رُكْنِ السُّجُودِ ; لِأَنَّ السُّجُودَ مُجْمَعٌ عَلَى وُجُوبِهِ، وَلَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، وَالْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ مِنَ الْأَئِمَّةِ مَنْ لَا يُوجِبُهَا وَتَسْقُطُ عِنْدَنَا فِي صُوَرٍ كَالْمَسْبُوقِ وَنَحْوِهِ، وَأَيْضًا فَقَدِ اغْتَفَرُوا فِي الرُّكْنِ الْقَوْلِيِّ مَا لَمْ يَغْتَفِرُوا فِي الْفِعْلِيِّ مِنْ جَوَازِ التَّقَدُّمِ بِهِ وَالتَّأَخُّرِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِبْطَالِ بِتَكَرُّرِهِ وَنَقْلِهِ - فَهَذِهِ خَمْسَةُ فُرُوقٍ بَيْنَ مَسْأَلَةِ تَذَكُّرِ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَبَيْنَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَأَخَّرُ فَلَوْ تَأَخَّرَ كَانَ مِنْ بَابِ تَطْوِيلِ الرُّكْنِ الْقَصِيرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 [بَسْطُ الْكَفِّ فِي إِتْمَامِ الصَّفِّ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَقْطَعُ مَنْ وَصَلَهُ، وَلَا يَنْصُرُ مَنْ خَذَلَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَفْضَلُ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّائِفَةِ الْمُكَمَّلَةِ، وَبَعْدُ فَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ عَدَمِ إِتْمَامِ الصُّفُوفِ، وَالشُّرُوعِ فِي صَفٍّ قَبْلَ إِتْمَامِ صَفٍّ، فَأَجَبْتُ بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا تَحْصُلُ بِهِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ وَرَدَتْ إِلَيَّ فَتْوَى فِي ذَلِكَ فَكَتَبْتُ عَلَيْهَا مَا نَصُّهُ: لَا تَحْصُلُ الْفَضِيلَةُ وَبَيَانُ ذَلِكَ بِتَقْرِيرِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مَكْرُوهٌ، الثَّانِي أَنَّ الْمَكْرُوهَ فِي الْجَمَاعَةِ يُسْقِطُ فَضِيلَتُهَا، فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّخَطِّي يُكْرَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ فُرْجَةٌ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّخَطِّي فَإِنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ بِتَرْكِهَا إِذْ يُكْرَهُ إِنْشَاءُ صَفٍّ قَبْلَ إِتْمَامِ مَا قَبْلَهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَتِمُّوا الصُّفُوفَ مَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَفِي الْمُؤَخَّرِ» ) رَوَاهُ أبو داود. وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ: لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي رُكُوعِ غَيْرِ الْأَخِيرَةِ فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَوْلَى مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِحْرَامِ لِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ، وَأَمَّا كَوْنُ كُلِّ مَكْرُوهٍ فِي الْجَمَاعَةِ يُسْقِطُ الْفَضِيلَةَ، فَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مُقَرَّرٌ مُتَدَاوَلٌ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ، يَكَادُ يَكُونُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، هَذَا آخِرُ مَا كَتَبْتُ، وَقَدْ أَرَدْتُ فِي هَذِهِ الْأَوْرَاقِ تَحْرِيرَ مَا قُلْتُ، بَعْدَ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ الْفَضِيلَةَ الَّتِي نَعْنِيهَا هِيَ التَّضْعِيفُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ بِبِضْعٍ وَعِشْرِينَ لَا أَصْلَ بَرَكَةِ الْجَمَاعَةِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، ثُمَّ الْكَلَامُ أَوَّلًا فِي تَحْرِيرِ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مَكْرُوهٌ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ، قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْجَمَاعَةِ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَدِّ الْفُرَجِ فِي الصُّفُوفِ، وَإِتْمَامِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ إِلَى آخِرِهَا، وَلَا يُشْرَعُ فِي صَفٍّ حَتَّى يَتِمَّ مَا قَبْلُهُ - هَذِهِ عِبَارَتُهُ. وَلَا يُقَابِلُ الْمُسْتَحَبُّ إِلَّا الْمَكْرُوهَ، فَإِنْ قِيلَ يُقَابِلُهُ خِلَافُ الْأَوْلَى قُلْتُ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا فَرَّقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَمَنْ تَابَعَهُ، الثَّانِي أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهِ قَالُوا: هُوَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْعُمُومَاتِ، وَالْمَكْرُوهُ: مَا وَرَدَ فِيهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَهَذَا قَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ فَضْلًا عَنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الْفَتْوَى، وَقَدْ رَوَاهُ أبو داود مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أبو داود، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، والحاكم بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ» ) وَمَعْنَى قَطَعَهُ اللَّهُ أَيْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ، وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ إِثْمِ مَنْ لَا يُتِمُّ الصُّفُوفَ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: ( «مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ» ) ، فَقَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخَذَ الْوُجُوبَ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: " سَوُّوا "، وَمِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: ( «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ) ، وَمِنْ وُرُودِ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ، فَتَرَجَّحَ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الْقَرَائِنِ أَنَّ إِنْكَارَ أَنَسٍ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ وَمَعَ الْقَوْلِ بِهِ صَلَاةُ مَنْ خَالَفَ صَحِيحَةٌ لِاخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ. وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَجَزَمَ بِالْبُطْلَانِ، وَنَازَعَ مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِمَا صَحَّ عَنْ عمر، أَنَّهُ ضَرَبَ قَدَمَ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ لِإِقَامَةِ الصَّفِّ، وَبِمَا صَحَّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: كَانَ بلال يُسَوِّي مَنَاكِبَنَا، وَيَضْرِبُ أَقْدَامَنَا فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: مَا كَانَ عمر وبلال يَضْرِبَانِ أَحَدًا عَلَى تَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ قَالَ ابن حجر: وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ التَّعْزِيرَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ لَمَّا كَانَتْ مِنَ السُّنَنِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا الَّتِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الْمَدْحَ عَلَيْهَا، دَلَّ عَلَى أَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ لَهُ الْفَضِيلَةُ، وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ ( «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» ) . قَالَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ: تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ تُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ: اعْتِدَالُ الْقَائِمِينَ عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ، وَسَدُّ الْخَلَلِ الَّذِي فِي الصَّفِّ، وَاخْتُلِفَ فِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فَقِيلَ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِتَشْوِيهِ الْوَجْهِ تَحْوِيلُ خَلْقِهِ عَنْ وَضْعِهِ بِجَعْلِهِ مَوْضِعَ الْقَفَا، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: وَعَلَى هَذَا، فَهُوَ وَاجِبٌ وَالتَّفْرِيطُ فِيهِ حَرَامٌ قَالَ: وَهُوَ نَظِيرُ الْوَعِيدِ فِيمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ قَالَ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ أبي أمامة: ( «لَتُسَوُّنَّ الصُّفُوفَ، أَوْ لَتُطْمَسَنَّ الْوُجُوهُ» ) رَوَاهُ أحمد بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ هَذَا نَظِيرَ مُسَابَقَةِ الْإِمَامِ فِي الْوَعِيدِ، فَهُوَ نَظِيرُهُ فِي سُقُوطِ الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ قَالَ النووي: مَعْنَاهُ تُوقَعُ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَاخْتِلَافُ الْقُلُوبِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا حَدِيثُ ( «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا» ) قَالَ الشُّرَّاحُ: الْمُرَادُ بِأَقِيمُوا اعْتَدِلُوا، وَبِتَرَاصُّوا تَلَاصَقُوا بِغَيْرِ خَلَلٍ، وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ ( «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ» ) اسْتَدَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى سُنَّةِ التَّسْوِيَةِ، وَابْنُ حَزْمٍ عَلَى وُجُوبِهَا ; لِأَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ، وَكُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَرَوَى أبو يعلى، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ إِقَامَةُ الصَّفِّ» ) ، وَرَوَى أحمد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: رَأَيْتُنَا، وَمَا تُقَامُ الصَّلَاةُ حَتَّى تَتَكَامَلَ الصُّفُوفُ» ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَتَخَلَّلُهَا. وَرَوَى أَيْضًا بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِيَّاكُمْ وَالْفُرَجَ» ) يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ، وَأَخْرَجَ أبو يعلى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «تَرَاصُّوا الصُّفُوفَ فَإِنِّي رَأَيْتُ الشَّيَاطِينَ تَتَخَلَّلُكُمْ» ) . وَرَوَى أحمد بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أبي أمامة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ وَسُدُّوا الْخَلَلَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَكُمْ» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَظَرَ إِلَى فُرْجَةٍ فِي صَفٍّ فَلْيَسُدَّهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَمَنْ مَرَّ فَلْيَتَخَطَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ» ) . وَالْأَحَادِيثُ فِي تَرْكِ الْفُرَجِ وَتَقْطِيعِ الصُّفُوفِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ كِفَايَةٌ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي التَّرْغِيبِ، وَلَا تَرْهِيبَ فِيهَا حَدِيثُ: ( «مَنْ سَدَّ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ غُفِرَ لَهُ» ) رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أبي جحيفة. وَحَدِيثُ: ( «مَنْ سَدَّ فُرْجَةً فِي صَفٍّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ عائشة بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عطاء مُرْسَلًا. وَحَدِيثُ ( «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ» ) رَوَاهُ الحاكم وَغَيْرُهُ. وَحَدِيثُ ( «أَلَا تَصُفُّونَ، كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ قَالُوا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» ) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَ عبد الرزاق فِي مُصَنَّفِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَأَنْ تَقَعَ ثِنْتَايَ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ أَرَى فُرْجَةً فِي الصَّفِّ أَمَامِي، فَلَا أَصِلُهَا، وَأَخْرَجَ عبد الرزاق عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي حَتَّى يُتِمَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ فِي الصَّفِّ الثَّالِثِ حَتَّى يُتِمَّ الصَّفَّ الثَّانِيَ، وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لعطاء: أَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَرَاءَ الصَّفِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالرَّجُلَانِ، وَالثَّلَاثَةُ، إِلَّا فِي الصَّفِّ. قُلْتُ لعطاء: أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ الصَّفَّ مَزْحُومًا، لَا أَرَى فِيهِ فُرْجَةً. قَالَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَأَحَبُّ إِلَيَّ وَاللَّهِ أَنْ أَدْخَلَ فِيهِ، وَأَخْرَجَ عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: يُقَالُ: إِذَا دَحَسَ الصَّفُّ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَدْخَلٌ فَلْيَسْتَخْرِجْ رَجُلًا مِنْ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الصَّفِّ فَلْيَقُمْ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَلَاتُهُ تِلْكَ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، لَيْسَتْ بِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ، وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لعطاء: أَيُكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ الرَّجُلُ يَخْرُقُ الصُّفُوفَ؟ قَالَ: إِنْ خَرَقَ الصُّفُوفَ إِلَى فُرْجَةٍ، فَقَدْ أَحْسَنَ وَحَقٌّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَدْحَسُوا الصُّفُوفَ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمْ فُرَجٌ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] فَالصَّلَاةُ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ عَنْ يحيى بن جعدة قَالَ: أَحَقُّ الصُّفُوفِ بِالْإِتْمَامِ أَوَّلُهَا، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، والحاكم عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ «قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ ثَلَاثًا، وَعَلَى الَّذِي يَلِيهِ وَاحِدَةً» ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أبي أمامة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَى الثَّانِي؟ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَى الثَّانِي؟ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَى الثَّانِي؟ قَالَ: (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ وَحَاذُوا بَيْنَ مَنَاكِبِكُمْ، وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْحَذْفِ) » . وَأَخْرَجَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ كَانَ يُقَالُ: سَوُّوا الصُّفُوفَ، وَتَرَاصُّوا لَا تَتَخَلَّلُكُمُ الشَّيَاطِينُ، كَأَنَّهَا بَنَاتُ الْحَذْفِ. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا خَطَا رَجُلٌ خُطْوَةً أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خُطْوَةٍ إِلَى ثُلْمَةِ صَفٍّ لِيَسُدَّهَا. وَأَخْرَجَ عبد الرزاق، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عبد الرحمن بن سابط قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَا تَغَبَّرَتِ الْأَقْدَامُ، فِي مَشْيٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ رَقْعِ صَفٍّ» ) يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاعْدِلُوا صُفُوفَكُمْ، وَسُدُّوا الْفُرَجَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» . وَمِمَّا يُنَاسِبُ ذَلِكَ أَيْضًا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ بَابُ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ، ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَنْ بلال فِي الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: إِنَّمَا قَيَّدَهَا بِغَيْرِ الْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الصُّفُوفَ، وَتَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي الْجَمَاعَةِ مَطْلُوبٌ، وَقَالَ الرافعي فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ: احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَالَ المحب الطبري: كَرِهَ قَوْمٌ الصَّفَّ بَيْنَ السَّوَارِي، لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ ذَلِكَ، وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ عَدَمِ الضِّيقِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ انْقِطَاعُ الصَّفِّ. فَهَذَا الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَكَلَامِ شَارِحِيهَا مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِمْ صَرِيحٌ فِي كَرَاهَةِ هَذَا الْفِعْلِ، وَفِي بَعْضِهَا مَا يُصَرِّحُ بِسُقُوطِ الْفَضِيلَةِ، وَلْنَذْكُرِ الْآنَ مَا وَقَعَ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي لَا فَضِيلَةَ مَعَهَا، فَأَوَّلُ مَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُقَارَنَةِ، قَالَ الرافعي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الشَّرْحِ: قَالَ: صَاحِبُ التَّهْذِيبِ، وَغَيْرُهُ: ذَكَرُوا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِتْيَانُ بِالْأَفْعَالِ مَعَ الْإِمَامِ، وَتَفُوتُ بِهِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ. وَكَذَا قَالَ النووي فِي الرَّوْضَةِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ، قَالَ الزركشي فِي الْخَادِمِ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي كَوْنِ الْمُقَارَنَةِ مَكْرُوهَةً، الثَّانِي: تَفْوِيتُهَا فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ صَرَّحَ بِالْكَرَاهَةِ الْبَغَوِيُّ وَتَابَعَهُ الروياني، وَكَلَامُ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَأَمَّا الثَّانِي فَعِبَارَةُ التَّهْذِيبِ: إِذَا أَتَى بِالْأَفْعَالِ مَعَ الْإِمَامِ يُكْرَهُ، وَتَفُوتُ بِهِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، وَلَكِنْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ. وَقَالَ ابن الأستاذ: فِي هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: تَفُوتُهُ فَضِيلَةُ الْأَوْلَوِيَّةِ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ، وَقَالَ التَّاجُ الفزاري: فِي كَلَامِ الْبَغَوِيِّ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ حَكَمَ بِفَوَاتِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ وَتَبِعَهُ أَيْضًا السبكي، وَصَاحِبُ الْمُهِمَّاتِ والبارزي فِي تَوْضِيحِهِ الْكَبِيرِ، قَالَ الزركشي: وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الصِّحَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ بِدَلِيلِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ، وَالدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَإِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ، وَالْحُكْمُ بِانْتِفَاءِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ لَا يُنَاقِضُ حُصُولَهَا بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، فَالِاقْتِدَاءُ صَحِيحٌ، وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ لَا ثَوَابَ فِيهَا قَالَ: وَمِمَّا يَشْهَدُ لِانْفِكَاكِ ثَوَابِ الْجَمَاعَةِ، الْمَسْبُوقُ يُدْرِكُ الْإِمَامَ بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّهُ فِي جَمَاعَةٍ قَطْعًا ; لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِلَّا لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي حُصُولِ الْفَضِيلَةِ لَهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ صَلَاةٍ لَا تُسْتَحَبُّ فِيهَا الْجَمَاعَةُ كَصَلَاةِ الْعُرَاةِ جَمَاعَةً، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا ثَوَابَ فِيهَا ; لِأَنَّهَا غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ. قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ النووي نَفَى فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ أَيْ ثَوَابَهَا، وَلَمْ يَقُلْ: بَطَلَتِ الْجَمَاعَةُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ بَاقِيَةٌ وَأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي ; لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ السَّهْوَ وَغَيْرَهُ قَالَ: وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ، كَيْفَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا وَتَتَابَعُوا عَلَى هَذَا الْفَسَادِ وَأَنَّ فَوَاتَ الْفَضِيلَةِ يَسْتَلْزِمُ الْخُرُوجَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وَهَذَا عَجَبٌ مِنَ الْقَوْلِ مَعَ وُضُوحِ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ بَقَاءِ الْجَمَاعَةِ وَصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ مَعَ انْتِفَاءِ الثَّوَابِ فِي مَا لَا يُحْصَى، قَالَ: وَأَمَّا جَزْمُ الْبَارِزِيِّ بِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ فَأَعْجَبُ ; لِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ مَكْرُوهَةٌ، وَالْمَكْرُوهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ، وَكَيْفَ يُتَخَيَّلُ مَعَ ذَلِكَ حُصُولُ الثَّوَابِ؟ . وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي تَذْكِرَةِ الْخِلَافِ فِيمَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ: إِنَّا وَإِنْ حَكَمْنَا بِالصِّحَّةِ فَقَدْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ، قَالَ الزركشي: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْمُقَارَنَةِ جَرَى مِثْلُهُ فِي سَبْقِ الْإِمَامِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، بَلْ يَجْرِي أَيْضًا فِي الْمُسَاوَاةِ مَعَهُ فِي الْمَوْقِفِ ; فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ حَيْثُ فَعَلَ مَكْرُوهًا فِي الْجَمَاعَةِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَأْمُومِ، فَاتَتْهُ فَضِيلَتُهَا إِذِ الْمَكْرُوهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ، وَكَذَا لَوِ اقْتَدَى بِإِمَامٍ مُحْدِثٍ، وَهُوَ جَاهِلٌ بِحَدَثِهِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ، وَإِنْ فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْخَادِمِ بِحُرُوفِهِ، وَقَدْ تَحْصُلُ مِنْ هَذَا صُوَرٌ مَنْقُولَةٌ تَسْقُطُ فِيهَا الْفَضِيلَةُ مَعَ الصِّحَّةِ، بَعْضُهَا لِلْكَرَاهَةِ وَبَعْضُهَا لِلتَّحْرِيمِ، وَبَعْضُهَا لِعَدَمِ الطَّلَبِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ الْمُسَابَقَةُ، وَالْمُقَارَنَةُ، وَالْمُفَارَقَةُ وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْمَوْقِفِ، وَمِنَ الثَّانِي صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، وَمِنَ الثَّالِثِ صَلَاةُ الْعُرَاةِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِمَسْأَلَةِ الْمُسَاوَاةِ أَيْضًا الْحَافِظُ ابن حجر، فَقَالَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: الْأَصْلُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمَأْمُومِينَ، إِلَّا إِنْ ضَاقَ الْمَكَانُ، أَوْ كَانُوا عُرَاةً، وَمَا عَدَا ذَلِكَ تُجْزِئُ، وَلَكِنْ تَفُوتُ الْفَضِيلَةُ. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَيْضًا ابن العماد فِي الْقَوْلِ التَّمَامِ، وَعَلَّلَهُ بِارْتِكَابِ الْمَكْرُوهِ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ جلال الدين المحلي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ مُعَبِّرًا بِقَوْلِهِ: وَيُؤْخَذُ مِنَ الْكَرَاهَةِ سُقُوطُ الْفَضِيلَةِ عَلَى قِيَاسِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُقَارَنَةِ، ثُمَّ قَالَ الزركشي عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُفَارَقَةِ: حَيْثُ جَوَّزْنَا لَهُ الْمُفَارَقَةَ، فَهَلْ يَبْقَى لِلْمَأْمُومِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَدْرَكَهَا؟ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الصيرفي الْبَقَاءُ، وَكَلَامُ الْمُهَذَّبِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَبَقَ عَنِ الْبَغَوِيِّ مِنْ تَفْوِيتِ الْفَضِيلَةِ بِالْمُقَارَنَةِ ; فَإِنَّهَا إِذَا فَاتَتْ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلَأَنْ تَفُوتَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْبُطْلَانِ أَوْلَى ثُمَّ قَالَ: وَالْمُتَّجَهُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى. وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ ابن العماد فِي الْقَوْلِ التَّمَامِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهَا إِذَا فَاتَتْ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الصِّحَّةِ فَفِي الِاخْتِلَافِ فِي الْبُطْلَانِ أَوْلَى فَوَاتِهَا أَيْضًا فِي الْمُنْفَرِدِ وَخَلْفَ الصَّفِّ، فَإِنَّ مَذْهَبَ أحمد بُطْلَانُهَا، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَنَا حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطيب عَنِ ابن المنذر، وَالْحُمَيْدِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ السبكي وَغَيْرُهُ: وَدَلِيلُهُمْ قَوِيٌّ، وَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ فَقَالُوا: لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ وابصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 لَقُلْتُ بِهِ وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ والحاكم وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِهِ الْجَوَابَ عَنْ حَدِيثِ أبي بكرة، وَقَدْ وَرَدَ أَثَرٌ فِي سُقُوطِ الْفَضِيلَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَيْنِهَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ مُسْتَدِلًّا بِهِ - وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الشَّافِعِيَّةِ - فَرَوَى مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ عَنْ إبراهيم فِيمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَقَالَ: صَلَاتُهُ تَامَّةٌ، وَلَيْسَ لَهُ تَضْعِيفٌ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ لَهُ الْمُضَاعَفَةُ إِلَى بِضْعٍ وَعِشْرِينَ الَّذِي هُوَ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ، وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَدَاءِ خَلْفَ الْقَضَاءِ وَعَكْسُهُ: الْأَوْلَى الِانْفِرَادُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ فِي الْخَادِمِ: وَإِذَا كَانَ الْأَوْلَى الِانْفِرَادَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، فَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى، وَقَالَ الْحَافِظُ ابن حجر وَالشَّيْخُ جلال الدين المحلي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي مَسْأَلَةِ الِاقْتِدَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ: صَرَّحَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْكَرَاهَةِ سُقُوطُ الْفَضِيلَةِ عَلَى قِيَاسِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُقَارَنَةِ، فَهَذِهِ صُورَةٌ ثَامِنَةٌ، وَرَأَيْتُ الشَّيْخَ جلال الدين يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَتِ الْكَرَاهَةُ سَقَطَتِ الْفَضِيلَةُ، كَمَا لَا يَخْفَى ذَلِكَ مِنْ عِبَارَتِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِلْكَرَاهَةِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، قَوْلُهُمْ بِجَوَازِ التَّخَطِّي فِي مِثْلِهَا، مَعَ أَنَّ أَصْلَ التَّخَطِّي مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَحَرَامٌ عِنْدَ قَوْمٍ، وَاخْتَارَهُ النووي لِلْأَحَادِيثِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ أَمْرٌ مُهِمٌّ جِدًّا مَا أُبِيحَ لَهُ مَا هُوَ فِي الْأَصْلِ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ " (فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ) ، وَمِمَّا يُؤْنِسُكَ بِهَذَا أَنَّ مِنْ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ أَنَّ مَا كَانَ مَمْنُوعًا إِذَا جَازَ وَجَبَ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ نَفِيسَةٌ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى إِيجَابِ الْخِتَانِ، فَإِنَّ قَطْعَ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، فَلَمَّا جَازَ كَانَ وَاجِبًا، وَتَقْرِيرُهُ هُنَا أَنَّ التَّخَطِّيَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إِمَّا تَحْرِيمًا أَوْ كَرَاهَةً، فَلَمَّا جَازَ بَلْ طُلِبَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي حُصُولِ الْفَضِيلَةِ وَالتَّضْعِيفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي ذَاتِهِ، إِذْ لَا يَأْثَمُ تَارِكُهُ وَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ بَرَكَةِ الْجَمَاعَةِ وَفَضِيلَتِهَا، فَفِي الْخَادِمِ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ رُكُوعِ الْأَخِيرَةِ ذَكَرُوا أَنَّ كَلَامَ الرافعي فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي أَنَّ بَرَكَةَ الْجَمَاعَةِ أَمْرٌ غَيْرُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، وَأَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ الَّتِي تَحْصُلُ لِهَذَا دُونَ الْفَضِيلَةِ، قَالَ: وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ تَنَاقُضٍ أَوْ إِشْكَالٍ، وَقَدْ وَقَعَ فِي ذِكْرِ حِكْمَةِ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ فِي الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُ الْفَرْقَ بَيْنَ بَرَكَةِ الْجَمَاعَةِ وَفَضِيلَتِهَا، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: ذَكَرَ المحب الطبري أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ إِلَى آخِرِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ عَلَيْهِ لِلتَّضْعِيفِ الْمَذْكُورِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا رُتِّبَ عَلَى مَوْضُوعَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا يُوجَدُ بِوُجُودِ بَعْضِهَا إِلَّا إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إِلْغَاءِ مَا لَيْسَ مُعْتَبَرًا، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى فَالْأَخْذُ بِهَا مُتَوَجِّهٌ وَالرِّوَايَاتُ الْمُطْلَقَةُ لَا تُنَافِيهَا بَلْ تُحْمَلُ عَلَيْهَا، قَالَ: وَقَدْ نَقَّحْتُ الْأَسْبَابَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلدَّرَجَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَإِذَا هِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فِي السِّرِّيَّةِ، وَسَبْعٌ وَعِشْرُونَ فِي الْجَهْرِيَّةِ، وَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، أَوَّلُهَا إِلَى الْخَامِسِ: إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَالتَّبْكِيرُ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْمَسْجِدِ بِالسَّكِينَةِ، وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ دَاعِيًا، وَصَلَاةُ التَّحِيَّةِ عِنْدَ دُخُولِهِ، كُلُّ ذَلِكَ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، سَادِسُهَا: انْتِظَارُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الطَّاعَةِ، سَابِعُهَا: صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ، ثَامِنُهَا: شَهَادَتُهُمْ لَهُ، تَاسِعُهَا: إِجَابَةُ الْإِقَامَةِ، عَاشِرُهَا: السَّلَامَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ حِينَ يَفِرُّ عِنْدَ الْإِقَامَةِ، حَادِيَ عَشَرَهَا: الْوُقُوفُ مُنْتَظِرًا إِحْرَامَ الْإِمَامِ وَالدُّخُولُ مَعَهُ فِي أَيِّ هَيْئَةٍ وَجَدَهُ عَلَيْهَا، ثَانِيَ عَشَرَهَا: إِدْرَاكُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثَالِثَ عَشَرَهَا: تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَسَدُّ فُرَجِهَا، رَابِعَ عَشَرَهَا: جَوَابُ الْإِمَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، خَامِسَ عَشَرَهَا: الْأَمْنُ مِنَ السَّهْوِ غَالِبًا وَتَنْبِيهُ الْإِمَامِ إِذَا سَهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالْفَتْحِ عَلَيْهِ، سَادِسَ عَشَرَهَا: حُصُولُ الْخُشُوعِ وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يُلْهِي غَالِبًا، سَابِعَ عَشَرَهَا: تَحْسِينُ الْهَيْئَةِ غَالِبًا، ثَامِنَ عَشَرَهَا: إِحْفَافُ الْمَلَائِكَةِ، تَاسِعَ عَشَرَهَا: التَّدْرِيبُ عَلَى تَجْوِيدِ الْقِرَاءَةِ، وَتَعَلُّمُ الْأَرْكَانِ وَالْأَبْعَاضِ، الْعِشْرُونَ: إِظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: إِرْغَامُ الشَّيْطَانِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الطَّاعَةِ وَنَشَاطِ الْمُتَكَاسِلِ، الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: السَّلَامَةُ مِنْ صِفَةِ النِّفَاقِ وَمِنْ إِسَاءَةِ غَيْرِهِ بِهِ الظَّنَّ بِأَنَّهُ تَرَكَ الصَّلَاةَ رَأْسًا، الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ، الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الِانْتِفَاعُ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَعَوْدُ بَرَكَةِ الْكَامِلِ مِنْهُمْ عَلَى النَّاقِصِ، الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: قِيَامُ نِظَامِ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْجِيرَانِ وَحُصُولُ تَعَاهُدِهِمْ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ. وَتَزِيدُ الْجَهْرِيَّةُ بِالْإِنْصَاتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهَا وَالتَّيَامُنِ عِنْدَ تَأْمِينِهِ، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: وَمُقْتَضَى ذَلِكَ اخْتِصَاصُ التَّضْعِيفِ بِالتَّجْمِيعِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِلَّا تَسْقُطُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ وَهِيَ: الْمَشْيُ وَالدُّخُولُ وَالتَّحِيَّةُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى خَصْلَتَيْنِ مُتَقَارِبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ غَيْرُ مَنْفَعَةِ عَوْدِ بَرَكَةِ الْكَامِلِ عَلَى النَّاقِصِ، وَكَذَا فَائِدَةُ قِيَامِ الْأُلْفَةِ غَيْرُ فَائِدَةِ حُصُولِ التَّعَاهُدِ، وَكَذَا فَائِدَةُ أَمْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الْمَأْمُومِينَ مِنَ السَّهْوِ غَالِبًا غَيْرُ تَنْبِيهِ الْإِمَامِ إِذَا سَهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ هَذِهِ فَيَحْصُلَ الْمَطْلُوبُ، قَالَ: وَلَا يُرَدُّ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ بَعْضِ الْخِصَالِ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَنْ صَلَّى جَمَاعَةً دُونَ بَعْضٍ، كَالتَّكْبِيرِ وَانْتِظَارِ الْجَمَاعَةِ وَانْتِظَارِ إِحْرَامِ الْإِمَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَجْرَ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِقَاصِدِهِ بِمُجَرَّدِ الْجَمَاعَةِ وَانْتِظَارِ إِحْرَامِ الْإِمَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ أَجْرَ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِقَاصِدِهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَلَوْ لَمْ يَقَعْ، إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَالْإِخْلَالُ بِسَدِّ الْفُرْجَةِ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ التَّضْعِيفُ الْمَذْكُورُ قَطْعًا لِأَنَّهُ خَصْلَةٌ مِنَ الْخِصَالِ الْمُقَابَلَةِ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ يَسْقُطُ بِسَبَبِهِ خِصَالٌ أُخَرُ كَالسَّلَامَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ ; لِتَصْرِيحِ الْحَدِيثِ بِتَخَلُّلِ الشَّيْطَانِ بَيْنَهُمْ، وَإِحْفَافِ الْمَلَائِكَةِ لِعَدَمِ مُجَامَعَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ، وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَشَهَادَتِهِمْ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي وُرُودَ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَقِيَامِ نِظَامِ الْأُلْفَةِ لِإِخْبَارِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يُورِثُ مُخَالَفَةَ الْقُلُوبِ، وَعَوْدِ بَرَكَةِ الْكَامِلِ عَلَى النَّاقِصِ لِذَلِكَ أَيْضًا، وَعَدَمِ الْأَمْنِ مِنَ السَّهْوِ غَالِبًا، وَعَدَمِ إِرْغَامِ الشَّيْطَانِ، وَعَدَمِ الْخُشُوعِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ الْمُتَخَلِّلَةِ، فَهَذِهِ عَشْرُ خِصَالٍ تَفُوتُ بِعَدَمِ سَدِّ الْفُرْجَةِ فَيَفُوتُ بِسَبَبِهَا عَشْرُ دَرَجَاتٍ. فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ عَدَمُ التَّبْكِيرِ وَالِانْتِظَارِ وَالْوُقُوفِ مُنْتَظِرًا إِحْرَامَ الْإِمَامِ وَإِدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ إِذِ الْمُقَصِّرُ فِي سَدِّ الْفُرْجَةِ مَعَ سُهُولَتِهَا أَقْرَبُ إِلَى التَّقْصِيرِ فِي الْمَذْكُورَاتِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا، وَمِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ عَادَةً بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا سَقَطَ خَمْسَةٌ أُخْرَى، وَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ بُعْدُهُ عَنِ الْإِمَامِ وَتَرَاخِي الصَّفِّ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ عَنْ سَدِّ الْفُرْجَةِ تَسْقُطُ خَصْلَتَانِ وَهِيَ تَنْبِيهُ الْإِمَامِ إِذَا سَهَا وَالِاسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَيَصِيرُ الْحَاصِلُ لَهُ فِي الْجَهْرِيَّةِ عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَفِي السِّرِّيَّةِ تِسْعٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أوس المعافري أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَرَأَيْتَ مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى فِي بَيْتِهِ؟ قَالَ: حَسَنٌ جَمِيلٌ، قَالَ: فَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ عَشِيرَتِهِ، قَالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ صَلَاةً، قَالَ: فَإِنْ مَشَى إِلَى مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ فَصَلَّى فِيهِ، قَالَ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ. وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَمَاعَةَ الْكَامِلَةَ يَحْصُلُ فِيهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً وَالْجَمَاعَةَ الَّتِي فِيهَا خَلَلٌ يَحْصُلُ فِيهَا هَذَا الْعَدَدُ، لَكِنَّ دَرَجَاتِ الْأَوَّلِ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ كَمَا قِيلَ فِي بَدَنَةِ الْمُبَكِّرِ إِلَى الْجُمُعَةِ، حَيْثُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْآتِي أَوَّلَ السَّاعَةِ وَآخِرَهَا، وَالصَّحَابَةُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِتَفْسِيرِ مَعَانِي كَلَامِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَأَيْضًا فَالْأَصَحُّ فِي تَفْسِيرِ الدَّرَجَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أَوِ الْجُزْءِ حُصُولُ مِقْدَارِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لِلْمُجَمِّعِ كَمَا رَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابن دقيق العيد ; لِأَنَّهُ وَرَدَ مُبَيَّنًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَحَدِيثِ مُسْلِمٍ: ( «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ» ) ، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ تُضَعَّفُ؛ لِأَنَّ الضِّعْفَ كَمَا قَالَ الأزهري الْمِثْلُ إِلَى مَا زَادَ، فَالتَّفَاوُتُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ بِزِيَادَةِ عَدَدِ الْمِثْلِ وَنُقْصَانِهِ لَا بِارْتِفَاعِهِ وَانْحِطَاطِهِ بِخِلَافِ الْبَدَنَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهَا مِمَّا تَقْبَلُ الْعِظَمَ وَالْخِسَّةَ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ أَوْرَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَيْضًا تَتَفَاوَتُ بِالْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ، فَقُلْتُ: الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا بِعَيْنِهَا فِي الْجَمَاعَةِ تُحَصِّلُ لَهُ مِثْلَ مَا لَوْ صَلَّاهَا مُنْفَرِدًا بِضْعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ أَمْ لَا، فَنُقْصَانُ سَدِّ الْفُرَجِ وَنَحْوِهِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى نُقْصَانِ أَصْلِ الصَّلَاةِ قَطْعًا، وَأَوْرَدَ أَنَّ كَلَامَ ابن عمرو مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ اجْتِهَادًا فَلَا يُقَلَّدُ فِيهِ، وَلَوْ قَالَهُ مَرْفُوعًا لَتَمَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَقُلْتُ: هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ إِذْ هُوَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ الَّتِي لَا تُقَالُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَأَوْرَدَ أَنَّ الْآتِيَ وَلَا فُرْجَةَ فِي الصَّفِّ يُؤْمَرُ بِجَذْبِ رَجُلٍ وَيُؤْمَرُ ذَاكَ بِمُسَاعَدَتِهِ فَيَصِيرُ فِي الصَّفِّ فُرْجَةٌ، فَقُلْتُ: هَذَا لِلضَّرُورَةِ وَلِدَفْعِ مَا هُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً وَإِحْرَازًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى بُطْلَانَهَا [قَالَ الشمس الداودي: قَالَ مُؤَلِّفُهُ شَيْخُنَا: وَكَانَتْ هَذِهِ الْفَتْوَى وَالتَّأْلِيفُ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ فِي الرَّوْضَةِ فِي آخِرِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ: لَوْ سَافَرَ رَجُلَانِ شَافِعِيٌّ وَحَنَفِيٌّ فِي مُدَّةِ قَصْرٍ، ثُمَّ نَوَى الْحَنَفِيُّ الْإِقَامَةَ، يَعْنِي إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. . . فِي مَوْضِعٍ فِي طَرِيقِهِ فَإِنَّهُ لَا. . . سَفْرَةَ فِي مَذْهَبِهِ وَيَنْقَطِعُ. . . مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَشَرَعَ فِي صَلَاةٍ مَقْصُورَةٍ جَازَ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِنِيَّةِ الْمُقْتَدِي. الْجَوَابُ: قَالَ الْعَلَّامَةُ ابن قاسم فِي حَاشِيَةِ التُّحْفَةِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَعْتَقِدُ عَدَمَ انْعِقَادِ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَالْمُقِيمُ إِذَا نَوَى الْقَصْرَ لَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ فَلَمْ يَنْتَفِ الْأَشْكَالُ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْحَنَفِيَّ بِمَنْزِلَةِ الْجَاهِلِ بِالْحُكْمِ لِاعْتِقَادِهِ الْجَوَازَ، وَنِيَّةُ الْقَصْرِ جَهْلًا لَا تَضُرُّ، وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الْجَوَابُ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ الْمُقِيمَ لَا يَضُرُّهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ مَعَ الْجَهْلِ فَلْيُرَاجَعْ، انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ ابن قاسم. وَأَقُولُ قَدْ أَجَابَ الشَّيْخُ ابن حجر فِي التُّحْفَةِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جِنْسُ الْقَصْرِ جَائِزًا اغْتُفِرَ نِيَّةُ الْإِمَامِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِ. . . لِمُرُورِهِ فِي. . . إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ فَإِحْرَامُهُ بِالصَّلَاةِ صَحِيحٌ فَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ مَا دَامَتِ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً. [بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ] [ مسائل متفرقة ] بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ صَلَّى الْجُمُعَةَ إِمَامًا فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِالْفَاتِحَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} [يوسف: 7] إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] اثْنَتَيْ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22] أَرْبَعَ آيَاتٍ فَهَلْ يَكُونُ هَذَا تَطْوِيلًا تُكْرَهُ بِهِ الصَّلَاةُ؟ وَهَلْ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ لِأَجْلِ قِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ سُورَتَيِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ؟ وَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ الصَّلَاةُ مَكْرُوهَةً؟ . الْجَوَابُ: لَيْسَ هَذَا هُوَ التَّطْوِيلَ الْمَكْرُوهَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ لِلْمُنْفَرِدِ فَمَا فَوْقَهُ كَسِتِّينَ آيَةً فَصَاعِدًا، وَقَدْ وَرَدَ: لَا يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِدُونِ عِشْرِينَ آيَةً وَلَا فِي الْعِشَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَالْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ كَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى مِنَ الْعِشَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ الْكَرَاهَةُ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى. مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ تَذَكَّرَ فَائِتَةً وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ فَصَلَّاهَا هَلْ تَصِحُّ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ تَصِحُّ لِأَنَّ لَهَا سَبَبًا قِيَاسًا عَلَى صِحَّتِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَعَلَى صِحَّةِ التَّحِيَّةِ لِلدَّاخِلِ حَالَةَ الْخُطْبَةِ، وَقَدْ أَفْتَى بِذَلِكَ شَيْخُنَا قَاضِي الْقُضَاةِ علم الدين البلقيني أَخْذًا مِنْ قَوْلِ وَالِدِهِ فِي التَّدْرِيبِ: وَمِنَ الصَّلَاةِ الْمُحَرَّمَةِ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لِلدَّاخِلِ حَالَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالتَّنَفُّلُ لِغَيْرِ الدَّاخِلِ، فَأُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالتَّنَفُّلُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ أَنَّ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ الْمَفْرُوضَةِ لَا يَحْرُمُ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ سراج الدين العبادي، وَخَالَفَهُمَا شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ شرف الدين المناوي فَأَفْتَى بِالْمَنْعِ وَالْبُطْلَانِ، وَتَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْبَهْجَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْأَذْرَعِيَّ ذَكَرَ مِثْلَ مَا أَفْتَى بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 شَيْخُنَا البلقيني مِنَ الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ وَنَقَلَهُ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الْحَاوِي والجرجاني فِي الشَّافِي. مَسْأَلَةٌ: يَا مَنْ لِأَهْوَاءِ الْجَهَالَةِ مُذْهِبُ ... وَلِحُلَّةِ الْفُقَهَا طِرَازٌ مُذْهَبُ يَا مَنْ لَهُ فَهْمٌ تَفَرَّدَ فِي الْوَرَى ... يَا مَنْ إِلَيْهِ جَاءَ يَسْعَى الْمَذْهَبُ يَا مَنْ بِتَحْرِيرِ الْمَقَالَةِ قَدْ حَوَى ... فَضْلًا بِبَهْجَتِهِ نَلَذُّ وَنَطْرَبُ يَا عُمْدَةً فِي مَذْهَبِ الْحَبْرِ الرَّضِيِّ ... الشَّافِعِيِّ هُوَ الْإِمَامُ الْمُطْنِبُ مَا قَوْلُكُمْ فِي أَرْبَعِينَ لِجُمُعَةٍ ... حَضَرُوا كَذَاكَ بِخُطْبَةٍ إِذْ تُخْطَبُ وَالْبَعْضُ مِنْهُمْ يَجْهَلُونَ كِلَيْهِمَا ... وَالْبَعْضُ مِنْهُمْ عَالِمٌ وَمُهَذَّبُ مَاذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي كِلْتَيْهِمَا ... أَنْتَ الْمُرَادُ لَهَا وَأَنْتَ الْمَطْلَبُ وَصَلَاةُ عِيدٍ إِنْ قَضَاهَا مَنْ وَفَى ... تَكْبِيرَهُ لِقَضَائِهَا هَلْ يُنْدَبُ ثُمَّ الطَّوَافُ وُجُوبُ نِيَّتِهِ عَلَى ... مَنْ رَامَهَا حَقًّا فَهَلْ تَتَرَتَّبُ نَرْجُو الْجَوَابَ عَنِ الثَّلَاثِ مُعَلِّلًا ... وَيَكُونُ ذَلِكَ وَاضِحًا يُسْتَعْذَبُ أَبْقَاكَ رَبُّكَ ذَاهِنًا يَا مَنْ لَنَا ... وَبَلُ النَّدَى مِنْهُ رَوَى إِذْ نُجْدِبُ وَجَنَى الْجِنَانِ إِلَيْكَ يُدْنِيهِ وَعَنْ ... رُؤْيَاهُ فِي دَارِ الْبَقَا لَا يُحْجَبُ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنْ يَقْرُبُ ... لِجَنَابِهِ يَحْظَى بِهِ وَيُقَرَّبُ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الَّذِي كَلُّ الْوَرَى ... وَالرُّسْلِ فِي حَشْرٍ إِلَيْهِ تُرَغِّبُ إِنْ أَرْبَعُونَ نَوَوْا إِقَامَةَ جُمْعَةٍ ... كُلٌّ إِلَى جَهْلِ الْقِرَاءَةِ يُنْسَبُ صَحَّتْ وَلَوْ فِي بَعْضِهِمْ أُمِّيَّةٌ ... مَا لَمْ يَؤُمَّهُمُ الْجَهُولُ الْمُتْعَبُ أَوْ كُلُّهُمْ جَهِلُوا الْخَطَابَةَ أَلْغِهَا ... مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ فَرِيدٌ يَخْطُبُ وَالْفَرْقُ أَنَّ إِمَامَةَ الْأُمِّيِّ بِمَنْ ... سَاوَى تَصِحُّ وَفَوْقَهُ لَا تُحْسَبُ وَصَلَاتُهَا دُونَ الْخَطَابَةِ لَا تَصِحُّ ... وَبَعْدَهَا صَحَّتْ وَلَوْ لَمْ يُعْرِبُوا وَصَلَاةُ عِيدٍ قَدْ قَضَى لَمَّا مَضَتْ ... أَيَّامُهَا تَكْبِيرُهَا لَا يُنْدَبُ وَطَوَافُ فَرْضٍ لَا احْتِيَاجَ لِنِيَّةٍ ... أَمَّا التَّطَوُّعُ وَالْوَدَاعُ فَأَوْجَبُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 إِذْ نِيَّةُ الْإِحْرَامِ شَامِلَةٌ لَهُ ... فَلَهُ غِنًى عَنْهَا كَمَا قَدْ رَتَّبُوا وَالنَّذْرُ حُكْمُ النَّفْلِ قَطْعًا وَاغْتَنَى ... عَنْهَا الْقُدُومُ فَلَيْسَ فِيهِ تَطَلُّبُ هَذَا جَوَابُ ابن السيوطي سَائِلًا ... مِنْ رَبِّهِ الْغُفْرَانَ عَمَّا يُذْنِبُ مَسْأَلَةٌ: فِي الرَّوْضَةِ الْمُقَابِلَةِ لِمِصْرَ الْعَتِيقَةِ هَلْ هِيَ بَلَدٌ مُسْتَقِلٌّ فَلَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِهَا إِلَّا بِأَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِهَا الْقَاطِنِينَ بِهَا أَمْ هِيَ فِي حُكْمِ مِصْرٍ. الْجَوَابُ: هِيَ بَلَدٌ مُسْتَقِلٌّ فَلَا تَنْعَقِدُ بِهَا الْجُمُعَةُ إِلَّا بِأَرْبَعِينَ قَاطِنِينَ بِهَا، وَقَدْ كَانَتْ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ مَشْهُورَةً بِذَلِكَ وَلَهَا وَالٍ وَقَاضٍ مُخْتَصٌّ بِهَا. مَسْأَلَةٌ: إِذَا كَانَ الْخَطِيبُ حَنَفِيًّا لَا يَرَى صِحَّةَ الْجُمُعَةِ إِلَّا فِي السُّورِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَخْطُبَ وَيَؤُمَّ فِي الْقَرْيَةِ، وَهَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ؟ . الْجَوَابُ: الْعِبْرَةُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِنِيَّةِ الْمُقْتَدِي فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي الْجُمُعَةِ خَلْفَ حَنَفِيٍّ وَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ لَا سُورَ لَهَا إِذَا حَضَرَ أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ. [اللُّمْعَةُ فِي تَحْرِيرِ الرَّكْعَةِ لِإِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ الْمِنْهَاجِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَنْ أَدْرَكَ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ فَيُصَلِّي بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَمَشَى عَلَيْهِ الشَّارِحُ الْمُحَقِّقُ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السبكي بِقَوْلِهِ: إِنَّ شَرْطَ إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِرُكُوعِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْإِمَامُ إِلَى السَّلَامِ، وَوَقَعَ لِبَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ مُفَارَقَةُ الْإِمَامِ إِذَا أَدْرَكَ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ إِثْرَ السُّجُودِ الثَّانِي، وَأَفْتَى بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَعَلَامَ يَعْتَمِدُ الْمُقَلِّدُ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنَّا. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مُعْضِلَاتِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهَا، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ كَثِيرِينَ اشْتِرَاطُ الِاسْتِمْرَارِ إِلَى السَّلَامِ، وَمِنْ كَلَامِ آخَرِينَ خِلَافُهُ، وَهَا أَنَا أُبَيِّنُ ذَلِكَ وَاضِحًا مُفَصَّلًا فَأَقُولُ: الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ الثَّلَاثَةِ الرافعي والنووي وابن الرفعة اشْتِرَاطُ الِاسْتِمْرَارِ إِلَى السَّلَامِ حَيْثُ عَبَّرُوا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، الرافعي فِي شَرْحَيْهِ، والنووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالْمِنْهَاجِ، وابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ، بِقَوْلِهِمْ صَلَّى بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ رَكْعَةً أَضَافَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَإِذَا سَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الْإِمَامُ قَامَ وَأَتَى بِرَكْعَةٍ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِذِكْرِ بُعْدِ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ لَا لِلتَّقْيِيدِ لَكِنْ يَدْفَعُهُ عَدَمُ ذِكْرِ الشِّقِّ الْآخَرِ وَهُوَ مَا لَوْ فَارَقَ قَبْلَ السَّلَامِ مَا حُكْمُهُ؟ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُهُ الْإِدْرَاكَ لَنَبَّهُوا عَلَيْهِ لِيُعَرِّفُوا أَنَّ قَوْلَهُمْ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ، وَكَذَا قَالَ ابن الرفعة فِي مَسْأَلَةِ الْمَزْحُومِ إِذَا رَاعَى تَرْتِيبَ نَفْسِهِ عَالِمًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، ثُمَّ إِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مَعَهُ، وَتُدْرَكُ الْجُمُعَةُ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَضَافَ إِلَيْهَا أُخْرَى. وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَسْبُوقِ: الْمُرَادُ بَإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ أَنْ يُحْرِمَ الْمَأْمُومُ وَيَرْكَعَ مَعَ الْإِمَامِ وَالْإِمَامُ رَاكِعٌ فَيَجْتَمِعَانِ فِي جُزْءٍ مِنْهُ وَيُتَابِعُ الْإِمَامَ إِلَى أَنْ يُتِمَّ، وَقَالَ الرافعي: الْمُرَادُ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ أَنْ يُدْرِكَهُ فِيهِ وَيُتَابِعَهُ فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَرْكَانِ. فَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ فِي اعْتِبَارِ الِاسْتِمْرَارِ إِلَى السَّلَامِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُفَارَقَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الإسنوي وَجَوَّزَهَا قَبْلَ السَّلَامِ فَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْمَشَايِخِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا مَسْأَلَةَ الْمُفَارَقَةِ مُرِيدِينَ بِهَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِقَرِينَةٍ أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَاهَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَسْبُوقِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا الرَّافِعِيُّ والنووي فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِخْلَافِ، وابن الرفعة فِي مَسْأَلَةِ الزَّحْمَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ خَاصٌّ بَإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، هَذَا وَقَدْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ وَاشْتَرَطَ الِاسْتِمْرَارَ إِلَى السَّلَامِ الشَّيْخُ تقي الدين السبكي، والكمال الدميري فِي شَرْحَيْهِمَا عَلَى الْمِنْهَاجِ، وَعِبَارَةُ السبكي والدميري هَذَا إِذَا كَمَّلَهَا مَعَ الْإِمَامِ، أَمَّا لَوْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ السَّلَامِ فَلَا، وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَيُصَلِّي بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ رَكْعَةً - هَذِهِ عِبَارَتُهُ. وَقَوْلُ الشَّيْخِ جلال الدين المحلي فِي شَرْحِهِ: وَاسْتَمَرَّ مَعَهُ إِلَى أَنْ سَلَّمَ يَحْتَمِلُ التَّقْيِيدَ وَالتَّصْوِيرَ لِأَجْلِ صُورَةِ الْكِتَابِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَإِلَّا لَبَيَّنَ حُكْمَ الْقِسْمِ الْآخَرِ وَأَلْحَقَهُ بِالْأَوَّلِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ وَعَادَةُ الشُّرَّاحِ قَبْلَهُ، وَإِلَّا لَكَانَ زِيَادَةَ إِبْهَامٍ اسْتِمْرَارًا عَلَى مَا فِي الْمَتْنِ مِنَ الْإِيهَامِ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَجَدْتَهُ يُؤَيِّدُ الِاشْتِرَاطَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجُمُعَةِ أَنْ لَا يُصَلَّى شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ، خَرَّجَ صُورَةَ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً بِالْحَدِيثِ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ حُصُولِ مُسَمَّى الرَّكْعَةِ، وَالتَّشَهُّدُ وَالسَّلَامُ دَاخِلَانِ فِي مُسَمَّى الرَّكْعَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النُّصُوصَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ وَالصُّبْحَ وَالْعِيدَ وَنَحْوَهَا رَكْعَتَانِ، وَالظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ آخِرَ الرَّكَعَاتِ الْفَرَاغُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَنَّ التَّشَهُّدَ وَالسَّلَامَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَيْهَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا إِخْرَاجُ ذَلِكَ عَنْ مُسَمَّى الصَّلَاةِ، وَهُوَ شَيْءٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ فِي التَّشَهُّدِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي السَّلَامِ، وَإِمَّا دَعْوَى أَنَّ الصَّلَاةَ رَكْعَتَانِ وَشَيْءٌ أَوْ أَرْبَعٌ وَشَيْءٌ أَوْ ثَلَاثٌ وَشَيْءٌ وَهُوَ أَمْرٌ يَنْبُو عَنْهُ السَّمْعُ وَيَأْبَاهُ حَمَلَةُ الشَّرْعِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَاتِّفَاقَ الْمَذْهَبِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ الْوَتْرَ رَكْعَةٌ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَشَهُّدٍ وَسَلَامٍ، فَدَعْوَى أَنَّهُمَا خَارِجَانِ عَنْ مُسَمَّى الرَّكْعَةِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ، إِذِ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْمَ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ مُنْصَبًّا عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَلَا يَخْرُجُ بَعْضُهَا عَنْ إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَنُصُّ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُقَالُ فِي إِخْرَاجِهِمَا عَنْ مُسَمَّى الرَّكْعَةِ الْقِيَاسُ عَلَى الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَعْقُبُهَا الشُّرُوعُ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى فَوَجَبَ كَوْنُهَا آخِرَ الرَّكْعَةِ، وَالتَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ يَعْقُبُهُ رَكْعَةٌ أَوْ رَكْعَتَانِ فَصَحَّ جَعْلُهُ فَاصِلًا بَيْنَ مَا سَبَقَ وَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ فَلَا يَعْقُبُهَا شُرُوعٌ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَشَهُّدُهَا جُزْءًا مِنْهَا دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ، وَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ فَاصِلًا إِذْ لَا شَيْءَ يَفْصِلُهُ مِنْهَا. الرَّابِعُ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بِدْعَ أَنْ يَزِيدَ بَعْضُ الرَّكَعَاتِ عَلَى بَعْضٍ بِأَرْكَانٍ وَسُنَنٍ، فَكَمَا أَنَّ الْأُولَى زَادَتْ مِنَ الْأَرْكَانِ بِالنِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرَةِ، وَمِنَ السُّنَنِ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَبِالتَّعَوُّذِ عَلَى رَأْيٍ مَشَى عَلَيْهِ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ، فَكَذَلِكَ زَادَتِ الثَّانِيَةُ بِالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ وَبِالْقُنُوتِ فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ. الْخَامِسُ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْأَصْحَابِ فِي جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ هَلْ هِيَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ مِنَ الثَّانِيَةِ أَوْ فَاصِلَةٌ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ؟ عَلَى أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ مَا لَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ فِيهَا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا مِنَ الْأُولَى فَالصَّلَاةُ قَضَاءٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً مِنَ الْوَقْتِ، أَوْ مِنَ الثَّانِيَةِ أَوْ فَاصِلَةٌ فَأَدَاءٌ، فَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَجْزِمُوا بِأَنَّ آخِرَ الْأُولَى السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ، وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ نَظِيرُ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، بَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَلَا يَحْسُنُ فِيهِ خِلَافُ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ؛ لِأَنَّ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ تَعْقُبُهَا رَكْعَةٌ فَيَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ جُزْءًا مِنْهَا أَوْ فَاصِلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا، وَلَا رَكْعَةَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مِنْ غَيْرِ الرَّكْعَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، إِذْ لَا شَيْءَ بَعْدَهُ تُجْعَلُ مِنْهُ أَوْ فَاصِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ. السَّادِسُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ» ) أَيْ أَدَاءً لَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالْفَرَاغِ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْفَرَاغِ مِنَ الْجِلْسَةِ بَعْدَهَا إِنْ جَلَسَهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ مَرْجُوحٌ، فَكَذَا حَدِيثُ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ لَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالْفَرَاغِ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْفَرَاغِ مِنَ الْجُلُوسِ بَعْدَهَا لِمَا قَطَعْنَا بِهِ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّكْعَةِ. السَّابِعُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلْيُصَلِّ إِلَيْهَا أُخْرَى» ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّشَهُّدَ وَالسَّلَامَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الرَّكْعَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُخْرَى، صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 رَكْعَةً أُخْرَى، وَالرَّكْعَةُ الَّتِي تُصَلَّى مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَشَهُّدٍ وَسَلَامٍ وَقَدْ سَمَّاهَا رَكْعَةً فَوَجَبَ دُخُولُهُمَا فِي مُسَمَّى الرَّكْعَةِ، فَإِنْ قِيلَ: يُقَدَّرُ فِي الْحَدِيثِ فَلْيُصَلِّ إِلَيْهَا رَكْعَةً وَيَضُمَّ إِلَيْهَا التَّشَهُّدَ وَالسَّلَامَ، قُلْنَا: هَذَا تَقْرِيرُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ. الثَّامِنُ: لَفْظُ الْحَدِيثِ وَالْأَصْحَابِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنَّ الْفِرْقَةَ الثَّانِيَةَ يُصَلُّونَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً دَلِيلٌ أَنَّ التَّشَهُّدَ وَالسَّلَامَ دَاخِلَانِ فِي مُسَمَّى الرَّكْعَةِ، فَإِنَّهَا تَتَشَهَّدُ مَعَهُ وَتُسَلِّمُ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: فَإِنْ صَلَّى مَغْرِبًا فَبِفِرْقَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً فَإِنَّ الْأُولَى تَتَشَهَّدُ مَعَهُ وَالثَّانِيَةَ كَذَلِكَ وَتُسَلِّمُ مَعَهُ. وَالتَّاسِعُ: قَوْلُ الْفُقَهَاءِ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ: فَإِنْ أَحْرَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ رَكْعَةٍ فَلَهُ التَّشَهُّدُ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّشَهُّدَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الرَّكْعَةِ حَيْثُ جَعَلُوا الرَّكْعَةَ ظَرْفًا لِلتَّشَهُّدِ فَيَكُونُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ زَائِدًا عَلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ الظَّرْفُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَهَا لَا فِيهَا، فَقَوْلُهُمْ: تَشَهَّدَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَقَوْلِهِمْ تَجِبُ الْفَاتِحَةُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَكَقَوْلِهِمْ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الرَّكْعَةِ قَطْعًا. الْعَاشِرُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ إِنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ تَسْبِيحَةً ثُمَّ فَصَّلَهَا، خَمْسَ عَشْرَةَ فِي الْقِيَامِ، وَعَشْرٌ فِي الرُّكُوعِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَعَشْرٌ فِي جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَعَشْرٌ فِي التَّشَهُّدِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ وَالتَّشَهُّدَ بَعْضٌ مِنَ الرَّكْعَةِ وَدَاخِلَانِ فِي مُسَمَّى الرَّكْعَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَا خَارِجَيْنِ عَنْ مُسَمَّى الرَّكْعَةِ كَانَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسٌ وَسِتُّونَ وَالْبَاقِي مَزِيدٌ عَلَى الرَّكْعَةِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ: ( «يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْقِرَاءَةُ فَقُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً قَبْلَ أَنْ تَرْكَعَ، ثُمَّ ارْكَعْ فَقُلْهَا عَشْرًا، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقُلْهَا عَشْرًا، ثُمَّ اسْجُدْ فَقُلْهَا عَشْرًا، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقُلْهَا عَشْرًا، ثُمَّ اسْجُدْ فَقُلْهَا عَشْرًا، ثُمَّ اجْلِسْ لِلِاسْتِرَاحَةِ فَقُلْهَا عَشْرًا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ، فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ» ) - أَخْرَجَهُ أبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، والحاكم، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، فَإِنْ قِيلَ: الْأَرْجَحُ أَنَّ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ فَاصِلَةٌ لَا مِنَ الْأُولَى وَلَا مِنَ الثَّانِيَةِ. قُلْتُ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْجَلْسَةَ فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ لَيْسَتْ كَجِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ بَلْ جِلْسَةٌ مَزِيدَةٌ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ - ذَكَرَ ذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن حجر فِي أَمَالِيهِ، وَلِهَذَا طَوَّلْتُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا هُنَا مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ مِنَ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ، وَلَا تَتِمُّ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ إِلَّا بِمَا يُقَالُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ التَّوَقُّفَ مَعَ مَا ذَكَرْتُ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ؟ قُلْتُ: مَسْأَلَةٌ رَأَيْتُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فِي تَهْذِيبِ الْبَغَوِيِّ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ فِي مَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِيَ فِي الثَّانِيَةِ يُتِمُّ ظُهْرًا لَا جُمُعَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، قَالَ مَا نَصُّهُ: وَلَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ فِي الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَرَكَعَ وَسَجَدَ مَعَ الْإِمَامِ فَلَمَّا قَعَدَ لِلتَّشَهُّدِ أَحْدَثَ الْإِمَامُ وَتَقَدَّمَ الْمَسْبُوقُ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً - هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ، فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ اتَّجَهَ مَا قِيلَ فِي الْمُفَارَقَةِ، إِلَّا أَنِّي لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبَغَوِيُّ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا صَرَّحَ بِمُوَافَقَتِهِ فِيهَا وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَالَهَا تَخْرِيجًا مِنْ عِنْدِهِ، وَلَمْ يَنْقُلْهَا نَقْلَ الْمَذْهَبِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، لَا الرافعي فِي شَرْحَيْهِ، وَلَا النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَلَى تَتَبُّعِهِ، وَلَا ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى تَتَبُّعِ مَا زَادَ عَلَى الشَّيْخَيْنِ، وَلَا السبكي، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ عَلَى الرَّوْضَةِ كَصَاحِبِ الْمُهِمَّاتِ وَالْخَادِمِ، وَهِيَ مَحَلُّ نَظَرٍ، وَهِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ لِيَ التَّوَقُّفَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَارَقَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرَّكْعَةَ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَرْكَانِ الْوَاحِدَةِ مِنْ أَعْدَادِ الصَّلَاةِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى مِثْلِهِ أَوْ إِلَى التَّحَلُّلِ، وَإِخْرَاجُ التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامُ عَنْ مُسَمَّى الرَّكْعَةِ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالْأَحْوَطُ عَدَمُ تَجْوِيزِ الْمُفَارَقَةِ قَبْلَ السَّلَامِ لِيَتَحَقَّقَ مُسَمَّى الرَّكْعَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [ضَوْءُ الشَّمْعَةِ فِي عَدَدِ الْجُمُعَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَدٍ، وَإِنْ نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا تَصِحُّ بِوَاحِدٍ، وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنِ القاشاني فَقَدْ قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إِنَّ القاشاني لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِمَامُ كَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، والحسن بن صالح، وداود. الثَّانِي: ثَلَاثَةٌ أَحَدُهُمُ الْإِمَامُ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَذْهَبُ أبي يوسف ومحمد حَكَاهُ الرافعي وَغَيْرُهُ عَنِ الْقَدِيمِ. الثَّالِثُ: أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمُ الْإِمَامُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، والليث، وَحَكَاهُ ابن المنذر عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ وَحَكَاهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ محمد، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 التَّلْخِيصِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَكَذَا حَكَاهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَاخْتَارَهُ المزني، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْقُوتِ، وَهُوَ اخْتِيَارِي. الرَّابِعُ: سَبْعَةٌ حُكِيَ عَنْ عكرمة. الْخَامِسُ: تِسْعَةٌ حُكِيَ عَنْ ربيعة. السَّادِسُ: اثْنَا عَشَرَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ ربيعة حَكَاهُ عَنْهُ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ ومحمد بن الحسن. السَّابِعُ: ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَحَدُهُمُ الْإِمَامُ، حُكِيَ عَنْ إسحاق بن راهويه. الثَّامِنُ: عِشْرُونَ، رِوَايَةُ ابن حبيب عَنْ مالك. التَّاسِعُ: ثَلَاثُونَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ مالك. الْعَاشِرُ: أَرْبَعُونَ أَحَدُهُمُ الْإِمَامُ، وَبِهِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّافِعِيُّ، وأحمد، وإسحاق، حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَرْبَعُونَ غَيْرُ الْإِمَامِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ. الثَّانِيَ عَشَرَ: خَمْسُونَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وأحمد، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا. الثَّالِثَ عَشَرَ: ثَمَانُونَ، حَكَاهُ المازري. الرَّابِعَ عَشَرَ: جَمْعٌ كَثِيرٌ بِغَيْرِ قَيْدٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ مالك، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ تُشْتَرَطُ جَمَاعَةٌ تَسْكُنُ بِهِمْ قَرْيَةٌ، وَيَقَعُ بَيْنَهُمُ الْبَيْعُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ وَنَحْوِهِمْ. قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَلَعَلَّ هَذَا الْمَذْهَبَ أَرْجَحُ الْمَذَاهِبِ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ، وَأَقُولُ: هُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ تَعْيِينُ عَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَأَنَا أُبَيِّنُ ذَلِكَ، أَمَّا اشْتِرَاطُ ثَمَانِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ أَوْ عِشْرِينَ أَوْ تِسْعَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ فَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ رَأَى الْعَدَدَ وَاجِبًا بِالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ، وَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلٌ فِي اشْتِرَاطِ عَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَرَأَى أَنَّ أَقَلَّ الْعَدَدِ اثْنَانِ فَقَالَ بِهِ قِيَاسًا عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا فِي الْوَاقِعِ دَلِيلٌ قَوِيٌّ لَا يَنْقُضُهُ إِلَّا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِكَذَا أَوْ بِذِكْرِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا سَبِيلَ إِلَى وُجُودِهِ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ رَأَى الْعَدَدَ وَاجِبًا فِي حُضُورِ الْخُطْبَةِ كَالصَّلَاةِ، فَشَرَطَ الْعَدَدَ فِي الْمَأْمُومِينَ الْمُسْتَمِعِينَ لِلْخُطْبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ عَدُّ الْإِمَامِ مِنْهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَخْطُبُ وَيَعِظُ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِأَرْبَعَةٍ فَمُسْتَنَدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو بكر النيسابوري، ثَنَا محمد بن يحيى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ، ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، ثَنَا معاوية بن يحيى، ثَنَا معاوية بن سعيد التجيبي، ثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أم عبد الله الدوسية قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَرْبَعَةٌ» ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يَصِحُّ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَلَهُ طَرِيقٌ ثَانٍ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا أبو عبد الله محمد بن علي بن إسماعيل الأيلي، ثَنَا عبيد الله بن محمد بن خنيس الكلاعي، ثَنَا موسى بن محمد بن عطاء، ثَنَا الوليد بن محمد - هو الموقري - ثَنَا الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَتْنِي أم عبد الله الدوسية قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ فِيهَا إِمَامٌ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَةً» ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الموقري مَتْرُوكٌ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، كُلُّ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ مَتْرُوكٌ، طَرِيقٌ ثَالِثٌ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا أبو عبد الله الأيلي، ثَنَا يحيى بن عثمان، ثَنَا عمرو بن الربيع بن طارق، ثَنَا مسلمة بن علي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ، عَنِ الحكم بن عبد الله بن سعد، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أم عبد الله الدوسية قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ إِمَامُهُمْ» ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الزُّهْرِيُّ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ مِنَ الدوسية، والحكم مَتْرُوكٌ، طَرِيقٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ: أَخْبَرَنَا ابن مسلم، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، ثَنَا بقية، ثَنَا معاوية بن يحيى، ثَنَا معاوية بن سعيد التجيبي، عَنِ الحكم بن عبد الله، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أم عبد الله الدوسية قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ فِيهَا إِمَامٌ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَةً» ) حَتَّى ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةً - أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَقَالَ: الحكم بن عبد الله مَتْرُوكٌ، ومعاوية بن يحيى ضَعِيفٌ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، قُلْتُ: قَدْ حَصَلَ مِنَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الطُّرُقِ نَوْعُ قُوَّةٍ لِلْحَدِيثِ، فَإِنَّ الطُّرُقَ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا خُصُوصًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّنَدِ مُتَّهَمٌ، وَيَزِيدُهَا قُوَّةً مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا علي بن محمد بن عقبة الشيباني، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي الْعَنْبَسِ، ثَنَا إسحاق بن منصور، ثَنَا هريم، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ قيس بن مسلم، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا عَلَى أَرْبَعَةٍ: عَبْدٍ مَمْلُوكٍ، أَوْ صَبِيٍّ، أَوْ مَرِيضٍ، أَوِ امْرَأَةٍ» ) وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْجَمَاعَةَ فَشَمَلَ كُلَّ مَا يُسَمَّى جَمَاعَةً، وَذَلِكَ صَادِقٌ بِثَلَاثَةٍ غَيْرِ الْإِمَامِ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ بِاثْنَيْ عَشَرَ فَمُسْتَنَدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ جابر: ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا» ) وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الْعَدَدَ الْمُعْتَبَرَ فِي الِابْتِدَاءِ يُعْتَبَرُ فِي الدَّوَامِ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطِلُ الْجُمُعَةُ بِانْفِضَاضِ الزَّائِدِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ كَافٍ، قُلْتُ: هُوَ دَالٌّ عَلَى صِحَّتِهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ بِلَا شُبْهَةٍ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ اثْنَيْ عَشْرَةَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِدُونِ هَذَا الْعَدَدِ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ أَكْثَرُ مَا فِيهَا أَنَّهُمُ انْفَضُّوا وَبَقِيَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَتَمَّتْ بِهِمُ الْجُمُعَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ لَمْ تَتِمَّ بِهِمْ، فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ أَخَذْتَ مِنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ اشْتِرَاطَ أَرْبَعَةٍ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَةً بَيَانٌ لِأَقَلِّ عَدَدٍ تُجْزِئُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ (أَنْ) وَ (لَوْ) الْوَصْلِيَّتَيْنِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُمَا مُنْتَهَى الْأَحْوَالِ وَأَنْدَرُهَا، تَقُولُ: أَحْسِنْ إِلَى زَيْدٍ وَإِنْ أَسَاءَ، وَأَعْطِ السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ، فَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ مُنْتَهَى غَايَةِ الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ وَالْمُعْطَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] فَلَيْسَ بَعْدَ مَرْتَبَةِ النَّفْسِ وَالْوَالِدِيَّةِ وَالْأَقْرَبِيَّةِ مَرْتَبَةٌ تُذْكَرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَةً» ) بَيَانٌ لِمُنْتَهَى مَرَاتِبِ الْعَدَدِ الْمُجْزِئِ، وَلَوْ كَانَ أَقَلُّ مِنْهُ مُجْزِئًا لَذَكَرَهُ، وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، حَتَّى ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةً، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَزَّلَ إِلَى مَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ حَتَّى انْتَهَتْ غَايَتُهُ إِلَى ذِكْرِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ ثَلَاثَةٌ لَا أَرْبَعَةٌ. قُلْتُ: الْمُرَادُ ثَلَاثَةٌ غَيْرُ الْإِمَامِ ; لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ( «وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ إِمَامُهُمْ» ) فَإِنْ قُلْتَ: مُسَلَّمٌ دَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ثُبُوتَ الْأَحَادِيثِ الْمُحْتَجِّ بِهَا فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ، وَإِنَّمَا يُحْتَجُّ بِمَا بَلَغَ مَرْتَبَةَ الصِّحَّةِ أَوِ الْحُسْنِ، قُلْتُ: كَذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِالْأَرْبَعِينَ حَدِيثُهُ ضَعِيفٌ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ، قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا لِاشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِينَ بِمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ «عَنْ جابر قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ إِمَامًا، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ جُمُعَةٌ وَفِطْرٌ وَأَضْحَى» ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ، قَالَ: لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الْحُفَّاظُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هُوَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، قَالَ النووي: وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَحَادِيثَ بِمَعْنَاهُ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ، قَالَ: وَأَقْرَبُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ مَا احْتَجَّ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ وَالْأَصْحَابُ «عَنْ عبد الرحمن بن كعب بن مالك عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي الْمَدِينَةِ سعد بن زرارة قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي نَقِيعِ الْخَضَمَاتِ، قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ رَجُلًا) » حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أبو داود، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنْ يُقَالَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ، وَالْأَصْلُ الظُّهْرُ، فَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إِلَّا بِعَدَدٍ ثَبَتَ فِيهِ التَّوْقِيفُ، وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهَا بِأَرْبَعِينَ فَلَا يَجُوزُ بِأَقَلَّ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَرِيحٍ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ) وَلَمْ تَثْبُتْ صَلَاتُهُ لَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ انْتَهَى، وَأَقُولُ: لَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ كعب عَلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِينَ، لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجُمُعَةَ فُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِقَامَتِهَا هُنَاكَ مِنْ أَجْلِ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ كَتَبَ إِلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُجَمِّعُوا فَجَمَّعُوا، وَاتَّفَقَ أَنَّ عِدَّتَهُمْ إِذْ ذَاكَ كَانَتْ أَرْبَعِينَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دُونَ الْأَرْبَعِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ وَقَائِعَ الْأَعْيَانِ لَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ، وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يَرُدُّهُ حَدِيثُ الِانْفِضَاضِ السَّابِقِ فَإِنَّهُ أَتَمَّهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَعْيِينَ الْأَرْبَعِينَ لَا يُشْتَرَطُ، وَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أبي مسعود الأنصاري قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْمَدِينَةَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَمَّعَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنِ حَدِيثِ كعب بِأَنَّ سعدا كَانَ أَمِيرًا وَكَانَ مصعب إِمَامًا، وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ بَابُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعِينَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِيمَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْجَمَاعَةُ ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ آخِرَ مَنْ أَتَاهُ وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَقَالَ: ( «إِنَّكُمْ مُصِيبُونَ وَمَنْصُورُونَ وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلْيَصِلِ الرَّحِمَ» ) فَاسْتِدْلَالُهُ بِهَذَا فِي غَايَةِ الْعَجَبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةٌ قَصَدَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْمَعَ أَصْحَابَهُ لِيُبَشِّرَهُمْ، فَاتَّفَقَ أَنِ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْهُمْ هَذَا الْعَدَدُ فَهَلْ يُظَنُّ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَقَلُّ مِنْهُمْ لَمْ يَفْعَلْ مَا دَعَاهُمْ لِأَجْلِهِ؟ وَإِيرَادُ الْبَيْهَقِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ لِلْمَسْأَلَةِ صَرِيحًا، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ( «إِذَا رَاحَ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا إِلَى الْجُمُعَةِ كَانُوا كَسَبْعِينَ مُوسَى الَّذِينَ وَفَدُوا إِلَى رَبِّهِمْ أَوْ أَفَضْلَ» ) وَلَمْ يَسْتَدِلَّ أَحَدٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اشْتِرَاطِ سَبْعِينَ فِي الْجُمُعَةِ مَعَ أَنَّهُ أَوْجَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِينَ: مُسْتَنَدُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْعَدَدِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الظُّهْرِ الْإِتْمَامُ إِلَّا بِشَرَائِطَ، وَالْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ شَرْطٌ، وَلِلشَّرْعِ اعْتِنَاءٌ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ لَا تَنْعَقِدُ جُمُعَتَانِ فِي بَلْدَةٍ وَلَا بُدَّ مِنْ مُسْتَنَدِ التَّقْدِيرِ، وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ غَيْرُ كَافٍ فَيَكْفِي أَدْنَى مُسْتَنَدٍ، وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَهَا جُمُعَةً» ، وَاسْتَأْنَسَ الشَّافِعِيُّ بِمَذْهَبِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ زِيَادَةً عَلَى أَرْبَعِينَ، فَكَانَ هَذَا الِاتِّقَاءَ بِالِاحْتِيَاطِ - هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ، وَفِي النِّهَايَةِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ نَحْوُهُ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْمُسْتَنَدِ الْمُرَكَّبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثٍ آخَرَ، وَمَعَ كَوْنِ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الْحَدِيثِ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِرَفْعِهِ، وَالْحَدِيثُ الْمُعَارِضُ لَهُ مُصَرَّحٌ بِرَفْعِهِ، وَإِذَا قَايَسْتَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ كَانَ إِسْنَادُ الْحَدِيثِ الْمُعَارِضِ أَمْثَلَ مِنْ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْأَمْرُ الثَّانِي مَذْهَبُ تَابِعِيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَحْتَجُّ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ فَضْلًا عَنِ التَّابِعِيِّ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا حَكَى عَنْ غَيْرِهِ مِنَ التَّابِعِينَ. وَالثَّالِثُ الْأَمْرُ الْمُنْضَمُّ إِلَيْهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ مَعَ بُطْلَانِهِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالرِّوَايَتَانِ عَنْهُ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ، فَأَخْرَجَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْمِيَاهِ فِيمَا بَيْنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ جَمِّعُوا إِذَا بَلَغْتُمْ أَرْبَعِينَ، وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الرَّقِيِّ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِذَا بَلَغَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَلْيُجَمِّعُوا. وَأَخْرَجَ عَنْ معاوية بن صالح قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: أَيُّمَا قَرْيَةٍ اجْتَمَعَ فِيهَا خَمْسُونَ رَجُلًا فَلْيَؤُمُّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَلَيَخْطُبْ عَلَيْهِمْ لِيُصَلِّ بِهِمُ الْجُمُعَةَ، وَيُوَافِقُ اشْتِرَاطَ الْخَمْسِينَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أبي أمامة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْجُمُعَةُ عَلَى الْخَمْسِينَ رَجُلًا وَلَيْسَ عَلَى مَا دُونَ الْخَمْسِينَ جُمُعَةٌ» ) وَلَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَلَى الْخَمْسِينَ جُمُعَةٌ لَيْسَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَمَعَ ضَعْفِهِ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ لَا شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى مَنْ دُونَ الْخَمْسِينَ عَدَمُ صِحَّتِهَا مِنْهُمْ، وَعِنْدِي أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ الْوَارِدَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْسَتَا بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ لَهُ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا، وَمِنْ حَدِيثِ أبي أمامة الْمَذْكُورِ، وَمِنْ حَدِيثِ جابر الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ لِلْأَرْبَعِينَ، وَمِنَ الْأَثَرِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: كُلُّ قَرْيَةٍ فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ، بَيَانُ شَرْطِ الْمَكَانِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الْجُمُعَةُ لَا الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ، فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ فِي كُلِّ مَكَانٍ بَلْ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، إِمَّا مِصْرٍ، قَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَإِمَّا بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَلَا تَصِحُّ فِي فَضَاءٍ وَلَا صَحْرَاءَ، فَأُرِيدَ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ بَيَانُ الْمَكَانِ الَّذِي يَصْلُحُ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى بَلَدًا أَوْ قَرْيَةً إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ قَاطِنًا جَمْعٌ نَحْوُ الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، فَذِكْرُ عمر فِي أَحَدِ كُتُبِهِ الْأَرْبَعِينَ وَفِي بَعْضِهَا الْخَمْسِينَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ لَا التَّحْدِيدِ بِالْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ، وَيُفِيدُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا قَطَنَ فِي مَكَانٍ نَحْوُ هَذَا الْعَدَدِ صَحَّ أَنَّ تُقَامَ بِهِ الْجُمُعَةُ، ثُمَّ إِنْ أَقَامَهَا أَقَلُّ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ وَهُمْ بَعْضُ مَنْ فِيهَا صَحَّتْ مِنْهُمْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي ظَهَرَ لِي وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جعفر بن برقان قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عدي بن عدي الكندي: انْظُرْ كُلَّ قَرْيَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أَهْلِ قَرَارٍ لَيْسُوا بِأَهْلِ عَمُودٍ يَنْتَقِلُونَ فَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا ثُمَّ مُرْهُ فَلْيُجَمِّعْ بِهِمْ، وَأَخْرَجَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ فَقَالَ: كُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ فِي جَمَاعَةٍ وَعَلَيْهِمْ أَمِيرٌ أُمِرُوا بِالْجُمُعَةِ فَلْيُجَمِّعْ بِهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَمَدَائِنِ مِصْرَ وَمَدَائِنِ سَوَاحِلِهَا كَانُوا يُجَمِّعُونَ الْجُمُعَةَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِأَمْرِهِمَا وَفِيهِمَا رِجَالٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الَّذِي سُئِلَ عَنِ الْقُرَى الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَا تَرَى فِي الْجُمُعَةِ فِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ فَلْيُجَمِّعْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَيْضًا أَنَّهَا ذُكِرَتْ لِبَيَانِ الْمَكَانِ الصَّالِحِ لَا الْعَدَدِ الْحَاضِرِ أَنَّ فِي حَدِيثِ جابر الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ لِلْأَرْبَعِينَ عَطْفًا عَلَى جُمُعَةٍ وَفِطْرٍ وَأَضْحَى، فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ لِبَيَانِ اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِينَ فِي الْجُمُعَةِ وَأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِمَّنْ دُونَهُمْ لَلَزِمَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، فَكَانَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِمَا حُضُورُ الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَصِحَّانِ مِمَّنْ دُونَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ الْمَكَانِ الَّذِي يَصْلُحُ لِمَشْرُوعِيَّةِ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ فِيهِ بِحَيْثُ يُؤْمَرُ أَهْلُهُ بِذَلِكَ وَبِالِاجْتِمَاعِ لَهُ، ثُمَّ أَيُّ جَمْعٍ أَقَامَ الْجُمُعَةَ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَأَيُّ جَمْعٍ أَقَامَ الْأَعْيَادَ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا التَّعْبِيرُ (بِفِي) حَيْثُ قِيلَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ جُمُعَةٌ دُونَ (مِنْ) وَسَائِرِ حُرُوفِ الْجَرِّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَدِ إِيقَاعُهَا فِيهِمْ لَا مِنْهُمْ وَلَا بُدَّ، وَذَلِكَ صَادِقٌ بِأَيِّ جَمْعٍ أَقَامُوهَا فِي بَلَدٍ اسْتَوْطَنَهُ أَرْبَعُونَ، وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ دَلَّتْ عَلَى اشْتِرَاطِ إِقَامَتِهَا فِي بَلَدٍ يَسْكُنُهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ يَصْلُحُ أَنْ يُسَمَّى بَلَدًا، وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ الْعَدَدِ بِعَيْنِهِ فِي حُضُورِهَا لِتَنْعَقِدَ، بَلْ أَيُّ جَمْعٍ أَقَامُوهَا صَحَّتْ بِهِمْ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ غَيْرُ الْإِمَامِ فَتَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ أَحَدُهُمُ الْإِمَامُ، هَذَا مَا أَدَّانِي الِاجْتِهَادُ إِلَى تَرْجِيحِهِ، وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ المزني كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْقُوتِ وَكَفَى بِهِ سَلَفًا فِي تَرْجِيحِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ كِبَارِ الْآخِذِينَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ كِبَارِ رُوَاةِ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ، وَقَدْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، وَرَجَّحَهُ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْأَشْرَافِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي: قَالَ المزني: احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَّعَ بِأَرْبَعِينَ انْتَهَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الرافعي فِي الشَّرْحِ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابن حجر فِي تَخْرِيجِهِ: لَمْ أَرَهُ، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ كعب وَقَالَ: إِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ قُدِحَ فِي حَدِيثِ كعب بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَرْوِي تَارَةً أَنَّ مصعبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 صَلَّى بِالنَّاسِ، وَيَرْوِي تَارَةً أُخْرَى أَنَّ سعد بن زرارة صَلَّى بِهِمْ، وَرَوَى تَارَةً بِالْمَدِينَةِ، وَتَارَةً بِبَنِي بَيَاضَةَ، فَلِأَجْلِ اضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَافِ رِوَايَتِهِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، قُلْتُ: وَمِنَ اضْطِرَابِهِ أَنَّهُ رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ، وَرَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِنَ الدَّلِيلِ مَا رَوَى سليمان بن طريف عَنْ مكحول عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ ثُمَّ الرافعي، وَقَالَ الْحَافِظُ ابن حجر فِي تَخْرِيجِهِ: لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَوْرَدَ الرافعي وَغَيْرُهُ حَدِيثَ أبي أمامة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا جُمُعَةَ إِلَّا بِأَرْبَعِينَ» ، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر أَيْضًا: وَلَا أَصْلَ لَهُ، وَقَالَ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ: إِنِ انْتَفَتِ الْأَدِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِينَ قُلْنَا: الْأَصْلُ الظُّهْرُ عَامًّا، وَإِنَّمَا يُرَدُّ إِلَى رَكْعَتَيْنِ بِشَرَائِطَ مِنْهَا الْعَدَدُ وَأَصْلُهُ مَشْرُوطٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ الشَّارِعِ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِي التَّقْدِيرِ، وَفُهِمَ مِنْهُ طَلَبُ تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ جُمُعَتَيْنِ فِي بَلَدٍ فَأَكْثَرَ كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ أَرْبَعُونَ فَأَخَذْنَا بِهِ احْتِيَاطًا، ثُمَّ قَالَ: وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْإِمَامَ أحمد اشْتَرَطَ فِي عَقْدِهَا خَمْسِينَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. قُلْتُ: وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ ابن الرفعة أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ مِنَ النَّصِّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِينَ فَعُدِلَ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَتَبِعَهُمُ الرافعي والنووي. (خَاتِمَةٌ) : اعْلَمْ أَنَّ تَرْجِيحَنَا لِهَذَا الْقَوْلِ أَوْلَى مِنْ تَرْجِيحِ الْمُتَأَخِّرِينَ جَوَازَ تَعَدُّدِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ بِجَوَازِ التَّعَدُّدِ أَصْلًا لَا فِي الْجَدِيدِ وَلَا فِي الْقَدِيمِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ فِي الْقَدِيمِ سُكُوتٌ فَاسْتَنْبَطُوا مِنْهُ رَأْيًا بِالْجَوَازِ، ثُمَّ زَادُوا فَرَجَّحُوهُ عَلَى نُصُوصِهِ فِي الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ، وَهُوَ نَفْسُهُ قَدْ قَالَ: لَا يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ قَوْلٌ مِنْ سُكُوتِهِ وَيُرَجَّحُ عَلَى نُصُوصِهِ الْمُصَرِّحَةِ بِخِلَافِهِ، وَأَمَّا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ نَصُّ لَهُ صَرِيحٌ، وَقَدِ اقْتَضَتِ الْأَدِلَّةُ تَرْجِيحَهُ فَرَجَّحْنَاهُ فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلٌ لَهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَرْجِيحِهِ عَلَى قَوْلِهِ الثَّانِي فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ تَرَكَ نَصَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَهَبَ إِلَى تَرْجِيحِ شَيْءٍ خِلَافَهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ، ثُمَّ يَصِيرُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أُسْوَةً بِالْمَسَائِلِ الَّتِي صَحَّحَ فِيهَا النووي الْقَوْلَ الْقَدِيمَ كَمَسْأَلَةِ امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ. وَمَسْأَلَةِ تَفْضِيلِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ عَلَى غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَمَسْأَلَةِ صَوْمِ الْوَلِيِّ عَنْ قَرِيبِهِ الْمَيِّتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 [بَابُ اللِّبَاسِ] [ مسائل متفرقة ] مَسْأَلَةٌ: شَخْصٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْعَرَبِ يَلْبَسُ الْفَرُّوجَ، وَالزُّنْطَ الْأَحْمَرَ، وَعِمَامَةَ الْعَرَبِ، اشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ وَفَضُلَ وَخَالَطَ الْفُقَهَاءَ فَأَمَرَهُ آمِرٌ أَنْ يَلْبَسَ لِبَاسَ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ خَرْمًا لِمُرُوءَتِهِ، فَهَلِ الْأَوْلَى لَهُ ذَلِكَ أَوِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى هَيْئَةِ عَشِيرَتِهِ؟ وَمَا جِنْسُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ تَحْتَ عِمَامَتِهِ؟ وَمَا مِقْدَارُ عِمَامَتِهِ؟ وَهَلْ لَبِسَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّنْطَ وَالْفَرُّوجَ؟ . الْجَوَابُ: لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ فِي لِبَاسِهِ ذَلِكَ وَلَا خَرْمَ لِمُرُوءَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِبَاسُ عَشِيرَتِهِ وَطَائِفَتِهِ، وَلَوْ غَيَّرَهُ أَيْضًا إِلَى لِبَاسِ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَخْرِمْ مُرُوءَتَهُ، فَكُلٌّ حَسَنٌ، ذَاكَ لِمُنَاسَبَتِهِ أَهْلَ جِنْسِهِ وَهَذَا لِمُنَاسَبَةِ أَهْلِ وَصْفِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَارِزِيُّ فِي تَوْثِيقِ عُرَى الْإِيمَانِ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ تَحْتَ الْعَمَائِمِ وَيَلْبَسُ الْقَلَانِسَ بِغَيْرِ عَمَائِمَ، وَيَلْبَسُ الْعَمَائِمَ بِغَيْرِ قَلَانِسَ، وَيَلْبَسُ الْقَلَانِسَ ذَوَاتِ الْآذَانِ فِي الْحُرُوبِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَعْتَمُّ بِالْعَمَائِمِ الْحَرْقَانِيَّةِ السُّودِ فِي أَسْفَارِهِ وَيَعْتَجِرُ اعْتِجَارًا قَالَ: وَالِاعْتِجَارُ أَنْ يَضَعَ تَحْتَ الْعِمَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ شَيْئًا قَالَ: وَرُبَّمَا لَمْ تَكُنِ الْعِمَامَةُ فَيَشُدُّ الْعِصَابَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَجَبْهَتِهِ، وَكَانَتْ لَهُ عِمَامَةٌ يَعْتَمُّ بِهَا يُقَالُ لَهَا السَّحَابُ فَكَسَاهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَكَانَ رُبَّمَا طَلَعَ علي فَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَتَاكُمْ علي فِي السَّحَابِ» ) يَعْنِي عِمَامَتَهُ الَّتِي وَهَبَ لَهُ - هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْبَارِزِيُّ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ رُكَانَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( «فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ عَلَى الْقَلَانِسِ» ) قَالَ القزاز: الْقَلَنْسُوَةُ غِشَاءٌ مُبَطَّنٌ يُسْتَرُ بِهِ الرَّأْسُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ قَلَنْسُوَةً بَيْضَاءَ» ، دَلَّ مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ تَحْتَ الْعِمَامَةِ هُوَ الْقَلَنْسُوَةُ، وَدَلَّ قَوْلُهُ بَيْضَاءَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الزُّنُوطِ الْحُمْرِ، وَأَشْبَهُ شَيْءٍ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الثِّيَابِ الْقُطْنِ أَوِ الصُّوفِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِبَابِ وَالْكِسَاءِ لَا الَّذِي مِنْ جِنْسِ الزُّنُوطِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا رَوَيْنَاهُ فِي سُدَاسِيَّاتِ الرازي مِنْ طَرِيقِ رستم أبي يزيد الطحان قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ بِالْبَصْرَةِ وَعَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ بَيْضَاءُ مُضَرِيَّةٌ، وَفِي السُّدَاسِيَّاتِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أم نهار قَالَتْ: كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَمُرُّ بِنَا كُلَّ جُمُعَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَعَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ لَاطِئَةٌ - وَمَعْنَى لَاطِئَةٍ - أَيْ لَاصِقَةٍ بِالرَّأْسِ إِشَارَةً إِلَى قِصَرِهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتِ الْقَلَانِسُ الطِّوَالُ فِي أَيَّامِ الْخَلِيفَةِ الْمَنْصُورِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ: وَكُنَّا نُرَجِّي مِنْ إِمَامٍ زِيَادَةً ... فَزَادَ الْإِمَامُ الْمُصْطَفَى فِي الْقَلَانِسِ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْعِمَامَةِ الشَّرِيفَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَدِيثٍ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ «عَنْ أبي عبد السلام قَالَ: (سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمُّ؟ قَالَ: كَانَ يُدِيرُ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَيَغْرِزُهَا مِنْ وَرَائِهِ وَيُرْسِلُ لَهَا ذُؤَابَةً بَيْنَ كَتِفَيْهِ) » ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عِدَّةُ أَذْرُعٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ نَحْوَ الْعَشَرَةِ أَوْ فَوْقَهَا بِيَسِيرٍ، وَأَمَّا الْفَرُّوجُ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَهُ - رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: ( «أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ فَصَلَّى فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ» ) ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْفَرُّوجُ هُوَ الْقِبَاءُ الْمُفَرَّجُ مِنْ خَلْفٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي لُبْسِ الْخُلَفَاءِ لَهُ، وَإِنَّمَا نَزَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ كَانَ حَرِيرًا، وَكَانَ لُبْسُهُ لَهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ فَنَزَعَهُ لَمَّا حُرِّمَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ حِينَ نَزَعَهُ: أَنْهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ إِلَّا ثَوْبٌ فَغَسَلَهُ وَلَبِسَ ثَوْبًا قَصِيرَ الْكُمِّ وَخَرَجَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَهَلْ فِي ذَلِكَ مِنْ عَيْبٍ أَوْ يَقْدَحُ فِي الدِّينِ؟ وَإِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَهَلْ هُوَ مُصِيبٌ فِي إِنْكَارِهِ أَوْ مُخْطِئٌ؟ . الْجَوَابُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ اللُّبْسَةِ مِنْ عَيْبٍ وَلَا تَقْدَحُ فِي الدِّينِ بَلِ التَّقَشُّفُ فِي الْمَلْبَسِ سُنَّةٌ حَضَّ عَلَيْهَا سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ وَهُوَ شِعَارُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَنَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْصِيرُ الْكُمِّ، فَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كُمُّهُ إِلَى الرُّسْغِ» وَأَنَّهُ لَبِسَ جُبَّةً ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ، وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام: تَطْوِيلُ الْأَكْمَامِ بِدْعَةٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَإِسْرَافٌ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ: ( «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْجَنَّةِ شَاءَ يَلْبَسُهَا» ) وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ «عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ رُومِيَّةٌ مِنْ صُوفٍ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ، فَصَلَّى بِنَا فِيهَا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُهَا) » ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ قَمِيصًا قَصِيرَ الْيَدَيْنِ وَالطُّولِ» ) ، وَرُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «ثَلَاثَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: رَجُلٌ غَسَلَ ثَوْبَهُ فَلَمْ يَجِدْ لَهُ خَلَفًا» ) - الْحَدِيثَ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا وَالْوَعِيدُ لِمَنْ لَبِسَ ثِيَابًا وَافْتَخَرَ بِهَا كَثِيرَةٌ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ مِثْلَ هَذَا وَهُوَ سُنَّةٌ وَلَا يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَلْبَسُ الْحَرِيرَ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ بَلْ يَخْضَعُونَ لِمِثْلِهِ وَيُعَظِّمُونَهُ، وَلَكِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُنْكَرَ السُّنَّةُ وَتُقَرَّ الْبِدْعَةُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. مَسْأَلَةٌ: خَضَّبَ الرَّجُلُ لِحْيَتَهُ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَمْ لَا؟ وَهَلِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ. الْجَوَابُ: خِضَابُ الشَّعْرِ مِنَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ بِالْحِنَّاءِ جَائِزٌ لِلرَّجُلِ، بَلْ سُنَّةٌ صَرَّحَ بِهِ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ نَقْلًا عَنِ اتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، مِنْهَا حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» ) وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جابر قَالَ: «أُتِيَ بأبي قحافة والد أبي بكر الصديق - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (غَيِّرُوا هَذَا وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ) » وَأَمَّا خِضَابُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالْحِنَّاءِ فَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ وَحَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ إِلَّا لِحَاجَةٍ - هَكَذَا قَالَهُ أَيْضًا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، قَالَ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِلرِّجَالِ مَا رَوَاهُ أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمُخَنَّثٍ قَدْ خَضَّبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى الْبَقِيعِ» ) ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ ( «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرِّجَالُ» ) قَالَ النووي: عِلَّةُ النَّهْيِ اللَّوْنُ لَا الرَّائِحَةُ، فَإِنَّ رِيحَ الطِّيبِ لِلرَّجُلِ مَحْبُوبٌ وَالْحِنَّاءُ فِي هَذَا كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي اسْتِحْبَابِهِ لِلنِّسَاءِ الْمُتَزَوِّجَاتِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. [الْجَوَابُ الْحَاتِمُ عَنْ سُؤَالِ الْخَاتَمِ] مَسْأَلَةٌ: التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ هَلْ لَهُ وَزْنٌ مَعْلُومٌ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ التَّخَتُّمُ بِسَائِرِ الْمَعَادِنِ كَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ تَعَدُّدُ الْخَوَاتِمِ مِنَ الْفِضَّةِ؟ هَلْ تَخَتَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِضَّةِ أَوْ بِغَيْرِهَا؟ وَهَلْ تُبَاحُ الْفُصُوصُ فِي الْخَوَاتِمِ لِلرِّجَالِ؟ وَهَلْ كَانَ خَاتَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَصٍّ وَمَا كَانَ فَصُّهُ؟ وَهَلْ تَخَتَّمَ فِي الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ؟ وَهَلْ كَانَ فَصُّهُ مِمَّا يَلِي ظَاهِرَ الْكَفِّ أَوْ بَاطِنَهُ؟ وَهَلِ الْحَدِيثُ الَّذِي وَرَدَ ( «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ خَاتَمُ نُحَاسٍ فَقَالَ: مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ رَائِحَةَ أَهْلِ النَّارِ» ؟) صَحِيحٌ وَمَنْ رَوَاهُ وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّحْرِيمُ أَوِ الْكَرَاهَةُ؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا الْوَزْنُ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: ( «وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا» ) قَالَ الزركشي فِي الْخَادِمِ: لَمْ يَتَعَرَّضْ أَصْحَابُنَا لِقَدْرِ الْخَاتَمِ وَلَعَلَّهُمُ اكْتَفَوْا بِالْعُرْفِ فَمَا خَرَجَ عَنْهُ إِسْرَافٌ، وَأَمَّا التَّخَتُّمُ بِسَائِرِ الْمَعَادِنِ مَا عَدَا الذَّهَبَ فَغَيْرُ حَرَامٍ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ ( «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ شَبَهٍ فَقَالَ: مَا لِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الْأَصْنَامِ؟ فَطَرَحَهُ ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ: مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ، فَطَرَحَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ، قَالَ: اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا» ) أَخْرَجَهُ أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي سَنَدِهِ رَجُلٌ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، فَضَعَّفَهُ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لِأَجْلِهِ، وَلَكِنَّ ابْنَ حِبَّانَ صَحَّحَهُ فَأَخْرَجَهُ فِي صَحِيحِهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الْمَسْؤُولُ عَنْهُ فِي السُّؤَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَرَجَّحَهُ النووي فِي الرَّوْضَةِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَالَ: لِضَعْفِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَلِمَا أَخْرَجَهُ أبو داود بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ مُعَيْقِيبٍ الصَّحَابِيِّ قَالَ: ( «كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ» ) ، وَأَمَّا التَّعَدُّدُ فَصَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَالَ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَلْبَسَ فَوْقَ خَاتَمَيْنِ فِضَّةً، فَمُقْتَضَاهُ جَوَازُ الْخَاتَمَيْنِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَارْتَضَاهُ الإسنوي، وَقَيَّدَهُ الخوارزمي فِي الْكَافِي بِأَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي إِصْبَعٍ، وَأَمَّا هَلْ تَخَتَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِضَّةِ أَوْ بِغَيْرِهَا؟ فَسَيَأْتِي حَدِيثٌ أَنَّهُ كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ وَرِقٍ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ معيقيب أَنَّهُ كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ حَدِيدٍ، وَأَمَّا تَخَتُّمُهُ بِالذَّهَبِ فَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ وَطَرَحَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحِ، وَأَمَّا الْفَصُّ فَمُبَاحٌ لِلرِّجَالِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: يَجُوزُ الْخَاتَمُ بِفَصٍّ وَبِلَا فَصٍّ، وَيَجْعَلُ الْفَصَّ مِنْ بَاطِنِ كَفِّهِ أَوْ ظَاهِرِهَا، وَبَاطِنُهَا أَفْضَلُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ انْتَهَى، وَأَمَّا فَصُّ خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي صَحِيحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الْبُخَارِيِّ أَنَّ فَصَّهُ كَانَ مِنْهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ( «كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرِقٍ، وَكَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا» ) فَجُمِعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: وَكَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا أَنَّهُ حَجَرٌ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ، وَقِيلَ جَزْعٌ أَوْ عَقِيقٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤْتَى بِهِ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ، وَرَأَيْتُ فِي الْمُفْرَدَاتِ فِي الطِّبِّ لابن البيطار أَنَّهُ صِنْفٌ مِنَ الزَّبَرْجَدِ، وَأَمَّا هَلْ تَخَتَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَمِينِ أَوِ الْيَسَارِ؟ فَقَدْ تَخَتَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، صَحَّ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ، قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: التَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ أَوِ الْيَسَارِ كِلَاهُمَا صَحَّ فِعْلُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ فِي الْيَمِينِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ وَالْيَمِينُ بِهَا أَوْلَى، وَقَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: وَرَدَ تَخَتُّمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَمِينِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وأنس عِنْدَ مُسْلِمٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وعبد الله بن جعفر عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وجابر عِنْدَهُ فِي الشَّمَائِلِ، وعلي عِنْدَ أبي داود وَالنَّسَائِيِّ وعائشة عِنْدَ البزاز، وأبي أمامة عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي غَرَائِبِ مالك، فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَوَرَدَ تَخَتُّمُهُ بِالْيَسَارِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أبي داود، وأبي سعيد عِنْدَ ابن سعد، وَوَرَدَتْ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ أَنَّهُ تَخَتَّمَ أَوَّلًا فِي الْيَمِينِ ثُمَّ حَوَّلَهُ إِلَى الْيَسَارِ، أَخْرَجَهَا ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَنَّهُ تَخَتَّمَ أَوَّلًا فِي يَمِينِهِ ثُمَّ تَخَتَّمَ فِي يَسَارِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْتُ أبا زرعة عَنِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَثْبُتُ هَذَا، وَلَكِنْ فِي يَمِينِهِ أَكْثَرَ، وَأَمَّا هَلْ كَانَ فَصُّهُ مِمَّا يَلِي بَاطِنَ الْكَفِّ أَوْ ظَاهِرَهُ، فَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا كِلَاهُمَا مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ أَحَادِيثَ الْبَاطِنِ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ فَلِذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [ثَلْجُ الْفُؤَادِ فِي أَحَادِيثِ لُبْسِ السَّوَادِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ ثَنَا عفان ح، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ ثَنَا وكيع، وَقَالَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ، أَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَعَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أبي الزبير عَنْ جابر: ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 عبيد الله أَنَا موسى بن عبيدة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ شُقَّةٌ سَوْدَاءُ» ) ، وَأَخْرَجَ ابن سعد، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ جَمِيعًا، أَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ مساور الوراق، عَنْ جعفر بن عمرو بن حريث عَنْ أَبِيهِ: ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ ابن سعد وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ سفيان عَنْ أبي الفضل عَنِ الحسن قَالَ: ( «كَانَتْ عِمَامَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَاءَ» ) ، وَقَالَ ابن سعد: أَنَا عتاب بن زياد أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا سفيان عَمَّنْ سَمِعَ الحسن يَقُولُ: ( «كَانَتْ رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَاءَ تُسَمَّى الْعُقَابَ وَعِمَامَتُهُ سَوْدَاءَ» ) ، وَقَالَ أبو بكر بن أبي داود، ثَنَا إسحاق بن الأخيل، ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّرَائِفِيُّ، ثَنَا عبد الرحمن بن أبي الرجال، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ( «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» ) ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَنَا القاسم بن عبد الله بن مهدي ثَنَا يعقوب بن كاسب ثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ محمد بن عبيد الله عَنْ أبي الزبير عَنْ جابر قَالَ: ( «كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ يَلْبَسُهَا فِي الْعِيدَيْنِ وَيُرْخِيهَا خَلْفَهُ» ) قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا أَعْلَمُ يَرْوِيهِ عَنْ أبي الزبير [عَنْ جابر] غَيْرَ العرزمي وَعَنْهُ حاتم، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ ثَنَا أبو الفضل جعفر بن أحمد ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْجَرْجَرَائِيُّ ثَنَا محمد بن صدران أبو جعفر ثَنَا عنبسة بن سالم ثَنَا عبيد الله بن أبي بكر عَنْ أَنَسٍ ( «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمُّ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ» ) وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ التُّسْتَرِيُّ، ثَنَا الحسن بن خلف الواسطي، ثَنَا عبيد الله بن تمام، ثَنَا خالد الحذاء عَنْ غنيم بن قيس عَنْ أبي موسى «أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى ذُؤَابَتَهُ مِنْ وَرَائِهِ» ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ ثَنَا عبد الله بن يوسف ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ ثَنَا أبو عبيدة الحمصي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى خَيْبَرَ فَعَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا مِنْ وَرَائِهِ، أَوْ قَالَ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى» ، وَقَالَ ابن سعد: أَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ ثَنَا شريك عَنْ جابر عَنْ مولى لجعفي يقال له هرمز قَالَ: رَأَيْتُ عليا عَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَاهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا وكيع ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 جابر بِهِ، وَقَالَ ابن سعد وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ أبي العنبس عمرو بن ميمون عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِمَامَةً سَوْدَاءَ قَدْ أَرْخَاهَا مِنْ خَلْفِهِ. وَقَالَ ابن سعد وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ ثابت بن عبيد الله عَنْ أبي جعفر الأنصاري قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى علي عِمَامَةً سَوْدَاءَ يَوْمَ قُتِلَ عثمان - أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ ابن سعد: أَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ وهشام أبو الوليد الطيالسي قَالَا: ثَنَا شريك عَنْ عاصم عَنْ أبي رزين قَالَ: خَطَبَنَا الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ سُودٌ وَعِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا شاذان ثَنَا شريك بِهِ، وَقَالَ ابن سعد: أَنَا سعيد بن محمد الثقفي عَنْ رشدين قَالَ: رَأَيْتُ عبد الله بن الزبير يَعْتَمُّ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ حَرْقَانِيَّةً وَيُرْخِيهَا شِبْرًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ شِبْرٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا وكيع ثَنَا عاصم بن محمد عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عبد الله بن الزبير اعْتَمَّ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ قَدْ أَرْخَاهَا مِنْ خَلْفِهِ نَحْوًا مِنْ ذِرَاعٍ، وَقَالَ ابن سعد: أَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ أَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ يونس بن عبد الله الجرمي عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ قَالَ: أَتَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ معاوية وَهُوَ بِالنَّخِيلَةِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَجُبَّةٌ سَوْدَاءُ وَمَعَهُ عَصًا سَوْدَاءُ. وَقَالَ ابن سعد وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ سلمة بن وردان قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عِمَامَةً سَوْدَاءَ عَلَى غَيْرِ قَلَنْسُوَةٍ قَدْ أَرْخَاهَا مِنْ خَلْفِهِ. وَقَالَ ابن سعد: قَالَ عبد الله بن صالح عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عبد الله بن أبي جعفر قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ عِمَامَةً حَرْقَانِيَّةً قَالَ: فَسَأَلْنَا ابْنَ لَهِيعَةَ عَنِ الْحَرْقَانِيَّةِ فَقَالَ السَّوْدَاءُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا غندر عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سماك عَنْ ملحان بن ثروان قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى عمار عِمَامَةً سَوْدَاءَ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَنَا أبو الحسين الروذباري ثَنَا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه ثَنَا جعفر بن محمد القلانسي ثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، ثَنَا شُعْبَةُ ثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ سَمِعْتُ ملحان بن ثوبان يَقُولُ: كَانَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَلَيْنَا بِالْكُوفَةِ وَكَانَ يَخْطُبُنَا كُلَّ جُمُعَةٍ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَا أبو عبد الله الْحَافِظُ ثَنَا أبو العباس محمد بن يعقوب ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ ثَنَا عثمان بن عمر ثَنَا أبو لؤلؤة قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ عِمَامَةً سَوْدَاءَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا البكراوي عَنْ أبي عيسى عَنْ أَبِيهِ زياد عَنْ شَيْخٍ يُقَالُ لَهُ سالم قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ عِمَامَةً سَوْدَاءَ. وَقَالَ: ثَنَا إسحاق بن منصور ثَنَا شريك ثَنَا حرب الخثعمي قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى البراء عِمَامَةً سَوْدَاءَ، وَقَالَ: ثَنَا محمد بن عبد الله الأسدي عَنْ شريك بن مخارق عَنْ عطاء قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عِمَامَةً سَوْدَاءَ، وَقَالَ: ثَنَا معن عَنْ حسين بن يونس قَالَ: رَأَيْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 عَلَى واثلة عِمَامَةً سَوْدَاءَ، وَقَالَ ابن سعد: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ ثَنَا عثيم بن نسطاس قَالَ: رَأَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَلْبَسُ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى عِمَامَةً سَوْدَاءَ وَيَلْبَسُ عَلَيْهَا بُرْنُسًا، وَقَالَ ابن سعد: أَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ ثَنَا بدر بن عثمان قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عِمَامَةً سَوْدَاءَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا وكيع ثَنَا عثمان بن أبي هند قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى أبي عبيد عِمَامَةً سَوْدَاءَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ: ثَنَا شبابة عَنْ سليمان قَالَ: رَأَيْتُ الحسن يَعْتَمُّ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ قَدْ أَرْخَى طَرَفَهَا خَلْفَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا شبابة عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: رَأَيْتُ أبا نضرة يَعْتَمُّ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ قَدْ أَرْخَاهَا تَحْتَ عُنُقِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا وكيع ثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ أبي صخرة قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى عبد الرحمن بن يزيد عِمَامَةً سَوْدَاءَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا وكيع قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى الأسود عِمَامَةً سَوْدَاءَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا جرير عَنْ يعقوب بن جعفر عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَتْ عِمَامَةُ جِبْرِيلَ يَوْمَ غَرِقَ فرعون سَوْدَاءَ. (فَائِدَةٌ) أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وأبو نعيم وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ( «مَرَرْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا مَعَهُ جِبْرِيلُ وَأَنَا أَظُنُّهُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ، فَقَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَوَضِحُ الثِّيَابِ وَإِنَّ وَلَدَهُ يَلْبَسُونَ السَّوَادَ» ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْعِيدِ] [وُصُولُ الْأَمَانِي بِأُصُولِ التَّهَانِي] بَابُ الْعِيدِ 10 - وُصُولُ الْأَمَانِي بِأُصُولِ التَّهَانِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ، فَقَدْ طَالَ السُّؤَالُ عَنْ مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنَ التَّهْنِئَةِ بِالْعِيدِ وَالْعَامِ وَالشَّهْرِ وَالْوِلَايَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، هَلْ لَهُ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ؟ فَجَمَعْتُ هَذَا الْجُزْءَ فِي ذَلِكَ، وَسَمَّيْتُهُ وُصُولَ الْأَمَانِي بِأُصُولِ التَّهَانِي. [التَّهْنِئَةُ بِالْفَضَائِلِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَنَاقِبِ الدِّينِيَّةِ] أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ( «أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 مِمَّا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ) الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ أسامة قَالَ: ( «تَبِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ حمزة فَلَمْ نَجِدْهُ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: جِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَكَ وَأُهَنِّئَكَ، أَخْبَرَنِي أبو عمارة - يَعْنِي حمزة - أَنَّكَ أُعْطِيتَ نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ يُدْعَى الْكَوْثَرَ» ) ، وَأَخْرَجَ أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هَنِيئًا لَكَ يَا علي أَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ» ) ، وَأَخْرَجَ أحمد وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: ( «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا بِغَدِيرِ خُمٍّ فَنُودِيَ فِينَا الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَأَخَذَ بِيَدِ علي فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ قَالُوا: بَلَى، فَأَخَذَ بِيَدِ علي فَقَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، قَالَ فَلَقِيَهُ عمر بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: هَنِيئًا لَكَ يَا ابن أبي طالب أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ» ) ، وَأَخْرَجَ ابن عساكر «عَنْ عبد الله بن جعفر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَا عبد الله هَنِيئًا لَكَ مَرِيئًا خُلِقْتَ مِنْ طِينَتِي، وَأَبُوكَ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ» ) ، وَأَخْرَجَ أحمد وَمُسْلِمٌ «عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ، قَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أبا المنذر» ) . [التَّهْنِئَةُ بِالتَّوْبَةِ] أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ قَالَ: ( «وَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِتَوْبَتِي وَيَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طلحة بن عبيد الله يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي فَكَانَ كعب لَا يَنْسَاهَا لطلحة، قَالَ كعب: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» ) . [التَّهْنِئَةُ بِالْعَافِيَةِ مِنَ الْمَرَضِ] أَخْرَجَ الحاكم «عَنْ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: (مَرِضْتُ فَعَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَرَأْتُ قَالَ: صَحَّ جِسْمُكَ يَا خوات) » ، وَأَخْرَجَ عبد الله بن أحمد فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنْ مسلم بن يسار قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا بَرَأ مِنْ مَرَضِهِ: لِيَهْنِكَ الطُّهْرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 [التَّهْنِئَةُ بِتَمَامِ الْحَجِّ] أَخْرَجَ الْبَزَّارُ «عَنْ عروة بن مضرس قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فَقَالَ: (أَفْرَخَ رَوْعُكَ يَا عروة) » قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَفْرَخَ الرَّوْعُ أَيْ ذَهَبَ الْفَزَعُ، يُقَالُ: لِيَفْرَخْ رَوْعُكَ أَيْ لِيَخْرُجْ عَنْكَ فَزَعُكَ كَمَا يَخْرُجُ الْفَرْخُ عَنِ الْبَيْضَةِ، وَأَفْرَخَ رَوْعُكَ يَا فُلَانُ أَيْ سَكَنَ جَأْشُكَ، قَالَ الميداني: وَهُوَ فِي هَذَا مُتَعَدٍّ وَفِي الْأَوَّلِ لَازِمٌ، وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: حَجَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَلَقَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: بَرَّ نَسْكُكَ يَا آدَمُ. [التَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ الْحَجِّ] أَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ( «جَاءَ غُلَامٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أَحُجُّ فَمَشَى مَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا غُلَامُ زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى وَوَجَّهَكَ الْخَيْرَ وَكَفَاكَ الْهَمَّ، فَلَمَّا رَجَعَ الْغُلَامُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا غُلَامُ قَبِلَ اللَّهُ حَجَّكَ وَغَفَرَ ذَنْبَكَ وَأَخْلَفَ نَفَقَتَكَ» ) وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلْحَاجِّ إِذَا قَدِمَ: تَقَبَّلَ اللَّهُ نُسُكَكَ وَأَعْظَمَ أَجْرَكَ وَأَخْلَفَ نَفَقَتَكَ. [التَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ الْغَزْوِ] أَخْرَجَ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عروة قَالَ: ( «لَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَدْرٍ اسْتَقْبَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالرَّوْحَاءِ يُهَنِّئُونَهُمْ» ) مُرْسَلٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ عائشة قَالَتْ: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ فَلَمَّا دَخَلَ اسْتَقْبَلْتُهُ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَصَرَكَ وَأَعَزَّكَ وَأَكْرَمَكَ» ) ، وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ عبد الله بن أبي سفيان أبي أحمد قَالَ: ( «لَقِيَ أسيد بن الحضير رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَقْبَلَ مِنْ بَدْرٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْفَرَكَ وَأَقَرَّ عَيْنَكَ» ) . [التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ] أَخْرَجَ أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَا الْإِنْسَانُ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ» ) ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وأبو يعلى «عَنْ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (أَنَّهُ تَزَوَّجَ فَقِيلَ لَهُ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَقَالَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَبَارَكَ عَلَيْكَ) » وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ هبار ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ نِكَاحَ رَجُلٍ فَقَالَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالْأُلْفَةِ وَالطَّائِرِ الْمَيْمُونِ وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ، بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ» ) . [التَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ] أَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ كلثوم بن جوشن قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ عِنْدَ الحسن - وَقَدْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَقِيلَ لَهُ: يَهْنِيكَ الْفَارِسُ، فَقَالَ الحسن: وَمَا يُدْرِيكَ أَفَارِسٌ هُوَ؟ قَالُوا: كَيْفَ تَقُولُ يَا أبا سعيد؟ قَالَ: تَقُولُ: بُورِكَ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ وَشَكَرْتَ الْوَاهِبَ وَرُزِقْتَ بِرَّهُ وَبَلَغَ أَشُدَّهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ مِنْ طَرِيقِ السري بن يحيى قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ وَلَدٌ فَهَنَّأَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لِيَهْنِكَ الْفَارِسُ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قُلْ: جَعَلَهُ اللَّهُ مُبَارَكًا عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ طَرِيقِ حماد بن زيد قَالَ: كَانَ أيوب إِذَا هَنَّأَ رَجُلًا بِمَوْلُودٍ قَالَ: جَعَلَهُ اللَّهُ مُبَارَكًا عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. [التَّهْنِئَةُ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ] قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ فِي أَدَبِ الْحَمَّامِ: لَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ لِغَيْرِهِ: عَافَاكَ اللَّهُ - نَقَلَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَفِي الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي بكر وعمر وَقَدْ خَرَجَا مِنَ الْحَمَّامِ: (طَابَ حَمَّامُكُمَا) » لَكِنْ بَيَّضَ لَهُ وَلَدُهُ فِي مُسْنَدِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ إِسْنَادًا. [التَّهْنِئَةُ بِشَهْرِ رَمَضَانَ] أَخْرَجَ الأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: ( «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» ) - الْحَدِيثَ قَالَ ابن رجب: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي التَّهْنِئَةِ بِشَهْرِ رَمَضَانَ. [التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ] أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَزَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ فِي تُحْفَةِ عِيدِ الْأَضْحَى عَنْ حبيب بن عمر الأنصاري قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: لَقِيتُ واثلة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ عِيدٍ فَقُلْتُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ، فَقَالَ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ. وَأَخْرَجَ الأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو السَّكْسَكِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عبد الله بن بشر وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَائِذٍ وَجُبَيْرَ بْنَ نُفَيْرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَخَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ يُقَالُ لَهُمْ فِي أَيَّامِ الْأَعْيَادِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَيَقُولُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أبا أمامة وواثلة لَقِيَاهُ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَا: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ. وَأَخْرَجَ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ فِي كِتَابِ تُحْفَةِ عِيدِ الْفِطْرِ، وَأَبُو أَحْمَدَ الْفَرَضِيُّ فِي مَشْيَخَتِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَأَخْرَجَ زاهر أَيْضًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ فِي الْعِيدِ لِأَصْحَابِهِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أدهم مولى عمر بن عبد العزيز قَالَ: كُنَّا نَقُولُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْعِيدَيْنِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا مِثْلَهُ وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: لَقِيتُ يُونُسَ بْنَ عُبْيَدٍ فَقُلْتُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ، فَقَالَ لِي مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ مِنْ طَرِيقِ حوشب بن عقيل قَالَ: لَقِيتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقُلْتُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ عَنْ علي بن ثابت قَالَ: سَأَلْتُ مالكا عَنْ قَوْلِ النَّاسِ فِي الْعِيدِ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ، فَقَالَ: مَا زَالَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ، لَكِنْ أَخْرَجَ ابن عساكر مِنْ «حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ النَّاسِ فِي الْعِيدَيْنِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ، فَقَالَ: (كَذَلِكَ فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ) وَكَرِهَهُ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ عبد الخالق بن خالد بن زيد بن واقد الدمشقي، قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أبو حاتم: ضَعِيفٌ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَتْرُوكٌ، وَقَالَ أبو نعيم: لَا شَيْءَ. [التَّهْنِئَةُ بِالثَّوْبِ الْجَدِيدِ] أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ «عَنْ أم خالد بنت خالد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَاهَا خَمِيصَةً فَأَلْبَسَهَا بِيَدِهِ وَقَالَ: (أَبْلِي وَأَخْلِقِي مَرَّتَيْنِ) » ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى عمر قَمِيصًا أَبْيَضَ فَقَالَ: (الْبَسْ جَدِيدًا وَعِشْ حَمِيدًا وَمُتْ شَهِيدًا) » وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أبي نضرة قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَبِسَ أَحَدُهُمْ ثَوْبًا جَدِيدًا قِيلَ لَهُ: تُبْلِي وَيُخْلِفُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 [التَّهْنِئَةُ بِالصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ] أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابن عمرو قَالَ: ( «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتُ مِنْكَ» ) ، وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ ميسرة بن حلبس قَالَ: لَقِيتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: كَيْفَ أَنْتَ يَا أبا شداد أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟ قَالَ: بِخَيْرٍ يَا ابْنَ أَخِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: ثَنَا أبو شهاب عَنِ الحسن بن عمرو عَنْ أبي معشر عَنِ الحسن قَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ سَلِمَتْ وَاللَّهِ الْقُلُوبُ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَكَيْفَ أَصْبَحْتَ عَافَاكَ اللَّهُ، وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ، فَإِنْ أَخَذْنَا نَقُولُ لَهُمْ كَانَتْ بِدْعَةً وَإِلَّا غَضِبُوا عَلَيْنَا. [خَاتِمَةٌ] : رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ، وَالْخَرَائِطِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ الْجَارِ؟ إِنِ اسْتَعَانَ بِكَ أَعَنْتَهُ، وَإِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ» ) الْحَدِيثَ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ، وَمِنْ حَدِيثِ معاوية بن حيدة أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ. (فَائِدَةٌ) : قَالَ القمولي فِي الْجَوَاهِرِ: لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا كَلَامًا فِي التَّهْنِئَةِ بِالْعِيدَيْنِ وَالْأَعْوَامِ وَالْأَشْهُرِ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ، وَرَأَيْتُ فِيمَا نُقِلَ مِنْ فَوَائِدِ الشَّيْخِ زَكِيِّ الدِّينِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيِّ أَنَّ الْحَافِظَ أبا الحسن المقدسي سُئِلَ عَنِ التَّهْنِئَةِ فِي أَوَائِلِ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ أَهُوَ بِدْعَةٌ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا مُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ قَالَ: وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلَا بِدْعَةٍ انْتَهَى، وَنَقَلَهُ الشرف الغزي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 [كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [مَسْأَلَةٌ سَقْطٌ لَمْ يَسْتَهِلَّ وَلَمْ يَخْتَلِجْ وَقَدْ بَلَغَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا هَلْ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ] مَسْأَلَةٌ: سَقْطٌ لَمْ يَسْتَهِلَّ وَلَمْ يَخْتَلِجْ وَقَدْ بَلَغَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا هَلْ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: قَدْ يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الرافعي فِي شَرْحَيْهِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلَمْ يَتَحَرَّكْ وَلَا اسْتَهَلَّ فَفِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَوْ بَلَغَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ مَثَلًا حَيْثُ قَالَ فَصَاعِدًا، وَكَذَا مِنْ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ، وَمِنْ تَعْلِيلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَدْ يَتَخَلَّفُ نَفْخُ الرُّوحِ لِأَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْأَشْبَهُ تَخْصِيصُ قَوْلِهِ فَصَاعِدًا بِمَا لَمْ يُجَاوِزْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ جَاوَزَهَا دَخَلَ فِي حُكْمِ الْمَوْلُودِ لَا السَّقْطِ، وَقَدْ قَالَ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ أبي حامد: السَّقْطُ مَنْ وُلِدَ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، فَتَرْجِيحُهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَوْلُودٌ لَا سَقْطٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ ضَابِطِ أَحْكَامِ السَّقْطِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْفَوَائِدُ الْمُمْتَازَةُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَقَعَ السُّؤَالُ عَنِ الْجِنَازَةِ إِذَا صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا، ثُمَّ حَضَرَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ وَصَلَّى فَهَلْ تَكُونُ الصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا؟ فَأَجَبْتُ بِأَنَّهَا فَرْضٌ هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ، فَسُئِلْتُ عَنْ تَحْرِيرِ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ الْفَرْضَ بِالصَّلَاةِ الْأُولَى فَكَيْفَ تُوصَفُ الثَّانِيَةُ بِأَنَّهَا فَرْضٌ؟ فَوَضَعْتُ هَذِهِ الْكَرَّاسَةَ لِتَحْرِيرِ ذَلِكَ وَسَمَّيْتُهَا: (الْفَوَائِدَ الْمُمْتَازَةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ) وَنَبْدَأُ بِذِكْرِ الْمَنْقُولِ فِي ذَلِكَ قَالَ الرافعي: إِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُونَ فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا أَفْرَادًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى وَتَكُونُ صَلَاتُهُمْ فَرْضًا فِي حَقِّهِمْ كَمَا أَنَّهَا فَرْضٌ فِي حَقِّ الْأَوَّلِينَ، بِخِلَافِ مَنْ صَلَّاهَا مَرَّةً لَا تُسْتَحَبُّ لَهُ إِعَادَتُهَا، فَإِنَّ الْمُعَادَ يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَهَذِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الصَّلَاةُ لَا يُتَطَوَّعُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى مَرَّةً وَأَعَادَهَا فِي جَمَاعَةٍ لَمْ تُسْتَحَبَّ أَيْضًا فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُضُورُ الْآخَرِينَ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَا يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْمَيِّتِ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحَالَتَيْنِ، أَمَّا قَبْلَ الدَّفْنِ فَلِأَنَّ عِنْدَهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِأَنَّ عِنْدَهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ إِلَّا إِذَا دُفِنَ وَلَمْ يَصُلِّ عَلَيْهِ، وَسَاعَدَ أَبَا حَنِيفَةَ مالك فِي الْفَصْلَيْنِ - هَذَا كَلَامُ الرافعي، وَقَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إِذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ جَمَاعَةٌ أَوْ وَاحِدٌ ثُمَّ صَلَّتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ أُخْرَى فَصَلَاةُ الْجَمِيعِ تَقَعُ فَرْضًا، قَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: تَنْوِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ بِصَلَاتِهِمُ الْفَرْضَ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِمْ أَسْقَطَ عَنْهُمُ الْحَرَجَ لَا الْفَرْضَ، وَبَسَطَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا بَسْطًا حَسَنًا، فَقَالَ: إِذَا صَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ جَمْعٌ يَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِبَعْضِهِمْ، فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ صَلَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَقَعُ فَرِيضَةً، إِذْ لَيْسَ بَعْضُهُمْ بِأَوْلَى بِوَصْفِهِ بِالْقِيَامِ بِالْفَرْضِ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِالْفَرْضِيَّةِ لِلْجَمِيعِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ كَإِيصَالِ الْمُتَوَضِّئِ الْمَاءَ إِلَى رَأْسِهِ دَفْعَةً، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْجَمِيعَ فَرْضٌ أَمِ الْفَرْضُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَقَطْ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَخَيَّلُ الْفَطِنُ فَرْقًا وَيَقُولُ مَرْتَبَةُ الْفَرْضِيَّةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ السُّنَّةِ، وَكُلُّ مُصَلٍّ فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْرَمَ رُتْبَةَ الْفَرْضِيَّةِ وَقَدْ قَامَ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَهَذَا لَطِيفٌ لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْمَسْحِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ الْأَئِمَّةُ إِذَا صَلَّتْ طَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ كَانَ كَصَلَاتِهِمْ مَعَ الْأَوَّلِينَ فِي جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ - هَذَا كَلَامُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَأَقَرَّهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَبْلَ ذَلِكَ مَا نَصُّهُ: إِذَا حَضَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ لَمْ يَكُنْ صَلَّى عَلَيْهِ أَوْ جَمَاعَةٌ صَلَّوْا عَلَيْهِ وَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ فَرْضَ كِفَايَةٍ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ طَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُتَنَفَّلُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَلَا يُصَلِّيهَا طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ كَوْنِ صَلَاةِ الثَّانِيَةِ نَافِلَةً بَلْ هِيَ عِنْدَنَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَقَعُ صَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فَرْضًا وَلَوْ تَرَكُوهَا لَمْ يَأْثَمُوا وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ الْفُرُوضِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ابْتِدَاءُ الشَّيْءِ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَإِذَا دُخِلَ فِيهِ صَارَ فَرْضًا كَمَا إِذَا دُخِلَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَكَمَا فِي الْوَاجِبِ عَلَى التَّخْيِيرِ بِخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَوْ كَانَتْ أَلْفًا أَوْ أُلُوفًا وَقَعَتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ فَرْضًا بِالِاتِّفَاقِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَرْضَ كَانَ يَسْقُطُ بِبَعْضِهِمْ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِأَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ عَلَى الْإِبْهَامِ وَالْبَاقُونَ مُتَنَفِّلُونَ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَصْحَابِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إِذَا فَعَلَهُ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ كَيْفَ قُلْتُمْ تَقَعُ صَلَاةُ الثَّانِيَةِ فَرْضًا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ عِبَارَةَ الْمُحَقِّقِينَ سَقَطَ الْحَرَجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 عَنِ الْبَاقِينَ أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ هَذَا الْفِعْلِ، فَلَوْ فَعَلُوهُ وَقَعَ فَرْضًا كَمَا لَوْ فَعَلُوهُ مَعَ الْأَوَّلِينَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا عِبَارَةُ مَنْ يَقُولُ: سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ فَمَعْنَاهُ سَقَطَ حَرَجُ الْفَرْضِ - هَذَا كَلَامُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَقَالَ ابن الصباغ فِي الشَّامِلِ: إِذَا صُلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً جَازَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ عُمَرَ وعائشة وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وأحمد وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّتَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ غَائِبًا فَيُصَلِّي غَيْرُهُ فَيُعِيدُهَا الْوَلِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّلَاةَ الْأُولَى قَدْ سَقَطَ بِهَا الْفَرْضُ، فَلَوْ صَلَّى ثَانِيًا لَكَانَ تَطَوُّعًا، وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى لَا يُكَرِّرُهَا، قَالَ: وَهَذَا مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِمْ فِي الْوَلِيِّ زَادَ فِي التَّتِمَّةِ لِأَنَّ كُلَّ حَالَةٍ جَازَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا عَلَى الْمَيِّتِ جَازَ لِغَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ فِي التَّتِمَّةِ: إِذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ قَوْمٌ ثُمَّ جَاءَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى وَأَرَادُوا الصَّلَاةَ يَنْوُونَ صَلَاةَ الْفَرْضِ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ مَا أَسْقَطَ الْفَرْضَ عَنْهُ وَإِنَّمَا أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي كِتَابِهِ النُّكَتِ فِي الْخِلَافِ: مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْمَيِّتِ مَعَ الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ، دَلِيلُنَا «أَنَّ سكينة مَاتَتْ لَيْلًا فَكَرِهُوا أَنْ يُوقِظُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَنُوهَا ثُمَّ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَخَرَجَ بِهِمْ وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهَا» ، فَإِنْ قِيلَ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ إِلَّا بِصَلَاتِهِ وَلِهَذَا قَالَ: ( «لَا يَمُوتَنَّ فِيكُمْ مَيِّتٌ مَا كُنْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ إِلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ لَهُ» ) قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَعْلَمَهُ النَّاسُ وَكَانُوا لَا يُصَلُّونَ وَإِنَّمَا نَدَبَهُمْ إِلَى إِعْلَامِهِ لِبَرَكَةِ دُعَائِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ( «فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْكُمْ رَحْمَةٌ» ) وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَسْقُطْ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ مَعَ النَّاسِ جَازَ لَهُ بَعْدَ صَلَاتِهِمْ كَالْوَلِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: الْوَلِيُّ لَهُ حَقُّ التَّقَدُّمِ، قِيلَ لَهُ حَقٌّ قَبْلَ سُقُوطِ الْفَرْضِ، فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ إِعَادَتُهَا، قَالُوا: لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَدِمَ بَعْدَ مَوْتِهِ كمعاذ وَغَيْرِهِ، قُلْنَا: هَذَا حُجَّةٌ لِأَنَّهُ قَدْ صُلِّيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ عَلَى قَبْرِهِ لِأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي مَسْجِدًا» ) فَإِنْ قَالُوا سَقَطَ فَرْضُ الصَّلَاةِ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَنْ صَلَّى مَرَّةً، قُلْنَا: يُنْكَرُ مِمَّنْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً، وَالْأَصْلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، ثُمَّ ذَاكَ سَقَطَ الْفَرْضُ بِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَهَاهُنَا سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ حُكْمًا، فَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْعَزِيمَةِ كَالْمُسَافِرِ فِي الرُّخَصِ، لِأَنَّ مَنْ رَدَّ السَّلَامَ مَرَّةً لَا يَرُدُّ مَرَّةً أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَرُدَّ يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ - هَذَا كَلَامُ الشَّيْخِ أبي إسحاق بِحُرُوفِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا سُقْنَاهُ مِنَ النُّقُولِ عِدَّةُ مَسَالِكَ فِي التَّعْلِيلِ، الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: الْقِيَاسُ عَلَى فِعْلِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى. وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي: الْقِيَاسُ عَلَى أَفْرَادِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى إِذَا كَانَتْ عَدَدًا كَثِيرًا زِيَادَةً عَمَّا يُسْقِطُ الْفَرْضَ، فَإِنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَرْضٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يُقَالُ إِنَّ الْفَرْضَ فِعْلُ بَعْضٍ مِنْهُمْ وَالْبَاقِيَ نَفْلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَحَكُّمٌ؛ إِذْ لَيْسَ بَعْضُهُمْ بِأَوْلَى بِالْوَصْفِ بِالْفَرْضِيَّةِ مِنْ بَعْضٍ. الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: الْقِيَاسُ عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ابْتِدَاؤُهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَإِذَا دُخِلَ فِيهِ صَارَ فَرْضًا، وَلَا يُسْتَنْكَرُ هَذَا فَلَهُ نَظِيرٌ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقِتَالُ إِذَا شَرَعَ فِيهِ وَحَضَرَ الصَّفَّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ الِانْصِرَافُ. الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: الْقِيَاسُ عَلَى الْمُكَفِّرِ إِذَا أَتَى بِجَمِيعِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى الْكُلِّ ثَوَابَ الْوَاجِبِ مَعَ أَنَّ الْوُجُوبَ سَقَطَ بِالْخَصْلَةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي صُورَةِ الْمُكَفِّرِ: أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى الْجَمِيعِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ ; لِأَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى فَرْدٍ مِنْهَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، فَانْضِمَامُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ لَا يُنْقِصُهُ عَنْهُ. الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: الْقِيَاسُ عَلَى رَدِّ السَّلَامِ، فَإِنَّهُ إِذَا رَدَّ وَاحِدٌ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَرُدَّ وَيَكُونُ قَبْلَهُ فَرْضًا وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَفْلٌ؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ لَا تَطَوُّعَ فِيهِ. الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: مَنْعُ قَوْلِ الْخُصُومِ أَنَّ الْفَرْضَ سَقَطَ بِالْأَوَّلِينَ وَإِنَّمَا السَّاقِطُ حَرَجُهُ لَا هُوَ، فَفَرْقٌ بَيْنَ سُقُوطِ الْحَرَجِ الَّذِي كَانَ يَلْحَقُ الْأُمَّةَ لَوْ تُرِكَ وَبَيْنَ سُقُوطِ الْفَرْضِ. الْمَسْلَكُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ سُقُوطِ الْفَرْضِ فَرْقٌ بَيْنَ سُقُوطِهِ حَقِيقَةً وَبَيْنَ سُقُوطِهِ حُكْمًا، وَفِعْلُ الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا أَسْقَطَ الْفَرْضَ عَنْ غَيْرِهِمْ حُكْمًا وَلَمْ يُسْقِطْهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ حَقِيقَةً بِفِعْلِهِمْ هُمْ، فَإِذَا فَعَلُوهُ ثَانِيًا سَقَطَ عَنْهُمْ حَقِيقَةً، فَوَصَفَ فِعْلَهُمْ بِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْفَرْضَ عَنْهُمْ حَقِيقَةً، وَهَذَا الْمَسْلَكُ عِنْدِي أَقْوَى الْمَسَالِكِ وَأَدَقُّهَا وَأَقْطَعُهَا لِلنِّزَاعِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ مَسْلَكُ الشَّيْخِ أبي إسحاق إِمَامِ عَصْرِهِ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَالْجَدَلِ غَيْرَ مُدَافَعٍ. الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ: الْقِيَاسُ عَلَى مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَعَادَهَا فِي جَمَاعَةٍ، فَإِنَّ أَحَدَ الْأَقْوَالِ فِيهَا أَنَّهُمَا جَمِيعًا يَقَعَانِ عَنِ الْفَرْضِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْفَرْضَ الْأُولَى قَالَ إِنَّهُ يَنْوِي بِالثَّانِيَةِ الْفَرْضَ فَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ. الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ: تَقْرِيرُ قَاعِدَةٍ مُهِمَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ اخْتُلِفَ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ؟ أَوْ وَاجِبٌ عَلَى الْكُلِّ وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْبَعْضِ فَذَلِكَ الْبَعْضُ الْمُتَّصِفُ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ عَلَى الْمَعِيَّةِ أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ صَلَاةَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ تُوصَفُ بِالْفَرْضِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ مَجْمُوعَ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ قَامَ بِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْفَرْضَ مُوَجَّهٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ يُبَعَّضَ وَيُجْعَلَ فِعْلُ بَعْضِ مَنْ قَامَ بِهِ فَرْضًا وَفِعْلُ بَعْضِهِمْ نَفْلًا، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكُلِّ فَأَوْضَحُ وَأَوْضَحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُخَاطَبٌ بِالْوُجُوبِ وَمَوْصُوفٌ بِأَنَّ الْفَرْضَ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شَبِيهٌ بِفُرُوضِ الْأَعْيَانِ مِنْ حَيْثُ تَوَجُّهِهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي وُجُوبِ الْمُبَاشَرَةِ، وَمَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ فَرْضٌ فَفَعَلَهُ لَا يُقَالُ أَنَّ فِعْلَهُ نَفْلٌ بَلْ هُوَ فَرْضٌ قَطْعًا سَبَقَهُ غَيْرُهُ إِلَى فِعْلِ مِثْلِهِ أَوْ لَا، وَهَذَا مَسْلَكٌ تَحْقِيقِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ قَاعِدَةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَكَيْفِيَّةِ تَوَجُّهِهِ، وَالْقَوْلَانِ فِيهِ مَشْهُورَانِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكُلِّ وَيَسْقُطُ بِالْبَعْضِ، وَمِمَّنْ رَجَّحَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْإِمَامُ فخر الدين الرازي وَالشَّيْخُ تقي الدين السبكي. الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ: قَالَ ابن السبكي فِي رَفْعِ الْحَاجِبِ: الْأَفْعَالُ قِسْمَانِ مَا تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ فَهُوَ عَلَى الْأَعْيَانِ كَالظُّهْرِ مَثَلًا مَصْلَحَتُهَا الْخُضُوعُ وَهُوَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا، وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ فَهُوَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَكُسْوَةِ الْعَارِي، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ الْفَاعِلُونَ وَأَفْعَالُهُمْ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَفِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ الْغَرَضُ وُقُوعُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَنَّهُ كُلُّ مُهِمٍّ دِينِيٍّ يَقْصِدُ الشَّرْعُ حُصُولَهُ وَلَا يَقْصِدُ بِهِ عَيْنَ مَنْ يَتَوَلَّاهُ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَسْتَحِبُّونَ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّهَا مَعَ حُصُولِ الْفَرْضِ بِالصَّلَاةِ أَوْ لَا؟ قُلْتُ: الْغَرَضُ بِالذَّاتِ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ انْتِفَاعُ الْمَيِّتِ، وَالدُّعَاءُ سَبَبٌ، فَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الِانْتِفَاعَ يَسْتَحِبُّ الصَّلَاةَ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسْتَجِبْ دُعَاءَ الْأَوَّلِينَ، وَإِنَّمَا لَمْ نُوجِبْ إِعَادَةَ الصَّلَاةِ لِئَلَّا نُوجِبَ مَا لَا يَتَنَاهَى، إِذْ لَسْنَا عَلَى يَقِينٍ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ فِي وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَأَيْضًا فَالِاسْتِجَابَةُ لَيْسَتْ فِي قُدْرَتِنَا وَالتَّوَصُّلُ إِلَيْهَا مَرَّةً وَاجِبٌ وَبِمَا زَادَ مُسْتَحَبٌّ، فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: إِنَّ صَلَاةَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ تَقَعُ فَرْضًا مَعَ سُقُوطِ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ بِالْأُولَى فَكَيْفَ تَكُونُ فَرْضًا مَعَ جَوَازِ تَرْكِهَا؟ قُلْتُ: فَرْضُ الْكِفَايَةِ قِسْمَانِ، مَا يَحْصُلُ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أَوْ لَا وَلَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ فَهَذَا إِذَا وَقَعَ فِعْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ ثَانِيًا، وَمَا يَتَجَدَّدُ بِهِ مَصْلَحَةٌ بِتَكَرُّرِ الْفَاعِلِ كَالِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَهَذَا كُلُّ مَنْ أَوْقَعَهُ وَقَعَ فَرْضًا، فَإِنْ قُلْتَ: رَدُّ السَّلَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: لَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فَأَجَابَ الْجَمِيعُ كَانُوا كُلُّهُمْ مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ سَوَاءٌ أَجَابُوا مَعًا أَمْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَمُقْتَضَى مَا تَقُولُونَ أَنَّ الْفَرْضَ فِيمَا إِذَا أَجَابُوا عَلَى التَّعَاقُبِ الْأَوَّلِ لِحُصُولِ تَمَامِ الْمَقْصُودِ بِهِ، قُلْتُ: الْمَقْصُودُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ شُرِعَ أَصْلُ السَّلَامِ إِلْقَاءُ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «أَلَا أَدُلُّكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» ) وَالْمَوَدَّةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَيْنَ الْمُجِيبِ وَالْمُبْتَدِئِ دُونَ السَّاكِتِ، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِلثَّانِي الْجَوَابُ فَإِذَا أَجَابَ وَقَعَ فَرْضًا كَمَا قُلْنَاهُ، انْتَهَى مَا فِي رَفْعِ الْحَاجِبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 [كِتَابُ الزَّكَاةِ] [ مسائل متفرقة ] مَسْأَلَةٌ: قَالُوا لَا زَكَاةَ فِي التِّينِ، قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِنَبِ بَلْ أَوْلَى. الْجَوَابُ: الْمَدَارُ فِي الزَّكَاةِ عَلَى وُرُودِ النَّصِّ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ فِي إِيجَابِهَا فِي التِّينِ. مَسْأَلَةٌ: مَا الْمُرَادُ بِفَقِيرِ الْبَلَدِ الَّذِي تُصْرَفُ إِلَيْهِ الزَّكَاةُ هَلْ هُوَ مَنْ أَدْرَكَ وَقْتَ الْوُجُوبِ بِنِيَّةٍ تَقْطَعُ التَّرَخُّصَ أَمْ كَيْفَ الْحَالُ؟ وَإِذَا لَمْ يَقْبَلِ الْفُقَرَاءُ الزَّكَاةَ هَلْ يُجْبِرُهُمُ الْحَاكِمُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يُجْبِرْهُمْ هَلْ يَجُوزُ النَّقْلُ مَعَ وُجُودِهِمْ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْمُرَادُ بِفَقِيرِ الْبَلَدِ مَنْ كَانَ بِبَلَدِ الْمَالِ عِنْدَ الْوُجُوبِ، صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ الزركشي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ أَنَّ الْفُقَرَاءَ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ قُوتِلُوا وَلَا يَصِحُّ لَهُمْ إِبْرَاءُ رَبِّ الْمَالِ مِنْهَا. مَسْأَلَةٌ: شَافِعِيٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي إِخْرَاجِ زَكَاةِ فِطْرِهِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ بَعْضَ الْمَذَاهِبِ مِمَّنْ يُجَوِّزُ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ إِذْ يَعْسُرُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَدَحَيْنِ لِأَشْخَاصٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَمْ لَا؟ فَإِنْ جَوَّزْتُمْ فَهَلْ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ أَخْرَجَهَا قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ سِنِينَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَدْعُوَ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا وَكَّلَ مَنْ مَذْهَبُهُ جَوَازُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يُرَاعِيَ مَذْهَبَ الْمُوَكِّلِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ وَأَخْرَجَهَا لِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَهَلْ تَسْقُطُ عَنِ الْمُوَكِّلِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ تَسْقُطْ فَهَلْ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ إِخْرَاجُهَا مِنْ مَالِهِ أَوْ يَسْتَرِدُّهَا مِنَ الْفَقِيرِ أَوْ يُخْرِجُ الْمُوَكِّلُ بَدَلَهَا مِنْ عِنْدِهِ؟ . الْجَوَابُ: يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُقَلِّدَ بَعْضَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَوَاءٌ عَمِلَ فِيهَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَذْهَبِهِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ أَمْ لَا، خُصُوصًا أَنَّ صَرْفَ زَكَاةِ الْفِطْرِ لِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ رَأْيٌ فِي الْمَذْهَبِ، فَلَيْسَ الْأَخْذُ بِهِ خُرُوجًا عَنِ الْمَذْهَبِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ أَخْذٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْوَجْهَيْنِ فِيهِ وَتَقْلِيدٌ لِمَنْ رَجَّحَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْوَكِيلِ فَيَنْظُرُ إِنْ عَيَّنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ الدَّفْعَ إِلَى عَدَدٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ اسْتَرَدَّ مِنَ الْفَقِيرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ غَرِمَ الْوَكِيلُ لِبَقِيَّةِ الْأَشْخَاصِ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَيَحْتَمِلُ بُطْلَانُ هَذَا التَّوْكِيلِ وَيَحْتَمِلُ صِحَّتُهُ، وَيُرَاعِي مَذْهَبَ الْمُوَكِّلِ تَنْزِيلًا لِلْإِطْلَاقِ مَنْزِلَةَ التَّعَيُّنِ بِقَرِينَةِ الْمُعْتَقِدِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَظْهَرُ، فَإِنْ صَرَفَهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِوَاحِدٍ اسْتَرَدَّ، فَإِنْ تَعَذَّرَ غَرِمَ لِأَحَدَ عَشَرَ نَفَرًا، إِذِ الْمَوْجُودُ مِنَ الْأَصْنَافِ الْآنَ أَرْبَعَةٌ فَيَغْرَمُ لِتِسْعَةٍ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قَدَحَيْنِ وَذَلِكَ قَدَحٌ وَنِصْفٌ، وَلِاثْنَيْنِ أَقَلَّ مُتَمَوَّلٍ، وَمَدَارِكُ جَمِيعِ مَا قُلْنَاهُ مِنَ التَّخْرِيجِ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِالْفِقْهِ. [بَذْلُ الْعَسْجَدِ لِسُؤَالِ الْمَسْجِدِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. السُّؤَالُ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَإِعْطَاءُ السَّائِلِ فِيهِ قُرْبَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ، أَمَّا النَّقْلُ فَقَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْغُسْلِ: فَرْعٌ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِيَ السَّائِلَ فِي الْمَسْجِدِ شَيْئًا لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا، فَقَالَ أبو بكر: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ، فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عبد الرحمن فَأَخَذْتُهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ» ) رَوَاهُ أبو داود بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ - هَذَا كَلَامُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِحُرُوفِهِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِيهِ دَلِيلٌ لِلْأَمْرَيْنِ مَعًا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِ لَيْسَتْ مَكْرُوهَةً، وَأَنَّ السُّؤَالَ فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ بِأَخْبَارِ الصديق وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُقِرَّ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ يَمْنَعُ السَّائِلَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى السُّؤَالِ فِي الْمَسْجِدِ، وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ السُّؤَالِ فِي الْمَسْجِدِ إِنْ ثَبَتَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالتَّنْزِيهِ، وَهَذَا صَارِفٌ لَهُ عَنِ الْحُرْمَةِ، قُلْتُ: وَمَنْ أَخَذَ تَحْرِيمَهُ مِنْ كَوْنِهِ مُؤْذِيًا لِلْمُصَلِّينَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فَأَكْثَرُ مَا يَنْهَضُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِلْكَرَاهَةِ، وَقَدْ نَصَّ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْخُصُومَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ، وَكَذَا رَفْعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ إِذَا آذَى الْمُصَلِّينَ وَالنِّيَامَ نَصُّوا عَلَى كَرَاهَتِهِ لَا تَحْرِيمِهِ، وَالْحُكْمُ بِالتَّحْرِيمِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَاضِحٍ صَحِيحِ الْإِسْنَادِ غَيْرِ مُعَارَضٍ، ثُمَّ إِلَى نَصٍّ مَنْ أَحَدِ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ أبا داود وَالْبَيْهَقِيَّ اسْتَدَلَّا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي سُنَنِهِمَا بَابُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَوْرَدَا فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَأَخْرَجَهُ الحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، قَالَ المنذري: وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، مِنْهُ حَدِيثُ أَبِي حَازِمٍ سُلَيْمَانَ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قُلْتُ: وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ للزركشي، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ لِمَا قُلْنَاهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: وَقَفَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي تَطَوُّعٍ فَنَزَعَ خَاتَمَهُ فَأَعْطَاهُ السَّائِلَ فَنَزَلَتْ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] وَأَخْرَجَ ابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، وَإِذَا مِسْكِينٌ يَسْأَلُ فَقَالَ: أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ ذَاكَ الْقَائِمُ، قَالَ: عَلَى أَيِّ حَالٍ أَعْطَاكَ؟ قَالَ: وَهُوَ رَاكِعٌ، قَالَ: وَذَلِكَ علي فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَا الْآيَةَ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] » وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ علي قَائِمًا يُصَلِّي فَمَرَّ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ فَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حِبَّانَ وابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: « (نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55] الْآيَةَ، عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، فَإِذَا سَائِلٌ، فَقَالَ: أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا إِلَّا ذَاكَ الرَّاكِعُ - لعلي - أَعْطَانِي خَاتَمَهُ) » ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: تَصَدَّقَ علي بِخَاتَمِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَنَزَلَتْ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55] الْآيَةَ. فَهَذِهِ خَمْسُ طُرُقٍ لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي التَّصَدُّقِ عَلَى السَّائِلِ فِي الْمَسْجِدِ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَخْرَجَ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: ( «قَامَ سَائِلٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا أَعْطَاهُ فَأَعْطَاهُ الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ بِهِ فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مُنْتَقَصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ» ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ثُمَّ إِنَّ النَّهْيَ عَنِ السُّؤَالِ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَمَا وَقَعَ فِي الْمَدْخَلِ لابن الحاج مِنْ حَدِيثِ: ( «مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسَاجِدِ فَاحْرِمُوهُ» ) فَإِنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ نَشْدِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، قَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ نَشْدِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ ومحمد بن مسلمة مِنْ أَصْحَابِ مالك رَفْعَ الصَّوْتِ فِيهِ بِالْعِلْمِ وَالْخُصُومَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَجْمَعُهُمْ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 [كِتَابُ الصِّيَامِ] مَسْأَلَةٌ: لَوْ وَلَدَتِ الصَّائِمَةُ وَلَدًا جَافًّا فَهَلْ يَبْطُلُ صَوْمُهَا أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: ذَكَرَ النووي الْمَسْأَلَةَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَحَكَى فِيهَا طَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ، وَالثَّانِي: فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْغُسْلِ إِنْ أَوْجَبْنَاهُ بَطَلَ وَإِلَّا فَلَا، هَكَذَا أَرْسَلَ الطَّرِيقَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ. مَسْأَلَةٌ: إِذَا ارْتَدَّ الصَّائِمُ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ فَهَلْ يُعْتَدُّ بِصَوْمِهِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَحْرِ الْمَسْأَلَةَ وَحَكَى فِيهَا وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّوْمِ هَلْ تُبْطِلُهُ؟ وَمُقْتَضَاهُ تَصْحِيحُ عَدَمِ الْبُطْلَانِ فَإِنَّهُ الْأَصَحُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَهُوَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ يُصَلِّيهَا، فَتَذَكَّرَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ وَالْوَقْتُ ضَيِّقٌ بِحَيْثُ إِنَّهُ إِنْ قَطَعَ الصَّلَاةَ وَنَوَى الصَّوْمَ خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ خَرَجَ وَقْتُ النِّيَّةِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ أَحَدَهُمَا وَيَقْضِيَهُ أَوْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ؟ وَإِذَا نَوَى بِقَلْبِهِ فَهَلْ يَحْصُلُ تَشْرِيكٌ فِي الْعِبَادَةِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ لَهُ قَطْعُ الصَّلَاةِ وَلَا تَرْكُ النِّيَّةِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنَّ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا تَشْرِيكًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 [كِتَابُ الْحَجِّ] مَسْأَلَةٌ: الطَّوَافُ هَلْ هُوَ يَمِينٌ أَوْ يَسَارٌ؟ . الْجَوَابُ: يَسْرِي إِلَى ذِهْنِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ اشْتِرَاطِنَا جَعْلَ الْبَيْتِ عَنْ يَسَارِ الطَّائِفِ أَنَّ الطَّوَافَ يَسَارٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ يَمِينٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّائِفَ عَنْ يَمِينِ الْبَيْتِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَنْ يَسَارِ شَيْءٍ فَذَلِكَ الشَّيْءُ عَنْ يَمِينِهِ، الثَّانِي: أَنَّ مَنِ اسْتَقْبَلَ شَيْئًا ثُمَّ أَرَادَ الْمَشْيَ عَنْ جِهَةِ يَمِينِهِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَنْ يَسَارِهِ قَطْعًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ جابر «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ ثُمَّ مَشَى عَنْ يَمِينِهِ» . مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ لَا مَالَ لَهُ وَلَهُ وَظَائِفُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ النُّزُولُ عَنْهَا بِمَالٍ لِيَحُجَّ؟ . الْجَوَابُ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ بَيْعِ الضَّيْعَةِ الْمُعَدَّةِ لِنَفَقَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ مَالِيَّةٌ، وَالنُّزُولُ عَنِ الْوَظَائِفِ إِنْ صَحَّحْنَاهُ مِثْلُ التَّبَرُّعَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 [كِتَابُ الْبَيْعِ] [ مسائل متفرقة ] مَسْأَلَةٌ: فِي دَارَيْنِ مُشْتَرِكَتَيْنِ بَيْنَ جَمَاعَةٍ لِكُلٍّ مِنْهُمْ حِصَّةٌ تُبَايِنُ الْأُخْرَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَبَاعُوا الدَّارَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَلِ الْبَيْعُ فَاسِدٌ لِتَحَقُّقِ الْجَهَالَةِ فِي الثَّمَنِ الْمُبْتَاعِ بِهِ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَجَزَمُوا فِيهِ بِالْبُطْلَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ جَهَالَةِ قِسْطِهِ أَمْ صَحِيحٌ؟ . الْجَوَابُ: الظَّاهِرُ الصِّحَّةُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا وَاضِحٌ، لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي اخْتِلَافِ الْحِصَصِ مَعْلُومٌ بِالْجُزْئِيَّةِ بِخِلَافِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ مِنْ حَيْثُ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمَا، نَعَمْ لَوْ كَانَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ مُشْتَرِكِينَ فِيهِمَا بِالْحِصَصِ عَلَى حَدِّ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الدَّارَيْنِ اتَّجَهَ الصِّحَّةُ أَيْضًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّةِ. مَسْأَلَةٌ: مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تَرْكِيبِ حَوَائِجَ يَجْتَمِعُ مِنْهَا ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ وَيُسَمَّى الْكِيمْيَاءَ وَيَبِيعُهُ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا، أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَظْهَرُ لِلنُّقَّادِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؟ وَكَذَلِكَ تَرْكِيبُ حَوَائِجَ يَظْهَرُ مِنْهَا تُوتْيَا، أَوْ لَادِنٌ، أَوْ زَبَادٌ، أَوْ نِيلَةٌ، أَوْ سَمْنٌ، أَوْ قَطِرَانٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، هَلْ يُبَاحُ وَيَحِلُّ أَكْلُ ثَمَنِهِ كَالْغَالِيَةِ أَمْ لَا؟ كَالْمِسْكِ الْمَخْلُوطِ بِغَيْرِهِ وَاللَّبَنِ الْمَخْلُوطِ بِالْمَاءِ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا بَيَّنَ الْحَالَ لِلْمُشْتَرِي وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يُبَيِّنْهُ، وَإِذَا بَيَّنَ وَعَلِمَ الْبَائِعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ أَكْلُ ثَمَنِهِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِيمْيَاءِ فَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ فِيهَا عَدَمُ الْجَوَازِ، وَعَمَلُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَلَا يَصِحُّ فِيهَا الْبَيْعُ سَوَاءٌ ظَهَرَ لِلنُّقَّادِ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ تُوتْيَا وَنَحْوُهُ الَّذِي نَقْطَعُ بِهِ فِيهِ الْجَوَازُ قِيَاسًا عَلَى الْغَالِيَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِلْحِلِّ الدَّافِعِ لِلْإِثْمِ أَنْ يُبَيَّنَ الْحَالُ حَذَرًا مِنَ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْكِيمْيَاءِ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا فِيهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْقَدْرَ مِنَ الْكِيمْيَاءِ يُبَاعُ مَثَلًا عَلَى أَنَّهُ ذَهَبٌ بِدِينَارٍ، وَإِذَا حُقِّقَ أَمْرُهُ رَجَعَ إِلَى قِيمَةِ الْفَلْسِ بِخِلَافِ الْمُرَكَّبِ الْمَذْكُورِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُرَكَّبِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَالْإِثْمُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْمُرَكَّبِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ اللَّبَنِ وَالْمِسْكِ الْمَخْلُوطَيْنِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْغَالِيَةِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ بَاعَ بُسْتَانًا وَفِيهِ قَمِينُ طُوبٍ فَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: لَا يَدْخُلُ إِلَّا إِنْ صَرَّحَ بِدُخُولِهِ وَإِنْ أَطْلَقَ فَلَا. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ لَهُ حِصَّةٌ فِي فَرَسٍ بَاعَهَا لِإِنْسَانٍ وَسَلَّمَهُ جَمِيعَ الْفَرَسِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ فَسَافَرَ عَلَيْهَا سَفَرًا عَنِيفًا حَتَّى أَمْرَضَهَا فَمَنْ يُطَالَبُ؟ . الْجَوَابُ: الَّذِي سَلَّمَ الْفَرَسَ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ ضَامِنٌ لِحِصَّةِ شَرِيكِهِ، فَلِلشَّرِيكِ مُطَالَبَتُهُ وَمُطَالَبَةُ الَّذِي أَمْرَضَهَا بِالسَّفَرِ وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ. [بَابُ الرِّبَا] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ بَاعَ عِشْرِينَ نِصْفًا فِضَّةً مَغْشُوشَةً بِعَشَرَةِ أَنْصَافٍ طَيِّبَةٍ وَأَقْبَضَ فِي الْمَجْلِسِ فَهَلِ الْبَيْعُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: هَذِهِ الصُّورَةُ لَهَا أَحْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ فِضَّةُ الْعِشْرِينَ مُسَاوِيَةً لِفِضَّةِ الْعَشَرَةِ وَزْنًا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْهَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ، أَمَّا فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَوَاضِحٌ لِزِيَادَةِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فِي الرِّبَوِيِّ، وَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَهُوَ مِنْ قَاعِدَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ، وَمَنْ بَاعَ رِبَوِيًّا بِمِثْلِهِ وَمَعَ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ جِنْسٌ آخَرُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. [بَابُ الْخِيَارِ] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ اشْتَرَى حُلَّةَ نُحَاسٍ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: هُوَ صَحِيحٌ وَلَكِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ، فَإِذَا وَجَدَ عَيْبًا قَدِيمًا فَلَهُ الرَّدُّ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ بَاعَ جَارِيَةً أَبَقَتْ عِنْدَهُ فَأَبَقَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَاشْتَكَاهُ وَطَالَبَهُ بِثَمَنِهَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَيْسَ لَهُ حَتَّى تَرْجِعَ مِنْ إِبَاقِهَا؟ . الْجَوَابُ: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْجَارِيَةِ وَلَا بِالْأَرْشِ حَتَّى تَرْجِعَ مِنْ إِبَاقِهَا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَّنَ لَهُ هَذَا الْعَيْبَ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْإِبَاقِ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِالثَّمَنِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وَهَذَا الْفَرْعُ عَزِيزُ النَّقْلِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الرافعي وَلَا النووي، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ السبكي فِي تَكْمِلَةِ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا مُغِبَّةٌ فَبَانَتْ حَامِلًا فَهَلْ لَهُ الرَّدُّ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّ الْمُغِبَّةَ فِي الْعُرْفِ مَنِ انْقَطَعَ دَمُهَا فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ لَا بِحَمْلٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانَةُ ظُنَّتْ حَامِلًا فَبَانَتْ مُغِبَّةً. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ اشْتَرَى شَقَّتَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً ثُمَّ وَجَدَ بِإِحْدَاهُمَا عَيْبًا فَهَلْ يَثْبُتُ الْبَيْعُ فِي إِحْدَاهُمَا وَيَفْسُدُ فِي الْأُخْرَى، أَوْ يَفْسُدُ فِيهِمَا، وَهَلْ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى أَرْشِ الشَّقَّةِ لِرَغْبَةِ الْمُشْتَرِي فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ تَصَرَّفَ فِي إِحْدَاهُمَا فَمَا الْحُكْمُ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُ يَمِينٌ أَنَّهُ مَا اطَّلَعَ عَلَى الْعَيْبِ؟ . الْجَوَابُ: الْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي الشَّقَّتَيْنِ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ فَيَرُدُّهُمَا مَعًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَةَ وَيُمْسِكَ السَّلِيمَةَ وَلَا طَلَبُ الْأَرْشِ، نَعَمْ إِذَا تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي وَاحِدَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ بِالْأُخْرَى عَيْبٌ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ حِينَئِذٍ لِتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ بَلْ يُطَالِبُ بِالْأَرْشِ، وَإِذَا ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اطَّلَعَ عَلَى الْعَيْبِ حَلَفَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ. [بَابُ الْإِقَالَةِ] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ بَاعَ حِمَارًا ثُمَّ طَلَبَ مِنَ الْمُشْتَرِي الْإِقَالَةَ فَقَالَ: بِشَرْطِ أَنْ تَبِيعَهُ لِي بَعْدَ ذَلِكَ بِكَذَا فَقَالَ نَعَمْ فَلَمَّا أَقَالَهُ امْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعِ فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِقَالَةُ؟ . الْجَوَابُ: إِنْ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ لَمْ يُدْخِلَاهُ فِي صُلْبِ الْإِقَالَةِ بَلْ تَوَاطَآ عَلَيْهِ قَبْلَهَا ثُمَّ حَصَلَتِ الْإِقَالَةُ، فَالْإِقَالَةُ صَحِيحَةٌ وَالشَّرْطُ لَاغٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ لَهُ ثَانِيًا، وَإِنْ ذَكَرَ الشَّرْطَ فِي صُلْبِ الْإِقَالَةِ فَسَدَتِ الْإِقَالَةُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا سَنَةً ثُمَّ أَجَّرَهُ لِآخَرَ بَاقِيَ إِجَارَتِهِ ثُمَّ تَقَايَلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَوَّلُ مَعَ الْمُؤَجِّرِ فَإِجَارَةُ الثَّانِي صَحِيحَةٌ أَمْ لَا؟ وَمَنْ يُطَالِبُ الْمُسْتَأْجِرَ الثَّانِيَ وَبِمَاذَا يُطَالِبُ بِالثَّمَنِ أَمْ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ؟ . الْجَوَابُ: الَّذِي يَظْهَرُ بُطْلَانُ الْإِقَالَةِ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ بَعْدَ إِيجَارِهَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهَا، وَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَارِدَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ غَيْرُ بَاقِيَةٍ فِي مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 مَا لَوْ تَقَايَلَا فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ بَعْدَ بَيْعِهَا وَهُوَ بَاطِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ، وَإِذَا بَطَلَ التَّقَايُلُ فَالْإِجَارَةُ الثَّانِيَةُ بَاقِيَةٌ وَالْمُطَالَبَةُ لِلْمُؤَجِّرِ الثَّانِي بِمَا أَجَّرَ بِهِ. [بَابُ السَّلَمِ] [أَسْلَمَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ إِرْدَبًّا أُرْزًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَأَقْبَضَ] بَابُ السَّلَمِ مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ إِرْدَبًّا أُرْزًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَأَقْبَضَ رَأْسَ الْمَالِ فَغَلَا السِّعْرُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نِصْفَ هَذَا الْقَدْرِ وَقَالَ: إِنَّمَا جَعَلْتُ الدَّرَاهِمَ عِنْدِي وَدِيعَةً وَقَدِ اشْتَرَيْتُ لَكَ بِهَا هَذَا الْقَدْرَ. الْجَوَابُ: إِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالسَّلَمِ الْمَذْكُورِ لَزِمَهُ أَدَاءُ الْأُرْزِ كَامِلًا وَلَوْ غَلَا السِّعْرُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ حَلَفَ أَنَّهُ مَا أَسْلَمَ إِلَيْهِ وَلَزِمَهُ رَدُّ الْمَالِ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ وَدِيعَةٌ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُدَّعِي قَبُولُ مَا اشْتَرَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ. [قَدْحُ الزَّنْدِ فِي السَّلَمِ فِي الْقَنْدِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي السُّكَّرِ الْخَامِ الْقَائِمِ فِي أَعْسَالِهِ الَّذِي لَا تُضْبَطُ لَهُ نَارٌ، وَإِذَا طُبِخَ وَصَارَ فِي الْأَقْمَاعِ وَطُيِّنَ بِالطِّينِ لَا يُعْلَمُ أَيُّ شَيْءٍ يَحْصُلُ مِنْهُ سُكَّرٌ وَلَا عَسَلٌ، تَارَةً يَحْصُلُ السُّكَّرُ كَثِيرًا وَتَارَةً قَلِيلًا؟ . الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ النووي حَكَى فِي الرَّوْضَةِ وَجْهَيْنِ فِي السَّلَمِ فِي السُّكَّرِ وَلَمْ يُرَجِّحْ مِنْهُمَا شَيْئًا، وَصَحَّحَ فِي تَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ الْجَوَازَ فِي كُلِّ مَا دَخَلَتْهُ نَارٌ لَطِيفَةٌ وَمَثَّلَ بِالسُّكَّرِ، وَقَدْ نَازَعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي ذَلِكَ بِأُمُورٍ مِنْهَا: مَنْعُ كَوْنِ نَارِ السُّكَّرِ لَطِيفَةً بَلْ هِيَ قَوِيَّةٌ، وَمِمَّنْ نَازَعَ بِذَلِكَ ابن الرفعة قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ أَجْدَرُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ مَطْبَخُ سُكَّرٍ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ الرافعي تَصْحِيحُ الْمَنْعِ، قَالَ الإسنوي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: مُقْتَضَى كَلَامِ الرافعي فِي الْكَبِيرِ الْمَنْعُ فِي الْجَمِيعِ - يَعْنِي السُّكَّرَ - وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ إِلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ غَيَّرَهُ حَالَةَ الِاخْتِصَارِ فَحَكَى فِيهِ وَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَقَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: الْأَصَحُّ فِي الْجَمِيعِ هُوَ الْمَنْعُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الرافعي فَإِنَّهُ قَالَ: وَالسَّمْنُ وَالدِّبْسُ وَالسُّكَّرُ وَالْفَانِيدُ كَالْخُبْزِ فَفِي سَلَمِهَا الْوَجْهَانِ، هَذَا لَفْظُهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَهَذَا الْكَلَامُ مُقْتَضَاهُ الْمَنْعُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ; لِأَنَّهُ الصَّحِيحُ فِي الْخُبْزِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي بَابِ الرِّبَا إِلْحَاقُ مَا دَخَلَتْهُ النَّارُ لِلتَّمْيِيزِ بِمَا دَخَلَتْهُ لِلطَّبْخِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، فَأَطْلَقَ النووي ذِكْرَ وَجْهَيْنِ فَقَطْ وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي غَيْرِ التَّصْحِيحِ بِتَصْحِيحٍ - هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الْمُهِمَّاتِ. وَقَالَ الشَّيْخُ ولي الدين العراقي فِي نُكَتِهِ: مُقْتَضَى كَلَامِ الرافعي تَرْجِيحُ الْبُطْلَانِ فِي السَّمْنِ وَالدِّبْسِ وَالسُّكَّرِ وَالْفَانِيدِ فَإِنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الْوَجْهَيْنِ فِي السَّلَمِ فِي الْخُبْزِ وَالْأَصَحُّ فِيهِ الْبُطْلَانُ، وَحَذَفَ فِي الرَّوْضَةِ هَذَا التَّشْبِيهَ وَأَطْلَقَ ذِكْرَ وَجْهَيْنِ، انْتَهَى. وَحَاصِلُ ذَلِكَ مَيْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى تَصْحِيحِ الْمَنْعِ فِي السُّكَّرِ نَقْلًا وَمَعْنًى، أَمَّا النَّقْلُ فَلِأَنَّهُ مُقْتَضَى كَلَامِ الرافعي فِي الشَّرْحِ مَعَ مَا عَضَّدَهُ مِنْ خُلُوِّ كُتُبِ النووي عَنْ تَصْرِيحٍ بِتَصْحِيحٍ سِوَى تَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ، وَإِنَّمَا صَحَّحَ فِيهِ الْجَوَازَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَارَهُ لَطِيفَةٌ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بَلْ ثَبَتَ خِلَافُهُ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُوَّةِ نَارِهِ مَعَ الْقِيَاسِ عَلَى بَابِ الرِّبَا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ نَارِ التَّمْيِيزِ وَغَيْرِهَا إِنْ ثَبَتَ أَنَّ نَارَهُ لَطِيفَةٌ، نَعَمْ جَزَمَ البلقيني بِالْجَوَازِ فِي السُّكَّرِ وَنَقَلَهُ عَنِ النَّصِّ، هَذَا كُلُّهُ فِي السُّكَّرِ وَهُوَ غَيْرُ الْمَسْأَلَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا، أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْمَسْؤُولُ عَنْهَا فَهِيَ الْقَنْدُ وَهُوَ غَيْرُ السُّكَّرِ لُغَةً وَعُرْفًا، أَمَّا لُغَةً فَمَنْ رَاجَعَ كُتُبَ اللُّغَةِ وَجَدَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي التَّعْرِيفِ، وَأَمَّا عُرْفًا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ أَفْرَدُوا الْمَسْأَلَتَيْنِ وَتَكَلَّمُوا عَلَى كُلٍّ عَلَى حِدَتِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالسُّكَّرِ غَيْرَ الْقَائِمِ فِي أَعْسَالِهِ الَّذِي هُوَ الْقَنْدُ، فَمِمَّنْ أَفْرَدَ الْكَلَامَ عَلَى كُلٍّ عَلَى حِدَتِهَا البلقيني فِي التَّدْرِيبِ فَقَالَ عَطْفًا عَلَى مَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ: وَفِي السُّكَّرِ عَلَى النَّصِّ وَفِي الْقَنْدِ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ هَذِهِ عِبَارَتُهُ، لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ولي الدين العراقي فِي فَتَاوِيهِ الْمَيْلُ إِلَى تَصْحِيحِ الْمَنْعِ فِيهِ أَخْذًا مِنْ عُمُومِ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْقَنْدَ لَيْسَ مِثْلِيًّا، فَإِنَّ نَارَهُ قَوِيَّةٌ لَيْسَتْ لِلتَّمْيِيزِ، وَيَخْتَلِفُ جَوْدَةً وَرَدَاءَةً بِحَسَبِ تُرْبَةِ الْقَصَبِ وَجَوْدَةِ الطَّبْخِ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ مَنْعِ الْفُقَهَاءِ السَّلَمَ فِيمَا دَخَلَتْهُ النَّارُ لِلطَّبْخِ، لَكِنْ صَحَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ السَّلَمَ فِي الْقَنْدِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ مِثْلِيٌّ، هَذَا لَفْظُهُ فِي فَتَاوِيهِ، وَمَا جَزَمَ بِهِ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ فَهْمًا عَنِ الْأَصْحَابِ هُوَ الْمُتَّجِهُ، وَبِهِ نُفْتِي، وَلَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ مُصَرَّحًا بِهَا فِي كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ إِلَّا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ مَنْعِهِمَا السَّلَمَ فِيمَا طُبِخَ، وَيَزِيدُ عَلَى السُّكَّرِ غَرَرًا بِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ بِحَسَبِ تُرْبَةِ الْقَصَبِ، فَتَارَةً يَحْصُلُ مِنْهُ السُّكَّرُ كَثِيرًا وَتَارَةً قَلِيلًا بِخِلَافِ السُّكَّرِ فَإِنَّ هَذَا الْغَرَرَ مَعْدُومٌ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 [بَابُ الْقَرْضِ] [اقْتَرَضَ جَارِيَةً مَجُوسِيَّةً] مَسْأَلَةٌ: لَو ِ اقْتَرَضَ جَارِيَةً مَجُوسِيَّةً هَلْ يَجُوزُ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ وَطْئِهَا الْآنَ أَمْ لَا لِاحْتِمَالِ أَنْ تُسْلِمَ، وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتَرِضَ ابْنَتَهَا، وَلَوِ اقْتَرَضَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلَ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا الْأُولَيَانِ فَالْمُتَّجِهُ فِيهِمَا مَنْعُ الِاقْتِرَاضِ كَمَا قَالَهُ الإسنوي فِي أُخْتِ الزَّوْجَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَيَجُوزُ وَذَلِكَ مَنْقُولٌ. [قَطْعُ الْمُجَادَلَةِ عِنْدَ تَغْيِيرِ الْمُعَامَلَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ. . فَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ عَمَّا وَقَعَ كَثِيرًا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ وَهُوَ اخْتِلَافُ الْخُصُومِ فِي الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الْمُنَادَاةِ عَلَى الْفُلُوسِ كُلُّ رِطْلٍ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَهَلْ يُطَالَبُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ اللُّزُومِ أَوْ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ؟ وَهَلْ يُأْخَذُ مِنَ الْفُلُوسِ الْجُدُدُ الْمُتَعَامَلُ بِهَا عَدَدًا بِالْوَزْنِ أَوْ بِالْعَدَدِ؟ فَرَأَيْتُ أَنْ أَنْظُرَ فِي ذَلِكَ وَفِي جَمِيعِ فُرُوعِهِ تَخْرِيجًا عَلَى الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ، وَكَذَا لَوْ نُودِيَ عَلَى الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ عَكْسُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ عِزَّةُ الْفُلُوسِ وَغُلُوُّهَا بَعْدَ كَثْرَتِهَا وَرُخْصِهَا، وَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالُ الدِّينِ البلقيني كَلَامًا مُخْتَصَرًا فَنَسُوقُهُ ثُمَّ نَتَكَلَّمُ بِمَا وَعَدْنَا بِهِ: نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ شَيْخِنَا قَاضِي الْقُضَاةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ عَلَمِ الدِّينِ البلقيني رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي فَوَائِدِ الْأَخِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ جلال الدين وَتَحْرِيرِهِ مَا قَالَ: اتَّفَقَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ عِزَّةُ الْفُلُوسِ بِمِصْرَ وَعَلَى النَّاسِ دُيُونٌ فِي مِصْرَ مِنَ الْفُلُوسِ، وَكَانَ سِعْرُ الْفِضَّةِ قَبْلَ عِزَّةِ الْفُلُوسِ كُلُّ دِرْهَمٍ بِثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ مِنَ الْفُلُوسِ ثُمَّ صَارَ بِتِسْعَةٍ وَكَانَ الدِّينَارُ الْأُفْلُورِيُّ بِمِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا مِنَ الْفُلُوسِ، وَالْهِرْجَةُ بِمِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَالنَّاصِرِيُّ بِمِائَتَيْنِ وَعَشَرَةٍ، وَكَانَ الْقِنْطَارُ الْمِصْرِيُّ سِتَّمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَعَزَّتِ الْفُلُوسُ وَنُودِيَ عَلَى الدِّرْهَمِ بِسَبْعَةِ دَرَاهِمَ، وَعَلَى الدِّينَارِ بِنَاقِصِ خَمْسِينَ، فَوَقَعَ السُّؤَالُ عَمَّنْ لَمْ يَجِدْ فُلُوسًا وَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ صَاحِبُ دَيْنِهِ الْفُلُوسَ فَلَمْ يَجِدْهَا، فَقَالَ: أَعْطِنِي عِوَضًا عَنْهَا ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً بِسِعْرِ يَوْمِ الْمُطَالَبَةِ، مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ؟ ، وَظَهَرَ لِي فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَرِيبَةُ الشَّبَهِ مِنْ مَسْأَلَةِ إِبِلِ الدِّيَةِ، وَالْمَنْقُولُ فِي إِبِلِ الدِّيَةِ أَنَّهَا إِذَا فُقِدَتْ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ عَلَى الْجَدِيدِ، قَالَ الرافعي: فَتَقُومُ الْإِبِلُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَتُرَاعَى صِفَتُهَا فِي التَّغْلِيظِ، فَإِنْ غَلَبَ نَقْدَانِ فِي الْبَلَدِ تَخَيَّرَ الْجَانِي، وَتُقَوَّمُ الْإِبِلُ الَّتِي لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَجَبَ تَسْلِيمُهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ مَعِيبَةٌ وَجَبَتْ قِيمَةُ الصِّحَاحِ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِبِلٌ فَيُقَوَّمُ مِنْ صِنْفِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ، وَحَكَى صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ مَوَاضِعِ الْوُجُودِ أَوْ قِيمَةُ بَلَدِ الْإِعْوَازِ لَوْ كَانَتِ الْإِبِلُ مَوْجُودَةً فِيهَا؟ وَالْأَشْبَهُ الثَّانِي، وَوَقَعَ فِي لَفْظِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ يَوْمِ الْوُجُوبِ، وَالْمُرَادُ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ كَلَامُ الْأَصْحَابِ يَوْمُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ، أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا إِنَّ الدِّيَةَ الْمُؤَجَّلَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ تُقَوَّمُ كُلُّ نَجْمٍ مِنْهَا عِنْدَ مَحَلِّهِ، وَقَالَ الروياني: إِنْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ وَالْإِبِلُ مَفْقُودَةٌ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ، أَمَّا إِذَا وَجَبَتْ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فَلَمْ يَتَّفِقِ الْأَدَاءُ حَتَّى أَعْوَزَتْ تَجِبُ قِيمَةُ يَوْمِ الْإِعْوَازِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ حِينَئِذٍ تَحَوَّلَ إِلَى الْقِيمَةِ انْتَهَى، قَالَ: فَهَذِهِ تُنَاظِرُ مَسْأَلَتَنَا لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ مُتَقَوِّمٌ مَعْلُومُ الْوَزْنِ وَهُوَ قِنْطَارٌ مِنَ الْفُلُوسِ مَثَلًا فَلَمْ يَجِدْهُ، فَإِنْ جَرَيْنَا عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ الَّذِي نَقَلَهُ الرافعي فَلَا يُلْزِمُهُ الْحَاكِمُ إِلَّا بِقِيمَةِ يَوْمِ الْإِقْرَارِ فَيُنْظَرُ فِي سِعْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَوْمَ الْإِقْرَارِ وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا بِمَا قَالَهُ الروياني فَتَجِبُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْإِعْوَازِ فَإِنَّ الْأَقَارِيرَ كَانَتْ قَبْلَ الْعِزَّةِ - انْتَهَى مَا أَجَابَ بِهِ ابن البلقيني. وَاعْلَمْ أَنَّهُ نَحَا فِي جَوَابِهِ إِلَى اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْفُلُوسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا عَدِمَتْ أَوْ عَزَّتْ فَلَمْ تَحْصُلْ إِلَّا بِزِيَادَةٍ، وَالْمِثْلِيُّ إِذَا عَدِمَ أَوْ عَزَّ فَلَمْ يَحْصُلْ إِلَّا بِزِيَادَةٍ لَمْ يَجِبْ تَحْصِيلُهُ كَمَا صَحَّحَهُ النووي فِي الْغَصْبِ بَلْ يُرْجَعُ إِلَى قِيمَتِهِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى هَذَا لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْفُلُوسَ مِنَ الْمُتَقَوِّمَاتِ وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ فِي الْأَصَحِّ، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْمَضْرُوبَانِ مِثْلِيَّانِ بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا أَنَّ فِي الْمَغْشُوشِ مِنْهُمَا وَجْهًا أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ، إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَأَقُولُ: تَتَرَتَّبُ الْفُلُوسُ فِي الذِّمَّةِ بِأُمُورٍ مِنْهَا: الْقَرْضُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْقَرْضَ الصَّحِيحَ يُرَدُّ فِيهِ الْمِثْلُ مُطْلَقًا، فَإِذَا اقْتَرَضَ مِنْهُ رِطْلَ فُلُوسٍ فَالْوَاجِبُ رَدُّ رِطْلٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ سَوَاءٌ زَادَتْ قِيمَتُهُ أَمْ نَقَصَتْ، أَمَّا فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ فَلِأَنَّ الْقَرْضَ كَالسَّلَمِ وَسَيَأْتِي النَّقْلُ فِيهِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ النَّقْصِ فَقَدْ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ زَوَائِدِهِ، وَلَوْ أَقْرَضَهُ نَقْدًا فَأَبْطَلَ السُّلْطَانُ الْمُعَامَلَةَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا النَّقْدُ الَّذِي أَقْرَضَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَ إِبْطَالِهِ فَمَعَ نَقْصِ قِيمَتِهِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَمِنْ صُورَةِ الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ الْمُعَامَلَةُ بِالْوَزْنِ ثُمَّ يُنَادَى عَلَيْهَا بِالْعَدَدِ، وَيَكُونُ الْعَدَدُ أَقَلَّ وَزْنًا، وَقَوْلِي: فَالْوَاجِبُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ الْإِجْبَارُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، هَذَا عَلَى دَفْعِهِ وَهَذَا عَلَى قَبُولِهِ وَبِهِ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ، أَمَّا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى زِيَادَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أَوْ نَقْصٍ فَلَا إِشْكَالَ، فَإِنَّ رَدَّ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْقَرْضِ جَائِزٌ بَلْ مَنْدُوبٌ، وَأَخْذُ أَقَلَّ مِنْهُ إِبْرَاءٌ مِنَ الْبَاقِي، وَقَوْلِي مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ احْتِرَازٌ مِنْ غَيْرِهِ، كَأَنْ أَخَذَ بَدَلَهُ عُرُوضًا أَوْ نَقْدًا ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، وَهَذَا مَرْجِعُهُ إِلَى التَّرَاضِي أَيْضًا، فَإِنَّهُ اسْتِبْدَالٌ وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ وَلَا يُجْبَرُ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَرَادَ أَخْذَ بَدَلِهِ فُلُوسًا مِنَ الْجُدُدِ الْمُتَعَامَلِ بِهَا عَدَدًا فَهَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ لِكَوْنِ الْكُلِّ نُحَاسًا أَوْ لَا لِاخْتِصَاصِهِ بِوَصْفٍ زَائِدٍ وَزِيَادَةِ قِيمَةٍ؟ مَحَلُّ نَظَرٍ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، لَكِنْ لَا إِجْبَارَ فِيهَا أَيْضًا لِاخْتِصَاصِهَا بِمَا ذُكِرَ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى قَدْرٍ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَا يُجْبَرُ الْمَدِينُ عَلَى دَفْعِ رِطْلٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَزْيَدُ قِيمَةً، وَلَا يُجْبَرُ الدَّائِنُ عَلَى أَخْذِ قَدْرِ حَقِّهِ مِنْهَا عَدَدًا لِأَنَّهُ أَنْقَصُ وَزْنًا، فَإِنْ عَدِمَتِ الْفُلُوسُ الْعِتْقَ فَلَمْ تُوجَدْ أَصْلًا رُجِعَ إِلَى قَدْرِ قِيمَتِهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ، فَيُأْخَذُ الْآنَ لَوْ قُدِّرَ انْعِدَامُهَا فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ دِينَارًا، وَلَوِ اقْتَرَضَ مِنْهُ فُلُوسًا عَدَدًا كَسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ ثُمَّ أَبْطَلَ السُّلْطَانُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا عَدَدًا وَجَعَلَهَا وَزْنًا كُلَّ رِطْلٍ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَبَضَهُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِالْوَزْنِ رَجَعَ بِقَدْرِهِ وَزْنًا وَلَا تُعْتَبَرُ زِيَادَةُ قِيمَتِهِ وَلَا نَقْصُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَزْنُهُ مَعْلُومًا فَهُوَ قَرْضٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ شَرْطَ الْقَرْضِ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِالْوَزْنِ أَوِ الْكَيْلِ، وَقَرْضُ الْمَجْهُولِ فَاسِدٌ وَالْعَدَدُ لَا يُعْتَبَرُ بِهِ وَالْمَقْبُوضُ [بِالْقَرْضِ] الْفَاسِدِ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ، وَهُنَا قَدْ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمِثْلِ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِهِ فَيُرْجَعُ إِلَى الْقِيمَةِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ مَا أَخَذَهُ يَوْمَ الْقَبْضِ أَوْ يَوْمَ الصَّرْفِ؟ الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ أَخَذَ مَا قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِهِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ فَيَرُدُّ مَا قِيمَتُهُ الْآنَ كَذَلِكَ وَهُوَ رِطْلٌ أَوْ مِثْلُهُ مِنَ الْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ. فَرْعٌ: فَإِنْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْفِضَّةِ فَإِنِ اقْتَرَضَ مِنْهُ أَنْصَافًا بِالْوَزْنِ ثُمَّ نُودِيَ عَلَيْهَا بِأَنْقَصَ أَوْ بِأَزْيَدَ أَوْ بِالْعَدَدِ أَوِ اقْتَرَضَ عَدَدًا ثُمَّ نُودِيَ عَلَيْهَا بِالْوَزْنِ فَلَا يَخْفَى قِيَاسُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَصْلٌ: وَمِنْهَا السَّلَمُ وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ بِشَرْطِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ قَسْمُ الْعَدَدِ لِاشْتِرَاطِ الْوَزْنِ فِيهِ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ لَزِمَهُ الْقَدْرُ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ وَزْنًا، سَوَاءٌ زَادَتْ قِيمَتُهُ عَمَّا كَانَ وَقْتَ [تَسْلِيمِهِ] السَّلَمَ أَمْ نَقَصَتْ، وَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ بَالِغًا ثَمَنُهُ مَا بَلَغَ، فَإِنْ عَدِمَ فَلَيْسَ إِلَّا الْفَسْخُ وَالرُّجُوعُ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوِ الصَّبْرُ إِلَى الْوُجُودِ وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ فُلُوسًا - وَهِيَ بَاقِيَةٌ بِعَيْنِهَا - أَخَذَهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ رَجَعَ إِلَى مِثْلِهَا وَزْنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فَصْلٌ: وَمِنْهَا ثَمَنُ مَا بِيعَ بِهِ فِي الذِّمَّةِ، قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا: لَوْ بَاعَ بِنَقْدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقٍ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ فَأَبْطَلَ السُّلْطَانُ ذَلِكَ النَّقْدَ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ إِلَّا ذَلِكَ النَّقْدُ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ فَرَخُصَتْ فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ أَجَازَ الْعَقْدَ بِذَلِكَ النَّقْدِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ، كَمَا لَوْ تَغَيَّبَ قَبْلَ الْقَبْضِ انْتَهَى. فَأَقُولُ هُنَا صُوَرٌ أَحَدَهَا أَنْ يَبِيعَ بِرِطْلِ فُلُوسٍ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا رِطْلٌ زَادَ سِعْرُهُ أَمْ نَقَصَ، سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَ الْبَيْعِ وَزْنًا فَجُعِلَ عَدَدًا أَمْ عَكْسُهُ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ بِأُوقِيَّةِ فِضَّةٍ أَوْ عَشَرَةِ أَنْصَافٍ - وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ذَهَبٍ - ثُمَّ تَغَيَّرَ السِّعْرُ فَلَيْسَ إِلَّا الْوَزْنُ الَّذِي سُمِّيَ، الثَّانِيَةُ أَنْ يَبِيعَ بِأَلْفٍ فُلُوسًا أَوْ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا ثُمَّ يَتَغَيَّرُ السِّعْرُ فَظَاهِرُ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ لَهُ مَا يُسَمَّى أَلْفًا عِنْدَ الْبَيْعِ وَلَا عِبْرَةَ بِمَا طَرَأَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ مَا يُسَمَّى أَلْفًا عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَتَكُونُ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ مَحْمُولَةً عَلَى الْجِنْسِ لَا عَلَى الْقَدْرِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ وَإِنْ كَانَ أَوْجَهَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي صُورَةِ الْإِبْطَالِ، إِذْ لَا قِيمَةَ حِينَئِذٍ إِلَّا عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَيَرُدُّهُ أَيْضًا التَّشْبِيهُ بِمَسْأَلَةِ الْحِنْطَةِ إِذَا رَخُصَتْ، الثَّالِثَةُ أَنْ يَبِيعَهُ بِعَدَدٍ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْ مِنَ الْفُلُوسِ كَعَشَرَةِ أَنْصَافٍ أَوْ مِائَةِ فَلْسٍ فِي الذِّمَّةِ وَهِيَ مَجْهُولَةُ الْوَزْنِ فَهَذَا الْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَالْمَقْبُوضُ بِهِ يُرْجَعُ بِقِيمَتِهِ فِيمَا أَطْلَقَهُ الشَّيْخَانِ لَا بِمَا بِيعَ بِهِ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا، وَإِنْ قُلْنَا: يُرْجَعُ فِي الْمِثْلِيِّ مِنْهُ بِالْمِثْلِ كَمَا صَحَّحَهُ الإسنوي فَكَانَ الْمَبِيعُ فُلُوسًا فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْمَغْصُوبِ وَسَيَأْتِي. فَصْلٌ: وَمِنْهَا الْأُجْرَةُ وَفِيهَا الصُّوَرُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَيْعِ، وَالرُّجُوعُ فِي الثَّالِثَةِ إِلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَصْلٌ: وَمِنْهَا الصَّدَاقُ وَفِيهِ الصُّوَرُ الْمَذْكُورَةُ أَيْضًا، وَالرُّجُوعُ فِي الثَّالِثَةِ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. فَصْلٌ: وَمِنْهَا بَدَلُ الْغَصْبِ بِأَنْ غَصَبَ فُلُوسًا أَوْ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا ثُمَّ تَغَيَّرَ سِعْرُهَا، فَإِنْ تَغَيَّرَ إِلَى نَقْصٍ لَزِمَهُ رَدُّ مِثْلٍ يُسَاوِي الْمَغْصُوبَ فِي الْقِيمَةِ فِي أَعْلَى أَحْوَالِهِ مِنَ الْغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ، أَوْ إِلَى زِيَادَةٍ لَزِمَهُ رَدُّ الْمِثْلِ وَزْنًا وَالزِّيَادَةُ لِلْمَالِكِ، فَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَدَدِيًّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ فِي قَدْرِ وَزْنِهِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ. فَصْلٌ: وَمِنْهَا الْمَقْبُوضُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْغَصْبِ وَهُوَ اعْتِبَارُ أَكْثَرِ الْقِيمَةِ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فَصْلٌ: وَمِنْهَا الْإِتْلَافُ بِلَا غَصْبٍ، وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْمِثْلِ وَزْنًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نَقْصٍ وَلَا زِيَادَةٍ، وَكَذَا لَوْ بِيعَتِ الْفُلُوسُ أَوِ الْفِضَّةُ أَوِ الذَّهَبُ ثُمَّ حَصَلَ تَقَايُلٌ بَعْدَ تَلَفِهَا رُجِعَ إِلَى مِثْلِهَا وَزْنًا، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ ثَمَنًا وَتَلِفَتْ ثُمَّ رُدَّ الْمَبِيعُ بِعَيْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوِ الْتُقِطَتْ وَجَاءَ الْمَالِكُ بَعْدَ التَّمَلُّكِ وَالتَّلَفِ فَالرُّجُوعُ فِي الْكُلِّ إِلَى الْمِثْلِ وَزْنًا، وَلَا يُعْتَبَرُ مَا طَرَأَ مِنْ زِيَادَةِ السِّعْرِ أَوْ نَقْصِهِ، وَكَذَا لَوْ بِيعَتْ ثُمَّ حَصَلَ تَخَالُفٌ وَفَسْخٌ وَهِيَ تَالِفَةٌ فِيمَا صَحَّحَهُ صَاحِبُ الْمَطْلَبِ، لَكِنَّ الَّذِي أَطْلَقَهُ الشَّيْخَانِ وُجُوبُ الْقِيمَةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ التَّلَفِ، وَمِنْهَا لَوِ اسْتُعِيرَتْ فَإِنَّ الْأَصَحَّ جَوَازُ إِعَارَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلتَّزْيِينِ، وَالَّذِي أَطْلَقَهُ الشَّيْخَانِ فِي تَلَفِ الْعَارِيَةِ الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ وَيُعْتَبَرُ يَوْمُ التَّلَفِ، وَصَحَّحَ السبكي الرُّجُوعَ بِالْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيِّ، وَالْمُعْتَمَدُ إِطْلَاقُ الشَّيْخَيْنِ، وَمِنْهَا لَوْ أُخِذَتْ عَلَى جِهَةِ السَّوْمِ فَتَلِفَتْ وَفِيهَا الْقِيمَةُ وَيُعْتَبَرُ يَوْمُ الْقَبْضِ فِيمَا صَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَيَوْمُ التَّلَفِ فِيمَا صَحَّحَهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهَا لَوْ أُخِذَتْ عَلَى جِهَةِ الزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ وَاقْتَضَى الْحَالُ الرُّجُوعَ وَهِيَ تَالِفَةٌ رُجِعَ بِمِثْلِهَا وَزْنًا، وَكَذَا لَوْ جُعِلَتْ صَدَاقًا ثُمَّ تُشْطَرُ وَهِيَ تَالِفَةٌ رُجِعَ بِنِصْفِ مِثْلِهَا وَزْنًا، وَمِنْهَا لَوْ أَدَّاهَا الضَّامِنُ عَنِ الْمَضْمُونِ حَيْثُ لَهُ الرُّجُوعُ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقَرْضِ. فَصْلٌ فِي حُكْمِ ذَلِكَ فِي الْأَوْقَافِ: إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ لِأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ مَعْلُومًا مِنْ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ تَغَيَّرَ سِعْرُهَا عَمَّا كَانَ حَالَةَ الْوَقْفِ فَلَهُ حَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُعَلَّقَ ذَلِكَ بِالْوَزْنِ بِأَنْ يَشْرِطَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْ رِطْلَانِ مِنَ الْفُلُوسِ فَالْمُسْتَحَقُّ الْوَزْنُ الَّذِي شَرَطَهُ زَادَ سِعْرُهُ أَمْ نَقَصَ. الثَّانِي: أَنَّ يُعَلِّقَهُ بِغَيْرِهِ كَثَلَاثِمِائَةٍ مَثَلًا وَيَكُونُ هَذَا الْقَدْرُ قِيمَةَ الدِّينَارِ يَوْمَئِذٍ أَوْ قِيمَةَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَنِصْفًا أَوْ قِيمَةَ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ مِنَ الْفُلُوسِ، فَالْعِبْرَةُ بِمَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ، فَلَوْ زَادَ سِعْرُ الدِّينَارِ فَصَارَ بِأَرْبَعِمِائَةٍ فَلَهُ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ دِينَارٌ وَفِي الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِينَارٍ، وَلَوْ نَقَصَ فَصَارَ بِمِائَتَيْنِ فَلَهُ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ دِينَارٌ وَفِي الثَّانِي دِينَارٌ وَنِصْفٌ، وَكَذَا لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ دَرَاهِمِ الْفِضَّةِ أَوْ نَقَصَتْ أَوْ قِيمَةُ أَرْطَالِ الْفُلُوسِ فَالْمُسْتَحَقُّ مَا يُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةٍ فِي الْحَالِ الثَّانِي وَمَا هُوَ الْوَزْنُ الْمُقَرَّرُ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ. فَصْلٌ: إِذَا تَحَصَّلَ رَيْعُ الْوَقْفِ عِنْدَ النَّاظِرِ أَوِ الْمُبَاشِرِ أَوِ الْجَابِي فَنُودِيَ عَلَيْهِ بِرُخْصٍ نُظِرَ، فَإِنْ حَصَلَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي صَرْفِهِ بِأَنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الصَّرْفَ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَحَصَلَ الرَّيْعُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَأُخِّرَ الصَّرْفُ يَوْمًا وَاحِدًا مَعَ حُضُورِ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي الْبَلَدِ عَصَى وَأَثِمَ وَلَزِمَهُ ضَمَانُ مَا نَقَصَ بِالْمُنَادَاةِ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ كَالْغَاصِبِ بِوَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَحَبْسِهِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَإِنْ نُودِيَ عَلَيْهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ لِلْوَقْفِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ بِأَنْ كَانَ شَرَطَ الْوَاقِفُ الصَّرْفَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَثَلًا فَحَصَلَ الرَّيْعُ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ أَوْ حَصَلَ عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي شُرِطَ الصَّرْفُ عِنْدَهُ بَعْضُ الرَّيْعِ وَهُوَ يَسِيرٌ جِدًّا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ وَأُخِّرَ لِيَجْتَمِعَ مَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ فَهَذَا لَا تَقْصِيرَ فِيهِ، وَالنَّقْصُ الْحَاصِلُ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْوَقْفِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْهَا شَيْءٌ، كَمَا لَوْ رَخُصَتْ أُجْرَةُ عَقَارِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ عَلَى الْوَقْفِ، وَلَا يَنْقُصُ بِسَبَبِهَا شَيْءٌ مِنْ مَعَالِيمِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَلَوْ نُودِيَ عَلَيْهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ لِلْوَقْفِ، ثُمَّ عِنْدَ الصَّرْفِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ يُرَاعِي مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَيُعْمَلُ بِمَا يَقْتَضِيهِ. فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ: إِذَا أَوْصَى لَهُ بِأَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَتَغَيَّرَ سِعْرُهَا مِنَ الْوَصِيَّةِ إِلَى الْمَوْتِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَلَى الْحَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْوَقْفِ إِنْ عُلِّقَ بِالْوَزْنِ فَلِلْمُوصَى لَهُ مَا ذُكِرَ سَوَاءٌ زَادَ السِّعْرُ أَمْ نَقَصَ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ فَزَادَتْ قِيمَتُهُ أَوْ نَقَصَتْ وَإِنْ عُلِّقَ بِالْقَدْرِ اسْتَحَقَّ الْقَدْرَ الْمُسَمَّى. فَصْلٌ: وَمِمَّا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ، مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ وَقَرَّرَ لَهُ الْقَاضِي فَرْضًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمُعَامَلَةِ تَارِيخِهِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ عِنْدَ تَغَيُّرِ السِّعْرِ مَا قَدْرُهُ مِائَةٌ يَوْمَ التَّقْرِيرِ أَوْ يَوْمَ الدَّفْعِ؟ وَأَقُولُ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ رَضِيعًا وَالتَّقْرِيرُ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ فَالْحُكْمُ مَا سَبَقَ فِي الْأُجْرَةِ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ صُوَرٍ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ، فَظَاهِرُ مَا فِي الرَّوْضَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ أَنَّ عَلَيْهِ مَا يُسَمَّى مِائَةً عِنْدَ التَّقْرِيرِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ عَلَيْهِ مَا يُسَمَّى مِائَةً عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيدُ فَطِيمًا فَالْمُقَرَّرُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ، وَأَصْلُ الْوَاجِبِ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ الْأَصْنَافُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا رَأَى الْحَاكِمُ تَقْرِيرَ عِوَضٍ عَنْ ذَلِكَ مِنَ النُّقُودِ أَوِ الْفُلُوسِ ثُمَّ تَغَيَّرَ السِّعْرُ فَهَذَا الَّذِي قَرَّرَ لَيْسَ بِلَازِمٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ زَادَ سِعْرُ الْقُوتِ وَالْأُدْمِ احْتِيجَ إِلَى زِيَادَةٍ عَلَى الْمُقَرَّرِ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَا يُسَمَّى مِائَةً عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ قَطْعًا وَلَا يَطْرُقُهُ احْتِمَالٌ أَصْلًا. فَصْلٌ: وَدَيْنُ الْمُكَاتَبَةِ يَأْتِي فِيهِ مَا فِي الْبَيْعِ، وَدَيْنُ الْمُخَارَجَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَالْمَدَارُ فِيهِ عَلَى قُدْرَةِ الْعَبْدِ. فَصْلٌ: وَوَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ طَبَّاخِ الشَّيْخُونِيَّةِ يَأْخُذُ أَنْصِبَاءَ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الطَّعَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وَالْخُبْزِ فَيَبِيعُهَا ثُمَّ يَدْفَعُ لَهُمْ فِي آخِرِ الشَّهْرِ قَدْرًا مَعْلُومًا أَقَلَّ مِمَّا بَاعَ بِهِ، وَأَقُولُ: إِنْ كَانَ أَخْذُهُ لَهَا عَلَى جِهَةِ الشِّرَاءِ مِنْ أَرْبَابِهَا فَهَذَا اشْتِرَاءٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ لِمَا لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، فَحُكْمُهُ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ حُكْمُ الْمَبِيعِ الْفَاسِدِ فَيَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ مِنَ النُّقُودِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَةٍ أَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْ أَرْبَابِهَا فِي الْبَيْعِ فَهُوَ وَكِيلٌ يُجْعَلُ فَبَيْعُهُ وَقَبْضُهُ صَحِيحٌ، ثُمَّ إِنْ جُعِلَ ثَمَنُ نَصِيبِ كَلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ وَلَمْ يَخْلِطْهُ بِغَيْرِهِ وَلَا تَصَرَّفَ فِيهِ دَفَعَهُ إِلَيْهِ بِرُمَّتِهِ، وَلَهُ مِنْهُ الْقَدْرُ الَّذِي شَرَطَ لَهُ كَالثُّلُثِ مَثَلًا، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالتَّصَرُّفِ، فَالْقَدْرُ الَّذِي تَصَرَّفَ فِيهِ يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ وَالْبَاقِي يَدْفَعُهُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ خَلَطَهُ ضَمِنَهُ أَيْضًا بِمِثْلِهِ. فَرْعٌ: مِنْ فَتَاوَى ابن الصلاح، سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مَبْلَغٍ مِنَ الْفُلُوسِ فِي الذِّمَّةِ فَانْعَدَمَ النُّحَاسُ فَهَلْ يُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الْفُلُوسِ بِقِيمَةِ الْبَلَدِ الَّذِي عَقَدُوا النِّكَاحَ فِيهِ أَمْ بِقِيمَةِ الْبَلَدِ الَّذِي تُطَالِبُ فِيهِ؟ فَأَجَابَ: لَا يُرْجَعُ إِلَى قِيمَتِهَا أَصْلًا كَمَا لَا يُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا الرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْفَسْخِ أَوِ الِانْفِسَاخِ. وَهَذِهِ فَوَائِدُ نَخْتِمُ بِهَا الْكِتَابَ: الْأُولَى: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ إِبْطَالُ الْمُعَامَلَةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ لِمَا أَخْرَجَهُ أبو داود عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ( «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُكْسَرَ سِكَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمْ إِلَّا مِنْ بَأْسٍ» ) . الثَّانِيَةُ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ كعب قَالَ: أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّالِثَةُ: قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ( «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا» ) وَلِأَنَّ فِيهِ إِفْسَادًا لِلنُّقُودِ وَإِضْرَارًا بِذَوِي الْحُقُوقِ وَغَلَاءَ الْأَسْعَارِ، وَانْقِطَاعَ الْأَجْلَابِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ ضَرْبُ الْمَغْشُوشِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِمَامِ، وَلِأَنَّ فِيهِ افْتِئَاتًا عَلَى الْإِمَامِ وَلِأَنَّهُ يَخْفَى فَيُغْتَرُّ بِهِ بِخِلَافِ ضَرْبِ الْإِمَامِ. الرَّابِعَةُ: قَالَ الْأَصْحَابُ: يُكْرَهُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَإِنْ كَانَتْ خَالِصَةً لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الْإِمَامِ وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْغِشُّ وَالْإِفْسَادُ. الْخَامِسَةُ: قَالَ الْأَصْحَابُ: مَنْ مَلَكَ دَرَاهِمَ مَغْشُوشَةً كُرِهَ لَهُ إِمْسَاكُهَا بَلْ يَسْبِكُهَا وَيُصَفِّيهَا، قَالَ القاضي أبو الطيب: إِلَّا إِذَا كَانَتْ دَرَاهِمُ الْبَلَدِ مَغْشُوشَةً فَلَا يُكْرَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 إِمْسَاكُهَا، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ إِمْسَاكِ الْمَغْشُوشَةِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ لِأَنَّهُ يَغُرُّ بِهِ وَرَثَتَهُ إِذَا مَاتَ وَغَيْرَهُمْ فِي الْحَيَاةِ، كَذَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. السَّادِسَةُ: قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِي الدَّرَاهِمِ مُسْتَهْلَكًا بِحَيْثُ لَوْ صُفِّيَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صُورَةٌ جَازَتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَهْلَكًا، فَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ مَعْلُومَةً لَا تَخْتَلِفُ صِحَّةُ الْمُعَامَلَةِ بِهَا عَلَى عَيْنِهَا الْحَاضِرَةِ وَفِي الذِّمَّةِ بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ الَّتِي فِيهَا مَجْهُولَةً فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا الْجَوَازُ بِعَيْنِهِ وَفِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَاطُهَا بِالنُّحَاسِ كَمَا لَا يَضُرُّ بَيْعُ الْمَعْجُونَاتِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْرَادُهَا مَجْهُولَةَ الْمِقْدَارِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْفِضَّةُ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ الْمَخْلُوطِ بِالْمَاءِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّالِثُ: يَصِحُّ بِأَعْيَانِهَا وَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهَا فِي الذِّمَّةِ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ بِعَيْنِهِ وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا وَلَا قَرْضُهَا. وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ الْغِشُّ فِيهَا غَالِبًا لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ. السَّابِعَةُ: قَالَ الخطابي: كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَعَامَلُونَ بِالدَّرَاهِمِ عَدَدًا وَقْتَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عائشة فِي قِصَّةِ شِرَائِهَا بريرة: إِنْ شَاءَ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً فَعَلْتُ تُرِيدُ الدَّرَاهِمَ، فَأَرْشَدَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْوَزْنِ، وَجَعَلَ الْمِعْيَارَ وَزْنَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْوَزْنُ الْجَارِي بَيْنَهُمْ فِي الدِّرْهَمِ سِتَّةَ دَوَانِيقَ - وَهُوَ دِرْهَمُ الْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ - وَكَانَتِ الدَّرَاهِمُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُخْتَلِفَةَ الْأَوْزَانِ فِي الْبُلْدَانِ، فَمِنْهَا الْبَغْلِيُّ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ، وَالطَّبَرِيُّ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ، وَكَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا مُنَاصَفَةً مِائَةً بَغْلِيَّةً وَمِائَةً طَبَرِيَّةً، فَكَانَ فِي الْمِائَتَيْنِ مِنْهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ زَكَاةً، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ بَنِي أُمَيَّةَ قَالُوا: إِنْ ضَرَبْنَا الْبَغْلِيَّةَ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهَا الَّتِي تُعْتَبَرُ لِلزَّكَاةِ فَيُضَرُّ الْفُقَرَاءُ، وَإِنْ ضَرَبْنَا الطَّبَرِيَّةَ ضُرَّ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فَجَمَعُوا الدِّرْهَمَ الْبَغْلِيَّ وَالطَّبَرِيَّ وَفَعَلُوهُمَا دِرْهَمَيْنِ كُلُّ دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ، وَأَمَّا الدَّنَانِيرُ فَكَانَتْ تُحْمَلُ إِلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، فَلَمَّا أَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ضَرْبَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ سَأَلَ عَنْ أَوْزَانِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَجْمَعُوا لَهُ عَلَى أَنَّ الْمِثْقَالَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا إِلَّا حَبَّةً بِالشَّامِيِّ، وَأَنَّ كُلَّ عَشَرَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ فَضَرَبَهَا - انْتَهَى كَلَامُ الخطابي. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: اسْتَقَرَّ فِي الْإِسْلَامِ وَزْنُ الدِّرْهَمِ سِتَّةَ دَوَانِيقَ كُلُّ عَشَرَةٍ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ اسْتِقْرَارِهَا عَلَى هَذَا الْوَزْنِ فَقِيلَ كَانَتْ فِي الْفُرْسِ ثَلَاثَةُ أَوْزَانٍ مِنْهَا دِرْهَمٌ عَلَى وَزْنِ الْمِثْقَالِ عِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَدِرْهَمٌ اثْنَا عَشَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وَدِرْهَمٌ عَشْرٌ، فَلَمَّا احْتِيجَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى تَقْدِيرِهِ أُخِذَ الْوَسَطُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْزَانِ الثَّلَاثَةِ - وَهُوَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ قِيرَاطًا - فَكَانَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا مِنْ قَرَارِيطِ الْمِثْقَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى الدَّرَاهِمَ مُخْتَلِفَةً، مِنْهَا الْبَغْلِيُّ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ، وَالطَّبَرِيُّ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ، وَالْيَمَنِيُّ دَانِقٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ: انْظُرُوا أَغْلَبَ مَا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِهِ مِنْ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا، فَكَانَ الْبَغْلِيُّ وَالطَّبَرِيُّ فَجُمِعَا فَكَانَا اثْنَيْ عَشَرَ دَانِقًا، فَأَخَذَ نِصْفَهَا فَجَعَلَهَا سِتَّةَ دَوَانِيقَ، فَجَعَلَهُ دِرْهَمَ الْإِسْلَامِ، قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ ضَرَبَهَا فِي الْإِسْلَامِ فَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَهَا فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: أَمَرَ عبد الملك بِضَرْبِهَا فِي الْعِرَاقِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَالَ المدائني: بَلْ ضَرَبَهَا فِي آخِرِ سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِهَا فِي النَّوَاحِي سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، قَالَ: وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَهَا مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَمْرِ أَخِيهِ عبد الله بن الزبير سَنَةَ سَبْعِينَ عَلَى ضَرْبِ الْأَكَاسِرَةِ، ثُمَّ غَيَّرَهَا الحجاج، انْتَهَى كَلَامُ الْمَاوَرْدِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: كَانَتِ الدَّنَانِيرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِالشَّامِ وَعِنْدَ عَرَبِ الْحِجَازِ كُلُّهَا رُومِيَّةً تُضْرَبُ بِبِلَادِ الرُّومِ، عَلَيْهَا صُورَةُ الْمَلِكِ وَاسْمُ الَّذِي ضُرِبَتْ فِي أَيَّامِهِ مَكْتُوبٌ بِالرُّومِيَّةِ، وَوَزْنُ كُلِّ دِينَارٍ مِنْهَا مِثْقَالٌ كِمِثْقَالِنَا هَذَا - وَهُوَ وَزْنُ دِرْهَمَيْنِ وَدَانِقَيْنِ وَنِصْفٍ وَخَمْسَةِ أَسْبَاعِ حَبَّةٍ -. وَكَانَتِ الدَّرَاهِمُ بِالْعِرَاقِ وَأَرْضِ الْمَشْرِقِ كُلُّهَا كِسْرَوِيَّةً عَلَيْهَا صُورَةُ كِسْرَى وَاسْمُهُ فِيهَا مَكْتُوبٌ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَوَزْنُ كُلِّ دِرْهَمٍ مِنْهَا مِثْقَالٌ، فَكَتَبَ مَلِكُ الرُّومِ - وَاسْمُهُ لاوي بن قرفط - إِلَى عبد الملك أَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُ سِكَكًا لِيُوَجِّهَ بِهَا إِلَيْهِ فَيَضْرِبَ عَلَيْهَا الدَّنَانِيرَ، فَقَالَ عبد الملك لِرَسُولِهِ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا قَدْ عَمِلْنَا سِكَكًا نَقَشْنَا عَلَيْهَا تَوْحِيدَ اللَّهِ وَاسْمَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عبد الملك قَدْ جَعَلَ لِلدَّنَانِيرِ مَثَاقِيلَ مِنْ زُجَاجٍ لِئَلَّا تُغَيَّرَ أَوْ تُحَوَّلَ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ حِجَارَةٍ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ أَنْ لَا يَتَبَايَعَ أَحَدٌ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ نِدَائِهِ بِدِينَارٍ رُومِيٍّ، فَضَرَبَ الدَّنَانِيرَ الْعَرَبِيَّةَ وَبَطَلَتِ الرُّومِيَّةُ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْأُوقِيَّةُ وَالدَّرَاهِمُ مَجْهُولَةً فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي أَعْدَادٍ مِنْهَا وَيَقَعُ بِهَا الْمُبَايَعَاتُ وَالْأَنْكِحَةُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، قَالَ: وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً إِلَى زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَأَنَّهُ جَمَعَهَا بِرَأْيِ الْعُلَمَاءِ وَجَعَلَ كُلَّ عَشَرَةٍ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ وَوَزْنَ الدِّرْهَمِ سِتَّةَ دَوَانِيقَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَى مَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا شَيْءٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى صِفَةٍ لَا تَخْتَلِفُ، بَلْ كَانَتْ مَجْمُوعَاتٍ مِنْ ضَرْبِ فَارِسَ وَالرُّومِ وَصِغَارًا وَكِبَارًا وَقِطَعَ فِضَّةٍ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ وَلَا مَنْقُوشَةٍ وَيَمَنِيَّةً وَمَغْرِبِيَّةً، فَرَأَوْا صَرْفَهَا إِلَى ضَرْبِ الْإِسْلَامِ وَنَقْشِهِ وَتَصْيِيرَهَا وَزْنًا وَاحِدًا وَأَعْيَانًا يُسْتَغْنَى فِيهَا عَنِ الْمَوَازِينِ فَجَمَعُوا أَكْبَرَهَا وَأَصْغَرَهَا وَضَرَبُوهُ عَلَى وَزْنِهِمْ. وَقَالَ الرافعي: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى التَّقْدِيرِ بِهَذَا الْوَزْنِ وَهُوَ أَنَّ الدِّرْهَمَ سِتَّةُ دَوَانِيقَ كُلُّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْمِثْقَالُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا الْإِسْلَامِ. وَقَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: الصَّحِيحُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ اعْتِمَادُهُ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمُطْلَقَةَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْوَزْنِ مَعْرُوفَةَ الْمِقْدَارِ - وَهِيَ السَّابِقَةُ إِلَى الْأَفْهَامِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَبِهَا تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْحُقُوقِ وَالْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ - وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا كَوْنُهُ كَانَ هُنَاكَ دَرَاهِمُ أُخْرَى أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ، فَإِطْلَاقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّرَاهِمَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَفْهُومِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ كُلُّ دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ كُلُّ عَشَرَةٍ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ. وَأَمَّا مِقْدَارُ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ فَقَالَ الْحَافِظُ أبو محمد عبد الحق فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: بَحَثْتُ غَايَةَ الْبَحْثِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ وَثِقْتُ بِتَمْيِيزِهِ فَكَلٌّ اتَّفَقَ عَلَى أَنَّ دِينَارَ الذَّهَبِ بِمَكَّةَ وَزْنُهُ ثِنْتَانِ وَثَمَانُونَ حَبَّةً وَثَلَاثَةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ مِنْ حَبِّ الشَّعِيرِ الْمُطْلَقِ وَالدِّرْهَمُ سَبْعَةُ أَعْشَارِ الْمِثْقَالِ، فَوَزْنُ الدِّرْهَمِ الْمَكِّيِّ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ وَسِتَّةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ وَعُشْرُ عُشْرِ حَبَّةٍ، وَالرِّطْلُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بِالدِّرْهَمِ الْمَذْكُورِ - هَذَا كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ. قَالَ النووي بَعْدَ إِيرَادِهِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: وَزْنُ الرِّطْلِ الْبَغْدَادِيِّ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَهُوَ تِسْعُونَ مِثْقَالًا، انْتَهَى. وَقَالَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ: حَدَّثَنَا محمد بن عمر الواقدي، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ضَرَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ضَرْبَهَا وَنَقَشَ عَلَيْهَا -. وَفِي الْأَوَائِلِ للعسكري أَنَّهُ نَقَشَ عَلَيْهَا اسْمَهُ، وَأَخْرَجَ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سفيان قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ وَزْنَ سَبْعَةٍ الحارث بن أبي ربيعة - يَعْنِي الْعَشَرَةَ عَدَدًا سَبْعَةً وَزْنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ مغيرة قَالَ: أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ الزُّيُوفَ عبيد الله بن زياد وَهُوَ قَاتِلُ الحسين. وَفِي تَارِيخِ الذهبي: أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ الْأُمَوِيُّ الْقَائِمُ بِالْأَنْدَلُسِ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِمَا يُحْمَلُ إِلَيْهِمْ مِنْ دَرَاهِمِ الْمَشْرِقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أبي جعفر قَالَ: الْقِنْطَارُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ مِثْقَالٍ، وَالْمِثْقَالُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ السدي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران: 14] قَالَ: يَعْنِي الْمَضْرُوبَةَ حَتَّى صَارَتْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ. الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: فِي تَحْرِيرِ الدَّرَاهِمِ النُّقْرَةُ الَّتِي كَانَ يُتَعَامَلُ بِهَا فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ وَشَرَطَهَا أَرْبَابُ الدَّوْلَةِ الْقَلَاوُونِيَّةِ فِي أَوْقَافِهِمْ كشيخون، وصرغتمش، وَنَحْوِهِمَا، قَالَ الذهبي فِي تَارِيخِهِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ: أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْصِرُ بِضَرْبِ الدَّرَاهِمِ الْفِضَّةِ لِيُتَعَامَلَ بِهَا بَدَلًا عَنْ قُرَاضَةِ الذَّهَبِ، فَجَلَسَ الْوَزِيرُ وَأَحْضَرَ الْوُلَاةَ وَالتُّجَّارَ وَالصَّيَارِفَةَ وَفُرِشَتِ الْأَنْطَاعُ وَأُفْرِغَ عَلَيْهَا الدَّرَاهِمُ، وَقَالَ الْوَزِيرُ: قَدْ رَسَمَ مَوْلَانَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمُعَامَلَتِكُمْ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عِوَضًا عَنْ قُرَاضَةِ الذَّهَبِ رِفْقًا بِكُمْ وَإِنْقَاذًا لَكُمْ مِنَ التَّعَامُلِ بِالْحَرَامِ مِنَ الصَّرْفِ الرِّبَوِيِّ فَأَعْلِنُوا بِالدُّعَاءِ، ثُمَّ أُدِيرَتْ بِالْعِرَاقِ وَسُعِّرَتْ كُلُّ عَشَرَةٍ بِدِينَارٍ، فَقَالَ الموفق أبو المعالي بن أبي الحديد الشَّاعِرُ فِي ذَلِكَ: لَا عَدِمْنَا جَمِيلَ رَأْيِكَ فِينَا ... أَنْتَ بَاعَدْتَنَا عَنِ التَّطْفِيفِ وَرَسَمْتَ اللُّجَيْنَ حَتَّى أَلِفْنَا ... هُ وَمَا كَانَ قَبْلُ بِالْمَأْلُوفِ لَيْسَ لِلْجَمْعِ كَانَ مَنْعُكَ لِلصَّرْ ... فِ وَلَكِنْ لِلْعَدْلِ وَالتَّعْرِيفِ وَقَالَ ابن كثير فِي تَارِيخِهِ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ رَسَمَ السلطان الملك الناصر حسن بِضَرْبِ فُلُوسٍ جُدُدٍ عَلَى قَدْرِ الدِّينَارِ وَوَزْنِهِ وَجَعَلَ كُلَّ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فِلْسًا بِدِرْهَمٍ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ الْفُلُوسُ الْعِتْقُ كُلُّ رِطْلٍ وَنِصْفٍ بِدِرْهَمٍ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الدَّرَاهِمَ النُّقْرَةَ كَانَ سِعْرُهَا كُلُّ دِرْهَمٍ ثُلُثَا رِطْلٍ مِنَ الْفُلُوسِ، كَمَا أَنَّ مَا قَالَهُ الذهبي صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ كَانَ سِعْرُهَا حِينَ ضُرِبَتْ كُلُّ دِرْهَمٍ عُشْرُ دِينَارٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 حجر فِي تَارِيخِهِ: أَنْبَاءُ الْغُمْرِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِيعَ الْإِرْدَبُّ الْقَمْحُ بِمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا نُقْرَةً وَقِيمَتُهَا إِذْ ذَاكَ سِتُّ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ وَرُبْعٌ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا مِثْقَالٌ. وَقَالَ ابن حجر أَيْضًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ: غَلَا الْبَيْضُ بِدِمَشْقَ فَبِيعَتِ الْحَبَّةُ الْوَاحِدَةُ بِثُلُثِ دِرْهَمٍ مِنْ حِسَابِ سِتِّينَ بِدِينَارٍ، وَهَذَا أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُلَّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا مِثْقَالٌ. التَّاسِعَةُ: التَّعَامُلُ بِالْفُلُوسِ قَدِيمٌ، قَالَ الجوهري فِي الصِّحَاحِ: الْفَلْسُ يُجْمَعُ عَلَى أَفْلُسٍ وَفُلُوسٍ، وَقَدْ أَفْلَسَ الرَّجُلُ صَارَ مُفْلِسًا كَأَنَّمَا صَارَتْ دَرَاهِمُهُ فُلُوسًا وَزُيُوفًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ صَارَ إِلَى حَالٍ يُقَالُ فِيهَا لَيْسَ مَعَهُ فَلْسٌ انْتَهَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهَا فِي زَمَنِ الْعَرَبِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: ثَنَا محمد بن أبان عَنْ حماد عَنْ إبراهيم قَالَ: لَا بَأْسَ بِالسَّلَفِ فِي الْفُلُوسِ، أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا رِبَا فِي الْفُلُوسِ - وإبراهيم هُوَ النَّخَعِيُّ -، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهَا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ يَدًا بِيَدٍ، وَأَخْرَجَ عَنْ حماد مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْفُلُوسَ بِالدَّرَاهِمِ قَالَ: هُوَ صَرْفٌ فَلَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَهُ، وَذَكَرَ الصولي فِي كِتَابِ الْأَوْرَاقِ أَنَّهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلِيَ هارون بن إبراهيم الهاشمي حِسْبَةَ بَغْدَادَ فِي زَمَنِ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَمِدِ فَأَمَرَ أَهْلَ بَغْدَادَ أَنْ يَتَعَامَلُوا بِالْفُلُوسِ فَتَعَامَلُوا بِهَا عَلَى كُرْهٍ ثُمَّ تَرَكُوهَا. الْعَاشِرَةُ: أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ زَافَتْ عَلَيْهِ وَرَقَةٌ فَلَا يُخَالِفِ النَّاسَ أَنَّهَا طِيَابٌ وَلْيَبْتَعْ بِهَا سَمَلَ ثَوْبٍ أَوْ سَحْقَ ثَوْبٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ بَاعَ نُفَايَةَ بَيْتِ الْمَالِ زُيُوفًا وَقَسِيَّاتٍ بِدَرَاهِمَ دُونَ وَزْنِهَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَنَهَاهُ وَقَالَ: أَوْقِدْ عَلَيْهَا حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِيهَا مِنْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ حَتَّى تَخْلُصَ الْفِضَّةُ ثُمَّ بِعِ الْفِضَّةَ بِوَزْنِهَا. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَرْضُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَأَخْرَجَ عَنْ عطاء فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] قَالَ: كَانُوا يُقْرِضُونَ الدَّرَاهِمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الثَّانِيَةَ عَشْرَ: قَالَ العسكري فِي الْأَوَائِلِ: أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ أَلْسِنَةَ الْمَوَازِينِ مِنَ الْحَدِيدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ. [بَابُ الرَّهْنِ] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ رَهَنَ بَيْتًا فِيهِ مُطَلَّقَتُهُ الْمُعْتَدَّةُ، فَهَلْ يَصِحُّ الْقَبْضُ لَهُ عَنِ الرَّهْنِ وَهُوَ مَشْحُونٌ بِأَمْتِعَةِ مُطَلَّقَتِهِ؟ . الْجَوَابُ: يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ فِي الشَّرْحِ وَالْمُحَرَّرَ وَالرَّوْضَةِ وَالْمِنْهَاجِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَبَّرَا فِي قَبْضِ الْعَقَارِ بِأَنْ قَالَا: يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ مِنْهُ بِشَرْطِ فَرَاغِهِ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبَائِعِ، وَكَذَا عَبَّرَ الْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ، والقمولي فِي الْجَوَاهِرِ، فَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي لَفْظَةِ الْبَائِعِ هَلْ هِيَ قَيْدٌ أَوْ مِثَالٌ؟ فَقَالَ الإسنوي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: خَرَجَ بِقَوْلِهِ: أَمْتِعَةُ الْبَائِعِ أَمْتِعَةُ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْغَاصِبِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا التَّعْمِيمِ نَظَرٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَنَقَلَ الشَّيْخُ ولي الدين العراقي هَذَا الْكَلَامَ فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي النُّكَتِ، وَكَذَا قَالَ ابن الملقن: تَقْيِيدُهُ بِأَمْتِعَةِ الْبَائِعِ يُخْرِجُ مَا عَدَاهُ كَأَمْتِعَةِ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَا ابن النقيب فِي نُكَتِهِ، وَأَمَّا السبكي فَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا بَلْ قَالَ عَقِبَ عِبَارَةِ الْمِنْهَاجِ: فَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّسْلِيمِ تَفْرِيغُهَا، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْغُنْيَةِ: ذِكْرُ الْبَائِعِ يُوهِمُ التَّقْيِيدَ بِهِ، وَأَمْتِعَةُ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْغَاصِبِ كَأَمْتِعَةِ الْبَائِعِ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِأَمْتِعَةِ الْمُشْتَرِي فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّفْرِيغُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ، وَقَالَ فِي التَّوَسُّطِ: قَوْلُهُ بِأَمْتِعَةِ الْبَائِعِ مِثَالٌ ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ احْتَرَزَ بِأَمْتِعَةِ الْبَائِعِ عَنْ أَمْتِعَةِ الْمُشْتَرِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ وَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَأَغْرَبَ الإسنوي فَقَالَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مَا عَدَاهُ، وَاغْتَرَّ بِهِ مَنْ شَرَحَ الْمِنْهَاجَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهَذَا تَخْلِيطٌ، وَلَمْ يَنْظُرْ قَوْلَهُ فِي السَّفِينَةِ مَشْحُونَةً بِالْقُمَاشِ وَهُوَ يَشْمَلُ قُمَاشَ الْبَائِعِ وَغَيْرَهُ - انْتَهَى، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ ابن المقري فِي مُخْتَصَرِ الرَّوْضَةِ: بِشَرْطِ فَرَاغِهِ مِنْ مَتَاعٍ فَنَكَّرَهُ لِيَعُمَّ مَتَاعَ الْبَائِعِ وَغَيْرَهُ، إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَنَعُودُ إِلَى مَسْأَلَتِنَا فَالْقَبْضُ فِي الرَّهْنِ كَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِأَمْتِعَةِ الرَّاهِنِ لَمْ يَصِحَّ بِلَا شَكٍّ أَوِ الْمُرْتَهِنِ صَحَّ بِلَا شَكٍّ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ وَنَحْوِهِ، فَعَلَى جَعْلِهِ قَيْدًا يَصِحُّ وَعَلَى جَعْلِهِ مِثَالًا لَا يَصِحُّ، وَأَمْتِعَةُ الْمُعْتَدَّةِ لَيْسَتْ كَالْمَالِكِ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ بَلْ كَالْمُسْتَأْجِرِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي بَيْعِ الدَّارِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِسُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ، وَالظَّاهِرُ فِي الْمُسْتَأْجِرِ وَنَحْوِهِ عَدَمُ الصِّحَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 مَسْأَلَةٌ: مَاذَا تَقُولُونَ لَا زَالَ الزَّمَانُ بِكُمْ ... زَاهٍ وَعِلْمُكُمُ فِي الْأَرْضِ مُنْتَشِرَا فِي مُسْلِمٍ أَسْلَمَ الذِّمِّيَّ تَوْثِقَةً ... فِي الدَّيْنِ رَهْنًا عَلَى حَقٍّ بِغَيْرِ مِرَا فَضَاعَ لَيْلًا مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي سُرِقَتْ ... حَاجَاتُهُ ثُمَّ شَاعَ الْقَوْلُ وَاشْتَهَرَا فَخَاصَمَ الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ مُدَّعِيًا ... بِرَهْنِهِ عِنْدَ قَاضٍ شَافِعِي ذَكَرَا فَأَلْزَمَ الْحَاكِمُ الذِّمِّيَّ مُعْتَمِدًا ... مَا لَمْ يَقُلْهُ إِمَامٌ كَانَ مُعْتَبَرَا هَلْ حُكْمُهُ بَاطِلٌ يَا ذَا الْعُلُومِ وَهَلْ ... لِلشَّافِعِيَّةِ نَقْلٌ بِالَّذِي صَدَرَا؟ جُوزِيتُمُ بِنَعِيمٍ فِي الْجِنَانِ غَدًا ... عِنْدَ الْإِلَهِ الَّذِي لِلْعَالَمِينَ بَرَا ثُمَّ الصَّلَاةُ وَتَسْلِيمُ الْإِلَهِ عَلَى ... طَهَ الْحَبِيبِ وَمَنْ وَالَاهُ أَوْ نَصَرَا مَا لَاحَ بَرْقٌ وَمَا نَاحَتْ مُطَوَّقَةٌ ... عَلَى الْغُصُونِ وَهَبَّتْ نَسْمَةٌ سَحَرَا الْجَوَابُ: أَقُولُ مِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللَّهِ جَلَّ عَلَى ... إِنْعَامِهِ وَأَجَلَّ الْحَمْدَ مَنْ شَكَرَا ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ مَنْ ... عَمَّتْ رِسَالَتُهُ مَنْ جَاءَ أَوْ غَبَرَا إِنْ يُسْرَقِ الرَّهْنُ مِنْ حِرْزٍ يَلِيقُ فَلَا ... ضَمَانَ يَلْزَمُ مَنْ ذَا فِي يَدَيْهِ جَرَى وَقَوْلُهُ بِيَمِينٍ مِنْهُ نَقْبَلُهُ ... وَلَمْ يُكَلَّفْ بَيَانًا فَهْوَ مَا ظَهَرَا وَإِنْ يُقَصِّرْ وَلَمْ يَجْعَلْهُ فِي سَكَنِ ... حِرْزٍ يَلِيقُ بِهِ يَضْمَنُهُ مُعْتَبَرَا قَدْ خَطَّ مُعْتَمِدًا أَحْكَامَ مَذْهَبِهِ ... هَذَا جَوَابُ ابن الاسيوطي مُسْتَطَرَا [بَابُ الصُّلْحِ] مَسْأَلَةٌ: زُقَاقٌ غَيْرُ نَافِذٍ بِهِ بُيُوتٌ وَعَلَى كَتِفِهِ مَخْزَنٌ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْبُيُوتِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الزُّقَاقِ بَابًا يَصُونُ بِهِ بُيُوتَهُ وَيَبْنِي عَلَى الْبَابِ طَبَقَةً فَهَلْ لِصَاحِبِ الْمَخْزَنِ مَنْعُهُ؟ . الْجَوَابُ: إِنْ كَانَ بَابُ الْمَخْزَنِ دَاخِلَ الزُّقَاقِ فَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ بِنَاءِ بَابٍ وَطَبَقَةٍ عُلْوَهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَصِيرُ بَابُ الْمَخْزَنِ دَاخِلَ الْبَابِ، وَإِنْ كَانَ الْبَابُ يُبْنَى دَاخِلًا بِحَيْثُ يَصِيرُ بَابُ الْمَخْزَنِ خَارِجَهُ فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلَانِ لَهُمَا مَنْزِلٌ مُشْتَرَكٌ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ لِآخَرَ وَلِلْمُشْتَرِي بِجِوَارِهِ مَنْزِلٌ، فَجَدَّدَ عِمَارَةَ مَنْزِلِهِ وَأَضَافَ لَهُ قِطْعَةً مِنَ الْمُشْتَرَكِ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ هَدْمُهُ أَوْ قِيمَةُ نِصْفِ الْقِطْعَةِ؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الْجَوَابُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَسَّمَ فَإِنْ خَرَجَ لَهُ الشِّقُّ الَّذِي فِيهِ الْبِنَاءُ اخْتَصَّ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِلَّا خُيِّرَ شَرِيكُهُ بَيْنَ الْقَلْعِ بِلَا غُرْمٍ وَبَيْنَ الْإِبْقَاءِ بِالْأُجْرَةِ. [بَابُ الْحَوَالَةِ] مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ جَبَى بِالْأَمَانَةِ رَيْعَ وَقْفٍ بِإِذْنِ نَاظِرٍ شَرْعِيٍّ وَصَرَفَ ذَلِكَ لِلْمُسْتَحِقِّينَ، وَالْعِمَارَةُ بِإِذْنِهِ وَفَضَلَ لَهُ شَيْءٌ، وَمِنَ الْوَقْفِ حَمَّامٌ تَجَمَّدَ عَلَى مُسْتَأْجِرِهَا مِنْ أُجْرَتِهَا شَيْءٌ فَأَحَالَ النَّاظِرُ الْجَابِيَ عَلَيْهِ بِمَا فَضَلَ لَهُ فَهَلْ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْيِينِ جِهَةٍ لِلدَّيْنِ الْمُسْتَقِرِّ عَلَى الْوَقْفِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ أَحَالَ رَجُلًا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ ثُمَّ تَقَايَلَا أَحْكَامَ الْحَوَالَةِ وَمَاتَ الْمُحْتَالُ فَادَّعَى وَارِثُهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالْمَبْلَغِ الْمُحَالِ بِهِ وَقَبَضَهُ مِنْهُ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ؟ . الْجَوَابُ: الْمَنْقُولُ عَنِ الرافعي أَنَّهُ جَزَمَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ فِي الْحَوَالَةِ وَإِنْ كَانَ البلقيني حَكَى عَنِ الخوارزمي فِيهَا خِلَافًا وَصَحَّحَ الْجَوَازَ، فَعَلَى مَا جَزَمَ بِهِ الرافعي يَكُونُ مَا قَبَضَهُ وَارِثُ الْمُحْتَالِ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ صَحِيحًا وَاقِعًا مَوْقِعَهُ وَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ. مَسْأَلَةٌ: شَخْصٌ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ بِهِ ضَمَانٌ أَحَالَ بِهِ شَخْصًا عَلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَالضَّامِنِ فَهَلِ الْحَوَالَةُ صَحِيحَةٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا صَحَّتْ فَهَلْ يُطَالَبُ الْأَصِيلُ عَلَى انْفِرَادِهِ أَوِ الضَّامِنُ أَوْ هُمَا مَعًا. الْجَوَابُ: هَذِهِ الْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ فَإِنَّ الرافعي والنووي حَكَيَا فِي صِحَّتِهَا وَجْهَيْنِ وَلَمْ يُرَجِّحَا شَيْئًا، وَصَحَّحَ البلقيني الْبُطْلَانَ وَوَجْهُهُ كَمَا قَالَ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ وَاحِدٍ فَلَا يَسْتَفِيدُ بِالْحَوَالَةِ زِيَادَةَ صِفَةٍ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلِ دَيْنٌ فَمَاتَ الدَّائِنُ وَلَهُ وَرَثَةٌ فَأَخَذَ الْأَوْصِيَاءُ مِنَ الْمَدِينِ بَعْضَ الدَّيْنِ وَأَحَالَهُمْ عَلَى آخَرَ بِالْبَاقِي فَقَبِلُوا الْحَوَالَةَ وَضَمِنُوا آخَرَ فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَهَلْ لَهُمُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: يُطَالِبُونَ الضَّامِنَ وَتَرِكَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ إِفْلَاسُهُمَا بَانَ فَسَادُ الْحَوَالَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ لِلْأَيْتَامِ فَيَرْجِعُونَ عَلَى الْمُحِيلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 [بَابُ الضَّمَانِ] مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَئِمَّتُنَا فِيمَنْ أَذِنَ لِرَجُلٍ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ دَيْنَهُ وَهُوَ عَشَرَةٌ فَصَالَحَ الْمَأْذُونُ رَبَّ الدَّيْنِ مِنْهَا عَلَى نِصْفِهَا أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْعَشَرَةِ، وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَبْرَأَ مِنْ خَمْسَةٍ وَقَبَضَ خَمْسَةً رَجَعَ الْمَأْذُونُ بِخَمْسَةٍ فَقَطْ، وَهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الصُّلْحَ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى بَعْضِهِ إِبْرَاءٌ لِبَاقِيهِ، فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كُلُّ صُلْحِ حَطِيطَةٍ إِبْرَاءً مِنَ الْبَاقِي، وَإِمَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ إِبْرَاءٍ وَإِبْرَاءٍ بِفَرْقٍ يُعْقَلُ مَعْنَاهُ. الْجَوَابُ: قَوْلُ السَّائِلِ فِي صُورَةِ الصُّلْحِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِعَشَرَةٍ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ فِي الرَّوْضَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يَرْجِعُ إِلَّا بِخَمْسَةٍ وَلَمْ يَحْكِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الصُّورَتَانِ فِي أَنَّ صُورَةَ الصُّلْحِ يَبْرَأُ فِيهَا الضَّامِنُ وَالْأَصِيلُ مِنَ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ، وَصُورَةُ الْإِبْرَاءِ لَا يَبْرَأُ فِيهَا مِنَ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ إِلَّا الضَّامِنُ فَقَطْ وَيَبْقَى الْأَصِيلُ وَهَذَا هُوَ مَحَطُّ الْإِشْكَالِ فَانْقَلَبَ الْأَمْرُ عَلَى السَّائِلِ وَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ مَعْقُولٍ فَلْيُنْظَرْ مِنْ كَلَامِهِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ ضَمِنَ شَخْصًا بِإِذْنِهِ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا وَلِلْمَضْمُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَ الضَّامِنِ مَالٌ وَدِيعَةٌ فَقَالَ لَهُ: أَدِّ الْعِشْرِينَ مِمَّا عِنْدَكَ، ثُمَّ إِنَّهُ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي قَبْضِ الْوَدِيعَةِ، فَهَلْ لِلضَّامِنِ إِمْسَاكُ الْوَدِيعَةِ عِنْدَهُ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهَا الدَّيْنَ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ لَهُ ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ ضَمِنَ رَجُلًا فِي دَيْنٍ ثُمَّ مَاتَ الضَّامِنُ وَتَرَكَ وَرَثَةً أَخَذُوا مَا خَلَّفَهُ فَطَالَبَ الدَّائِنُ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِالدَّيْنِ فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ فَقَالَ: بَلْ يَلْزَمُكَ الْكُلُّ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي خَصَّهُ مِنَ الْإِرْثِ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الدَّيْنِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: إِنَّمَا يَلْزَمُهُ عَلَى قَدْرِ نِسْبَةِ مَالِهِ مِنَ الْإِرْثِ. مَسْأَلَةٌ: يَا مُنْشِئًا لِعُلُومٍ مَا سُبِقْتَ لَهَا ... يَا عَالِمَ الْزَمَنِ الْمَشْهُورِ كَالْعَلَمِ مَاذَا جَوَابُكَ يَا بَحْرَ الْعُلُومِ وَيَا ... مُفْتِي الْأَنَامِ وَمُجْلِي حِنْدِسِ الظُّلَمِ فِي رَبِّ دَيْنٍ عَلَى شَخْصٍ أَقَرَّ بِهِ ... مَعْ رُفْقَةٍ ضَمِنُوا فِي الْمَالِ وَالذِّمَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أَحَالَ ذُو الْمَالِ شَخْصًا بِالْمُقِرِّ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ وَضَمَانٍ بِجَمْعِهِمِ ... فَهَلْ لِمُحْتَالِ هَذَا الْمَالِ مِنْ طَلَبٍ لِضَامِنٍ قَادِرٍ خَالٍ مِنَ الْعَدَمِ ... أَوْ لَا يُطَالِبُ ضَمَانًا لِمَا ضَمِنُوا إِلَّا الْأَصِيلَ فَقَدْ بَيَّنَ شَفَا أَلَمِي؟ ... أَثَابَكَ اللَّهُ جَنَّاتٍ مُزَخْرَفَةً بِجَاهِ خَيْرِ الْبَرَايَا أَشْرَفِ الْأُمَمِ الْجَوَابُ: اللَّهَ أَحْمَدُ حَمَدًا غَيْرَ مُنْفَصِمِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَبْعُوثِ لِلْأُمَمِ مَا لِلَّذِي احْتَالَ إِنْ صَحَّحْتَ مِنْ طَلَبٍ ... إِلَّا الْأَصِيلَ فَقَطْ فَاحْكُمْ وَلَا تَجِمِ وَلَا يُطَالِبُ ضَمَانًا بِمَا ضَمِنُوا ... فَالنَّقْلُ فِي ذَاكَ بَادٍ فِيهِ لِلْحَكَمِ [بَابُ الْإِبْرَاءِ] [ مسائل متفرقة ] بَابُ الْإِبْرَاءِ مَسْأَلَةٌ: أَبْرَأَكَ اللَّهُ هَلْ تَصِحُّ بِهَا الْبَرَاءَةُ؟ . الْجَوَابُ: وَقَعَ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ نَقَلَ عَنِ الْغَزَالِيِّ وَأَقَرَّهُ: أَنَّ " بَاعَكَ اللَّهُ، وَأَقَالَكَ اللَّهُ، وَزَوَّجَكَ اللَّهُ " كِنَايَةٌ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَذَكَرَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ نَقْلًا عَنِ العبادي أَنَّ طَلَّقَكِ اللَّهُ وَأَعْتَقَكَ اللَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، ثُمَّ قَالَ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ صَرِيحٌ، وَذَكَرَ البوشنجي أَنَّهُ كِنَايَةٌ قَالَ: وَقَوْلُ صَاحِبِ الدَّيْنِ لِلْغَرِيمِ أَبْرَأَكَ اللَّهُ كَقَوْلِ الزَّوْجِ طَلَّقَكِ اللَّهُ انْتَهَى، فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْبَيْعِ تَصْحِيحُ مَقَالَةِ البوشنجي أَنَّ الْكُلَّ كِنَايَةٌ، وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ اسْتِدْرَاكُ مَقَالَةِ العبادي بِمَقَالَتِهِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ نَزَلَ لِآخَرَ عَنْ إِقْطَاعٍ وَالْتَزَمَ لَهُ أَنَّهُ إِذَا صَارَ اسْمُهُ فِي الدِّيوَانِ أَعْطَاهُ مِائَتَيْ دِينَارٍ، فَلَمَّا صَارَ اسْمُهُ فِي الدِّيوَانِ أَعْطَاهُ بَعْضَهَا، وَأَبْرَأَهُ مِنَ الْبَاقِي فَهَلْ تَصِحُّ؟ . الْجَوَابُ: هَذَا الِالْتِزَامُ إِنْ كَانَ بِطَرِيقِ النَّذْرِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ الْآنَ فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ وَلَوْ تَرَاضَيَا؛ لِأَنَّ النَّذْرَ لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَيَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِمُعَيَّنٍ بِخِلَافِ سَائِرِ النُّذُورِ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، كَمَا لَوِ انْحَصَرَتْ صِفَةُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ هَذَا الِالْتِزَامُ لَا بِطَرِيقِ النَّذْرِ بَلْ فِي مُقَابَلَةِ النُّزُولِ وَقُلْنَا بِصِحَّةِ ذَلِكَ كَمَا اسْتَنْبَطَهُ السبكي مِنْ خَلْعِ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ تَصِحُّ كَمَا لِلْخَلْعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 [بَذْلُ الْهِمَّةِ فِي طَلَبِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ اغْتَابَ رَجُلًا بِسَبٍّ أَوْ نَحْوِهِ، أَوْ قَذَفَهُ، أَوْ خَانَهُ فِي أَهْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ تَوْبَتُهُ وَرُجُوعُهُ إِلَى اللَّهِ وَكَثْرَةُ ذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ تَحَلُّلِهِ مِنْ ذَلِكَ وَذِكْرِهِ لَهُ مَا ظَلَمَهُ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ؟ . الْجَوَابُ: لَا بُدَّ مِنْ تَحَلُّلِهِ مِنْ ذَلِكَ وَذِكْرِهِ لَهُ مَا ظَلَمَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ، وَمَا لَمْ تَصِحَّ التَّوْبَةُ لَمْ يُكَفِّرِ الذَّنْبَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْآدَمِيِّ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ لِمَوْتٍ أَوْ نَحْوِهِ - هَذَا الَّذِي جَزَمْتُ بِهِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِنَقْلِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلِلْآثَارِ. أَمَّا النَّقْلُ فَقَالَ الشَّيْخُ محيي الدين النووي فِي الْأَذْكَارِ، فِي بَابِ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَزِمَهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ يُشْتَرَطُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْحَالِ، وَأَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا، وَأَنْ يَعْزِمَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهَا، وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ يُشْتَرَطُ فِيهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، وَرَابِعٌ وَهُوَ رَدُّ الظُّلَامَةِ إِلَى صَاحِبِهَا وَطَلَبُ عَفْوِهِ عَنْهَا، وَالْإِبْرَاءُ مِنْهَا، فَيَجِبُ عَلَى الْمُغْتَابِ التَّوْبَةُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ الْغِيبَةَ حَقٌّ آدَمِيٌّ، وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِحْلَالِهِ مَنِ اغْتَابَهُ، وَهَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ قَدِ اغْتَبْتُكَ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ، أَمْ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا اغْتَابَهُ بِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا يُشْتَرَطُ بَيَانُهُ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِهِ لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ مَالٍ مَجْهُولٍ، وَالثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُتَسَامَحُ فِيهِ وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِخِلَافِ الْمَالِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْمَحُ بِالْعَفْوِ عَنْ غِيبَةٍ دُونَ غِيبَةٍ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْغِيبَةِ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا فَقَدْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ وَالدُّعَاءَ وَيُكْثِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ - هَذَا كَلَامُ النووي بِحُرُوفِهِ، وَقَالَ الشَّيْخُ تقي الدين السبكي فِي تَفْسِيرِهِ: قَدْ وَرَدَ فِي الْغِيبَةِ تَشْدِيدَاتٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الزَّانِيَ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَالْغَائِبُ لَا يُتَابُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَحِلَّ مِنَ الْمَغِيبِ، رُوِيَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ لَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ، قَالَ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كُلِّهَا، فَفِي الْغِيبَةِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ هَتْكُ الْأَعْرَاضِ وَانْتِقَاصُ الْمُسْلِمِينَ وَإِبْطَالُ الْحُقُوقِ بِمَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَإِيقَاعُ الشَّحْنَاءِ وَالْعَدَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا تَقُولُ فِي حَدِيثِ كَفَّارَةِ الِاغْتِيَابِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 لِمَنِ اغْتَبْتَهُ؟ قُلْتُ: فِي سَنَدِهِ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَوَاعِدُ الْفِقْهِ تَأْبَاهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ آدَمِيٌّ فَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْإِبْرَاءِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ، فَإِنْ مَاتَ وَتَعَذَّرَ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَسْتَغْفِرُ لَهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ حَسَنَاتٌ عَسَى أَنْ يَعْدِلَ مَا احْتَمَلَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِعَفْوِهِ عَنْهُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ أَيْضًا، نَعَمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِهَا إِذَا تَحَقَّقَتْ مِنْهُ التَّوْبَةُ، وَعَجَزَ عَنِ التَّحَلُّلِ مِنْهُ بِمَوْتٍ وَنَحْوِهِ، يَكْفِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَأَمَّا الْآثَارُ فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الصَّمْتِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، والأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا " قِيلَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: "الرَّجُلُ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ» "، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّوْبَةِ مِنَ الْفِرْيَةِ فَقَالَ: تَمْشِي إِلَى صَاحِبِكَ فَتَقُولُ: كَذَبْتُ بِمَا قُلْتُ لَكَ وَظَلَمْتُ وَأَسَأْتُ، فَإِنْ شِئْتَ أَخَذْتَ بِحَقِّكَ وَإِنْ شِئْتَ عَفَوْتَ، وَأَخْرَجَ الأصبهاني عَنْ عائشة بنت طلحة قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ عائشة أم المؤمنين وَعِنْدَهَا أَعْرَابِيَّةٌ، فَخَرَجَتِ الْأَعْرَابِيَّةُ تَجُرُّ ذَيْلَهَا فَقَالَتْ بِنْتُ طلحة: مَا أَطْوَلَ ذَيْلَهَا، فَقَالَتْ عائشة: اغْتَبْتِهَا أَدْرِكِيهَا تَسْتَغْفِرْ لَكِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ خِيَانَةِ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، وأبو داود، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ بريدة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْ رَجُلٍ يَخْلُفُ رَجُلًا فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ إِلَّا نُصِبَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقِيلَ لَهُ هَذَا قَدْ خَانَكَ فِي أَهْلِكَ فَخُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ فَيَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ حَتَّى يَرْضَى أَتَرَوْنَ يَدَعُ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْئًا» " هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ، فَمَنْ خَانَ رَجُلًا فِي أَهْلِهِ بِزِنًا أَوْ غَيْرِهِ، فَقَدْ ظَلَمَ الزَّوْجَ وَتَعَلَّقَ لَهُ بِهِ حَقٌّ يُطَالِبُهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، لَا مَحَالَةَ بِنَصِّ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا حَقٌّ آدَمِيٌّ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ، وَمِنْهَا اسْتِحْلَالُهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُعَرِّفَهُ بِهِ بِعَيْنِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النووي، ثُمَّ أَقُولُ: لَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ تَبِعَةٌ وَلَا ضَرَرٌ، بِأَنْ يَكُونَ أَكْرَهَهَا عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا كَمَا وَصَفْنَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِأَنْ تَكُونَ مُطَاوِعَةً فَهَذَا قَدْ يُتَوَقَّفُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَاعٍ فِي إِزَالَةِ ضَرَرِهِ فِي الْآخِرَةِ بِضَرَرِ الْمَرْأَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَسُوغَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِخْبَارُهُ بِهِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى بَقَاءِ ضَرَرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فِي الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عُذْرًا، وَيُحْكَمُ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ إِذَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ حُسْنَ النِّيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُكَلَّفَ الْإِخْبَارَ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَكِنْ يَذْكُرُ مَعَهُ مَا يَنْفِي الضَّرَرَ عَنْهَا، بِأَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا، وَيَجُوزَ الْكَذِبُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ لَكِنَّ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ عِنْدِي. وَلَوْ خَافَ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عُذْرًا؛ لِأَنَّ التَّخَلُّصَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِضَرَرِ الدُّنْيَا مَطْلُوبٌ، وَقَدْ أَقَرَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالزِّنَا لِيُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ فَيَطْهُرُوا، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ وَالسِّتْرُ فِيهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْلَى فَكَيْفَ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُعْذَرُ بِذَلِكَ وَيُرْجَى مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ خَصْمُهُ إِذَا عَلِمَ حُسْنَ نِيَّتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَرْضَ صَاحِبُ الْحَقِّ فِي الْغِيبَةِ وَالزِّنَا وَنَحْوِهِمَا أَنْ يَعْفُوَ إِلَّا بِبَذْلِ مَالٍ فَلَهُ بَذْلُهُ سَعْيًا فِي خَلَاصِ ذِمَّتِهِ وَالْغِبْطَةُ فِي ذَلِكَ لَهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْغَزَالِيَّ قَالَ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ فِي فَضْلِ التَّوْبَةِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ: وَأَمَّا الْحُرْمَةُ بِأَنْ خُنْتَهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ نَحْوِهِ فَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِحْلَالِ وَالْإِظْهَارِ؛ فَإِنَّهُ يُوَلِّدُ فِتْنَةً وَغَيْظًا بَلْ تَفْزَعُ إِلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - لِيُرْضِيَهُ عَنْكَ وَيَجْعَلَ لَهُ خَيْرًا كَثِيرًا فِي مُقَابَلَتِهِ، فَإِنْ أَمِنْتَ الْفِتْنَةَ وَالْهَيْجَ، وَهُوَ نَادِرٌ فَتَسْتَحِلُّ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مَا أَمْكَنَكَ مِنْ إِرْضَاءِ الْخُصُومِ عَمِلْتَ وَمَا لَمْ يُمْكِنْكَ رَاجَعْتَ اللَّهَ بِالتَّضَرُّعِ [وَالِابْتِهَالِ] وَالصِّدْقِ؛ لِيُرْضِيَهُ عَنْكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالرَّجَاءِ مِنْهُ بِفَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَإِحْسَانِهِ الْعَمِيمِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ الصِّدْقَ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُرْضِي خُصَمَاءَهُ مِنْ جَزِيلِ فَضْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ انْتَهَى. [بَابُ الشَّرِكَةِ] مَسْأَلَةٌ: جَمَاعَةٌ اشْتَرَكُوا فِي مَالٍ وَاشْتَرَوْا بِهِ قَصَبًا وَقُلْقَاسًا قَائِمًا عَلَى أُصُولِهِ ثُمَّ جَاءَ جَمَاعَةٌ أُخَرُ وَوَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ شَارَكُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْضُرُوهُ وَلَا وَزَنُوا شَيْئًا مِنَ الثَّمَنِ ثُمَّ عَمِلُوا فِي قَلْعِ الْقَصَبِ وَالْقُلْقَاسِ أَيَّامًا فَهَلِ الشَّرِكَةُ الثَّانِيَةُ صَحِيحَةٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا فَسَدَتْ فَهَلْ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الْعَمَلِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الشَّرِكَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِذَا عَمِلُوا فِي الْقَصَبِ وَالْقُلْقَاسِ عَلَى مُسَمًّى فَاسِدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فَلَهُمْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَشِرَاءُ الْقُلْقَاسِ وَهُوَ مَدْفُونٌ فِي الْأَرْضِ بَاطِلٌ، وَكَذَا الْقَصَبُ فِي الْأَرْضِ إِنْ كَانَ مَسْتُورًا بِقِشْرِهِ، وَإِلَّا يَصِحُّ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ يُسَمَّى عُثْمَانُ أَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِينَارًا فَأَقْرَضَ مِنْهَا خَمْسِينَ لِرَجُلٍ يُسَمَّى بَدْرَ الدِّينِ، وَشَارَكَهُ بِالْمِائَةِ الْبَاقِيَةِ وَجَلَسَا فِي دُكَّانٍ وَاشْتَرَيَا قُمَاشًا بِالْمَالِ وَصَارَا يَتَصَرَّفَانِ مَعًا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَيَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ أَوَّلًا فَأَوَّلًا، ثُمَّ تَفَاسَخَا الشَّرِكَةَ وَأَخَذَ عُثْمَانُ الْقُمَاشَ بِأَسْرِهِ وَدَفَعَ لِبَدْرِ الدِّينِ خَمْسِينَ دِينَارًا عَنْ حِصَّتِهِ فِي الْقُمَاشِ فَادَّعَى بَدْرُ الدِّينِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ فِي مُدَّةِ الشَّرِكَةِ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ، وَأَنَّ حِصَّتَهُ مِنْهُ بَاقِيَةٌ، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: إِنْ كَانَ عُثْمَانُ دَفَعَ لِبَدْرِ الدِّينِ الْخَمْسِينَ عَلَى أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ حِصَّتِهِ مِنَ الْقُمَاشِ، فَهَذَا عِبَارَةٌ عَنْ شِرَائِهَا، فَإِنْ وُجِدَتْ شُرُوطُ الْبَيْعِ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْعِلْمِ بِالْأَعْيَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُوَ بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَى بِرِبْحٍ سَابِقٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ دَخَلَ فِي الْحِصَّةِ الَّتِي بَاعَهَا وَقَدْ رَضِيَ فِيهَا بِهَذَا الثَّمَنِ سَوَاءٌ كَانَ قَدْرَ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ، هَذَا إِنْ صَدَّقَ عَلَى الْبَيْعِ، فَإِنْ أَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَالشَّرِكَةُ بَاقِيَةٌ فِي الْأَمْتِعَةِ وَيَرُدُّ الْخَمْسِينَ دِينَارًا مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى تَصْدِيقِهِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ شُرُوطُ الْبَيْعِ فَالشَّرِكَةُ بَاقِيَةٌ فِي الْأَمْتِعَةِ - أَعْنِيَ شَرِكَةَ الْمِلْكِيَّةِ - وَإِنْ كَانَ عَقْدُ الشَّرِكَةِ قَدِ انْفَسَخَ وَالْخَمْسُونَ دِينَارًا قَبَضَهَا بِغَيْرِ طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ فَيَرُدُّهَا وَلَهُ حِصَّتُهُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إِلَى دَعْوَى رِبْحٍ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْأَمْتِعَةِ، فَإِنِ ادَّعَى أَنَّ عُثْمَانَ اسْتَبَدَّ بِرِبْحٍ أَخَذَهُ دُونَهُ، وَأَنْكَرَ عُثْمَانُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ عُثْمَانَ بِيَمِينِهِ. [بَابُ الْوَكَالَةِ] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ وَكَّلَ إِنْسَانًا فِي أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ فِي قَمْحٍ فَفَعَلَ وَضَمِنَ الْمُسَلَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَهَلْ تَصِحُّ دَعْوَى الْمُوَكِّلِ عَلَى الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِالْقَمْحِ وَعَلَى ضَامِنِهِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُوَكِّلِ بِالضَّمَانِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ لِلْمُوَكِّلِ الدَّعْوَى عَلَى الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ وَالضَّامِنِ، وَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ عَزْلِهِ لَمْ تُقْبَلْ وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ خَاصَمَ وَإِنْ لَمْ يُخَاصِمْ قُبِلَتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 [بَابُ الْإِقْرَارِ] مَسْأَلَةٌ: إِذَا قَالَ لِفُلَانٍ عِنْدِي أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ كَمْ يَلْزَمُهُ؟ . الْجَوَابُ: مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَعْضُ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَدْرُ مَا يُتَمَوَّلُ مِنَ الدَّرَاهِمِ. مَسْأَلَةٌ: مَرِيضُ صَدْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ مُبَارَأَةٌ مَا عَدَا حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَفْسِرُوهُ عَنْ مُرَادِهِ بِالْحُقُوقِ فَهَلْ تَدْخُلُ كِسْوَتُهَا فِي لَفْظِ الْحُقُوقِ، أَوْ تُحْمَلُ عَلَى حَالِّ الصَّدَاقِ وَمُنَجَّمِهِ فَقَطْ؟ وَهَلْ يَنْفَعُ قَوْلُ الْمَرِيضِ لِغَيْرِ الشُّهُودِ قَبْلَ مَوْتِهِ: لَيْسَ لِزَوْجَتِي عِنْدِي سِوَى حَالِّ الصَّدَاقِ وَمُنَجَّمِهِ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي أَصْلِهَا شَامِلَةٌ لِكُلِّ حَقٍّ لِلزَّوْجَةِ مِنْ صَدَاقٍ وَكِسْوَةٍ وَنَفَقَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِهَا إِرَادَةُ جَمِيعِ مَدْلُولَاتِهَا، فَإِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَأَرَادَ بَعْضَ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِذَا أَخْبَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا عِنْدَهُ سِوَى الْحَالِّ وَالْمُنَجَّمِ نَفَعَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْإِقْرَارِ. [بَابُ الْغَصْبِ] [ مسائل متفرقة ] بَابُ الْغَصْبِ مَسْأَلَةٌ: سَيِّدٌ قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ عِنْدَهُ، فَمَاذَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ؟ الْجَوَابُ: مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَلَاكَهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْغَصْبِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ ذِمِّيٌّ نَهَى مُسْلِمًا عَنْ مُنْكَرٍ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: لِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ مَرَاتِبُ، مِنْهَا الْقَوْلُ كَقَوْلِهِ: لَا تَزْنِ مَثَلًا، وَمِنْهَا الْوَعْظُ كَقَوْلِهِ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ الزِّنَا حَرَامٌ وَعُقُوبَتَهُ شَدِيدَةٌ، وَمِنْهَا السَّبُّ وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّهْدِيدُ كَقَوْلِهِ: يَا فَاسِقُ يَا مَنْ لَا يَخْشَى اللَّهَ لَئِنْ لَمْ تُقْلِعْ عَنِ الزِّنَا لَأَرْمِيَنَّكَ بِهَذَا السَّهْمِ، وَمِنْهَا الْفِعْلُ كَرَمْيِهِ بِالسَّهْمِ مَنْ أَمْسَكَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً لِيَزْنِيَ بِهَا، وَكَكَسْرِهِ آلَاتِ الْمَلَاهِي وَإِرَاقَةِ أَوَانِي الْخُمُورِ، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعَةُ لِلْمُسْلِمِ، وَلَيْسَ لِلذِّمِّيِّ مِنْهَا سِوَى الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ دُونَ الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا وِلَايَةً وَتَسَلُّطًا لَا يَلِيقَانِ بِالْكَافِرِ، وَأَمَّا الْأُولَيَانِ فَلَيْسَ فِيهِمَا ذَلِكَ بَلْ هُمَا مُجَرَّدُ فِعْلِ خَيْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الأسنوي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ أَنَّ فِي حِفْظِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَافِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 إِزَالَةُ الْمُنْكَرِ - يَعْنِي بِالْفِعْلِ - وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ، وَكَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ نُصْرَةٌ لِلدِّينِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ هُوَ جَاحِدٌ لِأَصْلِ الدِّينِ وَعُدُولِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ الذِّمِّيِّ أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا رَآهُ يَزْنِي؟ قُلْنَا: إِنْ مَنَعَ الْمُسْلِمَ بِفِعْلِهِ فَهُوَ تَسَلُّطٌ عَلَيْهِ فَنَمْنَعُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَسَلُّطٌ، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. وَأَمَّا مُجَرَّدُ قَوْلِهِ: لَا تَزْنِ فَلَيْسَ بِمَمْنُوعٍ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الزِّنَا بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِذْلَالٌ لِلْمُسْلِمِ إِلَى أَنْ قَالَ بَلْ نَقُولُ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا لَمْ يَقُلْ لِلْمُسْلِمِ لَا تَزْنِ، يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إِنْ رَأَيْنَا خِطَابَ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ. [هَدْمُ الْجَانِي عَلَى الْبَانِي] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَاضِي الْقُضَاةِ علم الدين البلقيني إِجَازَةً عَنْ أبي إسحاق التنوخي، عَنِ القاسم بن مظفر أَنَّ عبد الرحيم بن تاج الأمناء، أَخْبَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْأَكْفَانِيِّ، أَنَا أبو محمد الحسن بن علي بن عبد الصمد الكلاعي أَنَا تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي أبو الحسن علي بن شيبان الدينوري، أَخْبَرَنِي محمد بن عبد الرحمن الدينوري، عَنْ رَجُلٍ أَظُنُّهُ الربيع بن سليمان، قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: إِنَّ الْعَالِمَ لَا يُمَارِي وَلَا يُدَارِي يَنْشُرُ حِكْمَةَ اللَّهِ فَإِنْ قُبِلَتْ حَمِدَ اللَّهَ، وَإِنْ رُدَّتْ حَمِدَ اللَّهَ، وَبَعْدُ فَقَدْ رُفِعَ إِلَيَّ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ خَرِبَةً بِجِوَارِ مَسْجِدٍ وَبَنَى بِهَا مَخَازِنَ ثُمَّ إِنَّهُ قَصَرَهَا عَلَى سُكْنَى مَنْ يُعِدُّهَا لِلْفَسَادِ فَيَسْكُنُ فِيهَا جَمَاعَةٌ بَعْضُهُمْ عُزَّابٌ، وَبَعْضُهُمْ مُتَزَوِّجُونَ وَعِيَالُهُمْ بِمَسْكَنٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يُعِدُّونَ هَذَا الْمَسْكَنَ لِيَخْتَلُوا فِيهِ لِلْفَسَادِ، وَأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ يَجْتَمِعُ فِيهِ كُلَّ يَوْمِ ثُلَاثَاءَ خَلْقٌ كَثِيرُونَ، يَأْتُونَهُ مِنْ أَطْرَافِ الْبَلَدِ مِنْ نِسَاءٍ وَرِجَالٍ وَشَبَابٍ مُرْدٍ فَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَالزِّنَا، وَاللِّوَاطِ بِحَيْثُ يَدْخُلُ جَمَاعَةٌ يُبَاشِرُونَ الزِّنَا وَاللِّوَاطَ، وَيَتَأَخَّرُ جَمَاعَةٌ يَنْتَظِرُونَ انْتِهَاءَ النَّوْبَةِ إِلَيْهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ بِالدِّهْلِيزِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ بِالطَّرِيقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ رُؤِيَ رَجُلٌ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ صَبِيٌّ يَلُوطُ بِهِ، وَصَارَ ذَلِكَ مَشَاعًا فِي تِلْكَ الْخُطَّةِ وَصَارَ الْمَكَانُ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ بِحَيْثُ يُقْصَدُ مِنْ أَمْكِنَةٍ بَعِيدَةٍ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَبِجِوَارِ هَذَا الْمَكَانِ الْخَبِيثِ رَجُلٌ مُبَارَكٌ يَقُومُ فِي إِنْكَارِ مَا يَرَاهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ، فَرَاجَعَ صَاحِبَ الْبَيْتِ فِي إِخْلَائِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَتَسْكِينِ مَنْ هُوَ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 سِيرَةٍ حَمِيدَةٍ فَأَبَى بَعْدَ طُولِ الْمُرَاجَعَةِ سِنِينَ رَغْبَةً فِي زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ لَهُ: هَذِهِ أُمَّةٌ مُذْنِبَةٌ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنْ أَخْلَى اللَّهُ الْمَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِعَوَارِضَ طَرَأَتْ لَهُمْ ثُمَّ زَالَتْ تِلْكَ الْعَوَارِضُ فَعَادُوا لِيَسْكُنُوا عَلَى مِنْوَالِهِمْ، فَجَاءَنِي ذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُبَارَكُ وَشَكَا إِلَيَّ هَذَا الْأَمْرَ فَقُلْتُ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى صَاحِبِ الْمَكَانِ، وَقُلْ لَهُ: إِنْ لَمْ يُخْلِ هَؤُلَاءِ مِنْهُ أَفْتَيْتُ بِهَدْمِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ السَّاكِنِينَ ثَمَّ رَجُلٌ جَهْلُهُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ، وَمَقَامُهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ فَلَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الْكَلَامُ قَالَ: هَذَا لَيْسَ بِحُكْمِ اللَّهِ، وَذَهَبَ إِلَى الشَّيْخِ شمس الدين الياني فَاسْتَفْتَاهُ فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ لَا يُهْدَمُ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ بِهَدْمِهِ يَلْزَمُهُ التَّعْزِيرُ، ثُمَّ جَاءَ بِهَذِهِ الْفَتْوَى وَصَارَ يَجْلِسُ عَلَى الدَّكَاكِينِ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَقُولُ: فُلَانٌ مُجَازِفٌ فِي دِينِ اللَّهِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ عُصْبَةٌ مِنْ نَمَطِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا الَّذِي أَفْتَى بِهِ - يَعْنِي قَوْلِي بِالْهَدْمِ - خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَآخَرُ يَقُولُ: هَذَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، وَصَارَ كُلٌّ مِنَ الْجُهَّالِ يَرْمِي بِكَلَامٍ فَأَلَّفْتُ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ (رَفْعَ مَنَارِ الدِّينِ وَهَدْمَ بِنَاءِ الْمُفْسِدِينَ) وَهَذَا الْكِتَابُ مُخْتَصَرٌ مِنْهُ لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُهُ. فَأَقُولُ: أَمَّا مَا تَلَفَّظَ بِهِ الْجُهَّالُ، فَإِنَّ كَلَامَ الْجَاهِلِينَ لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا مَا أَفْتَى بِهِ الياني فَإِنَّهُ قَدْ كُتِبَ فِي صَحِيفَةِ عَمَلِهِ وَطُبِعَ عَلَيْهَا بِطَابَعٍ وَسَوْفَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الصِّرَاطِ فَيَقْرَؤُهُ وَيُطْلَبُ مِنْهُ الْخُرُوجُ مِنْ عُهْدَتِهِ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ جَاهٌ وَلَا تَعَصُّبٌ، وَأَمَّا الَّذِي أَفْتَيْتُ أَنَا بِهِ فَهُوَ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ، وَثَبَتَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَلَمْ تَزَلْ عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ وَالْمُلُوكُ وَوُلَاةُ الْأُمُورِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَهَا أَنَا أُبَيِّنُ ذَلِكَ. [ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ] أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ أَثْقَلَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقُ بِرِجَالٍ مَعِي مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» " اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ، وَهُمْ عطاء، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وداود، وَأَبُو ثَوْرٍ، وابن المنذر، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ - الْأَرْبَعَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَالْجَوَابُ عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الْهَمِّ بِتَحْرِيقِ بُيُوتِهِمْ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ هَذَا وَرَدَ فِي قَوْمٍ مُنَافِقِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُصَلُّونَ فُرَادَى قَالَ: وَسِيَاقُ هَذَا الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ، قُلْتُ: إِذَا تَأَمَّلَ الْمُنْصِفُ هَذَا الْكَلَامَ عَرَفَ مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَائِلٌ بِجَوَازِ الْعُقُوبَةِ بِتَحْرِيقِ الْبُيُوتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ سِوَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَقَالَ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ فَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَدِيثِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ أَيْضًا قَائِلُونَ بِجَوَازِ تَحْرِيقِ الْبُيُوتِ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ الرافعي فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ: اللَّفْظُ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِحْرَاقِ لِلتَّخَلُّفِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ طَائِفَةً مَخْصُوصِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَخَلَّفُونَ، فَأَمَّا مُطْلَقُ التَّخَلُّفِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الزَّجْرَ بِالْإِحْرَاقِ قَالَ: وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْأُمِّ بَعْدَ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ: فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ مِنْ هَمِّهِ بِالْإِحْرَاقِ إِنَّمَا قَالَهُ فِي قَوْمٍ تَخَلَّفُوا عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لِنِفَاقٍ، وَقَالَ ابن فرحون المالكي: اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَلْ هُوَ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ؟ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «ثُمَّ آتِيَ قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ» " وَالْمُنَافِقُونَ لَا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ قَالَ: وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ "لَقَدْ هَمَمْتُ " تَقْدِيمُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَى الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا ارْتَفَعَتْ وَانْدَفَعَتْ بِالْأَخَفِّ مِنَ الزَّوَاجِرِ لَمْ يُعْدَلْ إِلَى الْأَعْلَى انْتَهَى. وَقَالَ الْحَافِظُ أبو الفضل بن حجر فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نِفَاقُ الْمَعْصِيَةِ، لَا نِفَاقُ الْكُفْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ أبي داود: " «ثُمَّ آتِيَ قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ» " فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِفَاقَهُمْ نِفَاقُ مَعْصِيَةٍ، لَا كُفْرٍ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ إِنَّمَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَإِذَا خَلَا فِي بَيْتِهِ كَانَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ القرطبي، قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ لِكَوْنِ الْجَمَاعَةِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ التَّهْدِيدُ بِالتَّحْرِيقِ الْمَذْكُورِ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي حَقِّ تَارِكِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ كَمَشْرُوعِيَّةِ قِتَالِهِمْ، وَقَالَ ابن دقيق العيد فِي الْحَدِيثِ إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَهُمُّ إِلَّا بِمَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ لَوْ فَعَلَهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَرَكَ، وَلَمْ يَفْعَلْ فَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُمُ انْزَجَرُوا بِذَلِكَ، وَتَرَكُوا التَّخَلُّفَ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِسَبَبِهِ، قَالَ الحافظ ابن حجر: وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بَيَانُ سَبَبِ التَّرْكِ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أحمد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " «لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ؛ لَأَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحَرِّقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ بِالنَّارِ» " فَهَذَا كَلَامُ الْأَئِمَّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فَمَنْ بَعْدَهُ، فَإِنْ قِيلَ: التَّحْرِيقُ بِالنَّارِ مَنْسُوخٌ، قُلْنَا: فِي الْآدَمِيِّ وَالْحَيَوَانِ فَقَطْ، وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا فِي بَابِ السِّيَرِ عَلَى جَوَازِ تَحْرِيقِ شَجَرِ الْكُفَّارِ وَهَدْمِ بِنَائِهِمْ إِذَا دَعَتْ ضَرُورَةٌ لِذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أسامة بن زيد، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ عَنْ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَأُحَرِّقَنَّ بُيُوتَهُمْ» " وَأَخْرَجَ أحمد، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَجِيرِ فَلَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إِلَّا الصَّفُّ وَالصَّفَّانِ، وَالنَّاسُ فِي قَايِلَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ أَوْ لَأُحَرِّقَنَّ بُيُوتَهُمْ» "، وَأَخْرَجَ أحمد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَأَى فِي الْقَوْمِ رُفْقَةً فَقَالَ: "إِنِّي لَأَهُمُّ أَنْ أَجْعَلَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ثُمَّ أَخْرُجَ فَلَا أَقْدِرُ عَلَى إِنْسَانٍ يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا أَحْرَقْتُهُ عَلَيْهِ» " وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ أَنْصَرِفَ إِلَى قَوْمٍ سَمِعُوا النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِيبُوا فَأُضْرِمَهَا عَلَيْهِمْ نَارًا» " وَأَخْرَجَ الحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى قَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ» " وَأَخْرَجَ ابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مالك بن الدخشم فَقَالَ: اخْرُجْ لِهَذَا الْمَسْجِدِ فَقَالَ مالك لعاصم: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي فَدَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ فَأَخَذَ سَعَفَاتٍ مِنْ نَارٍ، وَخَرَجُوا يَشْتَدُّونَ حَتَّى دَخَلُوا الْمَسْجِدَ، وَفِيهِ أَهْلُهُ فَحَرَّقُوهُ وَهَدَمُوهُ وَخَرَجَ أَهْلُهُ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ» " وَأَخْرَجَ ابن إسحاق، وابن مردويه، عَنْ أبي رهم كلثوم بن الحصين، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ قَالَ: " «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مالك بن الدخشم، وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ أَخَا عاصم بن عدي فَقَالَ: انْطَلَقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمَاهُ وَأَحْرِقَاهُ فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ فَقَالَ مالك لمعن: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ فَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ وَأَخَذَ سَعَفًا مِنَ النَّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا ثُمَّ خَرَجَا يَشْتَدَّانِ حَتَّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ، وَفِيهِ أَهْلُهُ فَحَرَّقَاهُ وَهَدَمَاهُ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ» " وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: " «أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَبُوكَ، وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ قَدْ أَتَوْهُ وَهُوَ مُتَجَهِّزٌ إِلَى تَبُوكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ فِي الْحَاجَةِ، وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا فَتُصَلِّيَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ: إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، وَحَالِ شُغُلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا أَتَيْنَاكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ - بَلَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ - وَأَتَاهُ خَبَرُ الْمَسْجِدِ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف، وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ أَوْ أَخَاهُ عاصم بن عدي أَخَا بَنِي الْعَجْلَانِ فَقَالَ: انْطَلِقَا إِلَى هَذَا الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمَاهُ وَحَرِّقَاهُ فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتَّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ مالك لمعن: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي فَدَخَلَ أَهْلَهُ فَأَخَذَ سَعَفًا مِنَ النَّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا ثُمَّ خَرَجَا يَشْتَدَّانِ حَتَّى دَخَلَا الْمَسْجِدَ، وَفِيهِ أَهْلُهُ فَحَرَّقَاهُ وَهَدَمَاهُ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ» "، وَأَخْرَجَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ محمد بن إسحاق مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ ابن إسحاق عَنْ ثِقَةٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مُرْسَلًا مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ أبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ، والحاكم وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ صالح بن محمد بن زائدة قَالَ: " «دَخَلَ مسلمة أَرْضَ الرُّومِ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ فَسَأَلَ سالما عَنْهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عمر عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ، وَاضْرِبُوهُ قَالَ: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا فَسُئِلَ سالم عَنْهُ، فَقَالَ بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ» ". وَأَخْرَجَ الحاكم وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: " «دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيَّ ثَوْبَانِ مُعَصْفَرَانِ فَقَالَ: مَا هَذَانِ؟ قُلْتُ: صَنَعَتْهُمَا لِي أم عبد الله، قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا رَجَعْتَ إِلَيْهَا فَأَمَرْتَهَا أَنْ تُوقِدَ لَهُمَا التَّنُّورَ ثُمَّ تَطْرَحَهُمَا فِيهِ فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا فَفَعَلَتْ» "، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَاوُوسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: " «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ قَالَ: أُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا قُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا؟ قَالَ: بَلْ أَحْرِقْهُمَا» " قَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْأَمْرُ بِإِحْرَاقِهِمَا عُقُوبَةٌ وَهَتْكٌ لِزَجْرِهِ وَزَجْرِ غَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ. [ذِكْرُ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي ذَلِكَ] قَالَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالُوا: إِنَّ عمر أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَاشْتَدَّ عَلَى أَهْلِ الرَّيْبِ وَالتُّهَمِ، وَأَحْرَقَ بَيْتَ رويشد الثقفي وَكَانَ حَانُوتًا قَالَ ابن سعد: وَالنَّبَّاذُ بِالْمَدِينَةِ يُسَمَّى الْحَانُوتَ، وَقَالَ ابن سعد أَيْضًا فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَخْبَرَنَا يزيد بن هارون، وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سعد بن إبراهيم عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَرَّقَ بَيْتَ رويشد الثقفي، وَكَانَ حَانُوتًا لِلشَّرَابِ وَكَانَ عمر قَدْ نَهَاهُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَتَلَهَّبُ كَأَنَّهُ جَمْرَةٌ، أَخْرَجَهُ الدُّولَابِيُّ فِي الْكُنَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سعد بن إبراهيم، وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا فِي نُسْخَةِ إبراهيم بن سعد رِوَايَةَ كَاتِبِ الليث عَنْهُ، وَقَالَ عبد الرزاق فِي الْمُصَنَّفِ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نافع عَنْ صفية ابنة أبي عبيد، ومعمر عَنْ نافع، عَنْ صفية قَالَتْ: وَجَدَ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَيْتِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ خَمْرًا، وَكَانَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الْخَمْرِ فَحَرَّقَ بَيْتَهُ، وَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: رويشد، قَالَ: بَلْ أَنْتَ فُوَيْسِقٌ، وَأَخْرَجَ عَنْ عبد القدوس، عَنْ نافع قَالَ: وَجَدَ عمر فِي بَيْتِ رويشد الثقفي خَمْرًا فَحَرَّقَ بَيْتَهُ، وَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: رويشد، قَالَ: بَلْ أَنْتَ فُوَيْسِقٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ: ثَنَا وكيع عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الحارث بن شبيل عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا أَثْرَى فِي بَيْعِ الْخَمْرِ فَقَالَ: اكْسِرُوا كُلَّ آنِيَةٍ لَهُ، وَسَيِّرُوا كُلَّ مَاشِيَةٍ لَهُ، وَقَالَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ: أَخْبَرَنَا محمد بن عمر حَدَّثَنِي عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حبيب بن عمير، عَنْ مليح بن عوف السلمي قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ صَنَعَ بَابًا مُبَوَّبًا مِنْ خَشَبٍ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَخَصَّ عَلَى قَصْرِهِ خُصًّا مِنْ قَصَبٍ فَبَعَثَ محمد بن مسلمة وَأَمَرَنِي بِالْمَسِيرِ مَعَهُ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُحْرِقَ ذَلِكَ الْبَابَ وَذَلِكَ الْخُصَّ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى دَارِ سعد فَأَحْرَقَ الْبَابَ وَالْخُصَّ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مسكين بن ميمون ثَنَا عُرْوَةُ بْنُ رُوَيْمٍ قَالَ: بَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَتَصَفَّحُ النَّاسَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ أَهْلِ أَجْنَادِهِمْ إِذْ مَرَّ بِأَهْلِ حِمْصَ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ، وَكَيْفَ أَمِيرُكُمْ؟ فَقَالُوا: خَيْرًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنَّهُ بَنَى عِلِّيَّةً يَكُونُ فِيهَا، فَكَتَبَ كِتَابًا وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بَرِيدًا وَأَمَرَهُ إِذَا جِئْتَ بَابَ عِلِّيَّتِهِ فَاجْمَعْ حَطَبًا وَأَحْرِقْ بَابَ عِلِّيَّتِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ جَمَعَ حَطَبًا وَأَحْرَقَ بَابَ الْعِلِّيَّةِ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ رَسُولُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ ابن عبد الحكم فِي فُتُوحِ مِصْرَ: حَدَّثَنَا شعيب عَنِ الليث، وعبد الله بن صالح عَنِ الليث، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَنَى غُرْفَةً بِمِصْرَ خارجة بن حذافة فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ خارجة بن حذافة بَنَى غُرْفَةً، وَلَقَدْ أَرَادَ خارجة أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى عَوْرَاتِ جِيرَانِهِ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَاهْدِمْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالسَّلَامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ مِنْ طَرِيقِ سعد بن إبراهيم عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ عَلَيْهِ قَمِيصُ حَرِيرٍ عَلَى عمر فَشَقَّ الْقَمِيصَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فَهَذِهِ آثَارٌ صَحِيحَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي هَدْمِ بُيُوتِ الْخَمَّارِينَ، وَإِتْلَافِ أَمْكِنَةِ الْفَسَادِ إِذَا تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا لِإِزَالَةِ الْفَسَادِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي خِلَافَتِهِ وَالصَّحَابَةُ يَوْمَئِذٍ مُتَوَافِرُونَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أبي بكر وعمر» " وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنِي معن حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اقْتَمَرَا عَلَى دِيكَيْنِ عَلَى عَهْدِ عمر فَأَمَرَ عمر بِقَتْلِ الدِّيَكَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَتَقْتُلُ أُمَّةً تُسَبِّحُ؟ فَتَرَكَهَا، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ قَالَ فِي النَّرْدِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحُزَمِ حَطَبٍ ثُمَّ أُرْسِلَ إِلَى بُيُوتِ الَّذِينَ هُمْ فِي بُيُوتِهِمْ فَأُحْرِقَهَا، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الحسن أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَأْمُرُ بِذَبْحِ الْحَمَامِ الَّتِي يُلْعَبُ بِهَا. فَهَذَانِ أَثَرَانِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ثَالِثِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» " وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عثمان وَقَالَهُ فِي قِصَّةِ النَّرْدِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَالصَّحَابَةُ يَوْمَئِذٍ مُتَوَافِرُونَ فَكَانَ إِجْمَاعًا مَعَ أَنَّ اللَّعِبَ بِالْحَمَامِ لَيْسَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عبد الرحمن بن يزيد قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَتَاهُ ابْنٌ لَهُ قَدْ أَلْبَسَتْهُ أُمُّهُ قَمِيصًا مِنْ حَرِيرٍ، وَهُوَ مُعْجَبٌ بِهِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَنْ أَلْبَسَكَ هَذَا؟ قَالَ: أُمِّي قَالَ: ادْنُهْ فَدَنَا مِنْهُ فَشَقَّهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فَتُلْبِسَكَ ثَوْبًا غَيْرَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ المهاجر بن شماس، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: رَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ ابْنًا لَهُ عَلَيْهِ قَمِيصٌ مِنْ حَرِيرٍ فَشَقَّهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا هَذَا لِلنِّسَاءِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أبي جحيف قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ عبد الله حَتَّى أَتَيْتُ دَارَهُ فَأَتَاهُ بَنُونَ لَهُ عَلَيْهِمْ قُمُصُ حَرِيرٍ فَحَرَقَهَا، وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى أُمِّكُمْ فَتُلْبِسَكُمْ غَيْرَ هَذَا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابن الزبير أَنَّهُ خَطَبَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: بَلَغَنِي عَنْ رِجَالٍ يَلْعَبُونَ بِلُعْبَةٍ يُقَالُ لَهَا النَّرْدَشِيرْ أَنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يَلْعَبُ بِهَا إِلَّا عَاقَبْتُهُ فِي شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ، وَأَعْطَيْتُ سَلَبَهُ مَنْ أَتَانِي بِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشَّهَارْدَةِ فَأَحْرَقَهَا بِالنَّارِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مالك أَنَّهُ قَالَ: الشِّطْرَنْجُ مِنَ النَّرْدِ بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَلِيَ مَالَ يَتِيمٍ فَأَحْرَقَهَا، وَقَالَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ: حَدَّثَنَا محمد بن إبراهيم ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ ثَنَا أحمد بن زيد الخزار ثَنَا ضمرة ثَنَا أكدين بن سليمان أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عبد الله بن عوف عَلَى فِلَسْطِينَ أَنِ ارْكَبْ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي يُقَالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 لَهُ الْمَكْسُ فَاهْدِمْهُ ثُمَّ احْمِلْهُ إِلَى الْبَحْرِ فَانْسِفْهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: ثَنَا ابن حميد ثَنَا هارون، عَنْ أبي جعفر عَنْ ليث أَنَّ شقيقا لَمْ يُدْرِكِ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ بَنِي غَاضِرَةَ فَقِيلَ لَهُ مَسْجِدُ بَنِي فُلَانٍ لَمْ يُصَلُّوا بَعْدُ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ بُنِيَ عَلَى ضِرَارٍ وَكُلُّ مَسْجِدٍ بُنِيَ ضِرَارًا أَوْ رِيَاءً أَوْ سُمْعَةً فَإِنَّ أَصْلَهُ يَنْتَهِي إِلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ عَلَى ضِرَارٍ. [ذِكْرُ نَقُولِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي ذَلِكَ] قَالَ الشَّيْخُ تاج الدين السبكي فِي الطَّبَقَاتِ الْوُسْطَى فِي تَرْجَمَةِ الإصطخري أَحَدِ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيِّينَ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ مَا نَصُّهُ: وَلِيَ الْحِسْبَةَ بِبَغْدَادَ وَأَحْرَقَ طَاقَ اللَّعِبِ مِنْ أَجْلِ مَا يُعْمَلُ فِيهِ مِنَ الْمَلَاهِي، وَقَالَ فِي الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى فِي تَرْجَمَةِ الإصطخري أَيْضًا: مِنْ أَخْبَارِهِ فِي حِسْبَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي إِلَى بَابِ الْقَاضِي فَإِذَا لَمْ يَجِدْهُ جَالِسًا يَفْصِلُ الْقَضَايَا أَمَرَ مَنْ يَسْتَكْشِفُ عَنْهُ، هَلْ بِهِ عَذْرٌ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِهِ عُذْرًا أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ لِلْحُكْمِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَحْرَقَ مَكَانَ الْمَلَاهِي مِنْ أَجْلِ مَا يُعْمَلُ فِيهَا مِنَ الْمَلَاهِي، قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: وَهَذَا مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى جَوَازَ إِتْلَافِ مَكَانِ الْفَسَادِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا - هَذِهِ عِبَارَةُ ابن السبكي، وَقَدْ نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِعْلَ الإصطخري وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَقَالَ أَيْضًا فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: يَمْتَازُ وَالِي الْجَرَائِمِ عَلَى الْقُضَاةِ بِأَوْجُهٍ: مِنْهَا أَنَّ لَهُ فِيمَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْجَرَائِمُ، وَلَمْ يَنْزَجِرْ بِالْحُدُودِ اسْتِدَامَةَ حَبْسِهِ إِذَا أَضَرَّ النَّاسَ بِجَرَائِمِهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَمِنْهَا أَنَّ لَهُ أَخْذَ الْمُجْرِمِ بِالتَّوْبَةِ قَهْرًا وَيُظْهِرُ لَهُ مِنَ الْوَعِيدِ مَا يَقُودُهُ إِلَيْهَا طَوْعًا وَيَتَوَعَّدُهُ بِالْقَتْلِ فِيمَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَتْلُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: دَرَجَاتُ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبْعَةٌ: الْأُولَى: التَّخْوِيفُ بِلُطْفٍ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَذَلِكَ لِلْجَاهِلِ، الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ وَالتَّخْوِيفِ بِاللَّهِ. الثَّالِثَةُ: السَّبُّ وَالتَّعْنِيفُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ الْخَشِنِ، وَذَلِكَ يُعْدَلُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَنْعِ بِاللُّطْفِ وَظُهُورِ مَبَادِئِ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ. الرَّابِعَةُ: التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ كَكَسْرِ آلَاتِ الْمَلَاهِي، وَإِرَاقَةِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. الْخَامِسَةُ: التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ كَقَوْلِهِ: دَعْ عَنْكَ هَذَا أَوْ لَأَكْسِرَنَّ رَأْسَكَ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ رَقَبَتَكَ. السَّادِسَةُ: مُبَاشَرَةُ الضَّرْبِ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِلَا شَهْرِ سِلَاحٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِلْآحَادِ بِشَرْطِ الضَّرُورَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي الدَّفْعِ. السَّابِعَةُ: أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى أَعْوَانٍ يَشْهَرُونَ السِّلَاحَ، وَفِي احْتِيَاجِ هَذَا إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ خِلَافٌ فَقَالَ قَائِلُونَ: يَحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَحْرِيكِ الْفِتَنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ، وَهُوَ الْأَقْيَسُ؛ لِأَنَّ مُنْتَهَاهُ تَجْنِيدُ الْجُنُودِ فِي رِضَاءِ اللَّهِ وَدَفْعِ مَعَاصِيهِ، وَنَحْنُ نُجَوِّزُ لِلْآحَادِ مِنَ الْغُزَاةِ أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيُقَاتِلُوا مَنْ أَرَادُوا مِنْ فِرَقِ الْكُفَّارِ قَمْعًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ، فَكَذَلِكَ قَمْعُ أَهْلِ الْفَسَادِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ فَكَذَلِكَ الْفَاسِقُ الْمُنَاضِلُ عَنْ فِسْقِهِ لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ، وَالْمَقْتُولُ مِنَ الْقَائِمِينَ فِي حَرْبِ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدٌ، ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلْيَجُزْ لِلسُّلْطَانِ زَجْرُ النَّاسِ عَنِ الْمَعَاصِي بِإِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَخْرِيبِ دُورِهِمُ الَّتِي فِيهَا يَشْرَبُونَ، وَإِحْرَاقِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي بِهَا يَتَوَصَّلُونَ لِلْمَعَاصِي، فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ إِنْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ سُنَنِ الْمَصَالِحِ، وَالْمَصَالِحُ يُتَّبَعُ فِيهَا وَلَا يُبْتَدَعُ، هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ. فَعَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى وُرُودِهِ مِنَ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ فِيهِ عَلَى حَدِيثٍ، وَقَدْ صَحَّتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَإِنْ قِيلَ: التَّعْزِيرُ بِإِتْلَافِ الْمَالِ مَنْسُوخٌ فِي مَذْهَبِنَا قُلْتُ: مَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ طَرِيقًا لِإِزَالَةِ الْفَسَادِ، أَمَّا مَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِإِزَالَتِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ فِيهِ، وَلِهَذَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي فُرُوعٍ: مِنْهَا قَوْلُهُمْ يَجُوزُ كَسْرُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِتَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا وَاتِّخَاذِهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ آلَاتِ الْمَلَاهِي تُكْسَرُ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَمِنْهَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: لِلْوُلَاةِ كَسْرُ الظُّرُوفِ الَّتِي فِيهَا الْخُمُورُ؛ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا دُونَ الْآحَادِ قَالَ: وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأْكِيدًا لِلزَّجْرِ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ - هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ. قَالَ الأسنوي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ بَعْدَ نَقْلِهِ: - وَهُوَ مِنَ النَّفَائِسِ الْمُهِمَّاتِ - فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ كَيْفَ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِمَّا لَمْ يَجْرِ فِيهِ النَّسْخُ، وَإِنْ جَرَى فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ، وَمِنْهَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ فِي إِرَاقَةِ الْخُمُورِ لِلْآحَادِ: وَلَوْ كَانَتِ الْخَمْرُ فِي قَوَارِيرَ ضَيِّقَةِ الرُّؤُوسِ وَلَوِ اشْتَغَلَ بِإِرَاقَتِهَا لَأَدْرَكَهُ الْفُسَّاقُ وَمَنَعُوهُ، أَوْ لَمْ يَخَفْ ذَلِكَ لَكِنْ كَانَ فِيهِ تَضْيِيعُ زَمَانِهِ وَتَعْطِيلُ شُغْلِهِ فَلَهُ كَسْرُهَا، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَيِّعَ مَنْفَعَةَ بَدَنِهِ وَغَرَضَهُ مِنْ أَشْغَالِهِ لِأَجْلِ ظُرُوفِ الْخَمْرِ - نَقَلَهُ الأسنوي وَارْتَضَاهُ - وَمِنْهَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: لَوْ كَانَتْ آنِيَةٌ مِنْ بَلُّورٍ أَوْ زُجَاجٍ عَلَى صُورَةِ حَيَوَانٍ وَفِي كَسْرِهَا خُسْرَانُ مَالٍ كَثِيرٍ جَازَ كَسْرُهَا، وَمِنْهَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارٍ أَنَّ فُلَانًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي دَارِهِ، أَوْ بِأَنَّ فِي دَارِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 خَمْرًا أَعَدَّهُ لِلشُّرْبِ فَلَهُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْذَانُ وَيَكُونُ قَدْ تَخَطَّى مِلْكَهُ بِالدُّخُولِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى دَفْعِ الْمُنْكَرِ كَكَسْرِ رَأْسِهِ بِالضَّرْبِ لِلْمَنْعِ مَهْمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَمِنْهَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: يَتَوَقَّى فِي إِرَاقَةِ الْخُمُورِ كَسْرَ الْأَوَانِي، وَفِي النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ تَمْزِيقَ الثَّوْبِ إِنْ وَجَدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا بِالْكَسْرِ وَالتَّمْزِيقِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَسَقَطَتْ قِيمَةُ الظَّرْفِ وَيُقَوِّمُهُ بِسَبَبِ الْخَمْرِ إِذَا صَارَ حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْخَمْرِ، وَلَوْ سَتَرَ الْخَمْرَ بِبَدَنِهِ لَكُنَّا نَقْصِدُ بَدَنَهُ لِلضَّرْبِ وَالْجُرْحِ لِنَتَوَصَّلَ إِلَى إِرَاقَةِ الْخَمْرِ فَإِذًا لَا تَزِيدُ حُرْمَةُ مِلْكِهِ عَلَى حُرْمَةِ نَفْسِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الحافظ عماد الدين بن كثير فِي تَارِيخِهِ فِي صَفَرَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ بَلَغَ الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الرَّافِضَةِ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدِ بَرَاثَا فَيَنَالُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ وَيُكَاتِبُونَ الْقَرَامِطَةَ وَيَدْعُونَ إِلَى وِلَايَةِ محمد بن إسماعيل الَّذِي بَيْنَ الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ المهدي وَيَتَبَرَّؤُونَ مِنَ المقتدر وَمَنْ تَبِعَهُ، فَأَمَرَ بِالِاحْتِفَاظِ عَلَيْهِمْ وَاسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ فَأَفْتَوْا بِأَنَّهُ مَسْجِدُ ضِرَارٍ يُهْدَمُ كَمَا هُدِمَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ فَهَدَمَهُ نازوك صاحب الشرطة وَأَمَرَ الوزير الخاقاني فَجَعَلَ مَكَانَهُ مَقْبَرَةً فَدُفِنَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَوْتَى. وَقَالَ ابن عطية فِي تَفْسِيرِهِ: رُوِيَ أَنَّ مَسْجِدَ الضِّرَارِ لَمَّا هُدِمَ وَأُحْرِقَ اتُّخِذَ مَزْبَلَةً يُرْمَى فِيهِ الْأَقْذَارُ وَالْقِمَامَاتُ قَالَ: وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَتْ {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] كَانَ لَا يَمُرُّ بِالطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا الْمَسْجِدُ» ، وَقَالَ صَاحِبُ عُيُونِ التَّفَاسِيرِ: كُلُّ مَسْجِدٍ بُنِيَ مُبَاهَاةً وَرِيَاءً وَسُمْعَةً أَوْ لِغَرَضٍ غَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ أَوْ بِمَالٍ غَيْرِ طَيِّبٍ فَهُوَ لَاحِقٌ بِمَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ الكواشي فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، والشهاب الأياسلوغي فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ القرطبي فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا إِلَى جَنْبِ مَسْجِدٍ، وَيَجِبُ هَدْمُهُ وَالْمَنْعُ مِنْ بِنَائِهِ؛ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ الْمَسْجِدُ الْأَوَّلُ فَيَبْقَى شَاغِرًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَحَلَّةُ كَبِيرَةً فَلَا يَكْفِي أَهْلَهَا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ فَيُبْنَى حِينَئِذٍ، وَكَذَلِكَ قَالُوا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى فِي الْمِصْرِ الْوَاحِدِ جَامِعَانِ وَيَجِبُ مَنْعُ الثَّانِي وَمَنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ فِيهِ لَمْ تُجْزِئْهُ، وَقَدْ أَحْرَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسْجِدَ الضِّرَارِ وَهَدَمَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 [قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَكُلُّ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلَى ضِرَارٍ أَوْ رِيَاءٍ أَوْ سُمْعَةٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ] قُلْنَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ الَّذِي يُتَّخَذُ لِلْعِبَادَةِ وَحَضَّ الشَّرْعُ عَلَى بِنَائِهِ يُهْدَمُ، وَيُنْزَعُ إِذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَمَا ظَنُّكَ بِسِوَاهُ؟ بَلْ هُوَ أَحْرَى أَنْ يُزَالَ وَيُهْدَمَ، هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ القرطبي. وَقَالَ ابن فرحون فِي طَبَقَاتِ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَرْجَمَةِ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ أَحَدِ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ قَاضِي مِصْرَ: كَانَ عَدْلًا فِي قَضَائِهِ مَحْمُودَ السِّيرَةِ، قَالَ محمد بن عبد الحكم: قَالَ ابن أبي داود: لَقَدْ قَامَ حَارِسُكُمْ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ هَدَمَ مَسْجِدًا كَانَ بَنَاهُ خُرَاسَانِيٌّ بَيْنَ الْقُبُورِ بِنَاحِيَةِ الْقُطْبِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ فِيهِ لِلْقِرَاءَةِ وَالْقَصَصِ وَالتَّعْبِيرِ، قَالَ ابن فرحون: وَبِمِثْلِ هَذَا أَفْتَى يحيى بن عمر فِي كُلِّ مَسْجِدٍ يُبْنَى نَائِيًا عَنِ الْقَرْيَةِ حَيْثُ لَا يُصَلِّي فِيهِ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، وَإِنَّمَا يُصَلِّي فِيهِ مَنْ يَنْتَابُهُ، وَبِذَلِكَ أَفْتَى فِي مَسْجِدِ السَّبْتِ بِالْقَيْرَوَانِ، وَبِمِثْلِهِ أَفْتَى أبو عمران فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ بِجَبَلِ فَاسَ. وَقَالَ ابن فرحون فِي كِتَابِهِ تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ فِي أُصُولِ الْأَقْضِيَةِ وَمَنَاهِجِ الْأَحْكَامِ: التَّعْزِيرُ لَا يَخْتَصُّ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا قَوْلٍ مُعَيَّنٍ فَقَدْ عَزَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهَجْرِ. وَأَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَجْرِ صبيغ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُ عَنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ فَكَانَ لَا يُكَلِّمُهُ أَحَدٌ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ إِبَاحَتُهُ سَلَبَ الصَّائِدِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لِمَنْ وَجَدَهُ، وَأَمْرُهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو بِتَحْرِيقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ، وَأَمْرُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَ فِيهَا لُحُومُ الْحُمُرِ، وَهَدْمُهُ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَأَمْرُهُ بِتَحْرِيقِ مَتَاعِ الْغَالِّ، وَبِقَطْعِ نَخْلِ الْيَهُودِ وَتَحْرِيقِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ طلحة فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُحْرِقَ عَلَيْهِمُ الْبَيْتَ فَفَعَلَ» ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ قَصْرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لِمَا بَلَغَهُ أَنَّهُ احْتَجَبَ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَمَرَ أَيْضًا بِتَحْرِيقِ حَانُوتِ رويشد الثقفي الَّذِي كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فُوَيْسِقٌ، وَلَسْتَ برويشد، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَاقَ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ، قَالَ: وَهَذِهِ قَضَايَا صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ شمس الدين بن القيم الحنبلي فِي كِتَابِ الطُّرُقِ الْحِكَمِيَّةِ: قَدْ مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَالَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ سَهْمَهَ وَحَرَقَ مَتَاعَهُ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَمَنَعَ الْقَاتِلَ مِنَ السَّلَبِ لَمَّا أَسَاءَ شَافِعُهُ عَلَى أَمِيرِ السَّرِيَّةِ، وَعَزَمَ عَلَى تَحْرِيقِ بُيُوتِ تَارِكِي الْجُمُعَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَالْجَمَاعَةِ، وَأَمَرَ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَبِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَ فِيهَا اللَّحْمُ الْحَرَامُ، وَبِتَحْرِيقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ، وَسَلَكَ أَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ، فَحَرَقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَانُوتَ الْخَمَّارِ بِمَا فِيهِ، وَحَرَّقَ قَرْيَةً يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ، وَحَرَّقَ قَصْرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا احْتَجَبَ فِي قَصْرِهِ عَنِ الرَّعِيَّةِ. وَسُئِلَ أُسْتَاذُنَا الْإِمَامُ كمال الدين بن الهمام الحنفي عَنْ رَجُلٍ يَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ جَمَاعَةً إِلَى الْفِسْقِ فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ قَالَ الْفُقَهَاءُ: رَجُلٌ أَظْهَرَ الْفِسْقَ فِي دَارِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَبَدًا لِلْعُذْرِ فَإِنْ كَفَّ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُفَّ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ سَجَنَهُ وَإِنْ شَاءَ ضَرَبَهُ أَسْوَاطًا وَإِنْ شَاءَ أَزْعَجَهُ عَنْ دَارِهِ، وَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ أَشْيَاخِنَا حَيْثُ أَمَرَ بِتَخْرِيبِ دَارِ الْفَاسِقِ انْتَهَى. وَقَالَ ابن فرحون: صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَتْلِ مَنْ لَا يَزُولُ فَسَادُهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي اللُّوطِيِّ إِذَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُقْتَلُ تَعْزِيرًا. وَفِي مُعْجَمِ الْأُدَبَاءِ لياقوت الحموي أَنَّ نُورَ الدِّينِ الشَّهِيدَ لَمَّا فَتَحَ الْمَدْرَسَةَ الْكَبِيرَةَ بِحَلَبَ اسْتَدْعَى البرهان البلخي إمام الحنفية فِي زَمَانِهِ فَأَلْقَى فِيهَا الدَّرْسَ وَكَانَ الْأَذَانُ بِحَلَبَ عَلَى قَاعِدَةِ الشِّيعَةِ يُزَادُ فِيهِ حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ مُحَمَّدٌ وعلي خَيْرُ الْبَشَرِ، فَلَمَّا سَمِعَ البلخي ذَلِكَ أَمَرَ الْفُقَهَاءَ فَصَعِدُوا الْمَنَارَةَ وَقْتَ الْأَذَانِ وَقَالَ لَهُمْ: مُرُوا الْمُؤَذِّنِينَ يُؤَذِّنُوا الْأَذَانَ الْمَشْرُوعَ وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ أَلْقُوهُ مِنْ فَوْقِ الْمَنَارَةِ عَلَى رَأْسِهِ فَفَعَلُوا فَلَمْ يَعُدْ أَحَدٌ يُؤَذِّنُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابن كثير فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ: بَرَزَتِ الْمَرَاسِيمُ السُّلْطَانِيَّةُ الْمُظَفَّرِيَّةُ بيبرس إِلَى نُوَّابِ الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ بِإِبْطَالِ الْخُمُورِ وَتَخْرِيبِ الْحَانَاتِ فَفُعِلَ ذَلِكَ وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا كَثِيرًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَالَ الذهبي فِي الْعِبَرِ فِي سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ: خُرِّبَ الْبَازَارُ الْمُعَدُّ لِلْفَاحِشَةِ بِبَغْدَادَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَمَا يَعْلَمُ مَا غُرِمَ عَلَى بِنَائِهِ إِلَّا اللَّهُ - تَعَالَى مِنْ عِظَمِهِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَقَالَ غَيْرُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ: خَرَّبَ آلُ مَلِكٍ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ خِزَانَةَ النُّبُوذِ وَأَرَاقَ خُمُورَهَا وَكَانَتْ دَارَ فِسْقٍ وَفُجُورٍ، وَقَالَ الحافظ ابن حجر فِي إِنْبَاءِ الْغُمْرِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ: شَدَّدَ منجك نائب الشام عَلَى أَهْلِ اللَّهْوِ وَأَمَرَ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ الصَّفْصَافِ الَّتِي بَيْنَ النَّهْرَيْنِ وَبِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي بِالسُّوقِ الْأَعْلَى وَأَزَالَ الْمُنْكَرَاتِ مِنْهُ، وَمِنَ الَّذِي فَوْقَ الْجِهَةِ وَهَدَمَ الْأَبْنِيَةَ وَالْحَوَانِيتَ الَّتِي هُنَاكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قُلْتُ: وَمَا زَالَ هَذَا دَأْبَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ سَلَفًا وَخَلَفًا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا. وَالْعُلَمَاءُ يُفْتُونَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَمَنْ طَالَعَ تَوَارِيخَ الْأُمَّةِ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمَهُ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَقَدْ قُلْتُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ: يَقُولُ رَبْعُ الْفِسْقِ مَا مُسْلِمٌ ... مِمَّا لَهُ أُرْصِدْتُ يَرْضَانِي وَلَا تَرَى فِي النَّاسِ ذَا مَسْكَةٍ ... إِلَّا يَرَى فِي الْوَزْنِ نُقْصَانِي وَإِنْ يَزْنِي أَحَدٌ رَاجِحًا ... فَالْجَاهِلُ اللُّوطِيُّ وَالزَّانِي وَقُلْتُ إِنْ لَمْ يَخْلُ مِمَّا بِهِ ... فَالشَّرْعُ فِيهِ هَدْمُ ذَا الْجَانِي وَاسْتَفْتَى الْبَانِي فَأَفْتَى بِأَنْ ... مَنْ قَالَ هَذَا آثَمٌ جَانِي يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا فَاسْمَعُوا ... مَقَالَ حَقٍّ لَيْسَ بِالْوَانِي مَنْ ذَا الَّذِي أَوْلَى بِتَأْثِيمِهِ ... عِنْدَ مُحِبٍّ كَانَ أَوْشَانِي أَهَادِمٌ رَبْعًا بَنَوْهُ لِكَيْ ... يُعْصَى بِهِ اللَّهُ أَمِ الْبَانِي [بَابُ الْقِرَاضِ] مَسْأَلَةٌ: لَوِ اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالْعَامِلُ فَقَالَ الْمَالِكُ: دَفَعْتُ لَكَ الْمَالَ قِرَاضًا، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ قَرْضًا، مَنِ الْمُصَدَّقُ؟ . الْجَوَابُ: هَذَا الْفَرْعُ لَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ عَكْسُهُ وَهُوَ فِي الرَّوْضَةِ مَحْكِيٌّ فِيهِ وَجْهَانِ بِلَا تَرْجِيحٍ، وَرَجَّحَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا تَصْدِيقَ الْمَالِكِ وَفِيمَا إِذَا تَلِفَ تَصْدِيقَ الْعَامِلِ، وَأَمَّا هَذَا الْفَرْعُ فَالَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ تَصْدِيقُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ يَدًا وَبَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْقُولٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ. [بَابُ الْمُزَارَعَةِ] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ اتَّفَقَ مَعَ شَخْصٍ عِنْدَهُ قَمْحٌ عَلَى أَنَّهُمَا يَزْرَعَانِ الْأَرْضَ وَأَنَّ صَاحِبَ الْقَمْحِ يَبْذُرُ عَنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الْقَمْحِ، وَأَنَّ مَا يَخُصُّ صَاحِبَ الْقَمْحِ يُؤَدِّي هُوَ خَرَاجَهُ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ يَحْرُثُ مَا يَخُصُّهُ وَمَا يَخُصُّ شَرِيكَهُ فِي مُقَابَلَةِ أَنَّهُ يَصْبِرُ عَلَيْهِ بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْقَمْحِ ثُمَّ طَلَعَ الزَّرْعُ فَمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْهُمَا. الْجَوَابُ: يَخْتَصُّ صَاحِبُ الْقَمْحِ بِجَمِيعِ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْقَمْحَ الَّذِي بَذَرَهُ كُلَّهُ مِلْكُهُ وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ قَرْضٌ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِلْأَرْضِ وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَيْضًا أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِعَمَلِهِ وَحَرْثِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 [بَابُ الْإِجَارَةِ] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ أَجَّرَ أَرْضًا عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ بَاعَهَا لِآخَرَ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ وَجَعَلَ لَهُ أُجْرَةَ السَّنَتَيْنِ فَامْتَنَعَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ زَرْعِهَا وَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: ازْرَعْ أَنْتَ أَرْضَكَ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: إِذَا بَاعَ الْأَرْضَ الْمُؤَجَّرَةَ فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِهَا وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الِامْتِنَاعُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ الْأُجْرَةِ زَرَعَهَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ تَلْزَمُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَنْفَعَةَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الزَّرْعِ نَفْسِهِ، لَكِنَّ الصُّورَةَ الْمَسْؤُولَ عَنْهَا فِيهَا جَعْلُ الْأُجْرَةِ الْبَاقِيَةِ لِلْمُشْتَرِي فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْبَيْعِ بَطَلَ الْبَيْعُ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَنِ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا لِقَلْعِ سِنٍّ وَجِعَهُ فَحَضَرَ لِذَلِكَ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ سِنِّي طَيِّبَةٌ وَامْتَنَعَ مِنْ قَلْعِهَا فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا مُرَخَّمًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهُ خَاصَّةً، وَأَقْبَضَ الْأُجْرَةَ فَوَضَعَ فِيهِ كَتَّانًا وَاحْتَرَقَ الْبَيْتُ بِسَبَبِهِ فَهَلْ يَضْمَنُ الْبَيْتَ وَإِذَا ضَمِنَهُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَوْ بِنَاءُ مِثْلِهِ؟ وَهَلْ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ وَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِأُجْرَةِ بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ؟ . الْجَوَابُ: إِنْ كَانَ حُصُولُ الْحَرِيقِ فِي الْبَيْتِ بِفِعْلٍ مَنْسُوبٍ إِلَيْهِ مِنْ نَارٍ أَوْقَدَهَا وَجَرَتْ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْبَيْتِ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْسُوبٍ إِلَيْهِ فَضَمَانُهُ عَلَى مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ الْحَرِيقُ، وَهَلْ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ؟ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَ لِلِانْتِفَاعِ مُطْلَقًا فَلَا، أَوْ لِلسُّكْنَى خَاصَّةً فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِوَضْعِ الْكَتَّانِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ غَاصِبًا كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِيمَا إِذَا اكْتَرَى لِيُسْكِنَ فَأَسْكَنَ حَدَّادًا، أَوْ قَصَّارًا، وَإِذَا صَارَ غَاصِبًا صَارَ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ، وَالْقَرَارُ عَلَى مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ الْحَرِيقُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَا حَصَلَ وَيَسْتَحِقُّ بَقِيَّةَ أُجْرَةِ الْمُدَّةِ فَيَرْجِعُ بِهَا أَوْ يُحَاسِبُ بِهَا مِمَّا يَلْزَمُهُ، وَأَمَّا هَلْ تَلْزَمُهُ قِيمَةُ الدَّارِ أَوْ بِنَاءُ مِثْلِهَا؟ فَالَّذِي أَفْتَى بِهِ النووي، وَنَقَلَهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِنَاءُ مِثْلِهَا وَلَكِنْ فِيمَا إِذَا هَدَمَ جِدَارًا، وَلَا يَظْهَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ فَرْقٌ، وَأَمَّا الأسنوي فَصَحَّحَ وُجُوبَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ مُتَقَوِّمٌ وَأَوَّلَ النَّصَّ، فَالْعُمْدَةُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ النووي وَقِصَّةُ جريج فِي الصَّحِيحِ تُؤَيِّدُهُ. مَسْأَلَةٌ: اسْتَأْجَرَ إِنْسَانٌ عَيْنًا مُدَّةً وَلَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَادَّعَى أَنَّهُ مُعْسِرٌ وَكَانَ أَقَرَّ عِنْدَ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ مَلِيءٌ وَقَادِرٌ فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الْإِعْسَارِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الْجَوَابُ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا وَتَلِفَ مَالُهُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا إِقْطَاعِيَّةً لِيَزْرَعَهَا مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَمَاتَ الْمُؤَجِّرُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَخَلَّفَ وَلَدًا فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ أَوْ تَبْقَى لِوَلَدِ الْمُؤَجِّرِ؟ . الْجَوَابُ: الْأَرْضُ الْإِقْطَاعِيَّةُ فِي إِجَارَتِهَا كَلَامٌ لِلْعُلَمَاءِ حَتَّى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِجَارَتُهَا؛ لِأَنَّهَا بِصَدَدِ أَنْ يَنْزِعَهَا الْإِمَامُ مِنَ الْمُقْطَعِ وَيُقْطِعَهَا غَيْرَهُ، لَكِنَّ الَّذِي نَخْتَارُهُ صِحَّةَ إِجَارَتِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَقُولُ أَنَّهَا كَالْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ حَتَّى إِنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ تَبْقَى الْإِجَارَةُ بَلْ نَقُولُ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِهِ، كَمَا إِذَا مَاتَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ وَقَدْ أَجَّرَ الْوَقْفَ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَطْنَ الثَّانِيَ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ قَطْعًا، وَالْإِقْطَاعُ لَا يَتَحَقَّقُ انْتِقَالُهُ إِلَى الْوَلَدِ فَقَدْ يُقْطِعُهُ السُّلْطَانُ إِيَّاهُ وَقَدْ لَا يُقْطِعُهُ. مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ سَافَرَ لِبِلَادِ السُّلْطَانِ فِي طَلَبِ مَالِ الذَّخِيرَةِ فَأَعْطَوْهُ حَقَّ طَرِيقِهِ فَأَخَذَ صُحْبَتَهُ ثَلَاثَةَ مَمَالِيكَ فِي خِدْمَتِهِ فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةً أَشْرَفِيَّةً فَهَلْ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى أَحَدِهِمْ بِالْمَبْلَغِ الَّذِي أَعْطَاهُ فِي نَظِيرِ سَفَرِهِ مَعَهُ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ أَخَذَ مَعَهُ تَسْفِيرَهُ؟ . الْجَوَابُ: يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَ الَّذِي أَخَذَهُ مَعَهُ تَسْفِيرَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوَّلًا، فَإِنْ سَافَرَ مَعَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ أُجْرَةً فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَمَتَى أَعْطَاهُ شَيْئًا وَقَدْ شَرَطَهُ لَهُ أَوَّلًا أَوْ لَمْ يَشْرُطْهُ، وَلَكِنْ تَبَرَّعَ بِهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ. [بَابُ الْجَعَالَةِ] مَسْأَلَةٌ: شَخْصٌ حَجَّ حَجَّةً نَافِلَةً فَقَالَ لَهُ آخَرُ: بِعْنِي ثَوَابَ حَجَّتِكَ بِكَذَا، فَقَالَ لَهُ: بِعْتُكَ فَهَلْ ذَلِكَ صَحِيحٌ، وَيَنْتَقِلُ الثَّوَابُ إِلَيْهِ؟ وَإِذَا قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ: اقْرَأْ لِي كُلَّ يَوْمٍ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاجْعَلْ ثَوَابَهُ لِي وَجَعَلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَالًا مَعْلُومًا فَفَعَلَ فَهَلْ يَكُونُ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْمَجْعُولِ لَهُ أَوْ مِثْلُ الثَّوَابِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا انْتَقَلَ الثَّوَابُ لَهُ فَهَلْ يَبْقَى لِلْقَارِئِ ثَوَابٌ أَمْ لَا؟ وَكَذَا إِذَا لَمْ يَقْرَأْ لَهُ بِجَعَالَةٍ وَلَكِنْ قَرَأَ لَهُ تَبَرُّعًا مِنْ نَفْسِهِ وَكَذَا سَائِرُ الْعِبَادَاتِ؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَجِّ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَبَاطِلَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْقِرَاءَةِ فَجَائِزَةٌ إِذَا شَرَطَ الدُّعَاءَ بَعْدَهَا، وَالْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ بَابِ الْجَعَالَةِ وَهِيَ جَعَالَةٌ عَلَى الدُّعَاءِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ، فَإِنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ لِلْقَارِئِ وَلَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ لِلْمَدْعُوِّ وَلَهُ، إِنَّمَا يُقَالُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 لَهُ مِثْلُ ثَوَابِهِ فَيَدْعُو بِذَلِكَ وَيَحْصُلُ لَهُ إِنِ اسْتَجَابَ اللَّهُ الدُّعَاءَ، وَكَذَا حُكْمُ الْقَارِئِ بِلَا جَعَالَةٍ فِي الدُّعَاءِ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَقْرَأُ خَتَمَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِأُجْرَةٍ هَلْ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يَكُونُ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْأُجْرَةِ مِنْ بَابِ التَّكَسُّبِ أَوِ الصَّدَقَةِ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ بَعْدَهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأُجْرَةِ وَلَا الصَّدَقَةِ بَلْ مِنْ بَابِ الْجَعَالَةِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لَا تَعُودُ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِمَا تَقَرَّرُ فِي مَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ لِلْقَارِئِ، لَا لِلْمَقْرُوءِ لَهُ، وَتَجُوزُ الْجَعَالَةُ عَلَيْهَا إِنْ شَرَطَ الدُّعَاءَ بَعْدَهَا وَإِلَّا فَلَا، وَتَكُونُ الْجَعَالَةُ عَلَى الدُّعَاءِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ. هَذَا مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ وَقَرَّرَهُ لَنَا أَشْيَاخُنَا، وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَجُوزُ الْجَعَالَةُ إِنْ كَانَتْ عَلَى الدُّعَاءِ عِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِهِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، وَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِنَفْسِ الدُّعَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُجَرَّدِ الْوُقُوفِ عِنْدَهُ وَمُشَاهَدَتِهِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ انْتَهَى، وَمَسْأَلَةُ الْقِرَاءَةِ نَظِيرُهُ. مَسْأَلَةٌ مَاذَا جَوَابُكُمْ لَا زَالَ فَضْلُكُمْ ... يَعُمُّ سَائِلَكُمْ فِي كُلِّ مَا سَأَلَا فِي قَارِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ لَيْسَ لَهُ ... قَصْدٌ سِوَى أَنَّهُ فِي الْوَقْفِ قَدْ حَصَلَا لِأَخْذِ مَعْلُومَةٍ فِي الْوَقْفِ لَازِمَةٍ ... فَصَارَ مِثْلَ أَجِيرٍ لَازَمَ الْعَمَلَا فَهَلْ يُثَابُ عَلَى هَذِي الْقِرَاءَةِ أَوْ ... ثَوَابُهُ فِي حُضُورٍ يُشْبِهُ الْعَمَلَا؟ فَقَدْ تَنَازَعَ فِيهَا قَائِلَانِ فَمَنْ ... أَصَابَ وَجْهَ صَوَابٍ نِلْتُمْ نُزُلَا وَلَا بَرِحْتُمْ نُجُومًا وَالزَّمَانُ بِكُمْ ... زَاهٍ وَمُبْتَهِجٌ وَالْخَيْرُ قَدْ حَصَلَا الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُبْلِغُ الْأَمَلَا ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مُنْتَحِلًا لَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ فِي هَذَا بِأَنَّ لَهُ ... أَجْرًا وَلَا بِانْتِفَاءِ الْأَجْرِ عَنْهُ خَلَا بَلِ الْمَدَارُ عَلَى مَا كَانَ نِيَّتُهُ ... بِالْقَلْبِ وَهُوَ عَلَى النِّيَّاتِ قَدْ حُمِلَا فَإِنْ نَوَى قُرْبَةً لِلَّهِ كَانَ لَهُ ... أَجْرٌ وَإِنْ يَنْوِ مَحْضَ الْجَعْلِ عَنْهُ فَلَا وَابْنُ السُّيُوطِيِّ قَدْ خَطَّ الْجَوَابَ لِكَيْ ... يَرَى لَدَى الْحَشْرِ فِي فِرْدَوْسِهِ النُّزُلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 [بَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ] [ مسائل متفرقة ] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ بِيَدِهِ رَزْقَةٌ اشْتَرَاهَا ثُمَّ مَاتَ فَوَضَعَ شَخْصٌ يَدَهُ عَلَيْهَا بِتَوْقِيعٍ سُلْطَانِيٍّ فَهَلْ لِلْوَرَثَةِ مُنَازَعَتُهُ؟ . الْجَوَابُ: إِنْ كَانَتِ الرَّزْقَةُ وَصَلَتْ إِلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ بِأَنْ أَقْطَعَهُ السُّلْطَانُ إِيَّاهَا، وَهِيَ أَرْضٌ مَوَاتٌ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا وَيَصِحُّ مِنْهُ بَيْعُهَا وَيَمْلِكُهَا الْمُشْتَرِي مِنْهُ وَإِذَا مَاتَ فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ وَضْعُ الْيَدِ عَلَيْهَا لَا بِأَمْرٍ سُلْطَانِيٍّ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا وَهِيَ غَيْرُ مُوَاتٍ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ الْآنَ فَإِنَّ الْمُقْطَعَ لَا يَمْلِكُهَا بَلْ يَنْتَفِعُ بِهَا بِحَسَبِ مَا يُقِرُّهَا السُّلْطَانُ فِي يَدِهِ، وَلِلسُّلْطَانِ انْتِزَاعُهَا مَتَى شَاءَ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقْطَعِ بَيْعُهَا فَإِنْ بَاعَ فَفَاسِدٌ وَإِذَا أَعْطَاهَا السُّلْطَانُ لِأَحَدٍ نَفَذَ وَلَا يُطَالَبُ. مَسْأَلَةٌ: مَا شُرِعَ فِيهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْ هَدْمِ الْأَبْنِيَةِ الْمُحْدَثَةِ فِي الشَّوَارِعِ وَحَرِيمِ الْمَسَاجِدِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ هُوَ جَائِزٌ، بَلْ وَاجِبٌ. [الْبَارِعُ فِي إِقْطَاعِ الشَّارِعِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، عُرِضَ عَلَيَّ وَرَقَةٌ صُورَتُهَا: فَرْعٌ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعُ الشَّارِعِ عَلَى الْأَصَحِّ فَيَصِيرُ الْمُقْطَعُ بِهِ كَالْمُتَحَجِّرِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهُ بِالْإِحْيَاءِ، وَفِي وَجْهٍ غَرِيبٍ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَمَلُّكُ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الطَّرِيقِ، وَمُرَادُ قَائِلِهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ التَّمَلُّكَ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِنَفْسِهِ. وَذَكَرَ الرافعي فِي الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ جَوَّزُوا الْإِقْطَاعَ وَأَنَّ الْمُقْطَعَ يَبْنِي فِيهِ وَيَتَمَلَّكُ، وَهَذَا ذُهُولٌ فَإِنَّ الْأَصَحَّ فِي الصُّلْحِ مَنْعُ الْبِنَاءِ وَهُنَا مَنْعُ التَّمَلُّكِ انْتَهَى. وَأَقُولُ: هَذَا الْفَرْعُ مَنْقُولٌ بِرُمَّتِهِ مِنَ التَّكْمِلَةِ للزركشي، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فِي ذِكْرِ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ إِجْمَالًا، وَحُكْمُهَا عَلَى مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَنْقُولِ بَعْدَ مُرَاجَعَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ كَالرَّوْضَةِ، وَالشَّرْحِ، وَتَهْذِيبِ الْبَغَوِيِّ، وَكَافِي الخوارزمي، وَنِهَايَةِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَبَسِيطِ الْغَزَالِيِّ، وَوَسِيطِهِ، وَالْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ، وَالتَّلْخِيصِ لابن القاص، وَالْبُلْغَةِ للجرجاني، وَتَعْلِيقِ القاضي الحسين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْ كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْكِفَايَةُ لابن الرفعة، وَشَرْحُ الْمِنْهَاجِ للسبكي، وَالْمُهِمَّاتُ، وَالْخَادِمُ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَقْطَعَ أَحَدًا مَوْضِعًا مِنَ الشَّارِعِ كَانَ الْمُقْطَعُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِلِارْتِفَاقِ خَاصَّةً دُونَ التَّمَلُّكِ وَالْبِنَاءِ، وَأَنَّهُ لَوْ جَاءَ أَحَدٌ بَعْدَ صُدُورِ الْإِقْطَاعِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَجَلَسَ فِيهِ أُزْعِجُ مِنْهُ وَلَا يُقَرُّ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْطَعُ غَائِبًا عَنْهُ وَلَيْسَ فِيهِ أَمْتِعَتُهُ، فَإِنْ قُلْتَ: مُقْتَضَى قَوْلِهِ كَالْمُتَحَجِّرِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ أَحَدٌ وَتَعَدَّى وَجَلَسَ لَمْ يُمْنَعْ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ وَهُوَ الْمُتَحَجِّرُ قَالُوا أَنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ تَعَدَّى غَيْرُهُ وَبَنَى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سِوَى الْإِثْمِ وَيَمْلِكُ الْبَقِيَّةَ بِالْإِحْيَاءِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ هُنَا لَيْسَ عَلَيْهِ سِوَى الْإِثْمِ وَلَا يُزْعَجُ، قُلْتُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ مُفَصَّلًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ فَنَقُولُ فِي هَذَا الْفَرْعِ: الْمَسْؤُولُ عَنْهُ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ كَالْمُتَحَجِّرِ زِيَادَةٌ زَادَهَا الزركشي، وَلَيْسَتْ فِي كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا كَمَا سَنُبَيِّنُ ذَلِكَ عِنْدَ سِيَاقِ عِبَارَاتِهِمْ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُرَدُّ أَصْلًا السُّؤَالُ الْمُتَقَدِّمُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَوَجُّهِهِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ اسْتِوَاءُ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي الْأَحَقِّيَّةِ فَقَطْ لَا فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ أَيْضًا مِنْ حُصُولِ مُتَعَدٍّ بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَحَقِّيَّةِ وَهَذَا وَاضِحٌ. الثَّانِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَإِنَّ مَسْأَلَةَ الْمُتَحَجِّرِ الْبُقْعَةُ فِيهَا تَقْبَلُ التَّمَلُّكَ، فَإِذَا وَجَدَ الْإِحْيَاءَ الَّذِي هُوَ أَقْوَى سَبَبًا عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ وَقُدِّمَ عَلَى التَّحَجُّرِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ نَسْخِ السَّبَبِ الضَّعِيفِ لِوُجُودِ أَقْوَى مِنْهُ، وَنَظِيرُهُ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَطُرُوءُ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ عَلَى الْأَصْغَرِ، وَتَقْدِيمُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى السَّبَبِ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّارِعِ فَالْبُقْعَةُ فِيهَا لَا تَقْبَلُ التَّمَلُّكَ، فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ أَقْوَى يُقَدَّمُ عَلَى هَذَا السَّبَبِ فَتَمَسَّكْنَا بِالسَّبَبِ السَّابِقِ الَّذِي هُوَ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ وَأُلْغِيَ كُلُّ مَا طَرَأَ بَعْدَهُ، الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ عَقِبَ هَذَا التَّشْبِيهِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهُ بِالْإِحْيَاءِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَيْدِ لِمَحَلِّ التَّشْبِيهِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّهُ كَالْمُتَحَجِّرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُخْرِجَةً لِتِلْكَ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُتَحَجِّرِ وَهُوَ تَعَدِّي شَخْصٍ عَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ فَلَا تَأْتِي هُنَا، وَيَكُونُ إِخْرَاجُهَا مِنْ مَنْطُوقِ الْكَلَامِ لَا مِنْ مَفْهُومِهِ، وَلِهَذَا عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: لِأَحَدٍ، الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُهُ، أَيْ لِلْمُقْطَعِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْمُقْطَعَ وَغَيْرَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَبِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ عُرِفَ أَنَّ الْعِبَارَةَ لَا تُعْطِي ذَلِكَ الْمُقْتَضَى الْمَذْكُورَ، وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالْمُتَحَجِّرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَمْلِكِ الْبُقْعَةَ بِالتَّحَجُّرِ وَكَذَلِكَ هُوَ لَا يَمْلِكُ الْبُقْعَةَ بِالْإِقْطَاعِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهُ بِالْإِحْيَاءِ جَارٍ مَجْرَى التَّفْسِيرِ لَا مَجْرَى التَّقْيِيدِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَذَكَرَ الرافعي فِي الْجِنَايَاتِ إِلَى قَوْلِهِ وَهَذَا ذُهُولٌ سَبَقَهُ إِلَيْهِ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ، ثُمَّ السبكي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: ثُمَّ الأسنوي فِي الْمُهِمَّاتِ: فَاعْتَمَدَهُ الزركشي هُنَا، وَحَاوَلَ فِي الْخَادِمِ التَّأْوِيلَ وَالْجَمْعَ بَيْنَ كَلَامِ الرافعي، وَنَحْنُ نَسُوقُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ عِبَارَاتِ الْأَصْحَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَهَلْ لِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ فِيهِ مَدْخَلٌ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَعَمْ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَظَرًا، وَلِهَذَا يُزْعَجُ مَنْ أَضَرَّ جُلُوسُهُ، وَأَمَّا تَمَلُّكُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَحُكِيَ وَجْهٌ فِي الرَّقْمِ للعبادي وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ لأبي طاهر أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنَ الشَّوَارِعِ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الطُّرُقِ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ - هَذِهِ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ، فَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا قَوْلَهُ كَالْمُتَحَجِّرِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ: الْقَطَائِعُ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: مَا يُمْلَكُ وَهُوَ مَا مَضَى مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ. وَالثَّانِي: إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ لَا تَمَلُّكَ فِيهِ كَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ الْوَاسِعَةِ، وَيَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ إِقْطَاعُهُ لَكِنَّهُ لَا يُمَلِّكُهُ بَلْ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَبْنِيَ دَكَّةً لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ الطَّرِيقَ وَيَضُرُّ بِالضَّرِيرِ وَبِالْبَصِيرِ بِاللَّيْلِ، وَإِذَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَوْضِعًا كَانَ أَحَقَّ بِهِ سَوَاءٌ نَقَلَ مَتَاعَهُ إِلَيْهِ أَوْ لَمْ يَنْقُلْ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ النَّظَرَ وَالِاجْتِهَادَ، وَإِذَا أَقْطَعَهُ ثَبَّتَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الخوارزمي فِي الْكَافِي: الْقَطَائِعُ ضَرْبَانِ إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ، وَإِقْطَاعُ تَمَلُّكٍ، أَمَّا إِقْطَاعُ الْإِرْفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ مِنْ إِنْسَانٍ مَوْضِعًا مِنْ مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَالطَّرِيقِ الْوَاسِعَةِ لِيُجْلَسَ فِيهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَجُوزُ إِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَلَوْ أَقْطَعَهُ السُّلْطَانُ مَوْضِعًا مِنْهُ لَا يَمْلِكُهُ وَيَكُونُ أَوْلَى بِهِ نَقَلَ مَتَاعَهُ إِلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَنْقُلْ، وَلَوْ قَامَ عَنْهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ عَادَ كَانَ أَوْلَى بِهِ، وَلَوْ قَعَدَ فِيهِ بِالسَّبْقِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ كَانَ أَوْلَى بِهِ مَا دَامَ هُوَ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ قَامَ وَتَرَكَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ إِزْعَاجُهُ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَتْرُكْ فِيهِ شَيْئًا فَسَبَقَ إِلَيْهِ غَيْرُهُ كَانَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ تَمَّ بِالْإِقْطَاعِ وَهُوَ بَاقٍ بَعْدَ الذَّهَابِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ هَاهُنَا بِكَوْنِهِ فِيهِ وَقَدْ زَالَ - هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، انْتَهَى كَلَامُ الخوارزمي بِحُرُوفِهِ. فَانْظُرْ كَيْفَ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُقْطَعَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَوْ قَامَ أَوْ غَابَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ مَتَاعٌ، وَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ الْجُلُوسَ فِيهِ فِي غَيْبَتِهِ أُزْعِجُ بِخِلَافِ مَنْ قَعَدَ بِالسَّبْقِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ إِذَا قَامَ وَلَمْ يَتْرُكْ مَتَاعَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِيهِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِبَقَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ الذَّهَابِ بِالْإِقْطَاعِ وَهَذَا مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى نَظَرِ السُّلْطَانِ، وَفِي حُكْمِ نَظَرِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى كَفِّهِمْ عَنِ التَّعَدِّي وَمَنْعِهِمْ مِنِ الْإِضْرَارِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ عِنْدَ التَّشَاجُرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ جَالِسًا، وَلَا أَنْ يُقَدِّمَ مُؤَخَّرًا، وَيَكُونُ السَّابِقُ إِلَى الْمَكَانِ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْمَسْبُوقِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ نَظَرُ مُجْتَهِدٍ فِيمَا يَرَاهُ صَلَاحًا مِنْ إِجْلَاسِ مَنْ يُجْلِسُهُ وَمَنْعِ مَنْ يَمْنَعُهُ وَتَقْدِيمِ مَنْ يُقَدِّمُهُ كَمَا يَجْتَهِدُ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَإِقْطَاعِ الْمَوَاتِ، وَلَا يَجْعَلُ السَّابِقَ أَحَقَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عَلَى الْجُلُوسِ أَجْرًا، وَإِذَا تَارَكَهُمْ عَلَى التَّرَاضِي كَانَ السَّابِقُ إِلَى الْمَكَانِ أَحَقَّ مِنَ الْمَسْبُوقِ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ الْأَصَحُّ فَانْظُرْ كَيْفَ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ السَّابِقَ لَا يُجْعَلُ أَحَقَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَقْدِيمًا لِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ، وَقَالَ السبكي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: وَهَلْ لِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ مَدْخَلٌ فِي الشَّوَارِعِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ، وَرَجَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ نَظَرًا وَاجْتِهَادًا فِي أَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْمَوْضِعِ هَلْ هُوَ مُضِرٌّ أَوْ لَا؟ وَلِهَذَا يُزْعِجُ مَنْ رَأَى جُلُوسَهُ مُضِرًّا، وَإِنَّمَا يُزْعِجُهُ الْإِمَامُ، وَإِذَا كَانَ لِاجْتِهَادِهِ فِيهِ مَدْخَلٌ فَكَذَلِكَ لِإِقْطَاعِهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الجوري، والقفال، وَرَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْإِقْطَاعِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُنْتَفَعٌ بِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ فَأَشْبَهَتِ الْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّمْلِيكِ فِيهَا فَلَا مَعْنَى لِلْإِقْطَاعِ بِخِلَافِ الْمَوَاتِ، قَالَ الرافعي: وَلِلنِّزَاعِ فِيهِ مَجَالٌ فِي قَوْلِهِ لَا مَدْخَلَ لِلتَّمْلِيكِ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي الرَّقْمِ للعبادي، وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الجويني لابن طاهر رِوَايَةَ وَجْهٍ: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنَ الشَّوَارِعِ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الطُّرُقِ، وَزَادَ الرافعي فَقَالَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ: فِيمَا إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي شَارِعٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، والروياني، وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ لَا ضَمَانَ، وَجَوَّزُوا أَنْ يُخَصِّصَ الْإِمَامُ قِطْعَةً مِنَ الشَّارِعِ بِبَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ أَنَّ إِقْطَاعَ الْإِمَامِ هَلْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الشَّوَارِعِ؟ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا: نَعَمْ وَجَوَّزُوا لِلْمُقْطَعِ أَنَّ يَبْنِيَ فِيهِ وَيَتَمَلَّكَهُ، هَذَا كَلَامُهُ فِي الْجِنَايَاتِ، قَالَ السبكي: وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَوْلُهُ: بَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا نَعَمْ يُرِيدُ بِهِ تَجْوِيزَ الْإِقْطَاعِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ: وَجَوَّزُوا لِلْمُقْطَعِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ يُمْكِنُ تَمْشِيَتُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ بِنَاءِ دَكَّةٍ فِي الشَّارِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصُّلْحِ أَنَّ الْأَصَحَّ خِلَافُهُ، وَقَوْلُهُ وَيَتَمَلَّكُهُ لَا يُمْكِنُ تَمْشِيَتُهُ إِلَّا عَلَى مَا حَكَاهُ هُنَا عَنِ الرَّقْمِ، وَشَرْحِ مُخْتَصَرِ الجويني وَهُوَ وَجْهٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ لَا يَكَادُ يُعْرَفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فَلَا يُبْنَى عَلَيْهِ، قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرافعي لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الْجِنَايَاتِ طَالَ عَهْدُهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الصُّلْحِ وَفِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَلَمْ يُحَرِّرْهُ، قَالَ ابن الرفعة: وَكَيْفَ قُدِّرَ فَهُوَ بَعِيدٌ إِلَّا إِذَا جَهِلَ السَّبَبَ الَّذِي صَارَ بِهِ الشَّارِعُ شَارِعًا وَإِذَا جَهِلَ السَّبَبَ، وَمِنْهُ مَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ التَّمَلُّكُ جَزْمًا، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُقْدِمُ عَلَى تَمْلِيكِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّارِعَ وَإِنِ اتَّسَعَ فِي وَقْتٍ قَدْ يَكُونُ فِي وَقْتٍ آخَرَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ أَوْ أَضْيَقَ وَهُوَ مَوْضُوعٌ شَارِعًا لِعُمُومِ الْأَوْقَاتِ، قَالَ السبكي: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابن الرفعة صَحِيحٌ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا جَوَّزْنَا الْإِقْطَاعَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَصِيرَ الْمُقْطَعُ أَحَقَّ بِالِارْتِفَاقِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ قَالَ: وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ أَنَّ الْإِقْطَاعَ قِسْمَانِ: إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ: وَهُوَ هَذَا، وَإِقْطَاعُ تَمْلِيكٍ: وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَوَاتِ لِيَتَمَلَّكَ بِالْإِحْيَاءِ، فَالشَّارِعُ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَوَاتِ فِيمَا عَدَا الْمُرُورَ وَنَحْوَهُ لَا يَدْخُلُهُ الْإِحْيَاءُ وَلَا الْحِمَى وَلَا إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ، ثُمَّ قَالَ السبكي: فَرْعٌ عَنِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْمَاوَرْدِيِّ: إِذَا قُلْنَا بِدُخُولِ الْإِقْطَاعِ فَلَا يَجْعَلُ السَّابِقَ أَحَقَّ، قَالَ: فَإِنْ أَرَادَ السَّابِقَ بَعْدَ الْإِقْطَاعِ فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّ بِالْإِقْطَاعِ صَارَ الْمُقْطَعُ أَحَقَّ، وَأَمَّا إِذَا سَبَقَ وَاحِدٌ قَبْلَ الْإِقْطَاعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ الْإِقْطَاعُ لِغَيْرِهِ مَا دَامَ حَقُّهُ بَاقِيًا، وَلَا يَأْتِي فِيهِ خِلَافٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَحَاصِلُهُ أَنَّ السَّبْقَ مُوجِبٌ لِلْأَحَقِّيَّةِ قَطْعًا بِالْحَدِيثِ، وَالْإِقْطَاعَ مُوجِبٌ لِلْأَحَقِّيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ تَعَارَضَا قَدَّمَ الْأَقْدَمَ تَارِيخًا، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُمَا حَصَلَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ السَّبْقِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَإِنَّمَا لَمْ نُقَدِّمْهُ بَعْدَ الْإِقْطَاعِ لِأَنَّا نَجْعَلُ الْإِقْطَاعَ سَبْقًا، انْتَهَى كَلَامُ السبكي. فَانْظُرْ كَيْفَ نَقَلَ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ السَّابِقَ مَعَ الْإِقْطَاعِ لَا حَقَّ لَهُ، وَحَمَلَهُ عَلَى السَّابِقِ بَعْدَ صُدُورِ الْإِقْطَاعِ، وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ بِالْإِقْطَاعِ صَارَ الْمُقْطَعُ أَحَقَّ وَبِأَنَّا نَجْعَلُ الْإِقْطَاعَ سَبْقًا، وَهُوَ عَيْنُ مَا نَقَلْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: فِي بَقِيَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِكَلَامِ الرافعي قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ بَعْدَ سِيَاقِ كَلَامَيْهِ: وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ - يَعْنِي فِي الْجِنَايَاتِ - سَهْوٌ فَإِنَّهُ أَحَالَ عَلَى الْمَذْكُورِ هُنَا فَأَطْلَقَ الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ إِمْعَانٍ، وَقَالَ فِي الْخَادِمِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ كَلَامَ الرافعي، وَكَلَامَ ابن الرفعة فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْإِمَامَ هَلْ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً؟ وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ إِذَا أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ ذَلِكَ فَهَلْ لِلْمُقْطَعِ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ إِذَا بَنَى فِيهِ، وَالْأَصَحُّ نَعَمْ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجِنَايَاتِ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الْإِقْطَاعَ بِمَثَابَةِ إِقْطَاعِ الْمَوَاتِ إِذَا بَنَى فِيهِ تَمَلَّكَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْلِكَهُ ابْتِدَاءً، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: يَمْنَعُ مِنْ هَذَا حَوَالَةُ الرافعي فِي الْجِنَايَاتِ عَلَى الْمَذْكُورِ هُنَا وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا التَّمَلُّكَ بِضَمِّ اللَّامِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ التَّمْلِيكَ قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ هُنَا جَوَازَ الْإِقْطَاعِ، وَمِنْ لَازِمِهِ جَوَازُ التَّمَلُّكِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا اللَّازِمِ فِي الْجِنَايَاتِ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ فِي الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بَلْ يَتَمَلَّكُهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ بِالْإِحْيَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ: عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَفِيمَا نَقَلَهُ هُنَاكَ عَنِ الْأَكْثَرِينَ نَظَرٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ جَوَّزُوا فِيهِ الْبِنَاءَ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ إِلَّا عَلَى تَجْوِيزِ بِنَاءِ دَكَّةٍ فِي الشَّارِعِ إِذَا لَمْ يَضُرَّ وَهُوَ وَجْهٌ، وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ فِي بَابِ الصُّلْحِ الْمَنْعُ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ جَوَّزُوا تَمَلُّكَهُ فَلَا يَتَأَتَّى إِلَّا عَلَى مَا حَكَاهُ هُنَا عَنِ الرَّقْمِ وَهُوَ وَجْهٌ غَرِيبٌ اهـ. قُلْتُ: حَطَّ مَحَطَّ كَلَامِ الْخَادِمِ عَلَى إِبْقَاءِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الرافعي، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالسَّهْوِ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي الْجِنَايَاتِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ حَاوَلَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِالطَّرِيقِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَوَجَدَهَا لَا تَتَمَشَّى عَلَى الرَّاجِحِ فَرَجَعَ إِلَى مُوَافَقَةِ الْمُعْتَرِضِينَ، وَأَقُولُ: لَا بَأْسَ بِتَأْوِيلِ كَلَامِ الرافعي عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ نِسْبَةَ الذُّهُولِ وَالسَّهْوِ إِلَيْهِ، وَعِبَارَتُهُ فِي الْجِنَايَاتِ وَإِنْ حَفَرَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ أَوِ الْقَوْلَانِ، وَالْخِلَافُ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ أَنَّ إِقْطَاعَ الْإِمَامِ هَلْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الشَّوَارِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا: نَعَمْ وَجَوَّزُوا لِلْمُقْطَعِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ وَيَتَمَلَّكَهُ انْتَهَى. فَمَحْمَلُ الْإِيرَادِ هُنَا إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَجَوَّزُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَالُوا فَيَكُونُ مَنْسُوبًا لِلْأَكْثَرِينَ، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَتَمَلَّكُهُ الضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الشَّارِعِ، كَمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ، وَيَنْدَفِعُ الْأَوَّلُ بِأَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: وَجَوَّزُوا مُسْتَأْنَفًا لَا مَعْطُوفًا عَلَى خَبَرِ أَنْ فَيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الصُّلْحِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ وَجْهٌ مَشْهُورٌ لَا غَرِيبٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُصَحَّحَ، وَالْقَصْدُ بِسِيَاقِ ذَلِكَ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى بِنَاءِ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فِي إِقْطَاعِ الْإِمَامِ لِلشَّارِعِ، وَعَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ فِي الشَّارِعِ، وَيُوَضِّحُ مَا قُلْنَاهُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ وَعَدَمِ الْعَطْفِ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْبِنَاءِ لَيْسَتْ مَذْكُورَةً فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَإِنَّمَا هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ الصُّلْحِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بالرافعي أَنَّهُ يَعْزُو إِلَى بَابٍ مَسْأَلَتَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِحْدَاهُمَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ إِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ إِقْطَاعِ الْإِمَامِ فَقَطْ وَهِيَ الَّتِي حَكَى فِيهَا هُنَاكَ عَنِ الْأَكْثَرِينَ الْجَوَازَ، وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ كَلَامًا آخَرَ عَلَى طَرِيقِ التَّذْيِيلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 مُرَشِّحًا لِمَا ذَكَرَهُ فَقَالَ: وَجَوَّزُوا - أَيْ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ - لِلْمُقْطَعِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْشِيحًا لِجَوَازِ حَفْرِ الْبِئْرِ فِي الشَّارِعِ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ الَّذِي هُوَ الْأَظْهَرُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ فِي مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ الْجَوَازَ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْقَصْدَ بِسِيَاقِ ذَلِكَ بِنَاءُ الْخِلَافِ عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّرْشِيحِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بِنَاءِ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى الْخِلَافِ فِي أُخْرَى أَنْ يَسْتَوِيَا فِي التَّرْجِيحِ، وَأَمَّا اعْتِرَاضُهُمْ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَيَتَمَلَّكُهُ بِأَنَّ الْوَجْهَ الْقَائِلَ بِتَمَلُّكِ الشَّارِعِ الْمَحْكِيَّ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْزَى إِلَى الْأَكْثَرِينَ فَإِنَّهُ يَنْدَفِعُ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاعْتِرَاضَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَتَمَلَّكُهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّارِعِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَيْسَ عَائِدًا إِلَى الشَّارِعِ بَلْ إِلَى الْبِنَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يَبْنِي فِيهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْشِيحًا لِجَوَازِ حَفْرِ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَتْ فِرْقَةٌ بِجَوَازِ أَنْ يَبْنِيَ فِي الشَّارِعِ مَا يَكُونُ مِلْكًا لِبَانِيهِ، فَجَوَازُ حَفْرِ الْبِئْرِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ وَتُجْعَلُ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى. هَذَا مَا تَيَسَّرَ تَأْوِيلُ كَلَامِ الرافعي عَلَيْهِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ تَكَلُّفٍ، فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الإمام الرافعي إِلَى السَّهْوِ وَالذُّهُولِ، وَمِنَ النُّقُولِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَوْدًا وَانْعِطَافًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَالَ ابن القاص فِي تَلْخِيصِهِ: الْقَطَائِعُ فِرْقَتَانِ: أَحَدُهُمَا: مَضَى، وَالثَّانِي: إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ لَا يُمْلَكُ مِثْلَ الْمَقَاعِدِ فِي الْأَسْوَاقِ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْوَالِيَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُقْطِعَ الْمَقَاعِدَ فَلَهُ ذَلِكَ كَمَا لَهُ أَنْ يُقْطِعَ الْمَوَاتَ مِنْ مُحْيِيهِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ: الْإِمَامُ هَلْ لَهُ أَنْ يُقْطِعَ مَقَاعِدَ الْأَسْوَاقِ؟ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَوَاتِ، وَذَكَرَ فِي الْوَسِيطِ نَحْوَهُ، وَقَالَ الجرجاني فِي الْبُلْغَةِ: وَأَمَّا الشَّوَارِعُ وَالرِّحَابُ الْوَاسِعَةُ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَرْتَفِقَ بِالْقُعُودِ فِيهَا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بِالْمُجْتَازِينَ وَمَتَى تَرَكَهَا كَانَ غَيْرُهُ أَحَقَّ بِهَا، وَإِنْ قَامَ عَنْهَا لِيَعُودَ إِلَيْهَا فِي غَدٍ كَانَ أَوْلَى بِهَا، فَإِنْ أَقْطَعَ الْإِمَامُ مَكَانًا مِنْهَا كَانَ الْمُقْطَعُ أَحَقَّ بِالِارْتِفَاقِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَالَ القاضي حسين فِي تَعْلِيقِهِ: الْإِقْطَاعُ قِسْمَانِ، أَحَدُهُمَا: إِقْطَاعُ تَمْلِيكٍ وَهُوَ الْمَوَاتُ الَّذِي يَتَمَلَّكُهُ الْمُقْطَعُ بِإِحْدَاثِ أَمْرٍ فِيهِ، وَالثَّانِي إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ وَهُوَ مِثْلُ الرِّبَاطَاتِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَهَا مَنْ شَاءَ لِيَجْلِسَ فِيهَا لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، إِذَا كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ الْمَارَّةُ بِهِ إِذْ لِاجْتِهَادِهِ مَدْخَلٌ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْنَعُ عَنْهُ مَنْ يَجْلِسُ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُ بِهِ النَّاسُ، بِخِلَافِ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِيهَا إِذْ لَا يَسُوغُ لَهُ مَنْعُ أَحَدٍ عَنْهَا بِحَالٍ. ثُمَّ الْحُكْمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فِيهِ أَنَّ الْمُقْطَعَ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ يَتَرَدَّدُ وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ فَلِلْغَيْرِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ، وَإِنِ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَحَقُّهُ قَائِمٌ فِيهِ لَيْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَجْلِسَ مَكَانَهُ، وَإِذَا مَرِضَ أَوْ غَابَ إِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَصِيرَةً لَمْ يَكُنْ لِلْغَيْرِ أَنْ يَجْلِسَ مَكَانَهُ، وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ فَلِلْغَيْرِ الْجُلُوسُ مَكَانَهُ وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُقْطَعُ بِحَالٍ إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَثَرُ عِمَارَةٍ وَلَا عَيْنُ مَالٍ بِخِلَافِ الْمَوَاتِ وَالْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ انْتَهَى. فَهَذِهِ عِبَارَاتُ مَشَاهِيرِ أَئِمَّةِ الْأَصْحَابِ لَيْسَ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِتَشْبِيهِهِ بِالْمُتَحَجِّرِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الْمُتَعَدِّي عَلَى الْمُتَحَجِّرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ مُؤَلِّفُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَلَّفْتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ. [الْجَهْرُ بِمَنْعِ الْبُرُوزِ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنَّ رَجُلًا لَهُ بَيْتٌ بِالرَّوْضَةِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ أَصْلُهُ قَدِيمٌ عَلَى سَمْتِ جُدْرَانِ بُيُوتِ الْجِيرَانِ الْأَصْلِيَّةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بُرُوزًا ذَرَعَهُ إِلَى صَوْبِ الْبَحْرِ نَحْوَ عِشْرِينَ ذِرَاعًا بِالذِّرَاعِ الشَّرْعِيِّ، بِحَيْثُ خَرَجَ عَنْ سَمْتِ بُيُوتِ الْجِيرَانِ الْقَدِيمَةِ، ثُمَّ أَرَادَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ بُرُوزًا ثَانِيًا قُدَّامَ ذَلِكَ الْبُرُوزِ الْأَوَّلِ مُتَّصِلًا بِهِ فَحَفَرَ لَهُ أَسَاسًا ذَرَعَهُ إِلَى صَوْبِ الْبَحْرِ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا بِالذِّرَاعِ الشَّرْعِيِّ بِحَيْثُ يَصِيرُ مَجْمُوعُ الْبُرُوزَيْنِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَاقِعَةً فِي حَرِيمِ النَّهْرِ وَأَرْضِهِ الَّتِي هِيَ عِنْدَ احْتِرَاقِ النِّيلِ مَشْرَعٌ لَهُ وَطَرِيقٌ لِلْوَارِدِينَ وَالْمَارِّينَ، فَقُلْتُ لَهُ: لَا يَحِلُّ لَكَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَشَنَّعَ عَلَيَّ فِي الْبَلَدِ أَنِّي أَفْتَيْتُ بِهَدْمِ بُيُوتِ الرَّوْضَةِ، وَهَذَا كَذِبٌ مَحْضٌ وَإِشَاعَةٌ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ الْبُيُوتَ الْقَدِيمَةَ الْبَاقِيَةَ عَلَى أُصُولِهَا لَا يَحِلُّ التَّعَرُّضُ لَهَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْبُرُوزِ الْحَادِثِ وَمَا يُرَادُ إِحْدَاثُهُ الْآنَ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ الْبُرُوزِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ شَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي شَارِعٍ، وَلَا فِي حَرِيمِ نَهْرٍ، وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَيَاةِ شُيُوخِنَا أَنَّ أَيْبَكَ الخاصكي بَنَى بَيْتًا بِمِصْرَ تُجَاهَ جَامِعِ الرَّيِّسِ وَبَرَزَ فِيهِ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ فَاسْتَفْتَى الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْعَلَّامَةَ الْمُحَقِّقَ جلال الدين المحلي الشافعي فَأَفْتَى بِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ شُطُوطَ الْأَنْهَارِ لَا تُمْلَكُ وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا وَلَا الْبِنَاءُ فِيهَا، وَهَذَا هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 مَنْقُولُ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَيْهِ إِمَامُنَا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ بَلْ وَلَا فِي بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، بَلِ الْأَئِمَّةُ وَأَتْبَاعُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ. وَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ نُقُولِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ. [ذِكْرُ نُقُولِ مَذْهَبِنَا] قَالَ الرافعي فِي الشَّرْحِ، والنووي فِي الرَّوْضَةِ: حَرِيمُ الْمَعْمُورِ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ. وَالْحَرِيمُ هُوَ الْمَوَاضِعُ الْقَرِيبَةُ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ، كَالطَّرِيقِ وَمَسِيلِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَا عَلَى حَرِيمِ الدَّارِ وَحَرِيمِ الْقَرْيَةِ ثُمَّ قَالَا: وَالْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْمَوَاتِ حَرِيمُهَا الْمَوْضِعُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّازِحُ وَمَوْضِعُ الدُّولَابِ وَمُتَرَدَّدُ الْبَهِيمَةِ وَمَصَبُّ الْمَاءِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُجْتَمَعُ فِيهِ لِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ مِنْ حَوْضٍ وَنَحْوِهِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْرَحُ فِيهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ كَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَصْحَابُ، وَفِي وَجْهٍ حَرِيمُ الْبِئْرِ قَدْرُ عُمْقِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَبِهَذَا يُقَاسُ حَرِيمُ النَّهْرِ - هَذَا كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ، ثُمَّ قَالَا بَعْدَ ذَلِكَ: عِمَارَةُ حَافَاتِ هَذِهِ الْأَنْهَارِ مِنْ وَظَائِفِ بَيْتِ الْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا قَنْطَرَةٌ لِعُبُورِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ تقي الدين السبكي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ مَا نَصُّهُ: فَرْعٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لَا حَرِيمَ لِلنَّهْرِ، وَعَنْ أبي يوسف ومحمد: لَهُ حَرِيمٌ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا قَالَ: وَرَأَيْتُ فِي دِيَارِ مِصْرَ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَسْتَنْكِرُ الْعَمَايِرَ الَّتِي عَلَى حَافَاتِ النِّيلِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا قَالَ: وَهَذَا قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، قَالَ: وَإِذَا رَأَيْنَا عِمَارَةً عَلَى حَافَةِ نَهْرٍ لَا نُغَيِّرُهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا وُضِعَتْ بِحَقٍّ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ فِيمَا عُرِفَ حَالُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا عَظُمَتِ الْبَلْوَى بِهِ اعْتِقَادُ بَعْضِ الْعَوَامِّ أَنَّ أَرْضَ النَّهْرِ مِلْكُ بَيْتِ الْمَالِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَالْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ إِنَّمَا امْتَنَعَ التَّمَلُّكُ وَالْإِقْطَاعُ فِيهَا لِشَبَهِهَا بِالْمَاءِ وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِقْطَاعِ مَشَارِعِ الْمَاءِ لِاحْتِيَاجِ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَيْهَا فَكَيْفَ يُبَاعُ، قَالَ: وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَأَدَّى إِلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَشْتَرِي أَنْهَارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الْبَلَدِ كُلِّهَا وَيَمْنَعُ بَقِيَّةَ الْخَلْقِ عَنْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهَرَ هَذَا الْحُكْمُ لِيَحْذَرَ مَنْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهَا مُبْقَاةٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ كَالْمَوَاتِ وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِيهَا، وَتُفَارِقُ الْمَوَاتَ فِي أَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ وَلَا تُبَاعُ، وَلَا تُقْطَعُ وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ تَصَرُّفٌ فِيهَا، بَلْ هُوَ وَغَيْرُهُ فِيهَا سَوَاءٌ، فَإِنْ وَجَدْنَا نَهْرًا صَغِيرًا بِيَدِ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَهُوَ مِلْكُهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِمَا شَاؤُوا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا وَلَكِنْ فِيهِ مُشَارِبُ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فَحُقُوقُهُمْ فِيهِ عَلَى تِلْكَ الْمَشَارِبِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ - هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ السبكي، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالنَّقْلِ عَنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ النَّهْرَ لَهُ حَرِيمٌ لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ وَلَا إِحْيَاؤُهُ وَلَا الْبِنَاءُ فِيهِ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا إِقْطَاعُهُ، وَقَالَ فِي فَتَاوِيهِ: الْأَنْهَارُ وَمَجَارِيهَا الْعَامَّةُ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً بَلْ هِيَ إِمَّا مُبَاحَةٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهَا وَإِمَّا وَقْفٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْهَارَ الْكِبَارَ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ مُبَاحَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْإِحْيَاءِ لَا بِالْبَيْعِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ حَافَاتُهَا الَّتِي عُمُومُ النَّاسِ إِلَى الِارْتِفَاقِ بِهَا لِأَجْلِهَا، وَالْأَنْهَارُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي حَفَرَهَا قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ مُعَرَّفُونَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ انْتَهَى بِحُرُوفِهِ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالنَّقْلِ عَنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ حَافَاتِ النِّيلِ لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا وَلَا إِحْيَاؤُهَا. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: فَرْعٌ: شَخْصٌ أَرَادَ أَنْ يَغْرِسَ عَلَى حَرِيمِهِ عَلَى مَاءٍ جَارٍ شَجَرَةً، جَازَ وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ مُشْتَرَكًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِهِمْ كَمَا يَتَّخِذُ عَلَى بَابِ دَارِهِ مَشْرَعًا، وَفِي فَتَاوَى القفال: رَجُلٌ لَهُ دَارٌ فِي مَوْضِعٍ وَيَجْرِي نَهْرٌ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرَةً عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ بِحِذَاءِ دَارِهِ لَمْ يَجُزْ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا كَمَا لَوْ بَنَى دَكَّةً فِي الشَّارِعِ فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى. فَإِذَا مَنَعَ القفال مِنْ غَرْسِ شَجَرَةٍ فَمَا ظَنُّكَ بِالْبِنَاءِ؟ وَقَالَ الزركشي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: حَافَاتُ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْإِحْيَاءِ وَلَا بِالِابْتِيَاعِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا غَيْرِهِ، قَالَ: وَقَدْ عَمَّتِ الْبَلْوَى بِالْأَبْنِيَةِ عَلَى حَافَاتِ النِّيلِ كَمَا عَمَّتْ بِالْقَرَافَةِ مَعَ أَنَّهَا مُسَبَّلَةٌ، وَذَكَرَ الدميري فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ رَاجَعْتُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فَوَجَدْتُهُ نَصَّ فِي مُخْتَصَرِ المزني وَفِي الْأُمِّ عَلَى أَنَّ النَّهْرَ وَالْمَاءَ الظَّاهِرَ لَا يَمْلِكْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْطِعَهُ بِحَالٍ، وَالنَّاسُ فِيهِ شَرْعٌ وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ شُرَكَاءُ فِي ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 - هَذَا نَصُّهُ فِي الْكِتَابَيْنِ، زَادَ فِي الْأُمِّ: وَلَوْ أَحْدَثَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا بِنَاءً قِيلَ لَهُ حَوِّلْ بِنَاءَكَ وَلَا قِيمَةَ لَهُ فِيمَا أَحْدَثَ بِتَحْوِيلِهِ. وَقَالَ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ: الْحَرَائِمُ هِيَ الْمَوَاضِعُ الْقَرِيبَةُ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا يَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهَا بِنَوْعِ عُدْوَانٍ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُحْيَا، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الرافعي والنووي، ثُمَّ قَالَ: وَحَمَلَ الْأَصْحَابُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» " عَلَى آبَارِ الْحِجَازِ فَإِنَّهَا تَكُونُ عَمِيقَةً تَحْتَاجُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَمُرُّ فِيهَا الثَّوْرُ إِلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ، وَحَرِيمُ النَّهْرِ مَلْقَى النَّهْرِ لِلطِّينِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ مِنَ التِّقْنِ - وَهُوَ رُسَابَةُ الْمَاءِ - وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ: مِنْ حَرِيمِ النَّهْرِ مَلْقَى الطِّينِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ. وَقَالَ الخوارزمي فِي الْكَافِي: حَرِيمُ النَّهْرِ مَا يُلْقَى فِيهِ الطِّينُ عِنْدَ الْحَفْرِ، وَقَالَ السبكي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ جَوَانِبِهَا كُلِّهَا» " وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: حَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدْئِيِّ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا، وَحَرِيمُ الْعَادِيِّ خَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا، وَحَرِيمُ بِئْرِ الزَّرْعِ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَسَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ: حَرِيمُ الْعُيُونِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَرِيمُ الْبِئْرِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ الْعَيْنِ مِائَتَا ذِرَاعٍ، ثُمَّ قَالَ السبكي: وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَرَ التَّحْدِيدَ وَحَمَلَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَبِهَذَا يُقَاسُ حَرِيمُ النَّهْرِ قَالَ: وَمِنْ حَرِيمِ النَّهْرِ مَلْقَى طِينِهِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى إِلْقَائِهِ عِنْدَ حَفْرِهِ، قَالَ: وَفِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَمَلْقَى تِقْنِهِ وَهُوَ مَا يُنَحَّى مَعَ الْمَاءِ وَسُمِّيَ الرُّسَابَةَ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» "، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حَرِيمُ الْبِئْرِ مَدُّ رِشَائِهَا» "، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حَرِيمُ النَّخْلَةِ مَدُّ جَرِّ يَدِهَا» " قَالَ القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: إِذَا أَحْيَا أَرْضًا لِيَغْرِسَ فِيهَا، وَغَرَسَ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْرِسَ بِجِوَارِهِ بِحَيْثُ تَلْتَفُّ أَغْصَانُ الْغِرَاسِ وَبِحَيْثُ تَلْتَقِي عُرُوقُهَا، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: حَرِيمُ الْأَرْضِ الْمُحْيَاةِ لِلزِّرَاعَةِ طُرُقُهَا وَمُفِيضُ مَائِهَا وَبَيْدَرُ زَرْعِهَا وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ مَرَافِقِهَا. انْتَهَى مَا فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ للسبكي فِي ضَبْطِ الْحَرِيمِ. وَقَالَ الغزي فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ: مَسْأَلَةٌ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ سَكْرًا فِي النَّهْرِ الْعَامِّ الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 لِأَنَّ النَّهْرَ الْعَامَّ كَالطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ الْعَامِّ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ صَخْرَةً فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ مُنِعَ مِنْهُ. وَفِي فَتَاوَى ابن الصلاح: مَسْأَلَةٌ - إِذَا أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْنِيَ عِمَارَةَ سَكْرٍ فِي النَّهْرِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، ثُمَّ يَبْنِيَ عَلَيْهِ طَاحُونَةً وَنَاعُورَةً وَلَا يَضَرُّ بِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَلَا بِمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، هَلْ لَهُ ذَلِكَ وَيَكُونُ ذَلِكَ إِحْيَاءً لَهُ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوَاتِ الَّذِي يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ حَتَّى يَمْلِكَ قَرَارَ النَّهْرِ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ الْعِمَارَاتِ وَيَمْلِكَ حَرِيمَهُ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرَرٍ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُنْحَدَرَ فِي مَكَانِهِ بِسَبَّاحَةٍ أَوْ سَفِينَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَطَرِيقُ الْمَاءِ الْعَامُّ كَطَرِيقِ السُّلُوكِ الْعَامِّ، وَلَوْ أَرَادَ مُرِيدٌ أَنْ يَضَعَ صَخْرَةً فِي طَرِيقِ شَارِعٍ وَاسِعٍ مُنِعَ مِنْهُ وَهَذَا شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ قُدِّرَ خُلُوُّ ذَلِكَ عَنِ الضَّرَرِ لَمْ يَجُزْ مِلْكُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَمَا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الطُّرُقِ الْوَاسِعَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الِاخْتِصَاصَاتِ الْجَائِزَةِ. [ذِكْرُ نُقُولِ الْمَالِكِيَّةِ] قَالَ ابن الحاج فِي الْمَدْخَلِ: شَاطِئُ النَّهْرِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْبِنَاءُ فِيهِ لِلسُّكْنَى وَلَا لِغَيْرِهَا إِلَّا الْقَنَاطِرُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ، الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ» " رَوَاهُ أبو داود فِي سُنَنِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهَا مَرَافِقُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ يَرْتَفِقُ بِهَا يَجِدُ هُنَاكَ نَجَاسَةً فَيَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَنَهَاهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُلْعَنُونَ بِسَبَبِهِ، هَذَا وَهُوَ مِمَّا يَذْهَبُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَغَيْرِهِمَا فَكَيْفَ بِالْبِنَاءِ عَلَى النَّهْرِ الْمُتَّخَذِ لِلدَّوَامِ غَالِبًا، وَقَدْ قَالَ ابن هبيرة فِي كِتَابِ اتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَاخْتِلَافِهِمْ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ لَا يَجُوزُ تَضْيِيقُهَا، وَالْبِنَاءُ عَلَى النَّهْرِ أَكْثَرُ ضَرَرًا وَأَشَدُّ مِنْ تَضْيِيقِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ يُمْكِنُ الْمُرُورُ فِيهَا مَعَ تَضْيِيقِهَا بِخِلَافِ النَّهْرِ، فَمَنْ بَنَى عَلَيْهِ كَانَ غَاصِبًا لَهُ لِأَنَّهُ مَوْرَدَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ يَرِدُ الْمَاءَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَدُورَ مِنْ نَاحِيَةٍ بَعِيدَةٍ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَكَانَ مَنْ أَحْوَجَهُ إِلَى ذَلِكَ غَاصِبًا، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ ظُلْمًا طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، قَالَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَنْ أَرْسَلَ سَجَّادَةً إِلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ إِتْيَانِهِ فَوُضِعَتْ هُنَاكَ لِيُحَصِّلَ بِهَا الْمَكَانَ أَوْ كَانَ فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَصْبٌ، هَذَا وَهُوَ مِمَّا لَا يَدُومُ فَكَيْفَ بِالْبِنَاءِ عَلَى النَّهْرِ، قَالَ: وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَنَّ حَرِيمَ الْعُيُونِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَحَرِيمَ الْأَنْهُرِ أَلْفُ ذِرَاعٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ فَقِيلَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَقِيلَ خَمْسُونَ، وَقِيلَ ثَلَاثُمِائَةٍ، وَقِيلَ خَمْسُمِائَةٍ نَقَلَهُ الشَّيْخُ أبو الحسن اللخمي فِي تَبْصِرَتِهِ، وابن يونس فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يَحُدَّ مالك فِي ذَلِكَ حَدًّا إِلَّا مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ، فَعَلَى هَذَا وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مَنْ أَلْفِ ذِرَاعٍ إِذَا أَضَرَّ بِهِمْ يُمْنَعُ، ثُمَّ أَفْضَى الْأَمْرُ مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ إِلَى أَنِ امْتَنَعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَخْذُ الْمَاءِ مِنْهُ لِلشُّرْبِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا مَوَاضِعَ قَلِيلَةً، ثُمَّ جَرَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ إِلَى أَنْ وَصَلَتْ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ وَأَصْلِهِ وَهُوَ فَسَادُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا صَلَّى أَحَدٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَهَذَا مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، ثُمَّ إِنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْبَحْرِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْضَلَ شَيْءٌ مِنْ آلَةِ الْعِمَارَةِ غَالِبًا أَوْ يَنْهَدِمَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنَ الدُّورِ فَيَقَعُ ذَلِكَ فِي الْبَحْرِ فَتَجِيءُ الْمَرَاكِبُ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ فَتَمُرُّ عَلَى ذَلِكَ فَتَكْسِرُهَا غَالِبًا، سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الْحِجَارَةُ مَبْنِيَّةً بَارِزَةً مَعَ الزَّرَابِيِّ الْخَارِجَةِ عَنِ الْبُيُوتِ فِي دَاخِلِ الْبَحْرِ، ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَذِيَّةِ يَمْنَعُونَ أَصْحَابَ الْمَرَاكِبِ مِنْ أَنْ يَلْتَصِقُوا إِلَيْهَا وَالْمَوْضِعُ مُبَاحٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ اخْتِصَاصٌ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرَاكِبَ قَدْ تَأْتِي فِي وَقْتِ هَوْلِ الْبَحْرِ مَعَ ثِقْلِهَا بِالْوَسْقِ فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُرْسِيَ فِي الْمَوْضِعِ الْقَرِيبِ مِنْهُ لِيَسْلَمَ مِنْ آفَاتِ الْبَحْرِ فَلَا يَجِدَ لِذَلِكَ سَبِيلًا مِنْ كَثْرَةِ الدُّورِ الَّتِي هُنَاكَ فَيَمْضِي لِسَبِيلِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ الدُّورَ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَرَقِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي ذِمَّةِ الْبَانِي هُنَاكَ، قَالَ: وَقَدْ نَقَلَ ابن رشد أَنَّ حُكْمَ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهِ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: بَعِيدٌ مِنَ الْعُمْرَانِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِي إِحْيَائِهِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي إِحْيَائِهِ ضَرَرٌ، فَأَمَّا الْبَعِيدُ مِنَ الْعُمْرَانِ فَلَا يُحْتَاجُ فِي عُمْرَانِهِ إِلَى اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ عَلَى مَا حَكَى ابن حبيب، وَأَمَّا الْقَرِيبُ مِنْهُ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِي إِحْيَائِهِ عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا الْقَرِيبُ مِنْهُ الَّذِي فِي إِحْيَائِهِ ضَرَرٌ كَالْأَفْنِيَةِ الَّتِي يَكُونُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْهَا ضَرَرًا بِالطَّرِيقِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ بِحَالٍ وَلَا يُبِيحُ ذَلِكَ الْإِمَامُ - هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ ابن الحاج بِحُرُوفِهِ، وَمَسْأَلَةُ السَّجَّادَةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا يَأْتِي نَقْلُهَا آخِرَ الْكِتَابِ، وَقَدْ رَاجَعْتُ التَّنْبِيهَاتِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، وَالتَّبْصِرَةَ للخمي، وَاللُّبَابَ فِي شَرْحِ ابن الجلاب، وَالْجَوَاهِرَ لِابْنِ شَاسٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ فَوَجَدْتُهَا مُتَّفِقَةً عَلَى مَا نَقَلَ ابن الحاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 [ذِكْرُ نُقُولِ الْحَنَفِيَّةِ] قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ وَيُتْرَكُ مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ؛ لِتَحَقُّقِ حَاجَاتِهِمْ إِلَيْهَا فَلَا يَكُونُ مَوَاتًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ وَالنَّهْرِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ الْإِمَامُ مَا لَا غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ كَالْمِلْحِ وَالْآبَارِ الَّتِي يَسْتَقِي النَّاسُ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَرِّيَّةٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا، فَإِنْ كَانَتْ لِلْعَطَنِ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَحَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا لَهُمَا إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالتَّوْقِيفِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْقَنَاةُ لَهَا حَرِيمٌ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ، وَعَنْ محمد أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ، وَقِيلَ: هَذَا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ، لَا حَرِيمَ لَهَا مَا لَمْ يَظْهَرِ الْمَاءُ؛ لِأَنَّهُ نَهْرٌ فِي التَّحْقِيقِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّهْرِ الظَّاهِرِ، قَالُوا: وَعِنْدَ ظُهُورِ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ فَوَّارَةٍ فَيُقَدَّرُ بِخَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَالشَّجَرَةُ تُغْرَسُ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ لَهَا حَرِيمٌ أَيْضًا حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا فِي حَرِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى حَرِيمٍ لَهُ يَجِدُ ثَمَرَهُ وَيَضَعُهُ فِيهِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ وَبِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ، وَمَا تَرَكَهُ الْفُرَاتُ أَوْ دِجْلَةُ وَعَدَلَ عَنْهُ الْمَاءُ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهُ لِحَاجَةِ الْعَامَّةِ إِلَى كَوْنِهِ نَهْرًا وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ حَرِيمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ وَقَالَا: لَهُ مُسَنَّاةُ النَّهْرِ يَمْشِي عَلَيْهَا وَيُلْقِي عَلَيْهَا طِينَهُ، ثُمَّ عَنْ أبي يوسف أَنَّ حَرِيمَهُ مِقْدَارُ نِصْفِ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَعَنْ محمد مِقْدَارُ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَهَذَا أَرْفَقُ بِالنَّاسِ. ثُمَّ قَالَ اعْلَمْ أَنَّ الْمِيَاهَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَاءُ الْبِحَارِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ فِيهَا حَقُّ الشَّفْهِ وَسَقْيِ الْأَرَاضِي، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْرِيَ مِنْهَا نَهْرًا إِلَى أَرْضِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْهَوَاءِ فَلَا يُمْنَعُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، وَالثَّانِي: مَاءُ الْأَوْدِيَةِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ، وَسَيْحُونَ، وَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتِ، لِلنَّاسِ فِيهِ حَقُّ الشَّفْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَحَقُّ سَقْيِ الْأَرَاضِي، فَإِنْ أَحْيَا وَاحِدٌ أَرْضًا مَيْتَةً وَكَرَى مِنْهَا نَهْرًا لِيَسْقِيَهَا إِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ وَلَا يَكُونُ النَّهْرُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الْأَصْلِ إِذْ قَهْرُ الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَاجِبٌ، وَعَلَى هَذَا نَصْبُ الرَّحَى عَلَيْهِ لِأَنَّ شَقَّ النَّهْرِ لِلرَّحَى كَشَقِّهِ لِلسَّقْيِ. ثُمَّ قَالَ: الْأَنْهَارُ ثَلَاثَةٌ، نَهْرٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ مَاؤُهُ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ كَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ مِنَ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشْرِ وَالصَّدَقَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ فَالْإِمَامُ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إِحْيَاءً لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ القدوري: وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ وَيُتْرَكُ مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ، وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَرِّيَّةٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا، فَإِنْ كَانَتْ لِلتَّعَطُّنِ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَسِتُّونَ ذِرَاعًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ مِنْهُ، وَمَا تَرَكَ الْفُرَاتُ وَدِجْلَةُ وَعَدَلَ عَنْهُ الْمَاءُ وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ مَنْ أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَلَكَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ حَرِيمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: لَهُ مُسَنَّاةُ النَّهْرِ يَمْشِي عَلَيْهَا وَيُلْقِي عَلَيْهَا طِينَهُ انْتَهَى، وَقَدْ عُرِفَ بِهَذَا النَّصِّ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ السبكي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ لَا حَرِيمَ لِلنَّهْرِ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّهْرِ الْمَمْلُوكِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ لَا فِي الْأَنْهَارِ الْكِبَارِ الْمُبَاحَةِ كَالنِّيلِ، وَالْفُرَاتِ. وَقَالَ صَاحِبُ النَّافِعِ - وَهُوَ الْإِمَامُ أبو المفاخر السويدي الزوزني - وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ يُتْرَكُ مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ، وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ حَرِيمُهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِئْرًا لِلْعَطَنِ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَإِنْ كَانَتْ بِئْرًا لِنَاضِحٍ فَسِتُّونَ ذِرَاعًا، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ مِنْهُ، وَمَا تَرَكَهُ الْفُرَاتُ أَوْ دِجْلَةُ وَعَدَلَ عَنْهُ وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهُ لِحَاجَةِ النَّهْرِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِلْعَامِرِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ حَرِيمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ أبو يوسف، ومحمد: لَهُ مُسَنَّاةُ النَّهْرِ يَمْشِي عَلَيْهَا وَيُلْقِي عَلَيْهَا طِينَهُ. وَفِي فَتَاوِي قاضي خان: لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَلَهُ مَا حَوْلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا حَرِيمًا لِلْبِئْرِ، وَلَوْ حَفَرَ نَهْرًا فِي مَفَازَةٍ بِإِذْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الْإِمَامِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَحِقُّ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: يَسْتَحِقُّ مِقْدَارَ عَرْضِ النَّهْرِ حَتَّى إِذَا كَانَ مِقْدَارُ عَرْضِ النَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْحَرِيمِ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ فِي قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ، وَعَنِ الكرخي مِقْدَارُ عَرْضِ النَّهْرِ، هَذَا فِي النَّهْرِ الَّذِي حَفَرَهُ إِنْسَانٌ وَمَلَكَهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَوِ احْتَفَرَ رَجُلٌ قَنَاةً بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ فِي مَفَازَةٍ، وَسَاقَ الْمَاءَ حَتَّى أَتَى بِهِ أَرْضًا فَأَحْيَاهَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لِقَنَاتِهِ وَلِمَخْرَجِ مَائِهِ حَرِيمًا بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ، وَهَذَا قَوْلُ أبي يوسف، ومحمد، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ الْمَاءُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنِ احْتَفَرَ نَهْرًا لَا يَسْتَحِقُّ لَهُ الْحَرِيمَ وَالْقَنَاةَ إِلَّا أَنْ يَقَعَ الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ النَّهْرِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِذَا أَحْيَا رَجُلٌ مَوَاتًا لَيْسَ لَهَا شُرْبٌ، وَحَفَرَ لَهَا مِنْ نَهْرٍ لِلْعَامَّةِ حَافَتُهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ وَسَاقَ إِلَيْهَا مَا يَكْفِيهَا مِنَ الْمَاءِ يُنْظَرُ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِذَلِكَ، وَكَذَا لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي النَّهْرِ الْعَظِيمِ كُوَّةً أَوْ كُوَّتَيْنِ إِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ، وَفِي النَّهْرِ الْخَاصِّ الْمَمْلُوكِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ أَضَرَّ بِصَاحِبِ الْمِلْكِ أَمْ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ حَافَةَ النَّهْرِ مِلْكُهُ فَلَا يَمْلِكُ حَفْرَهَا وَسِعَتَهَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْأَنْهَارُ ثَلَاثَةٌ، الْأَوَّلُ النَّهْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ فِي الْمَقَاسِمِ كَالْفُرَاتِ، وَدِجْلَةَ، وَجَيْحُونَ، وَسَيْحُونَ، وَالنِّيلِ، إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْكَرْيِ فَإِصْلَاحُ شَطِّهِ يَكُونُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ يُجْبَرُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كَرْيِهِ، وَإِنْ أَرَادَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكْرِيَ مِنْهَا نَهْرًا لِأَرْضِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ بِأَنْ يَنْكَسِرَ شَطُّ النَّهْرِ وَيُخَافَ مِنْهُ الْغَرَقُ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: نَهْرٌ يَجْرِي فِي سِكَّةٍ تُحْفَرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ وَيَجْتَمِعُ تُرَابٌ كَثِيرٌ فِي السِّكَّةِ قَالُوا: إِنْ كَانَ التُّرَابُ عَلَى حَرِيمِ النَّهْرِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ السِّكَّةِ تَكْلِيفُ أَرْبَابِ النَّهْرِ نَقْلَ التُّرَابِ، وَإِنْ كَانَ التُّرَابُ جَاوَزَ حَرِيمَ النَّهْرِ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ نَهْرٌ لِقَوْمٍ يَجْرِي فِي أَرْضِ رَجُلٍ حَفَرُوا التُّرَابَ وَأَلْقَوُا التُّرَابَ فِي أَرْضِهِ إِنْ كَانَ التُّرَابُ فِي حَرِيمِ النَّهْرِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ أَصْحَابَ النَّهْرِ بِرَفْعِ التُّرَابِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ إِلْقَاءَ التُّرَابِ فِي حَرِيمِ النَّهْرِ، فَإِنْ أَلْقَوُا التُّرَابَ فِي غَيْرِ حَرِيمِ النَّهْرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِرَفْعِ التُّرَابِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: رَجُلٌ بَنَى فِي الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ بِنَاءً لَا يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ فَعَثَرَ بِهِ إِنْسَانٌ فَعَطِبَ أَوْ دَابَّةٌ فَتَلِفَتْ كَانَ ضَامِنًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ حَقُّ الْمَنْعِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالرَّفْعِ، وَكَذَا لَوْ نَصَبَ عَلَى نَهْرِ الْعَامَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 طَاحُونَةً لَا تَضُرُّ بِالنَّهْرِ فَكَالطَّرِيقِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَقُّ الْمَنْعِ وَالرَّفْعِ، فَإِنْ ضَرَّ فِي الْحَالَيْنِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِثْمُ أَيْضًا، وَلَوْ جَعَلَ عَلَى نَهْرِ الْعَامَّةِ قَنْطَرَةً بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ ثُمَّ انْكَسَرَ أَوْ وَهَى فَعَطِبَ بِهِ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ ضَمِنَ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ حِسْبَةً وَمَمَرًّا لِلنَّاسِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَفِي فَتَاوِي البزازي: الْمِيَاهُ ثَلَاثَةٌ فِي عَامَّةِ الْعُمُومِ كَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ مِثْلِ دِجْلَةَ، وَجَيْحُونَ، وَسَيْحُونَ، لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ فَيَمْلِكُ كُلُّ أَحَدٍ سَقْيَ دَوَابِّهِ وَأَرْضِهِ وَنَصْبَ الطَّاحُونَةِ وَالدَّالِيَةِ وَالسَّانِيَةِ وَاتِّخَاذَ الْمَشْرَعَةِ وَالنَّهْرِ إِلَى أَرْضِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ فَإِنْ أَضَرَّ مُنِعَ، فَإِنْ فَعَلَ فَلِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ مَنْعُهُ الْمُسْلِمُ، وَالذِّمِّيُّ، وَالْمُكَاتَبُ فِيهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ قَالَ: النَّهْرُ الْأَعْظَمُ كَرْيُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَإِصْلَاحُ مُسَنَّاتِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لِلْعَامَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ وَاحْتَاجَ الْمُسَنَّاةُ وَالنَّهْرُ إِلَى الْعِمَارَةِ يُجْبَرُ الْعَامَّةُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ وَيُتْرَكُ مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا فَصَارَ كَالنَّهْرِ وَالطَّرِيقِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ مَا لَا غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ كَالْمِلْحِ، وَالْآبَارِ الَّتِي يَسْتَسْقِي النَّاسُ مِنْهَا، وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا لِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ حَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» "؛ لِأَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِبِئْرِهِ إِلَّا بِمَا حَوْلَهَا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَقِفَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ لِيَسْتَسْقِيَ الْمَاءَ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ مَا يُرِكِّبُ عَلَيْهِ الْبَكَرَةَ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ الْحَوْضَ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَإِلَى مَوْضِعٍ تَقِفُ فِيهِ مَوَاشِيهِ عِنْدَ الشُّرْبِ، وَإِلَى مَوْضِعٍ تَنَامُ فِيهِ مَوَاشِيهِ بَعْدَ الشُّرْبِ فَاسْتَحَقَّ الْحَرِيمَ لِذَلِكَ، وَقَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِأَرْبَعِينَ، ثُمَّ قِيلَ: أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَجْمَعُ الْجَوَانِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ وَهُوَ لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَإِنْ كَانَتِ النَّاضِحُ - وَهِيَ الَّتِي تَنْزِحُ الْمَاءَ مِنْهَا - بِالْبَقَرِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَعِنْدَهُمَا حَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» "؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ، وَحَاجَةُ صَاحِبِ بِئْرِ النَّاضِحِ أَكْثَرُ، وَحَرِيمُ الْعَيْنُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ لِمَا رُوِّينَا، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى زِيَادَةِ الْمَسَافَةِ، وَالتَّوْقِيفُ وَرَدَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَاتَّبَعْنَاهُ إِذْ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 يَدْخُلُ الرَّأْيُ فِي الْمَقَادِيرِ، ثُمَّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ خَمْسُمِائَةٍ مِنَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالذِّرَاعُ هُوَ الْمُكَسَّرَةُ وَهُوَ سِتُّ قَبَضَاتٍ وَكَانَ ذِرَاعُ الْمَلِكِ سَبْعُ قَبَضَاتٍ فَكُسِرَ مِنْهُ قَبْضَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا تَرَكَ الْفُرَاتُ أَوْ دِجْلَةُ وَعَدَلَ عَنْهُ الْمَاءُ وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهُ لِحَاجَةِ النَّهْرِ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْأَنْهَارُ ثَلَاثَةٌ: نَهْرٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ مَاؤُهُ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ، كَالْفُرَاتِ، وَدِجْلَةَ، وَالنِّيلِ فَكَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَاجَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْتُ الْمَالِ مُعَدٌّ لِلصَّرْفِ إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا وَفِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ عَامٌّ. وَفِي خُلَاصَةِ الْفَتَاوِي: الْمِيَاهُ ثَلَاثَةٌ فِي نِهَايَةِ الْعُمُومِ، كَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ كَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتِ، وَجَيْحُونَ، وَسَيْحُونَ، وَهِيَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهَا وَيَسْقِيَ دَابَّتَهُ وَأَرْضَهُ وَيَشْرَبَ مِنْهُ وَيَتَوَضَّأَ بِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ نَصْبُ الطَّاحُونَةِ وَالسَّانِيَةِ وَالدَّالِيَةِ وَاتِّخَاذُ الْمَشْرَعَةِ وَاتِّخَاذُ النَّهْرِ إِلَى أَرْضِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ، فَإِنْ أَضَرَّ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَضُرَّ وَفَعَلَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ مُكَاتَبٍ مَنْعُهُ. وَفِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ: وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ أَرْبَعُونَ، كَالْعَطَنِ وَقَالَا: سِتُّونَ، وَتُقَدَّرُ لِلْعَيْنِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَيُمْنَعُ غَيْرُهُ مِنَ الْحَفْرِ فِيهِ وَيُلْحَقُ مَا امْتَنَعَ عَوْدُ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ إِلَيْهِ بِالْمَوَاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ، وَإِنْ جَازَ عَوْدُهُ لَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهُ، قَالَ ابن فرشته فِي شَرْحِهِ: لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَائِمٌ لِجَوَازِ الْعَوْدِ وَكَوْنِهِ نَهْرًا، ثُمَّ قَالَ فِي الْمَجْمَعِ: وَالنَّهْرُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا حَرِيمَ لَهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَقَالَا: لَهُ حَرِيمٌ بِقَدْرِ إِلْقَاءِ الطِّينِ وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ ابن فرشته: وَفِي الْمُحِيطِ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لِلنَّهْرِ حَرِيمٌ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ لِضَرُورَةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَقَالَ شمس الدين محمد بن يوسف القونوي فِي دُرَرِ الْبِحَارِ: وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّضْحِ أَرْبَعُونَ كَالْعَطَنِ، وَقَالَا: سِتُّونَ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَيُمْنَعُ غَيْرُهُ مِنْهُ، وَلَحِقَ بِالْمَوَاتِ مَا امْتَنَعَ عَوْدُ نَحْوِ دِجْلَةَ إِلَيْهِ، غَيْرَ الْحَرِيمِ، وَيُقَدَّرُ حَرِيمُ النَّهْرِ بِنِصْفِ النَّهْرِ مِنْ جَانِبَيْهِ لَا كُلِّهِ فِي وَجْهٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 [ذِكْرُ نُقُولِ الْحَنَابِلَةِ] قَالَ فِي الْمُغْنِي - وَهُوَ أَجَلُّ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ - وَعَلَى مِنْوَالِهِ نَسَجَ الشَّيْخُ محيي الدين النووي كِتَابَهُ شَرْحَ الْمُهَذَّبِ مَا نَصُّهُ: وَمَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ وَتَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ مِنْ طُرُقِهِ وَمَسِيلِ مَائِهِ وَمَطْرَحِ قُمَامَتِهِ وَمَلْقَى تُرَابِهِ وَآلَاتِهِ فَلَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِمَصَالِحِ الْقَرْيَةِ كَفِنَائِهَا وَمَرْعَى مَاشِيَتِهَا وَمُحْتَطَبِهَا وَطُرُقِهَا وَمَسِيلِ مِيَاهِهَا لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ أَيْضًا خِلَافًا عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ حَرِيمُ الْبِئْرِ وَالنَّهْرِ وَالْعَيْنِ وَكُلِّ مَمْلُوكٍ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا تَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ» " فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مُسْلِمٍ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ الَّتِي تُوُصِّلَ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ مَؤُونَةٍ يَنْتَابُهَا النَّاسُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا كَالْمِلْحِ وَالْمَاءِ وَالْكِبْرِيتِ وَالْكُحْلِ وَمَقَالِعِ الطِّينِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا احْتِجَارُهُ دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ وَتَضْيِيقًا عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةُ فَلَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهُ وَلَا إِقْطَاعُهُ، كَمَشَارِعِ الْمَاءِ وَطُرُقَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَمَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ لَمْ يُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ، قَالَ أحمد فِي رِوَايَةِ العباس بن موسى: إِذَا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْ جَزِيرَةٍ إِلَى قَنَاةِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا رَجَعَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ؛ وَلِأَنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبَتُ الْكَلَأِ وَالْحَطَبِ، فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ انْتَهَى، وَذَكَرَ نَحْوَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ. وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَمَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الرِّفَاقِ وَالْجَزَائِرِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَلَا يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الْأَرْضِ الْمَوَاتِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ إبراهيم فِي دِجْلَةَ يَصِيرُ فِي وَسَطِهَا جَزِيرَةٌ فِيهَا طُرُقٌ فَأَجَازَهَا قَوْمٌ فَقَالَ: كَيْفَ يُجَوِّزُونَهَا وَهِيَ شَيْءٌ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ؟ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يوسف بن موسى: إِذَا نَضَبَ الْمَاءُ مِنْ جَزِيرَةٍ إِلَى فِنَاءِ رَجُلٍ هَلْ يَبْنِي فِيهِ؟ قَالَ: لَا، فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَعُودُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ بَعْدُ فَهُوَ طَرِيقٌ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ قَالَ ابن الحاج فِي الْمَدْخَلِ: لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا مَوْضِعُ قِيَامِهِ وَسُجُودِهِ وَجُلُوسِهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا بَسَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ احْتَاجَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 لِأَجْلِ سَعَةِ ثَوْبِهِ أَنْ يَبْسُطَ شَيْئًا كَبِيرًا لِيَعُمَّ ثَوْبَهُ عَلَى سَجَّادَتِهِ فَيَكُونُ فِي سَجَّادَتِهِ اتِّسَاعٌ خَارِجٌ فَيُمْسِكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَوْضِعَ رَجُلَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا، إِنْ سَلِمَ مِنَ الْكِبْرِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْضَمُّ إِلَى سَجَّادَتِهِ أَحَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ذَلِكَ وَوَلَّى النَّاسُ عَنْهُ وَتَبَاعَدُوا مِنْهُ هَيْبَةً لِكُمِّهِ وَثَوْبِهِ وَتَرَكَهُمْ هُوَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقُرْبِ إِلَيْهِ فَيُمْسِكُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ غَاصِبًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمَنْصُوصِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: " «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» " وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَمْسَكَهُ بِسَبَبِ قُمَاشِهِ وَسَجَّادَتِهِ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ حَاجَةٌ فِي الْغَالِبِ إِلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ غَاصِبٌ لَهُ فَيَقَعُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ بِسَبَبِ قُمَاشِهِ وَسَجَّادَتِهِ وَزِيِّهِ، فَإِنْ بَعَثَ بِسَجَّادَتِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ قَبْلَهُ فَفُرِشَتْ لَهُ هُنَاكَ وَقَعَدَ هُوَ إِلَى أَنْ يَمْتَلِئَ الْمَسْجِدُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَأْتِي كَانَ غَاصِبًا لِذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي عُمِلَتِ السَّجَّادَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْجِزَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ فِيهِ إِلَّا مَوْضِعَ صَلَاتِهِ انْتَهَى. [ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ وَطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ] أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ ظَلَمَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» " وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» " وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، «عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ فَدَخَلَ عَلَى عائشة فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ: يَا أبا سلمة اجْتَنِبِ الْأَرْضَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» " وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَلْعُونٌ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ مَلْعُونٌ مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ عَلَامَ الْأَرْضِ» "، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: هَذَا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَنْ تَوَلَّى لِغَيْرِ مَوَالِيهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مُنْتَقِصَ مَنَارِ الْأَرْضِ» "، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ» "، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ حُدُودَ الْأَرْضِ مَلْعُونٌ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ» "، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أبي رافع قَالَ: وَجَدْنَا صَحِيفَةً فِي قِرَابِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وَفَاتِهِ مَكْتُوبٌ فِيهَا: " «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَرِّقُوا بَيْنَ مَضَاجِعِ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي بَلْ وَالْأُخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِسَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى الصَّلَاةِ إِذَا بَلَغُوا تِسْعًا، مَلْعُونٌ مَنِ ادْعَى إِلَى غَيْرِ قَوْمِهِ أَوْ إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، مَلْعُونٌ مَنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ تُخُومِ الْأَرْضِ» " يَعْنِي بِذَلِكَ طُرُقَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْرَجَ أحمد، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ يعلى بن مرة قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ ظَلَمَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ كَلَّفَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ سَبْعَ أَرَضِينَ، ثُمَّ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ» " وَفِي لَفْظٍ لأحمد: " «مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِغَيْرِ حَقِّهَا كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا إِلَى الْمَحْشَرِ» " وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ: " «مَنْ ظَلَمَ مِنَ الْأَرْضِ شِبْرًا كُلِّفَ أَنْ يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءَ ثُمَّ يَحْمِلُهُ إِلَى الْمَحْشَرِ» "، وَأَخْرَجَ أحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» ". وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ الحكم بن الحارث السلمي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شِبْرًا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» "، وَأَخْرَجَ أحمد وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أبي مسعود قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الظُّلْمِ أَظْلَمُ؟ فَقَالَ: " ذِرَاعٌ مِنَ الْأَرْضِ يَنْتَقِصُهَا الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَيْسَ حَصَاةٌ مِنَ الْأَرْضِ يَأْخُذُهَا إِلَّا طُوِّقَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى قَعْرِ الْأَرْضِ وَلَا يَعْلَمُ قَعْرَهَا إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهَا» "، وَأَخْرَجَ ابن سعد، وأحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَعْظَمُ الْغُلُولِ عِنْدَ اللَّهِ ذِرَاعٌ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا اقْتَطَعَهُ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» ". خَاتِمَةٌ: أَرْسَلْتُ بِقَضِيَّةِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَرَادَ الْبُرُوزَ إِلَى قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّافِعِيِّ، وَأَرْسَلْتُ لَهُ نُقُولَ الْمَذْهَبِ وَهَذَا الْمُؤَلَّفِ وَعَرَّفْتُهُ أَنَّ الَّذِي كَانُوا يَحْكُمُونَ بِهِ مِنِ الْإِذْنِ فِي الْبُرُوزِ بِالرَّوْضَةِ وَنَحْوِهَا بَاطِلٌ لَيْسَ بِحُكْمِ اللَّهِ، وَلَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَأَذْعَنَ لِلْحَقِّ وَمَنَعَ نُوَّابَهُ مِنَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَى الْخَصْمِ وَيَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْمَنْعِ مِنَ الْبُرُوزِ فَأَرْسَلْتُ أَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْكُمَ حُكْمًا عَامًّا بِالْمَنْعِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ خَصْمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وَلَا تَوَجُّهِ دَعْوَى، فَاسْتَغْرَبَ ذَلِكَ فَأَرْسَلْتُ أَقُولُ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي مِثْلِ هَذَا وَنَحْوِهِ، وَقَدْ حَكَمَ الشَّيْخُ تقي الدين السبكي نَظِيرَ هَذَا الْحُكْمِ وَأَبْلَغَ مِنْهُ وَأَلَّفَ فِيهِ مُؤَلَّفًا فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِمُؤَلَّفِ السبكي فِي ذَلِكَ فَحَكَمَ بِمَنْعِ الْبُرُوزِ فِي الرَّوْضَةِ مَنْعًا مُطْلَقًا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ وَنَفَّذَ هَذَا الْحُكْمَ قَاضِي الْقُضَاةِ الْحَنْبَلِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ الْمَالِكِيُّ، وَأَرْسَلْتُ بِذَلِكَ وَبِهَذَا الْمُؤَلَّفِ إِلَى الْمَقَامِ الشَّرِيفِ مَوْلَانَا السُّلْطَانِ فَأَحَاطَ بِذَلِكَ عِلْمًا وَتَوَعَّدَ أَهْلَ الْبُرُوزَاتِ مَنْعًا وَهَدْمًا، وَقَدْ خَتَمْتُ هَذَا الْمُؤَلَّفَ بِقَصِيدَةٍ نَظَمْتُ فِيهَا الْمَسْأَلَةَ لِأَنَّ النَّظْمَ أَيْسَرُ لِلْحِفْظِ وَأَسَيْرُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَسَمَّيْتُهَا: (النَّهْرُ لِمَنْ بَرَزَ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ) وَهِيَ هَذِهِ: بَدَأْتُ بِبَسْمِ اللَّهِ فِي النَّظْمِ لِلشِّعْرِ ... وَأُثَنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ وَصَلَّى إِلَهُ الْعَرْشِ مَا ذُكِرَ اسْمُهُ ... عَلَى الْمُصْطَفَى الْمَبْعُوثِ لِلسُّودِ وَالْحُمْرِ وَهَاتِيكَ أَبْيَاتًا يُضَاهِي قَرِيضُهَا ... إِذَا مَا رَأَى الرَّاؤُونَ بِالْكَوْكَبِ الدُّرِّي فَمُسْنَدُهُ لِابْنِ الْفُرَاتِ عُذُوبَةً ... وَبَهْجَتُهُ الزَّهْرَاءُ تُعْزَى إِلَى الزُّهْرِي وَأَلْفَاظُهُ تَحْكِي عَنِ الْمَاءِ رِقَّةً ... وَفِيهِ مَعَانٍ كُلُّهَا عَنْ أَبِي بَحْرِ شَذَاهُ إِلَى الْآفَاقِ طَارَ فَعَرْفُهُ ... وَتَحْلِيقُهُ فِي الْجَوِّ كَالْوَرْدِ وَالنَّسْرِ وَذَلِكَ فِي حُكْمٍ مِنَ الشَّرْعِ بَيِّنٌ ... يَفُوقُ السَّنَى الْبَدْرِيَّ فِي لَيْلَةِ الْبَدْرِ بِهِ قَالَ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ كُلُّهُمْ ... وَكُلُّ إِمَامٍ قُدْوَةٍ عَالِمٍ حَبْرِ لَقَدْ عَمَّتِ الْبَلْوَى بِأَمْرٍ مُحَرَّمٍ ... وَظَنَّ مُبَاحًا ذَاكَ كُلُّ امْرِئٍ غُمْرِ فَفِي رَوْضَةِ الْمِقْيَاسِ جَارٍ بُرُوزُ مَنْ ... أَرَادَ بِأَنْ يَسْطُوَ عَلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَتَى فِي حَرِيمِ النَّهْرِ بَعْضُ بُرُوزِهِ ... وَسَائِرُهُ قَدْ حَلَّ فِي بُقْعَةِ النَّهْرِ وَمَا قَالَ هَذَا قَطُّ فِي الدَّهْرِ عَالِمٌ ... وَلَمْ يَسْتَبِحْهُ فِي الْقَدِيمِ أُولُو الْخِبْرِ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَا فِي الْبَلِيَّةِ مَنْ عَزَا ... إِبَاحَتَهُ لِلشَّافِعِيَّةِ بِالْقَسْرِ وَمَا قَالَ هَذَا الشَّافِعِيُّ وَصَحْبُهُ ... وَلَا أَحَدَ مِنْ قَبْلُ أَوْ بَعْدَهُ يَدْرِي يَمِينًا وَفَجْرٍ وَاللَّيَالِي بِعَشْرِهَا ... وَشَفْعٍ وَوَتْرٍ ثُمَّ لَيْلٍ إِذَا يَسْرِي بَلِ النَّصُّ فِي كُتُبِ الْإِمَامِ وَصَحْبِهِ ... بِأَنَّ حَرِيمَ الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ إِذْ يَجْرِي كِلَا ذَيْنِ لَا مِلْكَ عَلَيْهِ يَحُوزُهُ ... وَإِنَّ بِنَاءَ النَّاسِ فِيهِ أَخُو حَظْرِ وَلَا جَازَ إِقْطَاعٌ لَدَيْهِ وَلَا انْزَوَى ... إِلَى مِلْكِ بَيْتِ الْمَالِ بَيْعًا لِمَنْ يَشْرِي وَمَنْ فِيهِ يَبْنِي فَلْيُهَدَّ بِنَاؤُهُ ... وَنَنْسِفُهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا عَلَى قَدْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وَفِي حَسْرَةٍ يَمْشِي عَلَى فَقْدِ جِسْرِهِ وَفِي خُسْرِهِ أَضْحَى إِلَى حَشْرِهِ يَجْرِي ... وَأَمَّا قَدِيمًا قَدْ رَأَيْنَا مُؤَصَّلًا عَلَى نَمَطِ الْجِيرَانِ فِي السَّمْتِ لِلْجُدْرِ ... فَذَلِكَ نُبْقِيهِ وَنُوَلِّي احْتِرَامَهُ لِوَضْعٍ بِحَقٍّ سَابِقٍ غَيْرِ ذِي خَتْرِ ... وَمَنْ رَامَ نَقْلًا يَسْتَفِيدُ بِعَزْوِهِ لِيَحْكِيَ نُصُوصَ الْعِلْمِ إِنْ حَلَّ فِي صَدْرِ ... فَفِي الْأُمِّ نَصُّ الشَّافِعِيِّ إِمَامِنَا وَمُخْتَصَرِ عَالِي الذُّرَى سَامِي الْقَدْرِ ... وَتَعْلِيقَةِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِ وَكَافِي الْخَوَارِزْمِيِّ ذِي الْفَضْلِ وَالذِّكْرِ ... وَتَهْذِيبِ مُحْيِي السُّنَّةِ الْبَغَوِيِّ مَعَ نُقُولِ كَثِيرٍ قَدْ تَجِلُّ عَنِ الْحَصْرِ ... وَفِي الشَّرْحِ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَرَوْضَةِ النَّ وَاوِيِّ حَيَّا قَبْرَهُ وَابِلُ الْقَطْرِ ... كَذَا فِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ بَيَانُهُ وَنَاهِيكَ بِالْحَبْرِ النَّقِيِّ عَنِ الْأَصْرِ ... وَسَارَ عَلَيْهِ فِي الْكِفَايَةِ نَجْمُنَا أَجَلْ فَفِيهِ جَاءَ إِذْ ذَاكَ مِنْ مِصْرِ ... وَأَوْضَحَهُ فِي الِابْتِهَاجِ وَغَيْرِهِ الْإِمَامُ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ بِالْبَسْطِ وَالنَّشْرِ ... وَفِيهِ عَنِ الْقَفَّالِ لَوْ رَامَ نَخْلَةً لِيَغْرِسَ بِالشَّاطِئِ مَنَعْنَاهُ بِالْقَهْرِ ... وَبَيَّنَ ذَاكَ الزَّرْكَشِيُّ بِشَرْحِهِ وَمِنْ بَعْدُ فِي الشَّرْحِ الدَّمِيرِيُّ ذُو الْفَخْرِ ... وَبَيَّنَهُ الْغَزِّيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَا فَخُذْهَا نُقُولًا مِنْ بِحَارٍ أُولِي دُرِّ ... وَخُذْ عَنْ نُقُولِ الْمَالِكِيَّةِ مُسْنَدًا لِكُلِّ إِمَامٍ مِنْهُمْ عَالِمٍ حَبْرِ ... وَفِي مَدْخَلِ ابْنِ الْحَاجِّ أَعْظَمَ بَسْطَهُ وَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنِ الْإِثْمِ وَالضُّرِّ ... وَحَدُّ حَرِيمِ النَّهْرِ أَلْفُ ذِرَاعُهُ وَذَلِكَ أَعْلَى الْحَدِّ فِي حَرَمِ النَّهْرِ ... وَأَمَّا النُّقُولُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا فَأَوْفَى مِنَ الْبَحْرِ ... وَحَدُّوا حَرِيمَ الْعَيْنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِخَمْسِ مِيءٍ مِنْ أَذْرُعٍ هِيَ ذُو كَسْرِ ... وَأَمَّا نُقُولٌ لِابْنِ حَنْبَلٍ جَمَّةٌ وَنَاهِيكَ بِالْمُغْنِي فَكُنْ فِيهِ ذَا ذِكْرِ ... وَمَذْهَبُهُ فِي الْجُزُرِ أَضْيَقُ مَذْهَبٍ لِنَصٍّ لَهُ أَنْ لَيْسَ يَبْنَى عَلَى جُزْرِ ... وَمَذْهَبُنَا فِي ذَاكَ أَفْسَحُ مَذْهَبٍ لِأَنَّهُمْ قَاسُوا الْحَرِيمَ عَلَى الْبِئْرِ ... وَأَدْنَى حَرِيمِ الْبِئْرِ قَدْ قِيلَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذَرْعًا مِنْ ذِرَاعِ أُولِي الشِّبْرِ ... وَكُلُّ مَكَانٍ عَمَّهُ فِي زِيَادَةٍ مِنَ الْمَاءِ مَعْدُودٌ مِنَ الْأَرْضِ لِلنَّهْرِ ... وَضَابِطُهُ مَا بَيْنَ سَطْحَيْنِ حُفْرَةٌ إِذِ النَّهْرُ مَرْدُودٌ إِلَى مَادَّةِ الْحَفْرِ ... فَحُفْرَةُ مَجْرَى الْمَاءِ نَهْرٌ وَمَبْدَأُ الْحَرِيمِ مِنَ التَّسْطِيحِ قَدْرًا عَلَى قَدْرِ ... وَمَنْ رَامَ فِي هَذَا الْبِنَاءِ فَإِنَّهُ أَضَرَّ عَلَى الْمَارِّينَ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 يُقِيمُ بِهِ فِي أَكْثَرِ الْعَامِ مَاؤُهُ ... فَلَا يَجِدُ الْمَارُّونَ طُرُقًا إِلَى الْمَرِّ وَمِنْ هَاهُنَا مَعَ هَاهُنَا كُلُّ سَالِكٍ ... يَمُرُّ وَهَذَا الْبَرْزُ كَالطَّوْدِ فِي الْبَحْرِ وَلَيْسَ بِهَا مَنْ يَقْطَعُ الطُّرُقَ غَيْرُهُ ... فَلِلَّهِ مِمَّنْ يَقْطَعُ الطُّرُقَ فِي الظُّهْرِ وَقَدْ صَحَّ فِي الْآثَارِ تَطْوِيقُ سَبْعَةِ ... أَرَاضٍ لِمَنْ يَجْنِي مِنَ الْأَرْضِ كَالشِّبْرِ وَقَدْ صَحَّ أَيْضًا لَعْنُهُ وَانْخِسَافُهُ ... إِلَى الْأَرَضِينَ السَّبْعِ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ فَمَنْ رَامَ مَعَ هَذَا الْوَعِيدِ بُرُوزَهُ ... فَفِي الْعَصْرِ أَنَّ الْمُعْتَدِينَ لَفِي خُسْرِ وَأَلَّفْتُ فِي مَنْعِ الْبُرُوزِ بِشَاطِئٍ ... عَلَى النَّهْرِ تَأْلِيفًا أُسَمِّيهِ بِالْجَهْرِ تَضَمَّنَ مِنْ هَذِي النُّقُولِ عُيُونَهَا ... وَأَوْضَحْتُ فِيهِ مَا تَفَرَّقَ فِي السِّفْرِ وَقَدْ صَبَّ حُكْمُ الشَّرْعِ بِالْمَنْعِ هَاكُمُ ... عَلَى كُلِّ مَا رَامَ الْبُرُوزَ عَلَى النَّهْرِ لُزُومًا لِمَنْعٍ فِي الْعُمُومِ لِكُلِّ مَنْ ... أَرَادَ بُرُوزًا فِي الْحَرِيمِ مَدَى الدَّهْرِ وَهَذَا صَحِيحٌ نَافِذٌ يَسْتَمِرُّ لَا ... يُشَانُ بِإِفْسَادٍ وَنَقْضٍ وَلَا كَسْرِ وَقَدْ حَكَمَ السُّبْكِيُّ فِيهِ نَظِيرَهُ ... وَأَلَّفَ تَأْلِيفًا لَهُ عَالِيَ الْقَدْرِ وَمَنْ لَمْ يُطِعْ حُكْمَ الشَّرِيعَةَ رَدَّهُ ... إِلَيْهَا بِرَغْمِ رَاغِمٍ سَطْوَةُ الْقَهْرِ مِنَ الْمَلِكِ الْحَامِي زِمَامَ شَرِيعَةٍ ... فَأَيَّدَهُ الرَّحْمَنُ بِالْعِزِّ وَالنَّصْرِ وَنَخْتِمُ هَذَا النَّظْمَ بِالْحَمْدِ دَائِمًا ... لِرَبِّ الْعُلَا الْمُخْتَصِّ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَنُثْنِي عَلَى الْهَادِي بِخَيْرِ صَلَاتِهِ ... وَتَسْلِيمِهِ فَهُوَ الْمُشَفَّعُ فِي الْحَشْرِ وَآلٍ لَهُ خُصُّوا بِكُلِّ مَزِيَّةٍ ... وَأَصْحَابِهِ الزَّاكِينَ وَالْأَنْجُمِ الزَّهْرِ وَنُتْبِعُ هَذَا بِالرِّضَا عَنْ أَئِمَّةٍ ... هُمْ قُدْوَةٌ لِلْخَلْقِ فِي كُلِّ مَا عَصْرِ إِمَامِي أَعْنِي الشَّافِعِيَّ وَمَالِكٍ ... وَأَحْمَدَ وَالنُّعْمَانِ كُلٌّ ذَوُو قَدْرِ وَسَمَّيْتُ هَذَا النَّظْمَ بِالنَّهْرِ زَاجِرًا ... لِمَنْ رَامَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ فَمَوْضُوعُهُ بَحْرٌ وَبَحْرُ عُلُومِهِ ... وَعِدَّتُهُ سَبْعُونَ بَيْتًا عَلَى بَحْرِ وَنَخْتِمُ بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ طَرِيقِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ جَارِي؟ قَالَ: " إِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ " إِلَى أَنْ قَالَ: " وَلَا تَرْفَعْ بِنَاءَكَ فَوْقَ بِنَائِهِ فَتَسُدَّ عَلَيْهِ الرِّيحَ» "، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " قَالَ: " أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْجَارِ؟ إِذَا اسْتَعَانَكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أَعَنْتَهُ " - إِلَى أَنْ قَالَ - وَلَا تَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ تَحْجُبُ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ» "، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا شَاهِدٌ لِلَّذِي قَبْلَهُ يَعْتَضِدُ بِهِ. مَسْأَلَةٌ: فِي أَرْضِ آهُرَ بِبَلَدِ أَكْدَزَ وَهِيَ أَرْضُ إِسْلَامٍ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْمُسْلِمُونَ، وَلِكُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ أَرْضٌ هُمْ نَازِلُونَ بِهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْحَرْثِ وَالزِّرَاعَةِ فِي الْغَالِبِ، وَإِنَّمَا غَالَبُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِيهَا مُبَاحَاتُ النَّبَاتِ مِنَ الْأَشْجَارِ كَثَمَرِ الدَّوَامِ وَالسِّدْرِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَنْبُتُ بِغَيْرِ تَكَلُّفِ آدَمِيٍّ وَمَا شَابَهَهُ مِنْ حُبُوبِ الْأَعْشَابِ النَّابِتَةِ بِغَيْرِ حَرْثٍ وَلَا تَعَبٍ مِمَّا هُوَ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ، وَيَحْصُلُ لِمَنِ اعْتَنَى بِجَمْعِ ذَلِكَ شَيْءٌ لَهُ قِيمَةٌ وَالْأَرْضُ الْمَذْكُورَةُ تَمَلَّكَهَا أَهْلُهَا الْمَذْكُورُونَ بِهَا، بِإِذْنِ أَمِينِ الْبِلَادِ الْمُوَّلَى بِإِذْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَقْطَعَهَا أَمِيرُ الْبِلَادِ الْمَذْكُورُ لِأَهْلِهَا النَّازِلِينَ الْمَذْكُورِينَ بِهَا لِمَصَالِحَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِي إِقْطَاعِهِمْ إِيَّاهَا، فَهَلْ لِمَنْ هُوَ بِهَا أَنْ يَبِيعَ كَلَأَهَا وَشَيْئًا مِنْ شَجَرِهَا؟ وَهَلْ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَهُمْ مِنَ الرَّعْيِ فِيهَا أَوِ الِانْتِفَاعِ مِنْهَا بِشَيْءٍ؟ وَأَصْلُ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ هَلْ هِيَ أَرْضُ عَنْوَةٍ أَوْ أَرْضُ صُلْحٍ؟ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ بِيَدِ مُقَدَّمِ الْبِلَادِ يُقْطِعُهَا لِمَنْ يَشَاءُ وَنَشَأُوا عَلَى ذَلِكَ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَغَالِبُ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِذَلِكَ، فَإِنْ قُلْتُمْ: لَهُمْ بَيْعُ كَلَأِهَا وَمَنْعُ غَيْرِهِمْ مِنْهُ فَمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي مَنْعِ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ؟ وَمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيمَا يُرْوَى أَرْبَعَةٌ لَا تُمْنَعُ، وَذَكَرَ فِيهَا الْمَاءَ وَالْكَلَأَ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ سَدَّدَكُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِلصَّوَابِ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَيْكُمْ؟ . الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَلَأَ إِذَا جُزَّ مِنْ نَبَاتِهِ وَقُطِعَ وَحِيزَ بِالْأَخْذِ وَالتَّنَازُلِ فَإِنَّ حَائِزَهُ يَمْلِكُهُ وَلَهُ بَيْعُهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ، وَأَمَّا الْكَلَأُ الَّذِي هُوَ فِي مَنَابِتِهِ لَمْ يُقْطَعْ وَلَمْ يَجُزْ فَإِنْ كَانَ نَابِتًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَالنَّاسُ فِيهَا سَوَاءٌ كَالْمَاءِ الْمُبَاحِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ مَنْعِهِ، وَإِنْ كَانَ نَابِتًا فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لَا يَجِبْ بَذْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، بَقِيَ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْكَلَأُ النَّابِتُ فِي أَرْضٍ أَقْطَعَهَا السُّلْطَانُ إِنْسَانًا، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ: فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ مَوَاتًا لَمْ يَجُزِ الْإِقْطَاعُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحِمَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» "، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ الْخَالِي عَنِ الْكَلَأِ وَالْعُشْبِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ غَيْرَ مَوَاتٍ وَهِيَ مِنْ أَرَاضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بَيْتِ الْمَالِ الَّتِي يُقْطِعُهَا السُّلْطَانُ الْآنَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَإِنَّ إِقْطَاعَهَا صَحِيحٌ، وَيَخْتَصُّ الْمُقْطَعُ بِالْكَلَأِ الَّذِي فِيهَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَبِيعُهُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ سَوَّغَ السُّلْطَانُ اسْتِغْلَالَهُ لِهَذَا الْمُقْطَعِ بِعَيْنِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَرْضَ أَكْدَزَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الْإِقْطَاعِ وَالِاسْتِغْلَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْوَقْفِ] [ مسائل متفرقة ] بَابُ الْوَقْفِ مَسْأَلَةٌ: وَقْفٌ تَعَطَّلَ رِيعُهُ وَفِيهِ إِمَامٌ وَغَيْرُهُ، فَهَلْ يَلْزَمُ النَّاظِرَ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى الْوَقْفِ وَيُعْطِيَهُمْ؟ . الْجَوَابُ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ: الْمَسْجِدُ الْمُعَلَّقُ عَلَى بِنَاءِ الْغَيْرِ، أَوْ عَلَى الْأَرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ إِذَا زَالَتْ عَيْنُهُ هَلْ يَزُولُ حُكْمُهُ بِزَوَالِهَا؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ يَزُولُ حُكْمُهُ إِذْ لَا تَعَلُّقَ لِوَقْفِيَّةِ الْمَسْجِدِ بِالْأَرْضِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْأَصْحَابُ: إِذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ مِنْ جُمْلَةِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ بِدَلِيلِ تَعْلِيلِهِمْ ذَلِكَ، بِأَنَّ الصَّلَاةَ تُمْكِنُ فِي عَرْصَتِهِ عَلَى أَنَّ فِي صِحَّةِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْأَرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ نَظَرًا؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَئِمَّتِنَا أَفْتَى بِأَنَّ الْوَقْفَ فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ إِذَا كَانَ رِيعُهُ لَا يَفِي بِالْأُجْرَةِ أَوْ وَفَى بِهَا وَلَمْ يَزِدْ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسْجِدَ لَا رِيعَ لَهُ تَوَفَّى مِنْهُ أُجْرَةُ الْأَرْضِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ اسْتَأْجَرَهَا مُدَّةً وَأَدَّى أُجْرَتَهَا فَبَعْدَ انْتِهَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يَلْزَمُ الْوَاقِفَ الْأُجْرَةُ فَلَا يَبْقَى إِلَّا تَفْرِيغُ الْأَرْضِ مِنْهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْوَقْفِ شُكَّ فِي زَوَالِ حُكْمِهِ بِزَوَالِ عَيْنِهِ وَيَبْنِي مَالِكُ الْأَرْضِ مَكَانَهُ مَا شَاءَ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ وَنَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِمْ، تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا السُّفْلَى أَبَدًا عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا وَلَا أَسْفَلَ مِنْهُ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ أَوِ الْبَطْنِ يَنْتَقِلُ نَصِيبُهُ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَ وَقْفًا عَلَى مُحَمَّدٍ، وَحَلِيمَةَ، وَخَدِيجَةَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ لِمَنْ بَقِيَ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَنَسْلِهِمْ [وَعَقِبِهِمْ] تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا السُّفْلَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي أَوْلَادِ الْوَاقِفِ فَانْقَرَضُوا وَآلَ الْأَمْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ فَمَاتَ مُحَمَّدٌ عَنْ غَيْرِ نَسْلٍ، ثُمَّ مَاتَتْ حَلِيمَةُ عَنْ بِنْتٍ وَخَدِيجَةُ عَنِ ابْنِ بِنْتٍ، فَهَلْ يَشْتَرِكَانِ فِي الْوَقْفِ لِقَوْلِهِ إِنَّهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي أَوْلَادِ الْوَاقِفِ؟ وَقَدْ قَالَ هُنَاكَ: إِنَّ مَنْ لَمْ يُخَلِّفْ مِنْهُمْ وَلَدًا، وَلَا أَسْفَلَ مِنْهُ يَنْتَقِلُ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا خَلَّفَ وَلَدًا مَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ، أَمْ تَسْتَحِقُّ الْبِنْتُ دُونَ ابْنِ الْبِنْتِ؟ . الْجَوَابُ: تَسْتَحِقُّ الْبِنْتُ فَقَطْ دُونَ ابْنِ الْبِنْتِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا السُّفْلَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَقْفَ لَا يَنْتَقِلُ لِأَوْلَادِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ إِلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ كُلِّهِمْ؛ لِقَوْلِهِ: عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ يَنْتَقِلُ نَصِيبُهُ لِمَنْ بَقِيَ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ لِأَوْلَادِهِمْ، فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْأَوْلَادِ حَقًّا إِلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِ جَمِيعِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ اعْتُبِرَ الْأَعْلَى فَلَا، فَالْأَعْلَى حَقٌّ لِابْنِ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالْعُلْيَا. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى جِهَاتٍ وَشَرَطَ أَنْ مَا فَضَلَ يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلَهُ أَخٌ وَلِلْأَخِ أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ بِصِفَةِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ فَهَلْ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَصْرِفَ لَهُمْ مِنْهُ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ بَلْ هُمْ أَوْلَى مِنَ الْأَجَانِبِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ وَقَفَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ نَسْلِهِمْ فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى أَوْلَادِ أُخْتِهِ، وَمَاتَ ثُمَّ مَاتَتْ أَوْلَادُهُ وَهُمْ أَطْفَالٌ بَعْدَ شَهْرٍ، وَلَهُ عَاصِبٌ فَطَلَبَ أَوْلَادُ أُخْتِهِ الْوَقْفَ وَنَازَعَهُمُ الْعَاصِبُ، وَقَالَ: إِنَّ الْوَقْفَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ؟ . الْجَوَابُ: الْمَنْقُولُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَوْقُوفَ إِنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ صَحَّ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِجَازَةٍ، وَإِنْ كَانَ وَقْفًا عَلَى وَارِثٍ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ صَحَّ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَوُقِفَ الزَّائِدُ عَلَى الْإِجَازَةِ، فَإِذَا مَاتَ الْأَوْلَادُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلِوَارِثِهِمْ رَدُّ الْوَقْفِ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ خَاصَّةً، وَأَمَّا قَدْرُ الثُّلْثِ هُوَ لِأَوْلَادِ الْأُخْتِ لَا يَجُوزُ إِبْطَالُهُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ وَقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ فِيهِ النَّظَرَ لِمَنْ يَصْلُحُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ فَثَبَتَ صَلَاحُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَحُكِمَ لَهُ بِالنَّظَرِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَثْبَتَ حَاكِمٌ آخَرَ صَلَاحَ امْرَأَةٍ مِنْهُمْ وَحَكَمَ لَهَا بِالنَّظَرِ فَهَلْ يَشْتَرِكَانِ أَوْ تُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الْجَوَابُ: إِذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِمَنْ يَصْلُحُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَتِ الصَّلَاحِيَةُ لِلرَّجُلِ وَحُكِمَ لَهُ بِالنَّظَرِ، فَلَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَتْ تَصْلُحُ، وَلَا يُظَنُّ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِصِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ بَلْ هُوَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا ثَبَتَ لِوَاحِدٍ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يَتَعَدَّهُ، بَلْ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ بِصِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ كَالْأَصْلَحِ وَالْأَرْشَدِ وَثَبَتَ الْأَصْلَحِيَّةُ وَالْأَرْشَدِيَّةُ لِوَاحِدٍ وَحُكِمَ لَهُ بِهِ ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ صَارَ أَصْلَحَ وَأَرْشَدَ لَمْ يَنْتَقِلْ لَهُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَنْ فِيهِ هَذَا الْوَصْفُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا فِي الْأَثْنَاءِ وَإِلَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ نَظَرٌ لِأَحَدٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ إِذَا قُلْنَا لَا تَنْعَقِدُ إِمَامَةُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ فَذَاكَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا فِي الدَّوَامِ، وَمَقْصُودُ الْوَاقِفِ تَفْوِيضُ النَّظَرِ إِلَى وَاحِدٍ يَصْلُحُ لَا إِلَى كُلِّ مَنْ يَصْلُحُ وَإِلَّا لَأَدَّى إِلَى جَعْلِ النَّظَرِ لِجَمِيعِ الذُّرِّيَّةِ إِذَا كَانُوا صَالِحِينَ، وَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ مَا يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الْوَقْفِ، فَالْأَوْلَى حَمْلُ " مَنْ " فِي كَلَامِ الْوَاقِفِ عَلَى النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ لَا عَلَى الْمَوْصُولَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَإِنَّهَا نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا تَعُمُّ، بَلْ لَوْ فُرِضَ فِيهَا عُمُومٌ كَانَ مِنْ عُمُومِ الْبَدَلِ لَا مِنْ عُمُومِ الشُّمُولِ. مَسْأَلَةٌ: وَاقِفٌ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ بِالْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَى وَلَدِهِ ثُمَّ إِلَى وَلَدِ وَلَدِهِ بِالْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِلَى إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِلَى أَقْرَبِ الطَّبَقَاتِ إِلَيْهِ عَلَى مَا شَرَحَ، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ عَنْ أَوْلَادِ عَمٍّ ثَلَاثَةٍ: مُحَمَّدٍ، وَخَاتُونَ أَخَوَانِ، وَفَاطِمَةَ بِنْتِ عَمٍّ، فَهَلْ تَنْتَقِلُ حِصَّتُهَا إِلَى الثَّلَاثَةِ أَوْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقَطْ كَمَا فِي حُكْمِ الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي عَوَّلَ عَلَيْهَا الْوَاقِفُ مِنْ أَنَّ ابْنَ الْعَمِّ لَا تُشَارِكُهُ إِخْوَتُهُ وَلَا ابْنُ عَمِّهِ؟ . الْجَوَابُ: الظَّاهِرُ انْتِقَالُ حِصَّتِهَا إِلَى الثَّلَاثَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: أَقْرَبُ الطَّبَقَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِالْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَحْمُولٌ عَلَى تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْأَسْهُمِ فَقَطْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَمْلَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا قَوْلُهُ عَقِبَ ذَلِكَ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ بِذِكْرِ الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْفَرِيضَةَ مَعْنَاهَا الْوَضْعِيُّ الْمُقَدَّرَةُ لَا مَدْلُولَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْصِبَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] فَلَا دَلَالَةَ لِلَفْظِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الْفَرِيضَةِ عَلَى مَنْعٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، الثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ أَخَذْنَا بِحُكْمِ الْفَرِيضَةِ الشَّامِلِ لِمَا ذُكِرَ لَمْ نُعْطِ بِنْتَ الْعَمِّ شَيْئًا الْبَتَّةَ، وَإِنْ فُقِدَ ابْنُ الْعَمِّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرَائِضِ أَنَّهَا لَا مِيرَاثَ لَهَا الْبَتَّةَ، وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ هُنَا فَتَعَيَّنَ تَخْصِيصُهُ بِمَا ذَكَرْنَا. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ وَسَمَّاهُمْ، وَقَالَ: وَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَأَنَّ الذُّكُورَ خَاصَّةً تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِنْهُمْ أَبَدًا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى وَلَدٌ، وَلَا وَلَدَ وَلَدٍ، وَلَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، رَجَعَ نَصِيبُهُ إِلَى إِخْوَتِهِ الْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي هَذَا الْوَقْفِ مُضَافًا لِمَا بِأَيْدِيهِمْ، وَتُوُفِّيَ الْوَاقِفُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَوْلَادٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ثَلَاثَةِ ذُكُورٍ فَأَخَذُوا نَصِيبَهُ، ثُمَّ مَاتَ الثَّانِي عَنْ وَلَدٍ ذَكَرٍ فَأَخَذَ نَصِيبَهُ، ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَنْ وَلَدَيْنِ صَغِيرَيْنِ، وَوَلَدَيْ وَلَدٍ فَأَخَذَ وَلَدَاهُ نَصِيبَهُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدَانِ الصَّغِيرَانِ عَنْ وَلَدَيْ أَخِيهِمَا وَعَنْ عَمِّهِمَا فَهَلْ يَرْجِعُ نَصِيبُهُمَا إِلَى ابْنَيْ أَخِيهِمَا عَمَلًا بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَلِحِرْصِ الْوَاقِفِ عَلَى وُصُولِ نَصِيبِ كُلِّ أَصْلٍ إِلَى فَرْعِهِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ وَلَدٌ، وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ وَلَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِزَوَالِ مَنْ حَجَبَهُمَا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِ جَدِّهِمَا أَوْ إِلَى عَمِّهِمَا؟ . الْجَوَابُ: يَرْجِعُ إِلَى الْعَمِّ دُونَ وَلَدَيِ الْأَخِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا السُّفْلَى، وَمَا ذُكِرَ مِنَ التَّعَالِيلِ الثَّلَاثَةِ فَاسِدٌ؛ أَمَّا قَوْلُهُ: عَمَلًا بِوَاوِ الْعَطْفِ فَإِنَّهَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا التَّشْرِيكُ مُطْلَقًا بَلْ تُفِيدُ حَجْبَ الْعُلْيَا السُّفْلَى وَإِلَّا لَاسْتَحَقَّ وَلَدُ الْأَخِ مَعَ وُجُودِ عَمَّيْهِمَا وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَحْرِصُ الْوَاقِفُ إِلَى آخِرِهِ، فَقَدْ قَالَ السبكي فِي فَتَاوِيهِ فِي مَسْأَلَةٍ وَقْفِيَّةٍ ذَكَرَ فِيهَا شِبْهَ ذَلِكَ: الْمَقَاصِدُ إِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ لَا تُعْتَبَرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلِزَوَالِ مَنْ حَجَبَهُمَا إِلَى آخِرِهِ، فَذَاكَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءً عِنْدَ مَوْتِ الْأَصْلِ الَّذِي هَذَانِ فَرْعَاهُ، وَأَمَّا زَوَالُهُ فِي الْأَثْنَاءِ بَعْدَ انْتِقَالِ الْوَقْفِ إِلَى جِهَةٍ لَيْسَ هَذَانِ فَرْعَيْهِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ بَلْ هَذَا مَوْتٌ جَدِيدٌ لِجِهَةٍ غَيْرِ الْأُولَى يُنْظَرُ نَظَرًا آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ هَذَانِ الْوَلَدَانِ عَنْ نَسْلٍ لَاسْتَحَقَّ نَسْلُهُمَا مَا كَانَ بِيَدِهِمَا وَلَمْ يَعُدْ إِلَى وَلَدِ الْأَخِ شَيْءٌ، فَعُرِفَ أَنَّ زَوَالَ الْحَاجِبِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ وَإِلَّا لَاسْتَحَقَّا مَعَ وُجُودِ النَّسْلِ وَكَانَا يَقُولَانِ قَدْ زَالَ الْحَاجِبُ لَنَا، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ هَذَا مُسْتَحِقٌّ مَاتَ عَنْ غَيْرِ نَسْلٍ، وَشَرْطُ الْوَاقِفِ حِينَئِذٍ الْعَوْدُ إِلَى الْإِخْوَةِ الْمُشَارِكِينَ وَلَا إِخْوَةَ مُشَارِكُونَ فَانْتَقَلْنَا إِلَى أَعْلَى طَبَقَةٍ وَهُوَ الْعَمُّ عَمَلًا بِتَقْدِيمِ الْعُلْيَا عَلَى السُّفْلَى، وَأَكَّدَ ذَلِكَ قَوْلُ الْوَاقِفِ: الْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي هَذَا الْوَقْفِ مُضَافًا لِمَا بِأَيْدِيهِمْ، وَالْعَمُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مُشَارِكٌ بِيَدِهِ حِصَّةٌ، وَوَلَدَا الْأَخِ لَا شَيْءَ بِأَيْدِيهِمَا فَلَا مُشَارَكَةَ لَهُمَا، وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُؤَكَّدُ عِلَاوَةٌ وَلَيْسَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهَا بَلِ الْمُعَوَّلُ عَلَى مَا صَدَّرْنَا بِهِ. مَسْأَلَةٌ: أَرْضٌ مِنْ أَرَاضِي مِصْرَ بِيَدِ جَمَاعَةٍ بَكْرِيَّةٍ يَسْتَغِلُّونَهَا، فَسَأَلَهُمُ السُّلْطَانُ عَنْ مُسْتَنَدِهِمْ فَأَظْهَرُوا مُحْضَرًا ثَابِتًا عَلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ أَنَّهَا وَقْفُ السُّلْطَانِ صلاح الدين بن أيوب عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ جَمَاعَةٍ مُسْتَنَدُهُمُ السَّمَاعُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ، وَحَكَمَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ فَهَلْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ؟ وَهَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بَعْضَ أَرَاضِي مِصْرَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؟ وَهَلْ لِلْمُخَالِفِ الَّذِي يَرَى أَنَّ مِصْرَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَأَنَّ أَرَاضِيَهَا لَا تُمَلَّكُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِبْطَالِ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بَعْضَ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ شِرَاءٍ عَلَى مِثْلِ الْجِهَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَذْهَبِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ وَصَرَّحَ بِصِحَّتِهِ القاضي حسين، وَأَفْتَى بِهِ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ، وأسعد الميهني والشاشي، وَابْنُ الصَّلَاحِ، والنووي، وَقَالَ ابن الرفعة فِي الْمَطْلَبِ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَصَرَّحَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَ تَغْيِيرِهِ، وَأَمَّا السبكي فَاخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْوَقْفُ، لَكِنْ مَا وَجَدْنَاهُ مَوْقُوفًا لِأَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُغَيِّرَهُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ عَدَمَ التَّغْيِيرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ حَكَى ابن الصلاح فِي مَجَامِيعِهِ صُورَةَ اسْتِفْتَاءٍ فِي أَرَاضِي وَقَفَهَا الْخَلِيفَةُ أَوِ السُّلْطَانُ نَائِبُ الْخَلِيفَةِ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ عَقِبِهِ هَلْ يَصِحُّ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْوُلَاةِ تَغْيِيرُهُ وَصَرْفُهُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى؟ فَأَجَابَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ أَنَّ الْوَقْفَ صَحِيحٌ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ اعْتِرَاضَهُ وَلَا تَغْيِيرَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَفْتَى فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ، وَهُوَ كَانَ عَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَنِ السُّلْطَانَيْنِ الْعَادِلَيْنِ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ، وَصَلَاحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ وَكَانَ مُفْتِيهِمَا وَقَاضِيهِمَا، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُمَا مَا وَقَفَا الَّذِي وَقَفَاهُ إِلَّا بِإِفْتَائِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ وَقْفَ هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى الْمَذْكُورِينَ صَحِيحٌ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهُ وَلَا نَقْلُهُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، وَثُبُوتُ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى الِاسْتِفَاضَةِ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ صَحِيحٌ، أَمَّا فِي الْوَقْفِ فَأَصْلًا، وَأَمَّا فِي الْمُسْتَحِقِّينَ فَضِمْنًا كَمَا قَالَهُ ابن الصلاح، وابن الفركاح، وَلَيْسَ لِلْمُخَالِفِ الَّذِي يَرَى أَنَّ مِصْرَ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ بِنَقْضٍ وَلَا إِبْطَالٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ فِي الْأَصْلِ حَاكِمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 شَافِعِيٌّ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَمَعْنَاهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا ثُبُوتُ الْوَقْفِ بِمَا ذُكِرَ، وَمَا ثَبَتَ وَقْفُهُ قَدِيمًا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وُقُوعُهُ مُسْتَجْمِعًا لِلشَّرَائِطِ، وَالثَّانِي: حُكْمُ الشَّافِعِيِّ الْمُتَأَخِّرُ، وَأَمْرٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَكَرَ أَنَّ أَمْرَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَفِعْلَهُ يَرْفَعَانِ الْخِلَافَ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، وَنَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ صَلَاحَ الدِّينِ مَا وَقَفَ الَّذِي وَقَفَهُ حَتَّى أَفْتَاهُ بِذَلِكَ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ الِاخْتِصَارِ لَسُقْتُ عِبَارَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ: إِذَا ثَبَتَ وَقْفِيَةُ عَيْنٍ وَلَمْ يُعْلَمْ مَآلُ الْوَقْفِ، وَقُلْنَا إِنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ هَلْ يَخْتَصُّ بِهِ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ أَمْ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ؟ . الْجَوَابُ: يَخْتَصُّ بِهِ الْفُقَرَاءُ مِنْ أَقَارِبِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ أَغْنِيَاءَ صُرِفَ إِلَيْهِمْ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ وَقَفَ مُصْحَفًا عَلَى مَنْ يَقْرَأُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ حِزْبًا وَيَدْعُو لَهُ وَجَعَلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ عَقَارٍ وَقَفَهُ لِذَلِكَ، فَأَقَامَ الْقَارِئُ مُدَّةً يَتَنَاوَلُ الْمَعْلُومَ وَلَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا ثُمَّ أَرَادَ التَّوْبَةَ فَمَا طَرِيقُهُ؟ . الْجَوَابُ: طَرِيقُهُ أَنْ يَحْسِبَ الْأَيَّامَ الَّتِي لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا وَيَقْرَأُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ حِزْبًا، وَيَدْعُو عَقِبَ كُلِّ حِزْبٍ لِلْوَاقِفِ حَتَّى يُوَفِّيَ ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ: وَاقِفٌ وَقَفَ مَدْرَسَةً وَقَرَّرَ بِهَا شَيْخًا وَصُوفِيَّةً فَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُقَرِّرَ فِي الْمَشْيَخَةِ اثْنَيْنِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلشَّيْخِ الِاسْتِنَابَةُ إِذَا كَانَ بِهِ ضَعْفٌ فِي بَدَنِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ وَظِيفَةٌ أُخْرَى تُعَارِضُ هَذِهِ الْوَظِيفَةَ؟ . الْجَوَابُ: أَوْقَافُ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ كُلُّهَا أَصْلُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ، فَيَجُوزُ لِمَنْ كَانَ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ عَالِمٍ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَطَالِبِ عِلْمٍ كَذَلِكَ، وَصُوفِيٍّ عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَنَسِيبٍ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ يَأْكُلَ مِمَّا وَقَفُوهُ غَيْرَ مُتَقَيِّدٍ بِمَا شَرَطُوهُ، وَيَجُوزُ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ - الِاسْتِنَابَةُ لِعُذْرٍ وَغَيْرِهِ وَتَنَاوُلُ الْمَعْلُومِ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ وَلَا اسْتَنَابَ، وَاشْتِرَاكُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي الْوَظِيفَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَخْذُ الْوَاحِدِ عِدَّةَ وَظَائِفَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ مِنْ هَذَا الْوَقْفِ، وَلَوْ قَرَّرَهُ النَّاظِرُ وَبَاشَرَ الْوَظِيفَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالُ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ بِجَعْلِ أَحَدٍ، وَمَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الَّذِي وَقَفَهُ فَهُوَ تَوَهُّمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فَاسِدٌ لَا يُفِيدُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا الْأَوْقَافُ الَّتِي مَلَكَهَا وَاقِفُوهَا فَلَهَا حُكْمٌ آخَرُ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ. مَسْأَلَةٌ: إِذَا عَجَزَ الْوَقْفُ عَنْ تَوْفِيَةِ جَمِيعِ الْمُسْتَحِقِّينَ فَهَلْ تُقَدَّمُ مِنْهُ الشَّعَائِرُ وَالشَّيْخُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: يُنْظَرُ فِي هَذَا الْوَقْفِ فَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَمَدَارِسِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَخَوَانِقِهَا رُوعِيَ فِي ذَلِكَ صِفَةُ الْأَحَقِّيَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ مَنْ هُوَ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ قُدِّمُ الْأَوَّلُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ كَالْعُلَمَاءِ، وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَآلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْهُ قُدِّمَ الْأَحْوَجُ فَالْأَحْوَجُ وَالْأَفْقَرُ فَالْأَفْقَرُ، فَإِنِ اسْتَوَوْا كُلُّهُمْ فِي الْحَاجَةِ قُدِّمَ الْآكَدُ فَالْآكَدُ فَيُقَدَّمُ الْمُدَرِّسُ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ الْإِمَامُ، ثُمَّ الْقَيِّمُ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ لَيْسَ مَأْخَذُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اتُّبِعْ فِيهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ تَقْدِيمَ أَحَدٍ لَمْ يُقَدَّمْ أَحَدٌ بَلْ يُقَسَّمُ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْوَقْفِ بِالسَّوِيَّةِ الشَّعَائِرُ وَغَيْرُهُمْ. مَسْأَلَةٌ: الْمَدَارِسُ الْمَبْنِيَّةُ الْآنَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَلَا يُعْلَمُ لِلْوَاقِفِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهَا مَسْجِدٌ لِفَقْدِ كِتَابِ الْوَقْفِ وَلَا يُقَامُ بِهَا جُمُعَةٌ هَلْ تُعْطَى حُكْمَ الْمَسْجِدِ أَوْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْمَدَارِسُ الْمَشْهُورَةُ الْآنَ حَالُهَا مَعْلُومٌ فَمِنْهَا مَا عُلِمَ نَصُّ الْوَاقِفِ أَنَّهَا مَسْجِدٌ كَالشَّيْخُونِيَّةِ فِي الْإِيوَانَيْنِ خَاصَّةً دُونَ الصَّحْنِ، وَمِنْهَا مَا عُلِمَ نَصُّهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَسْجِدٍ كَالْكَامِلِيَّةِ وَالْبِيبَرْسِيَّةِ، فَإِنَّ فَرْضَ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ ذَلِكَ وَلَوْ بِالِاسْتِفَاضَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهَا مَسْجِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ خِلَافُهُ. مَسْأَلَةٌ: قَالُوا: إِنَّ الْمَسْجِدَ الْمَوْقُوفَ عَلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَهُ أَوْ يُصَلِّيَ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ فَهَلِ الْمَدَارِسُ وَالرُّبَطُ كَذَلِكَ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمُ الْإِذْنُ فِي الِانْتِفَاعِ مُطْلَقًا بِالنَّوْمِ وَالْجُلُوسِ وَالْأَكْلِ وَاجْتِمَاعِ الْخُصُومِ وَالْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَإِقْرَاءِ الصِّبْيَانِ أَوْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا كَانَ عَلَى وَفْقِ شَرْطِ الْوَاقِفِ؟ . الْجَوَابُ: الْمَسْجِدُ الْمَوْقُوفُ عَلَى مُعَيَّنِينَ هَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ دُخُولُهُ وَالصَّلَاةُ فِيهِ وَالِاعْتِكَافُ بِإِذْنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ؟ نَقَلَ الأسنوي فِي الْأَلْغَازِ أَنَّ كَلَامَ القفال فِي فَتَاوِيهِ يُوهِمُ الْمَنْعَ ثُمَّ قَالَ الأسنوي: مِنْ عِنْدِهِ وَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ، وَأَقُولُ: الَّذِي يَتَرَجَّحُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى أَشْخَاصٍ مُعَيَّنَةٍ كَزَيْدٍ، وَعَمْرٍو، وَبَكْرٍ مَثَلًا أَوْ ذُرِّيَّتِهِ أَوْ ذُرِّيَّةِ فُلَانٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 جَازَ الدُّخُولُ بِإِذْنِهِمْ، وَإِنَّ كَانَ عَلَى أَجْنَاسٍ مُعَيَّنَةٍ كَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالصُّوفِيَّةِ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ الدُّخُولُ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُمُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِمَنْعِ دُخُولِ غَيْرِهِمْ لَمْ يَطْرُقْهُ خِلَافٌ الْبَتَّةَ، وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الدُّخُولِ بِالْإِذْنِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَدْرَسَةِ، وَالرِّبَاطِ كَانَ لَهُمُ الِانْتِفَاعُ عَلَى نَحْوِ مَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لِلْمُعَيَّنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ وَهُمْ مُقَيَّدُونَ بِمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ. مَسْأَلَةٌ: جَامِعٌ لَهُ نَاظِرٌ فَاتَّفَقَ مَوْتُ إِمَامِهِ، وَالنَّاظِرُ مُسَافِرٌ، فَقَرَّرَ السُّلْطَانُ إِمَامًا فَهَلْ لِلنَّاظِرِ إِذَا حَضَرَ عَزْلُهُ وَتَقْرِيرُ خِلَافِهِ؟ . الْجَوَابُ: إِذَا وَلَّى السُّلْطَانُ إِمَامًا بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَالْوَظِيفَةُ شَاغِرَةٌ، وَالنَّاظِرُ مُسَافِرٌ، فَهِيَ وِلَايَةٌ صَحِيحَةٌ يُلْزَمُ النَّاظِرُ إِبْقَاءَهَا وَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ وَتَقْرِيرُ خِلَافِهِ. [الْإِنْصَافُ فِي تَمْيِيزِ الْأَوْقَافِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: أَمِيرٌ وَقَفَ خَانِقَاهْ وَرَتَّبَ بِهَا شَيْخًا، وَصُوفِيَّةً، وَجَعَلَ لَهُمْ دَرَاهِمَ، وَزَيْتًا، وَصَابُونًا، وَخُبْزًا وَلَحْمًا، فَضَاقَ الْوَقْفُ فَهَلْ يُقَدَّمُ الشَّيْخُ عَلَى الصُّوفِيَّةِ أَوْ يُصْرَفُ بَيْنَهُمْ بِالْمُحَاصَّةِ؟ وَهَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ وَيُتْرَكُ الْبَاقِي أَوْ يَأْخُذُونَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ بِالْمُحَاصَّةِ؟ وَهَلْ تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْوَظَائِفِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: أَقُولُ أَوَّلًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْأَوْقَافُ قِسْمَانِ، قِسْمٌ لَيْسَ مَأْخَذُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا مَرْجِعُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْوَقْفُ مَبْنَاهُ عَلَى التَّشْدِيدِ وَالتَّحْرِيصِ لَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ ذَرَّةٍ مِنْهُ إِلَّا مَعَ اسْتِيفَاءِ مَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ؛ لِأَنَّهُ مَالُ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَقِسْمٌ مَأْخَذُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، بِأَنْ يَكُونَ وَاقِفُهُ خَلِيفَةً أَوْ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ السَّابِقَةِ كَصَلَاحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ وَأَقَارِبِهِ، أَوْ مَرْجِعُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ كَأَوْقَافِ أُمَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْقَلَاوُونِيَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وَاقِفِيهِ أَرِقَّاءُ بَيْتِ الْمَالِ وَفِي ثُبُوتِ عِتْقِهِمْ نَظَرٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ تاج الدين بن السبكي فِي وَاقِعَةٍ وَقَعَتْ بَعْدَ السَّبْعِمِائَةِ وَهِيَ: عَبْدٌ انْتَهَى الْمِلْكُ فِيهِ لِبَيْتِ الْمَالِ فَأَرَادَ شِرَاءَ نَفْسِهِ مِنْ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ فَأَفْتَى جَمَاعَةٌ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَقْدُ عَتَاقَةٍ، وَعَبْدُ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 عِتْقُهُ، وَأَفْتَى آخَرُونَ بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ بِعِوَضٍ لَا مَجَّانًا فَلَمْ يَضِعْ مِنْهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، وَاخْتَارَ ابن السبكي هَذَا الثَّانِيَ أَوْرَدَهُ فِي التَّرْشِيحِ، فَإِذَا اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْعِتْقِ بِعِوَضٍ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنُصَّ مُتَقَدِّمُو الْأَصْحَابِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعُمَّ بِهَا الْبَلْوَى فِي زَمَنِهِمْ، وَإِنَّمَا كَثُرَ ذَلِكَ بَعْدَ السِّتِّمِائَةِ، وَقَدْ قَامَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام - لَمَّا حَدَثَ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ - الْقَوْمَةَ الْكُبْرَى فِي بَيْعِ الْأُمَرَاءِ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ عَبِيدُ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَصِحُّ عِنْدِي عِتْقُهُمْ، وَرَوَى الْحَافِظُ أبو القاسم ابن عساكر بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ دَخَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَوْلَادِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ فَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي حَقِّي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ لَهُ عمر: مَا أَحْوَجَكَ إِلَى أَنْ أَبِيعَكَ وَأَصْرِفَ ثَمَنَكَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: لِأَنَّ أَبَاكَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ أَخَذَ أُمَّكَ مِنْ رَقِيقِ بَيْتِ الْمَالِ وَاسْتَوْلَدَهَا إِيَّاكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ زَانٍ، وَأَنْتَ عَبْدُ بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي طَبَقَاتِ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَرْجَمَةِ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَمَالِيكِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ فَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ وَبَرَعَ وَصَارَ إِمَامًا قَائِمًا بِالتَّدْرِيسِ وَالْإِفْتَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الناصر بِعِتْقِهِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَائِمٌ بِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ فَرَدَّ إِلَيْهِ الْعَتَاقَةَ وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا يَصِحُّ عِتْقِي. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي الْأَسِيرِ أَنَّ الْإِمَامَ يَتَخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالِاسْتِرْقَاقِ، قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْأَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ بِالْقَتْلِ، فَبِالْمَنِّ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُصْرَفْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ هَذَا الَّذِي اشْتُرِيَ بِثَمَنٍ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَقَدْ نَصَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ فِي الْأَسِيرِ بِالتَّشَهِّي بَلْ يَنْظُرُ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ فَيَفْعَلُهُ، وَثُبُوتُ الْمَصْلَحَةِ فِي عِتْقِ هَذَا الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنْ مَمَالِيكِ بَيْتِ الْمَالِ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي وَاحِدٍ أَوْ عَشَرَةٍ أَوْ مِائَةٍ لَا تُوجَدُ فِي أُلُوفٍ مُؤَلَّفَةٍ، وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ فِي عِتْقِهِمْ، وَجَمِيعُ مَا يُرَادُ مِنْهُمْ يُمْكِنُهُمْ فِعْلُهُ مَعَ الرِّقِّ، إِذَا عُرِفَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ مَرْجِعَ مَا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، فَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ الْأَوْقَافِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالتَّرْخِيصِ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَضْعَافَ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ أُمُورٌ: مِنْهَا أَنَّ الشَّيْخَ ولي الدين العراقي لَمَّا حَكَى قَوْلَ السبكي فِي إِعْطَاءِ وَظِيفَةِ الْعَالِمِ وَالْفَقِيهِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَوْقَافِ الْخَاصَّةِ وَالَّتِي مَأْخَذُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَظُنُّ الْأَذْرَعِيَّ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ كَلَامِ البلقيني التَّصْرِيحُ بِأَنَّ طَلَبَةَ الْعِلْمِ يَأْكُلُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَافِ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ عُقِدَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَيَّامِ الظَّاهِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بُرْقُوقٍ، وَمِنْهَا أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فَتَاوَى النووي، وَابْنِ الصَّلَاحِ وَجَدْتَهُمَا يُشَدِّدَانِ فِي الْأَوْقَافِ غَايَةَ التَّشْدِيدِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فَتَاوَى السبكي، والبلقيني، وَسَائِرِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجَدْتَهُمْ يُرَخِّصُونَ وَيُسَهِّلُونَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِمُخَالَفَةٍ للنووي، بَلْ كُلٌّ تَكَلَّمَ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ فِي زَمَنِهِ، فَإِنَّ غَالِبَ الْأَوْقَافِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَنِ النووي، وَابْنِ الصَّلَاحِ كَانَتْ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ أَوْقَافُ الْأَتْرَاكِ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّابِعِ وَكَثُرَتْ فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ وَهُوَ عَصْرُ السبكي وَمَنْ بَعْدَهُ، وَقُطِعَتِ الْأَرْزَاقُ الَّتِي كَانَتْ تَجْرِي عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى الْخَلِيفَةِ المستعصم كُلَّ عَامٍ فَرَأَى الْعُلَمَاءُ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْقَافَ أَرُصِدَتْ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عِوَضًا عَمَّا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنْهُ كُلَّ عَامٍ، فَرَخَّصُوا فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ يُكَلَّفُونَهُ بَلْ عَلَى الْقِيَامِ بِالْعِلْمِ، خَاصَّةً فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ جَازَ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ الْأَخْذُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الْقِيَامِ بِالْعِلْمِ اشْتِغَالًا وَإِشْغَالًا حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ مِنْهَا، وَإِنْ بَاشَرَ الْعَمَلَ. وَقَدْ قَالَ الدميري فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: سَأَلْتُ شَيْخَنَا - يَعْنِي الأسنوي - مَرَّتَيْنِ عَنْ غَيْبَةِ الطَّالِبِ عَنِ الدَّرْسِ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْمَعْلُومَ أَوْ يُعْطَى بِقِسْطِ مَا حَضَرَ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الطَّالِبُ فِي حَالِ انْقِطَاعِهِ يَشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ اسْتَحَقَّ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ حَضَرَ وَلَمْ يَكُنْ بِصَدَدِ الِاشْتِغَالِ لَمْ يَسْتَحِقَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْعُهُ بِالْعِلْمِ لَا مُجَرَّدُ حُضُورِهِ، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِرْصَادِ، وَقَالَ الزركشي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْجَامَكِيَّةَ عَلَى الْإِمَامَةِ وَالطَّلَبِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ حَتَّى لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا إِذَا أَخَلَّ بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ أَوِ الْأَيَّامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِرْصَادِ وَالْإِرْزَاقِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالْمُسَامَحَةِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةُ، وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ وَيَجُوزُ إِرْزَاقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزركشي صَحِيحٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَوْقَافِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي كَمَا كَانَ الْأَكْثَرُ فِي زَمَانِهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَ الْغَيْبَةِ قُلْنَا بِهِ مَعَ الِاسْتِنَابَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلَا نَقُولُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْأَوْقَافِ الَّتِي مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى هَذَا تُحْمَلُ فَتْوَى النَّوَوِيِّ بِالْمَنْعِ، وَنَقُولُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِجَوَازِ النُّزُولِ وَإِعْطَاءِ الْوَظِيفَةِ لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَلَا نَقُولُ بِذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَسْأَلَةُ تَقْدِيمِ الشَّيْخِ، فَمَا كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يُقَدَّمُ فِيهِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الْوَاقِفِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِاتِّصَافِهِ بِالْعِلْمِ، وَبَقِيَّةُ الْمُنْزَلِينَ لَيْسُوا كَذَلِكَ قُدِّمَ الشَّيْخُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 إِذَا ضَاقَ الْوَقْفُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ بِصِفَةِ الْعِلْمِ وَالشَّيْخُ أَحْوَجُ مِنْهُمْ قُدِّمَ كَمَا يُقَدَّمُ إِذَا ضَاقَ بَيْتُ الْمَالِ الْأَحْوَجُ فَالْأَحْوَجُ، وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْعِلْمِ وَالْحَاجَةِ صُرِفَ بَيْنَهُمْ بِالْمُحَاصَّةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَسْأَلَةُ الِاقْتِصَارِ عَلَى صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُقَرَّرَةِ، فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يُقْتَصَرُ بَلْ يُصْرَفُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ بِالْمُحَاصَّةِ؛ مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ، وَفِي الثَّانِي يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عِنْدَ الضِّيقِ، وَالْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّقْدِ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ وَبِهِ تَحْصُلُ سَائِرُ الْأَصْنَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [كَشْفُ الضَّبَابَةِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِنَابَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَقَعَ السُّؤَالُ كَثِيرًا عَنِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْوَظَائِفِ، فَقَدْ عَمَّتِ الْبَلْوَى بِهَا وَتَمَسَّكَ كَثِيرٌ مِنَ النُّظَّارِ فِي عَدَمِ جَوَازِهَا بِمَا نُقِلَ عَنِ النووي، وابن عبد السلام أَنَّهُمَا أَفْتَيَا بِعَدَمِ جَوَازِهَا، وَتَمَسَّكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي جَوَازِهَا بِمَا نَقَلَهُ الدميري فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ عَنِ السبكي وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ أَفْتَوْا بِجَوَازِهَا، وَقَدْ أَفْتَيْتُ بِذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسُئِلْتُ الْآنَ عَنْ تَحْرِيرِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ فَوَضَعْتُ لَهُ هَذِهِ الْكُرَّاسَةَ. وَنَبْدَأُ بِنَقْلِ كَلَامِ السبكي وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، قَالَ السبكي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي بَابِ الْجَعَالَةِ مَا نَصُّهُ: فَرْعٌ - يَقَعُ كَثِيرًا فِي هَذَا الزَّمَانِ إِمَامُ مَسْجِدٍ يَسْتَنِيبُ فِيهِ - أَفْتَى ابن عبد السلام، وَالْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَعْلُومَ الْإِمَامَةِ لَا الْمُسْتَنِيبُ لِعَدَمِ مُبَاشَرَتِهِ وَلَا النَّائِبُ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ، قَالَ: وَاسْتَنْبَطْتُ أَنَا مِنْ قَوْلِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمَجْعُولَ إِذَا اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ وَحَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ الْعَمَلُ عَلَى قَصْدِ الْإِعَانَةِ مُنْفَرِدًا أَوْ مُشَارِكًا؛ إِذِ الْمَجْعُولُ لَهُ يَسْتَحِقُّ كَمَالَ الْجُعْلِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَأَنَّ الْمُسْتَنِيبَ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَعْلُومِ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ مُعَيَّنٌ لَهُ، لَكِنِّي أَشْتَرِطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ مِثْلَ الْمُسْتَنِيبِ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْجَعَالَةِ رَدُّ الْعَبْدِ مَثَلًا وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْإِمَامَةِ الْعِلْمُ وَالدِّينُ وَصِفَاتٌ أُخَرُ، فَإِذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي بِصِفَةٍ وَنَائِبُهُ مِثْلُهُ فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ الَّذِي قَصَدَهُ مَنْ وَلَّاهُ، فَكَانَ كَالصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي الْجَعَالَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِصِفَتِهِ لَمْ يَحْصُلِ الْغَرَضُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِنْ كَانَتِ التَّوْلِيَةُ شَرْطًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا اسْتَحَقَّ الْمُبَاشِرُ لِاتِّصَافِهِ بِالْإِمَامَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَالِاسْتِنَابَةُ فِي الْإِمَامَةِ يُشْبِهُ التَّوْكِيلَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الْمُبَاحَاتِ، وَفِي مَعْنَى الْإِمَامَةِ كُلُّ وَظِيفَةٍ تَقْبَلُ الِاسْتِنَابَةَ كَالتَّدْرِيسِ وَنَحْوِهِ وَهَذَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، أَمَّا فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي الِاسْتِنَابَةِ - هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ السبكي، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ كمال الدين الدميري فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَأَقَرَّهُ، ثُمَّ قَالَ: كَانَ الشَّيْخُ فخر الدين بن عساكر مُدَرِّسًا بِالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَالتَّقَوِيَّةِ، وَالْجَارُوخِيَّةِ - وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِدِمَشْقَ - وَالْمَدْرَسَةِ الصَّلَاحِيَّةِ بِالْقُدْسِ يُقِيمُ بِهَذِهِ أَشْهُرًا وَبِهَذِهِ أَشْهُرًا فِي السَّنَةِ هَذَا مَعَ عِلْمِهِ وَوَرَعِهِ قَالَ: وَقَدْ سُئِلَ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ رَجُلٍ وَلِيَ تَدْرِيسَ مَدْرَسَتَيْنِ فِي بَلْدَتَيْنِ مُتَبَاعِدَتَيْنِ كَحَلَبَ وَدِمَشْقَ، فَأَفْتَى جَمَاعَةٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَاسْتُنِيبَ مِنْهُمْ قَاضِي الْقُضَاةِ بهاء الدين أبو البقاء السبكي، وَالشَّيْخُ شهاب الدين أحمد بن عبد الله البعلبكي، وشمس الدين الغزي، وَالشَّيْخُ عماد الدين الحسباني كُلُّهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ آخَرُونَ انْتَهَى. وَأَقُولُ: قَدْ أَبَاحَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَحَمَلَةُ الشَّرْعِ مِنْ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ الِاسْتِنَابَةَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْلُحُ عَلَى انْفِرَادِهِ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا لِجَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْوَظَائِفِ، وَهِيَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَ الْعُذْرِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ فُرُوعٌ: الْأَوَّلُ تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، قَالَ النووي: وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَصِحُّ وُضُوؤُهُ إِذَا وَضَّأَهُ غَيْرُهُ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ، وَكَذَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي صَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَفِي إِحْضَارِهِ لِلطَّهَارَةِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِيهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُرُوعٍ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: يَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ التَّيَمُّمَ أَنْ يَسْتَنِيبَ رَجُلًا يَطْلُبُ عَنْهُ الْمَاءَ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَمْ لَا، قَالَ النووي: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ إِلَّا لِمَعْذُورٍ، قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ ضَعِيفٌ، الْخَامِسُ: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُيَمِّمُهُ وَيَمْسَحُ أَعْضَاءَهُ بِالتُّرَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَفِيهِ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِلَا عُذْرٍ، قَالَ النووي: وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. السَّادِسُ: كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَذَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَظَائِفِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ كَالْإِمَامَةِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أُطِيقُ الْأَذَانَ مَعَ الْخِلَافَةِ لَأَذَّنْتُ فَتَفْوِيضُهُ إِلَى غَيْرِهِ اسْتِنَابَةٌ. السَّابِعُ: الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا مِنْ وَظَائِفِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَلِهَذَا اسْتَمَرَّ الْخُلَفَاءُ دَهْرًا هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْجَمَاعَةَ، فَتَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ اسْتِنَابَةٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ وَظَائِفِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا طَعَنَهُ أبو لؤلؤة وَعَهِدَ إِلَى أَهْلِ الشُّورَى أَوْصَى بِأَنْ يُصَلِّيَ صهيب بِالنَّاسِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى خَلِيفَةٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ عمر وَحَضَرُوا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَرَادَ عثمان أَنْ يَتَقَدَّمَ وَذَلِكَ قَبْلَ الْبَيْعَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ الْآنَ إِنَّمَا هُوَ لصهيب الَّذِي أَوْصَى لَهُ. الثَّامِنُ: مِنْ وَظَائِفِ إِمَامِ الصَّلَوَاتِ أَنْ يَأْمُرَ الْمَأْمُومِينَ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ، فَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا اسْتَنَابَ رَجُلًا يَأْمُرُهُمْ بِتَسْوِيَتِهَا. التَّاسِعُ: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَنْظُرُ لَهُ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْ زَالَتِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَ الشَّفَقُ؛ لِأَجْلِ الصَّلَوَاتِ وَالصَّوْمِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، الْعَاشِرُ: إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ وَالْخُطْبَةِ مِنْ وَظَائِفِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَيْضًا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَتَفْوِيضُهُ لِلْغَيْرِ اسْتِنَابَةٌ. الْحَادِيَ عَشَرَ: اسْتِخْلَافُ الْإِمَامِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ لِحَدَثٍ أَوْ رُعَافٍ رَجُلًا يُتِمُّ الصَّلَاةَ بِالْمُقْتَدِينَ اسْتِنَابَةٌ. الثَّانِي عَشَرَ: إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ الْعِيدَ فِي الصَّحْرَاءِ بِالنَّاسِ اسْتَنَابَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالضَّعَفَةِ فِي الْمَسْجِدِ. الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ: تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي تَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ وَفِي نِيَّتِهَا. الْخَامِسَ عَشَرَ، وَالسَّادِسَ عَشَرَ: تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي صَرْفِ الْكَفَّارَاتِ وَالصَّدَقَاتِ الْمَنْدُوبَةِ. السَّابِعَ عَشَرَ، وَالثَّامِنَ عَشَرَ: تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي ذَبْحِ الْهَدْيِ وَفِي ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: تَجُوزُ اسْتِنَابَةُ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ فِي قَبْضِهَا لَهُمْ، ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ زَوَائِدِهِ. الْعِشْرُونَ: الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ وَظِيفَةُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَإِقَامَتُهُ الْقُضَاةَ لِفَصْلِ الْأَحْكَامِ اسْتِنَابَةٌ، وَلَمْ يَسْتَنِبِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاضِيًا وَلَا أبو بكر، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَنَابَ عمر - أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر لَمْ يَتَّخِذَا قَاضِيًا، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَقْضَى عمر» " قَالَ: رُدَّ عَنِّي النَّاسَ فِي الدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَيْنِ، وَأَخْرَجَ أبو يعلى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «مَا اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاضِيًا وَلَا أبو بكر وَلَا عمر، حَتَّى كَانَ فِي آخِرِ زَمَانِهِ قَالَ ليزيد ابن أخت نمر: اكْفِنِي بَعْضَ الْأُمُورِ - يَعْنِي صِغَارَهَا -» . الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ إِلَى الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ: وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ، وَوِلَايَةُ الْمَظَالِمِ، وَوِلَايَةُ الْجَرَائِمِ، وَإِمَارَةُ الْجِهَادِ، وَإِمَارَةُ سَائِرِ الْحُرُوبِ، وَإِمَارَةُ تَسْيِيرِ الْحُجَّاجِ، وَإِمَارَةُ إِقَامَةِ الْحَجِّ، وَوِلَايَةُ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَوِلَايَةُ الْجِزْيَةِ، وَوِلَايَةُ الْخَرَاجِ، وَوِلَايَةُ الْإِقْطَاعِ، وَوِلَايَةُ الدِّيوَانِ، وَوِلَايَةُ النَّظَرِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، كُلُّهَا وِلَايَاتٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ وَظَائِفِ الْإِمَامِ وَتَفْوِيضِهِ إِيَّاهَا لِغَيْرِهِ اسْتِنَابَةٌ وَهُمْ نُوَّابٌ لَهُ، وَقَدْ عَقَدَ لَهَا الْمَاوَرْدِيُّ أَبْوَابًا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، فَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ تُنْكَرُ الِاسْتِنَابَةُ فِي عَمَلِ وَظِيفَةٍ، وَنُوَّابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ طَبَّقَتِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ بَلَدٍ فِي أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كُلُّهَا وَظَائِفُهُ وَمُطَوَّقَةٌ بِهِ شَرْعًا، وَمُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّتِهِ وَمُطَوَّقَةٌ بِعُنُقِهِ يُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَلًا عَمَلًا. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: لِوَلِيِّ النِّكَاحِ أَنْ يَسْتَنِيبَ رَجُلًا فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ، الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَأَقَرَّهُ النووي: لَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَصِحَّ، وَأَمَّا الْجَعَالَةُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ عَلَى مُجَرَّدِ الْوُقُوفِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَمُشَاهَدَتِهِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الدُّعَاءِ عِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ وَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِنَفْسِ الدُّعَاءِ انْتَهَى، فَكَذَلِكَ تَدْخُلُ النِّيَابَةُ فِي وَظِيفَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ لِلْوَاقِفِ، السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: ذَهَبَ السبكي إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الشَّخْصُ إِنْسَانًا لِلدُّعَاءِ فَيَقُولُ: اسْتَأْجَرْتُكَ بِكَذَا لِتَدْعُوَ لِي بِكَذَا فَيَذْكُرُ مَا شَاءَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَهَذِهِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ فَرْعًا كُلُّهَا فِي الْعِبَادَاتِ، وَمِمَّا جَازَتْ فِيهِ الِاسْتِنَابَةُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ طَرَفَا الْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالسَّلَمُ، وَالرَّهْنُ، وَالْهِبَةُ، وَالصُّلْحُ، وَالْإِبْرَاءُ، وَالْحَوَالَةُ، وَالْإِقَالَةُ، وَالضَّمَانُ، وَالْكَفَالَةُ، وَالشَّرِكَةُ، وَالْقِرَاضُ، وَالْمُسَاقَاةُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْجَعَالَةُ، وَالْإِيدَاعُ، وَالْإِعَارَةُ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، وَالْوَقْفُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْخُلْعُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالْإِعْتَاقُ، وَالْكِتَابَةُ، وَقَبْضُ الدُّيُونِ، وَإِقْبَاضُهَا، وَالْأَمْوَالُ، وَالْجِزْيَةُ، وَتَعْيِينُ الْمُخْتَارَةِ لِلنِّكَاحِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَتَمَلُّكُ الْمُبَاحَاتِ كَالْإِحْيَاءِ، وَالِاصْطِيَادِ، وَالِاحْتِطَابِ، وَالِاسْتِقَاءِ، وَالدَّعْوَى، وَالْجَوَابُ، وَاسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ، وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَانَ لِلْمُوَكَّلِ عُذْرٌ أَمْ لَا، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الِاسْتِنَابَةَ فِي الْإِقْرَارِ، وَالِالْتِقَاطِ، وَالظِّهَارِ، وَالتَّدْبِيرِ، فَهَذِهِ نَحْوُ مِائَةِ مَوْضِعٍ أَبَاحَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ الِاسْتِنَابَةَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَغَالِبُهَا مِمَّا انْعَقَدَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ، أَفَلَا يَصْلُحُ أَنْ تُلْحَقَ الْوَظَائِفُ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْإِحْسَانِ وَالْمُسَامَحَةِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا؟ وَمِنْ أَلْطَفِ الْفُرُوعِ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الِاسْتِنَابَةُ مَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأَسَالِيبِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيَسْرِقَ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَيَكُونُ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَمِنْ أَلْطِفِهَا أَيْضًا مَا فِي فَتَاوَى ابن الصلاح أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيَقْعُدَ مَكَانَهُ فِي الْحَبْسِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْحَبْسِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ الزَّجْرُ وَالتَّعَلُّقُ بِإِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ فَفِي سَدِّ وَظِيفَةٍ أَوْلَى. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْعُذْرِ فَفِيهِ فُرُوعٌ، مِنْهَا جَوَازُ الِاسْتِنَابَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فِي الْحَجِّ لِلْمَغْصُوبِ، وَجَوَازُ الِاسْتِنَابَةِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ لِمَنْ يَحُجُّ بِنَفْسِهِ وَحَصَلَ لَهُ عُذْرٌ أَيَّامَ الرَّمْيِ، وَجَوَازُ الِاسْتِنَابَةِ فِي الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا صَحَّحَهُ النووي وَوَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَجَوَازُ الِاسْتِنَابَةِ فِي الِاعْتِكَافِ عَنْهُ فِي قَوْلٍ حَكَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَجَوَازُ الِاسْتِنَابَةِ فِي الصَّلَاةِ عَنْهُ فِي وَجْهٍ حَكَاهُ. فَصْلٌ: ذَكَرَ الْحَافِظُ عماد الدين بن كثير فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ محي الدين النووي أَنَّهُ بَاشَرَ تَدْرِيسَ الْإِقْبَالِيَّةِ نِيَابَةً عَنِ ابن خلكان، وَكَذَلِكَ الْفَلَكِيَّةُ وَالرُّكْنِيَّةُ، وَهَذَا مِنَ النووي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ؛ لِأَنَّهُ أَوْرَعُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَجُوزُ. فَصْلٌ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُفْتُونَ النَّاسَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِفْتَاءُ بِالْأَصَالَةِ إِنَّمَا هُوَ مَنْصِبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ الْمَبْعُوثُ لِتَبْلِيغِ النَّاسِ وَتَعْلِيمِهِمْ، وَإِفْتَاءُ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ وَفَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ وَالْوِرَاثَةِ عَنْهُ، فَإِفْتَاؤُهُمْ فِي حَيَاتِهِ بِإِذْنِهِ اسْتِنَابَةٌ مِنْهُ لَهُمْ؛ لِيَقُومُوا عَنْهُ بِمَا هُوَ مَنْصِبٌ لَهُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ، وَقَدْ عَقَدَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ بَابًا فِي ذِكْرِ مَنْ كَانَ يُفْتِي بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْرَجَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ مَنْ كَانَ يُفْتِي النَّاسَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أبو بكر وعمر، وَأَخْرَجَ عَنِ القاسم بن محمد قَالَ: كَانَ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي يُفْتُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَخْرَجَ عَنْ أبي عبد الله بن نيار الأسلمي قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِمَّنْ يُفْتِي فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُفْتِي النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَخْرَجَ عَنْ سهل بن أبي حثمة قَالَ: كَانَ الَّذِينَ يُفْتُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: عمر، وعثمان، وعلي، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَدْ تَحَصَّلَ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ ثَمَانِيَةٌ كَانُوا يُفْتُونَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ، وَقَدْ جَمَعْتُهُمْ فِي بَيْتَيْنِ فَقُلْتُ: وَقَدْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ جَمَاعَةٌ ... يَقُومُونَ بِالْإِفْتَاءِ قَوْمَةَ قَانِتِ فَأَرْبَعَةٌ أَهْلُ الْخِلَافَةِ مَعَهُمْ ... معاذ أبي وابن عوف ابن ثابت فَصْلٌ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي زَوَائِدِ مُسْنَدِ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " «لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ بَرَاءَةَ دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ لِي: أَدْرِكْ أبا بكر فَحَيْثُ مَا لَقِيتَهُ فَخُذِ الْكِتَابَ مِنْهُ فَاقْرَأْهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَلَحِقْتُهُ فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ مِنْهُ وَرَجَعَ أبو بكر فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ قَالَ: " لَا وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ جَاءَنِي فَقَالَ لِي: لَنْ يُؤَدِّيَ عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ» " وَأَخْرَجَ أحمد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَرَاءَةَ مَعَ أبي بكر ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي فَدَعَا عليا فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ» " فَهَذِهِ اسْتِنَابَةٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَبْلِيغِ مَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، ثُمَّ لَمَّا أُمِرَ أَنْ يَسْتَنِيبَ رَجُلًا مِنْ قَبِيلَةٍ مَخْصُوصَةٍ رَجَعَ إِلَيْهِ، فَيُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِ أَوَّلًا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ مُطْلَقًا إِذَا سَكَتَ الْوَاقِفُ عَنْ شَرْطٍ، وَيُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِ ثَانِيًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا خَصَّصَ الْوَاقِفُ تَخْصِيصًا يُتَّبَعُ شَرْطُهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ عليا فَانْطَلَقَا فَحَجَّا فَقَامَ علي أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَنَادَى: ذِمَّةُ اللَّهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، فَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي فَإِذَا أَعْيَا قَامَ أبو بكر فَنَادَى بِهَا، فَهَذِهِ نِيَابَةٌ مِنْ أبي بكر عَنْ علي فَإِنَّهُ قُصِدَ بِالْبَعْثِ علي» ". وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " بَعَثَنِي أبو بكر فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ "، فَهَذِهِ نِيَابَةٌ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَالْمَقْصُودُ بِالتَّبْلِيغِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنْ تَكُونَ مِنْ علي. فَصْلٌ: هَذَا كُلُّهُ فِي وَقْفٍ سَكَتَ وَاقِفُهُ عَنْ ذِكْرِ الِاسْتِنَابَةِ إِبَاحَةً وَمَنْعًا، وَكَانَ الْوَاقِفُ حُرًّا مَالِكًا لِمَا وَقَفَهُ إِمَّا وَقْفٌ صَرَّحَ وَاقِفُهُ بِتَجْوِيزِ الِاسْتِنَابَةِ أَوْ بِمَنْعِهَا فَإِنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُهُ لَا مَحَالَةَ، وَإِمَّا وَقْفٌ لَمْ يَمْلِكْهُ وَاقِفُهُ وَذَلِكَ كَالَّذِي وَقَفَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَوِ السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَرْصَادِ لَا حُكْمُ الْأَوْقَافِ الَّتِي مَلَكَهَا وَاقِفُوهَا، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ أُرْصِدَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا قَرَّرَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ الشَّرْطِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَلَوْ بَاشَرَ تِلْكَ الْوَظِيفَةَ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ الزركشي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْجَامَكِيَّةَ عَنِ الْإِمَامَةِ وَالطَّلَبِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ حَتَّى لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا إِذَا أَخَلَّ بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ أَوِ الْأَيَّامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْأَرْصَادِ وَالْأَرْزَاقِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالْمُسَامَحَةِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ وَيَجُوزُ إِرْزَاقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى. وَقَالَ الدميري فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي بَابِ الْجَعَالَةِ: سَأَلْتُ شَيْخَنَا - يَعْنِي الأسنوي - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 مَرَّتَيْنِ عَنْ غَيْبَةِ الطَّالِبِ عَنِ الدَّرْسِ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْمَعْلُومَ أَوْ يُعْطَى بِقِسْطِ مَا حَضَرَ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الطَّالِبُ فِي حَالِ انْقِطَاعِهِ يَشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ اسْتَحَقَّ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ حَضَرَ وَلَمْ يَكُنْ بِصَدَدِ الِاشْتِغَالِ لَمْ يَسْتَحِقَّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْعُهُ بِالْعِلْمِ لَا مُجَرَّدُ حُضُورِهِ، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَرْصَادِ انْتَهَى. وَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ مَا يُشْتَرَى مِنْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ بِالْحِيلَةِ مِنْ غَيْرِ بَذْلِ ثَمَنٍ مُعْتَبَرٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا وَقَفَهُ السُّلْطَانُ مِنْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ، وَقَدْ أَرَادَ برقوق فِي سَنَةِ نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ إِبْطَالَ جَمِيعِ الْأَوْقَافِ وَرَدَّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، وَعَقَدَ لِذَلِكَ مَجْلِسًا حَضَرَهُ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ فَقَالَ الشَّيْخُ سراج الدين البلقيني: أَمَّا مَا وُقِفَ عَلَى خديجة وعويشة فَنَعَمْ، وَأَمَّا مَا وُقِفَ عَلَى الْمَدَارِسِ وَالْعُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَافِ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ مَا اشْتُرِيَ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ وَبُذِلَ فِيهِ الثَّمَنُ الْمُعْتَبَرُ وَلَكِنْ كَانَ مُشْتَرِيهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ أَصْلُهُمْ عَبِيدُ بَيْتِ الْمَالِ وَأَعْتَقَهُمُ السُّلْطَانُ مَجَّانًا فَإِنَّ عِتْقَهُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَكُلُّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِلْكٌ لِبَيْتِ الْمَالِ فَتَجْرِي أَوْقَافُهُمْ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ. [الْمَبَاحِثُ الزَّكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الدِّوْرِكِيَّةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ، فَقَدْ وَرَدَ عَلَيَّ سُؤَالٌ مِنْ بِلَادِ دِوْرِكِي صُورَتُهُ: قَالَ الْوَاقِفُ فِي كِتَابِ وَقْفِهِ: وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمُ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ أَحَدٌ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ الْإِنَاثِ، مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَوْلَادِ الذُّكُورِ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ الْإِنَاثِ؟ وَفِي مَعْنَى الضَّمِيرَيْنِ الْمَجْرُورَيْنِ فِيهِ أَنَّهُمَا لِمَاذَا يَرْجِعَانِ وَبِمَاذَا يَصِحُّ مَعْنَى كِتَابِ الْوَقْفِ، وَمَا تَقُولُ فِيمَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ إِنَاثِ الذُّكُورِ وَانْتِقَالِ الْوَقْفِ مِنْ نَسْلِ الْوَاقِفِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُمْ بِانْقِطَاعِ الْأَوْلَادِ الصُّلْبِيَّةِ بَعْدَ مَا تَصَرَّفُوا فِيهِ بِإِذْنِ الْحَاكِمَيْنِ الْحَنَفِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، مُدَّةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً زَعْمًا مِنْهُ أَنَّ مَعْنَى كِتَابِ الْوَقْفِ هَكَذَا الْمَفْهُومَ مِنِ الْعِبَارَةِ الْوَاقِعَةِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَهِيَ - أَيِ الطَّاحُونَةُ - وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ أَيْ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أَوْلَادِ الْوَاقِفِ الذُّكُورِ لِمَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَوْلَادِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْوَاقِفِ وَعَلَى أَوْلَادِهِمُ الذُّكُورِ، الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى أَوْلَادِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، نُفِيَ عَنْ إِنَاثِ الذُّكُورِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ الْإِنَاثِ، فَمَا بَعْدُ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ الْمَعْمُورِ بِدُورْكِي، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاقِفَ اخْتَصَّ أَوَّلًا إِلَى ذُكُورِ الْوَاقِفِ، وَخَرَجَ مِنَ الْبَيْنِ إِنَاثُ الذُّكُورِ خَائِبَاتٍ بِحُكْمِ عِبَارَةِ: دُونَ الْإِنَاثِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَقْفَ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنَ الْإِنَاثِ الصُّلْبِيَّةِ لِلْوَاقِفِ، وَلَوْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْإِنَاثِ الصُّلْبِيَّةِ يَسْتَحِقُّ إِلَى حِينِ الِانْقِرَاضِ وَإِلَّا لَا يَسْتَحِقُّ لَهُ أَحَدٌ غَيْرُهَا، فَمَنْ عَانَدَهُ يَأْتِي بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا بِحُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، هَذِهِ صُورَةُ السُّؤَالِ. فَكَتَبْتُ عَلَيْهِ مَا نَصُّهُ: قَوْلُ الْوَاقِفِ: عَلَى أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمُ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، يَنْفِي أَوْلَادَ بَنَاتِ الذُّكُورِ لَا بَنَاتِ الذُّكُورِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاقِفَ قَصَرَ الْوَقْفَ عَلَى مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، فَأَوْلَادُ بَنِيهِ يُعْطَوْنَ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا إِذَا وُجِدَ شَرْطُ الْإِنَاثِ وَهُوَ فَقْدُ الذُّكُورِ، وَأَوْلَادُ بَنَاتِ بَنِيهِ لَا يُعْطَوْنَ الْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ، فَبِنْتُ الِابْنِ تُنْسَبُ إِلَى جَدِّهَا كَابْنِ الِابْنِ، وَبِنْتُ الْبِنْتِ أَوِ ابْنُ الْبِنْتِ إِنَّمَا يُنْسَبَانِ إِلَى أَبِيهِمَا لَا إِلَى جَدِّهِمَا أَبِي أُمِّهِمَا، فَضَمِيرُ أَوْلَادِهِمْ لِلْأَوْلَادِ، وَالذُّكُورُ صِفَةٌ لِأَوْلَادِ الْمُضَافِ إِلَى الضَّمِيرِ لَا لِأَوْلَادِ الْأَوَّلِ الْمُضَافِ إِلَى أَوْلَادِهِمْ؛ إِذْ لَوْ كَانَ صِفَةً لَهُ لَزِمَ مَحْذُورٌ أَشَدُّ وَهُوَ الصَّرْفُ إِلَى الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ مِنْ نَسْلِ جَمِيعِ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ الشَّامِلِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فَيَلْزَمُ الصَّرْفُ إِلَى ابْنِ بِنْتِ الِابْنِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُرَادِ الْمَفْهُومِ مِنْ سِيَاقِ غَرَضِ الْوَاقِفِ حَيْثُ مَنَعَ بَنَاتِ نَفْسِهِ مَعَ وُجُودِ الذُّكُورِ، فَلَا يُمْكِنُ إِعْطَاءُ مَنْ أَدْلَى بِبِنْتِ ابْنٍ مَعَ وُجُودِهِمْ وَوُجُودِ بَنَاتِ نَفْسِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ إِعْطَاءُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنْ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ وَأَوْلَادِ بَنِيهِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَأَوْلَادِ بَنِي بَنِيهِ دُونَ أَوْلَادِ بَنَاتِ بَنِيهِ، وَعُلِمَ شَرْطُ فَقْدِ الذُّكُورِ فِي إِعْطَاءِ الْإِنَاثِ مِنْ صُلْبِهِ بِالنَّصِّ مِنْهُ وَمِنْ بَنَاتِ أَوْلَادِهِ إِمَّا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِنَّ وَإِمَّا بِعُمُومِ نَصِّهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: "أَوْلَادِهِ"، فِي الْمَوْضِعَيْنِ - وَهُمَا: فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ الْإِنَاثِ - قَدْ يُقَالُ لِشُمُولِهِ لَهُمْ لَفْظًا؛ لِكَوْنِ الْجُمْلَةِ جَاءَتْ عَقِبَ النَّوْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ عِنْدَنَا أَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ، فَهَذَا مُدْرَكٌ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ، هَذِهِ صُورَةُ الْجَوَابِ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَلْزَمُ خُلُوُّ نَصِّ الْوَاقِفِ عَنِ اسْتِحْقَاقِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَوَّلًا أَوْلَادَهُ وَأَوْلَادَ أَوْلَادِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوْلَادَهُمْ، وَأَقُولُ: هَذَا الْأَمْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 مِمَّا زَادَنَا يَقِينًا فِيمَا أَفْتَيْنَا بِهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ بَنَاتِ أَوْلَادِهِ بِشَرْطِ فَقْدِ الذُّكُورِ، وَمِنْ أَنَّ الذُّكُورَ صِفَةٌ لِأَوْلَادِهِمْ لَا لِأَوْلَادِ الْمُضَافِ هُوَ إِلَيْهِ، وَمِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: " أَوْلَادِهِ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ شَامِلٌ بِعُمُومِ لَفْظِهِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، أَعْنِي أَوْلَادَ صُلْبِهِ وَأَوْلَادَ أَوْلَادِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: بَيِّنْ لِي ذَلِكَ حَتَّى أَفْهَمَهُ؟ قُلْتُ: الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْوَاقِفِ أَنَّ قَوْلَهُ، وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ، لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى أَوْلَادِ صُلْبِهِ بَلْ عَامًّا فِي جَمِيعِ نَسْلِهِ الذُّكُورِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ نَسْلِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَقُولُ ذَلِكَ وَكَيْفَ يَسُوغُ لَكَ هَذَا الْحَمْلُ وَهَذَا عِنْدَكَ فِي الْمِنْهَاجِ وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ فِي الْأَصَحِّ، فَهَذَا إِفْتَاءٌ بِالْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ. قُلْتُ: كَلَّا، غَيْرَ أَنَّكَ قَاصِرٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَدَارِكِ، وَالْمُدْرَكُ فِي هَذَا الْحَمْلِ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ شُرَّاحَ الْمِنْهَاجِ قَالُوا: إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا لَمْ يُرِدِ الْوَاقِفُ جَمِيعَهُمْ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ دَخَلَ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ قَطْعًا: ذَكَرَهُ ابن خيران فِي اللَّطِيفِ، وَإِرَادَةُ الْوَاقِفِ تُعْرَفُ بِالْقَرَائِنِ وَقَدْ قَامَتْ هُنَا وَهِيَ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا. الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِمُ الذُّكُورِ، قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَوْلَادِ جَمِيعَ نَسْلِهِ لَا أَوْلَادَ صُلْبِهِ فَقَطْ، وَنَصَّ عَلَى هَذَا الْفَرْعِ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ لِيُبَيِّنَ شَرْطَهَا الْخَاصَّ بِهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْوَاقِفِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ لَا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِمُ الْإِنَاثِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَوْلَادِ الصُّلْبِيَّةَ فَقَطْ لَزِمَ أَنْ يُعْطَى الْأَوْلَادُ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ دُونَ أَوْلَادِهِمْ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَيْضًا بِأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ طَبَقَةً مَخْصُوصَةً بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّسْلِ، وَإِنْ بَعُدَتْ، لَا يُعْطَى مِنْ طَبَقَاتِ النَّسْلِ إِلَّا مَنْ يُدْلِي إِلَى الْوَاقِفِ بِمَحْضِ الذُّكُورِ وَلَا يُعْطَى مَنْ أَدْلَى بِإِنَاثٍ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ لِصُلْبِهِمْ وَمَنْ سَفَلَ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ، عَلَى أَوْلَادِهِ، عَامٌّ فِيمَنْ هُمْ لِصُلْبِهِ وَمَنْ سَفَلَ. الرَّابِعُ: لَوْ أَخَذْنَا بِالْخُصُوصِ وَقُلْنَا: الْأَوْلَادُ خَاصٌّ بِالصُّلْبِيَّةِ دُونَ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ لَكَانَ الثَّانِي أَيْضًا كَذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ، وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ يُعْطَى مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ إِلَّا طَبَقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُمْ أَوْلَادُهُمْ لِصُلْبِهِمْ، وَكَانَ يُحْرَمُ جَمِيعُ الطَّبَقَاتِ بَعْدَهُمْ وَيَنْقَرِضُ أَهْلُ الْوَقْفِ بِانْقِرَاضِ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْأَلْفَاظَ يُرَاعَى فِيهَا عُرْفُ أَرْبَابِهَا، وَالْوَاقِفُ لِهَذَا الْوَقْفِ وَالْحَاكِمُ بِهِ وَالْمُوَثِّقُ كُلُّهُمْ حَنَفِيَّةٌ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْأَوْلَادِ يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنِينَ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُهُ لِصُلْبِهِ وَأَوْلَادُ أَبْنَائِهِ، وَفِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ رِوَايَتَانِ عَنْ محمد أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِيهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُهُمْ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ اسْمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الْمُتَوَلِّدِ مُتَفَرِّعٌ مِنَ الْأَصْلِ، وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ مُتَفَرِّعَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الْأُمِّ وَأُمُّهُمْ مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الْجِدِّ، فَكَانَتْ بِوَاسِطَةِ الْأُمِّ مُضَافَةً إِلَى الْجَدَّةِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَوْ قَالَ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَوْلَادِي، دَخَلَ فِيهِ الْبُطُونُ كُلُّهَا؛ لِعُمُومِ اسْمِ الْأَوْلَادِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَوْ قَالَ: هَذِهِ صَدَقَةٌ عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي وَأَوْلَادِهِمْ، دَخَلَ فِيهِ الْبُطُونُ كُلُّهَا، وَإِنْ كَثُرُوا الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَوْلَادُهُمْ، فَقَدْ ذَكَرَهُمْ مُضَافًا إِلَى أَوْلَادِهِ لَا إِلَى نَفْسِ الْوَاقِفِ، فَقَدْ ذَكَرَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَقَعُ ذَلِكَ عَلَى الْبُطُونِ كُلِّهَا. انْتَهَى. فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاقِفَ وَمَنْ وَثَّقَ عَنْهُ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظِ الْأَوْلَادِ فِي الْوَقْفِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ نَسْلِهِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ، وَزَادَ هَذَا الْمُرَادَ إِيضَاحًا تَنْصِيصُهُ عَلَى شَرْطٍ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْفُرُوعِ النَّازِلَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ: عَلَى أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ، جَمِيعُ نَسْلِهِ مِنْ صُلْبِهِ وَمَنْ سَفَلَ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ الْإِنَاثِ، يَكُونُ مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ الْإِنَاثِ مِنْ نَسَلِهِ، مَنْ كَانَتْ لِصُلْبِهِ وَبَنَاتُ بَنِيهِ، وَخَرَجَ بَنَاتُ بَنَاتِهِ وَبَنَاتُ بَنَاتِ بَنِيهِ، بِالشَّرْطِ الَّذِي شَرَطَهُ، وَيُرَشَّحُ أَنَّ الْوَاقِفَ وَالْمُوَثِّقَ مَشِيَا فِي لَفْظِ أَوْلَادِهِ عَلَى الشُّمُولِ، بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَنَّ عِبَارَةَ الْوَاقِفِ وَجِيزَةٌ جِدًّا لَيْسَ فِيهَا إِلَّا هَذَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ بَسْطٍ وَلَا إِطْنَابٍ كَمَا يَفْعَلُهُ مُوَثِّقُو بِلَادِنَا. الْأَمْرُ السَّادِسُ: أَنَّ الَّذِي زَعَمَ إِخْرَاجَ بَنَاتِ الْبَنِينَ مِنَ الْبَنِينَ مُتَمَسِّكًا بِمَا تَمَسَّكَ بِهِ، أَخْطَأَ خَطَأً ثَانِيًا بَعْدَ خَطَئِهِ أَوَّلًا حَيْثُ رَامَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ لَفْظِ الْأَوْلَادِ مَعَ دُخُولِهِمْ فِيهِ فِي مَذْهَبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى قَوْلِ الْوَاقِفِ: فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ الْإِنَاثِ، فَإِنْ أَخَذَ لَفْظَ أَوْلَادِهِ فِي الشِّقَّيْنِ عَلَى الْعُمُومِ فِي أَوْلَادِ الصُّلْبِ وَأَوْلَادِ الْبَنِينَ فَهُوَ الْمُدَّعِي، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَ بَنَاتِ الْبَنِينَ، وَإِنْ أَخَذَهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِيهِمَا بِأَوْلَادِ الصُّلْبِ قُلْنَا لَهُ: يَا غَافِلُ يَلْزَمُكَ أَنْ لَا تُعْطِيَ مِنْ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ أَحَدًا، فَإِنَّهُ رَتَّبَ عَلَى فَقْدِ أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ إِعْطَاءَ أَوْلَادِهِ الْإِنَاثِ، وَقَدْ جَعَلْتَ الْأَوْلَادَ فِيهِمَا خَاصًّا بِالصُّلْبِيَّةِ، فَلَزِمَ أَنْ تُعْطِيَ بَنَاتِ الصُّلْبِ عِنْدَ فَقْدِ ذُكُورِ الصُّلْبِ وَتَصْرِفَهُ إِلَى الْجَامِعِ عِنْدَ فَقْدِ إِنَاثِ الصُّلْبِ، وَيَذْهَبُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ خَائِبِينَ، فَيَبْقَى قَوْلُ الْوَاقِفَ: وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِمُ الذُّكُورِ، لَاغِيًا لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَخَذَهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَهُوَ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ، أَيْ: مِنْ فُرُوعِهِ، صُلْبِيَّةٍ وَمَنْ سَفَلَ، يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ الْإِنَاثِ، أَيْ: فُرُوعِهِ صُلْبِيَّةٍ وَمَنْ سَفَلَ. هَذَا مَا سَنَحَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 [الْقَوْلُ الْمُشَيَّدُ فِي وَقْفِ الْمُؤَيَّدِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ وَقْفِ الْمَلِكِ المؤيد شَيْخٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَفَ وَقْفًا وَقَالَ فِيهِ: مَهْمَا فَضَلَ بَعْدَ الْمَصَارِفِ يُصْرَفُ لِأَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ، ثُمَّ لِأَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ لِذُرِّيَّتِهِمْ وَنَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِمْ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِنْهُمْ أَبَدًا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ، وَإِنْ سَفَلَ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَى مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ، يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، وَيُقَدَّمُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الْإِخْوَةُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَيُقَدَّمُ الْأَخُ الشَّقِيقُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ، وَابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ وَمِنْ أَوْلَادِهِمْ وَمِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ وَمِنْ أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ - وَإِنْ سَفَلَ - قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ لِشَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِ هَذَا الْوَقْفِ وَتَرَكَ وَلَدًا أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ أَوْ نَسْلًا أَوْ عَقِبًا أَوْ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، اسْتَحَقَّ وَلَدُهُ وَالْأَسْفَلُ مِنْهُ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الْمُتَوَفَّى لَوْ بَقِيَ حَيًّا، حَتَّى يَصِيرَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ هَذَا الْوَقْفِ، وَقَامَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مَقَامَ الْمُتَوَفَّى أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا أَوْ جَدًّا أَوْ جَدَّةً وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ، وَمَاتَ الْوَاقِفُ وَخَلَّفَ أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، ثُمَّ مَاتُوا وَلَمْ يَبْقَ لِلْوَاقِفِ إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، فَمَاتَتْ وَخَلَّفَتِ ابْنَةً وَابْنَةَ ابْنٍ، فَهَلْ تُقَدَّمُ الِابْنَةُ عَمَلًا بِقَوْلِ الْوَاقِفِ: يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، أَوْ يُشَارِكُهَا ابْنُ الِابْنِ؟ فَأَفْتَيْتُ بِمَا نَصُّهُ: تَخْتَصُّ الْبِنْتُ بِنَصِيبِ أُمِّهَا وَلَا يُشَارِكُهَا ابْنُ الِابْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: إِنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ نَصِيبٍ وَلَهُ وَلَدٌ وَأَسْفَلُ مِنْهُ يَنْتَقِلُ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، وَهَذِهِ صُورَةُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، فَإِنَّ بِنْتَ الْوَاقِفِ مَاتَتْ عَنْ نَصِيبٍ وَلَهَا وَلَدٌ وَأَسْفَلُ مِنْهُ، فَيَنْتَقِلُ نَصِيبُهَا لِوَلَدِهَا وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ، وَهِيَ الْبِنْتُ عَلَى الْأَبْعَدِ وَهُوَ ابْنُ الِابْنِ؛ عَمَلًا بِتَنْصِيصِ الْوَاقِفِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِخُصُوصِهَا. وَالثَّانِي قَوْلُهُ: تَحْجُبُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، فَقَدْ أَفْتَى السبكي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَيْنِهَا بِأَنَّ الْعَمَّةَ تَخْتَصُّ وَلَا يُشَارِكُهَا أَوْلَادُ إِخْوَتِهَا، هَكَذَا أَجَابَ بِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ فَتَاوِيهِ، وَقَالَ: عَمَلًا بِقَوْلِهِ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، وَقَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِجُمْلَةِ: وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، إِلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لَا يُؤَدِّي إِلَى إِلْغَاءِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا يُعْمَلُ بِهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَهُوَ مَا إِذَا فُقِدَ مِنْ هُوَ أَقْرَبُ، بِخِلَافِ الْعَمَلِ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِلْغَاءِ الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ حَمْلَهَا عَلَى حَجْبِ كُلِّ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ فَقَطْ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ إِذْ لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُ الْوَلَدِ فِي لَفْظِ الْوَقْفِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، وَهَذَا كَلَامُ السبكي فِي أَحَدِ الْمَوَاضِعِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ خَالَفَهُ وَأَفْتَى بِالْمُشَارَكَةِ وَحَمَلَ حَجْبَ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا السُّفْلَى عَلَى حَجْبِ كُلِّ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ لَا عَلَى التَّرْتِيبِ بَيْنَ الطَّبَقَتَيْنِ، قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ وَخِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأَطَالَ السبكي الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ آخَرَيْنِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الْمَحَلُّ بَسْطَهُ وَوَافَقَهُ الشَّيْخُ ولي الدين العراقي، فَأَفْتَى فِي صُورَةٍ نَظِيرِ هَذِهِ بِالِاخْتِصَاصِ أَيْضًا وَعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ تَقْدِيمًا لِأَقْرَبِ الطَّبَقَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ أَفْتَوْا بِالْمُشَارَكَةِ عَمَلًا بِقَوْلِ الْوَاقِفِ: وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، إِلَى آخِرِهِ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّا لَا نَخُصُّ عُمُومَ حَجْبِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا السُّفْلَى بِهَذَا الْمَفْهُومِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ عِبَارَةِ الْوَاقِفِ، وَإِنَّمَا نَخُصُّهُ بِأَحَدِ الْمُخَصِّصَاتِ الْمَعْرُوفَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا إِذَا مَاتَ عَنْ نَصِيبٍ وَلَهُ وَلَدٌ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ نَصِيبُهُ إِلَيْهِ، هَذَا كَلَامُ الشيخ ولي الدين. وَاعْلَمْ أَنَّ السبكي إِنَّمَا اعْتَمَدَ فِي جَوَابِهِ عَلَى جُمْلَةِ: تَحْجُبُ الْعُلْيَا السُّفْلَى، فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ سُؤَالِهِ غَيْرُهُ، وَنَحْنُ اعْتَمَدْنَا فِي جَوَابِنَا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَمْرٍ ثَانٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ تَنْصِيصُ الْوَاقِفِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ إِلَى الْمُتَوَفَّى عِنْدَ ذِكْرِ مَنْ مَاتَ عَنْ نَصِيبٍ وَلَهُ وَلَدٌ أَوْ أَسْفَلُ مِنْهُ، وَبَيَانُ كَوْنِ هَذَا أَقْوَى أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَلْفَاظَ ثَلَاثَةٌ: نَصٌّ وَظَاهِرٌ وَمُحْتَمَلٌ، فَالنَّصُّ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَالظَّاهِرُ مَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الْآخَرِ، وَالْمُحْتَمَلُ مَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ، وَمَرْتَبَتُهَا فِي الْقُوَّةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَأَنَّهُ عِنْدَ التَّعَارُضِ يُقَدَّمُ النَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالظَّاهِرُ عَلَى الْمُحْتَمَلِ. وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ فِي هَذَا الْوَقْفِ، فَالنَّصُّ قَوْلُهُ: فِيمَنْ مَاتَ عَنْ نَصِيبٍ وَلَهُ وَلَدٌ أَوْ أَسْفَلُ مِنْهُ، أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْمُتَوَفَّى، فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَالظَّاهِرُ قَوْلُهُ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا السُّفْلَى، فَإِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ حَجْبُ كُلِّ أَعْلَى لِكُلِّ أَسْفَلَ، وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ حَجْبُ كُلِّ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ فَقَطْ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَظْهَرُ؛ لِمَا ذَكَرَهُ السبكي مِنْ أَنَّ الثَّانِيَ لَا فَائِدَةَ لَهُ إِلَّا التَّأْكِيدُ، وَالتَّأْسِيسُ أَرْجَحُ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَقَدْ تَوَافَقَ فِي هَذَا الْوَقْفِ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ مَعًا مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ، وَالْمُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ: اسْتَحَقَّ مُطْلَقًا مَعَ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ وَمَعَ مَنْ هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أَعْلَى مِنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ: اسْتَحَقَّ مَعَ فَقْدِ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَقَطْ، وَالْمَعْنَيَانِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ عَلَى السَّوَاءِ، فَقُدِّمَ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ مَعًا؛ لِقُوَّتِهِمَا وَأُخِّرَ هَذَا الْمُحْتَمَلُ لِيُعْمَلَ بِهِ فِي صُورَةٍ لَمْ يُعَارِضَاهُ فِيهَا، وَهُوَ مَا إِذَا فُقِدَ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَقْرَبُ؛ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي سُؤَالِ السُّبْكِيِّ لَفْظٌ هُوَ نَصٌّ، وَكَانَ فِيهِ لَفْظٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا السُّفْلَى، وَلَفْظٌ مُحْتَمَلٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، إِلَى آخِرِهِ، وَقَدْ تَعَارَضَا، رَجَّحَ الْعَمَلَ بِالظَّاهِرِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ جَرْيًا عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْإِفْتَاءِ فِيهَا بِالْمُشَارَكَةِ، فَذَاكَ لِكَوْنِ لَفْظِ السُّؤَالِ فِيهَا مُخَالِفًا لِلَفْظِ هَذَا السُّؤَالِ، وَالْأَجْوِبَةُ فِي الْأَوْقَافِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ، فَمَتَى اخْتَلَفَ بِتَغْيِيرٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ اخْتَلَفَ الْجَوَابُ بِحَسَبِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تَقْرِيرٌ آخَرُ يُوَضِّحُ مَا تَقَدَّمَ: قَوْلُ الْوَاقِفِ: "عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا نَسْلٌ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَى مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ، يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، وَيُقَدَّمُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الْإِخْوَةُ عَلَى غَيْرِهِمْ " اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ نَصِيبَ مَنْ مَاتَ يَنْتَقِلُ إِلَى شُعَبِ الْوَلَدِ بِهِ. الثَّانِي أَنَّهُ عِنْدَ فَقْدِ شُعَبِ الْوَلَدِ بِهِ يَنْتَقِلُ إِلَى نَوْعِ مَنْ فِي الدَّرَجَةِ، فَقَوْلُهُ: يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، رَاجِعٌ إِلَى شُعَبِ الْوَلَدِ بِهِ، وَقَوْلُهُ: وَيُقَدَّمُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الْإِخْوَةُ عَلَى غَيْرِهِمْ، رَاجِعٌ إِلَى نَوْعِ أَهْلِ الدَّرَجَةِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ، خَاصًّا بِأَهْلِ الدَّرَجَةِ وَلَيْسَ رَاجِعًا إِلَى شُعَبِ الْأَوْلَادِ، لَمْ يَقُلْ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهِ: وَيُقَدَّمُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ، بَلْ كَانَتِ الْعِبَارَةُ: يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَتُقَدَّمُ الْإِخْوَةُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَلَمَّا خَصَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِأَهْلِ الدَّرَجَةِ عُرِفَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا إِمَّا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَإِمَّا خَاصَّةٌ بِشُعَبِ الْأَوْلَادِ، فَكَمَا أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الدَّرَجَةِ إِخْوَةٌ وَغَيْرُهُمْ وَكَانَ فِي غَيْرِ الْإِخْوَةِ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَاسْتَحَقَّ، لَمْ يُعْطَ شَيْئًا مَعَ الْإِخْوَةِ؛ عَمَلًا بِتَنْصِيصِ الْوَاقِفِ عَلَى تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَعَ الْأَوْلَادِ أَوْلَادُ أَوْلَادٍ مَاتَ آبَاؤُهُمْ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَاسْتَحَقُّوا، لَا يُعْطَوْنَ مَعَ الْأَوْلَادِ شَيْئًا، عَمَلًا بِتَنْصِيصِ الْوَاقِفِ فِي هَذَا النَّوْعِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ إِلَى الْمُتَوَفَّى مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبِ. وَلْنَسُقْ عِبَارَةَ السبكي فِي الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ لِتُسْتَفَادَ: الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: سُئِلَ السبكي عَنِ امْرَأَةٍ وَقَفَتْ عَلَى ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَإِنْ تُوُفِّيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَلَدًا فَلِإِخْوَتِهِ الْأَشِقَّاءِ، ثُمَّ لِغَيْرِ الْأَشِقَّاءِ، ثُمَّ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ طَبَقَتِهِ، ثُمَّ لِأَقْرَبِ الطَّبَقَاتِ إِلَى الطَّبَقَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا عَلَى أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِهِ عَنْ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ عَادَتْ شَرَائِطُ الْوَقْفِ إِلَى حَالٍ لَوْ كَانَ الْمُتَوَفَّى فِيهَا حَيًّا لَاسْتَحَقَّ، أُقِيمَ أَقْرَبُ الطَّبَقَاتِ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ مَقَامَهُ، وَعَادَ لَهُ مَا كَانَ يَعُودُ لِمُتَوَفَّاهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، فَتُوُفِّيَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ تُدْعَى فَاطِمَةُ وَتَرَكَتْ بِنْتَ عَمِّهَا سِتَّ الْيُمْنِ وَأَوْلَادَ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ لِسِتِّ الْيُمْنِ، مَاتَتِ الْأَخَوَاتُ قَبْلَ وَفَاةِ فَاطِمَةَ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْوَقْفِ إِلَيْهِنَّ وَبَقِيَ أَوْلَادُهُنَّ، فَهَلْ يَنْتَقِلُ نَصِيبُ فَاطِمَةَ لِسِتِّ الْيُمْنِ وَحْدَهَا أَوْ يُشَارِكُهَا فِيهِ أَوْلَادُ أَخَوَاتِهَا؟ . فَأَجَابَ الشَّيْخُ تقي الدين السبكي: يَنْتَقِلُ نَصِيبُ فَاطِمَةَ لِسِتِّ الْيُمْنِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، قَالَ: وَقَدْ تَعَارَضَ فِي هَذَا الْوَقْفِ عُمُومَانِ أَحَدُهُمَا هَذَا، فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ حَجْبِ كُلِّ شَخْصٍ وَلَدَهُ خَاصَّةً وَمِنْ حَجْبِهِ الطَّبَقَةَ السُّفْلَى بِكَمَالِهَا مِنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ يُقَامُ أَقْرَبُ الطَّبَقَاتِ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ مَقَامَهُ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَقِيَ مِنْ طَبَقَةِ الْمُتَوَفَّى أَحَدٌ أَوْ لَا، فَحَجْبُ كُلِّ شَخْصٍ لِوَلَدِهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَمَحَلُّ التَّعَارُضِ فِي إِقَامَةِ وَلَدِ الْمُتَوَفَّى مَقَامَهُ عِنْدَ وُجُودِ أَقْرَبَ مِنْهُ، وَفِي مِثْلِ هَذَا التَّعَارُضِ يُحْتَاجُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ أَنَّ الْعَمَلَ هُنَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، لَا يُوجِبُ إِلْغَاءَ قَوْلِهِ: أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ يُقَامُ وَلَدُهُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّا نَعْمَلُ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ وَنُقِيمَ الْوَلَدَ مَقَامَ وَالِدِهِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ فِيهِ إِلْغَاءَ قَوْلِهِ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى. وَبَيَانُهُ أَنَّ حَجْبَ الشَّخْصِ غَيْرَ وَلَدِهِ خَارِجٌ مِنْهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَحَجْبُهُ وَلَدَهُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لَوْ كَانَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ مَا يُدْخِلُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَقَفَ عَلَى الْأَقْرَبِ، فَلَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْوَلَدِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ فِيهِ، حَتَّى يُحْتَرَزَ مِنْهُ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ تَأْكِيدٌ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ - هَذَا جَوَابُ السبكي بِحُرُوفِهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي فَتَاوِيهِ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ لَكِنْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ نَسُوقُهَا. الْمَوْضِعُ الثَّانِي: سُئِلَ السبكي عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ عَلَى الْمُجْبَرِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ أَحْمَدَ وَعَائِشَةَ وَفَاطِمَةَ وَزَيْنَبَ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا، وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ وَلَدٌ وَإِنْ سَفَلَ كَانَ نَصِيبُهُ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ وَلَهُ أَوْلَادٌ وَإِنْ سَفَلُوا وَآلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِمُ اسْتَحَقُّوا، تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، وَتُوُفِّيَ الْمُجْبَرُ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بِنْتُهُ زَيْنَبُ، ثُمَّ وَلَدُهُ أَحْمَدُ، وَتَرَكَ أَوْلَادًا: أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا وَعَبْدَ الْمُحْسِنِ وَشَامِيَّةَ، وَتُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجْبَرِ وَتَرَكَتْ بِنْتَيْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 مُلُوكَ وَشَرَفَ، وَرُزِقَتْ عَائِشَةُ أَوْلَادًا مُحَمَّدًا وَنَفِيسَةَ وَدُنْيَا، ثُمَّ رُزِقَتْ دُنْيَا الْمَذْكُورَةُ فِي حَيَاةِ أُمِّهَا مُحَمَّدًا وَعِيسَى وَآسِنٌ وَمَرْيَمُ، ثُمَّ رُزِقَتْ مَرْيَمُ مُحَمَّدًا، ثُمَّ مَاتَتْ مَرْيَمُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَيَاةِ جَدَّتِهَا عَائِشَةَ، ثُمَّ مَاتَتْ عَائِشَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ وَنَفِيسَةَ وَدُنْيَا وَأَوْلَادِهَا مُحَمَّدٍ وَعِيسَى وَآسِنٍ وَعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ مَرْيَمَ الْمُتَوَفَّاةِ فِي حَيَاتِهَا، فَهَلْ لِمُحَمَّدِ ابْنِ مَرْيَمَ هَذَا شَيْءٌ بِحُكْمِ تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ أُمِّهِ؟ فَأَجَابَ السبكي: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ لِقَوْلِهِ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، فَهُوَ مَحْجُوبٌ بِأَخْوَالِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ أُمِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَسْتَحِقَّ مَنْ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهَا حِينَ مَاتَتْ كَانَتْ مَحْجُوبَةً بِأُمِّهَا قَطْعًا، فَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ يَنْتَقِلُ لِابْنِهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ جَدَّتِهِ عَلَى أَنَّ نَصِيبَهَا يَنْتَقِلُ لِأَوْلَادِهَا وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهَا، لَكِنَّهُ قَالَ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا السُّفْلَى، وَإِطْلَاقُ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: يَحَجُبُ كُلُّ أَصْلٍ فَرْعَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ تَكَرَّرَتْ وَأَنَا أَسْتَشْكِلُهَا جِدًّا، وَأُقَدِّمُ فِيهَا وَأُؤَخِّرُ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ، يَنْبَغِي النَّظَرُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَأَنْ لَا يُسْتَعْجَلَ فِيهَا بِالْجَوَابِ، وَالصِّيَغُ الَّتِي تَرِدُ فِي الْأَوْقَافِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا السُّفْلَى، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ، فَهُنَا يَظْهَرُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ وَلَهُ ابْنٌ وَابْنُ ابْنٍ، يُقَدَّمُ الِابْنُ عَلَى ابْنِ الِابْنِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ: تَحْجُبُ الْعُلْيَا السُّفْلَى، فَإِنَّهُ عَامٌّ إِلَّا فِيمَنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ وَمَاتَ، فَيَنْتَقِلُ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ الثَّانِي عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ وَيَبْقَى الْعُمُومُ فِيمَا عَدَاهُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِ: تَحْجُبُ الْعُلْيَا السُّفْلَى، عَلَى حَجْبِ الْأَصْلِ لِفَرْعِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ، نَصِيبُهُ: حَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَصِيبٌ يَتَنَاوَلُهُ، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَجَازٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّهُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ قَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ دَخَلَ فِي الْوَقْفِ مَوْقُوفًا عَلَى شَرْطٍ وَخَرَجَ مِنْهُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بِمَوْتِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ أَصْلًا، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ سَائِغٌ لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَمِنْهَا الصِّيغَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَلَكِنْ بِمَوْتِ هَذَا الِابْنِ بَعْدُ وَيَتْرُكُ ابْنًا، فَهُوَ مُسَاوٍ لِابْنِ عَمِّهِ فِي الطَّبَقَةِ، فَهَلْ يَأْخُذُ ابْنُ عَمِّهِ مَا كَانَ لِأَبِيهِ لَوْ كَانَ حَيًّا؟ لِأَنَّ الْمَانِعَ لَهُ حَجْبُ عَمِّهِ لَهُ وَقَدْ زَالَ، وَلَا يَأْخُذُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ مِنْ أَبِيهِ، وَأَبُوهُ لَا حَقَّ لَهُ، هَذَا مَحَلُّ احْتِمَالٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَفْظٌ آخَرُ عَامٌّ يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنْهُ اسْتَحَقَّ وَإِلَّا فَلَا، مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، بِالْوَاوِ لَا بِـ (ثُمَّ) وَيَذْكُرُ الصِّيغَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُنَا أَقُولُ: إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بَعْدَ وَفَاةِ عَمِّهِ مَا كَانَ أَبُوهُ يَسْتَحِقُّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَيَخْتَصُّ ابْنُ عَمِّهِ الْآنَ مِنْ نَصِيبِ أَبِيهِ بِمَا كَانَ لَهُ حِينَ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أَبُوهُ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ هَذَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: مَنْ مَاتَ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَى وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُخَالَفَةُ هَذَا أَبْعَدَ مِنْ مُخَالَفَةِ عُمُومِ قَوْلِهِ: ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، فَيُعْمَلُ فِي الْعَامِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَّا فِيمَا خُصَّ بِهِ قَطْعًا بِقَوْلِهِ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، وَأَيْضًا بِهِ حَجْبُ الْعَمِّ لِابْنِ أَخِيهِ، وَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: انْتَقَلَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، مَعْنَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: نَصِيبُهُ الْأَصْلِيُّ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُهُ عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِي، مَنْ مَاتَ مِنْهُمُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا السُّفْلَى، فَهُنَا حَجْبُ ابْنِ الْمُتَوَفَّى لِابْنِ أَخِيهِ صَرِيحٌ أَصْرَحُ مِنَ الْأَوَّلِ بَعْدَ حُكْمِ مَنْ مَاتَ. الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: سُئِلَ السبكي عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ وَقْفٌ، فَإِذَا تُوُفِّيَ عَادَ وَقْفًا عَلَى وَلَدَيْهِ أَحْمَدَ وَعَبْدِ الْقَادِرِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ نِصْفَيْنِ، يَجْرِي نَصِيبُ كَلٍّ مِنْهُمَا عَلَيْهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَخَوَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَمِنْ أَوْلَادِهِمَا وَأَنْسَالِهِمَا عَنْ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ وَلَدٍ أَوْ نَسْلٍ، عَادَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ، ثُمَّ عَلَى نَسْلِهِ عَلَى الْفَرِيضَةِ وَعَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَوْلَادِهِمَا وَأَنْسَالِهِمَا عَنْ غَيْرِ نَسْلٍ عَادَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ وَيَسْتَوِي الْأَخُ الشَّقِيقُ وَالْأَخُ مِنَ الْأَبِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ لِشَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ وَتَرَكَ وَلَدًا أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ أَوْ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ وَلَدُهُ أَوْ وَلَدُ وَلَدِهِ أَوِ الْأَسْفَلُ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الْمُتَوَفَّى لَوْ بَقِيَ حَيًّا إِلَى أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ وَقَامَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مَقَامَ الْمُتَوَفَّى، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَتُوُفِّيَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَانْتَقَلَ الْوَقْفُ إِلَى وَلَدَيْهِ أَحْمَدَ وَعَبْدِ الْقَادِرِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْقَادِرِ وَتَرَكَ أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ وَهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَلَطِيفَةُ، وَوَلَدَيِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الْمُتَوَفَّى فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ وَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمَلِكَةُ، ثُمَّ تُوُفِّيَ عُمَرُ عَنْ غَيْرِ نَسْلٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ لَطِيفَةُ عَنْ بِنْتٍ تُسَمَّى فَاطِمَةُ، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَلِيٌّ وَتَرَكَ بِنْتًا تُسَمَّى زَيْنَبُ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ لَطِيفَةَ عَنْ غَيْرِ نَسْلٍ، فَإِلَى مَنْ يَنْتَقِلُ نَصِيبُ فَاطِمَةَ الْمَذْكُورَةِ؟ . فَأَجَابَ السبكي بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي ظَهَرَ الْآنَ أَنَّ نَصِيبَ عَبْدِ الْقَادِرِ جَمِيعَهُ يُقَسَّمُ هَذَا الْوَقْفُ عَلَى سِتِّينَ جُزْءًا: لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْهُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ جُزْءًا، وَلِمَلِكَةَ أَحَدَ عَشَرَ، وَلِزَيْنَبَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلَا يَسْتَمِرُّ هَذَا الْحُكْمُ فِي أَعْقَابِهِمْ، بَلْ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِحَسَبِهِ، وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أَشْتَهِي أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ يُقَلِّدُنِي فِي ذَلِكَ بَلْ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَتَبَهُ علي السبكي الشافعي فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ رَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِمِائَةٍ. قَالَ السبكي: فَذَكَرَ السَّائِلُ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ هَذَا الْجَوَابُ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ يَنْظُرُ فِيهِ أَيَّامًا، فَكَتَبْتُ بَيَانَ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْقَادِرِ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَى أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ وَهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَلَطِيفَةُ بَيْنَهُمْ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ: لِعَلِيٍّ خُمُسَاهُ وَلِعُمَرَ خُمُسُهُ وَلِلَطِيفَةَ خُمُسُهُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يُشَارِكُهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمَلِكَةُ وَلَدَا مُحَمَّدٍ الْمُتَوَفَّى فِي حَيَاةِ أَبِيهِ وَنَزَلَا مَنْزِلَةَ أَبِيهِمَا، فَيَكُونُ لَهُمَا السُّبُعَانِ، وَلِعَلِيٍّ السُّبُعَانِ، وَلِعُمَرَ السُّبُعَانِ وَلِلَطِيفَةَ السُّبُعُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَهُوَ مَرْجُوحٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ فِي مَأْخَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَقْصُودَ الْوَاقِفِ أَنْ لَا يَحْرِمَ أَحَدًا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْمَقَاصِدَ إِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ لَا تُعْتَبَرُ. الثَّانِي: إِدْخَالُهُمْ فِي الْحُكْمِ وَجَعْلُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ كُلِّ أَصْلٍ وَفَرْعِهِ لَا بَيْنَ الطَّبَقَتَيْنِ جَمِيعًا، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَقَدْ كُنْتُ مَرَّةً مِلْتُ إِلَيْهِ فِي وَقْفِ الطُّنْبَا لِلَفْظٍ اقْتَضَاهُ فِيهِ لَسْتُ أَعُمُّهُ فِي كُلِّ تَرْتِيبٍ. الثَّالِثُ: الِاسْتِنَادُ إِلَى قَوْلِ الْوَاقِفِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ لِشَيْءٍ قَامَ وَلَدُهُ مَقَامَهُ، وَهَذَا الِاسْتِنَادُ لَا يَتِمُّ، وَقَدْ تَعَرَّضَ السبكي لِهَذَا السُّؤَالِ الْأَخِيرِ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ، وَقَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ صُورَةَ السُّؤَالِ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْقَادِرِ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَى أَوْلَادِهِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَلَطِيفَةَ: لِعَلِيٍّ خُمُسَاهُ وَلِعُمَرَ خُمُسَاهُ وَلِلَطِيفَةَ خُمُسُهُ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمَلِكَةُ وَلَدَا مُحَمَّدٍ، عَلَى الرَّأْيِ الْأَرْجَحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِمُشَارَكَتِهِمَا لَهُمْ، إِمَّا لِمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَقْصُودَ الْوَاقِفِ أَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لَا تُحْرَمُ جَعَلَ التَّرْتِيبَ بَيْنَ كُلِّ أَصْلٍ وَفَرْعِهِ لَا بَيْنَ الطَّبَقَتَيْنِ، وَإِمَّا لِأَنَّ وَالِدَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ، وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ - هَذَا لَفْظُهُ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ. وَسُئِلَ الشَّيْخُ ولي الدين العراقي عَمَّنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ ذُكُورِهِمُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ إِلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، ثُمَّ إِلَى نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ خَاصَّةً دُونَ وَلَدِ الْبَطْنِ، تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِنْهُمْ أَبَدًا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، عَلَى أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ أَوْلَادِ الظَّهْرِ الْمَذْكُورِينَ وَتَرَكَ وَلَدًا أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ أَوْ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ إِلَى وَلَدِ وَلَدِهِ، ثُمَّ إِلَى نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ مَنْ وَلَدِ الظَّهْرِ خَاصَّةً، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا وَلَا نَسْلًا وَلَا عَقِبًا انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَى إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَكَانَ مَنْ تُوُفِّيَتْ مِنَ الْإِنَاثِ مِنْ أَوْلَادِ الْوَاقِفِ وَمِنْ بَقِيَّةِ أَوْلَادِ الظَّهْرِ مِنْ نَسْلِهِ، انْتَقَلَ نَصِيبُهَا إِلَى إِخْوَتِهَا وَأَخَوَاتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا غَيْرَهُنَّ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ وَلَا أَخًا وَلَا أُخْتًا، أَوْ لَمْ تَتْرُكِ الْمُتَوَفَّاةُ مِنَ الْإِنَاثِ مِنْهُمْ أَخًا وَلَا أُخْتًا مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 أَوْلَادِ الظَّهْرِ الْمَذْكُورِينَ الْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَكُلُّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِ الظَّهْرِ الْمَذْكُورِينَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْوَقْفِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِشَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِهِ وَخَلَّفَ وَلَدًا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ وَآلَ الْوَقْفُ إِلَى حَالٍ لَوْ كَانَ الْمُتَوَفَّى حَيًّا لَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ، قَامَ وَلَدُهُ ثُمَّ وَلَدُ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ مَقَامَهُ، وَاسْتَحَقَّ مَا كَانَ أَصْلُهُ يَسْتَحِقُّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، فَإِذَا انْقَرَضَ أَوْلَادُ الظَّهْرِ صُرِفَ مَا عُيِّنَ لَهُمْ إِلَى أَوْلَادِ الْبَطْنِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَشْرُوحَةِ فِي أَوْلَادِ الظَّهْرِ، فَآلَ اسْتِحْقَاقُ الْوَقْفِ إِلَى بِنْتِ ابْنِ ابْنِ الْوَاقِفِ، وَهِيَ آخَرُ أَوْلَادِ الظَّهْرِ، فَلَمَّا مَاتَتْ تَرَكَتِ ابْنًا وَلِلْوَاقِفِ بِنْتُ بِنْتٍ وَابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ، فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثُ مِنْ أَوْلَادِ الْبُطُونِ، فَمَنِ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ؟ . فَأَجَابَ الشَّيْخُ ولي الدين بِمَا نَصُّهُ: الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ بِنْتُ بِنْتِ الْوَاقِفِ دُونَ ابْنِ بِنْتِ بِنْتِهِ وَدُونَ ابْنِ بِنْتِ ابْنِ ابْنِهِ؛ عَمَلًا بِقَوْلِ الْوَاقِفِ أَنَّ الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا تَحْجُبُ السُّفْلَى، إِلَّا فِيمَا اسْتَثْنَاهُ مِنْ أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَيُخَلِّفَ وَلَدًا، فَيَسْتَحِقُّ مَا كَانَ أَصْلُهُ يَسْتَحِقُّهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُسْتَثْنَى. قَالَ: ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَفْتَوْا بِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِذَلِكَ ابْنُ بِنْتِ ابْنِ ابْنِهِ، فَإِنَّ أُمَّهُ هِيَ الَّتِي آلَ إِلَيْهَا الِاسْتِحْقَاقُ، فَيَنْتَقِلُ لَهُ مَا كَانَ لِأُمِّهِ عَمَلًا بِشَرْطِ الْوَاقِفِ: إِنَّ مَنْ مَاتَ وَلَهُ وَلَدٌ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَهَذَا غَلَطٌ وَغَفْلَةٌ، فَإِنَّهُ قَيَّدَ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُتَوَفَّى مِنْ أَوْلَادِ الظَّهْرِ، وَأَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ أَيْضًا مِنْ أَوْلَادِ الظَّهْرِ، وَقَالَ حِينَ مَصِيرِ الْوَقْفِ لِأَوْلَادِ الْبَطْنِ: إِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَشْرُوحَةِ فِي أَوْلَادِ الظَّهْرِ، وَهَذَا الْوَلَدُ خَارِجٌ عَنِ الصُّورَتَيْنِ، فَإِنَّ أُمَّهُ آخَرُ أَوْلَادِ الظَّهْرِ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِ الظَّهْرِ انْتَقَلَ لِأَوْلَادِ الْبَطْنِ وَرَجَّحْنَا أَقْرَبَهُمْ طَبَقَةً كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ: ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَفْتَى بِاشْتِرَاكِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَدْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ مُسْتَحِقٌّ، وَقَدْ فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْوَاقِفِ أَنَّ حَجْبَ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا لِلسُّفْلَى إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْعُلْيَا أَصْلَ السُّفْلَى؛ لِأَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَهُ وَلَدٌ اسْتَحَقَّ وَلَدُهُ نَصِيبَ وَالِدِهِ، فَإِنْ كَانَ وَالِدُهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ إِيَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ إِلَيْهِ اسْتَحَقَّ وَلَدُهُ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَحْجُبُهُ عَمُّهُ وَلَا خَالُهُ، وَإِنَّمَا يَحْجُبُهُ أَصْلُهُ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أُصُولُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، فَاسْتَحَقُّوا كُلُّهُمْ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ، فَإِنَّا لَا نَخُصُّ عُمُومَ حَجْبِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا لِلسُّفْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ الْمُسْتَنْبَطِ الْمَفْهُومِ مِنْ عِبَارَةِ الْوَاقِفِ، وَإِنَّمَا نَخُصُّهُ بِأَحَدِ الْمُخَصِّصَاتِ الْمَعْرُوفَةِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ إِلَّا، فِيمَنْ يَمُوتُ عَنْ وَلَدٍ مُرَافِقٍ لَهُ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 (فَصْلٌ) قَالَ السبكي رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُ الْوَرَّاقِينَ فِي كُتُبِ الْأَوْقَافِ: مَنْ مَاتَ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ لِشَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ وَخَلَّفَ وَلَدًا اسْتَحَقَّ وَلَدُهُ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الْمُتَوَفَّى لَوْ بَقِيَ حَيًّا، حَتَّى يَصِيرَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ، وَقَامَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مَقَامَهُ - عِبَارَةٌ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَكِتَابَتِهِمْ، وَهِيَ تَقْتَضِي أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ مَا كَانَ أَبُوهُ يَسْتَحِقُّهُ لَوْ بَقِيَ حَيًّا، إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْوُصُولُ شَرْطًا أَوْ بَعْضَ شَرْطٍ، وَضَرُورَةُ الْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ جَعْلُهُ بَعْضَ شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ وَصْفًا لِلْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ (لَوْ) غَايَةً، فَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الشَّرْطِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِمُقْتَضَى الْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا شَيْئًا ثَانِيًا، صَيْرُورَتُهُ مُسْتَحِقًّا، وَهَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ انْتِهَاءَ الْوَقْفِ إِلَى حَالَةٍ لَوْ بَقِيَ حَيًّا فِيهَا لَاسْتَحَقَّ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ مَصِيرًا إِلَيْهِ وَهُوَ صِفَةٌ لِلْوَقْفِ وَحَالٌ مِنْ أَحْوَالِهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ عِلَّةً وَسَبَبًا وَشَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِهِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لَهُ وَيُجْعَلَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ مَعْلُولًا عَنِ الصِّفَةِ، وَاسْتِعْمَالُ لَفْظَةِ (يَصِيرَ) فِي ذَلِكَ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَجَازٌ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ صَيْرُورَةِ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ بِاسْتِحْقَاقِهِ إِيَّاهُ، فَإِذَا فَرَضْنَا وَفَاةَ شَخْصٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي اسْتَحَقَّ بَاقِيًا لَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ، وَحَكَمْنَا بِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الْوَلَدِ اسْتِحْقَاقَ مَا لَوْ كَانَ وَالِدُهُ حَيًّا الْآنَ لَاسْتَحَقَّهُ، كَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظَةِ (يَصِيرَ) فِي حَقِّهِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ، لَكِنَّا قَدِ اسْتَعْمَلْنَاهُ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَجَازًا، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَهُوَ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَجَازِ الْمُنْفَرِدِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الثَّانِي وَحْدَهُ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ وَاطِّرَاحُ الْمَجَازِ بِالْكُلِّيَّةِ يَلْزَمُ عَدَمُ أَخْذِهِ نَصِيبَ وَالِدِهِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَيَتَرَجَّحُ الِاقْتِصَارُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ الْمُنْفَرِدِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْمَيِّتِ الثَّانِي شَيْئًا إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَالْمُوجِبُ لِلنَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَقَفَ عَلَى شَخْصٍ ثُمَّ أَوْلَادِهِ، ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ وَشَرَطَ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ بَنَاتِهِ انْتَقَلَ نَصِيبُهَا لِلْبَاقِينَ مِنْ أَخَوَاتِهَا، وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ لِشَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ وَلَهُ وَلَدٌ اسْتَحَقَّ وَلَدُهُ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الْمُتَوَفَّى لَوْ كَانَ حَيًّا حَتَّى يَصِيرَ إِلَيْهِ مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ، وَقَامَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مَقَامَهُ، فَمَاتَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ وَوَلَدَ وَلَدٍ مَاتَ أَبُوهُ فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ، فَأَخَذَ الْوَلَدَانِ نَصِيبَهُمَا وَهُمَا ابْنٌ وَبِنْتٌ، وَأَخَذَ وَلَدُ الْوَلَدِ النَّصِيبَ الَّذِي لَوْ كَانَ وَالِدُهُ حَيًّا لَأَخَذَهُ، ثُمَّ مَاتَتِ الْبِنْتُ، فَهَلْ يُخْتَصُّ أَخُوهَا الْبَاقِي بِنَصِيبِهَا أَوْ يُشَارِكُهُ فِيهِ ابْنُ أَخِيهِ؟ تَعَارَضَ اللَّفْظَانِ الْمَذْكُورَانِ وَنَظَرْنَا فِيهِ النَّظَرَ الْمَذْكُورَ، وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْإِخْوَةِ وَعَلَى الْبَاقِينَ مِنْهُمْ، كَالْخَاصِّ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، كَالْعَامِّ، فَيُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ، فَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ عِنْدَنَا اخْتِصَاصُ الْأَخِ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الْآخَرُ مُحْتَمَلًا، وَهُوَ مُشَارَكَةُ ابْنِ الْأَخِ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَمِنَ الْمُرَجِّحَاتِ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ: يَسْتَحِقُّ، مُطْلَقٌ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا عُمُومَ لَهُ، وَالْمُطْلَقُ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ عَمِلْنَا بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ نَصِيبَ وَالِدِهِ، فَلَا يُعْمَلُ بِهِ فِي غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ شَيْئًا، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا أَصْلًا، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ، وَقَوْلُهُ: اسْتَحَقَّ وَلَدُهُ، فِعْلٌ مُطْلَقٌ، وَقَوْلُهُ: مَا كَانَ وَالِدُهُ يَسْتَحِقُّهُ، عَامٌّ؛ لِأَنَّ (مَا) لِلْعُمُومِ، وَهَذَا الْعُمُومُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ نَصِيبِ وَالِدِهِ، وَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ النَّصِيبِ وَإِلَى نَصِيبِ مَنْ يَمُوتُ بَعْدَ ذَلِكَ. (فَائِدَةٌ) قَالَ البلقيني: التَّرْتِيبُ يُسْتَفَادُ مِنْ صَرِيحٍ مَرَّةً، وَمِنْ ظَاهِرٍ أُخْرَى، وَمِنْ مُحْتَمَلٍ بِقَرِينَةٍ، فَمِنَ الصَّرِيحِ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، وَمِنَ الظَّاهِرِ التَّعْبِيرُ بِـ (ثُمَّ) وَأَمَّا الْمُحْتَمَلُ بِالْقَرِينَةِ، فَكَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ هَذَا عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، فَإِذَا انْقَرَضَ أَوْلَادِي فَهُوَ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِي، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا انْقَرَضَ أَوْلَادِي، قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَاوِ التَّرْتِيبَ. (فَائِدَةٌ) وَمِمَّا أَكَّدَ التَّرْتِيبَ فِي هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ تَعْبِيرُهُ أَوَّلًا بِـ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لِأَوْلَادِهِمْ ثُمَّ لِذُرِّيَّتِهِمْ، وَقَوْلُهُ: طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعَ التَّعْبِيرِ بِـ (ثُمَّ) تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا حَتَّى تَنْقَرِضَ جَمِيعُ الطَّبَقَةِ الْأُولَى، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الطَّبَقَاتِ كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا زِيَادَةُ لَفْظَةِ (أَبَدًا) فِي قَوْلِهِ: تَحْجُبُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِنْهُمْ أَبَدًا الطَّبَقَةَ السُّفْلَى، فَإِنَّهَا تُفِيدُ أَمْرَيْنِ: التَّأْبِيدَ وَالتَّأْكِيدَ، فَالتَّأْبِيدُ يُفِيدُ الِاطِّرَادَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ، فَلَا تَحْتَمِلُ الْجُمْلَةُ مَعَهُ التَّخْصِيصَ، بِخِلَافِ مَا سَقَطَتْ مِنْهُ، فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَالتَّأْكِيدُ يُفِيدُ دَفْعَ تَوَهُّمِ عَدَمِ الشُّمُولِ، فَيَثْبُتُ الشُّمُولُ الْمَقْصُودُ هُنَا وَهُوَ حَجْبُ كُلِّ أَعْلَى لِكُلِّ أَسْفَلَ شُمُولًا حَقِيقِيًّا لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَإِلَّا لَذَهَبَتْ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ. (فَائِدَةٌ) وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا تَنْصِيصُ الْوَاقِفِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَخِ الشَّقِيقِ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَابْنِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ، فَإِذَا كَانَ الْوَاقِفُ لَمْ يُعْطِ أَهْلَ الدَّرَجَةِ كُلَّهُمْ بَلْ خَصَّ مِنْهُمُ الْإِخْوَةَ وَلَمْ يُعْطِ الْإِخْوَةَ كُلَّهُمْ بَلْ قَدَّمَ الْأَخَ الشَّقِيقَ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ مَعَ أَنَّ أَبَاهُمَا وَاحِدٌ لِأَجْلِ زِيَادَةِ الْقُرْبِ بِالْأُمِّ، فَكَيْفَ يُعْطَى مَنْ لَهُ أَبٌ آخَرُ مَعَ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْ دَرَجَتِهِ، فَإِنْ تَمَسَّكَ مُتَمَسِّكٌ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ أُقِيمَ وَلَدُهُ مَقَامَهُ، قُلْنَا: يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَ الْأَخَ لِلْأَبِ مَعَ الْأَخِ الشَّقِيقِ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ بِهَذَا الْوَصْفِ فَيُقَامُ وَلَدُهُ مَقَامَهُ، فَإِنْ قَالَ فِي الْجَوَابِ: وَقَفْتُ مَعَ نَصِّ الْوَاقِفِ عَلَى تَقْدِيمِ الشَّقِيقِ وَقَدَّمْتُهُ عَلَى عُمُومِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، قُلْنَا لَهُ: فَقِفْ هُنَا مَعَ نَصِّ الْوَاقِفِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ إِلَى الْمُتَوَفَّى وَعَلَى حَجْبِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا لِلسُّفْلَى وَقَدِّمْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 عَلَى عُمُومِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، فَإِمَّا أَنْ تُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنْعِ، وَإِمَّا أَنْ تُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِعْطَاءِ، وَإِلَّا فَالْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ. تَقْرِيرٌ آخَرُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى: يُقَالُ لِلْمُتَمَسِّكِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ أُقِيمَ وَلَدُهُ مَقَامَهُ: الْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ " أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ نَصٌّ خَاصٌّ وَلَفْظٌ عَامٌّ، فَإِنَّهُ يُتَمَسَّكُ بِالنَّصِّ الْخَاصِّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ وَيُخَصُّ بِهِ عُمُومُ اللَّفْظِ، وَيَخْرُجُ مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ بِذَلِكَ النَّصِّ الْخَاصِّ، وَيَبْقَى بَقِيَّةُ الْعُمُومِ يُعْمَلُ بِهِ فِيمَا عَدَا تِلْكَ الصُّورَةِ، وَأَمَّا أَنْ يُلْغَى النَّصُّ الْخَاصُّ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُتَمَسَّكَ بِالْعُمُومِ عَلَى عُمُومِهِ فَهَذَا شَيْءٌ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، وَهَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، فِيهِ ثَلَاثَةُ نُصُوصٍ خَاصَّةٍ، أَحَدُهَا تَقْدِيمُ الْأَقْرَبِ إِلَى الْمُتَوَفَّى فَالْأَقْرَبُ مِنَ الْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِهِمْ، وَالثَّانِي تَقْدِيمُ الْإِخْوَةِ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَالثَّالِثُ تَقْدِيمُ الْأَخِ الشَّقِيقِ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَتَقْدِيمُ ابْنِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ نُصُوصٍ خَاصَّةٍ فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ يُتَمَسَّكُ بِهَا فِيهَا وَتَخُصُّ مِنْ عُمُومِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَلَا يُعْمَلُ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ إِلَّا فِيمَا عَدَا هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْخَاصَّةِ، فَلَا يُعْطَى ابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَلَا الْأَخُ لِلْأَبِ مَعَ الشَّقِيقِ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُمَا مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ عَاشَ لَاسْتَحَقَّ، وَلَا يَقُولُ قَائِلٌ: أُعْطِيهِمَا مَعَ الشَّقِيقِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ أُقِيمَ وَلَدُهُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مُخَرَّجَةٌ بِنَصٍّ يَخُصُّهَا، وَكَذَلِكَ لَا يُعْطَى سَائِرُ أَهْلِ الدَّرَجَةِ مَعَ الْإِخْوَةِ؛ تَمَسُّكًا بِذَلِكَ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُمْ مُخَرَّجُونَ بِنَصٍّ يَخُصُّهُمْ، وَكَذَلِكَ لَا يُعْطَى الْأَبْعَدُ مِنْ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ مَعَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْمُتَوَفَّى تَمَسُّكًا بِذَلِكَ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ مُخَرَّجٌ بِنَصٍّ يَخُصُّهُ، فَهَذِهِ الصُّوَرُ الثَّلَاثُ يُعْمَلُ بِنُصُوصِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا وَيُخَرَّجُ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ وَتَبْقَى بَقِيَّةُ ذَلِكَ الْعُمُومِ مَعْمُولًا بِهِ فِيمَا عَدَاهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْفَرَائِضِ] [ مسائل متفرقة ] بَابُ الْفَرَائِضِ مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ مَاتَ عَنْ بِنْتٍ وَابْنِ ابْنٍ، فَهَلْ يَكُونُ إِرْثُ الْبِنْتِ حِينَئِذٍ بِالْفَرْضِ أَوْ بِالتَّعْصِيبِ؟ الْجَوَابُ: بِالْفَرْضِ. مَسْأَلَةٌ: هُدَاةَ الدِّينِ أَعْلَامَ الْخِطَابِ ... وَفُرْسَانَ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ لَقَدْ بَعُدَتْ عَنِ الْإِفْهَامِ مِنَّا ... مُغْرِبَةٌ تُخَالُ مِنَ الْكِذَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 تَلَقَّى الْإِرْثَ أَرْبَعَةٌ وَأَفْضَوْا إِلَى قَسْمٍ يُعَدُّ مِنَ الْعُجَابِ ... فَأَوَّلُهُمْ مَضَى بِالثُّلْثِ حَظًّا وَثُلْثَ اللَّذْ بَقِي ثَانِي الصِّحَابِ ... وَثُلْثُ الْبَاقِي بَعْدَ الثَّانِي مَازُوا لِثَالِثِهِمْ، فَأَعْصَى لِلصَّوَابِ ... وَحَازَ الرَّابِعُ الْبَاقِي نَصِيبًا وَقَالُوا قَسْمُنَا وَفْقَ الْكِتَابِ ... وَأَشْكَلَ أَمْرُهُمْ جِدًّا عَلَيْنَا وَبِتْنَا مِنْهُ فِي تِيهِ ارْتِيَابِ ... فَهَلْ مِنْ كَاشِفٍ عَنَّا بِفَضْلٍ وَتِبْيَانٍ غَيَاهِيبَ الْحِجَابِ؟ ... وَهَلْ مِنْ عَالِمٍ يَشْفِي غَلِيلًا بِشَرْحِ الْحَالِ فِي ضِمْنِ الْجَوَابِ؟ ... يُجَازِيهِ الْإِلَهُ عَلَيْهِ خَيْرًا وَيَمْنَحُهُ الْجَزِيلَ مِنَ الثَّوَابِ ... بَقِيتُمْ لِلْوَرَى أَعْلَامَ رُشْدٍ هُدَاةً فِي الذِّهَابِ وَفِي الْإِيَابِ الْجَوَابُ: بِحَمْدِ اللَّهِ مُفْتَتَحُ الْكِتَابِ ... وَمُبْتَدَأُ الْمَسَائِلِ وَالْجَوَابِ وَتَسْلِيمٌ عَلَى الْهَادِي لِدِينٍ ... وَمَنْ أُوتِيَ الْبَلَاغَةَ فِي الْخِطَابِ جَوَابُكَ خُذْهُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ... وَلَا يُشْنِي بِشَكٍّ وَارْتِيَابِ لَئِنْ كَدَّرْتَ فَهْمَكَ فِيهِ لَمَّا ... عَيِيتَ لَقَدْ تَبَيَّنَ بِاقْتِرَابِ فَزَوْجٌ، ثُمَّ أُمٌّ، ثُمَّ جَدٌّ ... وَأُخْتٌ لَا لِأُمٍّ فِي انْتِسَابِ لَهَا كَالزَّوْجِ نِصْفٌ، ثُمَّ سُدْسٌ ... لِجَدٍّ ثُلْثُ أُمٍّ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّ الْأَصْلَ سِتٌّ، ثُمَّ عَالَتْ ... لِتِسْعٍ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحِسَابِ وَمِنْ سَبْعٍ تَلِي عِشْرِينَ صَحَّتْ ... ، فَتِسْعُ الزَّوْجِ ثُلْثٌ لِاكْتِسَابِ وَسِتُّ الْأُمِّ ثُلْثُ الْبَاقِي قَطْعًا ... وَرُبْعُ الْأُخْتِ ثُلْثٌ فِي اعْتِقَابِ وَبَاقِيهَا ثَمَانِيَةٌ لِجَدٍّ ... ، فَخُذْ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى الصَّوَابِ وَنَاظِمُهُ ابن الأسيوطي يَرْجُو ... مِنَ الرَّحْمَنِ عَفْوًا فِي الْمَآبِ مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ زَوْجَةً وَأَخًا وَمِائَةً وَخَمْسِينَ دِينَارًا، فَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ دَيْنًا مِائَةَ دِينَارٍ وَصَدَّقَهَا الْأَخُ وَقَبَضَتْهَا، ثُمَّ اقْتَسَمَا الْبَاقِيَ، فَجَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَى بِمِائَةِ دِينَارٍ وَصَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ دُونَ الْأَخِ، فَمَاذَا يُعْطَى؟ . الْجَوَابُ: إِنَّهُ يَأْخُذُ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ دِينَارًا وَنِصْفًا، وَالْأَخُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالزَّوْجَةُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَخَ لَوْ صَدَّقَهُ أَيْضًا لَقُسِّمَتِ الْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوْجَةِ، فَيَأْخُذُ كُلٌّ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، فَإِذَا صَدَّقَتِ الزَّوْجَةُ فَقَطْ أَخَذَتْ مَا كَانَتْ تَأْخُذُهُ حَالَ تَصْدِيقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الْأَخِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهَا يَسْرِي فِي الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يُؤْخَذُ مِنْ حِصَّتِهَا وَيَلْغُو فِي حِصَّةِ الْأَخِ، فَكَأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِمَّا فِي يَدِهَا سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ وَنِصْفًا، خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مِنَ الدَّيْنِ، وَالِاثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ حِصَّةُ الْإِرْثِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقَدْرَ الَّذِي أَخَذَهُ الْأَخُ بِكَمَالِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي جَانِبِ الْأَخِ وَيُقْبَلُ فِي جَانِبِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَضُرَّ بِأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى مَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهَا لَوْ صَدَّقَ الْأَخُ. [الْبَدْرُ الَّذِي انْجَلَى فِي مَسْأَلَةِ الْوَلَا] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَقَعَ السُّؤَالُ عَنِ امْرَأَةٍ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتِ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ وَتَرَكَ ابْنَ عَمٍّ لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ، فَهَلْ يَرِثُهُ ابْنُ عَمِّ ابْنِ الْمُعْتِقَةِ؟ وَذَكَرَ السَّائِلُ - وَهُوَ الشَّيْخُ بدر الدين المارديني فَرْضِيُّ هَذَا الْوَقْتِ - أَنَّ الْمُفْتِينَ فِي عَصْرِنَا اخْتَلَفُوا فِي هَذَا، فَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِإِرْثِهِ وَبَعْضُهُمْ بِعَدَمِ إِرْثِهِ، وَسَأَلَنِي الشَّيْخُ بدر الدين مَنِ الْمُصِيبُ، وَهَلْ تَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ أَحَدٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ؟ فَأَجَبْتُ بِأَنَّ الصَّوَابَ مَعَ مَنْ أَفْتَى بِعَدَمِ إِرْثِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَمُقْتَضَى نُصُوصِ الْأَصْحَابِ قَاطِبَةً، ثُمَّ وَجَدْتُ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ عَقَدْتُ هَذِهِ الْكُرَّاسَةَ لِبَيَانِهَا وَسَمَّيْتُهَا: الْبَدْرُ الَّذِي انْجَلَى فِي مَسْأَلَةِ الْوَلَا، فَأَقُولُ: أَمَّا بَيَانُ كَوْنِهِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» ) هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ عُمْدَةُ الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ، حَيْثُ شَبَّهَ الْوَلَاءَ بِالنَّسَبِ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِخُصُوصِهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَبَّهَ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَجَعَلُوا الْوَلَاءَ دُونَ النَّسَبِ فِي الْقُوَّةِ، قَالَ السبكي: شَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَاءَ بِالنَّسَبِ، وَالْمُشَبَّهُ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ يَرِثُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُؤَدِّي إِلَى زِيَادَةِ الْوَلَاءِ عَلَى النَّسَبِ فِي الْقُوَى؛ لِأَنَّ ضَابِطَ الَّذِي يَرِثُ بِالْوَلَاءِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ يَوْمَ مَوْتِ الْعَتِيقِ وَرِثَهُ، وَالْمَرْأَةُ لَوْ مَاتَتْ وَابْنُ عَمِّ وَلَدِهَا مَوْجُودٌ لَمْ يَرِثْهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَتَوْرِيثُهُ بِالْوَلَاءِ مَعَ عَدَمِ تَوْرِيثِهِ بِالنَّسَبِ تَقْوِيَةٌ لِلْوَلَاءِ عَلَى النَّسَبِ وَهُوَ خِلَافُ مَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْأَدِلَّةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِالْوَلَاءِ إِلَّا عَصَبَةُ الْمُعْتِقِ، وَلِهَذَا لَمْ يَرِثْ إِلَّا أَصْحَابُ الْفُرُوضِ، وَعَصَبَةُ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ لَيْسُوا عَصَبَةً لِلْمُعْتِقِ، فَلَمْ يَدْخُلُوا تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ، وَأَمْرٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْأَدِلَّةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ، قَالَ ابن الصباغ فِي الشَّامِلِ: لَوْ كَانَ الْوَلَاءُ يُورَثُ لَكَانَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ يَرِثَانِهِ، وَقَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَرِثَانِ الْوَلَاءَ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ: أَصْلُ الْبَابِ أَنَّ عَصَبَةَ الْمُعْتِقِ لَا يَرِثُونَ الْوَلَاءَ كَمَا يَرِثُونَ الْأَمْلَاكَ وَحُقُوقَهَا وَإِنَّمَا يَرِثُونَ بِالْوَلَاءِ بِانْتِسَابِهِمْ إِلَى الْمُعْتِقِ، فَمُقْتَضَى الْعُصُوبَةِ الْمَحْضَةِ تَقْتَضِي تَوْرِيثَهُمْ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ الْوَلَاءَ أَنَّ الْوَلَاءَ لَوْ كَانَ مَوْرُوثًا لَاقْتَضَى الْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ بِالْإِرْثِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَقَالَ الرافعي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» " مَعْنَاهُ: قَرَابَةٌ وَامْتِشَاجٌ كَامْتِشَاجِ النَّسَبِ، وَقَوْلُهُ: " «لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» " يَعْنِي أَنَّ نَفْسَ الْوَلَاءِ لَا يُنْقَلُ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا أَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تُنْقَلُ، وَيُرْوَى النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُورَثُ الْوَلَاءُ، لَكِنْ يُورَثُ بِهِ كَمَا أَنَّ النَّسَبَ لَا يُورَثُ وَيُورَثُ بِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَلَاءُ مَوْرُوثًا لَاشْتَرَكَ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. انْتَهَى كَلَامُ الرافعي، وَإِذَا لَمْ يُورَثِ الْوَلَاءُ لَمْ يَرِثْ عَصَبَةُ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ عَصَبَةَ الْمُعْتِقِ إِنَّمَا وَرِثُوا بِقَرَابَتِهِمْ مِنَ الْمُعْتِقِ لَا بِإِرْثِهِمُ الْوَلَاءَ الَّذِي كَانَ لِلْمُعْتِقِ، وَعَصَبَةُ الْعَصَبَةِ لَيْسُوا بِأَقَارِبِ الْمُعْتِقِ وَلَا وَرِثُوا الْوَلَاءَ مِنَ الْعَصَبَةِ، فَلَمْ يَرِثُوا بِهِ شَيْئًا. هَذَا مُقْتَضَى الدَّلِيلِ. وَأَمَّا بَيَانُ كَوْنِ ذَلِكَ مُقْتَضَى نُصُوصِ الصِّحَابِ، فَمِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: إِطْبَاقُ الْأَصْحَابِ عَلَى قَوْلِهِمْ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْمُعْتِقُ، فَالِاسْتِحْقَاقُ لِعَصَبَاتِهِ مِنَ النَّسَبِ الَّذِينَ يُعَصَّبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ أَحَدٌ، فَالْمَالُ لِمُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، ثُمَّ لِعَصَبَاتِهِ، ثُمَّ لِمُعْتِقِ مُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، وَهَكَذَا، فَجَعْلُهُمُ الْمَالَ بَعْدَ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ لِمُعْتِقِ الْمُعْتِقِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّ عَصَبَةَ الْعَصَبَةِ لَا يَرِثُونَ شَيْئًا، وَإِلَّا لَقَالُوا: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ أَحَدٌ فَلِعَصَبَةِ عَصَبَتِهِ، فَكَانُوا يَذْكُرُونَ عَصَبَةَ الْعَصَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرُوا مُعْتِقَ الْمُعْتِقِ، وَلَا يَتَخَيَّلُ مُتَخَيَّلٌ دُخُولَ عَصَبَةِ الْعَصَبَةِ فِي لَفْظِ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ بِحَالٍ، لَا مَعْنًى وَلَا لَفْظًا، وَكَيْفَ يُتَخَيَّلُ ذَلِكَ وَعَصَبَةُ الْعَصَبَةِ لَيْسُوا بِعَصَبَةٍ لِلْمُعْتِقِ، بَلْ هُمْ مِنْهُ أَجَانِبُ مَحْضٌ، وَإِذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ لَمْ يَرَوُا الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْمُعْتِقِ حَتَّى تَعَرَّضُوا لِمُعْتِقِ مُعْتِقِ الْمُعْتِقِ وَمَنْ فَوْقَهُ، مُصَرِّحِينَ بِتَأْخِيرِهِمْ عَنْ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ إِرْثُ عَصَبَةِ الْعَصَبَةِ قَبْلَ مُعْتِقِ الْمُعْتِقِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضِهِمْ لَهُ وَلَا تَصْرِيحِهِمْ بِهِ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا عِبَارَةُ الرافعي حَيْثُ قَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُعْتِقُ حَيًّا وَرِثَ بِوَلَائِهِ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهِ وَلَا يَرِثُ أَصْحَابُ الْفُرُوضِ وَلَا الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ بِغَيْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ مِنَ النَّسَبِ، فَالْمِيرَاثُ لِمُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِعَصَبَاتِ مُعْتِقِ الْمُعْتِقِ، وَهَكَذَا، فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ مِنَ النَّسَبِ تَجِدُهُ صَرِيحًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 فَابْنُ عَمِّ الْوَلَدِ لَيْسَ عَصَبَةً لِلْمُعْتِقَةِ وَلَا نَسِيبًا لَهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُ الرافعي: لِلْأَصْحَابِ عِبَارَةٌ ضَابِطَةٌ لِمَنْ يَرِثُ بِوَلَاءِ الْمُعْتِقِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُعْتِقُ حَيًّا، وَهِيَ أَنَّهُ يَرِثُ الْعَتِيقَ بِوَلَاءِ الْمُعْتِقِ ذَكَرٌ يَكُونُ عَصَبَةً لِلْمُعْتِقِ لَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ يَوْمَ مَوْتِ الْعَتِيقِ بِصِفَتِهِ، وَهَذَا الضَّابِطُ يَخْرُجُ عَنْهُ عَصَبَةُ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ مَاتَتْ وَابْنُ عَمِّ وَلَدِهَا مَوْجُودٌ لَمْ يَرِثْهَا إِجْمَاعًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الرافعي: وَلَا مِيرَاثَ لِغَيْرِ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ إِلَّا لِمُعْتِقِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَصَبَةَ الْعَصَبَةِ غَيْرُ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ، فَدَخَلُوا فِي هَذَا النَّفْيِ، وَعِبَارَةُ الْبَغَوِيِّ فِي التَّهْذِيبِ: وَلَا مِيرَاثَ لِمُعْتِقِ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ إِلَّا لِمُعْتِقِ أَبِيهِ أَوْ لِمُعْتِقِ جَدِّهِ وَإِنْ عَلَا، وَكَذَلِكَ مُعْتِقُ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ لَا يَرِثُ إِلَّا مُعْتِقُ أَبِي الْمُعْتِقِ أَوْ مُعْتِقُ جَدِّهِ، فَإِنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَعَلَى أَوْلَادِ بَنِيهِ وَإِنْ سَفَلُوا، هَذِهِ عِبَارَةُ الْبَغَوِيِّ فِي التَّهْذِيبِ، فَانْظُرْ كَيْفَ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْمِيرَاثِ عَنْ مُعْتِقِ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ، وَمَعْنَى الْعَصَبَةِ مِنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِ عَصَبَةِ الْعَصَبَةِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ بِهَذَا التَّصْرِيحِ فَكَذَلِكَ بَاقِي عَصَبَةِ الْعَصَبَةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمُعْتِقِ، فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُعْتِقِ وَالنَّسَبِ، وَإِنَّمَا وَرِثَ مُعْتِقُ الْأَبِ وَالْجَدِّ بِالِانْجِرَارِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى الْأَحْفَادِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا هَذَا التَّصْرِيحُ مِنَ الْبَغَوِيِّ لَكَانَ كَافِيًا، هَذَا بَعْضُ مَا اقْتَضَتْهُ نُصُوصُ الْأَصْحَابِ. وَأَمَّا التَّصْرِيحُ، فَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَا نَصُّهُ: وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَةً وَمَاتَ الْمُعْتِقُ عَنِ ابْنٍ وَالِابْنُ عَنْ أَخٍ لِأُمِّهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ، فَالْمِيرَاثُ لِعَصَبَةِ الْمُعْتِقِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ لِلْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْمُعْتِقِ قَالَ: وَكَذَا لَوْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ أَخٌ لِأُمِّهِ لَمْ يَرِثْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ لَهُ، هَذِهِ عِبَارَةُ الْمُحِيطِ، فَانْظُرْ كَيْفَ عَلَّلَ الْأَوَّلَ بِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمُعْتِقِ، وَلَمْ يُعَلِّلْهُ بِكَوْنِهِ صَاحِبَ فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ كَمَا عَلَّلَ بِذَلِكَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَدَلَّ بِفَرْقِهِ بَيْنَ التَّعْلِيلَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ إِذَا كَانُوا أَجَانِبَ مِنَ الْمُعْتِقِ عَصَبَةً كَانُوا أَوْ أَصْحَابَ فَرْضٍ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ عِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السرخسي مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الْمَبْسُوطِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ الْأَمَةَ، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ وَتَرَكَ أَخًا مِنْ أُمِّهِ، ثُمَّ مَاتَتِ الْأَمَةُ، فَمِيرَاثُهَا لِعَصَبَةِ الْمُعْتِقِ وَلَيْسَ لِلْأَخِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ وَأَخُو ابْنِ الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْمُعْتِقِ، وَكَذَا أَخُو الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ لَهُ إِنَّمَا هُوَ صَاحِبُ فَرِيضَةٍ، وَلَا يُخْلِفُ الْمُعْتَقَ فِي مِيرَاثِ مُعْتِقٍ إِلَّا مَنْ كَانَ عَصَبَةً لَهُ، هَذِهِ عِبَارَتُهُ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذِهِ كُلُّهَا عُلَالَاتٌ وَاحْتِمَالَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِنَقْلٍ صَرِيحٍ وَإِلَّا لَمْ نَقْبَلْ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْتَ. قُلْتُ: اسْمَعْ يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ، أَنَا عَادَتِي فِي التَّقْرِيرِ أَنْ أَبْدَأَ أَوَّلًا بِالْإِخْفَاءِ، ثُمَّ أَنْتَقِلَ إِلَى الْإِجْلَاءِ وَآتِيَ بِالْمُحْتَمَلَاتِ، ثُمَّ أُثَنِّيَ بِالدَّامِغَاتِ فَأَكْسِرَ بِهَا رُؤُوسًا وَأُحْيِيَ بِهَا نُفُوسًا، فَأَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 دِينِ اللَّهِ بِمَا تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى نُقُولِ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا كَانَ النَّاسُ الْآنَ لَا يَعْتَمِدُونَ فَتْوَى الْمُجْتَهِدِ بِاجْتِهَادِهِ وَاسْتِنْبَاطِهِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مَقْبُولًا شَرْعًا لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَدِلَّةٍ وَحُجَجٍ، وَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ مَنْقُولًا فِي الْمَذْهَبِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لِمَنْ لَيْسَ مُجْتَهِدًا أَنْ يُفْتِيَ بِغَيْرِ نَقْلٍ وَلَا اسْتِنَادٍ إِلَى حُجَّةٍ؟ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَنْقُولَةٌ فِي الْحَاوِي الْكَبِيرِ لِلْمَاوَرْدِيِّ وَعِبَارَتُهُ: فَلَوْ أَعْتَقَتِ امْرَأَةٌ عَبْدًا وَمَاتَتْ وَخَلَّفَتِ ابْنًا وَأَخًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ، كَانَ وَلَاؤُهُ لِلِابْنِ دُونَ الْأَخِ، وَلَوْ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِ الْعَبْدِ وَخَلَّفَ عَمًّا وَخَالًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ كَانَ وَلَاؤُهُ لِخَالِهِ دُونَ عَمِّهِ؛ لِأَنَّ الْخَالَ أَخُو الْمُعْتِقَةِ وَالْعَمَّ أَجْنَبِيٌّ مِنْهَا، هَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مَوْرُوثًا يُجْعَلُ الْوَلَاءُ لِعَمِّ الِابْنِ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمُعْتِقَةِ دُونَ الْخَالِ وَإِنْ كَانَ أَخَاهَا؛ لِانْتِقَالِ مَالِهِ إِلَى عَمِّهِ دُونَ خَالِهِ، وَقَدْ بَسَطَ السبكي الْمَسْأَلَةَ بَسْطًا شَافِيًا فِي كِتَابِهِ الْغَيْثِ الْمُغْدِقِ، فَقَالَ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، وَهِيَ إِذَا مَاتَتِ الْمُعْتَقَةُ وَخَلَّفَتِ ابْنًا وَأَخَاهَا، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهَا وَتَرَكَ عَصَبَتَهُ كَأَعْمَامِهِ وَبَنِي عَمِّهِ، ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ وَتَرَكَ أَخَا مَوْلَاتِهِ وَعَصَبَةَ ابْنِهَا، فَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ مِيرَاثَهُ لِأَخِي مَوْلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ، فَإِنِ انْقَرَضَ عَصَبَتُهَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ أَحَقَّ بِهِ مِنْ عَصَبَةِ ابْنِهَا، وَبِهِ قَالَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وعطاء وطاووس وَالزُّهْرِيُّ وقتادة وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ علي أَنَّهُ لِعَصَبَةِ الِابْنِ، رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عمر وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَبِهِ قَالَ شريح، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْوَلَاءَ يُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْمَالُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أحمد نَحْوُ هَذَا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ، وَإِنَّمَا هُوَ بَاقٍ لِلْمُعْتِقِ يَرِثُ بِهِ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَصَبَاتِهِ لَمْ يَرِثْ شَيْئًا، وَعَصَبَاتُ الِابْنِ غَيْرُ عَصَبَاتِ أُمِّهِ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ غَلَطٌ، قَالَ حميد: النَّاسُ يُغَلِّطُونَ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ السبكي هُنَا. فَانْظُرْ كَيْفَ صَرَّحَ بِأَنَّ عَدَمَ الْإِرْثِ هُوَ قَوْلُ مالك وَالشَّافِعِيِّ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أحمد، ثُمَّ قَالَ السبكي بَعْدَ ذَلِكَ: اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ وَلَا خِلَافَ عِنْدَنَا فِيهِ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عمر وعلي وزيد وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَبِهِ قَالَ عطاء وَسَالِمُ بن عبد الله والحسن وابن سيرين وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخْعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وقتادة وَأَبُو الزِّنَادِ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وإسحاق وَأَبُو ثَوْرٍ وداود، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وَحَكَى الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ عَنْ طَاوُوسٍ أَيْضًا، وَشَذَّ شريح فَقَالَ: الْوَلَاءُ كَالْمَالِ يُورَثُ عَنِ الْمُعْتِقِ، فَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا حَيَاتَهُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ، وَحَكَى القاضي حسين وَغَيْرُهُ ذَلِكَ عَنْ طَاوُوسٍ أَيْضًا، وَنَقَلَهُ ابن المنذر عَنِ الزبير - يعني ابن العوام - وَرَوَاهُ حنبل ومحمد بن الحكم عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَلَّطَهُمَا أبو بكر وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ - هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ السبكي، فَانْظُرْ كَيْفَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَنَا فِي أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ، وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْ مَذْهَبِ مالك وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمَا خِلَافًا، وَجَعَلَهُ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ أحمد، فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَفْتَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْإِرْثِ كَانَ مُخَالِفًا لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ: الثَّلَاثَةِ بِاتِّفَاقٍ، وأحمد عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْمَاوَرْدِيِّ: فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مَوْرُوثًا، يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ مَنْ شَذَّ كشريح وَنَحْوِهِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ رَاجَعْتُ سُنَنَ الْبَيْهَقِيِّ، فَوَجَدْتُهُ رَجَّحَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ، وَعَقَدَ بَابًا احْتَجَّ لَهُ فِيهِ بِحَدِيثٍ وَآثَارٍ، ثُمَّ عَقَدَ بَابًا ثَانِيًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَلَاءَ يُورَثُ، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَضَعَّفَهُ، ثُمَّ تَأَوَّلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ، وَرَوَى فِيهِ الرِّوَايَةَ الْمَعْزُوَّةَ إِلَى عَلِيٍّ وَخَطَّأَهَا مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادُ، ثُمَّ رَوَى عَنْهُ مُوَافِقَةَ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ رَوَى عَنِ الزبير الرِّوَايَةَ الْمَعْزُوَّةَ إِلَيْهِ وَتَأَوَّلَهَا، ثُمَّ رَوَى عَنِ ابن الزبير أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ، قَالَ عطاء: فَعِيبَ ذَلِكَ عَلَى ابن الزبير، وَقَالَ محمد بن زيد بن المهاجر: لَمَّا قَضَى بِهِ ابن الزبير سَمِعْتُ القاسم بن محمد يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْوَلَاءَ لَيْسَ بِمَالٍ مَوْضُوعٍ يَرِثُهُ مَنْ وَرِثَهُ، إِنَّمَا الْمَوْلَى عَصَبَةٌ. وَهَا أَنَا أَسُوقُ مَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَابَيْنِ، ثُمَّ أَرْتَقِي إِلَى جَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مُسْنَدًا مُخَرَّجًا لِيُسْتَفَادَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَابُ الْوَلَاءِ لِلْكُبْرِ مِنْ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْهُمْ بِالْمُعْتِقِ إِذَا كَانَ قَدْ مَاتَ الْمُعْتِقُ، ثُمَّ أَخْرَجَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ العاص بن هشام هَلَكَ وَتَرَكَ بَنِينَ لَهُ ثَلَاثَةً، اثْنَانِ لِأُمٍّ وَرَجُلٌ لِعَلَّةٍ، فَهَلَكَ أَحَدُ اللَّذَيْنِ لِأُمٍّ وَتَرَكَ مَالًا وَمَوَالِيَ، فَوَرِثَهُ أَخُوهُ الَّذِي لِأُمِّهِ وَأَبِيهِ مَالَهُ وَوَلَاءَ مَوَالِيهِ، ثُمَّ هَلَكَ الَّذِي وَرِثَ الْمَالَ وَوَلَاءَ الْمَوَالِي وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَخَاهُ لِأَبِيهِ، فَقَالَ ابْنُهُ: قَدْ أَحْرَزْتُ مَا كَانَ أَبِي أَحْرَزَ مِنَ الْمَالِ وَوَلَاءِ الْمَوَالِي، وَقَالَ أَخُوهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا أَحْرَزْتَ الْمَالَ، فَأَمَّا الْمَوَالِي فَلَا، أَرَأَيْتَ لَوْ هَلَكَ أَخِي الْيَوْمَ أَلَسْتُ أَرِثُهُ أَنَا، فَاخْتَصَمَا إِلَى عثمان فَقَضَى لِأَخِيهِ بِوَلَاءِ الْمَوَالِي، وَأَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عمر وعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: الْوَلَاءُ لِلْكُبْرِ، وَأَخْرَجَ عَنِ النَّخْعِيِّ أَنَّ عليا وعبد الله وزيدا قَالُوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الْوَلَاءُ لِلْكُبْرِ، وَأَخْرَجَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا أَعْتَقَتِ الْمَرْأَةُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، فَهَلَكَتْ وَتَرَكَتْ وَلَدًا ذَكَرًا، فَوَلَاءُ ذَلِكَ الْمَوْلَى لِوَلَدِهَا مَا كَانُوا ذُكُورًا، فَإِذَا انْقَطَعَتِ الذُّكُورُ رَجَعَ الْوَلَاءُ إِلَى أَوْلِيَائِهَا، وَقَالَ شريح: يَمْضِي الْوَلَاءُ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا يَمْضِي الْمِيرَاثُ وَلَكِنْ لَا يُوَرَّثُ الْوَلَاءُ أُنْثَى إِلَّا شَيْئًا أَعْتَقَتْهُ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مالك فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عبد الله بن أبي بكر أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ جُهَيْنَةَ وَنَفَرٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ، فَمَاتَتِ الْمَرْأَةُ وَتَرَكَتْ مَالًا وَمَوَالِيَ، فَوَرِثَهَا ابْنُهَا وَزَوْجُهَا، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهَا، فَقَالَ وَرَثَةُ ابْنِهَا: لَنَا وَلَاءُ الْمَوَالِي قَدْ كَانَ ابْنُهَا أَحْرَزَهُ، وَقَالَ الْجُهَنِيُّونَ: لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُمْ مَوَالِي صَاحِبَتِنَا، فَإِذَا مَاتَ وَلَدُهَا فَلَنَا وَلَاؤُهُمْ وَنَحْنُ نَرِثُهُمْ، فَقَضَى أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ لِلْجُهَنِييِّنَ بِوَلَاءِ الْمَوَالِي، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ يُؤَكِّدُ مَا مَضَى مِنَ الْآثَارِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يونس عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمَوْلَى أَخٌ فِي الدِّينِ وَنِعْمَةٌ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِمِيرَاثِهِ أَقْرَبُهُمْ مِنَ الْمُعْتِقِ» "، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَابُ مَنْ قَالَ: مَنْ أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ، وَأَخْرَجَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رأب بن حذيفة تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَوَلَدَتْ لَهُ ثَلَاثَةَ غِلْمَةٍ، فَوَرِثُوا رِبَاعَهَا وَوَلَاءَ مَوَالِيهَا، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَصَبَةَ بَنِيهَا، فَأَخْرَجَهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَمَاتُوا، فَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَمَاتَ مَوْلًى لَهَا وَتَرَكَ مَالًا، فَخَاصَمَهُ إِخْوَتُهَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عمر: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا أَحْرَزَ الْوَلَدُ أَوِ الْوَالِدُ، فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ» " قَالَ: فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا فِيهِ شَهَادَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَرَجُلٍ آخَرَ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عبد الملك اخْتَصَمُوا إِلَى هشام بن إسماعيل أَوْ إِلَى إسماعيل بن هشام، فَرَفَعَهُمْ إِلَى عبد الملك، فَقَالَ: هَذَا مِنَ الْقَضَاءِ الَّذِي مَا كُنْتُ أَرَاهُ، فَقَضَى لَنَا بِكِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَنَحْنُ فِيهِ إِلَى السَّاعَةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، قَالَ: وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُمَا قَالَا: الْوَلَاءُ لِلْكُبْرِ، وَمُرْسَلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عمر أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِيهِ، فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ يزيد بن هارون: أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وشريك عَنْ عمران بن مسلم بن رباح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عليا يَقُولُ: الْوَلَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ النَّسَبِ، فَمَنْ أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ فَقَدْ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا وَجَدْتُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَكَانَ يَزِيدُ حَمَلَ رِوَايَةَ الثَّوْرِيِّ عَلَى رِوَايَةِ شريك، وشريك وَهِمَ فِيهِ وَإِنَّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ سليمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْوَلَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الرِّقِّ مَنْ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مسعر عَنْ عمران، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَنْ كَانَ لَهُ الْوَلَاءُ كَانَ لَهُ الْمِيرَاثُ بِالْوَلَاءِ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: الْوَلَاءُ لِلَّذِي يَحُوزُ الْمِيرَاثَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الَّذِي يَحُوزُ الْمِيرَاثَ وَهُوَ الْعَصَبَةُ الَّذِي يَأْخُذُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ بِالْوَلَاءِ دُونَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ محمد بن زيد بن المهاجر أَنَّهُ حَضَرَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وطلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ إِلَى ابن الزبير فِي مِيرَاثِ أبي عمرو مولى عائشة، وَكَانَ عبد الله وَرِثَ عائشة دُونَ القاسم؛ لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ أَخَاهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَكَانَ محمد أَخَاهَا لِأَبِيهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ عبد الله، فَوَرِثَهُ ابْنُهُ طلحة، ثُمَّ تُوفِّيَ أبو عمرو، فَقَضَى بِهِ عبد الله بن الزبير لطلحة، قَالَ: فَسَمِعْتُ القاسم بن محمد يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْوَلَاءَ لَيْسَ بِمَالٍ مَوْضُوعٍ يَرِثُهُ مَنْ وَرِثَهُ، إِنَّمَا الْمَوْلَى عَصَبَةٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَى ابْنُ جُرَيْحٍ عَنْ عطاء تَوْرِيثَ ابن الزبير ابن عبد الله بن عبد الرحمن دُونَ القاسم، قَالَ عطاء: فَعِيبَ ذَلِكَ عَلَى ابن الزبير، هَذَا مَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَدْ عَقَدَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بَابًا لِذَلِكَ، فَأَخْرَجَ فِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ شريح: مَنْ مَلَكَ شَيْئًا حَيَاتَهُ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ وعبد الله وزيد: الْوَلَاءُ لِلْكُبْرِ، وَأَخْرَجَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عمر وعليا وَابْنَ مَسْعُودٍ وزيدا كَانُوا يَجْعَلُونَ الْوَلَاءَ لِلْكُبْرِ، وَأَنَّ شريحا كَانَ يَقُولُ: الْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ يَجْرِي مَجْرَى الْمِيرَاثِ. وَرَوَى محمد بن الحسن صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَصْلِ عَنْ يعقوب عَنِ الحسن بن عمارة عَنِ الحكم عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وأبي مسعود الأنصاري وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْوَلَاءُ لِلْكُبْرِ، وَرَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حماد عَنْ إبراهيم مِثْلَهُ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ وَقَوْلُ أبي يوسف ومحمد، ثُمَّ رَوَى عَنْ يعقوب عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إبراهيم عَنْ شريح أَنَّهُ قَالَ: الْوَلَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ، قَالَ: وَلَيْسَ يَأْخُذُ بِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا أبو يوسف ومحمد. (فَائِدَةٌ) قَوْلُهُمُ: الْوَلَاءُ لِلْكُبْرِ، هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ: أَكْبَرُ الْجَمَاعَةِ، وَمَعْنَاهُ هُنَا الْأَقْعَدُ بِالنَّسَبِ، كَذَا فِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ وَنِهَايَةِ ابن الأثير وَذَكَرَهُ الزركشي فِي شَرْحِ الْجَعْبَرِيَّةِ وَزَادَ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَكْبَرَ فِي السِّنِّ، وَقَالَ الحيري فِي التَّلْخِيصِ: مَعْنَى قَوْلِهِمُ: الْوَلَاءُ لِلْكُبْرِ؛ أَيْ هُوَ لِأَقْرَبِ عَصَبَاتِ الْمَوْلَى يَوْمَ يَمُوتُ الْعَبْدُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 مُدْرَكٌ آخَرُ: قَالَ السبكي: الْأَصْحَابُ كُلُّهُمْ مُصَرِّحُونَ - الشيخ أبو حامد وَغَيْرُهُ - بِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَنْتَقِلُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ، وَلَكِنْ هَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ بِنَفْسِ الْعِتْقِ ثَبَتَ لِلْمُعْتِقِ وَجَمِيعِ عَصَبَاتِهِ؟ أَوْ ثَبَتَ لِلْمُعْتِقِ فَقَطْ وَبَعْدَهُ يَثْبُتُ لِعَصَبَاتِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الْإِرْثِ، بَلْ عَلَى جِهَةِ أَنَّ ثُبُوتَهُ لَهُمْ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ، يُخَرَّجُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالصَّحِيحُ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَاءِ بِالنَّسَبِ أَنَّهُ بِنَفْسِ الْعِتْقِ ثَبَتَ لِلْجَمِيعِ فِي حَيَاةِ الْمُعْتِقِ، قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهُ عَتِيقًا لِلسَّيِّدِ يُثْبِتُ نَسَبَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَصَبَتِهِ حِسًّا، فَإِنَّا نَقُولُ: عَتِيقُ ابْنِ عَمِّ فُلَانٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَمَّا ثُبُوتُ هَذِهِ النِّسْبَةِ شَرْعًا، فَالْحَدِيثُ يَقْتَضِيهَا وَتَوْقِيفُهَا عَلَى مَوْتِ الْمُعْتِقِ بَعِيدٌ وَإِنْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَةُ مَا لَوْ أَعْتَقَ كَافِرٌ عَبْدًا مُسْلِمًا وَلِلْمُعْتِقِ ابْنٌ مُسْلِمٌ، ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ فِي حَيَاةِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْأَرْجَحِ، لَا لِبَيْتِ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ لِلْعَصَبَةِ فِي حَيَاةِ الْمُعْتِقِ، وَمُقَابِلُهُ رَأْيٌ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ، وَالْمُعْتِقُ قَامَ بِهِ مَانِعُ الْكُفْرِ فَانْتَقَلَ إِرْثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَيُوَافِقُ الْأَوَّلُ قَوْلَ الرافعي فِي الْوَصَايَا فِيمَا إِذَا أَعْتَقَ مَرِيضٌ عَبْدًا، ثُمَّ قَتَلَهُ السَّيِّدُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ السَّيِّدُ مِنْ دِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ، بَلْ إِنْ كَانَ لَهُ وَارْثٌ أَقْرَبُ مِنْ سَيِّدِهِ، فَهِيَ لَهُ وَإِلَّا فَلِأَقْرَبِ عَصَبَاتِ السَّيِّدِ. انْتَهَى. إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ نَشَأَ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ، أَعْنِي كَوْنَهُ لَا يَنْتَقِضُ، وَكَوْنَهُ يَثْبُتُ لِلْعَصَبَةِ فِي حَيَاةِ الْمُعْتِقِ أَنَّ عَصَبَةَ الْعَصَبَةِ لَا يَرْثُونَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهِ لِمَنْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْمُعْتِقِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَقْلِهِ، فَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ مِنْهُ شَيْئًا. عُودٌ إِلَى بَدْءٍ فِي نُقُولٍ أُخْرَى مُصَرِّحَةٍ مِنْ كُتُبِ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، قَالَ الحيري مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ التَّلْخِيصِ فِي الْفَرَائِضِ: إِذَا مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ عَبْدِهِ لَمْ يَنْتَقِلِ الْوَلَاءُ إِلَى عَصَبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَقَالَ شريح وأحمد: هُوَ مَوْرُوثٌ كَمَا يُورَثُ الْمَالُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ فَتَرَكَتِ ابْنًا وَأَخًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، فَمَالُهُ لِابْنِ مَوْلَاتِهِ، فَإِنْ تَرَكَ ابْنُهَا أَبَاهُ أَوْ عَمَّهُ أَوِ ابْنَ عَمِّهِ، فَأَخُو الْمَرْأَةِ أَحَقُّ مِنْ عَصَبَةِ ابْنِهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ عمر وعلي وشريح وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ والحسن وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: عَصَبَةُ ابْنِهَا أَوْلَى، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ عبد الله، وَكَذَلِكَ إِنْ مَاتَ أَخُو الْمَرْأَةِ وَخَلَّفَ ابْنًا، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ عَصَبَةِ الِابْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ عَصَبَةُ الِابْنِ أَوْلَى. انْتَهَى. وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي عِبَارَةِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَتِلْكَ أَصْرَحُ، حَيْثُ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْوَلَاءَ مَوْرُوثًا، وَفِي الْأَصْلِ لمحمد بن الحسن صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا نَصُّهُ: وَإِذَا أَعْتَقَتِ الْمَرْأَةُ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتِ ابْنَهَا وَأَخَاهَا، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهَا وَتَرَكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أَخَاهُ لِأَبِيهِ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ، فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِأَخِي الْمَرْأَةِ وَلَا يَكُونُ لِأَخِي ابْنِهَا مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِابْنِهَا ابْنَةٌ لَمْ تَرِثْ مِنْ مِيرَاثِ الْمَوْلَى شَيْئًا، هَذَا نَصَّهُ بِحُرُوفِهِ وَهُوَ أَصْرَحُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي عِبَارَةِ الْمُحِيطِ وَالْمَبْسُوطِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ فِي عَقْدِ مَوَالِي الْمَرْأَةِ وَمِيرَاثِهِمْ وَجَرِّ الْوَلَاءِ وَنَقْلِهِ: وَعَقْلُ مَوَالِي الْمَرْأَةِ عَلَى قَوْمِهَا وَمِيرَاثُهُمْ لَهَا، وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ لِوَلَدِهَا الذُّكُورِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، فَذَلِكَ لِذُكُورِ وَلَدِ وَلَدِهَا دُونَ الْإِنَاثِ، وَيَنْتَمِي مَوْلَاهَا إِلَى قَوْمِهَا كَمَا كَانَتْ هِيَ تَنْتَمِي، وَإِذَا انْقَرَضَ وَلَدُهَا وَوَلَدُ وَلَدِهَا رَجَعَ مِيرَاثُ مَوَالِيهَا لِعَصَبَتِهَا الَّذِينَ هُمْ أَقْعَدُ بِهَا يَوْمَ يَمُوتُ الْمَوْلَى دُونَ عَصَبَةِ الْوَلَدِ. وَقَالَهُ عَدَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَفِي كِتَابِ الرَّابِضِ فِي خُلَاصَةِ الْفَرَائِضِ، تَأْلِيفُ أبي محمد عبد الله بن أبي بكر بن يحيى بن عبد السلام المالكي، مَا نَصُّهُ: كُلُّ امْرَأَةٍ تَرَكَتْ مَوَالِيَ، فَمِيرَاثُهُمْ كَمِيرَاثِ مَوْلَى الرَّجُلِ إِلَّا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ يَرِثُهُمْ بَنُوهَا وَبَنُو بَنِيهَا وَإِنْ سَفَلُوا، فَإِذَا انْقَرَضُوا رَجَعَ الْمِيرَاثُ بِالْوَلَاءِ إِلَى عَصَبَةِ الْأُمِّ دُونَ عَصَبَةِ الْوَلَاءِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَنُوهَا مِنْ عَصَبَتِهَا، فَتَكُونُ عَصَبَتُهُمْ مِنْ عَصَبَتِهَا، قَالَهُ ابن القاسم، وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيِّ مَا نَصُّهُ: لَوْ أَنَّ الْمُعْتِقَةَ مَاتَ ابْنُهَا بَعْدَهَا وَقَبْلَ مَوْلَاهَا وَتَرَكَ عَصَبَةً كَأَعْمَامِهِ وَبَنِي أَعْمَامِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ أَخَا مَوْلَاتِهِ وَعَصَبَةَ أَبِيهَا يَصِيرُ إِرْثُهُ لِأَخِي مَوْلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ لَوَرِثَهَا أَخُوهَا وَعَصَبَتُهَا، فَإِنِ انْقَرَضَ عَصَبَتُهَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ أَحَقَّ بِهِ مِنْ عَصَبَةِ ابْنِهَا، يُرْوَى نَحْوُ هَذَا عَنْ علي، وَبِهِ قَالَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وعطاء وطاوس وَالزُّهْرِيُّ وقتادة وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَرُوِيَ عَنْ علي رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لِعَصَبَةِ الِابْنِ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عمر وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَبِهِ قَالَ شريح، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْوَلَاءَ يُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْمَالُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أحمد نَحْوُ هَذَا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ ريان بن حذيفة تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ غِلْمَةٍ، فَمَاتَتْ أُمُّهُمْ، فَوَرِثُوا عَنْهَا وَلَاءَ مَوَالِيهَا وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَصَبَةَ بَنِيهَا، فَأَخْرَجَهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَمَاتُوا، فَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمَاتَ مَوْلَاهَا وَتَرَكَ مَالًا، فَخَاصَمَهُ إِخْوَتُهَا إِلَى عمر، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا أَحْرَزَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ» " وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا فِيهِ شَهَادَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَرَجُلٍ آخَرَ، قَالَ: فَنَحْنُ فِيهِ إِلَى السَّاعَةِ. رَوَاهُ أبو داود وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمَا، قَالَ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا يُورَثُ بِهِ، وَهُوَ بَاقٍ لِلْمُعْتِقِ يَرِثُ بِهِ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَصَبَاتِهِ لَمْ يَرِثْ شَيْئًا، وَعَصَبَاتُ الِابْنِ غَيْرُ عَصَبَاتِ أُمِّهِ، فَلَا يَرِثُ الْأَجَانِبُ مِنْهَا بِوَلَائِهَا دُونَ عَصَبَاتِهَا، وَحَدِيثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ غَلَطٌ، قَالَ حميد: النَّاسُ يُغَلِّطُونَ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَرِثُ الْمَوْلَى الْعَتِيقُ مِنْ مَوَالِي مُعْتِقِهِ إِلَّا عَصَبَاتُهُ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ. انْتَهَى كَلَامُ الْمُغْنِي. [بَابُ الْوَصَايَا] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمَا سَيُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَمَتِهِ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَلَهُ وَارِثٌ يَسْتَغْرِقُ، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَقَبِلَ الْمُوصَى لَهُ وَعَلِمَ الْوَارِثُ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ إِنِ الْوَارِثَ الْمَذْكُورَ وَطِئَ الْأَمَةَ الْمَذْكُورَةَ فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا، فَهَلْ يَكُونُ الْوَلَدُ رَقِيقًا أَوْ يَنْعَقِدُ حُرًّا؟ وَإِذَا انْعَقَدَ حُرًّا هَلْ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ أَرَهَا مَنْقُولَةً، لَكِنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي صُورَةِ نَظِيرِهَا أَنَّ الْوَلَدَ يَنْعَقِدُ حُرًّا وَأَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ لِلْمُوصَى لَهُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ مَاتَ وَأَوْصَى جَمَاعَةً، وَجَعَلَ زَوْجَتَهُ أَحَدَ الْأَوْصِيَاءِ وَأَوْصَى لَهُمْ بِمَبْلَغٍ، فَادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَأْخُذَ نَظِيرَ مَا أَوْصَى بِهِ لِلْأَوْصِيَاءِ؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ. الْجَوَابُ: أَمَّا أَصْلُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِإِبْطَالِهَا، بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِخُصُوصِهَا فَالَّذِي يَظْهَرُ فِيهَا اسْتِحْقَاقُ الزَّوْجَةِ نَظِيرَ مَا يَأْخُذُهُ أَحَدُ الْأَوْصِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَبَرُّعًا مَحْضًا بَلْ شِبْهُ الْأُجْرَةِ أَوِ الْجُعَالَةِ لِلدُّخُولِ فِي الْوَصَايَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَخْطَارِ وَالنَّظَرِ وَالْقِيَامِ بِحَالِ الْأَوْلَادِ وَالْأُمُورِ الْمُوصَى بِهَا، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي، وَقَدْ رُفِعَ السُّؤَالُ إِلَى الشَّيْخِ فخر الدين المقدسي وَوَافَقَنِي عَلَى مَا أَفْتَيْتُ بِهِ، وَإِلَى الشَّيْخِ سراج الدين العبادي فَخَالَفَ وَأَجَابَ بِوَقْفِ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ جَرْيًا عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي مُوَافَقَتُهُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ لَهُ مَسَاطِيرُ عَلَى غُرَمَاءَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ، فَأَوْصَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا عَلَيْهِ أَوِ ادَّعَى وَفَاءَهُ يُحَلَّفُ وَيُتْرَكُ، فَهَلْ يُعْمَلُ بِذَلِكَ وَالْحَالُ أَنَّ فِي الْوَرَثَةِ أَطْفَالًا؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، يُعْمَلُ بِهِ خُصُوصًا إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِمَا فِي الْمَسَاطِيرِ، فَإِنَّهَا لَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَيًّا، فَإِذَا أَجَابَ الْمَدْيُونُ أَنَّهُ لَاشَيْءَ عَلَيْهِ مِمَّا فِي الْمَسْطُورِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَحَلِفَ وَبَرِئَ، وَأَقَلُّ أُمُورِ ذَلِكَ إِذَا شَهِدَتْ بِمَا فِي الْمَسْطُورِ بَيِّنَةٌ مَقْبُولَةٌ أَنْ يُجْعَلَ وَصِيَّتُهُ تُحْسَبُ مِنَ الثُّلُثِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَشْهَدْ بِهِ بَيِّنَةٌ فَيُسْقَطُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ أَسْنَدَ وَصِيَّةً لِأَقْوَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى اجْتِمَاعِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَسْنَدْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَصِيَّتِي لِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ وَلِفُلَانٍ، فَرَدَّ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْوَصِيَّةَ، فَهَلْ يَتَصَرَّفُ الْبَاقُونَ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ وَاحِدٍ عَنِ الَّذِي رَدَّ؟ الْجَوَابُ: إِذَا صَرَّحَ بِاجْتِمَاعِ الْأَوْصِيَاءِ عَلَى التَّصَرُّفِ أَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَجُزْ لِلْبَاقِينَ الِانْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، بَلْ يَنْصِبُ الْحَاكِمُ بَدَلًا عَمَّنْ رَدَّ يَتَصَرَّفُ مَعَهُمْ، لَكِنْ هَذِهِ الصِّيغَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي السُّؤَالِ عِنْدِي فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ نَظَرٌ، بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْلِ إِعَادَةِ الْجَارِّ فِي كُلِّ اسْمٍ، فَلَوْ حَذَفَ الْجَارَّ مِمَّا بَعْدَ الْأَوَّلِ فَقَالَ: لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ، كَانَتْ صُورَةُ الْإِطْلَاقِ. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ: وَلَوْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ، فَلِأَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، هَلِ الْجَوَانِبُ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَرْبَعَةِ جَوَانِبَ حَتَّى لَا تَكُونَ الدُّورُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ وَسِتِّينَ دَارًا، أَوْ تَكُونُ الْجَوَانِبُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ بِأَنْ تَكُونَ دَارُ الْمُوصِي مُسَدَّسَةً أَوْ مُثَمَّنَةً أَوْ مُدَوَّرَةً وَهِيَ مَحْفُوفَةٌ بِدُورٍ تُلَاصِقُهَا ثَمَانِيَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ، وَكُلُّ دَارٍ تُلَاصِقُهَا دَارٌ بَعْدَ دَارٍ إِلَى أَرْبَعِينَ، فَالدُّورُ الْمُلَاصِقَةُ لِدَارِ الْمُوصِي، هَلْ كُلُّهَا جِيرَانٌ سَوَاءٌ كَانَتْ أَرْبَعِينَ دَارًا أَوْ أَكَثَرَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ كُلُّهَا جِيرَانًا، فَهَلْ مَا يُلَاصِقُ كُلَّ دَارٍ إِلَى أَرْبَعِينَ دَارًا جِيرَانٌ لِلْمُوصِي حَتَّى يَكُونَ جِيرَانُهُ فِيمَا إِذَا كَانَ تُلَاصِقُهُ عَشْرُ دُورٍ وَيُلَاصِقُ كُلَّ دَارٍ أَرْبَعُونَ دَارًا، أَرْبَعَمِائَةِ دَارٍ؟ وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهَلْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: كَلَامُ الْأَصْحَابِ فِي الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ أَخْذًا مِنَ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، فَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ عَلَى غَيْرِ التَّرْبِيعِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا وَتَزِيدُ الْعَدَّةُ عَلَى مِائَةٍ وَسِتِّينَ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَكَوْنُ الْجِيرَانِ فِي الْوَصِيَّةِ مَحْمُولِينَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ هُوَ الرَّاجِحُ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا عَشْرَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الزركشي فِي التَّكْمِلَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 [كِتَابُ النِّكَاحِ] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ خَطَبَ امْرَأَةً، ثُمَّ رَغِبَتْ عَنْهُ هِيَ أَوْ وَلَيُّهَا، فَهَلْ يَرْتَفِعُ التَّحْرِيمُ عَمَّنْ يُرِيدُ خِطْبَتَهَا؟ وَهَلِ الْخِطْبَةُ عَقْدٌ شَرْعِيٌّ؟ وَهَلْ هُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: يَرْتَفِعُ تَحْرِيمُ الْخِطْبَةِ عَلَى الْغَيْرِ بِالرَّغْبَةِ عَنْهُ فِيمَا يَظْهَرُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ وَإِنَّمَا تَعَرَّضُوا لِمَا إِذَا سَكَتُوا أَوْ رَغِبَ الْخَاطِبُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطْبَةَ لَيْسَ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنْ تُخُيِّلَ كَوْنُهَا عَقْدًا فَلَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ جَائِزٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ قَطْعًا. مَسْأَلَةٌ: امْرَأَةٌ حَضَرَتْ إِلَى شَاهِدَيْنِ وَمَعَهَا صَدَاقُهَا، وَبِهِ فَصْلُ طَلَاقٍ بِذَيْلِهِ رَسْمُ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مُؤَرَّخٌ بِمُدَّةٍ يُمْكِنُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، وَسُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَحَلَفَتْ عَلَيْهَا وَعَلَى خُلُوِّهَا مِنْ كُلِّ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ، فَهَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ؟ الْجَوَابُ: فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ عَنْ فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَفِي أَدَبِ الْقَضَاءِ للزبيلي التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْغَرِيبَةِ الَّتِي زَوْجُهَا غَائِبٌ، وَبَيْنَ الْبَلَدِيَّةِ الَّتِي زَوْجُهَا حَاضِرٌ، وَفِي تَوْثِيقِ الْحُكَّامِ لابن العماد أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مُطْلَقًا وَضَعَّفَ قَوْلَ الْبَغَوِيِّ والزبيلي، وَالرَّاجِحُ عِنْدِي مَقَالَةُ الْبَغَوِيِّ وَقَدْ سَكَتَ عَلَيْهَا الشَّيْخَانِ وَلَمْ يَتَعَقَّبَاهَا بِنَكِيرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 [كِتَابُ الصَّدَاقِ] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ تَزَوَّجَ بِكْرًا بَالِغَةً، فَنَذَرَتْ أَنْ لَا تُطَالِبَهُ بِنَفْسِهَا وَلَا بِوَكِيلِهَا بِبَقِيَّةِ حَالِّ صَدَاقِهَا عَلَيْهِ مَا دَامَتْ فِي عِصْمَتِهِ، وَذَلِكَ بِحُضُورِ وَالِدِهَا وَاعْتِرَافِهِ بِجَوَازِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا وَحَكَمَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ حَاكِمٌ شَافِعِيٌّ، فَهَلْ هَذَا نَذْرُ تَبَرُّرٍ أَوْ لَا؟ وَهَلِ النَّذْرُ يَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ أَوْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ؟ وَهَلْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْ هَذَا النَّذْرِ وَتُطَالِبَهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ؟ وَهَلِ اعْتِرَافُ وَالِدِهَا بِجَوَازِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا قَرِينَةٌ عَلَى رُشْدِهَا؟ الْجَوَابُ: إِنَّمَا يَصِحُّ النَّذْرُ الْمَالِيُّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ الْبَالِغَةُ رَشِيدَةً صَحَّ مِنْهَا هَذَا النَّذْرُ، وَكَانَ نَذْرَ تَبَرُّرٍ، وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ عَنْهُ وَلَا الْمُطَالَبَةُ، وَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَشِيدَةً لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهَا وَلَا مِنَ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَفْوُ عَنِ الصَّدَاقِ، عَلَى الْجَدِيدِ، وَأَمَّا هَلِ اعْتِرَافُ وَالِدِهَا بِجَوَازِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا قَرِينَةُ رُشْدِهَا؟ فَالَّذِي يَظْهَرُ خِلَافُهُ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ رُشْدِهَا وَهُوَ كَوْنُهُ مَصْلَحَةً لِدِينِهَا وَمَالِهَا بِطَرِيقِهِ الشَّرْعِيِّ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَا إِذَا أَصْدَقَهَا صَدَاقًا مُسَمًّى عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ، ثُمَّ وَطِئَهَا وَادَّعَتْ أَنَّهُ أَزَالَ بَكَارَتَهَا بِوَطْئِهِ وَاعْتَرَفَ هُوَ أَنَّهُ وَطِئَهَا فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا، فَهَلْ تَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى لِحُصُولِ الْوَطْءِ أَوْ مَهْرَ مِثْلِ ثَيِّبٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَمْتِعْ إِلَّا بِثَيِّبٍ؟ وَهَلْ هَذِهِ هِيَ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ قَوْلِهِمُ: الْقَوْلُ قَوْلُ نَافِي الْوَطْءِ إِلَّا فِي مَسَائِلَ، مِنْهَا: إِذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ وَادَّعَتْ أَنَّهُ أَزَالَ بَكَارَتَهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِدَفْعِ الْفَسْخِ، وَقَوْلُهُ لِدَفْعِ كَمَالِ الْمَهْرِ، أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا اعْتِرَافٌ بِالْوَطْءِ، وَالْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ كَلَامِهِمْ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ: وَلَوْ قَالَتْ: كَنْتُ بِكْرًا فَافْتَضَّنِي، فَأَنْكَرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا لِدَفْعِ الْفَسْخِ، وَقَوْلُهُ بِيَمِينِهِ لِدَفْعِ كَمَالِ الْمَهْرِ، فَقَوْلُهُ: فَأَنْكَرَ، صَادِقٌ بِصُورَتَيْنِ: أَنْ يُنْكِرَ الْوَطْءَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنْ يُنْكِرَ الِافْتِضَاضَ الَّذِي هُوَ إِزَالَةُ الْبَكَارَةِ فَقَطْ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوُقُوعِ الْوَطْءِ، فَعَلَى هَذَا تَسْتَوِي الصُّورَتَانِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ تَصْدِيقُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَهْرِ فَقَطْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ قَرِينَةً لِتَصْدِيقِهَا، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَشْبَهُ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْقَوْلُ قَوْلُ نَافِي الْوَطْءِ إِلَّا فِي مَسَائِلَ، مِنْهَا كَذَا، إِلَى آخِرِهِ، فَهَذِهِ عِبَارَةُ أَصْحَابِ الْأَشْبَاهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وَالنَّظَائِرِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرُوا عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي فِيهَا نَفْيُ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُ كُتُبِهِمْ. [بَابُ الْوَلِيمَةِ] [تَقْبِيلُ الْخُبْزِ هَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَمْ لَا] بَابُ الْوَلِيمَةِ مَسْأَلَةٌ: تَقْبِيلُ الْخُبْزِ هَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ بِدْعَةً هَلْ يَكُونُ حَرَامًا أَمْ لَا؟ وَقَدْ قَالَ ابن النحاس فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ: وَمِنْهَا - أَيْ مِنَ الْبِدَعِ - تَقْبِيلُ الْخُبْزِ وَهُوَ بِدْعَةٌ لَا تَجُوزُ، وَقَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يَجُوزُ دَوْسُهُ وَلَا يَجُوزُ بَوْسُهُ، لَكِنَّ دَوْسَهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَرُبَّمَا كَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَمَّا بَوْسُهُ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَارْتِكَابُ الْبِدَعِ لَا يَجُوزُ، وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ، هَذَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ الَّذِي هُوَ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ وَهُوَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا خَلْقَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَقْبِيلُ الْخُبْزِ؟ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ إِكْرَامُهُ وَرَفْعُهُ مِنْ تَحْتِ الْأَقْدَامِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي إِكْرَامِ الْخُبْزِ أَحَادِيثُ لَا أَعْلَمُ فِيهَا شَيْئًا صَحِيحًا وَلَا حَسَنًا. هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ، فَهَلْ مَا قَالَهُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا كَوْنُ تَقْبِيلِ الْخُبْزِ بِدْعَةً فَصَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْبِدْعَةَ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْحَرَامِ بَلْ تَنْقَسِمُ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَى هَذَا بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَا بِالْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ خَاصٌّ، وَلَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَهْيٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ، فَإِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ إِكْرَامُهُ لِأَجْلِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي إِكْرَامِهِ فَحَسَنٌ، وَدَوْسُهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، بَلْ مُجَرَّدُ إِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ دَوْسٍ مَكْرُوهٌ؛ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ. [حُسْنُ الْمَقْصِدِ فِي عَمَلِ الْمَوْلِدِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ، فَقَدْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، مَا حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ؟ وَهَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ؟ وَهَلْ يُثَابُ فَاعِلُهُ أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ عَمَلِ الْمَوْلِدِ الَّذِي هُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَقِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَرِوَايَةُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي مَبْدَأِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا وَقَعَ فِي مَوْلِدِهِ مِنَ الْآيَاتِ، ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 يُمَدُّ لَهُمْ سِمَاطٌ يَأْكُلُونَهُ وَيَنْصَرِفُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ - هُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ قَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِمَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ فِعْلَ ذَلِكَ صَاحِبُ إِرْبِلَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ أَبُو سَعِيدٍ كُوكْبُرِي بْنُ زَيْنِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ بَكْتَكِينَ، أَحَدُ الْمُلُوكِ الْأَمْجَادِ وَالْكُبَرَاءِ الْأَجْوَادِ، وَكَانَ لَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ، وَهُوَ الَّذِي عَمَّرَ الْجَامِعَ الْمُظَفَّرِيَّ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، قَالَ ابن كثير فِي تَارِيخِهِ: كَانَ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ الشَّرِيفَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا عَالِمًا عَادِلًا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، قَالَ: وَقَدْ صَنَّفَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْخَطَّابِ ابْنُ دِحْيَةَ مُجَلَّدًا فِي الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ سَمَّاهُ (التَّنْوِيرُ فِي مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ) ، فَأَجَازَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِي الْمُلْكِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْفِرِنْجِ بِمَدِينَةِ عَكَّا سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، مَحْمُودُ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ. وَقَالَ سبط ابن الجوزي فِي مِرْآةِ الزَّمَانِ: حَكَى بَعْضُ مَنْ حَضَرَ سِمَاطَ المظفر فِي بَعْضِ الْمَوَالِدِ أَنَّهُ عَدَّ فِي ذَلِكَ السِّمَاطِ خَمْسَةَ آلَافِ رَأْسِ غَنَمٍ شَوِيٍّ وَعَشَرَةَ آلَافِ دَجَاجَةٍ وَمِائَةَ فَرَسٍ وَمِائَةَ أَلْفِ زُبْدِيَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ صَحْنِ حَلْوَى، قَالَ: وَكَانَ يَنْحَصِرُ عِنْدَهُ فِي الْمَوْلِدِ أَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ، فَيَخْلَعُ عَلَيْهِمْ وَيُطْلِقُ لَهُمْ، وَيَعْمَلُ لِلصُّوفِيَّةِ سَمَاعًا مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْفَجْرِ، وَيَرْقُصُ بِنَفْسِهِ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَصْرِفُ عَلَى الْمَوْلِدِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ لَهُ دَارُ ضِيَافَةٍ لِلْوَافِدِينَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ، فَكَانَ يَصْرِفُ عَلَى هَذِهِ الدَّارِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يَسْتَفِكُّ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أُسَارَى بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يَصْرِفُ عَلَى الْحَرَمَيْنِ وَالْمِيَاهِ بِدَرْبِ الْحِجَازِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، هَذَا كُلُّهُ سِوَى صَدَقَاتِ السِّرِّ، وَحَكَتْ زَوْجَتُهُ ربيعة خاتون بنت أيوب أُخْتُ الْمَلِكِ الناصر صلاح الدين أَنَّ قَمِيصَهُ كَانَ مِنْ كِرْبَاسٍ غَلِيظٍ لَا يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، قَالَتْ: فَعَاتَبْتُهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لُبْسِي ثَوْبًا بِخَمْسَةٍ وَأَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَلْبَسَ ثَوْبًا مُثَمَّنًا وَأَدَعَ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ. وَقَالَ ابن خلكان فِي تَرْجَمَةِ الْحَافِظِ أَبِي الْخَطَّابِ بْنِ دِحْيَةَ: كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَمَشَاهِيرِ الْفُضَلَاءِ، قَدِمَ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَدَخَلَ الشَّامَ وَالْعِرَاقِ وَاجْتَازَ بِإِرْبِلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ، فَوَجَدَ مَلِكَهَا الْمُعَظَّمَ مظفر الدين بن زين الدين يَعْتَنِي بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، فَعَمِلَ لَهُ كِتَابَ التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَقَرَأَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَأَجَازَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْنَاهُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي سِتَّةِ مَجَالِسَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وَقَدِ ادَّعَى الشَّيْخُ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ عَمَلَ الْمَوْلِدِ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّاهُ: (الْمَوْرِدُ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَمَلِ الْمَوْلِدِ) ، وَأَنَا أَسُوقُهُ هُنَا بِرُمَّتِهِ وَأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ حَرْفًا حَرْفًا. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَيَّدَنَا بِالْهِدَايَةِ إِلَى دَعَائِمِ الدِّينِ وَيَسَّرَ لَنَا اقْتِفَاءَ أَثَرِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، حَتَّى امْتَلَأَتْ قُلُوبُنَا بِأَنْوَارِ عِلْمِ الشَّرْعِ وَقَوَاطِعِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَطَهَّرَ سَرَائِرَنَا مِنْ حَدَثِ الْحَوَادِثِ وَالِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، أَحْمَدُهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ مِنْ أَنْوَارِ الْيَقِينِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَسْدَاهُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ صَلَاةً دَائِمَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ تَكَرَّرَ سُؤَالُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُبَارَكِينَ عَنِ الِاجْتِمَاعِ الَّذِي يَعْمَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَيُسَمُّونَهُ الْمَوْلِدَ، هَلْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ أَوْ هُوَ بِدْعَةٌ وَحَدَثٌ فِي الدِّينِ؟ وَقَصَدُوا الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مُبَيَّنًا وَالْإِيضَاحَ عَنْهُ مُعَيَّنًا، فَقُلْتُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا أَعْلَمُ لِهَذَا الْمَوْلِدِ أَصْلًا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا يُنْقَلُ عَمَلُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمُ الْقُدْوَةُ فِي الدِّينِ الْمُتَمَسِّكُونَ بِآثَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ، بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْبَطَّالُونَ وَشَهْوَةُ نَفْسٍ اعْتَنَى بِهَا الْأَكَّالُونَ، بِدَلِيلِ أَنَّا إِذَا أَدَرْنَا عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ قُلْنَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ إِجْمَاعًا وَلَا مَنْدُوبًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَنْدُوبِ مَا طَلَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الشَّرْعُ وَلَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ وَلَا التَّابِعُونَ الْمُتَدَيِّنُونَ فِيمَا عَلِمْتُ، وَهَذَا جَوَابِي عَنْهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ عَنْهُ سُئِلْتُ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاعَ فِي الدِّينِ لَيْسَ مُبَاحًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْلَيْنِ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْمَلَهُ رَجُلٌ مِنْ عَيْنِ مَالِهِ لِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَعِيَالِهِ، لَا يُجَاوِزُونَ فِي ذَلِكَ الِاجْتِمَاعَ عَلَى أَكْلِ الطَّعَامِ وَلَا يَقْتَرِفُونَ شَيْئًا مِنَ الْآثَامِ، وَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَشَنَاعَةٌ؛ إِذْ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الطَّاعَةِ الَّذِينَ هُمْ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءُ الْأَنَامِ سُرُجُ الْأَزْمِنَةِ وَزَيْنُ الْأَمْكِنَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وَالثَّانِي: أَنْ تَدْخُلَهُ الْجِنَايَةُ وَتَقْوَى بِهِ الْعِنَايَةُ حَتَّى يُعْطَى أَحَدُهُمُ الشَّيْءَ وَنَفْسُهُ تَتْبَعُهُ وَقَلْبُهُ يُؤْلِمُهُ وَيُوجِعُهُ لِمَا يَجِدُ مِنْ أَلَمِ الْحَيْفِ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَخْذُ الْمَالِ بِالْحَيَاءِ كَأَخْذِهِ بِالسَّيْفِ لَا سِيَّمَا إِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْغِنَاءِ - مَعَ الْبُطُونِ الْمَلْأَى - بِآلَاتِ الْبَاطِلِ مِنَ الدُّفُوفِ وَالشَّبَّابَاتِ وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ مَعَ الشَّبَابِ الْمُرْدِ وَالنِّسَاءِ الْفَاتِنَاتِ، إِمَّا مُخْتَلِطَاتٍ بِهِنَّ أَوْ مُشْرِفَاتٍ، وَالرَّقْصِ بِالتَّثَنِّي وَالِانْعِطَافِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي اللَّهْوِ وَنِسْيَانِ يَوْمِ الْمَخَافِ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ إِذَا اجْتَمَعْنَ عَلَى انْفِرَادِهِنَّ رَافِعَاتٍ أَصْوَاتَهُنَّ بِالتَّهْنِيكِ وَالتَّطْرِيبِ فِي الْإِنْشَادِ، وَالْخُرُوجِ فِي التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ وَالْأَمْرِ الْمُعْتَادِ غَافِلَاتٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] وَهَذَا الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ فِي تَحْرِيمِهِ اثْنَانِ، وَلَا يَسْتَحْسِنُهُ ذَوُو الْمُرُوءَةِ الْفِتْيَانُ، وَإِنَّمَا يَحْلُو ذَلِكَ لِنُفُوسِ مَوْتَى الْقُلُوبِ وَغَيْرِ الْمُسْتَقِلِّينَ مِنَ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ، وَأَزِيدُكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، وَلِلَّهِ دَرُّ شَيْخِنَا القشيري حَيْثُ يَقُولُ فِيمَا أَجَازَنَاهُ: قَدْ عُرِّفَ الْمُنْكَرُ وَاسْتُنْكِرَ ... الْمَعْرُوفُ فِي أَيَّامِنَا الصَّعْبَهْ وَصَارَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وَهْدَةٍ ... وَصَارَ أَهْلُ الْجَهْلِ فِي رَيْبَهْ حَادُوا عَنِ الْحَقِّ، فَمَا لِلَّذِي ... سَارُوا بِهِ فِيمَا مَضَى نِسْبَهْ فَقُلْتُ لِلْأَبْرَارِ أَهْلِ التُّقَى ... وَالدِّينِ لَمَّا اشْتَدَّتِ الْكُرْبَهْ لَا تُنْكِرُوا أَحْوَالَكُمْ قَدْ أَتَتْ ... نَوْبَتُكُمْ فِي زَمَنِ الْغُرْبَهْ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ حَيْثُ يَقُولُ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا تُعُجِّبَ مِنَ الْعَجَبِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ هُوَ بِعَيْنِهِ الشَّهْرُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَيْسَ الْفَرَحُ فِيهِ بِأَوْلَى مِنَ الْحُزْنِ فِيهِ. وَهَذَا مَا عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ، وَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَرْجُو حُسْنَ الْقَبُولِ. هَذَا جَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ الفاكهاني فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ، وَأَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ: لَا أَعْلَمُ لِهَذَا الْمَوْلِدِ أَصْلًا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، فَيُقَالُ عَلَيْهِ: نَفْيُ الْعِلْمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْوُجُودِ، وَقَدِ اسْتَخْرَجَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 لَهُ إِمَامُ الْحُفَّاظِ أبو الفضل ابن حجر أَصْلًا مِنَ السُّنَّةِ، وَاسْتَخْرَجْتُ لَهُ أَنَا أَصْلًا ثَانِيًا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا بَعْدَ هَذَا، وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْبَطَّالُونَ، إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا الْعُلَمَاءُ الْمُتَدَيِّنُونَ، يُقَالُ عَلَيْهِ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَحْدَثَهُ مَلِكٌ عَادِلٌ عَالِمٌ وَقَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَضَرَ عِنْدَهُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَالصُّلَحَاءُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ، وَارْتَضَاهُ ابن دحية وَصَنَّفَ لَهُ مِنْ أَجْلِهِ كِتَابًا، فَهَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ مُتَدَيِّنُونَ رَضَوْهُ وَأَقَرُّوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَقَوْلُهُ: وَلَا مَنْدُوبًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَنْدُوبِ مَا طَلَبَهُ الشَّرْعُ، يُقَالُ عَلَيْهِ: إِنَّ الطَّلَبَ فِي الْمَنْدُوبِ تَارَةً يَكُونُ بِالنَّصِّ وَتَارَةً يَكُونُ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، فَفِيهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَصْلَيْنِ الْآتِي ذِكْرُهُمَا، وَقَوْلُهُ: وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاعَ فِي الدِّينِ لَيْسَ مُبَاحًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَلَامٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ، بَلْ قَدْ تَكُونُ أَيْضًا مُبَاحَةً وَمَنْدُوبَةً وَوَاجِبَةً، قَالَ النووي فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ: الْبِدْعَةُ فِي الشَّرْعِ هِيَ إِحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام فِي الْقَوَاعِدِ: الْبِدْعَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى وَاجِبَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمَكْرُوهَةٍ وَمُبَاحَةٍ، قَالَ: وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ نَعْرِضَ الْبِدْعَةَ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، أَوْ فِي قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، أَوِ النَّدْبِ فَمَنْدُوبَةٌ، أَوِ الْمَكْرُوهِ فَمَكْرُوهَةٌ، أَوِ الْمُبَاحِ فَمُبَاحَةٌ، وَذَكَرَ لِكُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ أَمْثِلَةً إِلَى أَنْ قَالَ: وَلِلْبِدَعِ الْمَنْدُوبَةِ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا إِحْدَاثُ الرُّبَطِ وَالْمَدَارِسِ وَكُلُّ إِحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا التَّرَاوِيحُ وَالْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ التَّصَوُّفِ وَفِي الْجَدَلِ، وَمِنْهَا جَمْعُ الْمَحَافِلِ لِلِاسْتِدْلَالِ فِي الْمَسَائِلِ إِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: الْمُحْدَثَاتُ مِنَ الْأُمُورِ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا، فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلَالَةُ، وَالثَّانِي: مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ لَا خِلَافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا، وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ، وَقَدْ قَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ: "نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ "، يَعْنِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ، وَإِذْ كَانَتْ فَلَيْسَ فِيهَا رَدٌّ لِمَا مَضَى. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ مَنْعُ قَوْلِ الشَّيْخِ تاج الدين: وَلَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُبَاحًا، إِلَى قَوْلِهِ: وَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، إِلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِمَّا أُحْدِثَ وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا أَثَرٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، فَهِيَ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ كَمَا فِي عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ إِطْعَامَ الطَّعَامِ الْخَالِي عَنِ اقْتِرَافِ الْآثَامِ إِحْسَانٌ، فَهُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْمَنْدُوبَةِ كَمَا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 عِبَارَةِ ابن عبد السلام، وَقَوْلُهُ: وَالثَّانِي، إِلَى آخِرِهِ هُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِيهِ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي ضُمَّتْ إِلَيْهِ لَا مِنْ حَيْثُ الِاجْتِمَاعُ لِإِظْهَارِ شِعَارِ الْمَوْلِدِ، بَلْ لَوْ وَقَعَ مِثْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَثَلًا لَكَانَتْ قَبِيحَةً شَنِيعَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ذَمُّ أَصْلِ الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ يَقَعُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، فَهَلْ يُتَصَوَّرُ ذَمُّ الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي قُرِنَتْ بِهَا؟ كَلَّا بَلْ نَقُولُ: أَصْلُ الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ وَقُرْبَةٌ، وَمَا ضُمَّ إِلَيْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ قَبِيحٌ وَشَنِيعٌ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: أَصْلُ الِاجْتِمَاعِ لِإِظْهَارِ شِعَارِ الْمَوْلِدِ مَنْدُوبٌ وَقُرْبَةٌ، وَمَا ضُمَّ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَذْمُومٌ وَمَمْنُوعٌ، وَقَوْلُهُ: مَعَ أَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ، إِلَى آخِرِهِ. جَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ أَوَّلًا: إِنَّ وِلَادَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ النِّعَمِ عَلَيْنَا، وَوَفَاتَهُ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ لَنَا، وَالشَّرِيعَةُ حَثَّتْ عَلَى إِظْهَارِ شُكْرِ النِّعَمِ وَالصَّبْرِ وَالسُّكُونِ وَالْكَتْمِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّرْعُ بِالْعَقِيقَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَهِيَ إِظْهَارُ شُكْرٍ وَفَرَحٍ بِالْمَوْلُودِ، وَلَمْ يَأْمُرْ عِنْدَ الْمَوْتِ بِذَبْحٍ وَلَا بِغَيْرِهِ بَلْ نَهَى عَنِ النِّيَاحَةِ وَإِظْهَارِ الْجَزَعِ، فَدَلَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْسُنُ فِي هَذَا الشَّهْرِ إِظْهَارُ الْفَرَحِ بِوِلَادَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ إِظْهَارِ الْحُزْنِ فِيهِ بِوَفَاتِهِ، وَقَدْ قَالَ ابن رجب فِي كِتَابِ اللَّطَائِفِ فِي ذَمِّ الرَّافِضَةِ حَيْثُ اتَّخَذُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا لِأَجْلِ قَتْلِ الحسين: لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ بِاتِّخَاذِ أَيَّامِ مَصَائِبِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَوْتِهِمْ مَأْتَمًا، فَكَيْفَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ؟! وَقَدْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ فِي كِتَابِهِ الْمَدْخَلِ عَلَى عَمَلِ الْمَوْلِدِ، فَأَتْقَنَ الْكَلَامَ فِيهِ جِدًّا، وَحَاصِلُهُ مَدْحُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ شِعَارٍ وَشُكْرٍ، وَذَمِّ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ وَمُنْكَرَاتٍ، وَأَنَا أَسُوقُ كَلَامَهُ فَصْلًا فَصْلًا، قَالَ: (فَصْلٌ فِي الْمَوْلِدِ) وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنَ الْبِدَعِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرَ الْعِبَادَاتِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَوْلِدِ، وَقَدِ احْتَوَى ذَلِكَ عَلَى بِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ جَمَّةٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: اسْتِعْمَالُهُمُ الْمَغَانِيَ وَمَعَهُمْ آلَاتُ الطَّرَبِ مِنَ الطَّارِ الْمُصَرْصِرِ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ آلَةً لِلسَّمَاعِ وَمَضَوْا فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَشْتَغِلُونَ أَكْثَرَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَظَّمَهَا بِبِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّمَاعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِيهِ مَا فِيهِ، فَكَيْفَ بِهِ إِذَا انْضَمَّ إِلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفَضَّلَنَا فِيهِ بِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ؟ فَآلَةُ الطَّرَبِ وَالسَّمَاعِ أَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فِيهِ بِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَكَانَ يَجِبُ أَنَّ يُزَادَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ شُكْرًا لِلْمَوْلَى عَلَى مَا أَوْلَانَا بِهِ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ شَيْئًا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِرَحْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ وَرِفْقِهِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ، لَكِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ بِقَوْلِهِ لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ: " «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ» " فَتَشْرِيفُ هَذَا الْيَوْمِ مُتَضَمِّنٌ لِتَشْرِيفِ هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ نَحْتَرِمَهُ حَقَّ الِاحْتِرَامِ وَنُفَضِّلَهُ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْأَشْهُرَ الْفَاضِلَةَ وَهَذَا مِنْهَا؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» " " «آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» " وَفَضِيلَةُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بِمَا خَصَّهَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهَا لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ لَا تَشْرُفُ لِذَاتِهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا التَّشْرِيفُ بِمَا خُصَّتْ بِهِ مِنَ الْمَعَانِي، فَانْظُرْ إِلَى مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذَا الشَّهْرَ الشَّرِيفَ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ فِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي إِذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ أَنْ يُكَرَّمَ وَيُعَظَّمَ وَيُحْتَرَمَ الِاحْتِرَامَ اللَّائِقَ بِهِ اتِّبَاعًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَوْنِهِ كَانَ يَخُصُّ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ بِزِيَادَةِ فِعْلِ الْبِرِّ فِيهَا وَكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» ، فَنَمْتَثِلُ تَعْظِيمَ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ بِمَا امْتَثَلَهُ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدِ الْتَزَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ مَا الْتَزَمَهُ مِمَّا قَدْ عُلِمَ وَلَمْ يَلْتَزِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ مَا الْتَزَمَهُ فِي غَيْرِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَا عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ سِيَّمَا فِيمَا كَانَ يَخُصُّهُ، أَلَا تَرَى إِلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرَّمَ الْمَدِينَةَ مِثْلَ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَشْرَعْ فِي قَتْلِ صَيْدِهِ وَلَا شَجَرِهِ الْجَزَاءَ تَخْفِيفًا عَلَى أُمَّتِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ، فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ فَيَتْرُكُهُ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ، فَعَلَى هَذَا تَعْظِيمُ هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ إِنَّمَا يَكُونُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الزَّاكِيَاتِ فِيهِ وَالصَّدَقَاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَيُكْرَهُ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِهَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا فِي غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَكْثَرُ احْتِرَامًا كَمَا يَتَأَكَّدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَيَتْرُكُ الْحَدَثَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الدِّينِ وَيَجْتَنِبُ مَوَاضِعَ الْبِدَعِ وَمَا لَا يَنْبَغِي، وَقَدِ ارْتَكَبَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَنِ ضِدَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الْعَظِيمُ تَسَارَعُوا فِيهِ إِلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ بِالدُّفِّ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِهِمَا وَيَا لَيْتَهُمْ عَمِلُوا الْمَغَانِيَ لَيْسَ إِلَّا، بَلْ يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ، فَيَبْدَأُ الْمَوْلِدَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَيَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مَعْرِفَةً بِالتَّهَوُّكِ وَالطُّرُقِ الْمُبْهِجَةِ لِطَرَبِ النُّفُوسِ، وَهَذَا فِيهِ وُجُوهٌ مِنَ الْمَفَاسِدِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ، بَلْ ضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ، الْخَطَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُغَنِّي شَابًّا لَطِيفَ الصُّورَةِ حَسَنَ الصَّوْتِ وَالْكُسْوَةِ وَالْهَيْئَةِ، فَيَنْشُدُ التَّغَزُّلَ وَيَتَكَسَّرُ فِي صَوْتِهِ وَحَرَكَاتِهِ، فَيَفْتِنُ بَعْضَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَتَقَعُ الْفِتْنَةُ فِي الْفَرِيقَيْنِ وَيَثُورُ مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يُحْصَى، وَقَدْ يَؤُولُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إِلَى فَسَادِ حَالِ الزَّوْجِ وَحَالِ الزَّوْجَةِ، وَيَحْصُلُ الْفِرَاقُ وَالنَّكَدُ الْعَاجِلُ وَتَشَتُّتُ أَمْرِهِمْ بَعْدَ جَمْعِهِمْ، وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ مُرَكَّبَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمَوْلِدِ إِذَا عُمِلَ بِالسَّمَاعِ، فَإِنْ خَلَا مِنْهُ وَعَمِلَ طَعَامًا فَقَطْ وَنَوَى بِهِ الْمَوْلِدَ وَدَعَا إِلَيْهِ الْإِخْوَانَ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَهُوَ بِدْعَةٌ بِنَفْسِ نِيَّتِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ أَوْلَى، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَوَى الْمَوْلِدَ، وَنَحْنُ تَبَعٌ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمُ. انْتَهَى. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَذُمَّ الْمَوْلِدَ بَلْ ذَمَّ مَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَأَوَّلُ كَلَامِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ هَذَا الشَّهْرُ بِزِيَادَةِ فِعْلِ الْبَرِّ وَكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ، وَهَذَا هُوَ عَمَلُ الْمَوْلِدِ الَّذِي اسْتَحْسَنَّاهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ سِوَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ وَبَرٌّ وَقُرْبَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ آخِرًا: إِنَّهُ بِدْعَةٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَاقِضًا لِمَا تَقَدَّمَ أَوْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَوْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ خَيْرٌ، وَالْبِدْعَةُ مِنْهُ نِيَّةُ الْمَوْلِدِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَهُوَ بِدْعَةٌ بِنَفْسِ نِيَّتِهِ فَقَطْ، وَبِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَوَى الْمَوْلِدَ، فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْمَوْلِدَ فَقَطْ، وَلَمْ يَكْرَهْ عَمَلَ الطَّعَامِ وَدُعَاءَ الْإِخْوَانِ إِلَيْهِ، وَهَذَا إِذَا حُقِّقَ النَّظَرُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ أَوَّلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ حَثَّ فِيهِ عَلَى زِيَادَةِ فِعْلِ الْبِرِّ وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ عَلَى وَجْهِ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ إِذْ أَوْجَدَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى نِيَّةِ الْمَوْلِدِ، فَكَيْفَ يُذَمُّ هَذَا الْقَدْرُ مَعَ الْحَثِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا؟ وَأَمَّا مُجَرَّدُ فِعْلِ الْبِرِّ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُتَصَوَّرُ، وَلَوْ تُصُوِّرَ لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً وَلَا ثَوَابَ فِيهِ؛ إِذْ لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا نِيَّةَ هُنَا إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الشُّكْرُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وِلَادَةِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ، وَهَذَا مَعْنَى نِيَّةِ الْمَوْلِدِ، فَهِيَ نِيَّةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ بِلَا شَكٍّ، فَتَأَمَّلْ. ثُمَّ قَالَ ابن الحاج: وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ الْمَوْلِدَ لَا لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ، وَلَكِنْ لَهُ فِضَّةٌ عِنْدَ النَّاسِ مُتَفَرِّقَةٌ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا فِي بَعْضِ الْأَفْرَاحِ أَوِ الْمَوَاسِمِ وَيُرِيدُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا، وَيَسْتَحِي أَنْ يَطْلُبَهَا بِذَاتِهِ، فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَخْذِ مَا اجْتَمَعَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ، هَذَا فِيهِ وُجُوهٌ مِنَ الْمَفَاسِدِ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِصِفَةِ النِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ؛ إِذْ ظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ عَمِلَ الْمَوْلِدَ يَبْتَغِي بِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَبَاطِنُهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ بِهِ فِضَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ جَمْعِ الدَّرَاهِمِ أَوْ طَلَبِ ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ لَهُ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى. انْتَهَى. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ نَمَطِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ الذَّمَّ فِيهِ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ عَدَمِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ لَا مِنْ أَصْلِ عَمَلِ الْمَوْلِدِ. وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَافِظُ الْعَصْرِ أبو الفضل ابن حجر عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ، فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: أَصْلُ عَمَلِ الْمَوْلِدِ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَحَاسِنَ وَضِدِّهَا، فَمَنْ تَحَرَّى فِي عَمَلِهَا الْمَحَاسِنَ وَتَجَنَّبَ ضِدَّهَا كَانَ بِدْعَةً حَسَنَةً وَإِلَّا فَلَا، قَالَ: وَقَدْ ظَهَرَ لِي تَخْرِيجُهَا عَلَى أَصْلٍ ثَابِتٍ وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: هُوَ يَوْمٌ أَغْرَقَ اللَّهُ فِيهِ فرعون وَنَجَّى مُوسَى فَنَحْنُ نَصُومُهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى» ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ فِعْلُ الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ إِسْدَاءِ نِعْمَةٍ أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ، وَيُعَادُ ذَلِكَ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كَالسُّجُودِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالتِّلَاوَةِ، وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَعْظَمُ مِنَ النِّعْمَةِ بِبُرُوزِ هَذَا النَّبِيِّ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَحَرَّى الْيَوْمُ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُطَابِقَ قِصَّةَ مُوسَى فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ لَمْ يُلَاحِظْ ذَلِكَ لَا يُبَالِي بِعَمَلِ الْمَوْلِدِ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ، بَلْ تَوَسَّعَ قَوْمٌ فَنَقَلُوهُ إِلَى يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، وَفِيهِ مَا فِيهِ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ عَمَلِهِ. وَأَمَّا مَا يُعْمَلُ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى مَا يُفْهِمُ الشُّكْرَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التِّلَاوَةِ وَالْإِطْعَامِ وَالصَّدَقَةِ وَإِنْشَادِ شَيْءٍ مِنَ الْمَدَائِحِ النَّبَوِيَّةِ وَالزُّهْدِيَّةِ الْمُحَرِّكَةِ لِلْقُلُوبِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ السَّمَاعِ وَاللَّهْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُبَاحًا بِحَيْثُ يَقْتَضِي السُّرُورَ بِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا بَأْسَ بِإِلْحَاقِهِ بِهِ، وَمَا كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا فَيُمْنَعُ، وَكَذَا مَا كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 قُلْتُ: وَقَدْ ظَهَرَ لِي تَخْرِيجُهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ» مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّ جَدَّهُ عبد المطلب عَقَّ عَنْهُ فِي سَابِعِ وِلَادَتِهِ، وَالْعَقِيقَةُ لَا تُعَادُ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِظْهَارٌ لِلشُّكْرِ عَلَى إِيجَادِ اللَّهِ إِيَّاهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَتَشْرِيعٌ لِأُمَّتِهِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ لِذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ لَنَا أَيْضًا إِظْهَارُ الشُّكْرِ بِمَوْلِدِهِ بِالِاجْتِمَاعِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ وَإِظْهَارِ الْمَسَرَّاتِ، ثُمَّ رَأَيْتُ إِمَامَ الْقُرَّاءِ الْحَافِظَ شمس الدين ابن الجزري قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى "عَرْفُ التَّعْرِيفِ بِالْمَوْلِدِ الشَّرِيفِ" مَا نَصُّهُ: قَدْ رُؤِيَ أبو لهب بَعْدَ مَوْتِهِ فِي النَّوْمِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا حَالُكَ، فَقَالَ: فِي النَّارِ، إِلَّا أَنَّهُ يُخَفَّفُ عَنِّي كُلَّ لَيْلَةِ اثْنَيْنِ وَأَمُصُّ مِنْ بَيْنِ أُصْبُعَيَّ مَاءً بِقَدْرِ هَذَا - وَأَشَارَ لِرَأْسِ أُصْبُعِهِ - وَأَنَّ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِي لثويبة عِنْدَمَا بَشَّرَتْنِي بِوِلَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِإِرْضَاعِهَا لَهُ. فَإِذَا كَانَ أبو لهب الْكَافِرُ الَّذِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذَمِّهِ جُوزِيَ فِي النَّارِ بِفَرَحِهِ لَيْلَةَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، فَمَا حَالُ الْمُسْلِمِ الْمُوَحِّدِ مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَرُّ بِمَوْلِدِهِ وَيَبْذُلُ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ فِي مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لَعَمْرِي إِنَّمَا يَكُونُ جَزَاؤُهُ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ أَنْ يُدْخِلَهُ بِفَضْلِهِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَقَالَ الْحَافِظُ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى "مَوْرِدُ الصَّادِي فِي مَوْلِدِ الْهَادِي": قَدْ صَحَّ أَنَّ أبا لهب يُخَفَّفُ عَنْهُ عَذَابُ النَّارِ فِي مِثْلِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِإِعْتَاقِهِ ثويبة سُرُورًا بِمِيلَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَنْشَدَ: إِذَا كَانَ هَذَا كَافِرًا جَاءَ ذَمُّهُ ... وَتَبَّتْ يَدَاهُ فِي الْجَحِيمِ مُخَلَّدَا أَتَى أَنَّهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ دَائِمًا ... يُخَفَّفُ عَنْهُ لِلسُّرُورِ بِأَحْمَدَا فَمَا الظَّنُّ بِالْعَبْدِ الَّذِي طُولَ عُمْرِهِ ... بِأَحْمَدَ مَسْرُورًا وَمَاتَ مُوَحِّدَا وَقَالَ الكمال الأدفوي فِي "الطَّالِعِ السَّعِيدِ": حَكَى لَنَا صَاحِبُنَا الْعَدْلُ ناصر الدين محمود ابن العماد أَنَّ أبا الطيب محمد بن إبراهيم السبتي المالكي نَزِيلَ قُوصَ، أَحَدَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، كَانَ يَجُوزُ بِالْمَكْتَبِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: يَا فَقِيهُ، هَذَا يَوْمُ سُرُورٍ اصْرِفِ الصِّبْيَانَ، فَيَصْرِفُنَا، وَهَذَا مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى تَقْرِيرِهِ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ فَقِيهًا مَالِكِيًّا مُتَفَنِّنًا فِي عُلُومٍ، مُتَوَرِّعًا، أَخَذَ عَنْهُ أبو حيان وَغَيْرُهُ، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. (فَائِدَةٌ) قَالَ ابن الحاج: فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُصَّ مَوْلِدُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الْكَرِيمُ بِشَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَفِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَلَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَلَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتِهَا؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ أَنْ خَلْقَ الْأَقْوَاتِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْخَيْرَاتِ الَّتِي يَمْتَدُّ بِهِ بَنُو آدَمَ وَيَحْيَوْنَ وَتَطِيبُ بِهَا نُفُوسُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ فِي لَفْظَةِ رَبِيعٍ إِشَارَةً وَتَفَاؤُلًا حَسَنًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اشْتِقَاقِهِ، وَقَدْ قَالَ أبو عبد الرحمن الصقلي: لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنِ اسْمِهِ نَصِيبٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ فَصْلَ الرَّبِيعِ أَعْدَلُ الْفُصُولِ وَأَحْسَنُهَا، وَشَرِيعَتُهُ أَعْدَلُ الشَّرَائِعِ وَأَسْمَحُهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَكِيمَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ بِهِ الزَّمَانَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ، فَلَوْ وُلِدَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَكَانَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِهَا. تَمَّ الْكِتَابُ، وَلَلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. [بَابُ الْخُلْعِ] مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: ائْتِ بِشَاهِدٍ لِأُبْرِئَكَ وَطَلِّقْنِي، فَأَتَى لَهَا بِهِ، فَقَالَتْ: أَبْرَأْتُكَ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَقَالَتْ لَهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الْجَوَابُ: إِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ الْقَدْرَ الَّذِي لَهَا عَلَيْهِ صَحَّتِ الْبَرَاءَةُ، وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ نَجَّزَهُ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ، فَالظَّاهِرُ وُقُوعُهُ، صَحَّتِ الْبَرَاءَةُ أَمْ لَا، وَلَا يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ أَبْرَأْتِنِي مِنْ جَمِيعِ مَا يَلْزَمُنِي لَكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَبْرَأَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ بَعْدَ مُضِيِّ قَدْرِ ثَلَاثِ دَرَجٍ، قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَهَلْ تَبِينُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَوْ يَقَعُ رَجْعِيًّا؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِعَدَمِ الْبَيْنُونَةِ لِكَوْنِ الْإِبْرَاءِ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، فَهَلْ تَبِينُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، الثَّانِيَةِ الَّذِي قَالَهَا بَعْدَ الْإِبْرَاءِ، وَهَلْ يَقَعُ طَلْقَتَيْنِ أَوْ يَقَعَا رَجْعَتَيْنِ وَتَلْحَقُهُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ؟ الْجَوَابُ: إِنْ كَانَ الْقَدْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْهُ مَعْلُومًا صَحَّتِ الْبَرَاءَةُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَلَمْ يَلْحَقْ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الْبَرَاءَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدُ: أَنْتِ طَالِقٌ، يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، ثُمَّ تَكْمُلُ الثَّلَاثُ بِقَوْلِهِ، بَعْدَ أَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَقَوْلُ السَّائِلِ: لِكَوْنِ الْإِبْرَاءِ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقُ، لَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ، بَلْ هِيَ مِنْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى الْإِبْرَاءِ، فَالْإِبْرَاءُ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ لَا مُعَلَّقٌ، فَلْيُفْهَمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: إِذَا قَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنْ طَلَّقْتَنِي، فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِي، فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 يَجِبُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعِوَضُ فَاسِدًا بِأَنْ ذَكَرَ خَمْرًا أَوْ نَحْوَهُ، أَوْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَمْلًا عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْإِبْرَاءِ لَا يَصِحُّ أَمْ كَيْفَ الْحَالُ؟ الْجَوَابُ: إِذَا قَالَتْ: إِنْ طَلَّقْتَنِي فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِي، لَمْ يَحْصُلِ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَهُ بَاطِلٌ، وَهَلْ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ، أَوْ بَائِنًا وَيَلْزَمُهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؟ وَجْهَانِ جَزَمَ الرافعي والنووي بِالْأَوَّلِ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ أَبْوَابِ الْخُلْعِ، وَجَزَمَا بِالثَّانِي نَقْلًا عَنِ القاضي حسين وَأَقَرَّاهُ فِي الْفُرُوعِ الْمَنْثُورَةِ آخِرَ الْخُلْعِ، وَذَكَرَ الإسنوي فِي الْمُهِمَّاتِ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الرافعي فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ، لَكِنْ مَالَ فِي الْكَبِيرِ إِلَى الثَّانِي بَحْثًا، وَبِهِ أَجَابَ القفال فِي فَتَاوِيهِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابن الصلاح. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ أَبْرَأْتِنِي مِنْ صَدَاقِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا أَبْرَأَتْهُ فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا؟ وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تُبْرِئَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ يُشْتَرَطُ عِلْمُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِقَدْرِ الْمُبَرَّأِ مِنْهُ أَوْ عِلْمُ الزَّوْجِ فَقَطْ؟ أَوِ الزَّوْجَةِ فَقَطْ؟ وَإِذَا رَجَعَ الزَّوْجُ قَبْلَ صُدُورِ الْإِبْرَاءِ هَلْ يَبْطُلُ حُكْمُهُ؟ الْجَوَابُ: الرَّاجِحُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وُقُوعُهُ بَائِنًا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الزركشي فِي قَوَاعِدِهِ، وَبِشَرْطِ أَنْ تَنْوِيَ الزَّوْجَةُ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِقَدْرِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِمَا الشَّيْخُ ولي الدين العراقي فِي فَتَاوِيهِ. [بَابُ الطَّلَاقِ] [ مسائل متفرقة ] بَابُ الطَّلَاقِ مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَلَقِيَهُ شَخْصٌ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ بِزَوْجَتِكَ؟ قَالَ: طَلَّقْتُهَا سَبْعِينَ، فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ مُؤَاخَذَةً بِإِقْرَارِهِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ثَلَاثًا إِنْ آذَيْتِنِي يَكُونُ سَبَبَ الْفِرَاقِ بَيْنِي وَبَيْنَكِ، فَاخْتَلَسَتْ لَهُ نِصْفَ فِضَّةٍ، فَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ. الْجَوَابُ: يُطَلِّقُهَا حِينَئِذٍ طَلْقَةً، فَيَبَرُّ مِنْ حَلِفِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَقَعَ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَنَامُ بِحِذَاءِ زَوْجَتِهِ، فَجَاءَتْ وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ فِي النَّوْمِ وَاضْطَجَعَتْ حِذَاءَهُ وَأَيْقَظَتْهُ، فَقَامَ مِنْ نَوْمِهِ وَلَمْ يَنَمْ بِحِذَائِهَا، فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ؟ الْجَوَابُ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ تَشَاجَرَ مَعَ زَوْجَتِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: قُلْ لِي: طَالِقٌ، فَقَالَ: طَالِقٌ، بِلَا نِيَّةٍ، فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ؟ الْجَوَابُ: لَا يَقَعُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِأَنْتِ أَوْ زَوْجَتِي أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ: شَاهِدٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَكْتُبُ مَعَ فُلَانٍ فِي وَرَقَةٍ رَسْمَ شَهَادَةٍ، فَكَتَبَ الْحَالِفُ أَوَّلًا، ثُمَّ كَتَبَ الْآخَرُ. الْجَوَابُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ أَصْلُ الْوَرَقَةِ الْمَكْتُوبَةِ بِخَطِّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ تَوَاطُؤٌ وَلَا عَلَى عِلْمِهِ أَنَّهُ يَكْتُبُ فِيهَا - لَمْ يَحْنَثْ، وَإِلَّا حَنِثَ. مَسْأَلَةٌ مَا قَوْلُكُمْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالتُّقَى ... بَقِيتُمْ فِي عِزَّةٍ وَفِي ارْتِقَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ طَلْقَتَيْنِ ... زَوْجَتَهُ يَا قُرَّةً لِعَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِشَخْصٍ، فَإِذَا ... مَا طُلِّقَتْ مِنْهُ، فَهَلْ مِنْ بَعْدِ ذَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ هَلْ تَعُودُ لَا، فَارَقَتْ أَبْوَابَكَ السُّعُودُ ... عَلَى ثَلَاثٍ مِثْلَ مَا قَدْ كَانَتْ أَوْ بِالَّذِي يَبْقَى بُعَيْدَ بَانَتْ ... وَمَا هُوَ الْحُكْمُ أَفْتِنَا مَأْجُورَا ، فَطَالِعُ السَّعْدِ يُضِيءُ نُورَا الْجَوَابُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدْ وَفَّقَا ... إِلَى الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ الْمُنْتَقَى ثُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ... صَلَاتُهُ تُشْرِقُ كُلَّ حِينِ إِنْ طَلْقَتَيْنِ طَلَّقَ الزَّوْجُ وَذَا ... مِنْ بَعْدِ مَا تَزَوَّجَتْ قَدْ أَخَذَا فَإِنَّهَا بِطَلْقَةٍ تَعُودُ ... قَدْ قَالَهُ إِمَامُنَا الْمُفِيدُ وَلَيْسَ حَقًّا بِالثَّلَاثِ عَادَتْ ، فَافْهَمْ جَوَابِي، فَهْمَ حَبْرٍ قَانِتْ ... وابن السيوطي الشافعي يَرْتَجِي مِنْ رَبِّهِ مَغْفِرَةً وَيَلْتَجِي مَسْأَلَةٌ: قَوْلُ الْمِنْهَاجِ فِي الطَّلَاقِ: يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِشَرْطِ اتِّصَالِهِ، وَلَا يَضُرُّ سَكْتَةُ تَنَفُّسٍ وَعِيٍّ، هَلْ هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَوْ بِفَتْحِهَا، وَمَا مَعْنَاهُ؟ الْجَوَابُ: هُوَ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ التَّعَبُ مِنَ الْقَوْلِ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْعِيُّ خِلَافُ الْبَيَانِ. مَسْأَلَةٌ: شَخْصٌ أَرَادَ أَنْ يَحْبِسَ رَجُلًا بَدَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ طَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ بَائِنًا لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أَحْبِسْكَ، أَوْ قَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ تُطَلِّقْهَا بَائِنًا حَبَسْتُكَ، فَطَلَّقَهَا بِمَالٍ خَوْفًا مِنَ الْحَبْسِ، هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَتَهْدِيدُهُ بِالْحَبْسِ عَلَى الدَّيْنِ إِكْرَاهٌ بِحَقٍّ، فَلَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَهُوَ ظُلْمٌ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الْمُعْسِرِ لَا يَجُوزُ، فَهُوَ إِكْرَاهٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: تَكُونِي طَالِقًا، هَلْ تَطْلُقُ أَمْ لَا؟ لِاحْتِمَالِ هَذَا اللَّفْظِ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، وَهَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَمْ كِنَايَةٌ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ فِي الْحَالِ، فَمَتَى يَقَعُ، أَبِمُضِيِّ لَحْظَةٍ أَمْ لَا يَقَعُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مُبْهَمٌ. الْجَوَابُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كِنَايَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ طَلُقَتْ، أَوِ التَّعْلِيقَ احْتَاجَ إِلَى ذِكْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ وَعْدٌ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ ثُمَّ بَحَثَ بَاحِثٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ، فَقَالَ: الْكِنَايَةُ مَا احْتَمَلَ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَقُلْتُ: بَلْ هُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ إِنْشَاءَ الطَّلَاقِ وَالْوَعْدَ بِهِ، فَقَالَ: إِذَا قَصَدَ الِاسْتِقْبَالَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ كَالْمُعَلَّقِ عَلَى مُضِيِّ زَمَانٍ، فَقُلْتُ: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْلِيقِ، وَلَا بُدَّ فِي التَّعْلِيقَاتِ مِنْ ذِكْرِ الْمُعَلَّقِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَالْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْفِعْلُ أَوِ الزَّمَنُ مَثَلًا، وَهُنَا لَمْ يَقَعْ ذِكْرُ الزَّمَانِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، قَالَ: هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ: تَكُونِي، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ. قُلْتُ: دَلَالَتُهُ عَلَيْهِمَا لَيْسَتْ بِالْوَضْعِ وَلَا لَفْظِيَّةً، وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الْفِعْلَ وُضِعَ لِحَدَثٍ مُقْتَرِنٍ بِزَمَانٍ، وَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ وُضِعَ لِلْحَدَثِ وَالزَّمَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ بِأَنَّ الدَّلَالَاتِ فِي عُرْفِ النُّحَاةِ ثَلَاثٌ: لَفْظِيَّةٌ وَصِنَاعِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، فَالْأُولَى كَدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى الْحَدَثِ، وَالثَّانِيَةُ كَدَلَالَتِهِ عَلَى الزَّمَانِ، وَالثَّالِثَةُ كَدَلَالَتِهِ عَلَى الْفِعَالِ، وَصَرَّحَ ابن هشام الخضراوي فِي الْإِفْصَاحِ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَفْعَالِ عَلَى الزَّمَانِ لَيْسَتْ لَفْظِيَّةً، بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ أُصُولِ النَّحْوِ، وَدَلَالَاتُ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ لَا يُعْمَلُ بِهَا فِي الطَّلَاقِ وَالْأَقَارِيرِ وَنَحْوِهَا، بَلْ لَا يُعْتَمَدُ فِيهَا إِلَّا عَلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ وَالدَّلَالَةُ اللَّفْظِيَّةُ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَعْدٌ، وَهُوَ مُضَارِعٌ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّنْفِيسِ لَقِيلَ: سَوْفَ تَكُونِينَ طَالِقًا، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ وَعْدٌ بِلَا شَكٍّ، فَكَذَا عِنْدَ تَجَرُّدِهِ مِنْ سَوْفَ، فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ السُّؤَالِ: تَكُونِي، بِحَذْفِ النُّونِ، قُلْتُ: لَا فَرْقَ، فَإِنَّهُ لُغَةٌ، وَعَلَى تَقْرِيرِ أَنْ يَكُونَ لَحْنًا، فَلَا فَرْقَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَيْنَ الْمُعْرَبِ وَالْمَلْحُونِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ الْأَمْرَ، عَلَى حَذْفِ اللَّامِ؛ أَيْ لِتَكُونِي، فَهُوَ إِنْشَاءٌ، فَتَطْلُقُ فِي الْحَالِ بِلَا شَكٍّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ دَخَلَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى بَيْتِ رَجُلٍ مِنْ إِلْزَامِهِ، فَدَخَلَ فَوَجَدَهَا قَائِمَةً مَشْدُودَةَ الْوَسَطِ، فَقَالَ: صِرْتِ خَدِيمَةَ الطَّلَاقِ، يَلْزَمُنِي مَا بَقِيتُ تَدْخُلِي مِنْ هَذِهِ الْعَتَبَةِ، ثُمَّ إِنْ صَاحِبَةَ الْبَيْتِ انْتَقَلَتْ إِلَى دَارٍ أُخْرَى، فَهَلْ إِذَا دَخَلَتِ الزَّوْجَةُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا الدَّارَ الثَّانِيَةَ يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِدُخُولِ الدَّارِ الثَّانِيَةِ، وَيَقَعُ بِدُخُولِ الْأُولَى مِنْ تِلْكَ الْعَتَبَةِ وَلَوْ بَعْدَ النُّقْلَةِ؛ لِأَجْلِ التَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ. مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِشَخْصٍ، فَطَالَبَهُ، فَحَلَفَ الْمَدْيُونُ بِالطَّلَاقِ مَتَى أَخَذْتَ مِنِّي هَذَا الْمَبْلَغَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا أَسْكُنُ فِي هَذِهِ الْحَارَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَوَّضَ فِي الْمَبْلَغِ الْمَذْكُورِ قُمَاشًا وَانْتَقَلَ مِنْ وَقْتِهِ، فَهَلْ إِذَا عَادَ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هُنَا أَمْرَانِ يُتَكَلَّمُ فِيهِمَا: الْأَوَّلُ كَوْنُهُ تَعَوَّضَ بِالْمَبْلَغِ قُمَاشًا، وَالْحَلِفُ عَلَى أَخْذِ هَذَا الْمَبْلَغِ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَبْلَغِ الْمُدَّعَى بِهِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ نَقْدٌ وَالْمَأْخُوذُ غَيْرُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَقَعْ أَخْذُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْأَخْذِ مُطْلَقَ الِاسْتِيفَاءِ، فَيَقَعُ حِينَئِذٍ عَمَلًا بِنِيَّتِهِ، الثَّانِي الْعُودُ بَعْدَ النُّقْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ وَهُوَ فِي صُورَةِ الْإِطْلَاقِ، فَوَاضِحٌ، وَإِنْ وَقَعَ وَهُوَ فِي صُورَةِ قَصْدِ مُطْلَقِ الِاسْتِيفَاءِ، فَالْحَلِفُ قَدْ وَقَعَ عَلَى السُّكْنَى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَيَحْنَثُ بِالسُّكْنَى فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَتَى غَابَ عَنْ زَوْجَتِهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِلَا نَفَقَةٍ كَانَتْ طَالِقًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَ أَبُوهَا وَأَخَذَهَا مِنْ مَنْزِلِ الزَّوْجِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَسَافَرَ بِهَا إِلَى قُطْرٍ آخَرَ، فَجَاءَ الزَّوْجُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَسَأَلَ عَنْ زَوْجَتِهِ، فَأُخْبِرَ بِمَا وَقَعَ، فَتَخَلَّفَ الرَّجُلُ عَنِ السَّفَرِ إِلَيْهِمْ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيَنْزِلُ قَوْلُهُ: بِلَا نَفَقَةٍ، عَلَى النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ تَحْصُلِ الْغَيْبَةُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا حَصَلَتْ مِنْ جِهَتِهَا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْمَنْقُولِ مَنْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ، فَفَارَقَهُ الْغَرِيمُ وَهُوَ وَاقِفٌ لَمْ يَتْبَعْهُ، لَمْ يَحْنَثْ، سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ لَمْ تَحْصُلْ مِنْ جِهَتِهِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنِّي أَجْوَدُ مِنْ فُلَانٍ، فَهَلْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ؟ وَرَجُلٌ حَلَفَ أَنَّ هَذَا الشَّاشَ لِغَيْرِهِ، الَّذِي عَلَى رَأْسِ زَيْدٍ لِعَمْرٍو، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فَظَهَرَ أَنَّ الشَّاشَ لِغَيْرِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وَكَانَ الْحَالِفُ عَهِدَ شَاشَ عَمْرٍو عَلَى زَيْدٍ، فَهَلْ يُغَلَّبُ جَانِبُ الْإِشَارَةِ عَلَى الظَّنِّ وَيَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَوْ لَا؟ وَرَجُلٌ أَكْرَهَ زَيْدًا عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ فِي مَجْلِسِهِ بِطَلْقَةٍ، فَلَمْ يُوقِعْهَا فِي مَجْلِسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ فِي التَّرْسِيمِ وَخَلَعَ زَوْجَتَهُ بِطَلْقَةٍ عَلَى عِوَضٍ مَعْلُومٍ، فَهَلْ يُعَدُّ ذَلِكَ إِكْرَاهًا وَلَا يَحْنَثُ؟ أَمْ يَقَعُ عَلَيْهِ بِصَرِيحِ الْخُلْعِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ؟ وَمَا هُوَ الْأَجْوَدُ هَلِ الْأَفْضَلُ دِينًا أَوِ النَّسَبُ أَوِ الْأَكْرَمُ؟ الْجَوَابُ: الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ: تَارَةً يَعْرِفُ النَّاسُ أَنَّ الْحَالِفَ أَجْوَدُ؛ أَيْ: أَدْيَنُ مِنَ الْآخَرِ، فَلَا حِنْثَ. وَتَارَةً يَعْرِفُونَ أَنَّ الْآخَرَ أَدْيَنُ مِنْهُ، فَيَحْنَثُ. وَتَارَةً لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِمَا مُتَقَارِبَيْنِ فِي الدِّينِ أَوِ الْجِنْسِ، وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا أَمْيَزُ، فَلَا حِنْثَ؛ لِلشَّكِّ. وَمَسْأَلَةُ الشَّاشِ يَقَعُ فِيهَا الطَّلَاقُ عِنْدِي، وَلِي فِي ذَلِكَ مُؤَلَّفٌ، وَمَسْأَلَةُ الْخَالِعِ يَقَعُ فِيهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ اشْتَرَى خِرْقَةَ جُوخٍ، فَقَطْعَ بَعْضَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: عَلَيَّ الطَّلَاقُ مَا يَلْبَسُهَا إِلَّا أَنَا؛ أَيِ: الْخِرْقَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَلَا نِيَّةَ لِلْحَالِفِ أَصْلًا، ثُمَّ اتَّفَقَ هُوَ وَالْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يُفَصِّلَ الْخِرْقَةَ الْمَذْكُورَةَ وَيَخِيطَهَا، فَلَمَّا فُصِّلَتْ وَخِيطَتْ جِيءَ بِهَا وَعَلَّقَ فِيهَا مَا خَرَجَ مِنْهَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِهِ عِنْدَ الْخَيَّاطِ مِنْ قُوَارَةٍ وَمَا يُقْطَعُ مِنَ الذَّيْلِ وَغَيْرِهِ لِلْإِصْلَاحِ، وَلَبِسَهَا الْبَائِعُ ثُمَّ نَزَعَهَا وَقَلَعَ مِنْهَا مَا عَلَّقَهُ فِيهَا مِنَ الْقُوَارَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا لِلْمُشْتَرِي، فَلَبِسَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ، فَهَلِ الْيَمِينُ تَعَلَّقَتْ بِحَمْلِهِ هَذِهِ الْخِرْقَةَ حَتَّى لَا يَحْنَثَ الْحَالِفُ بِلُبْسِ غَيْرِهِ لَهَا بَعْدَ إِزَالَةِ مَا ذُكِرَ، أَوْ يُحْمَلُ الْيَمِينُ عَلَى خِلَافِ الْقُوَارَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْيَمِينُ؟ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ فُتَاتِ الْخُبْزِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، وَكَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ: إِذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، فَخَيَّطَهُ قَمِيصًا أَوْ قِبَاءً أَوْ جُبَّةً أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ جَعَلَ الْخُفَّ نَعْلًا، حَنِثَ بِالْمُتَّخَذِ مِنْهُ، حَتَّى يَحْنَثَ الْبَائِعُ بِلُبْسِهَا بَعْدَ إِزَالَةِ مَا ذُكِرَ؟ الْجَوَابُ: يَحْنَثُ الْحَالِفُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صِيغَةِ الْحَصْرِ، حَيْثُ حَلَفَ لَا يَلْبَسُهَا إِلَّا هُوَ، وَلَا يُفِيدُ فِي دَفْعِ الْحِنْثِ إِزَالَةُ مَا ذَهَبَ بِالتَّفْصِيلِ مِنْ قُوَارَةٍ وَقُصَاصَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ فِي حَالِ التَّفْصِيلِ؛ لِيَحْصُلَ اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ فِي مِثْلِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَا وَقْفَةَ، وَلَيْسَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرَّغِيفَ، فَأَكَلَهُ إِلَّا لُقْمَةً، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ قَالَ لِزَوْجَاتِهِ الْأَرْبَعِ: إِحْدَى زَوْجَاتِي طَالِقٌ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ، يَقَعُ عَلَيْهِ بِكُلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 مَرَّةٍ طَلْقَةٌ؟ وَعِنْدَ قَوْلِهِ لَهُنَّ: إِحْدَى هَؤُلَاءِ طَالِقٌ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ، لَا يَقَعُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدَةٍ وَلَا يَقَعُ بِالتَّكْرَارِ شَيْءٌ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِرَادَةُ إِنْشَاءٍ أَوْ إِخْبَارٍ، فَمَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ التَّكْرَارِ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَهَلِ الْحُكْمُ فِي الْعِتْقِ كَالْحُكْمِ فِي الطَّلَاقِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ الْجَوَابُ: [هَذِهِ] الْمَسْأَلَةُ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الشَّرْحَيْنِ وَلَا فِي الرَّوْضَةِ وَلَا فِي شُرُوحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، لَا حُكْمًا وَلَا تَصْوِيرًا، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ اسْتِوَاءُ الصُّورَتَيْنِ، وَأَنَّهُ إِنْ قَصَدَ فِيهِمَا الِاتِّحَادَ لَمْ تَطْلُقْ غَيْرُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوِ التَّعَدُّدَ، وَقَعَ بِحَسَبِ مَا عَدَّدَ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَاحِدَةٍ، هَذَا بِحَسَبِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَأَمَّا عَدَدُ الطَّلَقَاتِ فَمَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ، فَإِنْ قَصَدَ التَّأْكِيدَ فَوَاحِدَةٌ، أَوِ الِاسْتِئْنَافَ أَوْ أَطْلَقَ، فَثَلَاثٌ فِي صُورَتَيْ مَا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً بِلَا شَكٍّ أَوْ أَطْلَقَ، فِيمَا بَحَثْنَاهُ وَلَمْ نَرَهُ مَنْقُولًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ وَزَوْجَتِي كَذَلِكَ، هَلْ تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ؟ الْجَوَابُ: ذَكَرَ الرافعي أَنَّهُ لَوْ قَالَ: نِسَاءُ الْعَالَمِينَ طَوَالِقُ، وَأَنْتِ يَا زَوْجَتِي، لَا تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَى نِسْوَةٍ لَمْ يَطْلُقْنَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَأَنْتِ يَا أُمَّ أَوْلَادِي، لَا تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ، قَالَ الإسنوي فِي التَّمْهِيدِ: وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، حَتَّى إِذَا أَشَارَ إِلَى أَجْنَبِيَّةٍ فَقَالَ: طَلَّقْتُ هَذِهِ وَزَوْجَتِي، لَا تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ. انْتَهَى. فَقَدْ يَقِفُ الْوَاقِفُ عَلَى هَذَا النَّقْلِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ الصُّورَةُ الْمَسْؤُولُ عَنْهَا، فَيُبَادِرُ إِلَى الْجَوَابِ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الصُّورَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الرافعي وَالَّتِي ذَكَرَهَا الإسنوي فِي الْعَطْفِ خَاصَّةٌ، وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتِ يَا زَوْجَتِي، أَوْ قَوْلِهِ: وَزَوْجَتِي، وَأَمَّا الصُّورَةُ الَّتِي فِي السُّؤَالِ، فَلَيْسَتْ عَطْفًا بَلْ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، حَيْثُ ضَمَّ إِلَيْهَا قَوْلَهَ: كَذَلِكَ؛ أَيْ طَالِقٌ، فَالَّذِي يُقَالُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: إِنَّهَا صِيغَةُ كِنَايَةٍ، إِنْ نَوَى طَلَاقَهَا بِذَلِكَ طَلُقَتْ وَإِلَّا فَلَا، كَمَا هُوَ الْمَنْقُولُ فِيمَا لَوْ طَلَّقَ هُوَ أَوْ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتَ كَهِيَ، فَإِنْ نَوَى طَلُقَتْ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا، فَقَالَتْ: يَكْفِينِي وَاحِدَةٌ، فَقَالَ: الْبَاقِي لِضَرَّتِكِ، فَإِنَّهُ إِنْ نَوَى وَقَعَ عَلَى الضَّرَّةِ طَلْقَتَانِ وَإِلَّا فَلَا، فَقَوْلُهُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ: وَزَوْجَتِي كَذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ كَهِيَ، وَكَقَوْلِهِ: الْبَاقِي لِضَرَّتِكِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّخْرِيجَ مِنْ أَصْلِهِ مَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 طَلَاقِ حَفْصَةَ مَثَلًا، فَقَالَ لَهَا وَلِعَمْرَةَ: طَلَّقْتُكُمَا، فَإِنَّهُمَا يَطْلُقَانِ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: طَلَّقْتُ حَفْصَةَ وَطَلَّقْتُ عَمْرَةَ، أَوْ حَفْصَةُ طَالِقٌ وَعَمْرَةُ طَالِقٌ، لَمْ تَطْلُقِ الْمُكْرَهُ عَلَيْهَا وَهِيَ حَفْصَةُ وَتَطْلُقُ الْأُخْرَى، فَانْظُرْ كَيْفَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَالْجُمَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ فِي الْحُكْمِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: وَكَّلْتُكِ فِي تَطْلِيقِ نَفْسِكِ، وَأَتَى بِهَذَا اللَّفْظِ؛ أَيْ لَفْظِ التَّوْكِيلِ، فَهَلْ يَكُونُ هَذَا تَوْكِيلًا حَتَّى لَوْ طَلَّقَتْ بَعْدَ شَهْرٍ نَفَذَ، أَوْ تَمْلِيكًا حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهِ الْفَوْرُ؟ الْجَوَابُ: ذَهَبَ القاضي حسين فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْفَوْرُ فِيهِ وَإِنْ صَرَّحَ بِالتَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَشُوبُهُ شُعْبَةٌ مِنَ التَّمْلِيكِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ فِقْهٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ مُتَفَرِّدٌ بِهِ بَيْنَ الْأَصْحَابِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَذَكَرَهُ الرافعي فِي الشَّرْحِ بِاخْتِصَارٍ والنووي فِي الرَّوْضَةِ بِأَخْصَرَ مِمَّا فِي الشَّرْحِ. مَسْأَلَةٌ: شَخْصٌ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهَا لَا تَخْبِزُ فَطِيرًا عِنْدَ الْجِيرَانِ، فَعَجَنَتْ دَقِيقًا وَجَعَلَتْ فِيهِ خَمِيرًا، ثُمَّ خَبَزَتْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَمِرَ عِنْدَ الْجِيرَانِ، وَقَصْدُهُ مَنْعُهَا مَنْ خَبْزِ الْفَطِيرِ عِنْدَهُمْ، فَهَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عَمَلًا بِالْعُرْفِ فِي ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: إِنْ لَمْ تَطَأْ زَوْجَتَكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ تَكُونُ طَالِقًا، فَقَالَ: إِي، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا وَلَمْ يَطَأْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: إِي، حَرْفُ جَوَابٍ كَنَعَمْ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَبَرِ وَفِي الْإِنْشَاءِ، قَالَ تَعَالَى فِي الْإِنْشَاءِ: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ نَعَمْ صَرِيحَةٌ فِي الْإِنْشَاءِ كَالْخَبَرِ، فَكَذَلِكَ إِي، فَالظَّاهِرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِلَا نِيَّةٍ إِلَّا أَنَّ عِنْدِي فِيهِ وَقْفَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعْلِيقٌ لَا تَنْجِيزٌ، فَقَدْ يُقَالُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، إِلَّا أَنَّ الْأَقْرَبَ عَدَمُ الْفَرْقِ، خُصُوصًا وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ السُّؤَالَ مُعَادٌ فِي الْجَوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 [الْقَوْلُ الْمُضِيُّ فِي الْحِنْثِ فِي الْمُضِيِّ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَبَعْدُ، فَقَدْ تَكَرَّرَ السُّؤَالُ عَمَّنْ حَلَفَ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ، أَوْ كَانَ كَذَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُ ذَلِكَ، هَلْ يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ وَالطَّلَاقِ أَوْ لَا يَحْنَثُ فِيهِمَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ؟ فَأَجَبْتُ بِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ الْحِنْثُ بِخِلَافِ صُورَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَمُعْتَمَدِي فِي ذَلِكَ نُقُولٌ صَرِيحَةٌ وَغَيْرُهَا مِنْ كَلَامِ الرافعي والنووي وَابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْهُمُ التَّصْرِيحُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ صُورَتَيِ الْمُضِيِّ وَالِاسْتِقْبَالِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَقَعَ فِي الرَّوْضَةِ سَأَذْكُرُ تَأْوِيلَهُ. فَأَقُولُ: أَمَّا تَصْرِيحُ الرافعي والنووي فَفِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: قَالَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ: لَوْ أَشَارَ إِلَى ذَهَبٍ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ فُلَانٍ، وَشَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ الذَّهَبَ طَلُقَتْ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةً عَلَى النَّفْيِ إِلَّا أَنَّهُ نَفْيٌ يُحِيطُ الْعِلْمُ بِهِ. هَذِهِ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَهِيَ إِحْدَى صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ بِلَا شَكٍّ، فَحَلِفُهُ بِذَلِكَ إِمَّا عَنْ جَهْلٍ بِهِ أَوْ نِسْيَانٍ، فَلَا يَصِحُّ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَطْلُقُ قَطْعًا، فَلَا يَصِحُّ حِكَايَةُ خِلَافٍ فِيهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ فَرْضَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ الإسنوي وَالْأَذْرُعِيُّ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ الْأَوَّلُ بِمَا اخْتَارَهُ مِنْ عَدَمِ حِنْثِ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي مُطْلَقًا، وَسَيَأْتِي مُسْتَنَدُهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ، وَأَمَّا الْأَذْرُعِيُّ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ هُنَا: مَأْخَذُهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحِنْثِ وَهُوَ الْجَهْلُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِيَارٌ لَهُ، وَسَيَأْتِي كَلَامُهُ فِي تَرْجِيحِ الْحِنْثِ. الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَالَا فِي آخِرِ الْبَابِ نَقْلًا عَنْ تَعْلِيقِ الشيخ إبراهيم المروذي وَأَقَرَّاهُ: لَوْ قَالَ السُّنِّيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مِنَ اللَّهِ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: إِنْ كَانَا مِنَ اللَّهِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، أَوْ قَالَ السُّنِّيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنْ أبو بكر أَفْضَلَ مِنْ علي فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَقَالَ الرَّافِضِيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنْ علي أَفْضَلَ مِنْ أبي بكر فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَقَعَ طَلَاقُ الْمُعْتَزِلِيِّ وَالرَّافِضِيِّ. وَهَذِهِ مِنْ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ بِلَا شَكٍّ، فَإِنَّ حَلِفَ الْمُعْتَزِلِيِّ وَالرَّافِضِيِّ صَادِرٌ عَنْ مُعْتَقَدِهِمَا وَغَلَبَةِ ظَنِّهِمَا، وَلَمْ يَتَعَقَّبِ الإسنوي فِي الْمُهِمَّاتِ هَذَا الْمَوْضِعَ، فَإِنْ قُلْتَ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ هُنَا لِفَسَادِ هَذَا الظَّنِّ، فَلَا عُذْرَ لَهُ، قُلْتُ: هُوَ عَيْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الْمَسْأَلَةِ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ فَرْضَهَا فِي ظَنٍّ فَاسِدٍ اسْتَنَدَ إِلَيْهِ ظَانًّا صِحَّتَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ وَهُوَ دُونَ الظَّنِّ، قُلْتُ: كَلَّا بَلِ الِاعْتِقَادُ - صَحِيحًا كَانَ أَوْ فَاسِدًا - أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَهْلُ الْأُصُولِ؛ إِذْ جَعَلُوهُ قَسِيمَ الْعِلْمِ فِي الْجَزْمِ، وَجَعَلُوا غَيْرَ الْجَازِمِ ظَنًّا وَوَهْمًا وَشَكًّا، وَانْظُرْ جَمْعَ الْجَوَامِعِ تَجِدْهُ فِيهِ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْفَرْعِ مَا نَقَلَهُ فِي الْخَادِمِ عَنْ فَتَاوَى القاضي حسين: لَوْ حَلَفَ شَافِعِيٌّ بِالطَّلَاقِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهُ، وَحَلَفَ حَنَفِيٌّ أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَقَعَ طَلَاقُ زَوْجَةِ الْحَنَفِيِّ، وَإِنَّ كُنَّا لَا نُسَلِّمُ الْوُقُوعَ فِي هَذَا الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا تَبَيَّنَ الْقَطْعُ بِفَسَادِهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُعْتَزِلِيِّ وَالرَّافِضِيِّ. الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: قَالَ الرافعي: لَوْ جَلَسَ مَعَ جَمَاعَةٍ فَقَامَ وَلَبِسَ خُفَّ غَيْرِهِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: اسْتَبْدَلْتَ بِخُفِّكَ وَلَبِسْتَ خُفَّ غَيْرِكَ، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ بَعْدَ خُرُوجِ الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ إِلَّا مَا لَبِسَهُ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْدِلْ، وَإِنَّمَا اسْتَبْدَلَ الْخَارِجُونَ قَبْلَهُ، وَإِنْ بَقِيَ غَيْرُهُ طَلُقَتْ، وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ النووي فَقَالَ: صَوَابُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ بَعْدَ الْجَمِيعِ نُظِرَ، إِنْ قَصَدَ أَنِّي لَمْ آخُذْ بَدَلَهُ، كَانَ كَاذِبًا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَنَّهُ أَخَذَ بَدَلَهُ طَلُقَتْ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَى قَوْلَيْ طَلَاقِ النَّاسِي، وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ مَنْ أَخَذَ اسْتِوَاءَ حَالَتَيِ الْمُضِيِّ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوهُ، بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِجْرَاءِ الْخِلَافِ فَقَطْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرافعي فِي أَوَائِلِ الْأَيْمَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الِاسْتِوَاءُ فِي التَّصْحِيحِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مَعْرُوفٌ، خِلَافًا لِلْإِسْنَوِيِّ فِي الْمُهِمَّاتِ، حَيْثُ تَعَقَّبَ الْمَوْضِعَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي عَلَى الْقَوْلِ بِحِنْثِ النَّاسِي، وَاسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِ الرافعي فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَاضِي كَمَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَفِي الْحِنْثِ قَوْلَانِ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا، فَظَنَّ مِنَ التَّشْبِيهِ اسْتِوَاءَهُمَا فِي الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا أَوْضَحَهُ هُوَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ هُنَا لِأُمُورٍ: مِنْهَا مُوَافَقَةُ الْمَوْضِعَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَإِلَّا لَأَدَّى إِلَى التَّنَاقُضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ دَرْأَهُ أَوْلَى، وَمِنْهَا أَنَّ الرافعي فِي الشَّرْحِ لَمْ يُصَحِّحْ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِقْبَالَ شَيْئًا، بَلْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي رَجَّحَ عَدَمَ الْحِنْثِ النووي فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلْمُحَرَّرِ، فَأَكْثَرُ مَا وَقَعَ مِنَ الرافعي أَنَّهُ حَكَى فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِقْبَالِ قَوْلَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ، ثُمَّ حَكَاهُمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُضِيِّ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ لَهُ تَصْحِيحُ عَدَمِ الْحِنْثِ فِي الْمُضِيِّ، وَهُوَ لَمْ يُصَحِّحْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ شَيْئًا؟ وَإِذَا كَانَ عَلَى تَقْدِيرِ تَصْحِيحِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ عَدَمَ الْحِنْثِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 تَصْحِيحُهُ فِي الْمُضِيِّ بِمُجَرَّدِ إِجْرَاءِ الْخِلَافِ، فَلَأَنْ لَا يُنْسَبَ إِلَيْهِ تَصْحِيحٌ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ عَدَمِ تَصْحِيحِهِ فِي الْأُولَى أَوْلَى. وَمِنْهَا أَنَّ فِي فَتَاوَى النَّوَوِيَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْفَرْقِ، فَإِنَّهُ حَكَى الْقَوْلَيْنِ فِي حِنْثِ النَّاسِي وَصَحَّحَ عَدَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ كَذَا، فَيَفْعَلُهُ نَاسِيًا لِلْيَمِينِ أَوْ جَاهِلًا أَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، فَتَصْوِيرُهُ الْمَسْأَلَةَ بِذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ صُورَةَ الْمُضِيِّ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّصْوِيرِ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ، وَكَانَ فِيهِ إِخْلَالٌ، فَكَيْفَ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ صَنِيعِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ إِذَا حَكَمُوا بِحُكْمٍ ثُمَّ قَالُوا: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ كَذَا، فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ إِخْرَاجَ بَقِيَّةِ صُوَرِهَا مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ مَارَسَ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ وَتَصَانِيفَهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ صَرَّحُوا بِالْمَسْأَلَةِ وَبِتَصْحِيحِ الْحِنْثِ فِيهَا، مِنْهُمُ ابن الصلاح فِي فَتَاوِيهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ، قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرِ المحاملي فِي رُؤُوسِ الْمَسَائِلِ إِلَّا الْحِنْثَ، وَمِنْهُمْ قَاضِي الْقُضَاةِ تقي الدين بن رزين وَبَالَغَ فِي بَسْطِ الْكَلَامِ فِيهَا، وَقَدْ سُقْتُ عِبَارَتَهُ فِي كِتَابِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ بِطُولِهَا، وَنَذْكُرُ هُنَا الْمَقْصُودَ مِنْهَا، قَالَ: لِلْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ حَالَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي نَفْسِ الْيَمِينِ أَوِ الطَّلَاقِ، كَمَا إِذَا دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ وَجَهِلَ ذَلِكَ الْحَالِفُ أَوْ عَلِمَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ أَوْ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدَّارِ، فَهَذِهِ الْيَمِينُ ظَاهِرُهَا تَصْدِيقُ نَفْسِهِ فِي النَّفْيِ وَقَدْ يَعْرِضُ فِيهَا أَنْ يَقْصِدَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ فِيمَا انْتَهَى إِلَيْهِ عِلْمُهُ؛ أَيْ: لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهُ، وَلَا يَكُونُ قَصْدُهُ الْجَزْمَ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ تَرْجِعُ يَمِينُهُ إِلَى أَنَّهُ حَلَفَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ كَذَا أَوْ يَظُنُّهُ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي أَنَّهُ مُعْتَقِدٌ ذَلِكَ أَوْ ظَانٌّ لَهُ، فَإِنْ قَصَدَ الْحَالِفُ ذَلِكَ حَالَةَ الْيَمِينِ أَوْ تَلَفَّظَ بِهِ مُتَّصِلًا بِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ قَصَدَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ أَوْ أَطْلَقَ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَوْلَانِ، مَأْخَذُهُمَا أَنَّ النِّسْيَانَ وَالْجَهْلَ هَلْ يَكُونَانِ عُذْرًا فِي ذَلِكَ كَمَا كَانَا عُذْرًا فِي بَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، أَمْ لَا، كَمَا لَمْ يَكُونَا عُذْرًا فِي غَرَامَاتِ الْمُتْلَفَاتِ؟ وَيَقْوَى إِلْحَاقُهَا بِالْإِتْلَافِ، فَإِنَّ الْحَالِفَ بِاللَّهِ أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَدِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا، فَهُوَ كَالْجَانِي خَطَأً، وَالْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ إِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ كَقَوْلِهِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ فِي الدَّارِ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا، فَقَدْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ الَّذِي عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَّا لِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى عَدَمِ كَوْنِهِ فِي الدَّارِ، وَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا فِي عَدَمِ كَوْنِهِ فِي الدَّارِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِ صِيغَةِ التَّعْلِيقِ كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَقَدْ خَرَجَ زَيْدٌ مِنَ الدَّارِ، وَكَقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَيْسَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ، فَهَذَا إِذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ جَرَى مَجْرَى التَّعْلِيقِ وَإِلَّا لَوَقَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ، وَإِذَا جَرَى مَجْرَى التَّعْلِيقِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، هَذِهِ عِبَارَةُ ابن رزين بِحُرُوفِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ التَّعْلِيقُ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَفْعَلُهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، وَصَحَّحَ عَدَمَ الْحِنْثِ فِيهَا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَجَزَمَ بِمَا قَالَهُ ابن رزين مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ إِلَيْهِ القمولي فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ كَمَا رَأَيْتُهُ فِيهِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْأَذْرُعِيُّ فِي الْقُوتِ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ ابن رزين، وَذَكَرَ أَيْضًا الزركشي فِي الْخَادِمِ كَلَامَ ابن رزين، وَقَالَ: تَابَعَهُ القمولي وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ ابن رزين تَقْيِيدُ مَحَلِّ الْخِلَافِ بِقَيْدَيْنِ مُهِمَّيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَقْصِدَ فِي يَمِينِهِ الْحَلِفَ عَلَى ظَنِّهِ، فَإِنْ قَصَدَ أَنَّ ظَنَّهُ كَذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ قَطْعًا. الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ، فَإِنْ كَانَ حَنِثَ قَطْعًا، وَهَذَا لَا يَمْتَرِي فِيهِ أَحَدٌ، بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْغُرَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمِنْهَاجِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِأَنِّي رَأَيْتُ بَعْضَ ضُعَفَاءِ الْمُشْتَغِلِينَ يَهِمُونَ فِيهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِيغَةِ التَّعْلِيقِ وَغَيْرِهَا فِي عَدَمِ الْحِنْثِ فِي الْمُضِيِّ أَيْضًا، وَهَذَا جَهْلٌ مُبِينٌ. وَقَالَ الْأَذْرُعِيُّ فِي الْقُوتِ: تَكَلَّمَ ابن رزين عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَتَاوِيهِ وَأَحْسَنَ، وَلَا ذِكْرَ لِقِسْمِ الْمُضِيِّ فِي كَلَامِهِمْ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِقْبَالِ بِعَدَمِ الْحِنْثِ وَانْحِلَالِ الْيَمِينِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَنْحَلُّ كَمَا رَجَّحَهُ الرافعي والنووي، فَقَدْ جَعَلْنَاهُ خَارِجًا مِنَ الْيَمِينِ فَيَحْنَثُ؛ لِأَنَّ فِي إِخْرَاجِهِ عَنِ الْيَمِينِ هُنَا تَكَلُّفًا، فَلَمْ يَحْلِفْ هُنَا إِلَّا عَلَى كَوْنِهِ فِي الْوَاقِعِ كَذَلِكَ لَا عَلَى ظَنِّهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ يُشْبِهُ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَلَفَ مُعْتَقِدًا فَلَا انْتِهَاكَ، وَيَنْبَغِي وُقُوعُ الطَّلَاقِ إِذَا قَصَدَ تَحْقِيقَ الْخَبَرِ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِنَقِيضِ الْحَالَةِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْخَادِمِ: فَصَلَ ابن رزين بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ فِي يَمِينِهِ أَنَّ ظَنَّهُ كَذَلِكَ فَلَا يَحْنَثُ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقْصِدَ ذَلِكَ فَيَحْنَثُ، وَأَطْلَقَ ابن الصلاح الْحِنْثَ، وَالصَّوَابُ تَفْصِيلُ ابن رزين، قَالَ: وَيَدُلُّ لِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي حَالَةِ الْقَصْدِ يَمِينُ عمر فِي ابن صياد أَنَّهُ الدَّجَّالُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَفَّارَةِ، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقَصْدِ هَلْ هُوَ حَالَةَ الْيَمِينِ أَوْ بَعْدَهَا؟ الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَنِيَّةِ الْكِنَايَةِ. انْتَهَى. قَالَ الشَّيْخُ ولي الدين العراقي فِي مُخْتَصَرِ الْمُهِمَّاتِ عِنْدَ قَوْلِ الرَّوْضَةِ: فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَاضٍ كَاذِبًا؛ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا، مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: أَفْهَمُ تَعْبِيرَهُ بِالْجَهْلِ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْيِ شَيْءٍ جَهِلَ وَجُودَهُ، فَلَوْ حَلَفَ عَلَى إِثْبَاتِ شَيْءٍ بِالتَّوَهُّمِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْرِيَ فِيهِ الْخِلَافُ، بَلْ يُجْزَمُ بِالْحِنْثِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ، قَالَ: وَالْفَرْقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 بَيْنَهُمَا أَنَّهُ بَنَى يَمِينَهُ فِي النَّفْيِ عَلَى أَصْلٍ، وَلَمْ يَبْنِ يَمِينَهُ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ: وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أُمُورٌ، مِنْهَا كَلَامُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْغُرَابِ، وَمِنْهَا مَا فِي الرَّوْضَةِ: لَوْ أَشَارَ إِلَى ذَهَبٍ وَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ فُلَانٍ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ الذَّهَبَ، طَلُقَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةً عَلَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ يُحِيطُ الْعِلْمُ بِهِ؛ أَيْ مَحْصُورٌ، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بِالنِّسْيَانِ فِي الْمَاضِي بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. انْتَهَى. فَانْظُرْ كَيْفَ بَالَغَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَزَمَ بِالْحِنْثِ فِي قِسْمِ الْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ إِجْرَاءِ خِلَافٍ؟ وَهُوَ صَرِيحٌ مِنْهُ فِي أَنَّ مَسْأَلَةَ الذَّهَبِ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ مَفْرُوضَةً فِي الْعِلْمِ. (تَنْبِيهٌ) مِمَّنْ جَزَمَ بِمَقَالَةِ ابن الصلاح وابن رزين مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابن الملقن فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ، والكمال الدميري، ثُمَّ حَكَى عَنِ الْإِسْنَوِيِّ تَصْحِيحَ عَدَمِ الْحِنْثِ، وَمَنْ نَقَلَ عَنِ الدميري وَالْأَذْرَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا بِعَدَمِ الْحِنْثِ، فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِمَا كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ رَاجَعَ شَرْحَيْهِمَا وَلَهُ أَدْنَى فَهْمٌ. (تَنْبِيهٌ) أَصْلُ مَسْأَلَةِ الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالِاسْتِقْبَالِ مُضْطَرَبٌ فِيهِ غَايَةَ الِاضْطِرَابِ؛ تَوَقَّفَ فِيهَا الْأَئِمَّةُ الْجُلَّةُ، حَتَّى قَالَ الصيمري: مَا أَفْتَيْتُ فِي يَمِينِ النَّاسِي قَطُّ، وَكَذَا قَالَ أبو الفياض، وَالْمَاوَرْدِيُّ قَالَ: لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّوَقِّي أَحْوَطُ مِنْ فُرُطَاتِ الْأَقْلَامِ، وَمِمَّنْ تَوَقَّفَ فِي التَّرْجِيحِ فِيهَا الرافعي فِي الشَّرْحِ فَإِنَّهُ أَرْسَلَ الْقَوْلَيْنِ وَلَمْ يُرَجِّحْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَذَكَرَ النووي مِنْ زَوَائِدِهِ أَنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ الْحِنْثِ، وَصَوَّرَ فِي فَتَاوِيهِ الْمَسْأَلَةَ بِالِاسْتِقْبَالِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَحِينَئِذٍ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا مُضْطَرَبٌ فِيهِ يُتَوَقَّفُ فِيهِ، لَا تَرْجِيحَ فِيهِ للرافعي فِي الشَّرْحِ، وَإِنْ رَجَّحَ فِي الْمُحَرَّرِ، وَتَرْجِيحُ النووي فِيهِ مُقَيَّدٌ بِهِ كَمَا أَفْصَحَ بِهِ هُوَ فِي فَتَاوِيهِ، فَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ تَصْرِيحِهِ هُوَ والرافعي فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ بِمَا يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَمَعَ تَصْرِيحِ خَلَائِقَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ - مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي مَرْتَبَةِ التَّرْجِيحِ - بِالْفَرْقِ أَيْضًا، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْخَادِمِ مَا نَصُّهُ: تَوَقَّفَ الرافعي فِي التَّرْجِيحِ فِي مَسْأَلَةِ النَّاسِي وَكَذَلِكَ الْمَوْجُودُ فِي غَالِبِ كُتُبِ الْأَصْحَابِ إِرْسَالُ الْقَوْلَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ، وَتَوَقَّفَ فِي الْإِفْتَاءِ فِيهَا القاضي أبو حامد وأبو الفياض البصري وَأَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَكَذَلِكَ ابن الرفعة فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ الْحِنْثَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ، وَاخْتَارَهُ ابن عبد السلام فِي الْقَوَاعِدِ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَغْلِبْ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى حَالِ الذِّكْرِ، وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 غَيْرُهُ: إِنَّهُ الْأَرْجَحُ دَلِيلًا، وَأَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَأَنَّهُ أَثْبَتُ فِي الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ نُصِبَ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ، وَخِطَابُ الْوَضْعِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَشُعُورُهُ، وَلِهَذَا لَوْ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِالطَّلَاقِ جَاهِلًا بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَقَعَ، فَكَذَلِكَ النَّاسِي، وَأَمَّا حَدِيثُ " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» "، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، وَلَا عُمُومَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيهِ تَقْدِيرُ مُضْمَرٍ، وَلَا عُمُومَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ الشَّيْخُ بهاء الدين السبكي فِي تَكْمِلَةِ شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِأَبِيهِ، وَزِيَادَاتِ وَالِدِهِ أَيْضًا، كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي الْفَتْوَى بِهَا، وَإِنَّمَا نَقَلْتُ هَذَا كُلَّهُ لِأُبَيِّنَ لَكَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الِاسْتِقْبَالِ مُتَوَقَّفٌ فِيهَا غَايَةَ التَّوَقُّفِ، فَمِنْ مُصَحِّحٍ لِلْحِنْثِ وَنَاسِبِهِ لِلْأَكْثَرِينَ، وَمِنْ مُتَوَقِّفٍ، حَتَّى الرافعي، فَكَيْفَ يُلْحَقُ بِهَا مَسْأَلَةُ الْمُضِيِّ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ صَرِيحٍ فِيهَا عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوِ الْمُصَحِّحِينَ، مَعَ التَّصْرِيحِ مِنْهُمْ بِالْحِنْثِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِخِلَافِهِ، هَذَا مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. (تَنْبِيهٌ) : قِيلَ: قَدْ تَعْقَّبَ فِي الْمُهِمَّاتِ الْمَوْضِعَ الْأَوَّلَ فِي الرَّوْضَةِ بِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الشَّهَادَةِ فِيهِ نِزَاعٌ، وَمُخَالِفٌ لِلْمَذْكُورِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى أَخْبَارِ الْغَيْرِ بَلْ إِلَى تَذَكُّرِهِ. قُلْنَا: هَذَا لَنَا لَا عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ إِذَا حُكِمَ بِالْحِنْثِ عِنْدَ الْإِخْبَارِ الْمُتَنَازَعِ فِي قَبُولِهِ، فَعِنْدَ تَذَكُّرِهِ هُوَ أَوْلَى، وَمُعَوِّلُنَا عَلَى الِانْكِشَافِ وَالتَّبْيِينِ بِطْرِيقٍ مُعْتَبَرٍ مَقْبُولٍ. (تَنْبِيهٌ) : إِنْ قِيلَ: حَدِيثُ عمر فِي حَلِفِهِ أَنَّ ابن صياد هُوَ الدَّجَّالُ، يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ أَنَّهُ قَصَدَ أَنَّ ظَنَّهُ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ عَامًّا. قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ، فَإِنَّ ابن صياد لَمْ يُتَبَيَّنْ أَمْرُهُ، وَلَا حِنْثَ مَعَ الشَّكِّ، وَالْأَخْبَارُ فِي كَوْنِهِ هُوَ الدَّجَّالَ أَوْ غَيْرَهُ مُتَعَارِضَةٌ، وَقَدْ قَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: قِصَّةُ ابن صياد مُشْكِلَةٌ وَأَمْرُهُ مُشْتِبَهٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِفَاتِ الدَّجَّالِ، وَكَانَ فِي ابن صياد قَرَائِنُ مُحْتَمِلَةٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْطَعُ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ بَلْ قَالَ لعمر: " «لَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» ". . . الْحَدِيثَ، هَذَا كَلَامُ النووي. (تَنْبِيهٌ) : ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ إِلَى الْحِنْثِ فِي الْجَهْلِ دُونَ النِّسْيَانِ، فَقُلْتُ لَهُ: لَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنَ النَّاسِي؛ إِذْ مَنْ عَلِمَ ثُمَّ نَسِيَ يُنْسَبُ إِلَى تَقْصِيرٍ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: مَنْ صَلَّى مَعَ نَجَاسَةٍ جَهِلَهَا هَلْ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؟ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، فَإِنْ عَلِمَهَا وَنَسِيَهَا، فَطَرِيقَانِ، أَصَحُّهُمَا الْقَطْعُ بِالْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 إِلَى تَقْصِيرٍ، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ، وَفِي التَّيَمُّمِ لَوْ أَدْرَجَ فِي رَحْلِهِ مَاءً وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلِمَ فِي رَحْلِهِ مَاءً ثُمَّ نَسِيَهُ وَتَيَمَّمَ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، فَقَبِلَهُ لِإِنْصَافِهِ. (تَنْبِيهٌ) : تَخَيَّلَ مُتَخَيِّلٌ الْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْكَفَّارَةَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْغَرَامَاتِ، فَلَا يُعْذَرُ فِيهَا بِالنِّسْيَانِ وَنَحْوِهِ، كَالْإِتْلَافِ وَنَحْوِهَا، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ إِذْ لَا غَرَامَةَ فِيهِ، وَهَذَا تَخَيُّلٌ فَاسِدٌ، بَلِ الطَّلَاقُ أَوْلَى بِالْحِنْثِ مِنَ الْيَمِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِقْبَالِ طَرِيقَةً قَاطِعَةً بِالْحِنْثِ فِي الطَّلَاقِ، وَتَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ فِيهِ عَلَى هَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ، وَلَا هَتْكَ مَعَ النِّسْيَانِ وَنَحْوِهِ، وَالْمَدَارُ فِي الطَّلَاقِ عَلَى وُجُودِ الصِّفَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِكُلِّ حَالٍ. (تَنْبِيهٌ) : قِيلَ: يَدُلُّ لِعَدَمِ الْحِنْثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] ، فَإِنَّ أَحَدَ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ أَنَّهُ الْحَلِفُ عَلَى الشَّيْءِ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ خِلَافَهُ، فَلَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ. قُلْتُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصَحَّ الْمُعْتَمَدَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهَا فِيمَا سَبَقَ إِلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْيَمِينِ، رُوِّينَا هَذَا التَّفْسِيرَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْفُوعًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وعائشة مَوْقُوفًا، كَمَا أَسْنَدْتُهُ فِي كِتَابِ تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ التَّفْسِيرُ الْمُسْنَدُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وعكرمة وَالشَّعْبِيُّ وأبو قلابة وأبو صالح وطاوس وَالنَّخَعِيُّ وَخَلَائِقُ. وَنَقَلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنْ تَفْسِيرِ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ آخَرُونَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهُ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، فَيَرَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَيَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، هَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ علي بن أبي طلحة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَصَحُّ الطُّرُقِ عَنْهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْهَا أَنَّ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآيَةِ خَاصٌّ بِالْإِثْمِ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الْحَلِفِ عَلَى فِعْلِ حَرَامٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ فَيَحْنَثُ وَيُكَفِّرُ. أَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَصَرَّحَا بِأَنَّ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ خَاصٌّ بِالْإِثْمِ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَيَنْسَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ يَظُنُّ أَنَّهُ كَذَلِكَ، فَإِذَا هُوَ غَيْرُهُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ضَعِيفَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، ثُمَّ هُمْ ثَلَاثُ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ سَكَتَتْ عَنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهِ، وَفِرْقَةٌ صَرَّحَتْ بِوُجُوبِهَا، وَفِرْقَةٌ صَرَّحَتْ بِعَدَمِهِ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَشْيَاءُ، مِنْهَا أَنَّ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ إِنَّمَا يَنْصَبُّ عَلَى الْإِثْمِ دُونَ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ وَالْغَرَامَاتِ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ اخْتَارَهُ مالك كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ دَالَّةً عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مَعَ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} [المائدة: 89] إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ قَالُوا: إِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى لَغْوِ الْيَمِينِ الَّذِي لَا مُؤَاخَذَةَ فِيهِ، شُرِعَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ جَبْرًا، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] ، وَ {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَأَنَّهَا لَا كَفَّارَةَ فِيهَا تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَرَأْيٌ عِنْدَنَا جَارٍ فِي الْقَتْلِ عَمْدًا، فَلَمْ يَجْعَلْ هَؤُلَاءِ فِيهِ الْكَفَّارَةَ تَغْلِيظًا وَخُصُوصًا بِقَتْلِ الْخَطَأِ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَمْدًا، قَالَ هَؤُلَاءِ: لَا قَضَاءَ فِيهِ تَغْلِيظًا، وَتَرْكُ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ عَمْدًا، قَالُوا أَيْضًا: لَا يُجْبَرُ بِالسُّجُودِ، وَالْقَائِلُونَ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَهُوَ الْمُعْظَمُ اسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا أَوْلَى بِالْجَبْرِ كَمَا اسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ فِي الْقَتْلِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي اللَّغْوِ الْمُفَسَّرِ بِالْخَطَأِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ مِنْ رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّغْوِ، وَيُحَرَّرُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَمَنْ لَا يَرَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ. قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِدَائِمٍ وَلَا غَالِبٍ بَلْ تَارَةً كَذَا وَتَارَةً بِخِلَافِهِ، خُصُوصًا إِذَا وَرَدَ التَّفْسِيرُ بِذَلِكَ مِنْ أَصَحِّ الطُّرُقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي هُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وَحَبْرُ الْأُمَّةِ وَإِمَامُ الْعَرَبِ وَتَابَعَهُ فِيهِ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ. (تَنْبِيهٌ) قِيلَ: يَدُلُّ لِعَدَمِ الْحِنْثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِنِسْبَةِ زيد إِلَى مُحَمَّدٍ، وَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: الْعِبْرَةُ بِخُصُوصِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ. الثَّانِي: عَلَى اعْتِبَارِ الْعُمُومِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ عَلَى تَفْسِيرِ الْخَطَأِ فِي الْآيَةِ بِمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ عَلَى مَا سَبَقَ إِلَيْهِ اللِّسَانُ مِنَ الْأَيْمَانِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ فِيهِ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] كَمَا قَالَ هُنَاكَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] . الثَّالِثُ: عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَطَأِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ مَعْنَى الْجُنَاحِ، قَالَ الجوهري فِي الصِّحَاحِ: الْجُنَاحُ، بِالضَّمِّ: الْإِثْمُ، هَذِهِ عِبَارَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْإِثْمِ نَفْيُ الْكَفَّارَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاتِلَ خَطَأً عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِجْمَاعًا، وَكَذَا الْجَانِي فِي الْإِحْرَامِ بِإِزَالَةِ شَعَرٍ أَوْ نَحْوِهِ خَطَأً، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ لَا الْوَضْعِ، فَقَدْ أَبْعَدَ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَا يَقُولُ الْمُحْتَجُّ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَنْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ جَاهِلًا، فَإِنْ قَالَ: لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ أَخْذًا بِعُمُومِهَا، فَقَدْ خَالَفَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ قَالَ أُلْزِمُهُ الْإِعَادَةَ وَلَا أُقَيِّدُهُ بِجَهْلِهِ إِلَّا عَدَمَ الْإِثْمِ، فَقَدْ سَلِمَ مَا قُلْنَاهُ. (تَنْبِيهٌ) فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا تَحْرِيرُ النَّقْلِ وَالدَّلِيلِ، فَمَا تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُضِيِّ وَالِاسْتِقْبَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ حَيْثُ قُلْتَ بِالْحِنْثِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؟ قُلْتُ: تَحَرَّرَ لِي فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ فُرُوقٍ: أَحَدُهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابن رزين أَنَّ الِانْتِهَاكَ وَنَحْوَهُ فِي الْأَوَّلِ وَقَعَ حَالَةَ الْيَمِينِ بِخِلَافِ الثَّانِي، فَإِنَّ نَفْسَ الْيَمِينِ صَدَرَتْ سَالِمَةً مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ طَرَأَ ذَلِكَ بَعْدَهَا، وَكَانَ هَذَا رَاجَعًا إِلَى أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْأَثْنَاءِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ. الثَّانِي: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ تَرْكَ الْحِنْثِ فِي الْأَوَّلِ يُؤَدِّي إِلَى إِلْغَاءِ الْيَمِينِ الصَّادِرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِلْغَاءُ يَمِينٍ مَقْصُودَةٍ لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهَا اللِّسَانُ بِعِيدٌ، بِخِلَافِ الثَّانِي، فَإِنَّ تَرْكَ الْحِنْثِ فِيهِ لَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْحَلُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَتُؤَثِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَقْوَاهَا عِنْدِي - وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ - أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى الْمَاضِي غَيْرُ مَعْذُورٍ، بِخِلَافِ الْحَالِفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَبَيَانُ كَوْنِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى الْمَاضِي لَا يَقْصِدُ بِهِ إِلَّا تَحْقِيقَ الْخَبَرِ؛ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَثٌّ وَلَا مَنْعٌ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَثْبِتَ قَبْلَ الْحَلِفِ بِخِلَافِ الْحَالِفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ قَصْدَهُ الْحَثُّ أَوِ الْمَنْعُ، فَلَهُ فِي الْحَلِفِ قَصْدٌ صَحِيحٌ، وَالِاسْتِثْبَاتُ فِيهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَعَ جَهْلٍ أَوْ نِسْيَانٍ كَانَ مَعْذُورًا، بِخِلَافِ الْحَالِفِ عَلَى الْمَاضِي غَيْرَ مُسْتَثْبِتٍ وَلَا مُتَحَقِّقٍ، فَإِنَّهُ مُقَصِّرٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَنَّ ظَنَّهُ كَذَا أَوْ مُعْتَقَدَهُ أَوْ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عِلْمُهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 لَافِظًا بِذَلِكَ أَوْ نَاوِيًا لَهُ، فَيَكُونُ صَادِقًا، فَلَمَّا تَرَكَ ذَلِكَ وَعَدَلَ إِلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ، وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِهِ، كَانَ كَاذِبًا مُقَصِّرًا حَيْثُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي يَمِينِهِ عَلَى ظَنِّهِ بَلْ عَدَّاهُ إِلَى الْوَاقِعِ جَازِمًا بِهِ، فَلَمْ يُعْذَرْ لِذَلِكَ، وَمِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ فَرْقًا رَابِعًا أَنَّ التَّعْلِيقَ فِي الْمَاضِي يَقْتَضِي الْحِنْثَ مَعَ الْجَهْلِ قَطْعًا، كَقَوْلِهِ: إِنْ كَانَتِ امْرَأَتِي فِي الْحَمَّامِ فَهِيَ طَالِقٌ، بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْحِنْثَ إِذَا وَقَعَ مَعَ الْجَهْلِ أَوِ النِّسْيَانِ، وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُضِيُّ وَالِاسْتِقْبَالُ فِي التَّعْلِيقِ، فَلَا بِدْعَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَاهُ. (تَنْبِيهٌ) تَقَدَّمَ فِي كَلَامِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْبِنَاءِ وَإِجْرَاءِ الْخِلَافِ الِاسْتِوَاءُ فِي التَّصْحِيحِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: الْغَالِبُ الِاسْتِوَاءُ، قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ الْحَمْلُ عَلَى الْغَالِبِ إِلَّا مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْغَالِبِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ مَعَ كَثْرَةِ مُقَابِلِهِ أَيْضًا، فَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْحَمْلَ عَلَى غَيْرِ الْغَالِبِ الْكَثِيرِ، لِمَا قَامَ مِنَ الشَّوَاهِدِ لِذَلِكَ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ نَادِرٌ جِدًّا، فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْمَقْصُودِ لَأَوْرَدْتُ مَسَائِلَهُ هُنَا، وَقَدْ أَفْرَدْتُهَا بِتَأْلِيفٍ مُسْتَقِلٍّ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الرافعي: لَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ، قَالَ: وَلَوْ أَدْرَجَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَفِيهِ قَوْلَا النِّسْيَانِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ هُنَا نَفْيُ الْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ فِيهِ، وَفِي الذُّهُولِ بَعْدَ الْعِلْمِ نَوْعُ تَقْصِيرٍ، وَهَذَا الْفَرْعُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا، فَإِنَّ النَّاسِيَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِقْبَالِ لَا يُنْسَبُ إِلَى تَقْصِيرٍ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُضِيِّ، فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْحَلِفِ عَلَى نَفْيِ الشَّيْءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ أَوْ عَكْسِهِ فِيهِ نَوْعُ تَقْصِيرٍ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّيْخِ تاج الدين السبكي فِي رَفْعِ الْحَاجِبِ: رُبَّ فَرْعٍ لِأَصْلِ ذَلِكَ الْأَصْلِ يَظْهَرُ فِيهِ الْحُكْمُ أَقْوَى مِنْ ظُهُورِهِ فِيهِ؛ لِانْتِهَاضِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا تَرَى الْأَصْحَابَ كَثِيرًا مَا يُصَحِّحُونَ فِي الْمَبْنَى خِلَافَ مَا يُصَحِّحُونَهُ فِي الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ. انْتَهَى. (تَنْبِيهٌ) مِمَّا يَحْصُلُ الِائْتِنَاسُ بِهِ لِمَا قُلْنَاهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتَ الطَّرِيقَيْنِ إِذَا كَانَ الْأَصَحُّ فِيهِمَا طَرِيقَةَ الْخِلَافِ، فَالْغَالِبُ أَنَّ الْأَصَحَّ فِيهَا مَا وَافَقَ طَرِيقَةَ الْقَطْعِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ بِالْحِنْثِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ابن الصلاح نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ المحاملي، وَحِينَئِذٍ فَالرَّاجِحُ مِنْ قَوْلَيِ الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ مَا وَافَقَهَا، عَلَى أَنَّ عِنْدِي فِي إِثْبَاتِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرًا، فَإِنَّ الْأَذْرَعِيَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَصْحَابَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِقَسَمِ الْمُضِيِّ، فَالظَّاهِرُ إِجْرَاءُ الْقَوْلَيْنِ فِيهَا مِنْ تَخْرِيجِ الرافعي، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنْ أُوَسِّعَ النَّظَرَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وَالْأَصْحَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَقِفَ عَلَى مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِهِمْ فِيهَا، وَأَعْلَمَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا مِمَّنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا، فَرَاجَعْتُ الْأُمَّ فَوَجَدْتُ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْحِنْثِ، وَنَصُّهُ فِي أَبْوَابِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ مالك وَالشَّافِعِيُّ، قَالَ الربيع: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: مَا لَغْوُ الْيَمِينِ؟ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ فَمَا قَالَتْ عائشة، أَخْبَرَنَا مالك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة أَنَّهَا قَالَتْ: لَغْوُ الْيَمِينِ قَوْلُ الْإِنْسَانِ: لَا وَاللَّهِ وَبِلَى وَاللَّهِ. فَقُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: مَا الْحُجَّةُ فِيمَا قُلْتَ؟ قَالَ: اللَّغْوُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْكَلَامُ غَيْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِيهِ، مِنْ جِمَاعِ اللَّغْوِ يَكُونُ الْخَطَأُ، فَخَالَفْتُمُوهُ وَزَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّغْوَ حَلِفُ الْإِنْسَانِ عَلَى الشَّيْءِ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُوجَدُ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَهَذَا ضِدُّ اللَّغْوِ، هَذَا هُوَ الْإِثْبَاتُ فِي الْيَمِينِ بِعَقْدِهَا عَلَى مَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ اللَّهِ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] مَا عَقَّدْتُمْ بِهِ عُقِدَ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، وَلَوِ احْتَمَلَ اللِّسَانُ مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ مَنَعَ مِنِ احْتِمَالِهِ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ عائشة، وَكَانَتْ أَوْلَى أَنْ تُتَّبَعَ مِنْكُمْ؛ لِأَنَّهَا أَعْلَمُ بِاللِّسَانِ مِنْكُمْ مَعَ عِلْمِهَا بِالْفِقْهِ، هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ، فَقَوْلُهُ: هَذَا ضِدُّ اللَّغْوِ، إِلَى آخِرِهِ، صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ بِالْحِنْثِ وَالْمُؤَاخَذَةِ عَلَى خِلَافِ مَا فِي اللَّغْوِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِهَذَا الْكَلَامِ الرَّدَّ عَلَى مَالِكٍ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ تَفْسِيرَ اللَّغْوِ فِي الْآيَةِ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى ظَنِّهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَإِذَا كَانَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ صَرِيحًا فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، فَفِي الطَّلَاقِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَالِكًا مُوَافِقٌ عَلَى الْحِنْثِ فِيهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْأُمِّ مَا نَصُّهُ: قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ: فَإِنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْيَمِينَ الَّتِي لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، فَإِنْ حَنِثَ فِيهَا صَاحِبُهَا: إِنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا أَنَّ لَهَا وَجْهَيْنِ: وَجْهٌ يُعْذَرُ فِيهِ صَاحِبُهُ وَيُرْجَى لَهُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ فِيهَا إِثْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْقَدْ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا كَذِبٌ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ عَلَى الْأَمْرِ لَقَدْ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جُهْدَهُ وَمَبْلَغَ عِلْمِهِ، فَذَلِكَ اللَّغْوُ الَّذِي وَضَعَ اللَّهُ مِنْهُ الْمَؤُونَةَ عَنِ الْعِبَادِ وَقَالَ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ حَلَفَ عَامِدًا لِلْكَذِبِ اسْتِخْفَافًا بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ كَاذِبًا، فَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي لَيْسَتْ فِيهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَعْرِضُ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَإِنَّهُ لَيُقَالُ لَهُ: تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَعْتَ مِنْ خَيْرٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا سفيان ثَنَا عمرو بن دينار وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عطاء قَالَ: ذَهَبْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ إِلَى عائشة، وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ فِي سِتْرٍ، فَسَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] قَالَتْ: هُوَ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَغْوُ الْيَمِينِ كَمَا قَالَتْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى اللَّجَاجِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وَالْغَضَبِ وَالْعَجَلَةِ، لَا يُعْقَدُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَعَقْدُ الْيَمِينِ أَنْ يُثْبِتَهَا عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ؛ أَنْ لَا يَفْعَلَ الشَّيْءَ فَيَفْعَلُهُ، أَوْ لَيَفْعَلَنَّهُ فَلَا يَفْعَلُهُ، أَوْ لَقَدْ كَانَ، وَمَا كَانَ، فَهَذَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ. وَقَوْلُهُ: قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ، يَعْنِي مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِ مالك، فَهَذَانِ نَصَّانِ فِي الْأُمِّ صَرِيحَانِ فِي الْحِنْثِ، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ الْأُمَّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا تَعَرُّضًا لِلْمَسْأَلَةِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدْ جَزَمَ فِيهَا بِالْحِنْثِ كَمَا تَرَى، ثُمَّ رَاجَعْتُ مُخْتَصَرَ المزني. [فَتْحُ الْمَغَالِقِ مِنْ أَنْتِ تَالِقٌ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَقَعَ السُّؤَالُ عَمَّنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ تَالِقٌ، نَاوِيًا بِهِ الطَّلَاقَ هَلْ يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ؟ فَأَجَبْتُ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ سَوَاءٌ كَانَ عَامِّيًّا أَوْ فَقِيهًا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ فَالِقٌ، أَوْ مَالِقٌ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ التَّاءِ قَرِيبٌ مِنْ مَخْرَجِ الطَّاءِ، وَيُبْدَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَأُبْدِلَتِ الطَّاءُ تَاءً فِي قَوْلِهِمْ: طُرَّتْ يَدُهُ، وَتُرَّتْ يَدُهُ؛ أَيْ: سَقَطَتْ، وَضَرَبَ يَدَهُ بِالسَّيْفِ، فَأَطَرَّهَا وَأَتَرَّهَا؛ أَيْ: قَطَعَهَا وَأَنْدَرَهَا، وَالتَّقَطُّرُ: التَّهَيُّؤُ لِلْقِتَالِ، وَالتَّقَتُّرُ لُغَةٌ فِيهِ، وَيُقَالُ فِي الْقِمَطْرَةِ: كِمَتْرَةٌ، بِإِبْدَالِ الْقَافِ كَافًا وَالطَّاءِ تَاءً، وَفِي الْقِسْطِ: كِسْتٌ كَذَلِكَ، وَيُقَالُ فِي ذَاطَهُ؛ أَيْ خَنَقَهُ أَشَدَّ الْخَنْقِ حَتَّى دَلَعَ لِسَانُهُ: ذَاتَهُ، بِالتَّاءِ، وَيُقَالُ: غَلِطَ وَغَلِتَ، لُغَتَانِ بِمَعْنًى، وَيُقَالُ فِي الْفُسْطَاطِ: فُسْتَاطٌ، فِي أَلْفَاظٍ أُخَرَ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الْإِبْدَالِ، وَأُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً فِي نَحْوِ: مُصْطَفًى وَمُضْطَرٍّ وَمُطَّعِنٍ وَمُظْطَلِمٍ وَاطَّيَّرْنَا، إِلَى مَا لَا يُحْصَى، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّاءَ وَالطَّاءَ حَرْفَانِ مُتَعَاوِرَانِ، وَيَنْضَمُّ إِلَى هَذَا الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ مَعَ النِّيَّةِ الْعُرْفُ وَشُهْرَةُ ذَلِكَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ كَثِيرًا؛ وَلِشُهْرَةِ اللَّفْظِ فِي الْأَلْسِنَةِ مَدْخَلٌ كَبِيرٌ فِي الطَّلَاقِ، اعْتَبَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ مُقَوِّيَةٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الْقَسَمِ، فَإِنْ كَانَ اللَّافِظُ بِذَلِكَ عَامِّيًّا حَصَلَ أَمْرٌ رَابِعٌ فِي التَّقْوِيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مِنَ الصَّرَائِحِ وَلَا مِنَ الْكِنَايَاتِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، قُلْنَا: أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكِنَايَاتِ، فَإِنَّ أَصْلَ اللَّفْظِ بِالطَّاءِ صَرِيحٌ، وَخَرَجَ إِلَى حَيِّزِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الْكِنَايَةِ بِإِبْدَالِ حَرْفِ الطَّاءِ تَاءً، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْقُولِ عَامٌّ وَخَاصٌّ، فَالْعَامُّ: قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: فَرْعٌ: إِذَا اشْتُهِرَ فِي الطَّلَاقِ لَفْظٌ سِوَى الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ الصَّرِيحَةِ، كَـ" حَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ "، أَوْ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ "، أَوِ " الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ "، فَفِي الْتِحَاقِهِ بِالصَّرِيحِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: نَعَمْ؛ لِحُصُولِ التَّفَاهُمِ وَغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَعَلَيْهِ تَنْطَبِقُ فَتَاوَى القفال والقاضي حسين وَالْمُتَأَخِّرِينَ. وَالثَّانِي: لَا، وَرَجَّحَهُ المتولي. وَالثَّالِثُ حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنِ القفال أَنَّهُ إِنْ نَوَى شَيْئًا آخَرَ مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ، فَلَا طَلَاقَ، وَإِذَا ادَّعَاهُ صُدِّقَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ فَقِيهًا يَعْلَمُ أَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تَعْمَلُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا سَأَلْنَاهُ عَمَّا يَفْهَمُ مِنْهُ إِذَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ قَالَ: يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِي مِنْهُ الطَّلَاقُ، حُمِلَ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ، وَالَّذِي حَكَاهُ المتولي عَنِ القفال أَنَّهُ إِنْ نَوَى غَيْرَ الزَّوْجَةِ فَذَاكَ، وَإِلَّا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْعُرْفِ. قُلْتُ: الْأَرْجَحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ أَنَّهُ كِنَايَةٌ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي يَشْتَهِرُ فِيهَا اللَّفْظُ لِلطَّلَاقِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ فِي حَقِّ أَهْلِهَا بِلَا خِلَافٍ. انْتَهَى. فَانْظُرْ كَيْفَ صَدَرَ الْفَرْعُ بِضَابِطٍ وَهُوَ أَنْ يَشْتَهِرَ فِي الطَّلَاقِ لَفْظٌ، وَلَمْ يَخُصُّهُ بِلَفْظٍ دُونَ لَفْظٍ، وَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ اخْتِصَاصَهُ بِلَفْظِ " الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ " وَنَحْوِهِ، فَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، فَالضَّابِطُ لَفْظٌ يَشْتَهِرُ فِي بَلَدٍ أَوْ فَرِيقٍ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّلَاقِ، وَهَذَا اللَّفْظُ اشْتُهِرَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ فِي حَقِّهِمْ عِنْدَ النووي وَصَرِيحٌ عِنْدَ الرافعي، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَعَوَامِّ بَلَدٍ لَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ فِي لِسَانِهِمْ، فَهُوَ كِنَايَةٌ، وَلَا يَأْتِي قَوْلٌ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ، فَإِنْ نَظَرَ نَاظِرٌ إِلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُنَبِّهُوا عَلَى هَذَا اللَّفْظِ فِي كُتُبِهِمْ. قُلْنَا: الْفُقَهَاءُ لَمْ يَسْتَوْفُوا كُلَّ الْكِنَايَاتِ بَلْ عَدَّدُوا مِنْهَا جُمَلًا، ثُمَّ أَشَارُوا إِلَى مَا لَمْ يَذْكُرُوهُ بِضَابِطٍ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ البلقيني مِنْ حَدِيثِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِامْرَأَةِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: قُولِي لَهُ: "يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ" إِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَلَعَلَّ الْفُقَهَاءَ إِنَّمَا سَكَتُوا عَنِ التَّعَرُّضِ لِلَفْظَةِ تَالِقٍ لِكَوْنِهَا لَمْ تَقَعْ فِي زَمَنِهِمْ، وَإِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ تَالِقًا مِنَ التَّلَاقِ وَهُوَ مَعْنًى غَيْرُ الطَّلَاقِ، فَكَلَامُهُ أَشَدُّ سُقُوطًا مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِرَدٍّ، فَإِنَّ التَّلَاقِ لَا يُبْنَى مِنْهُ وَصْفٌ عَلَى فَاعِلٍ، وَأَمَّا الْخَاصُّ فَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ عَنْ زِيَادَاتِ العبادي: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِ، وَتَرَكَ الْقَافَ طَلُقَتْ حَمْلًا عَلَى التَّرْخِيمِ، وَقَالَ البوشنجي: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ وَإِنْ نَوَى، فَإِنْ قَالَ: يَا طَالِ، وَنَوَى وَقَعَ؛ لِأَنَّ التَّرْخِيمَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي النِّدَاءِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ النِّدَاءِ فَلَا يَقَعُ إِلَّا نَادِرًا فِي الشِّعْرِ. انْتَهَى. وَإِبْدَالُ الْحَرْفِ أَقْرَبُ إِلَى الْوُقُوعِ مِنْ حَذْفِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَ الإسنوي فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الْكَوْكَبِ: وَلَمْ يُبَيِّنِ الرافعي الْمُرَادَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا نِيَّةَ الطَّلَاقِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نِيَّةَ الْحَذْفِ مِنْ طَالِقٍ. قُلْتُ: فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ كَانَ كِنَايَةً أَوِ الثَّانِي كَانَ صَرِيحًا، فَإِنْ قُلْتَ: الْحَذْفُ مَعْهُودٌ لُغَةً وَفِقْهًا بِهَذَا الْفَرْعِ، وَالْإِبْدَالُ وَإِنْ عُهِدَ لُغَةً لَمْ يُعْهَدْ فِقْهًا، فَفِي أَيِّ فَرْعٍ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ بِالْإِبْدَالِ؟ قُلْتُ: فِي فُرُوعٍ، قَالَ الإسنوي فِي الْكَوْكَبِ: إِبْدَالُ الْهَاءِ مِنَ الْحَاءِ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَكَذَلِكَ إِبْدَالُ الْكَافِ مِنَ الْقَافِ، فَمِنْ فُرُوعِ الْأَوَّلِ: إِذَا قَرَأَ فِي الْفَاتِحَةِ (الْهَمْدُ لِلَّهِ) بِالْهَاءِ عِوَضًا عَنِ الْحَاءِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ، كَمَا قَالَهُ القاضي حسين فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ تَعْلِيقِهِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمِنْ فُرُوعِهِ: إِذَا قَرَأَ (الْمُسْتَقِيمِ) بِالْقَافِ الْمَعْقُودَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِلْكَافِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ أَيْضًا، كَمَا ذَكَرَهُ الشيخ نصر المقدسي فِي كِتَابِهِ الْمَقْصُودِ، والروياني فِي الْحِلْيَةِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَجَزَمَ بِهِ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ، قَالَ الإسنوي: وَالصِّحَّةُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِأَجْلِ وُرُودِهِ فِي اللُّغَةِ، وَبَقَاءُ الْكَلِمَةِ عَلَى مَدْلُولِهَا أَظْهَرُ بِخِلَافِ الْإِتْيَانِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي (الَّذِينَ) عِوَضًا عَنِ الْمُعْجَمَةِ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ الرافعي وَغَيْرِهِ يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي إِبْدَالِ الضَّادِ ظَاءً، وَسَبَبُهُ عُسْرُ التَّمْيِيزِ فِي الْمَخْرَجِ. انْتَهَى. (فَصْلٌ) فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ، فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الصَّرْفَ عَنِ الطَّلَاقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنَ الْفَقِيهِ وَيَدِينُ فِيهِ الْعَامِّيُّ، فَيُؤَاخَذُ بِهِ ظَاهِرًا وَلَا يَقَعُ بَاطِنًا، لَمْ يَكُنْ بِبَعِيدٍ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تَدْيِينَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى إِنْ جَعَلْنَاهُ صَرِيحًا وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا، أَمَّا عَلَى رَأْيِ الرافعي فِي اللَّفْظِ الَّذِي اشْتَهَرَ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا عَلَى مَا صَحَّحَهُ النووي فَهَذَا لِمَنْ تَأَمَّلَهُ أَقْوَى مِنْ لَفْظِ " الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ "، فَإِنَّ ذَاكَ لَفْظٌ آخَرُ غَيْرُ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَيَحْتَمِلُ مَعَانِيَ، وَأَمَّا لَفْظُ " تَالِقٌ " يَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ أُبْدِلَ مِنْهُ حَرْفٌ بِحَرْفٍ مُقَارِبٍ لَهُ فِي الْمَخْرَجِ، وَيُؤَيِّدُ جَعْلَهُ صَرِيحًا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الإسنوي فِي: أَنْتِ طَالِ، عَلَى إِرَادَةِ نِيَّةِ الْمَحْذُوفِ بِالطَّلَاقِ، وَيُؤَيِّدُهُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ بِـ (الْهَمْدُ لِلَّهِ) فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَرْفَ الْمُبْدَلَ قَائِمٌ مُقَامَ الْحَرْفِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَيَسْتَمِرُّ اللَّفْظُ عَلَى صَرَاحَتِهِ كَمَا اسْتَمَرَّ ذَلِكَ اللَّفْظُ مُعْتَدًّا بِهِ فِي الْقِرَاءَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ بَابَ الصَّلَاةِ وَإِبْطَالِهَا بِسُقُوطِ حَرْفٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ أَضْيَقُ وَبَابَ الْقِرَاءَةِ أَشَدُّ ضِيقًا، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَجُوزُ بِالْمَعْنَى وَلَا بِالْمُرَادِفِ بَلْ وَلَا بِالشَّاذِّ الَّذِي قُرِئَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ قَطُّ (الْهَمْدُ لِلَّهِ) بِالْهَاءِ، فَقَوْلُهُمْ بِالصِّحَّةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِمُجَرَّدِ الْإِبْدَالِ بِالْحَرْفِ الْمُقَارِبِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْإِبْدَالَ بِمَا ذُكِرَ لَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 عَنْ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعِ لَهُ، فَانْشَرَحَ الصَّدْرُ بِذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ بِصَرَاحَةِ هَذَا اللَّفْظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَلْزَمُنَا طَرْدُ ذَلِكَ فِي الْفَقِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِبْدَالَ لَيْسَ مِنْ نَعْتِهِ وَلَا مِنْ عَادَتِهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ إِرَادَتِهِ وَكَانَ فِي حَقِّهِ كَالْكِنَايَةِ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَنْوِيَ شَيْئًا بَلْ يُطْلِقَ، وَالْوُقُوعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ بَاطِنًا لَهُ وَجْهٌ مَأْخَذُهُ الصَّرَاحَةُ أَوِ الشَّبَهُ بِالصَّرَاحَةِ، وَأَمَّا ظَاهِرًا فَأَقْوَى بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ، وَفِي حَقِّ الْفَقِيهِ مَحَلُّ تَوَقُّفٍ. (فَرْعٌ) أَمَّا لَوْ قَالَ: عَلِيَّ التَّلَاقُ، بِالتَّاءِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ قَطْعًا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ الْعَامِّيِّ وَالْفَقِيهِ، فَإِنْ نَوَى فَطَلَاقٌ وَإِلَّا فَلَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَالِقٍ أَنَّ تَالِقًا لَا مَعْنَى لَهُ يَحْتَمِلُهُ، وَالتَّلَاقُ لَهُ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ. (فَرْعٌ) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ دَالِقٌ، بِالدَّالِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ مَا فِي تَالِقٍ، بِالتَّاءِ؛ لِأَنَّ الدَّالَ وَالطَّاءَ أَيْضًا مُتَعَاوِرَانِ فِي الْإِبْدَالِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي الْأَلْسِنَةِ كَاشْتِهَارِ تَالِقٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ الْقَوْلُ بِالْوُقُوعِ مَعَ فَقْدِ النِّيَّةِ أَصْلًا مَعَ أَنَّ لِدَالِقٍ مَعْنًى غَيْرَ الطَّلَاقِ، يُقَالُ: سَيْفٌ دَالِقٌ: إِذَا كَانَ سَلِسَ الْخُرُوجِ مِنْ غِمْدِهِ، وَرَجُلٌ دَالِقٌ: كَثِيرُ الْغَارَاتِ. (فَرْعٌ) وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، بِالْقَافِ الْمَعْقُودَةِ قَرِيبَةٍ مِنَ الْكَافِ كَمَا يَلْفِظُ بِهَا الْعَرَبُ، فَلَا شَكَّ فِي الْوُقُوعِ، فَلَوْ أَبْدَلَهَا كَافًا صَرِيحَةً، فَقَالَ طَالِكٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ قَالَ: تَالِقٌ، بِالتَّاءِ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْحَطُّ عَنْهُ بِعَدَمِ الشُّهْرَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَدَالِقٍ بِالدَّالِ إِلَّا أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ يَحْتَمِلُهُ، وَتَعَاوُرُ الْقَافِ وَالْكَافِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ قُرِئَ: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير: 11] وَ: قُشِطَتْ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي قِسْطٍ: كِسْطٌ، وَفِي قِمَطْرَةٍ: كِمَتْرَةٌ. (فَرْعٌ) فَلَوْ أَبْدَلَ الْحَرْفَيْنِ، فَقَالَ: تَالِكٌ، بِالتَّاءِ وَالْكَافِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً، إِلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ مُحْتَمَلٌ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ بِالدَّالِ وَالْكَافِ، فَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ تَالِكٍ، مَعَ أَنَّ لَهُ مَعَانِيَ مُحْتَمَلَةً، مِنْهَا الْمُمَاطَلَةُ لِلْغَرِيمِ، وَمِنْهَا الْمُسَاحَقَةُ، يُقَالُ: تَدَالَكَتِ الْمَرْأَتَانِ: إِذَا تَسَاحَقَتَا، فَيَكُونُ كِنَايَةَ قَذْفٍ بِالْمُسَاحَقَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هُنَا أَلْفَاظًا بَعْضَهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْوَاهَا تَالِقٌ، ثُمَّ دَالِقٌ، وَفِي رُتْبَتِهَا طَالِكٌ، ثُمَّ تَالِكٌ، ثُمَّ دَالِكٌ، وَهِيَ أَبْعَدُهَا، وَالظَّاهِرُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ كِنَايَةَ طَلَاقٍ أَصْلًا، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةً فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: وَفِي الْفَتَاوَى: رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتَ تَالِقٌ أَوْ تَالِغٌ أَوْ طَالِغٌ أَوْ تَالِكٌ، عَنِ الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل أَنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ تَعَمَّدَ وَقَصَدَ أَنْ لَا يَقَعَ، وَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً، وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً، إِلَّا إِذَا أَشْهَدَ قَبْلَ أَنْ يَتَلَفَّظَ، وَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 إِنَّ امْرَأَتِي تَطْلُبُ مِنِّي الطَّلَاقَ وَلَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُطَلِّقَهَا، فَأَتَلَفَّظُ بِهَا قَطْعًا لِعِلَّتِهَا وَتَلَفَّظَ وَشَهِدُوا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، لَا يُحْكَمُ بِالطَّلَاقِ، وَكَانَ فِي الِابْتِدَاءِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ كَمَا هُوَ جَوَابُ شمس الأئمة الحلواني، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَا قُلْنَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. [الْمُنْجَلِي فِي تَطَوُّرِ الْوَلِيِّ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، رُفِعَ إِلَيَّ سُؤَالٌ فِي رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ الشيخ عبد القادر الطشطوطي بَاتَ عِنْدَهُ لَيْلَةَ كَذَا، فَحَلَفَ آخَرُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِعَيْنِهَا، فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَمْ لَا؟ فَأَرْسَلْتُ قَاصِدِي إِلَى الشيخ عبد القادر، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَلَوْ قَالَ أَرْبَعَةٌ أَنِّي بِتُّ عِنْدَهُمْ لَصَدَقُوا، فَأَفْتَيْتُ بِأَنَّهُ لَا يَحْنِثُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقِيمَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَوْ لَا يُقِيمَ أَحَدٌ مِنْهُمَا أَوْ يُقِيمَهَا وَاحِدٌ دُونَ الْآخَرِ، فَالْحَالَانِ الْأَوَّلَانِ عَدَمُ الْحِنْثِ فِيهِمَا وَاضِحٌ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْنِيثُهُمَا مَعًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَلَا تَحْنِيثُ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّائِرِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثُ فَقَدْ يُنَازِعُ فِيهَا مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ وُجُودَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مُمْكِنٍ، بَلْ هُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَهُ هَذَا الْمُتَوَهِّمُ مِنَ الِاسْتِحَالَةِ، فَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِسْمِ الْجَائِزِ الْمُمْكِنِ، وَإِذَا كَانَ مُمْكِنًا فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا حِنْثَ؛ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ مُمْكِنٍ عِنْدَهُ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِالْحِنْثِ لِإِمْكَانِ صِدْقِهِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ بِالشَّكِّ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِثْبَاتُ كَوْنِ هَذَا الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مُمْكِنًا، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدِيمًا وَأَفْتَى فِيهَا الْعُلَمَاءُ بِعَدَمِ الْحِنْثِ كَمَا أَفْتَيْتُ بِهِ، وَاسْتِنَادُهُمْ فِيهِ إِلَى كَوْنِهِ مُمْكِنًا غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ. فَأَقُولُ: قَدْ نَصَّ عَلَى إِمْكَانِ ذَلِكَ أَئِمَّةٌ أَعْلَامٌ، مِنْهُمُ الْعَلَّامَةُ علاء الدين القونوي شَارِحُ الْحَاوِي، وَالشَّيْخُ تاج الدين السبكي، وكريم الدين الآملي شَيْخُ الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، وصفي الدين بن أبي المنصور، وعبد الغفار بن نوع القوصي صَاحِبُ الْوَحِيدِ، والعفيف اليافعي، والشيخ تاج الدين بن عطاء الله، والسراج ابن الملقن، والبرهان الأبناسي، وَالشَّيْخُ عبد الله المنوفي وَتِلْمِيذُهُ الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 خليل المالكي صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ، وأبو الفضل محمد بن إبراهيم التلمساني الْمَالِكِيُّ وَخَلْقٌ آخَرُونَ، وَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَعَدُّدِ الصُّوَرِ بِالتَّمَثُّلِ وَالتَّشَكُّلِ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ لِلْجَانِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ بَابِ طَيِّ الْمَسَافَةِ وَزَوْيِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَعَدُّدٍ، فَيَرَاهُ الرَّائِيَانِ كُلٌّ فِي بَيْتِهِ وَهِيَ بُقْعَةٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ طَوَى الْأَرْضَ وَرَفَعَ الْحُجُبَ الْمَانِعَةَ مِنَ الِاسْتِطْرَاقِ، فَظُنَّ أَنَّهُ فِي مَكَانَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ رَفْعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ حَالَ وَصْفِهِ إِيَّاهُ لِقُرَيْشٍ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ بَابِ عِظَمِ جُثَّةِ الْوَلِيِّ بِحَيْثُ مَلَأَ الْكَوْنَ، فَشُوهِدَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، كَمَا قُرِّرَ بِذَلِكَ شَأْنُ مَلَكِ الْمَوْتِ وَمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَيْثُ يُقْبَضُ مَنْ مَاتَ فِي الْمَشْرِقِ وَفِي الْمَغْرِبِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُسْأَلُ مَنْ قُبِرَ فِيهِمَا فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ رُؤْيَتَهُ عَلَى صُورَتِهِ الْمُعْتَادَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَحْجُبُ الزَّائِدَ عَنِ الْأَبْصَارِ أَوْ يَدْمُجُ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ، كَمَا قِيلَ بِالْأَمْرَيْنِ فِي رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ، وَخِلْقَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ إِنَّ جَنَاحَيْنِ مِنْ أَجْنِحَتِهِ يَسُدَّانِ الْأُفُقَ. وَهَا أَنَا أَذْكُرُ بَعْضَ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْعَلَّامَةُ علاء الدين القونوي فِي تَأْلِيفٍ لَهُ يُسَمَّى الْإِعْلَامَ، مَا نَصُّهُ: وَفِي الْمُمْكِنِ أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ عِبَادِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ بِخَاصِّيَّةٍ لِنَفْسِهِ الْمَلَكِيَّةِ الْقُدُسِيَّةِ، وَقُوَّةٍ لَهَا يَقْدِرُ بِهَا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي بَدَنٍ آخَرَ غَيْرَ بَدَنِهَا الْمَعْهُودِ مَعَ اسْتِمْرَارِ تَصَرُّفِهَا فِي الْأَوَّلِ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْأَبْدَالِ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا سُمُّوا أَبْدَالًا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَرْحَلُونَ إِلَى مَكَانٍ وَيُقِيمُونَ فِي مَكَانِهِمُ الْأَوَّلِ شَبَحًا آخَرَ شَبِيهًا بِشَبَحِهِمُ الْأَصْلِيِّ بَدَلًا عَنْهُ، وَإِذَا جَازَ فِي الْجِنِّ أَنْ يَتَشَكَّلُوا فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَقَدْ أَثْبَتَ الصُّوفِيَّةُ عَالَمًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ عَالَمِ الْأَجْسَادِ وَعَالَمِ الْأَرْوَاحِ سَمَّوْهُ عَالَمَ الْمِثَالِ، وَقَالُوا: هُوَ أَلْطَفُ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَادِ وَأَكْثَفُ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ تَجَسُّدَ الْأَرْوَاحِ وَظُهُورَهَا فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ عَالَمِ الْمِثَالِ، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] ، فَتَكُونُ الرُّوحُ الْوَاحِدَةُ كَرُوحِ جِبْرِيلَ مَثَلًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُدَبِّرَةً لِشَبَحِهِ الْأَصْلِيِّ وَلِهَذَا الشَّبَحِ الْمِثَالِيِّ، وَيَنْحَلُّ بِهَذَا مَا قَدِ اشْتَهَرَ نَقْلُهُ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ سَأَلَ بَعْضَ الْأَكَابِرِ عَنْ جِسْمِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَيْنَ كَانَ يَذْهَبُ جِسْمُهُ الْأَوَّلُ الَّذِي سَدَّ الْأُفُقَ بِأَجْنِحَتِهِ لَمَّا تَرَاءَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ عِنْدَ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ؟ وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُهُمُ الْجَوَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ يَنْدَمِجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ إِلَى أَنْ يَصْغُرَ حَجْمُهُ، فَيَصِيرَ بِقَدْرِ صُورَةِ دِحْيَةَ، ثُمَّ يَعُودَ يَنْبَسِطُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ كَهَيْئَتِهِ الْأُولَى، وَمَا ذَكَرَهُ الصُّوفِيَّةُ أَحْسَنُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ جِسْمُهُ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ لَهُ شَبَحًا آخَرَ، وَرُوحُهُ تَتَصَرَّفُ فِيهِمَا جَمِيعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى لَهُمْ وَقَلْبُ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَأَنْ يُقَدِّرَهُمُ اللَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَوَارِقِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخُصَّهُمْ بِالتَّصَرُّفِ فِي بِدَنَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ وَتَنْحَلُّ بِهِ إِشْكَالَاتٌ غَيْرُ يَسِيرَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَهِيَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، كَيْفَ أُرِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُرْضِ الْحَائِطِ حَتَّى تَقَدَّمَ إِلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ لِيَقْتَطِفَ مِنْهَا عُنْقُودًا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ بِطَرِيقِ التَّمَثُّلِ، وَكَمَا يُحْكَى عَنْ قضيب البان الموصلي، وَكَانَ مِنَ الْأَبْدَالِ أَنَّهُ اتَّهَمَهُ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَرَهُ يُصَلِّي بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَشَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَتَمَثَّلَ لَهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَالَ: فِي أَيِّ هَذِهِ الصُّوَرِ رَأَيْتَنِي مَا أُصَلِّي، وَلَهُمْ حِكَايَاتٌ كَثِيرَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْقَوَاعِدِ عِنْدَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ القونوي بِحُرُوفِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن السبكي فِي الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى فِي تَرْجَمَةِ أبي العباس الملثم: كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْكَرَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَمِنْ أَخَصِّ النَّاسِ بِصُحْبَتِهِ تِلْمِيذُهُ الشَّيْخُ الصالح عبد الغفار بن نوح، صَاحِبُ كِتَابِ الْوَحِيدِ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَقَدْ حَكَى فِي كِتَابِهِ كَثِيرًا مِنْ كَرَامَاتِهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَاشْتَغَلْنَا بِالْحَدِيثِ وَكَانَ حَدِيثُهُ يَلَذُّ لِلْمَسَامِعِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْحَدِيثِ وَالْغُلَامُ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: إِلَى أَيْنَ يَا مُبَارَكُ؟ فَقَالَ: إِلَى الْجَامِعِ، فَقَالَ: وَحَيَاتِي صَلَّيْتُ، فَخَرَجَ الْغُلَامُ وَجَاءَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الْجَامِعِ، قَالَ عبد الغفار: فَخَرَجْتُ فَسَأَلْتُ النَّاسَ، فَقَالُوا: كَانَ الشيخ أبو العباس فِي الْجَامِعِ وَالنَّاسُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: أَنَا أُعْطِيتُ التَّبَدُّلَ، قَالَ ابن السبكي: وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: صَلَّيْتُ، مِنْ صِفَاتِ الْبَدَلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي مَكَانٍ وَشَبَحُهُمْ فِي مَكَانٍ آخَرَ، قَالَ: وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الصِّفَةُ الْكَشْفَ الصُّورِيَّ الَّذِي تَرْتَفِعُ فِيهِ الْجُدْرَانُ وَيَبْقَى الِاسْتِطْرَاقُ، فَيُصَلِّي كَيْفَ كَانَ وَلَا يَحْجُبُهُ الِاسْتِطْرَاقُ. انْتَهَى. وَقَالَ صفي الدين بن أبي المنصور فِي رِسَالَتِهِ: جَرَتْ لِلشَّيْخِ مفرج بِبَلَدِهِ قَضِيَّةٌ مَعَ أَصْحَابِهِ، قَالَ شَخْصٌ مِنْهُمْ كَانَ قَدْ حَجَّ لِآخَرَ: رَأَيْتُ مفرجا بِعَرَفَةَ، فَنَازَعَهُ الْآخَرُ بِأَنَّ الشَّيْخَ مَا فَارَقَ دَمَامِينَ وَلَا رَاحَ لِغَيْرِهَا، وَحَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالطَّلَاقِ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 كَانَ قَدْ حَجَّ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مِنْ زَوْجَتِهِ أَنَّهُ رَآهُ بِعَرَفَةَ، وَحَلَفَ الْآخَرُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْ دَمَامِينَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، فَاخْتَصَمَا إِلَيْهِ، وَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَمِينَهُ، فَأَقَرَّهُمَا عَلَى حَالِهِمَا، وَأَبْقَى كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى زَوْجَتِهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ حُكْمِهِ فِيهِمَا، وَصِدْقُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ حِنْثَ الْآخَرِ، وَكَانَ حَاضِرًا مَعَنَا رِجَالٌ مُعْتَبَرُونَ، قَالَ الشَّيْخُ لَنَا: قُولُوا أُذِنَّا مِنْهُ بِأَنْ نَتَحَدَّثَ فِي سِرِّ هَذَا الْحُكْمِ، فَتَحَدَّثَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِوَجْهٍ لَا يَكْفِي، وَكَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدِ اتَّضَحَتْ لِي، فَأَشَارَ إِلَيَّ بِالْإِيضَاحِ، فَقُلْتُ: الْوَلِيُّ إِذَا تَحَقَّقَ فِي وِلَايَتِهِ، مُكِّنَ مِنَ التَّصَوُّرِ فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ، وَتَظْهَرُ عَلَى رُوحَانِيَّتِهِ فِي حِينٍ وَاحِدٍ، فِي جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَإِنَّهُ يُعْطِي التَّطَوُّرَ فِي الْأَطْوَارِ، وَالتَّلَبُّسَ فِي الصُّوَرِ عَلَى حُكْمِ إِرَادَتِهِ، فَالصُّورَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ لِمَنْ رَآهَا بِعَرَفَةَ حَقٌّ، وَصُورَتُهُ الَّتِي رَآهَا الْآخَرُ لَمْ تُفَارِقْ دَمَامِينَ حَقٌّ، وَصَدَقَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي يَمِينِهِ، فَقَالَ الشَّيْخُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى. وَقَدْ سَاقَ ذَلِكَ اليافعي فِي كِفَايَةِ الْمُعْتَقِدِ، وَقَالَ فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا مُشْكِلٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْفَقِيهُ ذَلِكَ، وَلَا يُسَوَّغُ فِي عَقْلِهِ أَبَدًا، وَلَا يَصِحُّ الْحُكْمُ عِنْدَهُ بِعَدَمِ حِنْثِ الِاثْنَيْنِ أَبَدًا؛ إِذْ وُجُودُ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُحَالٌ فِي الْعَقْلِ. فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ صفي الدين الْمَذْكُورُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُحَالًا؛ لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ تَعَدُّدِ الصُّوَرِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ الْمُحَالُ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: الْإِشْكَالُ بَاقٍ فِي تَعَدُّدِ الصُّوَرِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ وَشُوهِدَ، وَلَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ، وَإِنْ تَحَيَّرَ فِيهِ الْعَقْلُ، مِنْ ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الْكَعْبَةَ الْمُعَظَّمَةَ شُوهِدَتْ تَطُوفُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي أَوْقَاتٍ فِي غَيْرِ مَكَانِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا فِي مَكَانِهَا، لَمْ تُفَارِقْهُ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ قضيب البان، وَرُوِّينَا عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ أَنَّهُ قَالَ: مَا الشَّأْنُ فِي الطَّيَرَانِ إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ، وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ يَشْتَاقُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى زِيَارَةِ الْآخَرِ، فَيَجْتَمِعَانِ وَيَتَحَدَّثَانِ، وَيَعُودُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى مَكَانِهِ، وَالنَّاسُ يُشَاهِدُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَكَانِهِ لَمْ يَبْرَحْ عَنْهُ. وَقَالَ اليافعي أَيْضًا فِي رَوْضِ الرَّيَاحِينِ: ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَجَّ رَجُلٌ سَنَةً، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لِأَخٍ لَهُ: رَأَيْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: نَحْنُ كُنَّا عِنْدَهُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فِي رِبَاطِهِ بِبَابِ تُسْتَرَ، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَوْقِفِ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: قُمْ بِنَا حَتَّى نَسْأَلَهُ، فَقَامَا وَدَخَلَا عَلَيْهِ، وَذَكَرَا لَهُ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا، وَسَأَلَاهُ عَنْ حُكْمِ الْيَمِينِ، فَقَالَ سهل: مَا لَكُمْ بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ اشْتَغِلُوا بِاللَّهِ، وَقَالَ لِلْحَالِفِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَلَا تُخْبِرْ بِهَذَا أَحَدًا، انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وَقَالَ الشيخ خليل المالكي - صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ الْمَشْهُورِ - فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي مَنَاقِبِ شَيْخِهِ - الشيخ عبد الله المنوفي - مَا نَصُّهُ: الْبَابُ السَّادِسُ فِي طَيِّ الْأَرْضِ لَهُ، مَعَ عَدَمِ تَحَرُّكِهِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ مِنَ الْحِجَازِ، وَسَأَلَ عَنِ الشَّيْخِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رَآهُ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: الشَّيْخُ لَمْ يَزُلْ مِنْ مَكَانِهِ، فَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، فَطَلَعَ الشَّيْخُ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ، وَذَكَرَ وَقَائِعَ أُخْرَى وَقَعَتْ لَهُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُمْكِنُ وُجُودُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ بِمَكَانَيْنِ، قُلْتُ: الْوَلِيُّ إِذَا تَحَقَّقَ فِي وِلَايَتِهِ تَمَكَّنَ مِنَ التَّصَوُّرِ فِي رُوحَانِيَّتِهِ، وَيُعْطَى مِنَ الْقُدْرَةِ التَّصْوِيرَ فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَدِّدَ هُوَ الصُّورَةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَقَدِ اشْتُهِرَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، كَمَا حَكَى عَنْ قضيب البان، أَنْكَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَ ذَلِكَ الْفَقِيهُ بِهِ، فَصَلَّى بِحَضْرَتِهِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ صُوَرٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَيُّ صُورَةٍ لَمْ تُصَلِّ مَعَكُمْ؟ فَقَبَّلَ يَدَ الشَّيْخِ وَتَابَ. وَكَمَا حُكِيَ عَنِ الشيخ أبي عباس المرسي أَنَّهُ طَلَبَهُ إِنْسَانٌ لِأَمْرٍ عِنْدَهُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَنْعَمَ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ لَهُ أَرْبَعَةٌ، كُلٌّ مِنْهُمْ طَلَبَ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْعَمَ لِلْجَمِيعِ، ثُمَّ صَلَّى الشَّيْخُ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَمْ يَذْهَبْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَإِذَا بِكُلٍّ مِنَ الْخَمْسَةِ جَاءَ يَشْكُرُ الشَّيْخَ عَلَى حُضُورِهِ عِنْدَهُ، وَقَدْ حَكَى جَمَاعَةٌ أَنَّ الْكَعْبَةَ رُئِيَتْ تَطُوفُ بِبَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ - هَذَا كَلَامُ الشيخ خليل وَنَاهِيكَ بِهِ إِمَامَةً وَجَلَالَةً، وَرَأَيْتُ فِي مَنَاقِبِ الشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله لِبَعْضِ تَلَامِيذِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ جَمَاعَةِ الشَّيْخِ حَجَّ، قَالَ: فَرَأَيْتُ الشَّيْخَ فِي الْمَطَافِ، وَخَلْفَ الْمَقَامِ، وَفِي الْمَسْعَى، وَفِي عَرَفَةَ، فَلَمَّا رَجَعْتُ سَأَلْتُ عَنِ الشَّيْخِ، فَقِيلَ: هُوَ طَيِّبٌ، فَقُلْتُ: هَلْ سَافَرَ أَوْ خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ؟ فَقِيلَ: لَا، فَجِئْتُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي: مَنْ رَأَيْتَ فِي سَفْرَتِكَ هَذِهِ مِنَ الرِّجَالِ؟ قُلْتُ: يَا سَيِّدِي، رَأَيْتُكَ، فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: الرَّجُلُ الْكَبِيرُ يَمْلَأُ الْكَوْنَ، لَوْ دَعَا الْقُطْبَ مِنْ حَجَرٍ لَأَجَابَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَحِيدِ: الْخَصَائِصُ الْإِلَهِيَّةُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهَا، فَهَذَا عِزْرَائِيلُ يَقْبِضُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنَ الْخَلَائِقِ فِي جَمِيعِ الْعَوَالِمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ بِصُوَرِ أَعْمَالِهِمْ فِي مَرَائِيَ شَتَّى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَشْهَدُهُ، وَيُبْصِرُهُ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَالَ الشيخ سراج الدين بن الملقن، وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ فِي طَبَقَاتِ الْأَوْلِيَاءِ: الشَّيْخُ قضيب البان الموصلي ذُو الْأَحْوَالِ الْبَاهِرَةِ، وَالْكَرَامَاتِ الْمُتَكَاثِرَةِ، سَكَنَ الْمَوْصِلَ وَاسْتَوْطَنَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ فِيهَا قَرِيبًا مِنْ سَنَةِ سَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الكمال بن يونس، فَوَقَعَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ لِمَنْ عِنْدَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَبُهِتُوا، وَقَالَ: يَا ابن يونس، أَنْتَ تَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَيْنَ كُنْتُ أَنَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ؟ فَلَمْ يَدْرِ ابن يونس مَا يَقُولُ، وَسُئِلَ عَنْهُ الشَّيْخُ عبد القادر الكيلاني، فَقَالَ: هُوَ وَلِيٌّ مُقَرَّبٌ ذُو حَالٍ مَعَ اللَّهِ، وَقَدَمِ صِدْقٍ عِنْدَهُ، فَقِيلَ لَهُ: مَا نَرَاهُ يُصَلِّي، فَقَالَ: إِنَّهُ يُصَلِّي مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُ، وَإِنِّي أَرَاهُ إِذَا صَلَّى بِالْمَوْصِلِ، أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ آفَاقِ الْأَرْضِ يَسْجُدُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ أبو الحسن القرشي: رَأَيْتُهُ فِي بَيْتِهِ بِالْمَوْصِلِ قَدْ مَلَأَهُ وَنَمَا جَسَدُهُ نَمَاءً خَارِقًا لِلْعَادَةِ، فَخَرَجْتُ وَقَدْ هَالَنِي مَنْظَرُهُ، ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، وَقَدْ تَصَاغَرَ حَتَّى صَارَ قَدْرَ الْعُصْفُورِ، ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ كَحَالَتِهِ الْمُعْتَادَةِ، انْتَهَى. وَفِي الطَّبَقَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ برهان الدين الأبتاسي فِي كِتَابِ تَلْخِيصِ الْكَوْكَبِ الْمُنِيرِ فِي مَنَاقِبِ الشيخ أبي العباس البصير: مِنْ كَرَامَاتِهِ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ اجْتَمَعَ بِالشَّيْخِ أبي الحجاج الأقصري، فَجَلَسَا فِي الْحَرَمِ يَتَذَاكَرَانِ أَحْوَالَ الْقَوْمِ، فَقَالَ أبو الحجاج: هَلْ لَكَ فِي طَوَافِ أُسْبُوعٍ؟ فَقَالَ أبو العباس: إِنْ لِلَّهِ رِجَالًا يَطُوفُ بَيْتُهُ بِهِمْ، فَنَظَرَ أبو الحجاج، وَإِذَا بِالْكَعْبَةِ طَائِفَةٌ بِهِمَا، قَالَ الأبتاسي: وَلَا يُنْكَرُ ذَلِكَ، فَقَدْ تَضَافَرَتْ أَخْبَارُ الصَّالِحِينَ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ شمس الدين ابن القيم فِي كِتَابِ الرُّوحِ: لِلرُّوحِ شَأْنٌ آخَرُ غَيْرُ شَأْنِ الْبَدَنِ، فَتَكُونُ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِبَدَنِ الْمَيِّتِ، بِحَيْثُ إِذَا سَلَّمَ عَلَى صَاحِبِهَا رَدَّ السَّلَامِ، وَهِيَ فِي مَكَانِهَا هُنَاكَ، وَهَذَا جِبْرِيلُ رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، مِنْهَا جَنَاحَانِ سَدَّا الْأُفُقَ، وَكَانَ يَدْنُو مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقُلُوبُ الْمُخْلِصِينَ تَتَّسِعُ لِلْإِيمَانِ بِأَنَّ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنَّهُ كَانَ يَدْنُو هَذَا الدُّنُوَّ وَهُوَ فِي مُسْتَقَرِّهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْوَحِيدِ: مِنَ الْقَوْمِ مَنْ كَانَ يُخَلِّي جَسَدَهُ وَيَصِيرُ كَالْفَخَّارَةِ الَّتِي لَا رُوحَ فِيهَا، كَمَا أَخْبَرَنِي عيسى بن المظفر، عَنِ الشَّيْخِ شمس الدين الأصبهاني - وَكَانَ عَالِمًا وَمُدَرِّسًا وَحَاكِمًا بِقُوصَ - أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُخَلِّي جَسَدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى حَالِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. قُلْتُ: الأصبهاني الْمَذْكُورُ هُوَ الْعَلَّامَةُ شمس الدين الْمَشْهُورُ، صَاحِبُ شَرْحِ الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَانِيفِ فِي الْأَصْلَيْنِ، نَقَلَ ابن السبكي فِي طَبَقَاتِهِ عَنِ الشَّيْخِ تاج الدين الفركاح أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ مِثْلُهُ، وَقَالَ ابن السبكي أَيْضًا فِي الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى: الْكَرَامَاتُ أَنْوَاعٌ - إِلَى أَنْ قَالَ: الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ التَّطَوُّرُ بِأَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الصُّوفِيَّةُ بِعَالَمِ الْمِثَالِ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ تَجَسُّدَ الْأَرْوَاحِ، وَظُهُورَهَا فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ عَالَمِ الْمِثَالِ، وَاسْتَأْنَسُوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا} [مريم: 17] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 (سَوِيًّا) وَمِنْهُ قِصَّةُ قضيب البان، ثُمَّ ذَكَرَهَا، وَذَكَرَ غَيْرِهَا. قُلْتُ: وَمِنْ شَوَاهِدِ مَا نَحْنُ فِيهِ، مَا أَخْرَجَهُ أحمد، وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَمَّا أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ قَطَعْتُ وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ» " - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «قَالُوا وَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ الْمَسْجِدَ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَيْهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَذَهَبْتُ أَنَعْتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ " - أَوْ عِقَالٍ " فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» " فَهَذَا؛ إِمَّا مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ كَمَا فِي رُؤْيَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي عُرْضِ الْحَائِطِ، وَإِمَّا مِنْ بَابِ طَيِّ الْمَسَافَةِ، وَهُوَ عِنْدِي أَحْسَنُ هُنَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَفْقِدُوهُ تِلْكَ السَّاعَةَ مِنْ بَلَدِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وابن المنذر فِي تَفَاسِيرِهِمْ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] قَالَ: مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وحميد بن عبد الرحمن، وَمُجَاهِدٍ، والقاسم بن أبي بزة، وعكرمة، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وقتادة، وأبي صالح، وشمر بن عطية، والضحاك، وَأَخْرَجَ عَنِ الحسن قَالَ: انْفَرَجَ سَقْفُ الْبَيْتِ فَرَأَى يَعْقُوبَ، وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ قَالَ: رَأَى تِمْثَالَ يَعْقُوبَ. فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْمِثَالِ، أَوْ طَيِّ الْمَسَافَةِ، وَهُوَ شَاهِدٌ عَظِيمٌ لِمَسْأَلَتِنَا؛ حَيْثُ رَأَى يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ بِمِصْرَ أَبَاهُ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ بِأَرْضِ الشَّامِ، فَفِيهِ إِثْبَاتُ رُؤْيَةِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بِنَاءً عَلَى إِحْدَى الْقَاعِدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ اللِّعَّانِ] مَسْأَلَةٌ: امْرَأَةٌ نَفَتِ ابْنَهَا بَعْدَ اعْتِرَافِهَا بِهِ، وَحَكَمَ بِالنَّفْيِ حَاكِمٌ، فَهَلْ يَنْتَفِي مِنْهَا، وَهَلْ لَهَا أَنْ تُقِرَّ بِهِ ثَانِيًا؟ . الْجَوَابُ: الْوَلَدُ لَا يَلْحَقُ الْأُمَّ بِاعْتِرَافِهَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَتِهَا الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ أَقَامَتْهَا فَلَا يُفِيدُ النَّفْيُ بَعْدَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 [كِتَابُ النَّفَقَاتِ] [ مسائل متفرقة ] مَسْأَلَةٌ: إِذَا أَذِنَ الْوَلِيُّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَمَاتَ هَلْ يَسْتَمِرُّ الْإِذْنُ إِلَى الْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى، أَوْ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِذَنِ وَلِيٍّ إِنْ كَانَ أَوِ الْحَاكِمِ، وَإِذَا قُرِّرَ لَهَا فِي نَظِيرِ كُسْوَتِهَا مَبْلَغٌ مُعَيَّنٌ، وَرَضِيَتْ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ تَرَاضَيَا عَلَى أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ، وَلَمْ أَجِدْهَا مَنْقُولَةً، وَالَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوَاعِدِ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ عَنِ الْوَلِيِّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَيَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ، هَذَا مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ، وَلَكِنَّ الْأَحْسَنَ خِلَافُهُ؛ لِإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَى عَدَمِ النِّزَاعِ فِي ذَلِكَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآنِ، وَأَمَّا إِذَا قَرَّرَ لَهَا فِي نَظِيرِ كُسْوَتِهَا دَرَاهِمَ، ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى أَقَلَّ وَهِيَ جَائِزَةُ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ. مَسْأَلَةٌ: فِي امْرَأَةٍ نَاشِزَةٍ هَلْ تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ النَّفَقَةِ وَالْقِسْمِ وَالْكُسْوَةِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِالْمَنْعِ فَهَلْ إِذَا رَجَعَتْ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ هَلْ تَعُودُ نَفَقَةُ الْيَوْمِ أَوْ بَعْضِهِ؟ وَهَلْ تَسْقُطُ كُسْوَةُ الْفَصْلِ كُلِّهِ أَمْ بَعْضِهِ؟ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمُ " الْفَصْلِ " هَلْ هُوَ الْعَامُ، أَوْ بَعْضُهُ، أَوْ أَحَدُ الشُّهُورِ الْمُقَرَّرِ فِيهَا الْكُسْوَةُ؟ وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ النُّشُوزَ، وَأَنْكَرَتِ الزَّوْجَةُ فَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُهَا أَمْ قَوْلُهُ؟ وَهَلْ يَلْزَمُ أَحَدَهُمَا يَمِينٌ أَمْ يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ؟ وَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ نَاشِزَةٌ فَهَلْ لَهَا السُّكْنَى؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِالْمَنْعِ فَلَازَمَتْ مَسْكَنَ النِّكَاحِ، وَأَطَاعَتْ فَهَلْ تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: لَا تَسْتَحِقُّ النَّاشِزَةُ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ، وَإِذَا رَجَعَتْ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ لَمْ تَسْتَحِقَّ لِذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْئًا عَلَى مَا رَجَّحَهُ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ فِي النِّكَاحِ، وَحَكَى فِي النَّفَقَاتِ وَجْهَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ، وَيَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ كُسْوَةُ فَصْلٍ كَامِلٍ وَهُوَ نِصْفُ الْعَامِ، وَلَا تَعُودُ بِعَوْدِ الطَّاعَةِ عَلَى قِيَاسِ مَا ذُكِرَ فِي النَّفَقَةِ، وَإِذَا ادَّعَى النُّشُوزَ وَأَنْكَرَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ نَاشِزَةٌ فَلَا سُكْنَى لَهَا، فَإِنْ عَادَتْ إِلَى الطَّاعَةِ عَادَ حَقُّ السُّكْنَى. مَسْأَلَةٌ: زَوْجَةٌ خَرَجَتْ مِنْ مَنْزِلِ الزَّوْجِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا، وَأَقَامَتْ بِهِ مُدَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ طَلَاقًا بَائِنًا، وَاسْتَمَرَّتْ نَحْوَ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ مِنْهُ عَلَى حَمْلٍ فَهَلْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ لِلْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ؟ وَهَلِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ؟ وَهَلْ يَثْبُتُ مَوْتُ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا ثَبَتَ مَوْتُهُ فَهَلْ تَسْتَحِقُّ الْمُطَلَّقَةُ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إِذَا وَضَعَتْهُ مَيِّتًا يَكُونُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِلْمُطَلِّقِ أَنْ يَسْأَلَ الْبَيِّنَةَ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ؟ وَإِذَا سَأَلَهَا، وَكَانَتْ لَا تُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ قَادِحًا فِي الشَّهَادَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ وَادَّعَتْ أَنَّهُ مِنَ الْمُطَلِّقِ يُلْحَقُ بِهِ أَمْ لَا. الْجَوَابُ: إِذَا طُلِّقَتِ النَّاشِزُ وَهِيَ حَامِلٌ فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا النَّفَقَةَ رَأْيَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ هَلْ هِيَ لِلْحَمْلِ، أَوْ لَهَا بِسَبَبِ الْحَمْلِ. فَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَمْلِ اسْتَحَقَّتْ، أَوْ لَهَا بِسَبَبِهِ لَمْ تَسْتَحِقَّ، وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَظْهَرُ، وَهُوَ أَنَّهَا لَهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَيْضًا مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. فَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَمْلِ لَمْ تَجِبْ لِلْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَهَا وَجَبَتْ، أَعْنِي: فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي هِيَ صُورَةُ النُّشُوزِ، وَقَدَرُ الْوَاجِبِ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَإِنْ قُلْنَا: لِلْحَمْلِ فَالْوَاجِبُ الْكِفَايَةُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ. وَإِنْ قُلْنَا لَهَا: فَالْوَاجِبُ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَجِبُ حَالَةَ الْعِصْمَةِ، وَيَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالتَّوَسُّطِ، وَهَذَا أَيْضًا فِي غَيْرِ صُورَةِ النُّشُوزِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّاشِزَ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَالْفُرُوعُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ فَرْعًا، سُقْتُهَا فِي تَأْلِيفِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَأَنْكَرَتْ فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرُوهُ فِي الْعَدَدِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ، لَكِنَّ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي النَّفَقَاتِ، لَوِ ادَّعَى الزَّوْجُ النُّشُوزَ وَأَنْكَرَتْ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النُّشُوزِ. وَأَمَّا ثُبُوتُ مَوْتِ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِالْبَيِّنَةِ فَقَدْ رَجَّحُوا ثُبُوتَ الْحَمْلِ نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ مَخَائِلَ وَقَرَائِنَ يَظْهَرُ بِهَا، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ مَوْتَهُ فِي الْبَطْنِ أَيْضًا يَثْبُتُ بِهَا؛ لِأَنَّ لِذَلِكَ مَخَائِلَ يَعْرِفُهَا النِّسَاءُ وَالْأَطِبَّاءُ، وَإِذَا ثَبَتَ مَوْتُهُ، أَوْ وُضِعَ مَيِّتًا اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ إِلَى آخِرِ يَوْمِ الْوَضْعِ، بِنَاءً عَلَى الْأَظْهَرِ أَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا لَا لِلْحَمْلِ، وَالْكَلَامُ فِي غَيْرِ صُورَةِ النُّشُوزِ، وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَقْدَحَ فِي الْبَيِّنَةِ بِالْفِسْقِ، وَيُفَسِّرَ ذَلِكَ بِالتَّقْصِيرِ فِي تَعَلُّمِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ وَشَهَادَتِهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُ تَعَلُّمُهُ إِجْمَاعًا، أَوْ فِي مُعْتَقَدِهِ، فَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا مَنْ لَا يَرَى لُزُومَ تَعَلُّمِ الْفَاتِحَةِ لَمْ يَفْسُقْ بِتَرْكِ تَعَلُّمِهَا، وَكَذَا لَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا فَإِنَّهُ يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ، وَيَأْتِي بِالْبَدَلِ فَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 يَفْسُقُ، وَإِذَا أَتَتِ الْمُطَلَّقَةُ بِوَلَدٍ لَحِقَ الْمُطَلِّقَ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوِلَادَةِ وَالطَّلَاقِ أَرْبَعُ سِنِينَ فَأَقَلُّ، وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يَطْرَأَ عَلَيْهَا فِرَاشٌ لِغَيْرِهِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ غَابَ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَكَانٌ، فَأَثْبَتَتْ غَيْبَتَهُ عَلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ، وَعَدَمَ النَّفَقَةِ وَعَدَمَ مَالٍ لَهُ تُصْرَفُ لَهَا مِنْهُ نَفَقَتُهَا، فَخَيَّرَهَا الْحَاكِمُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفَسْخِ، فَاخْتَارَتِ الْفَسْخَ، فَأَجَابَهَا الْحَاكِمُ وَفَسَخَ فَهَلْ يَجُوزُ هَذَا الْفَسْخُ أَمْ لَا؟ لِكَوْنِ الشُّهُودِ لَا يَعْلَمُونَ مَقَرَّ الزَّوْجِ فَكَيْفَ يَعْلَمُونَ بِإِعْسَارِهِ؟ . الْجَوَابُ: قَالَ ابن العماد فِي كِتَابِهِ تَوْقِيفِ الْحُكَّامِ عَلَى غَوَامِضِ الْأَحْكَامِ: فَرْعٌ: إِذَا تَحَقَّقَ الشُّهُودُ إِعْسَارَ الزَّوْجِ، ثُمَّ غَابَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَادَّعَتِ امْرَأَتُهُ إِعْسَارَهُ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ الْآنَ مُعْسِرٌ اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ، وَلَا نَظَرَ إِلَى احْتِمَالِ طُرُوءِ الْيَسَارِ - قَالَهُ ابن الصلاح فِي فَتَاوِيهِ، قَالَ: وَلَا يَكْفِي الشُّهُودَ أَنْ يَقُولُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُ غَابَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ الْآنَ مُعْسِرٌ، وَنَظِيرُهُ الشَّهَادَةُ بِالْمَوْتِ عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ، لَا يَكْفِي أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا أَنَّهُ مَاتَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُ مَاتَ، وَيَجُوزُ لَهُمُ الْجَزْمُ اعْتِمَادًا عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، قَالَ: وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا لَوْ رَأَى الشَّاهِدُ إِنْسَانًا أَقْرَضَ غَيْرَهُ مَالًا، ثُمَّ غَابَ عَنْهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَفَّاهُ فِيهَا، أَوْ أَبْرَأَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُقْرِضِ بِبَقَاءِ الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَلَا نَظَرَ إِلَى احْتِمَالِ الْوَفَاةِ، انْتَهَى كَلَامُ ابن العماد، وَحِينَئِذٍ إِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الشُّهُودُ عَرَفُوا إِعْسَارَهُ قَبْلَ غَيْبَتِهِ، ثُمَّ غَابَ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَقَرَّهُ فَشَهِدُوا بِأَنَّهُ مُعْسِرٌ الْآنَ فَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ، وَفَسْخُ الْحَاكِمِ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا صَحِيحٌ. [النُّقُولُ الْمُشْرِقَةُ فِي مَسْأَلَةِ النَّفَقَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ، وَأَرَادَ الدُّخُولَ عَلَيْهَا فِي مَنْزِلِهِ فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: أَنَا لَا أَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِي، فَسَكَنَ مَعَهَا فِي مَنْزِلِهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ نَفَقَةٌ أَمْ لَا؟ وَأَقُولُ: عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهَا إِلَى الزَّوْجِ لَيْلًا وَنَهَارًا لَكِنْ يَسْتَخْدِمُهَا نَهَارًا وَيُسَلِّمُهَا لَيْلًا، وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ: لَا أُخْرِجُهَا مِنْ دَارِي، وَلَكِنْ أُخَلِّي لَكَ بَيْتًا لِتَدْخُلَهُ، وَتَخْلُوَ بِهَا فَقَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْحَيَاءَ وَالْمُرُوءَةَ يَمْنَعَانِهِ دُخُولَ دَارِ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ، كَمَا لَوْ قَالَتِ الْحُرَّةُ: أَدْخُلُ بَيْتِي وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أَخْرُجُ إِلَى بَيْتِكَ، وَالثَّانِي لِلسَّيِّدِ ذَلِكَ؛ لِتَدُومَ يَدُهُ عَلَى مِلْكِهِ، مَعَ تَمَكُّنِ الزَّوْجِ مِنْ حَقِّهِ، فَعَلَى هَذَا تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ - هَذِهِ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَهِيَ صَرِيحَةٌ، أَوْ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا جَاءَ الزَّوْجُ، وَاسْتَمْتَعَ بِهَا فِي مَنْزِلِهَا، بِدَلِيلِ قِيَاسِ مَسْأَلَةِ الْأَمَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ مَحَلَّ مَسْأَلَةِ الْأَمَةِ فِيمَا إِذَا فَعَلَ الزَّوْجُ ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ، فَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْحُرَّةِ الْمَقِيسُ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَتْ مَسْأَلَةُ الْحُرَّةِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَفْعَلُ، وَمَسْأَلَةُ الْأَمَةِ فِيمَا إِذَا فَعَلَ لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ، كَمَا لَا يَخْفَى؛ إِذِ الْفَارِقُ حِينَئِذٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِوُجُودِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي هَذَا دُونَ هَذَا، فَإِنْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْأَمَةِ أَيْضًا مَحَلُّهَا فِيمَا إِذَا لَمْ يَفْعَلْ. قُلْنَا: قَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ جلال الدين المحلي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ، بِخِلَافِ ذَلِكَ فَقَالَ مَا نَصُّهُ: وَلَوْ أَخْلَى السَّيِّدُ فِي دَارِهِ بَيْتًا، وَقَالَ لِلزَّوْجِ: تَخْلُو بِهَا فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْحَيَاءَ وَالْمُرُوءَةَ يَمْنَعَانِهِ مِنْ دُخُولِ دَارِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ - هَذَا لَفْظُهُ، وَيُقَوِّيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا إِذَا لَمْ يَدْخُلْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَوْلٌ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ، وَالشَّرْحُ كَمَا تَرَى، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا دَخَلَ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَمَسْأَلَةِ مَا إِذَا اسْتَخْدَمَهَا السَّيِّدُ نَهَارًا، وَسَلَّمَهَا لِلزَّوْجِ لَيْلًا، وَالْمُرَجَّحُ فِي تِلْكَ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ مَعَ دُخُولِهِ وَاسْتِمْتَاعِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَكَذَا هَذِهِ، بَلْ هَذِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ فِيهَا أَضْيَقُ مِنْ تِلْكَ، فَإِنَّهُ هُنَاكَ تَسَلَّمَهَا نِصْفَ تَسْلِيمٍ؛ وَهُوَ اللَّيْلُ كُلُّهُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الِاسْتِمْتَاعِ، وَهُنَا لَمْ يَتَسَلَّمْهَا أَصْلًا، وَيُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ مِنَ الْأَوْلَوِيَّةِ أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ السَّيِّدِ لَا أُسَلِّمُهَا إِلَيْكَ نَهَارًا بَلْ لَيْلًا فَقَطْ مَقْبُولٌ مِنْهُ وَمُجَابٌ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: " لَا أُخْرِجُهَا مِنْ دَارِي، وَلَكِنْ أُخَلِّي لَكَ بَيْتًا فِيهَا " غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ وَلَا مُجَابٍ إِلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَ نَفَقَةٌ فِي حَالَةٍ مُجَابٌ إِلَيْهَا السَّيِّدُ شَرْعًا، فَكَيْفَ يَتَخَيَّلُ أَنَّ تَلْزَمَهُ النَّفَقَةُ فِي حَالَةٍ لَا يُجَابُ السَّيِّدُ إِلَيْهَا شَرْعًا - هَذَا مَا أَفْهَمَتْهُ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ. وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ أَيْضًا فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ مَا نَصُّهُ: فَرْعٌ: لَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَا أُمَكِّنُ إِلَّا فِي بَيْتِي، أَوْ فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ بَلَدِ كَذَا فَهِيَ نَاشِزَةٌ، وَعَبَّرَ الرافعي فِي الشَّرْحِ بِأَوْضَحَ مِنْ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ، فَقَالَ: وَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَا أُمَكِّنُ إِلَّا فِي بَيْتِي، أَوْ فِي بَيْتِ كَذَا، أَوْ بَلَدِ كَذَا فَهِيَ نَاشِزَةٌ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ التَّامَّ لَمْ يُوجَدْ، وَهَذَا كَمَا لَوْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ، وَشَرَطَ أَنْ لَا يَنْقُلَهُ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا هَذِهِ عِبَارَةُ الرافعي فَانْظُرْ كَيْفَ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ التَّمْكِينَ التَّامَّ لَمْ يُوجَدْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ تَمْكِينٌ نَاقِصٌ، وَالتَّمْكِينُ النَّاقِصُ لَا تَجِبُ مَعَهُ نَفَقَةٌ وَإِنِ اسْتَمْتَعَ الزَّوْجُ، كَمَا عَلَّلُوا بِهِ مَسْأَلَةَ الْأَمَةِ إِذَا اسْتَخْدَمَهَا السَّيِّدُ نَهَارًا وَأَسْلَمَهَا لِلزَّوْجِ لَيْلًا فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ مَعَ رِضَاهُ بِهِ، وَإِجْبَارِهِ عَلَيْهِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْكِينٍ تَامٍّ، وَانْظُرْ أَيْضًا كَيْفَ شَبَّهَهُ الرافعي بِمَسْأَلَةِ تَسْلِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الْبَائِعِ الْمَبِيعَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْقُلَهُ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا تَامًّا وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ رَاجَعْنَا كِتَابَ التَّتِمَّةِ للمتولي، فَوَجَدْنَا عِبَارَتَهُ أَوْضَحَ مِنْ عِبَارَةِ الرافعي، وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْكُتُبَ الْأُصُولَ تُبْسَطُ فِيهَا الْعِبَارَةُ بَسْطًا لَا يَبْقَى مَعَهُ إِشْكَالٌ عَلَى قَاصِرِي الْفَهْمِ، وَالْكُتُبُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْهَا تَكُفُّ فِيهَا الْعِبَارَةُ اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ الْفَطِنِ، أَوْ تَوْقِيفِ الْمُوقِفِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرَّوْضَةُ مَأْخُوذَةً مِنَ الشَّرْحِ كَانَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ أَوْضَحَ مِنْ عِبَارَتِهَا، وَلَمَّا كَانَ الشَّرْحُ مَأْخُوذًا مِنْ مِثْلِ التَّتِمَّةِ وَنَحْوِهَا كَانَتْ عِبَارَتُهُمْ أَوْضَحَ، وَعِبَارَةُ التَّتِمَّةِ نَصُّهَا: التَّسْلِيمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنَا فِي طَاعَتِكَ فَخُذْنِي إِلَى أَيِّ مَكَانٍ شِئْتَ، فَإِذَا أَظْهَرَتِ الطَّاعَةَ مِنْ نَفْسِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ جُعِلَتْ مُمَكِّنَةً، سَوَاءٌ تَسَلَّمَهَا الزَّوْجُ أَوْ لَمْ يَتَسَلَّمْهَا، فَأَمَّا إِذَا قَالَتْ: أُسَلِّمُ نَفْسِي إِلَيْكَ فِي مَنْزِلِي أَوْ فِي مَوْضِعِ كَذَا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ لَمْ يَكُنْ هَذَا تَسْلِيمًا تَامًّا، كَالْبَائِعِ إِذَا قَالَ لِلْمُشْتَرِي: أُسَلِّمُ الْمَبِيعَ إِلَيْكَ عَلَى شَرْطِ أَنْ لَا تَنْقُلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، أَوْ عَلَى شَرْطِ أَنْ تَتْرُكَهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لِلْمَبِيعِ، حَتَّى يَجِبَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ عَلَى قَوْلِنَا: تَجِبُ الْبِدَايَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ - هَذَا نَصُّ التَّتِمَّةِ بِحُرُوفِهِ، وَمِنْهُ أَخَذَ الرافعي. وَقَالَ فِي التَّتِمَّةِ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَةِ: لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِلزَّوْجِ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَنْزِلِي مَتَى شِئْتَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَلَكِنِّي لَا أُمَكِّنُ الْجَارِيَةَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِي، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ فِيهَا حَقًّا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُكَلَّفَ إِزَالَةَ يَدِهِ، وَالزَّوْجُ قَدْ يُمَكَّنُ مِنْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَحْتَشِمُ مِنْ دُخُولِ دَارِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَلَا يُكْمِلُ التَّسْلِيمَ - هَذِهِ عِبَارَتُهُ، فَانْظُرْ كَيْفَ عَلَّلَ الْوَجْهَ الْقَائِلَ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ، الَّذِي هُوَ الْمُصَحَّحُ فِي الرَّوْضَةِ بِعَدَمِ كَمَالِ التَّسْلِيمِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّسْلِيمَ فِي مَسْأَلَةِ لَوْ أَخْلَى فِي دَارِهِ بَيْتًا كَامِلًا، إِذْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ تَسْلِيمِهَا لَيْلًا لَا نَهَارًا؛ فَإِنَّهُ نَاقِصٌ فِيهَا، فَهَا أَنْتَ قَدْ رَأَيْتَ تَصْرِيحَ المتولي بِخِلَافِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ المتولي أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الْحُرَّةِ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا إِذَا قَالَتْ: أُسَلِّمُ نَفْسِي لَيْلًا، وَبَيْنَ مَا إِذَا قَالَتْ: لَا أُسَلِّمُ نَفْسِي إِلَّا فِي بَيْتِي، فَقَالَ مَا نَصُّهُ: الثَّالِثَ عَشَرَ: السَّيِّدُ إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ، فَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَى الزَّوْجِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا، وَأَمَّا إِنْ سَلَّمَهَا لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَسْلِيمٌ نَاقِصٌ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، كَالْحُرَّةِ إِذَا قَالَتْ: أُسَلِّمُ نَفْسِي لَيْلًا، أَوْ قَالَتْ: أُسَلِّمُ نَفْسِي فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، وَالثَّانِي: تَجِبُ النَّفَقَةُ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنَّ يُسَافِرَ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِالْأَمَةِ، فَانْظُرْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَى هَذَا التَّصْرِيحِ الْمُطَابِقِ لِمَا فَهِمْنَاهُ، وَكَيْفَ قَطَعَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 النَّفَقَةِ فِي الْحُرَّةِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: التَّسْلِيمُ لَيْلًا، وَالتَّسْلِيمُ فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَمَةِ، حَيْثُ [جَرَى] الْخِلَافُ فِيهَا بِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ بِالْحُرَّةِ، فَكَانَ امْتِنَاعُهَا مِنَ النُّقْلَةِ نُشُوزًا كَامْتِنَاعِهَا مِنَ الْمُسَافَرَةِ مَعَهُ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ بِالْأَمَةِ، فَجَرَى وَجْهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَقْلَهَا فَلَمْ يَكُنْ نُشُوزًا، وَلَا مُسْقِطًا لِلنَّفَقَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ صَرَّحَ النووي أَيْضًا فِي الرَّوْضَةِ بِالتَّفْرِقَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ: لَوْ سَامَحَ السَّيِّدُ فَسَلَّمَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فَعَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ، وَتَمَامُ النَّفَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَّا لَيْلًا فَهَلْ تَجِبُ جَمِيعُ النَّفَقَةِ، أَوْ نِصْفُهَا أَمْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ فِيمَا إِذَا سَلَّمَتِ الْحُرَّةُ نَفْسَهَا لَيْلًا، وَاشْتَغَلَتْ عَنِ الزَّوْجِ نَهَارًا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْجَزْمُ فِي الْحُرَّةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي هَذَا الْحَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَانْظُرْ كَيْفَ صَحَّحَ طَرِيقَةَ الْجَزْمِ فِي الْحُرَّةِ مَعَ إِجْرَاءِ الْخِلَافِ فِي الْأَمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَيْفَ يَدْخُلُ وَيَسْتَمْتِعُ فِي غَيْرِ مُقَابِلٍ؟ فَجَوَابُهُ: أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَهْرِ، وَقَدْ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ هُنَا مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الْمَهْرُ فَقَالَ الشَّيْخُ أبو حامد: لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ كَالنَّفَقَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي أبو الطيب: يَجِبُ، قَالَ ابن الصباغ: لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنَ الْوَطْءِ قَدْ حَصَلَ وَلَيْسَ كَالنَّفَقَةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ بِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْوُجُوبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَيَسْتَمْتِعُ بِهَا وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَةٌ؟ قُلْنَا: الِاسْتِمْتَاعُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَهْرِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِهِمْ، وَكَيْفَ يَتَخَيَّلُ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِمُطْلَقِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ: وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ إِلَّا بِالتَّمْكِينِ التَّامِّ؟ قَالَ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ: احْتَرَزَ الشَّيْخُ بِلَفْظِ التَّامِّ عَمَّا إِذَا قَالَتْ: أَنَا أُسَلِّمُ نَفْسِي إِلَيْكَ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ، وَفِي نَهَارٍ دُونَ اللَّيْلِ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ فِي الْمَنْزِلِ الْفُلَانِيِّ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ بِذَلِكَ؛ إِذْ لَمْ يَحْصُلِ التَّمْكِينُ الْمُقَابِلُ بِالنَّفَقَةِ، وَقَالَ: وَصُورَةُ التَّمْكِينِ التَّامِّ أَنْ تَقُولَ: سَلَّمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، فَإِنِ اخْتَرْتَ أَنْ تَصِيرَ إِلَيَّ وَتَأْخُذَنِي وَتَسْتَمْتِعَ بِي فَذَاكَ إِلَيْكَ، وَإِنِ اخْتَرْتَ جِئْتُ إِلَيْكَ فِي أَيِّ مَكَانٍ شِئْتَ أَوْ مَا يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى. وَعِبَارَةُ الشَّيْخِ فِي الْمُهَذَّبِ: إِذَا سُلِّمَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا وَمُكِّنَّ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَنَقَلَهَا إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا، فَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، أَوْ مَكَّنَتْ مِنَ اسْتِمْتَاعٍ دُونَ اسْتِمْتَاعٍ، أَوْ فِي مَنْزِلٍ دُونَ مَنْزِلٍ، أَوْ فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ لَمْ تَجِبِ النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ التَّمْكِينُ التَّامُّ فَلَمْ تَجِبِ النَّفَقَةُ، كَمَا لَا يَجِبُ ثَمَنُ الْمَبِيعِ إِذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، أَوْ سَلَّمَ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وَعِبَارَةُ ابن الصباغ فِي الشَّامِلِ: فَإِذَا مَكَّنَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ نَفْسِهَا بِأَنْ تَقُولَ: سَلَّمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ فِي أَيِّ مَكَانٍ شِئْتَ فَقَدْ وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، فَأَمَّا إِذَا قَالَتْ: أُسَلِّمُ نَفْسِي إِلَيْكَ فِي مَنْزِلِي، أَوْ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ دُونَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا تَسْلِيمًا تَامًّا، وَلَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ، كَمَا لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أُسَلَّمُ إِلَيْكَ السِّلْعَةَ عَلَى أَنْ تَتْرُكَهَا فِي مَوْضِعِهَا، أَوْ فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا يَسْتَحِقُّ بِهِ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ وَسَلَّمَهَا لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ لَمْ تُسْتَحَقَّ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ التَّسْلِيمُ التَّامُّ. وَعِبَارَةُ المحاملي فِي الْمَجْمُوعِ: وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالتَّمْكِينِ التَّامِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى عَقْدٍ صَحِيحٍ، فَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: مَكَّنْتُكَ مِنْ نَفْسِي، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَتْرُكَنِي فِي مَنْزِلِي فَافْعَلْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَنْقُلَنِي إِلَى حَيْثُ شِئْتَ فَافْعَلْ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَمْكِينًا تَامًّا، بِأَنْ قَالَتْ: أُمَكِّنُكَ مِنْ نَفْسِي فِي مَنْزِلِي، وَلَا أَنْتَقِلُ مَعَكَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِحَالٍ، كَالسَّيِّدِ إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، بَلْ قَالَ: أُسَلِّمُهَا بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ فَإِنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ بِذَلِكَ. وَعِبَارَةُ ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ فِي الْمُرْشِدِ: إِذَا سُلِّمَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا وَمُكِّنَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَنَقَلَهَا إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا، أَوْ مَكَّنَتْ مِنِ اسْتِمْتَاعٍ دُونَ اسْتِمْتَاعٍ، أَوْ فِي مَنْزِلٍ دُونَ مَنْزِلٍ، أَوْ فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ لَمْ تَجِبِ النَّفَقَةُ. وَعِبَارَةُ سليم الرازي فِي الْكِفَايَةِ: وَإِذَا لَمْ تُسَلِّمْ نَفْسَهَا إِلَى الزَّوْجِ لَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ نَفَقَةً، وَسَوَاءٌ امْتَنَعَتْ مِنْهُ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ قَالَتْ: أَنْتَقِلُ مَعَكَ إِلَى مَحَلَّةٍ دُونَ مَحَلَّةٍ، وَهَكَذَا إِنْ تَزَوَّجَ بِهَا وَسَكَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَطْلُبِ الزَّوْجُ أَنْ تُسَلِّمَ نَفْسَهَا، وَلَمْ تَطْلُبْ هِيَ أَنْ يَتَسَلَّمَهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ، وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تُسَلِّمَ نَفْسَهَا فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إِلَيْهِ، بِأَنْ تَقُولَ: بَذَلْتُ نَفْسِي لَكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَرَدَّدَ إِلَيَّ فَافْعَلْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَنْقُلَنِي إِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ أَرَدْتَ فَافْعَلْ، وَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ. وَعِبَارَةُ صَاحِبِ الْبَيَانِ: إِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهَا مَعَ زَوْجِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهَا مَعَهُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، فَإِنِ اخْتَارَ السَّيِّدُ إِرْسَالَهَا لِزَوْجِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ جَمِيعُ نَفَقَتِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ التَّامُّ، وَإِنْ سَلَّمَهَا السَّيِّدُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نَفَقَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْهَا تَسْلِيمًا تَامًّا، فَهُوَ كَمَا لَوْ سَلَّمَتِ الْحُرَّةُ نَفْسَهَا بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، أَوْ فِي بَيْتٍ دُونَ بَيْتٍ. وَعِبَارَةُ الشَّاشِيِّ فِي الْعُمْدَةِ: إِذَا سُلِّمَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِمْتَاعِ وَمُكِّنَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَنَقَلَهَا حَيْثُ يُرِيدُ وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، وَكَذَا عِبَارَتُهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّرْغِيبِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمَاوَرْدِيَّ قَالَ فِي الْحَاوِي مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا التَّمْكِينُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِمَا، أَحَدُهُمَا: تَمْكِينُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَالثَّانِي: تَمْكِينُهُ مِنَ النُّقْلَةِ مَعَهُ حَيْثُ شَاءَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ، وَإِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ إِذَا كَانَتِ السُّبُلُ مَأْمُونَةً، فَلَوْ مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا وَلَمْ تُمَكِّنْهُ مِنَ النُّقْلَةِ مَعَهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ لَمْ يَكْمُلْ إِلَّا أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا فِي زَمَانِ الِامْتِنَاعِ مِنَ النُّقْلَةِ، فَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَيَصِيرُ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا عَفْوًا عَنِ النُّقْلَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هَذِهِ عِبَارَتُهُ. وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهَا مَنْ أَفْتَى بِخِلَافِ مَا أَفْتَيْنَا بِهِ، بَلْ أَنَا لَمَّا رَأَيْتُهَا تَوَقَّفَتْ كُلَّ التَّوَقُّفِ، ثُمَّ بَانَ لِي أَنَّهَا لَا تُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ أَنِّي رَأَيْتُ الْمَاوَرْدِيَّ اخْتَارَ فِي النَّفَقَةِ طَرِيقَةً ضَعِيفَةً خِلَافَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي صَحَّحَهَا الشَّيْخَانِ، وَاعْتَرَفَ هُوَ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلِظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو اسْتِمْتَاعٌ بِزَوْجَةٍ عَنْ نَفَقَةٍ وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ، وَاخْتَارَ فِي الْأَمَةِ إِذَا سُلِّمَتْ لَيْلًا لَا نَهَارًا أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا الْقِسْطُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَقَالَ فِي الْحُرَّةِ الْمُمْتَنِعَةِ مِنَ النُّقْلَةِ: إِذَا اسْتَمْتَعَ بِهَا يَجِبُ لَهَا نَفَقَةُ زَمَنِ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْأَمَةِ: بِالتَّقْسِيطِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فِي الْأُمَّةِ ضَعِيفَةٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا أَصْلًا. وَهَذِهِ عِبَارَةُ الْمَاوَرْدِيِّ: قَالَ: الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنْهَا لَيْلًا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْهَا نَهَارًا فِي زَمَانِ الِاسْتِخْدَامِ، فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِرِقِّهَا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ فِي نِكَاحِ الْأُمَّةِ، وَفِي نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا - أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِقُصُورِ اسْتِمْتَاعِهِ عَنْ حَالِ الْكَمَالِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَتِهَا بِقِسْطِهِ مِنْ زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الزَّوْجِ عَشَاؤُهَا، وَعَلَى السَّيِّدِ غَدَاؤُهَا؛ لِأَنَّ الْعَشَاءَ يُرَادُ لِزَمَانِ اللَّيْلِ، وَالْغَدَاءَ يُرَادُ لِزَمَانِ النَّهَارِ، وَعَلَيْهِ مِنَ الْكُسْوَةِ مَا تَتَدَثَّرُ بِهِ لَيْلًا، وَعَلَى السَّيِّدِ مِنْهُ مَا تَلْبَسُهُ نَهَارًا، وَإِنَّمَا تَقَسَّطَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ وُجُودِ الِاسْتِمْتَاعِ؛ لِئَلَّا يَخْلُوَ اسْتِمْتَاعٌ بِزَوْجَةٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِ نَفَقَةٍ - هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ، فَانْظُرْ كَيْفَ رَجَّحَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَةِ خِلَافَ مَا رَجَّحَهُ الشَّيْخَانِ، وَكَيْفَ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، وَفِيمَا رَجَّحَهُ الْأَظْهَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 عِنْدِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لَهُ خَارِجٌ عَمَّا رَجَّحَهُ الْجُمْهُورُ، وَانْظُرْ كَيْفَ بَنَى أَصْلَهُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ لَا يَخْلُو مِنْ نَفَقَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمُ الشَّيْخَانِ، فَعَرَفَ أَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ فِي الْحُرَّةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ هُوَ لَا عَلَى طَرِيقَةِ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ بِوَرَقَتَيْنِ: فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ السَّيِّدُ مَنْزِلًا لَيْلًا وَنَهَارًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَكَانَ السَّيِّدُ مُتَعَدِّيًا بِمَنْعِهَا مِنْهُ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، وَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ لَيْلًا، وَاسْتَخْدَمَهَا نَهَارًا لَمْ يَتَعَدَّ، وَفِي نَفَقَتِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ المروزي - وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ جَمِيعُهَا، وَالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي - أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ بِقِسْطِهَا مِنْ زَمَانِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، وَهُوَ مَا قَابَلَ الْعَشَاءَ دُونَ الْغَدَاءِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصَرِ كَمَا تَقَدَّمَتْ عِبَارَتُهُ، ثُمَّ تَأَمَّلْ عِبَارَةَ الْمَاوَرْدِيِّ السَّابِقَةَ فِي الْحُرَّةِ، تَجِدْهُ لَمْ يُوجِبْ لَهَا النَّفَقَةَ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ، إِنَّمَا أَوْجَبَ لَهَا نَفَقَةً زَمَنَ الِاسْتِمْتَاعِ خَاصَّةً، لِقَوْلِهِ: وَيَصِيرُ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا عَفْوًا عَنِ النُّقْلَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا إِذَا اسْتَمْتَعَ فِي يَوْمٍ نَفَقَةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلِّهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَمْتَعَ بِهَا فِي مَنْزِلِهَا أَيَّامًا وَتَرَكَ ذَلِكَ أَيَّامًا، أَوْ غَابَ عَنْهَا فِي الْبَلَدِ، أَوْ فِي سَفَرٍ لَمْ تَسْتَحِقَّ نَفَقَةَ أَيَّامِ الْغَيْبَةِ وَلَا أَيَّامَ تَرْكِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِهِ لَاسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ هَذِهِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَهَذَا أَغْلَظُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَةِ الْمَاوَرْدِيِّ وَهِيَ كَالصَّرِيحَةِ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا اسْتَمْتَعَ بِهَا فِي يَوْمٍ لَمْ تَجِبْ نَفَقَةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلِّهِ بَلْ بِالْقِسْطِ، فَإِنِ اسْتَمْتَعَ فِي النَّهَارِ لَزِمَهُ غَدَاؤُهَا دُونَ الْعَشَاءِ، أَوْ فِي اللَّيْلِ لَزِمَهُ عَشَاؤُهَا دُونَ الْغَدَاءِ، كَمَا هُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الْأَمَةِ، وَهَذَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيَصِيرُ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا عَفْوًا عَنِ النُّقْلَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، أَيْ: فِي زَمَنِ الِاسْتِمْتَاعِ خَاصَّةً، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا نَفَقَتُهُ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَالنَّفَقَةَ عِنْدَهُ تَقْسِيطٌ، فَيَجِبُ مَا قَابَلَ ذَلِكَ الزَّمَنَ فَقَطْ إِمَّا الْغَدَاءُ أَوِ الْعَشَاءُ، وَتَبْقَى سَائِرُ الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا وَهِيَ مُمْتَنِعَةٌ غَيْرُ عَفْوٍ فَلَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ تَحْتَمِلُهُ عِبَارَتُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَصْلُ الْعِبَارَةِ مَعْنًى ثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ الَّتِي قَالَتْ: لَا أُسَلِّمُ إِلَّا فِي بَيْتِي، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْ سَلَّمَتْ فِي مَنْزِلِهِ، وَبَذَلَتْ لَهُ الطَّاعَةَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، أَوْ يُسَافِرَ بِهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فَامْتَنَعَتْ، فَإِنَّهُ مَا دَامَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا فِي مَنْزِلِهِ الْأَوَّلِ يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ اسْتِصْحَابًا لِلطَّاعَةِ السَّابِقَةِ، وَالتَّسْلِيمِ السَّابِقِ مَعَ تَقْوِيَتِهِ بِالِاسْتِمْتَاعِ، بِخِلَافِ مَنْ قَالَتْ: لَا أُسَلِّمُ إِلَّا فِي بَيْتِي فَإِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ قَهْرِهِ وَطَاعَتِهِ أَصْلًا، فَلَا يُفِيدُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا نَفَقَةً، بَلْ هُوَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 هَذِهِ الصُّورَةِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهَا خِلَافَ مَوْضُوعِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ بِأَنَّ لِلسَّاكِنِ بِزَوْجَتِهِ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالْعِزِّ وَالسُّلْطَةِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ مَا لَيْسَ لِلسَّاكِنِ فِي بَيْتِ زَوْجَتِهِ أَوْ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ أَمِيرًا فِي بَيْتِ غَيْرِهِ وَالزَّوْجُ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُبَاسَطَةِ مَعَ زَوْجَتِهِ، وَرَفْعِ الْحِشْمَةِ مَعَهَا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى لَهُ وَهِيَ فِي مَنْزِلِ أَهْلِهَا، خُصُوصًا إِذَا كَانَتِ الدَّارُ وَاحِدَةً تَجْمَعُ الْجَمِيعَ، وَهِيَ فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِهَا وَإِنِ اسْتَقَلَّتْ بِمَرَافِقِهَا، هَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ. وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مُخَرَّجٌ فِي بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْحَدِيثِيَّةِ أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: إِنَّمَا أَحْزَنُ عَلَى السَّاكِنِ فِي بَيْتِ زَوْجَتِهِ، وَلَا يَحْضُرُنِي الْآنَ سَنَدُهُ، وَسَأَتْبَعُهُ وَأَلْحَقُهُ، ثُمَّ تَذَكَّرْتُ عَنْ شَيْخِنَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ شرف الدين المناوي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيمَا إِذَا امْتَنَعَتِ الزَّوْجَةُ مِنَ النُّقْلَةِ، وَسَكَنَ الزَّوْجُ فِي بَيْتِهَا: يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهَا النُّقْلَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ؛ لِيَتَحَقَّقَ امْتِنَاعُهَا، فَإِذَا امْتَنَعَتْ سَقَطَتْ نَفَقَةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ نُشُوزَ لَحْظَةٍ فِي الْيَوْمِ يُسْقِطُ نَفَقَةَ كُلِّ الْيَوْمِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شَيْخُنَا تَحْقِيقًا مِنْ عِنْدِهِ، قَصَدَ بِهِ أَنْ يَتَحَقَّقَ امْتِنَاعُهَا مِنَ النُّقْلَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ رَجَعَتْ عَنِ الِامْتِنَاعِ، وَيَكُونَ سَكَنُ الزَّوْجِ فِي مَنْزِلِهَا بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، وَهِيَ بِحَيْثُ لَوْ طَلَبْتَ مِنْهَا لَأَجَابَتْ، فَإِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِلَا شَكٍّ، وَالَّذِي أَقُولُهُ: أَنَّ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاسْتِظْهَارِ، لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ لِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ إِلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ مِنْهَا الطَّاعَةَ صَرِيحًا. تَذْنِيبٌ: ذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّ الْأَمَةَ الْمَوْقُوفَةَ يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ نَاظِرٌ خَاصٌّ، فَإِنْ كَانَ لَهُ نَاظِرٌ خَاصٌّ فَهُوَ الَّذِي يُزَوِّجُ، قَالَ ابن العماد فِي " تَوْقِيفِ الْحُكَّامِ عَلَى غَوَامِضِ الْأَحْكَامِ ": وَقَدِ اغْتَرَّ صَاحِبُ الْمُهِمَّاتِ بِمَقَالَةِ الْمَاوَرْدِيِّ، فَجَعَلَهَا تَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهِمْ، وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ بَنَى جَوَابَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ تَابِعَةٌ لِوِلَايَةِ الْمَالِ - وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ - وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ، والرافعي نَقَلَ هُنَا عَنِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْحَاكِمَ يُزَوِّجُ انْتَهَى، وَهَذَا نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ بَنَى جَوَابَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى اخْتِيَارِهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو اسْتِمْتَاعٌ بِزَوْجَةٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِ نَفَقَةٍ حَتَّى إِنَّهُ أَوْجَبَ لِلْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ لَيْلًا لَا نَهَارًا شَطْرَ النَّفَقَةِ - وَهُوَ خِلَافُ الْمُصَحَّحِ فِي الْمَذْهَبِ - وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَحَدٌ بِذَلِكَ، وَيَجْعَلْهُ تَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِ الْأَصْحَابِ فَتَأْنَسْ بِذَلِكَ. تَأْكِيدٌ: وَقَدِ اخْتَارَ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا وُجُوبَ النَّفَقَةِ فِي مَسَائِلَ، عَلَى خِلَافِ مَا رَجَّحَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الْأَكْثَرُونَ، وَالشَّيْخَانِ، قَالَ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ: لَوْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فِي حَاجَتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا سَافَرَتْ بِالْإِذْنِ وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدَ الْمَاوَرْدِيِّ، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ أَنَّهَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُمَكِّنَةٍ، وَبِهِ قَطَعَ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ ابن الرفعة أَيْضًا: لَوْ صَامَتْ تَطَوُّعًا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَفِي وَجْهٍ لَا تَسْقُطُ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ لَمْ يَدْعُهَا إِلَى الْخُرُوجِ بِالِاسْتِمْتَاعِ فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا، وَإِنْ دَعَاهَا فَأَبَتْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ فَلَا؛ لِقُرْبِ الزَّمَانِ. قَالَ ابن الرفعة: وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ دَعَاهَا إِلَى الْخُرُوجِ بِغَيْرِ الِاسْتِمْتَاعِ فَلَمْ تَفْعَلْ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا، وَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ فِي الْعِدَّةِ، قَالَ الرافعي: وَقَدِ اسْتَحْسَنَ الروياني هَذَا التَّفْصِيلَ، وَالْأَكْثَرُونَ سَكَتُوا عَنْهُ انْتَهَى. فَانْظُرْ: إِلَى هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ كَيْفَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِيهِمَا بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ؛ مَشْيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا تَخْلُو زَوْجَةٌ عَنْ نَفَقَةٍ، وَانْظُرْ إِلَى الرافعي كَيْفَ لَمْ يَعْتَبِرْ تَفْصِيلَهُ فِي الْفَرْعِ الثَّانِي، وَلَا قَيَّدَ بِهِ إِطْلَاقَ الْأَصْحَابِ، بَلْ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْأَكْثَرِينَ سَكَتُوا عَنْهُ. وَهَكَذَا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ فِيهَا عَدَمَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِمَا إِذَا اسْتَمْتَعَ، وَلَمْ أَرَ هَذَا الْقَيْدَ إِلَّا فِي كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وَحْدَهُ؛ جَرْيًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ فَتَفَطَّنْ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْفِطْنَةِ، وَإِلَّا فَخَلِّ الْهَوَى لِرِجَالِهِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ الَّذِي قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ لَيْسَ بِمُعْتَمِدٍ أَنَّ الرافعي لَمْ يُعَوِّلْ عَلَى ذِكْرِهِ، بَلْ أَطْلَقَ الْمَسْأَلَةَ كَمَا أَطْلَقَهَا سَائِرُ الْأَصْحَابِ، وَكَذَا ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ أَصْلًا، مَعَ حِرْصِهِ عَلَى تَتَبُّعِ مَا أَغْفَلَهُ الرافعي مِنَ الْقُيُودِ وَالتَّخْصِيصَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ رَآهُ مُفَرَّعًا عَلَى طَرِيقَةٍ مَرْجُوحَةٍ، فَأَعْرَضَ عَنِ التَّشَاغُلِ بِهِ. وَإِذْ قَدِ انْتَهَى الْقَوْلُ فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ، فَلْنُلَخِّصِ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَنَقُولُ: إِذَا سَكَنَ الزَّوْجُ فِي بَيْتِ زَوْجَتِهِ أَوْ عِنْدَ أَهْلِهَا فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ هُوَ الطَّالِبَ لِذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ أَوْ أَهْلُهَا كَارِهُونَ لِذَلِكَ، مُرِيدُونَ مِنْهُ أَنْ يَنْقُلَ زَوْجَتَهُ إِلَى مَكَانٍ يَسْتَأْجِرُهُ، فَهَذَا عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَأُجْرَةُ الْمَنْزِلِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَفِي الْمُحِيطِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهَا إِذَا مَنَعَتْهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي مَنْزِلِهَا، وَقَدْ سَأَلَتْهُ أَنْ يُحَوِّلَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ لَا تَكُونُ نَاشِزَةً، وَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَهُوَ وَاضِحٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تُعْرِضَ الْمَرْأَةُ، أَوْ أَهْلُهَا ذَلِكَ عَلَيْهِ عَرْضًا مِنْ غَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنَ النُّقْلَةِ مَعَهُ فَيَرْضَى بِذَلِكَ فَهَذَا أَيْضًا لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهَا بِحَيْثُ لَوْ طَلَبَ مِنْهَا النُّقْلَةَ إِلَى مَنْزِلِهِ لَأَجَابَتْ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ بِعَيْنِهَا مُصَرَّحٌ بِهَا فِي الْكِفَايَةِ لسليم الرازي، وَمَأْخُوذَةٌ مِنْ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ، وَهَلْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أُجْرَةُ الْمَنْزِلِ؟ يُنْظَرُ، فَإِنْ صَرَّحَ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ، أَوْ صَرَّحَ بِإِبَاحَةِ السُّكْنَى لَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ، وَإِنْ سَكَتَ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ عِنْدِي، ثُمَّ رَأَيْتُ ابن العماد جَزَمَ فِي تَوْقِيفِ الْحُكَّامِ، بِأَنَّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ لِمُدَّةِ مَقَامِهِ مَعَهَا، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ أَعَمُّ مِنَ الْإِذْنِ، فَإِنْ أَذِنَتْ فَلَا أُجْرَةَ لِمُدَّةِ سَكْتٍ انْتَهَى. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَطْلُبَ الزَّوْجُ تَحْوِيلَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَتَمْتَنِعُ هِيَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَقُولُ: لَا أُسَلِّمُ إِلَّا فِي مَنْزِلِي فَيَأْتِي إِلَى مَنْزِلِهَا، وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا فِيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ مَحَلُّ الْكَلَامِ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحِ، وَالتَّتِمَّةِ، وَسَائِرِ كُتُبِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَرْجُوحَةٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهَا النَّفَقَةَ مُطْلَقًا، بَلْ نَفَقَةَ زَمَنِ الِاسْتِمْتَاعِ خَاصَّةً دُونَ الْأَيَّامِ الَّتِي لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا، أَوْ غَابَ عَنْهَا عَلَى خِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [تَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ تَسْفِيهِ الْأَغْبِيَاءِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ أَحْمَدُ اللَّهَ غَافِرَ الزَّلَّاتِ، وَمُقِيلَ الْعَثَرَاتِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ النُّجُومِ النَّيِّرَاتِ، فَهَذَا جُزْءٌ سَمَّيْتُهُ: " تَنْزِيهَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ تَسْفِيهِ الْأَغْبِيَاءِ " وَالسَّبَبُ فِي تَأْلِيفِهِ أَنَّهُ وَقَعَ أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ رَجُلًا فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا سَبٌّ كَثِيرٌ، فَقَذَفَ أَحَدُهُمَا عِرْضَ الْآخَرِ، فَنَسَبَهُ الْآخَرُ إِلَى رَعْيِ الْمِعْزَى، فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: تَنْسُبُنِي إِلَى رَعْيِ الْمِعْزَى؟ فَقَالَ لَهُ وَالِدُ الْقَائِلِ: الْأَنْبِيَاءُ رَعَوُا الْمِعْزَى، أَوْ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا رَعَى الْمِعْزَى، وَذَلِكَ بِسُوقِ الْغَزْلِ، بِجِوَارِ الْجَامِعِ الطُّولُونِيِّ، بِحَضْرَةِ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَامِّ، فَتَرَافَعُوا إِلَى الْحُكَّامِ، فَبَلَغَ الْخَبَرُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ الْمَالِكِيَّ، فَقَالَ: لَوْ رُفِعَ إِلَيَّ ضَرَبْتُهُ بِالسِّيَاطِ، فَسُئِلْتُ مَاذَا يَلْزَمُ الَّذِي ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ مُسْتَدِلًّا بِهِمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ؟ فَأَجَبْتُ: بِأَنَّ هَذَا الْمُسْتَدِلَّ يُعَزَّرُ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ؛ لِأَنَّ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ أَجَلُّ مِنْ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 يُضْرَبَ مَثَلًا لِآحَادِ النَّاسِ وَلَمْ أَكُنْ عَرَفْتُ مَنْ هُوَ الْقَائِلُ ذَلِكَ، فَبَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ الشَّيْخُ شمس الدين الحمصاني إِمَامُ الْجَامِعِ الطُّولُونِيِّ، وَشَيْخُ الْقُرَّاءِ، وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ فِي اعْتِقَادِهِ، فَقُلْتُ: مِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ تُقَالُ عَثْرَتُهُ، وَتُغْفَرُ زَلَّتُهُ، وَلَا يُعَزَّرُ لِهَفْوَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ. وَكَتَبْتُ ثَانِيًا بِذَلِكَ، فَبَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا اسْتَنْكَرَ مِنِّي هَذَا الْكَلَامَ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ عَثْرَةٌ وَلَا مَلَامٌ، وَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحِ الْمُطْلَقِ لَا ذَنْبَ فِيهِ وَلَا آثَامَ، وَاسْتَفْتَى عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ وَاقِعَةُ الْحَالِ فَخَرَّجُوهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عياض فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ؛ لِأَجْلِ ذِكْرِ لَفْظِ الِاسْتِدْلَالِ فِي الْجَوَابِ وَالسُّؤَالِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَشَرَّبَ قُلُوبُ الْعَوَامِّ هَذَا الْكَلَامَ، فَيُكْثِرُوا مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُجَادَلَاتِ وَالْخِصَامِ، وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ عِبَارَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ؛ فَيُؤَدِّيهِمْ إِلَى أَنْ يَمْرُقُوا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَوَضَعْتُ هَذِهِ الْكُرَّاسَةَ؛ نُصْحًا لِلدِّينِ وَإِرْشَادًا لِلْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَامُ. وَلِنَبْدَأْ بِالْفَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عياض فِي الشِّفَا فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ جَمَعَ فِيهِ فَأَوْعَى، وَحَرَّرَ فَاسْتَوْفَى، قَالَ: فَصْلٌ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا، وَلَا يَذْكُرَ عَيْبًا وَلَا سَبًّا، وَلَكِنَّهُ يَنْزِعُ بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِهِ، أَوْ يَسْتَشْهِدُ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَائِزَةِ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ، عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِ، أَوْ عِنْدَ هَضِيمَةٍ نَالَتْهُ، أَوْ غَضَاضَةٍ لَحِقَتْهُ، لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ التَّأَسِّي وَطَرِيقِ التَّحْقِيقِ، بَلْ عَلَى قَصْدِ التَّرْفِيعِ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَعَدَمِ التَّوْقِيرِ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ قَصْدِ الْهَزْلِ وَالتَّنْذِيرِ بِقَوْلِهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ قِيلَ فِي السُّوءِ فَقَدْ قِيلَ فِي النَّبِيِّ، وَإِنْ كُذِّبْتُ فَقَدْ كُذِّبَ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ إِنْ أَذْنَبْتُ فَقَدْ أَذْنَبُوا، وَأَنَا أَسْلَمُ مِنْ أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ، أَوْ قَدْ صَبَرْتُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ، أَوْ كَصَبْرِ أَيُّوبَ، أَوْ قَدْ صَبَرَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَى عِدَاهُ، وَحَلُمَ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا صَبَرْتُ، وَكَقَوْلِ الْمُتَنَبِّي: أَنَا فِي أُمَّةٍ تَدَارَكَهَا اللَّهُ ... غَرِيبٌ كَصَالِحٍ فِي ثَمُودَ وَنَحْوِهِ مِنْ أَشْعَارِ الْمُتَعَجْرِفِينَ فِي الْقَوْلِ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ: كَنْتُ مُوسَى وَافَتْهُ بِنْتُ شُعَيْبٍ ... غَيْرَ أَنْ لَيْسَ فِيكُمَا مِنْ فَقِيرِ. عَلَى أَنَّ آخِرَ الْبَيْتِ شَدِيدٌ، وَدَاخِلٌ فِي بَابِ الْإِزْرَاءِ وَالتَّحْقِيرِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَفْضِيلِ حَالِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَوْلَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... قُلْنَا مُحَمَّدُ مِنْ أَبِيهِ بَدِيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 هُوَ مِثْلُهُ فِي الْفَضْلِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهْ بِرِسَالَةٍ جِبْرِيلُ. فَصَدْرُ الْبَيْتِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ شَدِيدٌ؛ لِتَشْبِيهِهِ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَجْزُ مُحْتَمَلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ نَقَصَتِ الْمَمْدُوحَ، وَالْآخَرُ: اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهَا، وَهَذِهِ أَشَدُّ، وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: وَإِذَا مَا رُفِعَتْ رَايَاتُهُ ... صَفَّقَتْ بَيْنَ جَنَاحَيْ جِبْرَئِيلَ. وَقَوْلُ الْآخَرِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ: فَرَّ مِنَ الْخُلْدِ وَاسْتَجَارَ بِنَا ... فَصَبَّرَ اللَّهُ قَلْبَ رِضْوَانِ. وَكَقَوْلِ حسان المصيصي - مِنْ شُعَرَاءِ الْأَنْدَلُسِ - فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمَعْرُوفِ بِالْمُعْتَمِدِ، وَوَزِيرِهِ أبي بكر بن زيدون: كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَبُو بَكْرِ الرِّضَا ... وَحَسَّانَ حَسَّانُ وَأَنْتَ مُحَمَّدُ. إِلَى أَمْثَالِ هَذَا، وَإِنَّمَا كَثَّرْنَا بِشَاهِدِهَا مَعَ اسْتِثْقَالِنَا حِكَايَتَهَا؛ لِتَعْرِيفِ أَمْثِلَتِهَا وَلِتَسَاهُلِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي وُلُوجِ هَذَا الْبَابِ الضَّنْكِ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ فَادِحَ هَذَا الْعِبْءِ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ مَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ، وَكَلَامِهِمْ فِيهِ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ - وَيَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ - لَا سِيَّمَا الشُّعَرَاءُ، وَأَشَدُّهُمْ فِيهِ تَصْرِيحًا وَلِلِسَانِهِ تَسْرِيحًا ابن هانئ الأندلسي، وابن سليمان المعري، بَلْ قَدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِمَا عَنْ هَذَا إِلَى حَدِّ الِاسْتِخْفَافِ وَالنَّقْصِ وَصَرِيحِ الْكُفْرِ وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ. وَغَرَضُنَا الْآنَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الَّذِي سُقْنَا أَمْثِلَتَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْ سَبًّا، وَلَا أَضَافَتْ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ نَقْصًا وَلَسْتُ أَعْنِي عَجُزَيْ بَيْتَيِ المعري، وَلَا قَصْدَ قَائِلِهَا إِزْرَاءً وَغَضًّا، فَمَا وَقَّرَ النُّبُوَّةَ، وَلَا عَظَّمَ الرِّسَالَةَ، وَلَا عَزَّزَ حُرْمَةَ الِاصْطِفَاءِ، وَلَا عَزَّزَ حُظْوَةَ الْكَرَامَةِ، حَتَّى شَبَّهَ مَنْ شَبَّهَ فِي كَرَامَةٍ نَالَهَا أَوْ مَعَرَّةٍ قَصَدَ الِانْتِفَاءَ مِنْهَا، أَوْ ضَرْبَ مَثَلٍ لِتَطْيِيبِ مَجْلِسِهِ، أَوْ إِغْلَاءً فِي وَصْفٍ لِتَحْسِينِ كَلَامِهِ بِمَنْ عَظَّمَ اللَّهُ خَطَرَهُ وَشَرَّفَ قَدْرَهُ، وَأَلْزَمَ تَوْقِيرَهُ وَبِرَّهُ، وَنَهَى عَنْ جَهْرِ الْقَوْلِ لَهُ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ، فَحَقُّ هَذَا إِنْ دُرِئَ عَنْهُ الْقَتْلُ الْأَدَبُ وَالسِّجْنُ، وَقُوَّةُ تَعْزِيرِهِ بِحَسَبِ شُنْعَةِ مَقَالِهِ، وَمُقْتَضَى قُبْحِ مَا نَطَقَ بِهِ وَمَأْلُوفِ عَادَتِهِ لِمِثْلِهِ أَوْ نُدُورِهِ، أَوْ قَرِينَةِ كَلَامِهِ، أَوْ نَدَمِهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْمُتَقَدِّمُونَ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا مِمَّنْ جَاءَ بِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الرَّشِيدُ عَلَى أَبِي نُوَاسٍ قَوْلَهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 فَإِنْ يَكُ بَاقِي سِحْرِ فِرْعَوْنَ فِيكُمُ ... فَإِنَّ عَصَا مُوسَى بِكَفِّ خَصِيبِ. وَقَالَ لَهُ: يَا ابن اللخناء، أَنْتَ الْمُسْتَهْزِئُ بِعَصَا مُوسَى، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ عَسْكَرِهِ مِنْ لَيْلَتِهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَالْحُكْمُ فِي أَمْثَالِ هَذَا مَا بَسَطْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْفُتْيَا. عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ جَاءَتْ فُتْيَا إِمَامِ مَذْهَبِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَصْحَابِهِ، فَفِي النَّوَادِرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ فِي رَجُلٍ عَيَّرَ رَجُلًا بِالْفَقْرِ، فَقَالَ: تُعَيِّرُنِي بِالْفَقْرِ، وَقَدْ رَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَمَ، فَقَالَ مالك: قَدْ عَرَّضَ بِذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَرَى أَنْ يُؤَدَّبَ، قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الذُّنُوبِ إِذَا عُوتِبُوا أَنْ يَقُولُوا: قَدْ أَخْطَأَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ: انْظُرْ لَنَا كَاتِبًا يَكُونُ أَبُوهُ عَرَبِيًّا، فَقَالَ كَاتِبٌ لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيِّ كَافِرًا، فَقَالَ: جَعَلْتَ هَذَا مَثَلًا، فَعَزَلَهُ، وَقَالَ: لَا تَكْتُبُ لِي أَبَدًا. وَقَدْ كَرِهَ سَحْنُونٌ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الثَّوَابِ وَالِاحْتِسَابِ؛ تَوْقِيرًا لَهُ، وَتَعْظِيمًا كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ، وَقَالَ القابسي عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ قَبِيحٍ: كَأَنَّهُ وَجْهُ نَكِيرٍ، وَلِرَجُلٍ عَبُوسٍ كَأَنَّهُ وَجْهُ مَالِكٍ الْغَضْبَانِ، وَفِي الْأَدَبِ بِالسَّوْطِ وَالسَّجْنِ نَكَالٌ لِلسُّفَهَاءِ، وَإِنْ قَصَدَ ذَمَّ الْمَلِكِ قُتِلَ، وَقَالَ أَيْضًا فِي شَابٍّ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ قَالَ لِرَجُلٍ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: اسْكُتْ؛ فَإِنَّكَ أُمِّيٌّ، فَقَالَ الشَّابُّ: أَلَيْسَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا؟ فَشَنُعَ عَلَيْهِ مَقَالُهُ وَكَفَّرَهُ النَّاسُ، وَأَشْفَقَ الشَّابُّ مِمَّا قَالَ وَأَظْهَرَ النَّدَمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أبو الحسن: أَمَّا إِطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ فَخَطَأٌ، لَكِنَّهُ مُخْطِئٌ فِي اسْتِشْهَادِهِ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَوْنُ النَّبِيِّ أُمِّيًّا آيَةٌ لَهُ، وَكَوْنُ هَذَا أُمِّيًّا نَقِيصَةٌ [فِيهِ] وَجَهَالَةٌ، وَمِنْ جَهَالَتِهِ احْتِجَاجُهُ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنَّهُ إِذَا اسْتَغْفَرَ وَتَابَ وَاعْتَرَفَ وَلَجَأَ إِلَى اللَّهِ فَيُتْرَكُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْقَتْلِ، وَمَا طَرِيقَةُ الْأَدَبِ فَطَوْعُ فَاعِلِهِ بِالنَّدَمِ عَلَيْهِ يُوجِبُ الْكَفَّ عَنْهُ. وَنَزَلَتْ أَيْضًا مَسْأَلَةٌ اسْتَفْتَى فِيهَا بَعْضُ قُضَاةِ الْأَنْدَلُسِ شَيْخَنَا الْقَاضِي أبا محمد بن منصور - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ تَنَقَّصَهُ آخَرُ بِشَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا تُرِيدُ نَقْصِي بِقَوْلِكَ وَأَنَا بَشَرٌ وَجَمِيعُ الْبَشَرِ يُلْحِقُهُمُ النَّقْصُ، حَتَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَفْتَاهُ بِإِطَالَةِ سِجْنِهِ، وَإِيجَاعِ أَدَبِهِ إِذْ لَمْ يَقْصِدِ السَّبَّ، وَكَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْأَنْدَلُسِ أَفْتَى بِقَتْلِهِ - هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الْقَاضِي عياض فِي الشِّفَا - وَيُفْطَنُ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، كَيْفَ سَوَّى فِي الْحُكْمِ بَيْنَ ضَارِبِ الْمَثَلِ وَالْمُحْتَجِّ؟ وَالْمُحْتَجُّ: هُوَ الْمُسْتَدِلُّ، وَمُرَادُهُ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْخُصُومَاتِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الْمَعَرَّاتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَنْزِعُ بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِهِ، أَوْ يَسْتَشْهِدُ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِ، فَإِنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِمَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْفَصْلِ: لَكِنَّهُ مُخْطِئٌ فِي اسْتِشْهَادِهِ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ جَهَالَتِهِ احْتِجَاجُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ كُلُّهَا صَرِيحَةٌ فِي تَخْطِئَةِ الْمُسْتَدِلِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَوُجُوبِ تَأْدِيبِهِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ أُنْكِرَ عَلَى ذِكْرِ لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْإِفْتَاءِ وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ، فَإِنَّ الْمُسْتَدِلَّ تَارَةً يَكُونُ فِي مَقَامِ التَّدْرِيسِ وَالْإِفْتَاءِ وَالتَّصْنِيفِ وَتَقْرِيرِ الْعِلْمِ بِحَضْرَةِ أَهْلِهِ، وَهَذَا لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْخِصَامِ وَالتَّبَرِّي مِنْ مَعَرَّةٍ أَوْ نَقْصٍ يُنْسَبُ إِلَيْهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، وَهَذَا مَحَلُّ الْإِنْكَارِ وَالتَّأْدِيبِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ بِحَضْرَةِ الْعَوَامِّ وَفِي الْأَسْوَاقِ، وَفِي التَّعَارُضِ بِالسَّبِّ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَلِكُلِّ مَحَلٍّ حُكْمٌ يُنَاسِبُهُ. وَكَذَلِكَ الْأَثَرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي عَنْ كَاتِبِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهُ مَا قَصَدَ بِمَا ذَكَرَهُ إِلَّا الِاحْتِجَاجَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهُ كُفْرُ أَبِيهِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عمر، وَصَرَفَهُ عَنْ عَمَلِهِ، أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا قَاضِي الْقُضَاةِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَمُ الدِّينِ بْنُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ سراج الدين البلقيني الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِجَازَةً عَنْ أَبِيهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ الشَّيْخَ تقي الدين السبكي أَخْبَرَهُ عَنِ الْحَافِظِ شرف الدين الدمياطي، أَنَا الْحَافِظُ يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ، أَنَا أَبُو المكارم اللبان، أَنَا أبو علي الحداد، أَنَا الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، ثَنَا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثَنَا أحمد بن الحسن الحذاء، ثَنَا أحمد بن إبراهيم الدورقي، ثَنَا أحمد بن عبد الله بن يونس قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ شُيُوخِنَا يَذْكُرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَى بِكَاتِبٍ يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَانَ مُسْلِمًا، وَكَانَ أَبُوهُ كَافِرًا، فَقَالَ عمر لِلَّذِي جَاءَ بِهِ: لَوْ كُنْتَ جِئْتَ بِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ الْكَاتِبُ: مَا ضَرَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرُ أَبِيهِ، فَقَالَ عمر: وَقَدْ جَعَلْتُهُ مَثَلًا لَا تَخُطُّ بَيْنَ يَدَيَّ بِقَلَمٍ أَبَدًا - هَكَذَا أَخْرَجَهُ فِي الْحِلْيَةِ، فَالْكَاتِبُ قَصَدَ بِهَذَا الْكَلَامِ الِاحْتِجَاجَ، وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى نَفْيِ النَّقْصِ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ عمر فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ: إِنَّهُ جَعَلَهُ مَثَلًا، فَعَلِمَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَارِبِ الْمَثَلِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ يُرَادُ لِلِاسْتِشْهَادِ، كَمَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ كَذَلِكَ، فَبِهَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى ضَارِبِ الْمَثَلِ وَعَكْسُهُ، وَمَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَسْتَنْكِرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُطْلِقُونَ ضَرْبَ الْمَثَلِ عَلَى الْحُجَّةِ؛ وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا الْقَاضِي عياض، حَيْثُ قَالَ: عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ. وَمِمَّا أَطْلَقَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ: ضَرْبَ الْمَثَلِ عَلَى الْحُجَّةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ عَنْ أبي سلمة أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، إِذَا حَدَّثْتُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ، وَكَانَ عَارَضَهُ بِقِيَاسٍ مِنَ الرَّأْيِ، كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الهروي فِي ذَمِّ الْكَلَامِ، أَيْ فَلَا تُقَابِلْهُ بِحُجَّةٍ مِنْ رَأْيِكَ، فَأَطْلَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ ضَرْبَ الْمَثَلِ، وَاللُّغَةُ أَيْضًا تَشْهَدُ لِذَلِكَ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: ضَرَبَ مَثَلًا وَصَفَ وَبَيَّنَ، وَقَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: ضَرْبُ الْأَمْثَالِ اعْتِبَارُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، وَتَمْثِيلُهُ بِهِ، وَإِنَّمَا حَكَمْتُ فِي الْإِفْتَاءِ عَلَى لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ، وَعَلَّلْتُهُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ؛ لِأَعْرِفَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ الَّذِي حَكَمْتُ عَلَيْهِ هُوَ الْمُحْتَجُّ بِضَرْبِ ذَلِكَ مَثَلًا لِلْغَيْرِ، لَا الْمُسْتَدِلُّ فِي الدَّرْسِ وَالتَّصْنِيفِ، وَمُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ بَيْنَ أَهْلِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ ضَرْبَ مَثَلٍ. وَقَصَدْتُ أَيْضًا الِاقْتِدَاءَ بِالْخَلِيفَةِ الصَّالِحِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي لَفْظِهِ، وَقَدْ وَجَدْتُ لِلْقِصَّةِ طَرِيقًا آخَرَ قَالَ الهروي فِي ذَمِّ الْكَلَامِ: أَنَا أبو يعقوب، أَنَا أبو بكر بن أبي الفضل، أَنَا أحمد بن محمد بن يونس، ثَنَا عثمان بن سعيد، ثَنَا يونس العسقلاني، ثَنَا ضمرة ثَنَا علي بن أبي جميلة قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لسليمان بن سعد: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا عَامِلِنَا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا زِنْدِيقٌ قَالَ: هُوَ مَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافِرًا فَمَا ضَرَّهُ، فَغَضِبَ عمر غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: مَا وَجَدْتُ لَهُ مَثَلًا غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فَعَزَلَهُ عَنِ الدَّوَاوِينِ. وَمِمَّا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ إِطْلَاقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ، مَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ ابن الصلاح فِي جُزْئِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ، حَيْثُ ذَكَرَ إِنْكَارَ الشَّيْخِ عز الدين بن عبد السلام لَهَا، وَقَالَ: إِنَّهُ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] . وَأَمَّا الْفَصْلُ السَّابِعُ مِنَ الشِّفَا الَّذِي قَالَ الْمُعْتَرِضُ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيهِ، فَنَذْكُرُهُ؛ لِيَعْلَمَ مَنْ عَلِمَ وَاقِعَةَ الْحَالِ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لَهَا، قَالَ الْقَاضِي عياض: الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يَذْكُرَ مَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَخْتَلِفُ فِي جَوَازِهِ عَلَيْهِ، وَمَا يَطْرَأُ مِنَ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ لَهُ، وَيُمْكِنُ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ أَوْ يَذْكُرَ مَا امْتُحِنَ بِهِ وَصَبَرَ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَلَى شِدَّتِهِ مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْدَائِهِ، وَأَذَاهُمْ لَهُ، وَمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ حَالِهِ وَسِيرَتِهِ، وَمَا لَقِيَهُ مِنْ بُؤْسِ زَمَنِهِ، وَمَرَّ عَلَيْهِ مِنْ مُعَانَاةِ عِيشَتِهِ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الرِّوَايَةِ وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَمَعْرِفَةِ مَا صَحَّتْ عَنْهُ الْعِصْمَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا فَنٌّ خَارِجٌ عَنْ [هَذِهِ] الْفُنُونِ السِّتَّةِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ غَمْضٌ، وَلَا نَقْصٌ، وَلَا إِزْرَاءٌ، وَلَا اسْتِخْفَافٌ لَا فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَا فِي مَقْصِدِ اللَّافِظِ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفُهَمَاءِ طَلَبَةِ الدِّينِ مِمَّنْ يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُ وَيُحَقِّقُ فَوَائِدَهُ، وَيُجَنِّبُ ذَلِكَ مَنْ عَسَاهُ لَا يَفْهَمُهُ أَوْ يُخْشَى بِهِ فِتْنَتُهُ، فَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ تَعْلِيمَ النِّسَاءِ سُورَةَ يُوسُفَ؛ لِمَا انْطَوَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِصَصِ؛ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِنَّ، وَنَقْصِ عُقُولِهِنَّ، وَإِدْرَاكِهِنَّ. هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ فَانْظُرْ كَيْفَ فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، ثُمَّ لَمْ يُطْلِقْ ذَلِكَ، بَلْ قَيَّدَهُ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفُهَمَاءِ الطَّلَبَةِ، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ لَمْ تَكُنْ فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَحْضُرْهَا طَالِبُ عِلْمٍ الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَتْ فِي السِّبَابِ وَالْخِصَامِ فِي سُوقِ الْغَزْلِ، بِحَضْرَةِ جَمْعٍ مِنَ التُّجَّارِ وَالدَّلَّالِينَ وَالسُّوقَةِ وَكُلُّهُمْ عَوَامٌّ، وَأَكْثَرُهُمْ سُفَهَاءُ الْأَلْسِنَةِ يُطْلِقُونَ أَلْسِنَتَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ بِمَا يُوجِبُ سَفْكَ دِمَائِهِمْ، وَلَا يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِمَنْ أَنْكَرَ مَا أَفْتَيْتُ بِهِ: إِنْ لَمْ تَعْرِفْ عَيْنَ الْوَاقِعَةِ فَأَنْتَ مَعْذُورٌ، وَقَوْلُكَ: لَا تَعْزِيرَ وَلَا عَثْرَةَ إِنْ أَرَدْتَ فِيمَا وَقَعَ فِي مَجْلِسِ الدَّرْسِ وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ بَيْنَ أَهْلِهِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَيْسَ هُوَ صُورَةَ الْوَاقِعَةِ، وَإِنْ أَرَدْتَ مَا وَقَعَ فِي السُّوقِ بِالصِّفَةِ الْمَشْرُوحَةِ فَمَعَاذَ اللَّهِ، وَحَاشَى الْمُفْتِينَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ. وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَلَسْتُ أَقْصِدُ بِذَلِكَ غَضًّا مِنَ الْقَائِلِ، وَلَا حَطًّا عَلَيْهِ، فَإِنِّي أَعْتَقِدُ دِينَهُ، وَخَيْرَهُ، وَصَلَاحَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ بَادِرَةٌ بَدَرَتْ وَزَلَّةٌ فَرَطَتْ، وَعَثْرَةٌ وَقَعَتْ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِنْهَا وَيَتُبْ إِلَيْهِ وَيَنْدَمْ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ وَلَا يَعُدْ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صَلَاحِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْخَ عز الدين بن عبد السلام قَالَ فِي قَوَاعِدِهِ: مَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّغِيرَةَ تُنْقِصُ الْوِلَايَةَ فَقَدْ جَهِلَ، وَقَالَ: إِنَّ الْوَلِيَّ إِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ تَعْزِيرُهُ عَلَيْهَا. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّ ذَوِي الْهَيْئَاتِ لَا يُعَزَّرُونَ لِلْحَدِيثِ، وَفَسَّرَهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يُعْرَفُونَ بِالشَّرِّ، فَيَزِلُّ أَحَدُهُمُ الزَّلَّةَ فَيَتْرُكُ، وَفَسَّرَهُمْ بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ، وَفَسَّرَهُمْ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُمُ الذَّنَبُ تَابُوا وَنَدِمُوا، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي إِقَالَةِ ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ كَثِيرَةٌ، أَخْرَجَ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وأبو داود، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ» "، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: " «تَجَاوَزُوا عَنْ زَلَّةِ ذِي الْهَيْئَةِ» "، وَأَخْرَجَهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِلَفْظِ: " «تَجَافُوا عَنْ عُقُوبَةِ ذِي الْمُرُوءَةِ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ". وَأَخْرَجَهُ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " «تَجَافُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخِيِّ فَإِنَّ اللَّهَ آخِذٌ بِيَدِهِ كُلَّمَا عَثَرَ» "، وَأَخْرَجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وأبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ تقي الدين السبكي فِي كِتَابِهِ - طَرِيقِ الْمَعْدِلَةِ فِي قَتْلِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ: قَوْلُ الْأَصْحَابِ إِنَّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَا وَارِثَ لَهُ فَلِلسُّلْطَانِ الْخِيَرَةُ: بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، أَوْ يَعْفُوَ عَنِ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ مَجَّانًا، كَأَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ عَلَى الْغَالِبِ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِلْإِمَامِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ مَا يَقْتَضِي الْعَفْوَ عَنْهُ مَجَّانًا إِذَا كَانَ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ، وَفِيهِ صَلَاحٌ وَخَيْرٌ وَنَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ فَرَطَتْ مِنْهُ تِلْكَ الْبَادِرَةُ فَقُتِلَ بِهَا وَظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْعَفُوُّ عَنْهُ بِعِيدٌ، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ. فَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَالْإِمَامُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَنْ لَا يَخْتَارَ إِلَّا مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى سَفْكِ دَمِ مُسْلِمٍ بِمُجَرَّدِ مَا يُقَالُ لَهُ: إِنَّ هَذَا جَائِزٌ فَجَوَازُهُ مَنُوطٌ بِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِإِقَامَةِ الدِّينِ لَا لِحَظِّ نَفْسِهِ وَلَا لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا، وَحَيْثُ شَكَّ فِي ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الْكَفُّ عَنِ الدَّمِ، وَتَبْقِيَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مَعْصُومَةٌ إِلَّا بِحَقِّهَا، فَمَتَى قَتَلَهَا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ أَخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَنْ قَتَلَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، انْتَهَى كَلَامُ السبكي. فَإِذَا جَوَّزَ السبكي الْعَفْوَ عَمَّنْ فِيهِ صَلَاحٌ وَخَيْرٌ وَنَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقَتْلِ قِصَاصًا مَجَّانًا، بِلَا دِيَةٍ، فَمِنْ تَعْزِيرِ زَلَّةٍ فَرَطَتْ مِنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ. عَوْدٌ لِبَدْءٍ: قَالَ ابن السبكي فِي كِتَابِهِ التَّرْشِيحِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَعْضِ نُصُوصِهِ: وَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً لَهَا شَرَفٌ، فَكُلِّمَ فِيهَا فَقَالَ: " لَوْ سَرَقَتْ فُلَانَةُ - لِامْرَأَةٍ شَرِيفَةٍ - لَقَطَعْتُ يَدَهَا " قَالَ ابن السبكي: فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ " فُلَانَةُ "، وَلَمْ يَبُحْ بِاسْمِ فاطمة؛ تَأَدُّبًا مَعَهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنْ يَذْكُرَهَا فِي هَذَا الْمَعْرِضِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَنٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ عِنْدَهُ فِي الشَّرْعِ سَوَاءٌ انْتَهَى. فَهَذَا مِنْ صُنْعِ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ مِنْ تَقْرِيرِ السبكي أَصْلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَقْلٌ مِنْ حَيْثُ مَذْهَبِنَا، فَقَوْلُهُ: تَأَدُّبًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ضِدَّهُ خِلَافُ الْأَدَبِ، وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَنٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ قَبِيحٌ، هَذَا مَعَ كَوْنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا سَاقَ الْحَدِيثَ مَسَاقَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَسَاقَ تَقْرِيرِ الْعَلَمِ فِي التَّصْنِيفِ الَّذِي لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إِلَّا أَهْلُهُ، بَلْ لَوْ صَرَّحَ بِالِاسْمِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَحَلِّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ، وَأَمْرٌ آخَرُ: أَنَّ النَّقْصَ الْمَذْكُورَ وَاقِعٌ فِي حَيِّزِ " لَوْ "، مَنْفِيٌّ عَنْهَا لَا مُثْبِتٌ لَهَا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى وُقُوعِهِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ قَائِلًا قَالَ: هَذَا الَّذِي أَفْتَيْتَ بِهِ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَيْسَ بِمَنْصُوصٍ فِي مَذْهَبِكَ. وَكَذَا يَقَعُ لِأَهْلِ الْعَصْرِ كَثِيرًا، يَدَّعُونَ عَلَيْنَا فِي فَتَاوَى كَثِيرَةٍ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَذْهَبِ، بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتٍ، كَمَا وَقَعَ لَنَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي حِينَ أَفْتَيْنَا بِهَدْمِ الدَّارِ الَّتِي بُنِيَتْ بِرَسْمِ الْفَسَادِ، فَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْأَصْحَابِ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ الْغَزَالِيَّ وَغَيْرَهُ أَشَارُوا إِلَيْهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي التَّأْلِيفِ الَّذِي أَلَّفْنَاهُ فِيهَا، ثُمَّ نَقُولُ فِي هَذِهِ وَغَيْرِهَا: قَوْلُهُمْ مَا أَفْتَيْتُ بِهِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ وُجُودِ الْمَسْأَلَةِ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا مُعَارَضٌ بِأَنَّا نَقُولُ لَهُمْ: مَا أَفْتَيْتُمْ أَنْتُمْ بِهِ أَيْضًا خِلَافُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، فَكَمَا اسْتَنَدْتُمْ إِلَى الْعَدَمِ فِي نِسْبَةِ الْخِلَافِ إِلَيَّ اسْتَنَدْتُ إِلَى الْعَدَمِ فِي نِسْبَتِهِ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ الْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ كِلَاهُمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ نَقْلٍ، فَإِنْ قَالُوا: أَخَذْنَاهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ قُلْتُ: وَأَنَا أَيْضًا أَخَذْتُ مِنَ الْقَوَاعِدِ. وَعَلَى بَيَانِ ذَلِكَ لِمَنْ يُرِيدُ الْإِنْصَافَ، فَمَنْ قَالَ: التَّعْزِيرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْحَابَ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهَا، أَقُولُ لَهُ: فَهَلْ نَصَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعْزِيرَ فِيهَا حَتَّى تُقْدِمَ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَتَنْسُبَهُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: الْقَوْلُ بِهَدْمِ الدَّارِ الْمَوْصُوفَةِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي شَرَحْتُهَا فِي تَأْلِيفِهَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، أَقُولُ لَهُ: فَهَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ حَتَّى اسْتَنَدْتَ إِلَيْهِ؟ وَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْجَانِبَيْنِ مِنْ حَيْثُ عَدَمِ النَّصِّ وُجِدَتِ النُّقُولُ فِي الْمَذَاهِبِ بِأَحَدِهِمَا، وَالْأَدِلَّةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ، وَعَدَمُ التَّجَاوُزِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوَاعِدِ مَذْهَبِنَا مَا يُخَالِفُهُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي فَتَاوَى ابن الصلاح أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا لِلْأَصْحَابِ، فَأَفْتَى فِيهَا بِالْمَنْصُوصِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيَّنَ ذَلِكَ، وَقَرَّرَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَسْأَلَةً لَا نَقْلَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَأَجَابَ فِيهَا بِمَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي قَوَاعِدِنَا مَا يَنْفِيهِ، وَسُئِلَ البلقيني عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا نَقْلَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَأَجَابَ فِيهَا بِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عياض فِي الْمَدَارِكِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ مَسْأَلَةً لَا نَقْلَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَأَفْتَى فِيهَا بِالْمَنْقُولِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ. وَذَكَرَ الزركشي فِي " الْخَادِمِ " مَسْأَلَةَ مَسْحِ الْخُفِّ لِلْمُحْرِمِ، وَقَالَ: لَا نَقْلَ فِيهَا، وَأَجَابَ بِالْمَنْقُولِ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُهَا فِي كِتَابِي " الْيَنْبُوعِ فِيمَا زَادَ عَلَى الرَّوْضَةِ مِنَ الْفُرُوعِ "، وَمَسْأَلَةُ الْهَدْمِ نَصَّ عَلَيْهَا أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا الْغَزَالِيُّ وَطَائِفَةٌ، وَثَبَتَتْ فِيهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالْآثَارُ الْكَثِيرَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 مَسْعُودٍ، وابن الزبير، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَغَيْرِهِمْ سَلَفًا وَخَلَفًا، قَوْلًا وَفِعْلًا، وَلَا نَصَّ فِي مَذْهَبِنَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إِلَّا قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ لَا تَعْزِيرَ بِإِتْلَافِ الْمَالِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَخْصُوصَةٌ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَكْسِرُ آنِيَةَ الْخَمْرِ وَالْأَوَانِيَ الْمُثَمَّنَةَ إِذَا كَانَ فِيهَا صُورَةٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلِمَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ إِتْلَافُهُ طَرِيقًا لِإِزَالَةِ الْفَسَادِ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ بِإِيضَاحِهِ يَسْتَدْعِي طُولًا، وَقَدْ بَسَطْتُهُ فِي التَّأْلِيفِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى التَّعْزِيرِ فِيهَا، وَلَمْ يَنُصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا فِي قَوَاعِدِ مَذْهَبِنَا مَا يَنْفِيهِ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَهَذَا النَّصُّ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَصْلُحُ أَصْلًا فِي الْمُسَالَةِ، وَتَقْرِيرُ السبكي لَهُ وَإِيضَاحُهُ زَادَهُ بَيَانًا وَحُسْنًا، وَسَأَتَتَبَّعُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ فِي كُتُبِهِمْ فِي الْفِقْهِ وَشُرُوحِهِمْ لِلْحَدِيثِ مَا أَرَاهُ مُقَوِّيًا لِذَلِكَ فَأَذْكُرُهُ. فَصْلٌ قَالَ الرافعي فِي الشَّرْحِ وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الرِّدَّةِ: فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِنَاءٌ تَامٌّ بِتَفْصِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْكُفْرِ، وَأَكْثَرُهَا مِمَّا يَقْتَضِي إِطْلَاقَ أَصْحَابِنَا الْمُوَافَقَةَ عَلَيْهِ، فَنَذْكُرُ مَا يَحْضُرُنَا فِي كُتُبِهِمْ، ثُمَّ سَرَدَهَا الرافعي وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَتَعَقَّبَا جُمْلَةً مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ الرافعي، وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ سَرْدِهَا: وَهَذِهِ الصُّوَرُ تَتَبَّعُوا فِيهَا الْأَلْفَاظَ الْوَاقِعَةَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَأَجَابُوا فِيهَا اتِّفَاقًا وَاخْتِلَافًا بِمَا ذُكِرَ، وَمَذْهَبُنَا يَقْتَضِي مُوَافَقَتَهُمْ فِي بَعْضِهَا، وَفِي بَعْضِهَا يُشْتَرَطُ وُقُوعُ اللَّفْظِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ، فَهَذَا مِنَ الشَّيْخَيْنِ صَرِيحٌ فِيمَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْفَتْوَى، بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَذَاهِبِ بَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ عِنْدَنَا، وَلَا فِي قَوَاعِدِ مَذْهَبِنَا مَا يَنْفِيهِ. ثُمَّ قَالَ النووي فِي الرَّوْضَةِ: مِنْ زَوَائِدِهِ عَقِبَ ذَلِكَ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عياض فِي آخِرِ كِتَابِ الشِّفَا جُمْلَةً مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُكَفِّرَةِ غَيْرَ مَا سَبَقَ نَقْلُهَا عَنِ الْأَئِمَّةِ، أَكْثَرُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلُخِّصَ مَا فِي الشِّفَا مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا مِنَ النووي عَيْنُ مَا جَنَحْنَا إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِعَيْنِهَا. وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا للرافعي فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ: رُؤْيَتِي إِلَيْكَ كَرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ. زَادَ النووي قُلْتُ: الصَّوَابُ إِنَّهُ لَا يُكَفَّرُ، وَهَذِهِ إِحْدَى الصُّوَرِ الَّتِي سَاقَهَا الْقَاضِي عياض فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ، فَإِذَا كَانَ فِيهَا قَوْلٌ بِالتَّكْفِيرِ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّعْزِيرِ إِذَا لَمْ يُكَفَّرْ. فَصْلٌ قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: ثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا مغيرة عَنْ إبراهيم قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَمَا يَعْرِضُ مِنْ أَحَادِيثِ الدُّنْيَا، قِيلَ لهشيم نَحْوَ قَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 {جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} [طه: 40] قَالَ: نَعَمْ، وَقَدْ صَرَّحَ العماد الينهي مِنْ أَصْحَابِنَا بِهَذَا الْحُكْمِ، فَقَالَ: بِمَنْعِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مِنَ الْقُرْآنِ، نَقَلَهُ ابن الصلاح فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ - والينهي هَذَا مِنْ تَلَامِذَةِ الْبَغَوِيِّ - وَهَذَا شَاهِدٌ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَكَمَا أَنَّ الْأَدَبَ أَنْ لَا يَضْرِبَ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ مَثَلًا لِوَاقِعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ الْأَدَبُ أَنْ لَا تُضْرَبَ أَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ مَثَلًا لِحَالِ غَيْرِهِمْ. فَصْلٌ وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَالْحَافِظُ قَاضِي الْقُضَاةِ شهاب الدين بن حجر بِمَا نَصُّهُ: مَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْمَوَالِدِ الَّتِي يَصْنَعُهَا النَّاسُ مَحَبَّةً فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ الْوُعَّاظِ يَذْكُرُونَ فِي مَجَالِسِهِمُ الْحَفْلَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مُجْرَيَاتٍ هِيَ مُخِلَّةٌ بِكَمَالِ التَّعْظِيمِ، حَتَّى يَظْهَرَ مِنَ السَّامِعِينَ لَهَا حُزْنٌ وَرِقَّةٌ، فَيَبْقَى فِي حَيِّزِ مَنْ يُرْحَمُ لَا فِي حَيِّزِ مَنْ يُعَظَّمُ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَرَاضِعَ حَضَرْنَ وَلَمْ يَأْخُذْنَهُ؛ لِعَدَمِ مَالِهِ إِلَّا حليمة رَغِبَتْ فِي رَضَاعِهِ شَفَقَةً عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْعَى غَنَمًا وَيُنْشِدُونَ: بِأَغْنَامِهِ سَارَ الْحَبِيبُ إِلَى الْمَرْعَى ... فَيَا حَبَّذَا رَاعٍ فُؤَادِي لَهُ يَرْعَى. وَفِيهِ: فَمَا أَحْسَنَ الْأَغْنَامَ وَهُوَ يَسُوقُهَا. وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى الْمُخِلِّ بِالتَّعْظِيمِ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي ذَلِكَ؟ . فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: يَنْبَغِي لِمَنْ يَكُونُ فَطِنًا أَنْ يَحْذِفَ مِنَ الْخَبَرِ مَا يُوهِمُ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ نَقْصًا، وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ - هَذَا جَوَابُهُ بِحُرُوفِهِ. فَصْلٌ وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الصَّمْتِ عَنْ مطرف قَالَ: لِيَعْظُمْ جَلَالُ اللَّهِ فِي صُدُورِكُمْ، فَلَا تَذْكُرُوهُ عِنْدَ مِثْلِ قَوْلِ أَحَدِكُمْ لِلْكَلْبِ: اللَّهُمَّ أَخْزِهِ، وَلِلْحِمَارِ وَلِلشَّاةِ. فَصْلٌ قَالَ السهيلي فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ حَدِيثَ إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ مَا نَصُّهُ: وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَقُولَ نَحْنُ هَذَا فِي أَبَوَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ بِسَبِّ الْأَمْوَاتِ» "، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] الْآيَةَ. فَصْلٌ رَعْيُ الْغَنَمِ لَمْ يَكُنْ صِفَةَ نَقْصٍ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ حَدَثَ الْعُرْفُ بِخِلَافِهِ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ ذَلِكَ فَرُبَّ حِرْفَةٍ، هِيَ نَقْصٌ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَفِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ، وَفِي الْمُرُوءَةِ فِي الشَّهَادَاتِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَسْطُورَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 حَتَّى فِي الْمِنْهَاجِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَصْمَ لَمْ يُخْرِجْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا مَخْرَجَ الشَّتْمِ وَالتَّنْقِيصِ، حَيْثُ قَالَ: وَأَنْتَ يَا رَاعِيَ الْمِعْزَى، صَارَ لَكَ كَلَامٌ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَوْطِنِ لَا يُحْتَجُّ فِيهِ بِأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ أَبَدًا، خُصُوصًا بَيْنَ الْعَوَامِّ، هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى. وَقَدْ تَذَكَّرْتُ هُنَا نُكْتَةً لَطِيفَةً: قَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن السبكي فِي التَّرْشِيحِ: كُنْتُ يَوْمًا فِي دِهْلِيزِ دَارِنَا فِي جَمَاعَةٍ، فَمَرَّ بِنَا كَلْبٌ يَقْطُرُ مَاءً يَكَادُ يَمَسُّ ثِيَابَنَا فَنَهَرْتُهُ، وَقُلْتُ: يَا كَلْبُ يَا ابْنَ الْكَلْبِ، وَإِذَا بِالشَّيْخِ الْإِمَامِ - يَعْنِي وَالِدَهُ الشَّيْخَ تقي الدين السبكي - يَسْمَعُنَا مِنْ دَاخِلٍ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: لِمَ شَتَمْتَهُ؟ فَقُلْتُ: مَا قُلْتُ إِلَّا حَقًّا أَلَيْسَ هُوَ بِكَلْبٍ ابْنِ كَلْبٍ؟ فَقَالَ: هُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّكَ أَخْرَجْتَ الْكَلَامَ فِي مَخْرَجِ الشَّتْمِ وَالْإِهَانَةِ وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: هَذِهِ فَائِدَةٌ لَا يُنَادَى مَخْلُوقٌ بِصِفَتِهِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْإِهَانَةِ - هَذَا لَفَظُهُ فِي التَّرْشِيحِ. فَصْلٌ الْمُمَارَاةُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالتَّدْلِيسُ، وَقَصْدُ الِانْتِقَامِ بِالضَّغَائِنِ الْبَاطِنَةِ لَا يَضُرُّ إِلَّا فَاعِلَهُ، وَلَا يُصِيبُ الْمُشَنَّعَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِهِ شَيْءٌ وَالْحَقُّ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ السبكي: أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُخَاصِمُهُ كُلُّ صَالِحٍ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ صَالِحٍ فِي الصَّلَاةِ حَقًّا حَيْثُ فِيهَا: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَكَذَلِكَ الْمُدَلِّسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُخَاصِمُهُ كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعُدَّتُهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَقَدْ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَرَكْتَ حَدِيثَهُمْ خُصَمَاءَكَ عِنْدَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَأَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ لِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْمِي، يَقُولُ لِي: لِمَ لَمْ تَذُبَّ الْكَذِبَ عَنْ حَدِيثِي؟ وَكَذَلِكَ أَقُولُ: لَأَنْ يَكُونَ كُلُّ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصَمَائِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُخَاصِمَنِي نَبِيٌّ وَاحِدٌ فَضْلًا عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] . مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ حَكَمَ بِحُكْمٍ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ قُضَاةُ بَلَدِهِ، فَقَالَ لَهُ سُلْطَانُ الْبَلَدَ: ارْجِعْ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَأَبَى وَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِقَوْلِ أَحَدٍ، وَلَوْ قَامَ الْجَنَابُ الْعَالِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَبْرِهِ مَا سَمِعْتُ لَهُ، حَتَّى يُرِيَنِي النَّصَّ، فَهَلْ يُكَفَّرُ بِهَذَا؟ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مُدَّةٍ: لَوْ سَبَّنِي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ لَسَبَبْتُهُ، وَصَارَ يُفْتِي الْعَامَّةَ وَالسُّوقَةَ بِجَوَازِ هَذَا. الْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَرْجِعُ لِأَحَدٍ وَلَوْ قَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْرِهِ مَا سَمِعَ لَهُ حَتَّى يُرِيَهُ النَّصَّ، فَهَذَا لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَكُونَ هَذَا صَدَرَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ وَعَدَمِ الْقَصْدِ، وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 بِالْمُسْلِمِ وَاللَّائِقُ بِحَالِهِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَثَلًا أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ قَامَ مالك مِنْ قَبْرِهِ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الْجَنَابِ الرَّفِيعِ لِحِدَةٍ حَصَلَتْ عِنْدَهُ فَهَذَا لَا يُكَفَّرُ وَلَا يُعَزَّرُ إِذَا عُرِفَ بِالْخَيْرِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى سَبْقِ اللِّسَانِ، وَلَا يُكْتَفَى مِنْهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ النَّدَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَلَأِ بِالْخَطَأِ، وَيُبَالِغَ فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَيَحْثُوَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، وَيُكْثِرَ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِوُجُوهِ الْبِرِّ، وَالِاسْتِقَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْعَثْرَةِ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِقَادِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُصَمِّمُ، فَيَقُولُ مَثَلًا: لَوْ أَمَرَنِي الْإِنْسُ وَالْجِنُّ بِهَذَا مَا سَمِعْتُ لَهُمْ، وَلَوْ رُوجِعَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ لَقَالَ: مَا أَرَدْتُ ظَاهِرَ الْعِبَارَةِ، وَلَوْ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْرِهِ حَقِيقَةً، وَقَالَ لِي: لَبَادَرْتُ إِلَى امْتِثَالِ قَوْلِهِ، وَسَمِعْتُ مِنْ غَيْرِ تَلَعْثُمٍ، وَلَا تَوَقُّفٍ، وَلَكِنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ قُلْتُهَا عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ؛ لِعِلْمِي بِأَنَّ قِيَامَهُ الْآنَ مِنْ قَبْرِهِ وَقَوْلَهُ لِي غَيْرُ كَائِنٍ وَهُوَ مُحَالٌ عَادَةً، فَهَذَا لَا يُكَفَّرُ، وَلَكِنَّهُ أَتَى بِعَظِيمٍ مِنَ الْقَوْلِ؛ فَيُعْزَلُ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُعَزَّرُ تَعْزِيرًا لَائِقًا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدِّ الْقَتْلِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِقَادِ، بِحَيْثُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا، وَقَالَ لَهُ: الْحُكْمُ بِخِلَافِ مَا حَكَمْتَ لَمْ يَسْمَعْ لَهُ وَهَذَا كُفْرٌ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، وَقِصَّةُ الَّذِي حَكَمَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْضَ بِحُكْمِهِ، وَجَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَحْكُمَ لَهُ فَقَتَلَهُ عمر بِالسَّيْفِ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ أَهْدَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ، وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا سَمِعْتُ لَهُ حَتَّى يُرِيَنِي النَّصَّ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ: هُوَ النَّصُّ فَأَيُّ نَصٍّ يُرِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ؟ وَالظَّنُّ بِالْمُسْلِمِ إِنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي فَمِنْ أَخْطَأِ الْخَطَأِ وَأَقْبَحِهِ، وَأَشَدُّ مِنْ قَوْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي السُّوءِ الْإِفْتَاءُ بِإِبَاحَتِهَا، فَأَمَّا أَصْلُ الْمَقَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَوْ سَبَّنِي نَبِيٌّ، أَوْ مَلَكٌ لَسَبَبْتُهُ، فَالْجَوَابُ فِيهَا كَمَا قَالَ ابن رشد، وابن الحاج: أَنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ؛ بِالضَّرْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وَالْحَبْسِ، وَأَمَّا إِبَاحَتُهُ لِلنَّاسِ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَمَرْتَبَةٌ أُخْرَى فَوْقَ ذَلِكَ فِي السُّوءِ؛ لِأَنَّهُ إِغْرَاءٌ لِلْعَامَّةِ عَلَى ارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَاسْتِحْلَالِهِ، وَغَضٌّ مِنْ مَنْصِبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنَّ يُبَاحَ هَذَا لِأَحَدٍ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ، فَلَا يَسُبُّونَ إِلَّا مَنْ أَمَرَ الشَّرْعُ بِسَبِّهِ؟ وَمَنْ سُبَّ بِالشَّرْعِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَسُبَّ سَابَّهُ، فَالْمَسْأَلَةُ مُسْتَحِيلَةٌ مِنْ أَصْلِهَا، فَالْجَوَابُ: رَدْعُ هَذَا الرَّجُلِ وَزَجْرُهُ وَهَجْرُهُ فِي اللَّهِ، وَعَلَيْهِ التَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ وَالْإِقْلَاعُ. [بَابُ الْجِهَادِ] مَسْأَلَةٌ: فِي الرَّمْيِ بِالنُّشَّابِ عَلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، وَالْقُوَّةُ مُفَسَّرَةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّمْيِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهَلِ الصَّارِفُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ: بِسُنِّيَّتِهِ فَهَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُجُوبِ إِذَا انْتَفَى بِطَرِيقٍ مَا يَبْقَى النَّدْبُ، أَوْ قَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْآيَةِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِدَعْوَى نَسْخِهَا، وَأُخِذَتِ السُّنِّيَّةُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ . الْجَوَابُ: نَقُولُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ الرَّمْيَ بِالنُّشَّابِ عَلَى نِيَّةِ التَّأَهُّبِ لِلْجِهَادِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ وَلَا مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ - هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ مِنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ وَجَدْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَتَعَدَّاهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَهُ أَرْبَعَةُ احْتِمَالَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ لِلْإِرْشَادِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ ضَعِيفٌ؛ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي التَّرْغِيبِ فِي الرَّمْيِ وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ أَوِ الْوُجُوبِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِرْشَادِ، كَحَدِيثِ: " «تَعَلَّمُوا الرَّمْيَ فَإِنَّ مَا بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» ". وَحَدِيثِ: " «الرَّمْيُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْإِسْلَامِ» ". الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلنَّدْبِ وَهُوَ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّهُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ أَظْهَرُ مِنَ الْإِرْشَادِ فِيهَا، وَإِذَا انْتَفَى الْوُجُوبُ بِالطَّرِيقِ الْآتِي بَقِيَ النَّدْبُ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ مِنْ صِيغَةِ الطَّلَبِ، وَلَا نَافِيَ لَهُ، بَلِ الْأَحَادِيثُ الْآمِرَةُ وَالْمُرَغِّبَةُ مُثْبِتَةٌ لَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 تَنْصَبَّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، إِنَّمَا انْصَبَّتْ عَلَى الْمُسْتَطَاعِ مِنْ قُوَّةِ الصَّادِقِ بِالرَّمْيِ وَبِغَيْرِهِ، كَمَا هُوَ مَدْلُولُ لَفْظِ " مَا " الَّتِي مَوْضُوعُهَا الْعُمُومُ لُغَةً وَشَرْعًا، وَكَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ التَّفْسِيرُ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، أَخْرَجَ ابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ مِنْ طَرِيقِ الضحاك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] قَالَ: الرَّمْيُ وَالسُّيُوفُ وَالسِّلَاحُ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مَخْلَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] قَالَ: الْقُوَّةُ سَهْمٌ فَمَا فَوْقَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ عباد بن جويرية عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْقُوَّةُ. الْفَرَسُ إِلَى السَّهْمِ فَمَا دُونَهُ. وَأَخْرَجَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: الْقُوَّةُ السِّلَاحُ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ قُوَّةِ الْجِهَادِ، وَأَخْرَجَ عَنْ عكرمة قَالَ: الْقُوَّةُ. الْحُصُونُ، وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقُوَّةُ ذُكُورُ الْخَيْلِ. وَأَخْرَجَ عَنْ رجاء بن أبي سلمة قَالَ: لَقِيَ رَجُلٌ مُجَاهِدًا، وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى الْغَزْوِ وَمَعَهُ جُوَالِقُ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَهَذَا مِنَ الْقُوَّةِ، فَهَذِهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الرَّمْيِ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» " فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَصْرُ مَدْلُولِ الْآيَةِ فِيهِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُعْظَمُ الْقُوَّةِ، وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِهَا تَأْثِيرًا وَنَفْعًا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: " «الْحَجُّ عَرَفَةُ» " أَيْ: مُعْظَمُ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا رُكْنَ لِلْحَجِّ سِوَاهُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ فَهِمَ هَذَا الْفَهْمَ مكحول مِنَ التَّابِعَيْنِ، فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: الرَّمْيُ مِنَ الْقُوَّةِ، أَخْرَجَهُ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الرَّمْيِ أَخْذًا مِنَ الْأَمْرِ فِي الْآيَةِ، لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ وَاجِبٌ بِعَيْنِهِ، بَلْ مِنْ بَابِ إِيجَابِ شَيْءٍ لَا بِعَيْنِهِ، كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي خَائِفِ الْعَنَتِ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعَفُّفُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ النِّكَاحَ فِي حَقِّهِ وَاجِبٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ وَاجِبٌ بِعَيْنِهِ، بَلْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ السَّعْيَ فِي الْإِعْفَافِ وَاجِبٌ إِمَّا بِالنِّكَاحِ وَإِمَّا بِالتَّسَرِّي، فَإِيجَابُ النِّكَاحِ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ إِيجَابِ شَيْءٍ لَا بِعَيْنِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِذَا حُكِمَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ قِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ أَصْحَابُ الْمُخْتَصَرَاتِ قَوْلَهُمُ: النِّكَاحُ سُنَّةٌ لِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِ يَجِدُ أُهْبَتَهُ، وَكَذَلِكَ هُنَا الْوَاجِبُ إِعْدَادُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْقِتَالِ، وَيُدْفَعُ بِهِ الْعَدُوُّ؛ إِمَّا الرَّمْيُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِذَا حُكِمَ عَلَى الرَّمْيِ بِعَيْنِهِ قِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ سُنَّةٌ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِكَوْنِ الْآيَةِ مَنْسُوخَةً، بَلْ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا. الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ فِي الْآيَةِ لَيْسَ لِكُلِّ النَّاسِ، بَلْ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وَهُمُ الْمُرْصَدُونَ لِلْجِهَادِ الْمُنْزَلُونَ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمُ ارْتَزَقُوا أَمْوَالَ الْفَيْءِ عَلَى أَنْ يَقُومُوا بِدَفْعِ الْكُفَّارِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمُ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الدَّفْعُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَرَدَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إِلَى أبي عبيدة - عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمُ الْعَوْمَ، وَمُقَاتَلَتَكُمُ الرَّمْيَ - وَهَذَا الْوُجُوبُ مِنْ بَابِ إِيجَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، كَإِيجَابِ نَصْبِ السُّلَّمِ عِنْدَ إِيجَابِ صُعُودِ السَّطْحِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ أَيْضًا إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ، كَغَسْلِ بَعْضِ الرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ؛ لِأَجْلِ تَحَقُّقِ اسْتِيعَابِ الْوَجْهِ، وَإِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ كَانَ سُنَّةً؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْوُضُوءِ غَسْلُ الْوَجْهِ لَا بَعْضِ الرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ، فَاتَّضَحَ بِهَذَا قَوْلُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ السُّنَّةِ لَا مِنْ قِسْمِ الْوَاجِبِ، وَلَا الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: فِي أَيِّ سَنَةٍ كَانَ فَرْضُ الْجِهَادِ؟ . الْجَوَابُ: رَوَى أحمد، وَالتِّرْمِذِيُّ، والحاكم، وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أبو بكر: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] لَيَهْلَكُنَّ، فَنَزَلَتْ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] الْآيَةَ، قَالَ أبو بكر: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَكُونُ قِتَالٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ، قَالَ ابن الحصار مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كَتَابِهِ " النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ ": اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَرَجَ نَاسٌ مُؤْمِنُونَ مُهَاجِرِينَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتْبَعَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي قِتَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] الْآيَةَ فَقَاتَلُوهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَمِنْ أَشْرَافِ كُلِّ قَبِيلَةٍ اجْتَمَعُوا لِيَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ، فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ قَالَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً بِمَكَّةَ، ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْهِجْرَةِ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] الْآيَتَانِ، فَكَانَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي الْحَرْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ حِينَ ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِمَكَّةَ، وَسَطَتْ بِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 عَشَائِرُهُمْ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] الْآيَةَ، وَذَلِكَ حِينَ أَذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ، وَأَذِنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: إِنَّ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يُؤْذُونَ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ، فَاسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِتَالِهِمْ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] قَالَ: أُذِنَ لَهُمْ فِي قِتَالِهِمْ بَعْدَ مَا عُفِيَ عَنْهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، هَذِهِ الْآثَارُ كُلُّهَا: مُتَضَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُبِيحَةٌ لَا مُوجِبَةٌ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مَمْنُوعًا، ثُمَّ أُبِيحَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ وَجَبَ بِآيَاتِ الْأَمْرِ، فَلَعَلَّ الْإِيجَابَ كَانَ فِي آخِرِ السَّنَةِ الْأُولَى، أَوْ أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَفِيهَا كَانَ مَبْدَأُ الْغَزَوَاتِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ الْعَامَّ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ فِي بَرَاءَةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ مَخْصُوصَةً، وَهَذَا الْآيَةُ فَرَضَتْ عَلَى الْعُمُومِ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ، والحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ نَاسًا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: " كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَزِلَّةً، قَالَ: " إِنِّي أَمَرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ " فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] الْآيَةَ» ، وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ فَرْضَ الْقِتَالِ كَانَ فِي سَنَةِ الْهِجْرَةِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْهِجْرَةُ، وَأُمِرُوا بِالْقِتَالِ كَرِهَ الْقَوْمُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ ذَكَرَ: أَنَّ أَوَّلَ لِوَاءٍ عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسَةٍ فِي رَمَضَانَ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ وَبَعَثَهُ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا لِغَيْرِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ بَعَثَ سِرِّيَّةَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ إِلَى بَطْنِ رَابِغٍ فِي شَوَّالٍ، عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ، وَبَعْثَهُ فِي سِتِّينَ رَجُلًا، ثُمَّ بَعَثَ سِرِّيَّةَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى الْخَرَّارِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ، وَبَعَثَهُ فِي عِشْرِينَ رَجُلًا، فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ كَانَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 [كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ] [الرَّمْيِ بِالْبُنْدُقِ فِي الْفَلَوَاتِ عَلَى الطُّيُورِ] مَسْأَلَةٌ: فِي الرَّمْيِ بِالْبُنْدُقِ فِي الْفَلَوَاتِ عَلَى الطُّيُورِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا، مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِأَحَدٍ بِهِ ضَرَرٌ؟ . الْجَوَابُ: مَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ بِالْبُنْدُقِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْمَوْقُوذَةِ، إِلَّا أَنْ يُدْرِكَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، وَأَمَّا الرَّمْيُ بِالْبُنْدُقِ فَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الصَّحِيحِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: " إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلَا يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ» ". فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ - وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِنَا - صَرَّحَ بِهِ مجلى فِي الذَّخَائِرِ، وَأَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام، وَجَزَمَ بِهِ ابن الرفعة فِي الْكِفَايَةِ، وَعِبَارَتُهُ: الْقَتْلُ بِالْبُنْدُقِ لَا يُحِلُّ الْمَقْتُولَ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الصَّيْدَ لِقُوَّةِ رَامِيهِ لَا بِحَدِّهِ، وَلَا يَحِلُّ الرَّمْيُ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ الْحَيَوَانِ لِلْهَلَاكِ انْتَهَى، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى الِاصْطِيَادِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن حجر: التَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِ الرَّامِي أَنَّهُ يَقْتُلُهُ بِهِ امْتَنَعَ، وَإِلَّا جَازَ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الرَّامِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِذَلِكَ، ثُمَّ لَا يَقْتُلُهُ غَالِبًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُكْرَهُ رَمْيُ الْبُنْدُقِ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي الْفَلَاةِ، فَجَعَلَ مَدَارَ النَّهْيِ عَلَى خَشْيَةِ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْأَطْعِمَةِ] مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَحِلُّ أَكْلُ الْبَطَارِخِ وَهَلْ هُوَ نَجِسٌ أَمْ طَاهِرٌ؟ . الْجَوَابُ: الْمَنْقُولُ فِي الْجَوَاهِرِ للقمولي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ سَمَكِ مِلْحٍ وَلَمْ يُنْزَعْ مَا فِي جَوْفِهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَطَارِخُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَنْ نَسَبَ الْعَفْوَ إِلَى الرَّوْضَةِ فَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 غَالِطٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ - هَلْ يَحِلُّ أَكْلُ السَّمَكِ الصِّغَارِ إِذَا شُوِيَتْ وَلَمْ يُشَقَّ مَا فِي جَوْفِهَا وَيُخْرَجْ مَا فِيهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: وَجْهُ الْجَوَازِ عُسْرُ تَتَبُّعِهَا، وَعَلَى الْمُسَامَحَةِ جَرَى الْأَوَّلُونَ، فَإِنَّ الروياني بِهَذَا أَفْتَى، وَرَجِيعُهَا طَاهِرٌ عِنْدِي انْتَهَى. وَهَذِهِ غَيْرُ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ فَرَضَهَا فِي الصِّغَارِ، وَعَلَّلَ الْجَوَازَ بِعُسْرِ التَّتَبُّعِ، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْكِبَارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 [كِتَابُ الْأَيْمَانِ] مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ حَلَفَ شَهِدَ اللَّهُ أَوْ يَشْهَدُ اللَّهُ لَوْ أَضَافَ قَوْلَهُ " وَحَقَّ " هَلْ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ أَمْ لَا؟ وَمَا إِذَا حَلَفَ بِالْجَنَابِ الرَّفِيعِ، وَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ؟ . الْجَوَابُ: لَا نَقْلَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي شَهِدَ اللَّهُ، وَيَشْهَدُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَفِي الْأَذْكَارِ للنووي مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَوَرَّعُ عَنِ الْيَمِينِ، فَيَعْدِلُ إِلَى قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ، فَيَقَعُ فِي أَشَدِّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ شَهِدَ الشَّيْءَ وَعَلِمَهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ ضَمَّ إِلَيْهِ قَوْلَهُ: وَحَقٌّ شَهِدَ اللَّهُ، إِلَّا إِنْ أَرَادَ بِشَهِدَ الْمَصْدَرَ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَحَقٌّ شَهَادَةُ اللَّهِ، أَيْ عِلْمُهُ فَيَكُونُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِالْعِلْمِ، وَإِطْلَاقُ الْفِعْلِ وَإِرَادَةُ الْمَصْدَرِ سَائِغٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] أَيْ: يَوْمُ نَفَعَهُمْ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مِنْ جِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِيَنَا ... بِسَدِيفٍ حِينَ هَاجَ الصِّنَّبِرُ أَيْ حِينَ يَهِيجُ الصِّنَّبِرُ، وَإِذَا حَلَفَ بِالْجَنَابِ الرَّفِيعِ وَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ فَهُوَ يَمِينٌ بِلَا شَكٍّ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ حَلَفَ لَا يُشَارِكُ أَخَاهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَهِيَ مِلْكُ أَبِيهِمَا، فَمَاتَ الْوَالِدُ، وَانْتَقَلَ الْإِرْثُ لَهُمَا، وَصَارَا شَرِيكَيْنِ فَهَلْ يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ شَرِكَةً تُؤَثِّرُ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا مُجَرَّدُ دُخُولِهَا فِي مِلْكِهِ بِالْإِرْثِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَأَمَّا الِاسْتِدَامَةُ فَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 [كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ] مَسْأَلَةٌ: وَرَدَتْ مِنَ الْمَغْرِبِ، فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أبو عبد الله البلالي فِي " مُخْتَصَرِ الْإِحْيَاءِ " حَيْثُ قَالَ فِي كِتَابِ الْأُضْحِيَّةِ: وَتَتَأَكَّدُ الْأُضْحِيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ بَحَثْنَا عَنْ هَذَا الْفَرْعِ فِي كُتُبِ السَّادَةِ الْمَالِكِيَّةِ، فَمَا وَجَدْنَا مَا يُثْلِجُ الصَّدْرَ، وَيُزِيلُ اللَّبْسَ، فَكَتَبْنَا لَكُمْ فِيهِ لِتُبَيِّنُوا لَنَا أَصْلَهُ مِنَ السُّنَّةِ. الْجَوَابُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: ثَنَا أسود بن عامر قَالَ: ثَنَا شريك عَنْ أبي الحسناء، عَنْ أبي الحكم، عَنْ حنش، «عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُضَحِّيَ عَنْهُ، فَأَنَا أُضَحِّي عَنْهُ أَبَدًا» ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْأَضَاحِي: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا شريك عَنْ أبي الحسناء، عَنِ الحكم، عَنْ حنش، «عَنْ علي قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُضَحِّيَ عَنْهُ بِكَبْشٍ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَفْعَلَهُ» ، وَقَالَ أبو داود فِي سُنَنِهِ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا شريك عَنْ أبي الحسناء، عَنِ الحكم، «عَنْ حنش قَالَ: رَأَيْتُ عليا يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي أَنْ أُضَحِّيَ عَنْهُ، فَأَنَا أُضَحِّي عَنْهُ» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مَعًا، ثَنَا محمد بن عبيد المحاربي الكوفي، ثَنَا شريك عَنْ أبي الحسناء، عَنِ الحكم، عَنْ حنش، «عَنْ علي أَنَّهُ كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ: فَقَالَ: أَمَرَنِي بِهِ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا أَدَعُهُ أَبَدًا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ شريك انْتَهَى، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْوَذِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ أبو الحسن العبادي، والقفال فِي فَتَاوِيهِ، وَجَزَمَ القفال بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا شَيْئًا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الذَّابِحَ لَمْ يَتَقَرَّبْ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَقَرَّبَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ شَيْئًا، وَكَذَا نَقَلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ ابن المبارك قَالَ: فَإِنْ ضَحَّى فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا شَيْئًا، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا كُلِّهَا، قَالَ البلقيني فِي تَصْحِيحِ الْمِنْهَاجِ: حَدِيثُ علي إِنْ صَحَّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ خُصُوصِيَّةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [بَابُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ] [وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى دَارٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَمْلِكُ جَمِيعَهَا] بَابُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ مَسْأَلَةٌ: ثَلَاثَةٌ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى دَارٍ، فَادَّعَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَمْلِكُ جَمِيعَهَا وَأَقَامَ بَيِّنَةً شَهِدَتْ لَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ ادَّعَى الثَّانِي: أَنَّهُ يَمْلِكُ ثُلُثَيِ الدَّارِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ، ثُمَّ ادَّعَى الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَمْلِكُ ثُلُثَ الدَّارِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ الْحَاكِمُ؟ . الْجَوَابُ: لِكُلٍّ مِنْهُمْ ثُلُثُهَا؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلٍّ مِنْهُمْ شَهِدَتْ لَهُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَشَهِدَتْ لِلْأَوَّلِينَ بِزِيَادَةٍ فَلَمْ تَثْبُتِ الزِّيَادَةُ مِنْ أَجْلِ الْمُعَارَضَةِ، أَمَّا مُدَّعِي الْكُلِّ؛ فَلِأَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي الزَّائِدِ مُعَارَضَةٌ بِبَيِّنَةِ مُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَبَيِّنَةِ مُدَّعِي الثُّلُثِ فِي الثُّلُثِ فَتَسَاقَطَا، وَسَقَطَتْ دَعْوَاهُ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّا مُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ؛ فَلِأَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي الزَّائِدِ مُعَارَضَةٌ بِبَيِّنَةِ مُدَّعِي الْكُلِّ فِيهِ، فَتَسَاقَطَا وَسَقَطَتْ دَعْوَاهُ بِالثُّلُثِ الزَّائِدِ، وَأَمَّا مُدَّعِي الثُّلُثِ فَبَيِّنَتُهُ لَمْ تَشْهَدْ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَلَا يُعَارِضُهَا بَيِّنَةُ مُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ، بَلْ عَارَضَهَا مُدَّعِي الْكُلِّ، وَلَكِنَّ الْيَدَ مُرَجَّحَةٌ، فَاسْتَقَرَّ لِكُلٍّ مِنْهُمُ الثُّلُثُ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَهَلْ هَذَا الِاسْتِقْرَارُ بِالْيَدِ فَقَطْ، أَوْ بِهَا وَبِالْبَيِّنَةِ مَعًا؟ فِيهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ، لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ. [حُسْنُ التَّصْرِيفِ فِي عَدَمِ التَّحْلِيفِ] وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنَّنِي اسْتُفْتِيتُ عَنْ رَجُلٍ أَقَرَّ بِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مِنْ مَالِكِهَا، وَأَنَّهُ رَأَى وَتَسَلَّمَ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ بَعْدَ مُدَّةٍ وَأَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ، وَطَلَبَ يَمِينَ الْمُؤَجِّرِ بِذَلِكَ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ فَأَجَبْتُ بِأَنَّ لَهُ تَحْلِيفَهُ عَلَى التَّسْلِيمِ لَا عَلَى الرُّؤْيَةِ، ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمُفْتِينَ أَنَّهُ أَجَابَ: بِأَنَّ لَهُ التَّحْلِيفَ فِي الرُّؤْيَةِ أَيْضًا، فَكَتَبْتُ لَهُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ تَأْبَاهُ الْقَوَاعِدُ، فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِنَقْلٍ صَرِيحٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْقَبْضِ، فَكَتَبَ لِي مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ، أَمَّا الْعُمُومُ فَقَوْلُهُمْ: أَنْ كُلَّمَا لَوْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهِ نَفْعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الْمُدَّعِي تَجُوزُ الدَّعْوَى بِهِ وَتُسْمَعُ، أَمَّا الْخُصُوصُ فَقَوْلُ الْمِنْهَاجِ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ: لَوْ أَقَرَّ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَإِقْبَاضٍ، ثُمَّ قَالَ: كَانَ فَاسِدًا، وَأَقْرَرْتُ لِظَنِّي الصِّحَّةَ، لَمْ يُقْبَلْ، وَلَهُ تَحْلِيفُ الْمُقِرِّ لَهُ، قَالَ: وَلَمْ يُفَرِّقِ الْأَصْحَابُ بَيْنَ عِلَّةِ فَسَادٍ وَعِلَّةٍ، قَالَ: وَإِذَا حَلَفَ بَعْدَ إِقْرَارِ الْمُدَّعِي بِالْبَيْعِ فَتَحْلِيفُهُ عِنْدَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ أَوْلَى، قَالَ: وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ تَصْحِيحُ الْأَسْنَوِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُنْكِرِ الرُّؤْيَةِ، وَمُوَافَقَتُهُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ دَعْوَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ أَقْرَبُ إِلَى الصِّدْقِ مِنْ دَعْوَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ، وَمُنْكِرُ الرُّؤْيَةِ مَعَهُ أَصْلٌ وَظَاهِرٌ، فَظَهَرَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ مَا تَأْبَى ذَلِكَ قَالَ: وَنَحْنُ فِي الْجَوَابِ مَا خَرَجْنَا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَبْضِ، وَلَوْ خَرَجْنَا صَحَّ التَّخْرِيجُ، لَكِنْ لَا مَعْنَى لِلتَّخْرِيجِ مَعَ النَّقْلِ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ - هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ. فَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ رَأَيْتُهُ لَمْ يَحُمْ حَوْلَ الْحِمَى، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ مَا صُورَتُهُ: وَقَفْتُ عَلَى مَا سَطَرَهُ مَوْلَانَا فَوَجَدْتُ فِيهِ مُؤَاخِذَاتٍ، وَكُنَّا أَرَدْنَا الْإِغْضَاءَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ دَأْبُنَا مَعَ أَكْثَرِ النَّاسِ، ثُمَّ قَوِيَ الْعَزْمُ عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ إِعْرَاضِنَا إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْجَاهِلِينَ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ، لَا عَنْ مِثْلِكُمْ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُكُمْ: إِنَّ كَلِمًا لَوْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهِ نَفَعَ الْمُدَّعِي تَجُوزُ الدَّعْوَى بِهِ وَتُسْمَعُ، فَجَوَابُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا وَإِنَّمَا هِيَ أَكْثَرِيَّةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُكُمْ عَلَى مَسْأَلَتِنَا بِمَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمِنْهَاجِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ يَطُولُ التَّعَجُّبُ مِنْهُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَلْتَبِسُ عَلَى آحَادِ النَّاسِ فَضْلًا عَنْكُمْ، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ دَعْوَاكُمْ أَنَّهُ نَقْلٌ خَاصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَيْسَ بِخَاصٍّ، بَلْ وَلَا عَامٍّ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمَا لَأَشَدُّ الْمُبَايَنَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ كَمَا بَيْنَ الْقَدَمِ وَالْفَرْقِ، بَلْ كَمَا بَيْنَ حَضِيضِ الثَّرَى وَمَنَاطِ الثُّرَيَّا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمِنْهَاجِ صُورَتُهَا فِيمَنْ أَقَرَّ بِعَقْدٍ إِجْمَالِيٍّ مُشْتَمِلٍ عَلَى جُزْئِيَّاتِ وَصَفَاتٍ وَشُرُوطٍ فَعَادَ وَلَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ، وَلَكِنْ أَنْكَرَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِهِ، أَوْ شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِهِ، أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ قَائِلًا مُعْتَذِرًا: لَمْ أَظُنَّ أَنَّ فَوَاتَهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَلِهَذَا سَمَحْنَا لَهُ بِالتَّحْلِيفِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ فَصُورَتُهَا: أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَأَى مَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ بِلَا عُذْرٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، فَأَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ تِلْكَ؟ أَيُقَاسُ عَلَى رَجُلٍ أَقَرَّ بِعِقْدٍ مُجْمَلٍ، ثُمَّ لَمْ يُنْكِرُ مَا وَقَعَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِهِ، كَالرُّؤْيَةِ مَثَلًا؟ وَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا فِي إِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ، وَلَا ذَكَرَهَا مَنْ صَرَّحَ بِإِقْرَارِهِ بِالرُّؤْيَةِ، ثُمَّ عَادَ يُكَذِّبُ نَفْسَهُ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي ذَلِكَ لَا وَلَا كَرَامَةَ وَلَا نِعْمَةَ عَيْنٍ، وَقَوْلُنَا: وَلَا عُذْرَ لَهُ وَلَا تَأْوِيلَ احْتَرَزْتُ بِهِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْقَبْضِ، فَإِنَّهُ فِيهَا أَقَرَّ بِالْقَبْضِ ثُمَّ عَادَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ فِيهِ، لَكِنْ بِعُذْرٍ وَتَأْوِيلٍ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ عَنِ الْعَقْدِ، وَإِنَّ النَّاسَ يُقِرُّونَ بِهِ لِأَجْلِ رَسْمِ الْقَبَالَةِ؛ لِيَقْبِضُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا كَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ، فَإِنَّهُ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ وَلَا الشَّرْعُ بِتَأْخِيرِهَا عَنِ الْعَقْدِ حَتَّى نَقُولَ إِنَّهُ أَقَرَّ بِهَا لِأَجْلِ رَسْمِ الْقَبَالَةِ؛ لِيَرَى بَعْدَ ذَلِكَ - هَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا - فَقَدْ عُلِمَ بِهَذَا أَنَّ مَسْأَلَةَ الرُّؤْيَةِ تُفَارِقُ مَسْأَلَةَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُهَا، وَأَنَّهَا تُبَايِنُ مَسْأَلَةَ الْبَيْعِ الْمَذْكُورَةَ فِي الْمِنْهَاجِ بِكُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ بِأَمْرٍ عَامٍّ أُنْكِرَ مِنْهُ جُزْئِيَّةٌ خَاصَّةٌ مِنْ لَوَازِمِهِ، مَعَ بَقَائِهِ عَلَى وُقُوعِ أَصْلِ الْعَقْدِ الْمُقَرِّ بِهِ، لَكِنْ بِفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ، وَمَسْأَلَتُنَا هَذِهِ الْإِقْرَارُ فِيهَا وَقَعَ بِجُزْئِيَّةٍ خَاصَّةٍ لَا غَيْرَ، ثُمَّ عَادَ وَأَنْكَرَهَا فَلَا يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، وَلَا يُسْمَحُ لَهُ بِالتَّحْلِيفِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَقَارِيرِ غَالِبًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَصْلُحُ لَكُمْ أَنْ تَسْتَدِلُّوا بِمَسْأَلَةِ الْمِنْهَاجِ لَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ فَقَطْ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلرُّؤْيَةِ وَلَا غَيْرِهَا، ثُمَّ عَادَ وَقَالَ: لَمْ أَرَ، فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا لَهُ التَّحْلِيفُ، وَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الْمِنْهَاجِ وَأَمَّا صُورَتُنَا هَذِهِ فَلَا. وَإِنَّمَا نَظِيرُ صُورَتِنَا هَذِهِ أَنْ يُقِرَّ بِبَيْعٍ وَرُؤْيَةٍ، ثُمَّ يَعُودُ وَيَقُولُ: لَمْ أَرَ، فَتَقُولُونَ فِي هَذِهِ: إِنَّ لَهُ التَّحْلِيفَ. إِنْ قُلْتُمْ لَا فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ قُلْنَا لَكُمْ: لَا نَقْلَ فِي ذَلِكَ وَالْقَوَاعِدُ تَأْبَاهُ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي اسْتَنَدْتُمْ إِلَيْهَا فِي الْمِنْهَاجِ لَيْسَ صُورَتُهَا أَنَّهُ صَرَّحَ بِالْإِقْرَارِ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا صُورَتُهَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِذَكَرِ شُرُوطِهِ: مِنْ رُؤْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، ثُمَّ عَادَ وَأَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ. وَمِنَ الْعَجَبِ قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْأَصْحَابَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عِلَّةِ فَسَادٍ وَعِلَّةٍ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَمْشِي مَعَكُمْ فِي أَمْرٍ عَامٍّ لَهُ شَرْطٌ فَوَاتُهُ مُفْسِدٌ، لَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ عَادَ وَذَكَرَهُ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالرُّؤْيَةِ الَّذِي هُوَ مَسْأَلَتُنَا فَلَيْسَ شَيْئًا عَامًّا لَهُ شَرْطٌ فَوَاتُهُ يُفْسِدُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ خَاصٌّ أَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ عَادَ وَأَنْكَرَهُ فَلَا يُسْمَعُ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَمَسْأَلَةِ الْمِنْهَاجِ بَوْنًا عَظِيمًا، وَأَنَّ قَوْلَنَا فِي مَسْأَلَةِ إِنْكَارِ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهَا: لَيْسَ لَهُ التَّحْلِيفُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ الصَّحِيحُ، وَالتَّخْرِيجُ الصَّحِيحُ الرَّجِيحُ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَّا بِنَقْلٍ صَرِيحٍ، فَحِينَئِذٍ نَقْبَلُهُ وَنَقُولُ: إِذَا جَاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 [بَابُ الشَّهَادَاتِ] مَسْأَلَةٌ: قُرَّاءٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتٍ حَسَنَةٍ مُحْتَرِزِينَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فِيهِ، عَالِمِينَ بِأَحْكَامِ الْقِرَاءَةِ فَهَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ وَالْأَصْوَاتِ الْحَسَنَةِ وَالتَّرْجِيعِ إِنْ لَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ هَيْئَتِهِ الْمُعْتَبَرَةِ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ، وَإِنْ أَخْرَجَتْهُ فَحَرَامٌ فَاحْشٌ - هَذَا مَنْقُولُ الْمَذْهَبِ - صَرَّحَ بِهِ النووي فِي الرَّوْضَةِ وَالتِّبْيَانِ، وَيَدُلُّ لِلشِّقِّ الْأَوَّلِ أَحَادِيثُ، مِنْهَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَرَأَ سُورَةَ الْفَتْحِ فِي السَّفَرِ، يَرْجِعُ فِيهَا وَيَقُولُ: آآ آ» "، وَمِنْهَا حَدِيثُ البراء أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» " رَوَاهُ أبو داود، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، والحاكم، وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: " «حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا» ". وَمِنْهَا حَدِيثُ فضالة بن عبيد الأنصاري أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَانًا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ» " رَوَاهُ الحاكم، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ - وَأَذِنَ بِمَعْنَى: اسْتَمَعَ - وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وعائشة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» " عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَفِي لَفْظٍ عَنْ سعد: " «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا وَتَغَنَّوْا بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ بريدة «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ قِرَاءَةَ أبي موسى، فَقَالَ: " لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَيَدُلُّ لِلشِّقِّ الثَّانِي مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ قِرَاءَةً؟ فَقَالَ: " مَنْ إِذَا قَرَأَ رَأَيْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ» "، وَمَا رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ حذيفة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا، وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْفِسْقِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ الْقُرْآنَ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ» ". وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عابس الغفاري قَالَ: " «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ خِصَالًا يَتَخَوَّفُهُنَّ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِمَارَةَ السُّفَهَاءِ، وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ، وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَكَثْرَةَ الشَّرْطِ، وَنَشْئًا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يَتَغَنَّوْنَ غِنَاءً، يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَيْسَ بِأَفْضَلِهِمْ وَلَا أَعْلَمِهِمْ، لَا يُقَدِّمُونَهُ إِلَّا لِيُغَنِّيَ لَهُمْ» "، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ أَنَسٍ بِلَحْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْحَانِ فَكَرِهَ ذَلِكَ أَنَسٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ هَذِهِ الْأَلْحَانَ فِي الْقِرَاءَةِ مُحْدَثَةً، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي الشِّقَّيْنِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ كِفَايَةٌ. [بَابٌ جَامِعٌ] [ مسائل متفرقة ] بَابٌ جَامِعٌ مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ مُسْلِمِينَ، وَفِيهِمْ نَصْرَانِيٌّ، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا قَصَدْتُ إِلَّا الْمُسْلِمِينَ، فَقِيلَ لَهُ: مِنْ حَقِّكَ أَنْ تَقُولَ: السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فَهَلْ يُجْزِئُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ، أَوْ يَتَعَيَّنُ الثَّانِي؟ . الْجَوَابُ: لَا يُجْزِئُ فِي السَّلَامِ إِلَّا اللَّفْظُ الْأَوَّلَ، وَلَا يُسْتَحَقُّ الرَّدُّ إِلَّا بِهِ، وَيَجُوزُ السَّلَامُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ نَصْرَانِيٌّ إِذَا قَصَدَ الْمُسْلِمِينَ فَقَطْ، وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فَإِنَّمَا شُرِعَ فِي صُدُورِ الْكُتُبِ إِذَا كُتِبَتْ لِلْكَافِرِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. مَسْأَلَةٌ: إِذَا قَالَ مَنْ يُشَمِّتُ الْعَاطِسَ: يَرْحَمُ اللَّهُ سَيِّدِي، أَوْ قَالَ مَنْ يَبْتَدِئُ السَّلَامَ: السَّلَامُ عَلَى سَيِّدِي، أَوِ الرَّادُّ: وَعَلَى سَيِّدِي السَّلَامُ هَلْ يَتَأَدَّى بِذَلِكَ السُّنَّةُ أَوِ الْفَرْضُ؟ . الْجَوَابُ: قَالَ ابن صورة فِي كِتَابِ الْمُرْشِدِ: وَلْيَكُنِ التَّشْمِيتُ بِلَفْظِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّهُ الْوَارِدُ، قَالَ ابن دقيق العيد فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ: وَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ إِذَا خَاطَبُوا مَنْ يُعَظِّمُونَهُ قَالُوا: يَرْحَمُ اللَّهُ سَيِّدَنَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خِطَابٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا أَنَّهُ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: قُلْ يَرْحَمُكُ اللَّهُ يَا سَيِّدَنَا، قَالَ: وَكَأَنَّهُ قَصَدَ الْجَمْعَ بَيْنَ لَفْظِ الْخِطَابِ، وَبَيْنَ مَا اعْتَادُوهُ مِنَ التَّعْظِيمِ. انْتَهَى. وَيُقَاسُ بِذَلِكَ مَسَائِلُ السَّلَامِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْمَعْنَا فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِكَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ شَخْصٌ فَمَنِ الْمُصِيبُ؟ . الْجَوَابُ: هَذَا الْكَلَامُ أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ مِنْهُمُ النووي وَقَالَ: الصَّوَابُ جَوَازُ ذَلِكَ، وَمُسْتَقَرُّ الرَّحْمَةِ هُوَ الْجَنَّةُ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى رَجُلٍ، ثُمَّ اخْتَارَ الرَّجُلُ شَيْخًا آخَرَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فَهَلِ الْعَهْدُ الْأَوَّلُ لَازِمٌ أَمِ الثَّانِي؟ . الْجَوَابُ: لَا يَلْزَمُ الْعَهْدُ الْأَوَّلُ وَلَا الثَّانِي، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 مَسْأَلَةٌ: مَا قَوْلُكُمْ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ فِي رَجُلٍ ... مُؤَذِّنٍ لِخَطِيبٍ كُلَّمَا صَعِدَا؟ يَقُولُ مُلْتَزِمًا بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى ... خَيْرِ الْبَرِيَّةِ مَنْ جَاءَ الْأَنَامَ هُدَى وَزِدْهُ يَا رَبُّ تَشْرِيفًا وَقَدْ عَلِمُوا ... ضَرُورَةً أَنَّهُ بِالْمَجْدِ مُنْفَرِدَا وَقَدْرُهُ زَائِدٌ وَهُوَ الْمُكَمَّلُ فِي ... خَلْقٍ وَأَخْلَاقُهُ مَحْمُودَةٌ أَبَدَا لَمْ يَسْأَلِ الشَّرَفَ الْعَالِي لِرُتْبَتِهِ ... إِذْ شَرُفَتْ بِعَزِيزٍ خُصَّ مُتَّحِدَا فَهَلْ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ فِي مَقَالَتِهِ ... وَقَدْ تَعَاهَدَ هَذَا كُلُّ مَنْ وَجَدَا؟ أَوْ قَوْلُهُ ذَا يُضَاهِي مَا يُجَوِّزُهُ ... مَتْنُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي ضِمْنِهِ وَرَدَا ذِكْرُ التَّرَحُّمِ يَا مَنْ لِلْعُلُومِ يُرَى ... وَفَضْلُهُ ظَاهِرٌ وَالْخَيْرُ مِنْهُ بَدَا أَنْتَ الَّذِي نَالَهُ مِنْ فَيْضِكُمْ مَدَدٌ ... وَزَالَ عَنْهُ بِفُتْيَاكُمْ أَذًى وَرَدَى لَا زِلْتَ تُرْشِدُ مُحْتَاجًا لِمَسْأَلَةٍ ... أَعْيَتْ وَنِلْتَ مَنَالًا نَالَهُ السُّعَدَا الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا دَائِمًا أَبَدًا ... سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ بِالْحَمْدِ مُنْفَرِدَا ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْهَادِي النَّبِيِّ وَمَنْ ... هَدَى بِدَعْوَتِهِ الْأَدْنَيْنَ وَالْبُعَدَا مَنْ قَالَ لِلْمُصْطَفَى أَثْنَاءَ دَعْوَتِهِ ... وَزِدْهُ يَا رَبُّ تَشْرِيفًا فَقَدْ رَشَدَا وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي مَقَالَتِهِ ... وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى إِنْكَارِ مَنْ فَنَدَا أَلَا تَرَى النووي الْحَبْرَ قَالَ كَذَا ... فِي صَدْرِ خُطْبَةِ كُتْبٍ عُدِّدَتْ عَدَدَا وَهُوَ الْمُكَمَّلُ حَقًّا فِي فَضَائِلِهِ ... مِنْ غَيْرِ رَيْبٍ وَلَا نَقْصٍ يَهِي أَبَدًا لَكِنْ زِيَادَاتُ فَضْلِ اللَّهِ لَيْسَ لَهَا ... حَدٌّ تُحَاطُ بِهِ أَوْ تَنْتَهِي أَمَدَا وَانْظُرْ أَحَادِيثَ أَوْصَافِ الْجِنَانِ تَجِدْ ... مَضْمُونَهَا بِالَّذِي قَدْ قُلْتُ قَدْ شَهِدَا فِي كُلِّ يَوْمٍ يَرَاهُ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا ... وَالْمُؤْمِنُونَ نَوَالًا لَمْ يَكُنْ عُهِدَا وَعِنْدَ رُؤْيَةِ بَيْتِ اللَّهِ زِدْهُ عَلَى ... دُعَا النَّبِيِّ وَتَشْرِيفًا كَمَا وَرَدَا فَهَلْ يَقُولُ امْرُؤٌ فِي كَعْبَةٍ عَظُمَتْ ... بِأَنَّ ذَا تَوَهُّمٌ لَيْسَ مُعْتَمَدًا؟ وابن السيوطي قَدْ خَطَّ الْجَوَابَ عَسَى ... يَوْمُ الْمَعَادِ يَجِيءُ فِي زُمْرَةِ السُّعَدَا مَسْأَلَةٌ: هَلْ يُسْتَدَلُّ لِجَوَازِ قَوْلِ النَّاسِ مَا لِي إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] ؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الْجَوَابُ: قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ الْمُتَمَسِّكُ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ، مِنْهَا أَنَّ الْأَرْجَحَ فِي مَنِ اتَّبَعَكَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ لَا عَلَى الْجَلَالَةِ، وَالتَّمَسُّكُ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا قُدِّرَ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَلَالَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ صَادِرٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ صَاحِبُ هَذَا الْمَنْصِبِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ الْمَخْلُوقُونَ فِي قَوْلِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالْمَخْلُوقَاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَالذَّارِيَاتِ} [الذاريات: 1] {وَالطُّورِ} [الطور: 1] {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] {وَالْفَجْرِ} [الفجر: 1] {وَالشَّمْسِ} [الشمس: 1] {وَاللَّيْلِ} [الليل: 1] {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لِغَيْرِهِ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ مَنْصِبِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا» " أَنَّ التَّشْرِيكَ فِي الضَّمِيرِ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَهَى عَنْهُ فِي قِصَّةِ الْخَطِيبِ، وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ: " «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: جَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلًا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» ". مَسْأَلَةٌ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ هَلْ تُسْتَجَبُّ أَوْ تُكْرَهُ؟ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهَا تُسْتَحَبُّ، وَقَالَ: أَخَذْتُهُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: وَأُحِبُّ أَنْ يُكْثِرَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْحَالَاتِ، قَالَ: فَدَخَلَ فِي عُمُومِهِ حَالَةُ التَّعَجُّبِ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ كَرِهَهَا عِنْدَ التَّعَجُّبِ، وَقَالَ: لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِسَابِ وَطَلَبِ الثَّوَابِ، ثُمَّ نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ: بِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ مَشْرُوعٌ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: بَابُ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثَ عمر، وَحَدِيثَ صفية، وَهَلْ وَرَدَ دَلِيلٌ خَاصٌّ بِكَرَاهَتِهَا كَمَا قَالَ سَحْنُونٌ؟ . الْجَوَابُ: قَدْ يُسْتَدَلُّ لِسَحْنُونٍ بِمَا أَخْرَجَهُ الحاكم عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ بِحَضْرَتِهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَأَنَا أَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنْ مَا هَكَذَا عُلِّمْنَا، لَكِنَّ الَّذِي نَخْتَارُهُ خِلَافَ قَوْلِ سَحْنُونٍ: لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهْيٌ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ حَالَةَ التَّعَجُّبِ، وَلَا تَرِدُ قِصَّةُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْعُطَاسِ؛ لِأَنَّ الْعُطَاسَ وَرَدَ فِيهِ ذِكْرٌ يَخُصُّهُ فَالْعُدُولُ إِلَى غَيْرِهِ، أَوِ الزِّيَادَةُ فِيهِ عُدُولٌ عَنِ الْمَشْرُوعِ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمَذْمُومٌ، فَلَمَّا كَانَ الْوَارِدُ فِي الْعُطَاسِ الْحَمْدُ فَقَطْ كَانَ ضَمُّ السَّلَامِ إِلَيْهِ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْأَذْكَارِ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَى ذَمِّهِ، وَقَدْ نَهَى الْفُقَهَاءُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا وَرَدَ مِنَ التَّسْمِيَةِ، وَقَدْ عَقَدَ النووي فِي الْأَذْكَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 بَابًا لِجَوَازِ التَّعَجُّبِ بِلَفْظِ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَوْرَدَ فِيهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ وَآثَارٍ وَقَعَ فِيهَا ذِكْرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ، فَقَوْلُ النووي: وَنَحْوُهُمَا يَدْخُلُ فِيهِ فَصْلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ لَا تُكْرَهُ لِعَدَمِ النَّهْيِ، وَلَا تُسْتَحَبُّ لِعَدَمِ دَلِيلٍ عَلَى طَلَبِهَا حِينَئِذٍ، بَلْ هِيَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النووي بِلَفْظِ الْجَوَازِ فِي التَّرْجَمَةِ. [الْقَوْلُ الْمَشْرِقُ فِي تَحْرِيمِ الِاشْتِغَالِ بِالْمَنْطِقِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. مَسْأَلَةٌ: فِي شَخْصٍ يَدَّعِي فِقْهًا، يَقُولُ: إِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ عِلْمِ الْمَنْطِقِ، وَإِنَّ عِلْمَ الْمَنْطِقِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّ لِمُتَعَلِّمِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَلَا يَصِحُّ تَوْحِيدُ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ، وَمَنْ أَفْتَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ فَمَا يُفْتِي بِهِ بَاطِلٌ، وَقَالَ: إِنَّ الْحَشِيشَةَ كُلُّ مَنِ اسْتَعْمَلَهَا كَفَرَ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ يُحِلُّ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَقَالَ: إِنْ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَإِنَّمَا كَانَ زَاهِدًا فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: فَنُّ الْمَنْطِقِ فَنٌّ خَبِيثٌ مَذْمُومٌ، يَحْرُمُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، مَبْنِيٌّ بَعْضُ مَا فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْهَيُولِي الَّذِي هُوَ كُفْرٌ، يَجُرُّ إِلَى الْفَلْسَفَةِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَلَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ دِينِيَّةٌ أَصْلًا، بَلْ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ - نَصَّ عَلَى مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْتُهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، وَعُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ - فَأَوَّلُ مَنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، وابن الصباغ - صَاحِبُ الشَّامِلِ - وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ، ونصر المقدسي، والعماد بن يونس، وحفده، وَالسِّلَفِيُّ، وابن بندار، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وابن الأثير، وَابْنُ الصَّلَاحِ، وابن عبد السلام، وأبو شامة، والنووي، وابن دقيق العيد، والبرهان الجعبري، وأبو حيان، والشرف الدمياطي، والذهبي، والطيبي، والملوي، والأسنوي، وَالْأَذْرُعِيُّ، والولي العراقي، والشرف بن المقري، وَأَفْتَى بِهِ شَيْخُنَا قَاضِي الْقُضَاةِ شرف الدين المناوي، وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ - صَاحِبُ الرِّسَالَةِ - وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَأَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِّيُّ، وَأَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - صَاحِبُ قُوتِ الْقُلُوبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وأبو الحسن بن الحصار، وأبو عامر بن الربيع، وأبو الحسن بن حبيب، وأبو حبيب المالقي، وابن المنير، وابن رشد، وابن أبي جمرة، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ، والسراج القزويني، وَأَلَّفَ فِي ذَمِّهِ كِتَابًا - سَمَّاهُ: " نَصِيحَةُ الْمُسْلِمِ الْمُشْفِقِ لِمَنِ ابْتُلِيَ بِحُبِّ عِلْمِ الْمَنْطِقِ " وَنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ ابن الجوزي، وسعد الدين الحارثي، والتقي ابن تيمية، وَأَلَّفَ فِي ذَمِّهِ وَنَقْضِ قَوَاعِدِهِ مُجَلَّدًا كَبِيرًا - سَمَّاهُ " نَصِيحَةُ ذَوِي الْأَيْمَانِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْطِقِ الْيُونَانِ " وَقَدِ اخْتَصَرْتُهُ فِي نَحْوِ ثُلُثِ حَجْمِهِ - وَأَلَّفْتُ فِي ذَمِّ الْمَنْطِقِ - مُجَلَّدًا سُقْتُ فِيهِ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُ هَذَا الْجَاهِلِ: إِنَّ الْمَنْطِقَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، يُقَالُ لَهُ: إِنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ لَيْسَتْ فَرْضَ عَيْنٍ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَكَيْفَ يَزِيدُ الْمَنْطِقُ عَلَيْهَا؟ ! فَقَائِلُ هَذَا الْكَلَامِ: إِمَّا كَافِرٌ، أَوْ مُبْتَدِعٌ، أَوْ مَعْتُوهٌ لَا يَعْقِلُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ أَكْذَبِ الْكَذِبِ، وَأَبْلَغِ الِافْتِرَاءِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ تَكْفِيرُ غَالِبِ الْمُسْلِمِينَ الْمَقْطُوعِ بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَوْ أَنَّ الْمَنْطِقَ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ لَا ضَرَرَ فِيهِ لَمْ يَنْفَعْ فِي التَّوْحِيدِ أَصْلًا، وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِالْمَنْطِقِ لَا يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْطِقَ إِنَّمَا بَرَاهِينُهُ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ، وَالْكُلِّيَّاتُ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى جُزْئِيٍّ أَصْلًا، هَكَذَا قَرَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ الْعَارِفُونَ بِالْمَنْطِقِ، فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمَنْطِقَ، وَلَا يُحْسِنُهُ، فَيَلْزَمُ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ التَّوْحِيدَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ لَمْ يَعْرِفْهُ بَعْدُ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ أَنَّ إِيمَانَ الْمُقَلِّدِ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِيمَانُ الْمُسْتَدِلِّ قُلْنَا: لَمْ يُرِيدُوا بِالْمُسْتَدِلِّ عَلَى قَوَاعِدِ الْمَنْطِقِ، بَلْ أَرَادُوا مُطْلَقَ الِاسْتِدْلَالِ، الَّذِي هُوَ فِي طَبْعِ كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى فِي طَبْعِ الْعَجَائِزِ، وَالْأَعْرَابِ، وَالصِّبْيَانِ، كَالِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ عَلَى أَنَّ لَهَا خَالِقًا، وَبِالسَّمَاءِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالثِّمَارِ، وَغَيْرِهَا، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَنْطِقٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَالْعَوَامُّ وَالْأَجْلَافُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ لِلْمُتَكَلِّمِ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ هَذَا شَيْءٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا لِلْقُرْآنِ، الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْجَاهِلُ أَنْ يُلْحِقَ الْمَنْطِقَ - الَّذِي هُوَ مِنْ وَضْعِ الْكُفَّارِ - بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، وَالْعَجَبُ مِنْ حُكْمِهِ عَلَى اللَّهِ بِالْبَاطِلِ، وَالْإِخْبَارُ بِمَقَادِيرِ الثَّوَابِ لَا يُتَلَقَّى إِلَّا مِنْ صَاحِبِ النُّبُوَّةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْمَنْطِقَ فَفَتْوَاهُ لَا تَصِحُّ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وَالتَّابِعِينَ [وَأَتْبَاعَ التَّابِعِينَ] لَمْ تَصِحَّ فَتْوَاهُمْ، فَإِنَّ الْمَنْطِقَ إِنَّمَا دَخَلَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَمَضَى فِي الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَلَا وُجُودَ لِلْمَنْطِقِ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ، أَفَيَظُنُّ عَاقِلٌ مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ؟ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَفْسُهُ عَلَى ذَمِّ الِاشْتِغَالِ بِالْمَنْطِقِ، أَفَيَقُولُ هَذَا الْجَاهِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي مِثْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ وَمَنْ سَمَّيْنَاهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ دَوَّنُوا الْفِقْهَ، وَأَضْحَوْا سُبُلَ الْفَتَاوَى وَهُمْ عِصْمَةُ الدِّينِ. وَقَوْلُ هَذَا الْجَاهِلِ: إِنَّ الْغَزَالِيَّ لَيْسَ بِفَقِيهٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُضْرَبَ بِالسِّيَاطِ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَيُحْبَسَ حَبْسًا طَوِيلًا؛ حَتَّى لَا يَتَجَاسَرَ جَاهِلٌ أَنَّ يَتَكَلَّمَ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ بِكَلِمَةٍ تُشْعِرُ بِنَقْصٍ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: صَادِرٌ عَنْ جَهْلٍ مُفْرِطٍ وَقِلَّةِ دِينٍ، فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ، وَأَفْسَقِ الْفَاسِقِينَ، وَلَقَدْ كَانَ الْغَزَالِيُّ فِي عَصْرِهِ حُجَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَيِّدَ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ فِي الْفِقْهِ الْمُؤَلَّفَاتُ الْجَلِيلَةُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْآنَ مَدَارُهُ عَلَى كُتُبِهِ، فَإِنَّهُ نَقَّحَ الْمَذْهَبَ، وَحَرَّرَهُ، وَلَخَّصَهُ فِي الْبَسِيطِ وَالْوَسِيطِ وَالْوَجِيزِ وَالْخُلَاصَةِ، وَكُتُبُ الشَّيْخَيْنِ إِنَّمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُتُبِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي صَدَرَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ رَجُلٌ غَلَبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ، وَالْحُمْقُ، وَالْفِسْقُ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْتَاطِ لِدِينِهِ أَنْ يَهْجُرَهُ فِي اللَّهِ، وَيَتَّخِذَهُ عَدُوًّا يُبْغِضُهُ فِيهِ إِلَى أَنْ تَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ قَاصِمَةٌ تُلْحِقُهُ بِالْغَابِرِينَ. وَقَوْلُهُ فِي الْحَشِيشَةِ: مَنِ اسْتَعْمَلَهَا كَفَرَ، لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» "، فَيَكُونُ مُؤَوَّلًا عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوِ الْمُرَادُ كُفْرُ النِّعْمَةِ لَا كَفْرُ الْمِلَّةِ، فَإِنْ أَرَادَ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَكْفُرَ أَحَدٌ بِذَنَبٍ، وَالْعَالِمُ إِذَا أَفْتَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ إِنَّمَا يُطْلِقُهَا مُتَأَوِّلًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُحَلِّلُ حَرَامًا، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا، فَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، بَلْ وَلَا يُحْدِثُ قَوْلًا مِنْ عِنْدِهِ، إِنَّمَا وَظِيفَتُهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَقْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَيَخْتَارَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى رُجْحَانِهِ. مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ أَلْهَمَهُ اللَّهُ طِبًّا يُدَاوِي بِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ لَهُمْ، وَدَاوَى بِهِ جَمَاعَةً فِي بَلَدِهِ بِعُشْبٍ مِنَ الْأَعْشَابِ الَّذِي أَلْهَمَهُ اللَّهُ، وَحَصَلَ لَهُمْ بِهِ الشِّفَاءُ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ حُسَّادٍ، وَأَرَادُوا مَنْعَهُ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَالْحَالُ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الطَّبِيبَ الْمَذْكُورَ أَحْضَرَ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ دَاوَاهُمْ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ نَفَرًا إِلَى شُهُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَرَفُوا بِحُصُولِ الشِّفَاءِ عَلَى يَدِهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ مَحْضَرًا وَاتَّصَلَ بِحَاكِمٍ؟ وَهَلْ يَثْبُتُ بِهَذَا الْمَحْضَرِ عَدَالَةُ الطَّبِيبِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْبَلَدِ؟ وَهَلْ إِذَا قَالَ الطَّبِيبُ: أُلْهِمْتُ مِنَ اللَّهِ هَذَا الدَّوَاءَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ؟ . الْجَوَابُ: الْإِلْهَامُ لَا يُنْكَرُ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ غَالِبًا مَعَ الصُّوفِيَّةِ الْخُلَّصِ، أَرْبَابِ الْقُلُوبِ الصَّافِيَةِ النَّيِّرَةِ، وَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُ قَدْ يَصِحُّ وَقَدْ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي أُلْهِمَ الطِّبَّ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ لَا يُخْطِئُ فِي الْغَالِبِ، بِحَسَبِ تَمَكُّنِ حَالِهِ وَقُوَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَعَلَيْهِ تَوَقِّي ذَلِكَ، وَالرُّجُوعُ إِلَى قَانُونِ الطِّبِّ الَّذِي تَعَارَفَ النَّاسُ الْمُدَاوَاةَ بِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَنْعُهُ مِنَ الْمُدَاوَاةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْخَطَأِ، وَالْأَوْلَى لَهُ فِي الْحَالَيْنِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمُدَاوِي أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِدْ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَانُونِ الْمُتَعَارَفِ فِي الطِّبِّ؛ لِيَنْظُرَ ذَاكَ لِنَفْسِهِ، وَيَحْتَاطَ لَهَا؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَطَبَّبَ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ» " وَالْمَحْضَرُ الْمَذْكُورُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ عَدَالَةٌ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْبَلَدِ بِهَذَا السَّبَبِ. مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ اشْتُهِرَ بِوَقْتِنَا هَذَا بِعِلْمِ التَّعْبِيرِ، وَفُتِحَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَنَوَّرَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ بِمَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ الرُّؤْيَا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا مَزْجِيَّ الْبِضَاعَةِ، فَإِذَا قَصَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ رُؤْيَا بَادَرَ إِلَى تَفْسِيرِهَا، فَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يُفَسِّرُهَا بِكَلَامِ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ، وَيَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا وَافَقَ الْقَوَاعِدَ وَالْمَنْقُولَ فِي هَذَا الْفَنِّ، مُتَّبِعًا شُرُوطَهُ وَآدَابَهُ فِي الْأَغْلَبِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ مَعَ كَثْرَةِ تَعْبِيرِهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ خَطَأً فَاحِشًا، خَالَفَ فِيهِ مَنْقُولَ أَهْلِ الْفَنِّ، هَذَا وَقَدْ قَرَأَ فِيهِ كُتُبًا عَلَى مَشَايِخِ عَصْرِهِ، وَتَفَهَّمَ ظَوَاهِرَهَا بِحَسَبِ الْحَالِ، وَشَاعَ نَفْعُ النَّاسِ بِهِ، وَقَصَدُوهُ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الْبَعِيدَةِ؛ لِفَقْدِ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا كَبِيرًا مِنَ النَّاسِ قَامَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ كَثْرَةَ تَعْبِيرِهِ لِكُلِّ سَائِلٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَسُرْعَةَ مُبَادَرَتِهِ لِذَلِكَ فَزَجَرَهُ وَنَهَاهُ عَنْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مُطْلَقًا؛ قَاصِدًا نُصْحَهُ، وَقَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ: هَذَا الْعِلْمُ تَخْيِيلَاتٌ مِنْ بَابِ الظَّنِّ وَالْحَدَثِ، وَهُوَ مَظِنَّةُ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ، فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَا الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، فَانْزَجَرَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ، وَكَفَّ عَنْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَتَضَرَّرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَرَمَوْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَظَنُّوا بِامْتِنَاعِهِ أَنَّ قَصْدَهُ بِهِ طَلَبُ الدُّنْيَا مِنَ الْأَكَابِرِ بِسُؤَالِهِمْ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي وَرْطَةٍ مَعَ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَحَصَلَ عِنْدَهُ شَكٌّ وَارْتِيَابٌ فِي هَذَا الْعِلْمِ، هَلْ لَهُ حَقِيقَةً؟ أَوْ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 يَقُولُهُ هَذَا الْمُعْتَرِضُ؟ وَهَلِ الْأَوْلَى لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ التَّعْبِيرِ لِكُلِّ سَائِلٍ إِذِ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ لَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ جَعَالَةً فَهَلْ يُثَابُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: الْقَوْلُ بِأَنَّ الرُّؤْيَا وَتَعْبِيرَهَا تَخَيُّلَاتٌ لَا أَصْلَ لَهَا يَكَادُ يَخْرِقُ الْإِجْمَاعَ، فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ طَافِحَانِ بِاعْتِبَارِ الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " «أَنَّ رُؤْيَا الْعَبْدِ كَلَامٌ يُكَلِّمُهُ رَبُّهُ فِي الْمَنَامِ» "، وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: " «أَنَّ اللَّهَ وَكَلَ بِالرُّؤْيَا مَلَكًا يُرِيهَا لِلنَّائِمِ» "، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ كَثِيرَةٌ عَنْ حَدِّ الْحَصْرِ، وَإِنَّمَا قَصُرَ عِلْمُ النَّاسِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ؛ لِعَدَمِ وُقُوفِهِمْ عَلَى السُّنَّةِ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِهَا وَهِيَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، فَعَدَلُوا عَنْ مَعْدِنِهَا، وَرَجَعُوا إِلَى أَقْوَالِ الْحُكَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْجُهَّالِ الضُّلَّالِ الَّذِينَ حَدَسُوا بِأَفْكَارِهِمْ وَخَمَّنُوا فَلَمْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ، كَقَوْلِهِمْ هَذَا فِي الرُّؤْيَا، وَكَقَوْلِهِمْ: فِي الطَّاعُونِ، وَالزَّلْزَلَةِ، وَالرَّعْدِ، وَالْبَرْقِ، وَالصَّوَاعِقِ، وَالْقَوْسِ، وَالْمَجَرَّةِ، وَالْمَطَرِ، وَالسَّحَابِ، وَسَائِرِ مَا فَوْقَ الْمَلَكُوتِ وَمَا تَحْتَ الْأَرَضِينَ، كُلُّ ذَلِكَ خَاضَ فِيهِ الْفَلَاسِفَةُ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ بِالظُّنُونِ الْفَاسِدَةِ، فَأَتَوْا فِيهَا بِأَشْيَاءَ أَكْذَبَهُمْ فِيهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُوحَى إِلَيْهِ بِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. وَقَوْلُ الْمُنْكِرِ: فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، كَلَامٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ عِلْمَ عَمَلٍ، بَلْ إِمَّا تَبْشِيرٌ بِخَيْرٍ، أَوْ تَحْذِيرٌ مِنْ شَرٍّ، فَأَيُّ عَمَلٍ هُنَا؟ نَعَمِ التَّثَبُّتُ مَطْلُوبٌ، وَعَدَمُ الْمُسَارَعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ، وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَا صُورَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَيَخْتَلِفُ تَأْوِيلُهَا بِحَسَبِ الرَّائِي وَحَالِهِ وَصِفَتِهِ، وَمَا اتَّفَقَ فِي أَيَّامِ الرُّؤْيَا، وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْكَشْفِ الَّذِي يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِمْ، وَهَذِهِ لَا يَلِيقُ بِكُلِّ مُعَبِّرٍ، تَأْوِيلُهَا إِنَّمَا يُؤَوِّلُهَا صَاحِبُ حَالٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَحْوَالِ الْقَوْمِ. وَفِي جَوَازِ أَخْذِ الْجَعَالَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَقْفَةٌ، وَيَقْرُبُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْفُرُوضِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، وَوَجْهُ التَّوَقُّفِ كَوْنُهُ كَلَامًا يُقَالُ، فَيُشْبِهُ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى كَلِمَةٍ لَا تُتْعِبُ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ أَوْضَحُ، وَفِي الثَّوَابِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَأْخُذْ أُجْرَةً وَقْفَةٌ أَيْضًا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعُلُومِ الْمَفْرُوضَةِ وَلَا الْمَنْدُوبَةِ، بَلْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 [رَفْعُ الْبَاسِ وَكَشْفُ الِالْتِبَاسِ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالِاقْتِبَاسِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: اسْتِعْمَالُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ وَالْمُخَاطِبَاتِ وَالْمُجَاوَبَاتِ وَالْإِنْشَاءَاتِ، وَالْخُطَبِ، وَالرَّسَائِلِ، وَالْمَقَامَاتِ مُرَادًا بِهَا غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَتْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، يُسَمَّى عِنْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ ضَرْبَ مَثَلٍ وَتَمَثُّلًا وَاسْتِشْهَادًا إِذَا كَانَ فِي النَّثْرِ، وَقَدْ يُسَمَّى اقْتِبَاسًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَوْرِدِ، فَإِذَا كَانَ فِي الشِّعْرِ سُمِّيَ اقْتِبَاسًا لَا غَيْرَ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي فِي النَّثْرِ، سَوَاءٌ كَانَ تَمَثُّلًا أَوِ اقْتِبَاسًا فَجَائِزٌ فِي مَذْهَبِنَا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا - نَصَّ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا - وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي خُطَبِهِمْ وَإِنْشَائِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ. أَمَّا النُّصُوصُ فَقَالُوا فِي بَابِ الْغُسْلِ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يُورِدَ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ لَا بِقَصْدِ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ نَطَقَ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ لَا بِقَصْدِ الْقُرْآنِ، بَلْ بِقَصْدِ التَّفْهِيمِ فَقَطْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَإِنْ قَصَدَ الْقِرَاءَةَ وَالتَّفْهِيمَ مَعًا لَمْ تَبْطُلْ، وَلَمْ يَحْكُوا فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا. قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْغُسْلِ مَا نَصُّهُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ قَالَ لِإِنْسَانٍ: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وَلَمْ يَقْصِدِ الْقُرْآنَ جَازَ، وَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ، وَقَالَ الرافعي فِي الشَّرْحِ: وَأَمَّا إِذَا قَرَأَ شَيْئًا مِنْهُ لَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ فَيَجُوزُ، وَفِي الرَّوْضَةِ مِثْلُهُ، وَقَالَ الأسنوي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيَحِلُّ إِذَا كَانَ لَا بِقَصْدِ قُرْآنٍ، هَذَا الْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ بِأَذْكَارِ الْقُرْآنِ، بَلْ يَأْتِي أَيْضًا فِي مَوَاعِظِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَخْبَارِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الرافعي، فَإِنَّهُ عَبَّرَ بُقُولِهِ: أَمَّا إِذَا قَرَأَ شَيْئًا مِنْهُ لَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ، فَيَجُوزُ هَذِهِ عِبَارَتُهُ، وَذَكَرَ مِثْلَهَا فِي الرَّوْضَةِ، وَصَرَّحَ القاضي أبو الطيب فِي تَعْلِيقِهِ بِالْأَوَامِرِ انْتَهَى. وَقَالَ الرافعي فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ: إِذَا أَتَى الْمُصَلِّي بِشَيْءٍ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ قَاصِدًا بِهِ الْقِرَاءَةَ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ قَصَدَ مَعَ الْقِرَاءَةِ شَيْئًا آخَرَ كَتَنْبِيهِ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْفَتْحِ عَلَى مَنِ ارْتَجَّ عَلَيْهِ، وَتَفْهِيمِ الْأَمْرِ مِنَ الْأُمُورِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِجَمَاعَةٍ يَسْتَأْذِنُونَ فِي الدُّخُولِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] ، أَوْ يَقُولَ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنْتَهِيًا فِي قِرَاءَتِهِ إِلَى تِلْكَ الْآيَةِ، أَوْ يُنْشِئُ قِرَاءَتَهَا حِينَئِذٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَصَدَ شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْقِرَاءَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ تَنْبِيهَ الْإِمَامِ، وَالْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الْإِفْهَامَ، وَالْإِعْلَامَ فَلَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ، كَمَا لَوْ أَفْهَمَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وَذَكَرَ مِثْلَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ، وَالْمُحَرَّرِ، وَذَكَرَ النووي مِثْلَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَالْمِنْهَاجِ، وَإِنَّمَا بَدَأْتُ بِنَقْلِ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ الْآنَ فِي الْفُتْيَا عَلَى كَلَامِهِمَا، وَإِلَّا فَالْمَسْأَلَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَصْحَابِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ: وَلَوْ قَرَأَ الْمُصَلِّي آيَةً، أَوْ بَعْضًا مِنْ آيَةٍ، فَأَفْهَمَ بِهَا كَلَامًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: خُذْهَا بِقُوَّةٍ، أَوْ يَقُولَ: وَقَدْ حَضَرَ جَمْعٌ فَاسْتَأْذَنُوا ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ فَإِنْ لَمْ تَخْطُرْ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ جَرَّدَ قَصْدَهُ إِلَى الْخِطَابِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَصَدَ الْقِرَاءَةَ، وَلَمْ يَخْطُرْ لَهُ إِفْهَامُ أَحَدٍ بِحَيْثُ لَوْ دَخَلُوا لَمْ يُرِدْ دُخُولَهُمْ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ. وَإِنْ قَصَدَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَقَصَدَ إِفْهَامَهُمْ فَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَئِمَّةُ: أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَذَا، وَقَالَ فِي بَابِ الْغُسْلِ: لَوْ قَالَ الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَصَدَ بِهِ غَيْرَ الْقُرْآنِ لَمْ يَعْصِ، وَإِنْ أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ قِرَاءَةً وَلَا غَيْرَهَا فَقَدْ كَانَ شَيْخِي يَقُولُ: لَا يَعْصِي وَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ: لَوْ قَالَ الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ لَا بِقَصْدِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ تُوَافِقُ نَظْمَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ: وَلَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُوَافِقٍ نَظْمُهُ نَظْمَ الْقُرْآنِ، مِثْلَ أَنْ دَقَّ رَجُلٌ الْبَابَ، قَالَ: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ، أَوْ أَرَادَ دَفْعَ كِتَابٍ، فَقَالَ: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَ بِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَصَدَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَإِعْلَامَهُ لَا تَبْطُلُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَبْطُلُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ: إِذَا أَتَى الْجُنُبُ بِالْقُرْآنِ عَلَى قَصْدِ غَيْرِهِ لَا يَعْصِي فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ لَا الْقِرَاءَةَ وَلَا غَيْرَهَا قَالَ الشيخ أبو محمد: لَا يَعْصِي؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ مُعْتَبَرٌ فِي هَذَا الْجِنْسِ، وَقَالَ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ: إِذَا اسْتَأْذَنَ جَمْعٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ، أَوْ قَالَ: خُذْهَا بِقُوَّةٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ خِطَابِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنْ قَصَدَ التَّفْهِيمَ دُونَ الْقِرَاءَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَصَدَ الْقِرَاءَةَ دُونَ التَّفْهِيمِ لَمْ تَبْطُلْ، وَإِنْ قَصَدَهُمَا جَمِيعًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَبْطُلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَبْطُلُ. وَقَالَ المتولي فِي التَّتِمَّةِ الْخَامِسَةِ: إِذَا نَابَهُ أَمْرٌ فِي الصَّلَاةِ، فَتَلَا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ يَحْصُلُ بِهَا تَنْبِيهُ الْغَيْرِ عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ، مِثْلَ إِنْ دَقَّ الْبَابُ فَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] ، أَوْ رَأَى إِنْسَانًا اسْمُهُ مُوسَى، يَمْشِي بِالنَّعْلِ عَلَى بِسَاطِهِ، فَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّنْبِيهَ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ وَافَقَ نَظْمَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ قَصَدَ الْقِرَاءَةَ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَبْطُلُ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَعَرَّضَ بِهِ، وَقَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وَقَصَدَ الْإِنْكَارَ حَيْثُ رَضِيَ التَّحْكِيمَ، فَتَلَا علي: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنُقُولُ الْأَصْحَابِ فِي ذَلِكَ لَا تُحْصَى، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ كِفَايَةٌ. وَقَالَ النووي فِي التِّبْيَانِ: فَصْلٌ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهَا الْكَلَامُ، ذَكَرَ ابن أبي داود فِي هَذَا اخْتِلَافًا، فَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْقُرْآنَ لِشَيْءٍ يَعْرِضُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِمَكَّةَ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ - وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 1 - 2] ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3] . وَعَنْ حكيم - بضم الحاء - بن سعد أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمَحْكَمَةِ أَتَى عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا اسْتَأْذَنَ إِنْسَانٌ عَلَى الْمُصَلِّي، فَقَالَ الْمُصَلِّي: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ فَإِنْ أَرَادَ التِّلَاوَةَ، أَوِ التِّلَاوَةَ وَالْإِعْلَامَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِعْلَامَ، أَوْ لَمْ تَحْضُرْهُ نِيَّةٌ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، انْتَهَى كَلَامُ النووي فِي التِّبْيَانِ. فَانْظُرْ كَيْفَ أُخِذَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي الْمُصَلِّي، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ " بَابَ مَا يَجُوزُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ يُرِيدُ بِهِ جَوَابًا أَوْ تَنْبِيهًا ". [ذِكْرُ مَنِ اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ غَيْرِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ] أَخْرَجَ ابن سعد، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا سَلَّمَ الحسن بن علي الْأَمْرَ إِلَى معاوية فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَكْيَسَ الْكَيْسِ التُّقَى، وَإِنَّ أَعْجَزَ الْعَجْزِ الْفُجُورُ، أَلَا وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي اخْتَلَفْتُ فِيهِ أَنَا ومعاوية لَا امْرُؤٌ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنِّي، وَهُوَ حَقٌّ لِي تَرَكْتُهُ إِرَادَةَ إِصْلَاحِ الْمُسْلِمِينَ، وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ، وَنَزَلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا عَنْ حفصة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا بَلَغَهَا قَتْلُ عثمان، فَقَالَتْ: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112] ، وَفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ: وَإِنِّي لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ، وَمِنْ هُنَا سَمَّى الْعُلَمَاءُ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ ضَرْبَ مَثَلٍ وَتَمَثُّلًا، وَكَذَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر وعمر حِينَ اسْتَشَارَهُمَا فِي أَسْرَى بَدْرٍ: " «مَثَلُكَ يَا أبا بكر مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وَمَثَلُكَ يَا عمر، مَثَلُ نُوحٍ حَيْثُ قَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] » - وَفِي رِوَايَةٍ - «إِنَّ مَثَلَكَ يَا أبا بكر مَثَلُ عِيسَى قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عمر، مَثَلُ مُوسَى قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] » ، فَمِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ أَطْلَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى ذَلِكَ ضَرْبَ مَثَلٍ. [وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ مَا نَحْنُ فِيهِ وَكَفَى بِهِ حُجَّةً] وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ مَا نَحْنُ فِيهِ وَكَفَى بِهِ حُجَّةً أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ عَنْ أبي حاتم المزني قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» "، وَقَدْ سَبَقَنِي إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّمَثُّلِ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ الْحَافِظُ أبو بكر بن مردويه، حَيْثُ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَغْيِيرُ بَعْضِ النَّظْمِ بِإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِأُخْرَى، وَبِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْإِنْشَاءِ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ التِّلَاوَةُ، وَلَا الْقِرَاءَةُ، وَلَا إِيرَادُ النَّظْمِ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا لِجَوَازِ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مالك، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهَا لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ بِمِسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ الِاقْتِبَاسِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الِاسْتِشْهَادِ بِالْقُرْآنِ فِيمَا يَحْسُنُ وَيَجْمُلُ، وَذَكَرَ ابن رشيق مِثْلَهُ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ - وَهُمَا مَالِكِيَّانِ - وَقَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الِاسْتِشْهَادِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ بِالْقُرْآنِ فِي الْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ، وَقَدْ جَاءَ لِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، كَمَا وَرَدَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ: " «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَطْعَنُ فِي الْأَصْنَامِ، وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ» "، قَالُوا: وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْمَزْحِ وَلَغْوِ الْحَدِيثِ فَيُكْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح» - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - إِلَى أَنْ قَالَ: «وَأَمَّا عبد الله بن سعد بن أبي سرح فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عثمان، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: " أَمَا فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عائشة قَالَتْ: كَتَبَ أَبِي فِي وَصِيَّتِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا، حِينَ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ، وَيَتَّقِي الْفَاجِرُ، وَيَصْدُقُ الْكَاذِبُ، إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنْ يَعْدِلْ فَذَاكَ ظَنِّي بِهِ وَرَجَائِي فِيهِ، وَإِنْ يَجُرْ وَيُبَدِّلْ فَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَتَلَا: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ بكرة قَالَ: لَمَّا انْتَهَى الربيع بن خيثم إِلَى مَسْجِدِ قَوْمِهِ قَالُوا لَهُ: يَا ربيع، لَوْ قَعَدْتَ لِتُحَدِّثَنَا الْيَوْمَ فَقَعَدَ، فَجَاءَ حَجَرٌ فَشَجَّهُ، فَقَالَ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ هذيل بن شرحبيل قَالَ: سُئِلَ أبو موسى عَنِ ابْنَةٍ، وَابْنَةِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ قَالَ: لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَائْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَخْبَرَ بِقَوْلِ أبي موسى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 طَبَقَاتِهِ عَنْ فروة بن نوفل الأشجعي قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقُلْتُ: غَلِطَ أبو عبد الرحمن إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ تَعَمَّدَ الْأَمْرَ تَعَمُّدًا، فَسَكَتَ، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا الْأُمَّةُ، وَمَا الْقَانِتُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: الْأُمَّةُ. الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ معاذ، كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ مسروق قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: نَسِيَ أبو عبد الرحمن إِبْرَاهِيمَ - يَعْنِي قَالَ: وَهَلْ سَمِعْتَنِي ذَكَرْتُ إِبْرَاهِيمَ؟ الْأُمَّةُ: الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَالْقَانِتُ: الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَخْرَجَ ابن الضريس فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَتَى مَكَّةَ، فَمَرَّ بِأَعْرَابِيٍّ وَهُوَ يُصَلِّي، وَهُوَ يَقُولُ: نَحُجُّ بَيْتَ رَبِّنَا فِي كَلَامٍ لَهُ، فَقَالَ عبد الله: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن أبي ليلى الكندي قَالَ: أَشْرَفَ عثمان عَلَى النَّاسِ مِنْ دَارِهِ، وَقَدْ أَحَاطُوا بِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ، يَا قَوْمِ لَا تَقْتُلُونِي إِنَّكُمْ إِنْ تَقْتُلُونِي كُنْتُمْ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ عروة قَالَ: كَانَ أبو حذيفة بن اليمان شَيْخًا كَبِيرًا، فَخَرَجَ يَوْمَ أُحُدٍ يَتَعَرَّضُ لِلشَّهَادَةِ، فَابْتَدَرَهُ الْمُسْلِمُونَ فَتَوَاشَقُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، وحذيفة يَقُولُ: أَبِي أَبِي فَلَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ شُغُلِ الْحَرْبِ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حذيفة: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ بِدِيَتِهِ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ عَنِ المطلب بن حنطب أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، ثُمَّ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ فَقَرَأَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] أَمْسِكْ عَلَيْكَ امْرَأَتَكَ فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ ثَبْتٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِقَوْمٍ قَعَدُوا عَلَى شَرَابٍ، مَعَهُمْ رَجُلٌ صَائِمٌ فَضَرَبَهُ، وَقَالَ: لَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أم راشد قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ أم هانئ، فَسَمِعْتُ رَجُلَيْنِ يَقُولَانِ: بَايَعَتْهُ أَيْدِينَا، وَلَمْ تُبَايِعْهُ قُلُوبُنَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 لعلي، فَقَالَ علي: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَلَا يَطْعَنَنَّ بِرُمْحٍ، وَلَا يَضْرِبْ بِسَيْفٍ، وَلَا يَرْمِ بِحَجَرٍ، وَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. وَأَخْرَجَ L-1 الزجاجي فِي أَمَالِيهِ عَنْ جويرية بنت أسماء قَالَ: قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَكَّةَ، فَوَضَعَ الدِّرَّةَ بَيْنَ أُذُنَيْ أبي سفيان، وَضَرَبَ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ هند فَقَالَتْ: أَتَضْرِبُهُ فَوَاللَّهِ لَرُبَّ يَوْمٍ لَوْ ضَرَبْتَهُ لَاقْشَعَرَّ بِكَ بَطْنُ مَكَّةَ، فَقَالَ عمر: أَجَلْ وَاللَّهِ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا. وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ محمد بن عبد الملك قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَعْرَابِيًّا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَأَتَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالَ: نَحُجُّ بَيْتَ رَبِّنَا وَنَقْضِي الدَّيْنَ، وَهُنَّ يَهْوِينَ بِنَا بِخَطَرَاتٍ يَهْوِينَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أبي طلحة «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَبَّحَ خَيْبَرَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ» . وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي طَبَقَاتِهِ عَنْ عمرو بن ميمون قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا طُعِنَ عَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ صَفْرَاءُ قَدْ وَضَعَهَا عَلَى جُرْحِهِ وَهُوَ يَقُولُ: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ عمرو بن ميمون أَنَّ عمر لَمَّا طُعِنَ دَخَلَ عَلَيْهِ كعب فَقَالَ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قَدْ أَنْبَأْتُكَ أَنَّكَ شَهِيدٌ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لِي بِالشَّهَادَةِ وَأَنَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؟ . وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ عبد الله بن رافع قَالَ: طُعِنَ ابْنَا مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَقَالَ معاذ: كَيْفَ تَجِدَانِكُمَا؟ قَالَا: يَا أَبَانَا، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قَالَ: وَأَنَا سَتَجِدَانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابن سعد، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أبي جعفر قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ للحسن: قُمْ فَاخْطُبِ النَّاسَ يَا حسن، قَالَ: إِنِّي أَهَابُكَ أَنْ أَخْطُبَ وَأَنَا أَرَاكَ. فَتَغَيَّبَ عَنْهُ حَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَلَا يَرَاهُ، فَقَامَ الحسن فَخَطَبَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالَ علي: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ عمر بن الحكم أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ تَكَلَّمَا، فَقَالَ أبو موسى لعمرو: إِنَّمَا مَثَلُكَ كَالْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، فَقَالَ لَهُ عمرو: إِنَّمَا مَثَلُكَ مَثَلُ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنِ ابْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: كَيْفَ أَنْتَ يَا لَيْثِيُّ؟ قَالَ: بِخَيْرٍ عَلَى ظُهُورِ عَدُوِّنَا عَلَيْنَا، فَقَالَ جابر: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَأَخْرَجَ أحمد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ حذيفة؟ قَالَ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا. وَأَخْرَجَ أحمد «عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أبا ذر أُخْرِجَ إِلَى الرَّبَذَةِ، فَاسْتَرْجَعَ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ كَمَا قِيلَ لِأَصْحَابِ النَّاقَةِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَذَّبُوا أبا ذر فَإِنِّي لَا أُكَذِّبُهُ، وَإِنِ اتَّهَمُوهُ فَإِنِّي لَا أَتَّهِمُهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أبا ذر قَطَعَ يَمِينِي مَا أَبْغَضْتُهُ بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أبي ذر» ". وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قِيلَ لَهُ فِي مَرَضِهِ: مَنْ تُوصِي بِأَهْلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ وَلِيِّيَ فِيهِمُ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. وَأَخْرَجَ ابن سعد، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ هبيرة بن خزيمة قَالَ: قَالَ الربيع بن خيثم حِينَ قُتِلَ الحسين: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ ابن الزبير لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: كَلِّمْ هَؤُلَاءِ - لِأَهْلِ الشَّامِ - رَجَاءَ أَنْ يَرُدَّهُمْ ذَاكَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ الحجاج، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عبيد: وَيْحَكُمْ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ قَالُوا: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغُوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أبي يعلى قَالَ: كَانَ الربيع بن خيثم إِذَا مَرَّ بِالْمَجْلِسِ يَقُولُ: قُولُوا خَيْرًا، افْعَلُوا خَيْرًا، وَدَاوِمُوا عَلَى صَالِحَةٍ، وَلَا تُقْسُوا قُلُوبَكُمْ، وَلَا يَتَطَاوَلْ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مسروق أَنَّهُ قَدِمَ فَأَتَاهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَنَاسٌ مِنَ التُّجَّارِ، فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، مَا كَانَ أَعَفَّكَ عَنْ أَمْوَالِنَا، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص: 61] وَكَانَ يَقْرَأُهَا كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عبد الله بن غالب كَانَ يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَمَرَّ عَلَيْهِ الحسن، فَقَالَ: يَا عبد الله، لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَى أَصْحَابِكَ، فَقَالَ: مَا أَرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 عُيُونَهُمُ انْفَقَأَتْ، وَلَا أَرَى ظُهُورَهُمُ انْدَقَّتْ، وَاللَّهُ يَأْمُرُنَا يَا حسن أَنْ نَذْكُرَهُ كَثِيرًا، وَتَأْمُرُنَا أَنْ نَذْكُرَهُ قَلِيلًا، كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ، فَقَالَ الحسن: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَسْجُدُ أَمْ لَا؟ . وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ عون العبدي أَنَّ الحجاج لَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ الحجاج: شُدُّوا بِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَقَالَ سعيد: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، فَقَالَ الحجاج: كُبُّوهُ لِوَجْهِهِ، فَقَالَ سعيد: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ. وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ سالم بن أبي حفصة قَالَ: لَمَّا أَتَى سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ الحجاج قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ، قَالَ: دَعَوْنِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَجِّهُوهُ إِلَى قِبْلَةِ النَّصَارَى، قَالَ: أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عبد الكريم قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذَا دَخَلَ بَيْتًا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَأَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مِنْ مَكَّةَ فَانْطَلَقَ بِي إِلَى مروان ابن المهلب - وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْبَصْرَةِ - فَرَحَّبَ بِي فَقُلْتُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ، قَالَ: وَمَنْ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ؟ قُلْتُ: العلاء بن زياد اسْتَعْمَلَ صَدِيقًا لَهُ مَرَّةً عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَبِيتَ إِلَّا وَظَهْرُكَ خَفِيفٌ، وَبَطْنُكَ خَمِيصٌ، وَكَفُّكَ تَقِيَّةٌ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ سَبِيلٌ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، قَالَ مروان: صَدَقَ وَاللَّهِ وَنَصَحَ. [ذِكْرُ مَا وَقَعَ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ] أَخْرَجَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ سعيد بن بشير بن ذكوان قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ يَظُنُّ أَنَّ صَاحِبَهَا غَيْرُ مُتَعَلِّمٍ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ الْمُغَالَطَةَ، يَقُولُ: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ. [ذِكْرُ مَا وَقَعَ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ] رَأَيْتُ فِي تَارِيخِ مَنْ دَخَلَ مِصْرَ لِلْحَافِظِ زَكِيِّ الدِّينِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيِّ فِي تَرْجَمَةِ التاج الأرموي تِلْمِيذِ الْإِمَامِ فخر الدين الرازي، وَمُصَنِّفِ الْحَاصِلِ مُخْتَصَرِ الْمَحْصُولِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الْأُصُولِ مَا نَصُّهُ: أَمْلَى عَلَيَّ الْإِمَامُ تَاجُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأُرْمَوِيُّ بِالْقَاهِرَةِ نُسْخَةَ كِتَابٍ شَاهَدَهُ بِمَدِينَةِ سَاوَةَ فِي الْخِزَانَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي جَامِعِهَا بِخَطِّ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَهُ إِلَى صَاحِبِ مَكَّةَ؛ شَفَاعَةً فِي الْحَاجِّ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ الْإِمَامِ: إِنِّي مُهْدٍ إِلَيْكَ يَا سَيِّدَ الْبَطْحَاءِ، كَلِمَةً طَيِّبَةً {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] وَأَنَا أَتَشَفَّعُ إِلَيْكَ فِي ضُعَفَاءِ الْحَاجِّ مِنْ رَكْبِ الرِّيحِ وَمُضْغَةِ الشِّيحِ. كَتَبَهُ محمد بن إدريس بن شافع، وَكَانَ التَّارِيخُ مَذْكُورًا فَأُنْسِيتُهُ انْتَهَى. [ذِكْرُ مَا وَقَعَ لِحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيِّ مِنَ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ] قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " بِالِانْتِصَارِ لِمَا فِي الْإِحْيَاءِ مِنَ الْأَسْرَارِ " مَا نَصُّهُ: سَأَلْتَ - يَسَّرَكَ اللَّهُ لِمَرَاتِبِ الْعِلْمِ تَصْعَدُ مَرَاقِيَهَا، وَقَرَّبَ لَكَ مَقَامَاتِ الْوِلَايَةِ تَحِلُّ مَعَاليَهَا - عَنْ بَعْضِ مَا وَقَعَ فِي الْإِمْلَاءِ الْمُلَقَّبِ بِالْإِحْيَاءِ، مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى مَنْ حُجِبَ فَهْمُهُ، وَقَصُرَ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَفُزْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحُظُوظِ الْمَلَكِيَّةِ قَدَحُهُ وَسَهْمُهُ، وَأَظْهَرْتَ التَّحَزُّنَ لِمَا غَاشَّ بِهِ شُرَكَاءُ الطَّغَامِ وَأَمْثَالُ الْأَنْعَامِ، وَأَتْبَاعُ الْأَعْوَامِ، وَسُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، وَعَارُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى طَعَنُوا عَلَيْهِ، وَنَهَوْا عَنْ قِرَاءَاتِهِ، وَمُطَالَعَتِهِ، وَأَفْتَوْا بِمُجَرَّدِ الْهَوَى عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ بِاطِّرَاحِهِ وَمُنَابَذَتِهِ، وَنَسَبُوا مُمْلِيهِ إِلَى ضَلَالٍ وَإِضْلَالٍ، وَنَبَذُوا قُرَّاءَهُ وَمُنْتَحِلِيهِ بِزَيْغٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَاخْتِلَالٍ، فَإِلَى اللَّهِ انْصِرَافُهُمْ وَمَآلُهُمْ، وَعَلَيْهِ فِي الْعَرْضِ الْأَكْبَرِ إِيقَافُهُمْ وَحِسَابُهُمْ، فَسَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] ، بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53] وَلَا عَجَبَ فَقَدْ ثَوَى أَدِلَّاءُ الطَّرِيقِ، وَذَهَبَ أَرْبَابُ التَّحْقِيقِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْغَالِبِ إِلَّا أَهْلُ الزُّورِ وَالْفُسُوقِ، إِلَى أَنْ قَالَ: حُجِبُوا عَنِ الْحَقِيقَةِ بِأَرْبَعَةٍ: الْجَهْلِ، وَالْإِصْرَارِ، وَمَحَبَّةِ الدُّنْيَا، وَالْإِظْهَارِ، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، فَكَانَ قَدْ جَمَعَ الْخَلَائِقَ فِي صَعِيدٍ، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، (فَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَلَا تُطِعْ كُلَّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ، {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: 35] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً - وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 118 - 109] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]- هَذَا نَصُّ الْغَزَالِيِّ بِحُرُوفِهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي دِمَشْقَ أَنَّ الشَّيْخَ تقي الدين بن الصلاح أَفْتَى بِالْمَنْعِ مِنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام أَفْتَى بِالْمَنْعِ مِنْهَا، فَعَارَضَهُ ابن الصلاح، وَرَجَعَ عَمَّا أَفْتَى بِهِ أَوَّلًا، وَأَلَّفَ كُرَّاسَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10] ، فَأَلَّفَ الشيخ عز الدين كُرَّاسَةً فِي الرَّدِّ عَلَى ابن الصلاح، وَقَالَ فِيهَا: وَأَمَّا ضَرْبُهُ لِيَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10] فَأَنَا إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنْ شَيْءٍ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ أبو شامة فِي كِتَابِهِ الْبَاعِثِ عَلَى إِنْكَارِ الْبِدَعِ وَالْحَوَادِثِ، وَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ ضَرَبُوا لِابْنِ الصَّلَاحِ الْمَثَلَ بِقَوْلِ عائشة فِي حَقِّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا وَرَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى صَلَاةَ النَّافِلَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَأَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، فَرَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ فَلَمْ يَنْهَهُمْ، فَقَالَ لَهُ مَنْ مَعَهُ: أَلَا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ: لَا أَكُونُ مِمَّنْ نَهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ أُمِرَ بِصَلَاةٍ فِي وَقْتِ كَرَاهَةٍ، فَقَامَ فَصَلَّى، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا أَكُونُ مِمَّنْ إِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ. فَصْلٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ هَذَا الْأَمْرُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْإِنْشَاءِ - قَالَ ابن الأثير فِي كِتَابِهِ الْمَثَلِ السَّائِرِ - يَفْتَقِرُ صَاحِبُ هَذَا الْفَنِّ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْآلَاتِ: الْأَوَّلُ مَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، الثَّانِي: مَعْرِفَةُ اللُّغَةِ، الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ أَمْثَالِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِهِمْ، وَمَعْرِفَةُ الْوَقَائِعِ الَّتِي جَاءَتْ فِي حَوَادِثَ خَاصَّةٍ بِأَقْوَامٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَمْثَالِ، الرَّابِعُ: الِاطِّلَاعُ عَلَى تَأْلِيفَاتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَرْبَابِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ الْمَنْظُومِ مِنْهُ وَالْمَنْثُورِ، وَالتَّحَفُّظُ لِلْكَثِيرِ مِنْهُ، الْخَامِسُ: مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، السَّادِسُ: حِفْظُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالتَّدَرُّبُ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَإِدْرَاجُهُ فِي مَطَاوِي كَلَامِهِ، السَّابِعُ: حِفْظُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسُّلُوكُ بِهَا مَسْلَكَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي الِاسْتِعْمَالِ انْتَهَى. وَقَدْ أَطْبَقَ أَرْبَابُ الْفَنِّ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَاسْتِعْمَالِهِ فِي مَطَاوِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَالْمَقَامَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِيهِمْ أَئِمَّةٌ فُقَهَاءُ كِبَارٌ وَمُحَدِّثُونَ وَزُهَّادٌ وَوَرِعُونَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وَقَدْ أَلَّفَ الحريري - صَاحِبُ الْمَقَامَاتِ - كِتَابًا سَمَّاهُ " تَوْشِيحَ الْبَيَانِ بِالْمُلْتَقَطِ مِنَ الْقُرْآنِ " قَالَ فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ أَشَرْتَ أَيُّهَا الْحَبْرُ الْبَرُّ إِلَى أَنْ أَلْتَقِطَ لَكَ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي أَخْرَسَ الْفُصَحَاءَ، وَأَفْحَمَ الْبُلَغَاءَ مَا يُوَشِّحُ بِهِ الْمُتَمَثِّلُ لَفْظَهُ، وَالْوَاعِظُ وَعْظَهُ، وَالْكَاتِبُ كُتُبَهُ، وَالْخَاطِبُ خُطَبَهُ، فَامْتَثَلْتُ أَمْرَكَ بِالِانْقِيَادِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِقُصُورِ شَأْوِ الِارْتِيَادِ عَنِ اسْتِغْرَاقِ هَذَا الْمُرَادِ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى جَوَامِعِ الْمَوَادِّ إِذْ كَانَتْ أَسْرَارُ الْقُرْآنِ لَا يُدْرَكُ غَوْرُهَا، وَعَجَائِبُهُ لَا يَزَالُ يُنْمَى نُورُهَا، وَنُورُهَا - إِلَى أَنْ قَالَ: وَهَا أَنَا قَدْ جَمَعْتُ لَكَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ وَالدُّرِّ الْمُلْتَقَطِ مَا رَجَوْتُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ رِضَا الْبَارِي وَارْتِضَاءِ الْقَارِي. [ذِكْرُ مَا اسْتَعْمَلَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي خُطْبَةِ كِتَابِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ مِنْ تَضْمِينِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ] قَالَ: فَمِنْهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ مَنْ أَحَبَّ حُبَّ الْخَيْرِ، وَسَارَ عَلَى مِنْهَاجِهِ أَحْسَنَ سَيْرٍ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَسَيِّدُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ تَقَدَّمَ هَذِهِ الْفِرْقَةَ تَقَدُّمَ النَّصِّ عَلَى الْقِيَاسِ، وَسَبَقَ وَهِيَ تُنَادِيهِ مَا فِي وُقُوفِكَ سَاعَةً مِنْ بَاسٍ، وَتَصَدَّرَ وَلَوْ عُورِضَ لَقَالَ لِسَانُ الْحَالِ الْحَقُّ: مُرُوا أبا بكر فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَنْفَقَ مِنْ خَزَائِنِ عِلْمِهِ، وَلَمْ يَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا هَكَذَا هَكَذَا، وَإِلَّا فَلَا لَا - إِلَى أَنْ قَالَ: وَجَاءَ هَذَا الْكِتَابُ عَلَى وَفْقِ مَطْلُوبِهِ، كَامِلًا فِي أُسْلُوبِهِ، شَامِلًا لِلْفَضْلِ بِعِيدِهِ وَقَرِيبِهِ، شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَوَفَاءً لِمَا لِلْعِلْمِ فِي ذِمَّةِ بَنِي الدُّهُورِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَحَرَّرْتُهُ فِي الدُّجَى بِشَهَادَةِ النُّجُومِ، وَلَاقَيْتُ عُسْرَهُ بِهِمَّةٍ نَبَذَتْ سُهَيْلًا بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومُ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَرَاحَ الْفَقِيهُ الْمُسْتَفِيدُ يُبْدِي وَيُعِيدُ، وَلَا مَزِيدَ عَلَى تَحْقِيقِهِ، وَيُنْفِقُ سُوقَهُ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَسْكَعُ فِي ظَلَامِ الشُّبُهَاتِ غَيْرَ صُبْحِ فَضْلِهِ، اسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ، وَكَمُلَ كِتَابًا طَبَخَ قُلُوبَ الْحَاسِدِينَ لَمَّا اسْتَوَى، وَسَحَابًا لَا تُغَيَّرُ مَعَهُ الْأَغْرَاضُ الْأُمَوِيَّةُ قَائِلَةً: لَا نَبْرَحُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى - إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَا آمَنُ طَائِفَةً تَطُوفُ عَلَى مَحَاسِنِهِ فَتَأْخُذَهَا وَتَدَّعِيَهَا وَتَدْخُلَ وَتَخْرُجَ، وَلَيْتَ لَهَا أُذُنًا وَاعِيَةً فَتَعِيَهَا، وَتَسْرَحَ فِي رَوْضِهِ فَتَجْنِيَ عَلَى مُصَنَّفِهِ، وَتَجْنِيَ كُلَّ زَهْرٍ وَتَسْرِقَ ثَمَرَهُ، وَتَقُولَ: لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ - إِلَى أَنْ قَالَ: لَعِبَ بِهَا شَيْطَانُ الْحَسَدِ، وَشَدَّ وَثَاقَهَا الَّذِي لَا يُوثِقُ بِهِ حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 [ذِكْرُ مَا اسْتَعْمَلَهُ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنْ ذَلِكَ فِي خُطْبَةِ كِتَابِ عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ فِي شَرْحِ تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ] قَالَ: تَشْتَمِلُ عَلَى جِنَاسِ الْقَلْبِ، فَتَسْكُنُ بِمَدِّ النَّصْرِ لَهَبًا يَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، إِذَا الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، وَاشْتَدَّ كَرْبُ ذَلِكَ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَرَدُوا مَنَاهِلَ هَذَا الْعِلْمِ، فَصَدَرُوا عَنْهَا بِمِلْءِ سِجِلِّهِمْ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ أَجَلَبُوا عَلَيْهِ بِخَيْلِهِمْ وَرَجِلِهِمْ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَوْلَى لَهُ فَأَوْلَى أَنْ يُعْطَى الْقَوْسَ بَارِيهَا، كَأَنَّمَا ضُرِبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِسُورٍ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَقِيلَ: ارْجِعْ وَرَاءَكَ فَالْتَمِسْ نُورًا، إِنَّمَا أَنْتَ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدٍ، وَلَوْ أُوتِيَ رُشْدَهُ لَأَنِفَ أَنْ يَسْخَرَ مِنْهُ السَّاخِرُ، وَاغْتَرَفَ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ الزَّاخِرِ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ الَّذِي يَلْتَقِطُ مِنْهُ جَوَاهِرَ الْمَفَاخِرِ، وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ بِشِرَاعِ الْعِلْمِ مَوَاخِرَ. [ذِكْرُ مَا اسْتَعْمَلَهُ الْعَلَّامَةُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ الْوَرْدِيِّ فِي مَقَامَتِهِ الْحُرْقَةِ لِلْخِرْقَةِ] مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أُسْقِطَ فِي يَوْمٍ مَشْهُودٍ تِسْعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الشُّهُودِ، فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مَنْ يَذُمُّ هَذَا لِلْبِرَازِ الْجَرْيَ عَلَى تَخْرِيقِ الْخِرْقَةِ - إِلَى أَنْ قَالَ: سَطْوَةً وَعُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ، وَعُلُوًّا وَخَوْفًا عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، بَلْ مَكْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالُوا: كَبُرَتْ كَلِمَةٌ وَاسْتَحَلُّوا نَسَبَهُ وَشَتْمَهُ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي أَدْيَانِهِمْ - إِلَى أَنْ قَالَ: لَقَدْ بَالَغَ فِي الْخَتْلِ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ - إِلَى أَنْ قَالَ: مَا أَوْلَى أَحْكَامِهِ بِالِانْتِقَاضِ، وَمَا أَحَقَّهُ بِقَوْلِ السَّحَرَةِ لِفِرْعَوْنَ: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] ، وَلَوْلَا الْعَافِيَةُ لَتَوَهَّمْتُ أَنَّ (مَا) هَاهُنَا نَافِيةٌ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَكَمْ صَاحِبَ مَكْتُوبٍ يَبْكِي عَلَى حَالِهِ؟ كَأَنَّمَا أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَذَهَبَ حُبُّ الذَّهَبِ دُهْنَ ذِهْنِهِ وَأَفْنَى {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6]- إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَا قُوَّةَ لَنَا مِنْ خَمْرَتِهِ وَلَا حَوْلَ، لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ - إِلَى أَنْ قَالَ: سَكِرَ بِخَمْرِ الْوِلَايَةِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَةً - إِلَى أَنْ قَالَ شِعْرًا: جَرَحْتَ الْأَبْرِيَاءَ وَأَنْتَ قَاضٍ ... عَلَى الْأَعْرَاضِ بِالْأَغْرَاضِ ضَارِي أَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ ... وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 - إِلَى أَنْ قَالَ: لَقَدْ غَاظَنِي عَامِّيٌّ يَعْلُو بِنَفْسِهِ، وَالْعَامَّةُ عَمًى، أَفَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ - إِلَى أَنْ قَالَ: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَاحْسِمُوا مَادَّةَ هَذَا الْكَذَّابِ الْمُبِيرِ، {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] . وَقَالَ ابن الوردي أَيْضًا فِي مَقَامَةِ الطَّاعُونِ: وَقَهَرَ خَلَفًا بِالْقَاهِرَةِ، وَتَنَبَّهَتْ عَيْنُهُ لِمِصْرَ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي مَنْطِقِ الطَّيْرِ فِي الْبَازِ: وَحَنَّتِ الْجَوَارِحُ إِلَيَّ، وَبَعَثَ إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ مِنْ عَيْنِي - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْحَمَامَةِ: حَمَلَتِ الْأَمَانَةَ الَّتِي أَبَتِ الْجِبَالُ عَنْ حَمْلِهَا، وَامْتَثَلَتْ مَرْسُومَ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . فَمَهْمَا حَدَثَ عَلَى الْبُعْدِ مِنْ أَخْصَامِكَ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْبَنَفْسَجِ: فَأَنَا فِي الْحَالَيْنِ مُسْتَطَابٌ، وَلَا رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ إِلَّا فِي كِتَابٍ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْبُومِ: أَلَمْ تَرَ مَا بِالْحَيَوَانِ يَفْعَلُونَ؟ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ، أَتَدْرِي مَنْ يَرْزُقُ الْبُومَ؟ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فَلَا تَغْتَرَّ بِمَا إِدْرَاكُهُ فَوْتٌ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْمَنْثُورِ: وَفِي اخْتِلَافِ صِبْغَتِي، وَاتِّحَادِ طِينَتِي دَلِيلٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ جِبِلَّتِي، الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ مُضْغَةٍ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الرَّيْحَانِ: اعْتَدَلَ لَوْنِي، وَلَطُفَ كَوْنِي، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِذْ كَانَ النَّمَّامُ مِنْ جِنْسِي، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ لِلتَّوْبَةِ مُنْتَهِيًا، وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْخُفَّاشِ: وَبِاللَّيْلِ أَكْشِفُ الْغِطَا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هُوَ أَشَدُّ وَطْأً - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الدِّيكِ: أَنَا قَدْ أَذَّنْتُ فَأَقَمْتُ الصَّلَاةَ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ، أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا تَعْصُوهُ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ كَمْ مَنَحْتُ أَهْلَ الدَّارِ إِخَائِي وَوَلَائِي، وَهُمْ يَذْبَحُونَ أَبْنَائِي وَيَسْتَحْيُونَ نِسَائِي - إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَزَّقُوا قَبَاءَهُ الْمُلَوَّنَ، فَاصْبِرْ وَاحْتَسِبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْخُزَامَى: وَاهِينَ بِالدَّوْسِ وَاللَّمْسِ، وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الْبَطِّ: فَمَا هُوَ بِمَاشٍ عَلَى الْمَاءِ إِلَيْهِ، وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي النَّمْلِ: أَتَدْرِي مَنْ أَعْطَى النَّمْلَ هَذِي الْقُوَى؟ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى - إِلَى أَنْ قَالَ: فَانْتَفَخَ الشَّقِيقُ فِي عُرُوقِهِ، فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَسِرْتُ سِرَّ سَيْرٍ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ، لَا تَكُنْ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بَطَنَ كُفْرُهُمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وَظَهَرَ إِسْلَامُهُمْ، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْفَرَاشُ فَلَا تَتَّبِعُ الْهَوَى، وَلَا تَكْذِبُ فِي الدَّعْوَى - إِلَى أَنْ قَالَ: فَتَلْقَى نَفْسُكَ فِيهَا غُرُورًا، وَتَحْسَبُ النَّارَ نُورًا، فَتَدْعُو ثُبُورًا وَتَصْلَى سَعِيرًا - إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ كُنْتُمْ مِنَ النَّسَكَةِ فَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، بَلَى مَنْ أَرَادَ الْفَخَارَ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ - إِلَى أَنْ قَالَ: نَحْنُ مِنَ الْمَوْتِ عَلَى يَقِينٍ قُلْ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَفِي كِتَابٍ مُنَزَّلٍ رَأَيْتُمُوهَا أَمْ عَنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ تَلَقَّيْتُمُوهَا؟ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا - إِلَى أَنْ قَالَ: تَحْسُدُنِي عَلَى سَوَادِ الثِّيَابِ، وَقَالَ: يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ؟ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَوْ صَحَّتْ حَتَّى تَنْشَقَّ، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَهَوِّنِ الْأَشْيَاءَ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا. وَقَالَ ابن الوردي أَيْضًا فِي مُفْتَتَحِ كِتَابِ خَرِيدَةِ الْعَجَائِبِ، وَفَرِيدَةِ الْغَرَائِبِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ غَافِرِ الذَّنْبِ، قَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ، عَالِمِ الْغَيْبِ رَاحِمِ الشَّيْبِ مُنْزِلِ الْكِتَابِ - إِلَى أَنْ قَالَ: سَاطِحِ الْغَبْرَاءِ عَلَى مَتْنِ الْمَاءِ، فَيُمْسِكُهُ بِحِكْمَتِهِ عَنِ الِاضْطِرَابِ، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالْمَآبِ. وَقَالَ ابن الوردي أَيْضًا فِي مُفَاخَرَةِ السَّيْفِ وَالْقَلَمِ: فَقَالَ الْقَلَمُ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا - إِلَى أَنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الْخَافِضِ الرَّافِعِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ - إِلَى أَنْ قَالَ: الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِهِ، وَلَا سِيَّمَا حِينَ يُسَلُّ فَتَرَى وَدْقَ الدَّمِ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ، مَا هُوَ كَالْقَلَمِ الْمُشَبَّهِ بِقَوْمٍ عُرُّوا عَنْ لَبُوسِهِمْ، ثُمَّ نَكَسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَكَأَنَّ السَّيْفَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، أَوْ كَوْكَبٍ رَاشِقٍ - إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ الْقَلَمُ: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ، يُفَاخِرُ وَهُوَ قَائِمٌ عَنِ الشِّمَالِ الْجَالِسَ عَنِ الْيَمِينِ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَنْتَ لِلرَّهْبِ وَأَنَا لِلرُّغْبِ. وَإِذَا كَانَ بَصَرُكَ حَدِيدًا فَبَصَرِي مَا ذَهَبَ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَطَالَمَا أَمَرَّتْ بَعْضَ فِرَاخِي وَهِيَ السِّكِّينُ، فَأَصْبَحَتْ مِنَ النَّفَّاثَاتِ فِي عُقَدِكَ يَا مِسْكِينُ - إِلَى أَنْ قَالَ: تَفْصِلُ مَا لَا يُفْصَلُ، وَتَقْطَعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، لَا جَرَمَ سَمْرُ السَّيْفِ وَصَقْلُ قَفَاهُ، وَسُقِيَ مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاهُ - إِلَى أَنْ قَالَ: أَنَا مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَالْقَلَمُ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَتَلَا ذُو الْقَلَمِ لِقَلَمِهِ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَتَلَا صَاحِبُ السَّيْفِ لِسَيْفِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، فَتَلَا ذُو الْقَلَمِ لِقَلَمِهِ: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، قَالَ الْقَلَمُ: أَمَا وَكِتَابِي الْمَسْطُورِ وَبَيْتِي الْمَعْمُورِ - إِلَى أَنْ قَالَ: مَعَ أَنِّي مَا أَلَوْتُكَ نُصْحًا أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي خُطْبَةِ كِتَابِ الشِّفَا: وَكَذَّبَ بِهِ وَصَدَفَ عَنْ آيَاتِهِ مَنْ كَتَبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاءَ حَتْمًا، وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى، وَقَالَ أَيْضًا: حَمَّلْتَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا إِمْرًا، وَأَرْهَقْتَنِي فِيمَا نَدَبْتَنِي إِلَيْهِ عُسْرًا. وَقَالَ الخطيب ابن نباتة الْقَدِيمُ فِي خُطْبَةٍ لَهُ: فَيَا أَيُّهَا الْغَفَلَةُ الْمُطْرِقُونَ، أَمَا أَنْتُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُصَدِّقُونَ، مَا لَكُمْ لَا تُشْفِقُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ. وَقَالَ عبد المؤمن الأصفهاني - صَاحِبُ أَطْبَاقِ الذَّهَبِ فِي الْوَعْظِ -: فَمَنْ عَايَنَ تَلَوُّنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَا يَغْتَرُّ بِدَهْرِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الثَّرَى مَضْجَعُهُ لَا يَمْرَحُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَا قَوْمُ لَا تَرْكُضُوا خَيْلَ الْخُيَلَاءِ فِي مَيْدَانِ الْعَرْضِ، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ. وَقَالَ العماد الكاتب فِي كِتَابِ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَاسْتِخْلَاصِهَا مِنْ يَدِ الْفِرِنْجِ عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ صلاح الدين بن أيوب: وَالْفَرْقُ بَيْنَ فُتُوحِ الشَّامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَبَيْنَ فُتُوحِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَرْقٌ يَتَبَيَّنُ تَبَيُّنَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَالشَّامُ الْآنَ قَدْ فُتِحَ حَيْثُ الْإِسْلَامُ قَدْ وَهَنَ الْعَظْمُ مِنْهُ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا، وَهُرِيقَ شَبَابُهُ وَقَدْ عَادَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، وَطَالَ الْأَمَدُ عَلَى الْقُلُوبِ فَقَسَتْ، وَرَانَتِ الْفِتَنُ عَلَى الْبَصَائِرِ فَطُمِسَتْ، وَعَرَضُ هَذَا الْأَدْنَى، قَدْ أَعْمَى وَأَصَمَّ حُبُّهُ، وَمَتَاعُ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَلِيلُ قَدْ شَغَلَ عَنِ الْحَظِّ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ كَسْبُهُ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَأَمَدَّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَكُلُّ مُعَادٍ مُعَادِي إِلَّا هَذَا الْمُعَادِيَ، وَكُلُّ مِدَادٍ يُكْتَبُ بِهِ أَسْوَدُ إِلَّا هَذَا الْمِدَادَ، أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَسَارُوا مُدَجَّجِينَ، وَسَرَوْا مُدْلِجِينَ، وَصَبَّحُوا صُفُورَتَهُ، وَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. وَقَالَ الْإِمَامُ ضِيَاءُ الدِّينِ بْنُ الْأَثِيرِ فِي رِسَالَةٍ: وَعِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ إِذَا حَلُّوا بِأَرْضٍ أَمِنَتْ وَسَكَنَتْ، وَأَخَذَتْ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ. وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: وَقَلَّمَا وَلِيَ امْرُؤٌ قَوْمًا فَشَكَرُوا أَثَرَ مَقَامِهِ، وَتَأَلَّمُوا لِفَقْدِ أَيَّامِهِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَقَالَ فِي تَقْلِيدِ حُسْنِهِ: فَابْدَأُوا أَوَّلًا بِالنَّظَرِ فِي الْعَقَائِدِ وَاهْدِ فِيهَا إِلَى سَبِيلِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الَّذِي هُوَ سَبِيلٌ وَاحِدٌ، وَتِلْكَ الْفِرْقَةُ هِيَ السَّلَفُ الصَّالِحُ الَّذِينَ لَزِمُوا مَوْطِنَ الْحَقِّ فَأَقَامُوا، وَقَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، وَمَنْ عَدَاهُمْ فَشُعَبٌ كَانُوا دِيَانًا، وَعَبَدُوا مِنَ الْأَهْوَاءِ أَوْثَانًا، وَاتَّبَعُوا مَا لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا، وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَخُذْهُمْ بِآلَةِ التَّعْزِيرِ، الَّتِي هِيَ نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى - إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا التَّسْعِيرُ فَإِنَّهُ وَإِنْ آثَرَهُ الْقَاطِنُونَ، وَحَكَمَ بِهِ الْقَاسِطُونَ قِيلَ: إِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْفَقِيرِ فِي تَيْسِيرِ الْعَسِيرِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ نِدًّا لِلَّهِ فِي خَفْضِ مَا رَفَعَ، وَبَذْلِ مَا مَنَعَ، فَقِفْ أَنْتَ حَيْثُ أَوْقَفَكَ حُكْمُ الْحَقِّ، وَدَعْ مَا يَعِنُّ لَكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْخَلْقِ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ تَبِعَ الرَّأْيَ وَالنَّظَرَ، وَتَرَكَ الْآيَةَ وَالْخَبَرَ، فَحِكْمَةُ اللَّهِ مَطْوِيَّةٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَسْتَنْبِطُهُ ذُو الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ، وَلَا يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ ذُو الْعَقْلِ بِعَقْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ تَشْفَعُ إِلَى الْخَلِيفَةِ: وَحَبَاهُ مِنْ عُمْرِ الزَّمَانِ بِعَقْدِ أَلْفٍ وَمِنْ خُلُقِهِ بِعَقِيدَةِ الْأُلْفِ، وَجَعَلَ عَقِبَهُ كَلِمَةً بَاقِيَةً إِذَا أَصْبَحَتِ الْأَعْقَابُ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ يَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ فِي رَجَائِهِ هَذَا مِنَ الْخَائِبِينَ، وَأَنْ يُقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، وَلَيْسَ هُنَا إِلَّا عَفْوُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى سَفِيرٍ، وَفِيهِ يَصِحُّ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ. وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى عَنِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ غَازِي إِلَى الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ: وَلَمَّا بَلَغَ الْخَادِمُ مَحْضَرَهُ قَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، وَعَدَّ يَوْمَهُ بِالدَّهْرِ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَيَّامِ يَوْمًا. وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: فَعَبِقَتِ الْأَسْمَاعُ بِهَذَا الْخَبَرِ الْأَرِيجِ، وَاهْتَزَّتْ لَهُ الْآمَالُ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجِ بَهِيجٍ. وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: فَأَصْبَحَتْ يَدِي حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، وَأَصْبَحَ خَاطِرِي أَبَا جَهْلٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَبَا لَهَبٍ، وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: وَمَحَاهُمُ الْخَطْبُ وَلَمْ يَكُنِ الْخَطْبُ بِمُرِيبٍ، وَكَانَ مَوْعِدُهُمُ الصُّبْحَ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ، وَقَالَ فِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: فَظَنَّ فِي سَوْرَةِ قُوَّةِ الِاحْتِمَاءِ وَقَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، وَقَالَ فِي أُخْرَى: وَعِنْدَ ذَلِكَ عَمَدَ الْعَبْدُ إِلَى مَا أُمِيتَ بِهِ مِنْ عَدْلٍ فَجَعَلَهُ حِبَاءً مَنْشُورًا، وَقَدِمَ إِلَى مَا عَمِلَ بِهَا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلَهُ هَبَاءً مَنْثُورًا - إِلَى أَنْ قَالَ: تَبِعْتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَابَدَ أَسْبَابًا مِنْهَا آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَيَرْجُو الْعَبْدُ أَنَّ تَكُونَ وِلَايَتُهُ هَذِهِ وِلَايَةَ بِرٍّ وَإِلْطَافٍ، وَأَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ النَّاسَ أَعْوَامًا سِمَانًا يَأْكُلْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِجَافِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أَصَابَ اللَّهُ بِهِ قَوْمًا إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَامَهُ هُوَ الْعَامَ الَّذِي فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ، وَلَقَدْ وَجَدَ مِنْ أَلْطَافِ اللَّهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مَا يُقَالُ مَعَهُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى، فَمَا يُرِيهِ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا مَقَامًا، وَكَذَلِكَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا - إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلْ إِلَيْهِمْ حَسْبَمَا عَنَّ لَهُمْ مِنْ مَصَالِحِهِمْ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ تَذْكِيرًا - إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَهَّدَ لَهُمْ قَوَاعِدَ الْأَحْكَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وَأَوْضَاعَهَا مِنْ نُصُوصِ الْآيَاتِ وَأَلْمَاعِهَا ; لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، فَمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فَهُوَ فِي الدَّارَيْنِ حَمِيدٌ وَسَعِيدٌ، وَمَنْ لَمْ يَرْفَعْ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، وَأَطْفَأَ نِبْرَاسَهُ يَعِشْ ذَمِيمًا وَيَصْلَى سَعِيرًا. وَقَالَ ابن المنير فِي الِانْتِصَافِ فِي مَسْأَلَةٍ رَدَّ فِيهَا عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ مَا نَصُّهُ: وَلَوْ نَظَرَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ إِلَى جَهَالَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَضَلَالِهَا لَانْبَعَثَ إِلَى حَدَائِقِ السُّنَّةِ وَظِلَالِهَا، وَلَتَزَحْزَحَ عَنْ مَزَالِقِ الْبِدْعَةِ وَمَزَالِّهَا، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ ; لِيَعْلَمَ أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقَّ بِالْأَمْنِ وَالدُّخُولِ فِي الْعِلْمِ. وَقَالَ ابن دقيق العيد فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ الْإِلْمَامِ: وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا لِي مِنْ وَصْلِ مَاضِيهِ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَلَا مُوجِبًا لِأَنْ أَقْطَعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. وَقَالَ ابْنُ السَّاعَاتِيِّ -مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ- فِي شَرْحِ كِتَابِهِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ: فَكَانَتْ حَالَةً عَجَزَتِ الْبُلَغَاءُ عَنْ نَعْتِهَا، وَنَطَقَتْ بِهَا أَلْسُنٌ طَالَتْ مُدَّةُ صَمْتِهَا، وَمَا يُنْعِمُ اللَّهُ بِنِعْمَةٍ إِلَّا وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا. وَقَالَ الشيخ جمال الدين الأسنوي فِي خُطَبِهِ الْمُهِمَّاتِ: وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُنْصِفُ هَذَا التَّصْنِيفَ، وَأَمْعَنَ النَّظَرَ فِي هَذَا التَّأْلِيفِ حَكَمَ أَنَّهُ لِنَظْمِ الْكِتَابَيْنِ كَالْقَوَافِي، وَأَنَّ هَذَا الثَّالِثَ هُوَ ثَالِثُ الْأَثَافِيِّ، وَرُبَّمَا تَأَمَّلَهُ بَعْضُ أَبْنَاءِ الْوَقْتِ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ الْخِزْيُ وَالْمَقْتُ، وَاتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَشَيْطَانَهُ مَوْلَاهُ، وَأَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَ الْحَسَدِ وَسِرْبَالَ الشَّقَاوَةِ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَنَظَرَ إِلَيْهِ بِطَرْفٍ خَفِيٍّ، وَصُمَّ عَنْ إِدْرَاكِ مَا فِيهِ وَعَمِيَ، كَمَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ الْمَوْضُوعِ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمُسَمَّى بِالْجَوَاهِرِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا أَنْ أَشْفَعَ بِالثَّانِي الْأَوَّلَ، وَلَا قَاطِعًا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. فَصْلٌ: وَمِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ اسْتِعْمَالًا لِذَلِكَ الصُّوفِيَّةُ، وَقَدْ يُسَمَّى ضَرْبَ مَثَلٍ، وَقَدْ يُسَمَّى إِشَارَةً، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَوْرِدِ، وَكُتُبُهُمْ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ وَمُحَاوَرَاتُهُمْ وَمُخَاطَبَاتُهُمْ حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَقَامَ بُرْهَةً لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُخَاطِبُ أَحَدًا إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي مُحَاوَرَاتِهِ: الجنيد، والسري، ومعروف الكرخي، والشبلي. حَضَرَ شَيْخٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ سَمَاعًا فَحَصَلَ لِبَعْضِ الْمُرِيدِينَ وَجْدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، فَسَكَنَ عَنِ الْقِيَامِ. وَدَخَلَ آخَرُ عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُمْ سُكُوتٌ، فَقَالَ: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ. وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَاسْتَحْقَرَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 فِي عَيْنِهِ فَقَالَ سِرًّا: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] فَاطَّلَعَ الْوَلِيٌّ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ فَقَالَ لَهُ: يَا فُلَانُ، اقْرَأْ مَا بَعْدَهَا. وَفِي لَطَائِفِ الْمِنَنِ لِلشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله: قَالَ الجنيد: التَّصْدِيقُ بِعِلْمِنَا هَذَا وِلَايَةٌ، وَإِذَا فَاتَتْكَ الْمِنَّةُ فِي نَفْسِكَ فَلَا يَفُتْكَ أَنْ تُصَدِّقَ بِهَا فِي غَيْرِكَ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ. وَقَالَ الشَّيْخُ أبو الحسن الشاذلي فِي حِزْبِهِ الْمَشْهُورِ: نَسْأَلُكَ الْعِصْمَةَ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْخَطَرَاتِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ السَّاتِرَةِ لِلْقُلُوبِ عَنْ مُطَالَعَةِ الْغُيُوبِ، فَقَدِ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا لِيَقُولَ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا. وَقَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن عطاء الله فِي الْحِكَمِ: مَا أَرَادَتْ هِمَمُ سَالِكٍ أَنْ تَقِفَ عِنْدَمَا كَشَفَتْ لَهَا وَنَادَتْهَا هَوَاتِفُ الْحَقِيقَةِ الَّذِي تَطَلَّبَ أَمَامَكَ وَلَا تَبَرَّجَتْ ظَوَاهِرُ الْمَكْنُونَاتِ إِلَّا نَادَتْكَ بِهِ حَقَائِقُهَا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ، وَقَالَ: لَا تَرْحَلْ مِنْ كَوْنٍ إِلَى كَوْنٍ فَتَكُونَ كَحِمَارِ الرَّحَا يَسِيرُ وَالَّذِي ارْتَحَلَ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي ارْتَحَلَ مِنْهُ، وَلَكِنِ ارْحَلْ مِنَ الْأَكْوَانِ إِلَى الْمُكَوِّنِ، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى، وَقَالَ: لَا تُفْرِحْكَ الطَّاعَةُ ; لِأَنَّهَا بَرَزَتْ مِنْكَ، وَافْرَحْ بِهَا ; لِأَنَّهَا بَرَزَتْ مِنَ اللَّهِ إِلَيْكَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، وَقَالَ: قَوْمٌ أَقَامَهُمُ الْحَقُّ لِخِدْمَتِهِ وَقَوْمٌ اخْتَصَّهُمْ بِمَحَبَّتِهِ كُلًّا نَمُدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا، وَقَالَ: رُبَّمَا أَفَادَكَ فِي لَيْلِ الْقَبْضِ مَا لَمْ تَسْتَفِدْهُ فِي إِشْرَاقِ نَهَارِ الْبَسْطِ، لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا. وَقَالَ: الْحَقَائِقُ لَا تَرِدُ فِي حَالِ التَّجَلِّي مُجْمَلَةً وَبَعْدَ الْوَعْيِ يَكُونُ الْبَيَانُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، مَتَى وَرَدَتِ الْوَارِدَاتُ الْإِلَهِيَّةُ إِلَيْكَ هَدَتِ الْعَوَائِدَ عَلَيْكَ، إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا، وَقَالَ: الْوَارِدُ يَأْتِي مِنْ حَضْرَةِ قَهَّارٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يُصَادِمُهُ شَيْءٌ إِلَّا دَمَغَهُ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، وَقَالَ: بَلْ دَخَلُوا إِلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَمِنَ اللَّهِ وَإِلَى اللَّهِ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ; لِيَكُونَ نَظَرِي إِلَى حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ إِذَا أَدْخَلْتَنِي، وَاسْتِسْلَامِي وَانْقِيَادِي إِلَيْكَ إِذَا أَخْرَجْتَنِي، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا تَنْصُرُنِي وَتَنْصُرُ بِي. وَقَالَ السِّلَفِيُّ فِي بَعْضِ أَحْزَابِهِ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ جَعْفَرَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ السَّرَّاجِ النَّحْوِيَّ بِبَغْدَادَ يَقُولُ: رَأَيْتُ عَلَى أبي الحسن القزويني الزَّاهِدِ ثَوْبًا رَفِيعًا لَيِّنًا فَخَطَرَ بِبَالِي كَيْفَ مِثْلُهُ فِي زُهْدِهِ يَلْبَسُ مِثْلَ هَذَا، فَقَالَ فِي الْحَالِ بَعْدَ أَنْ نَظَرَ إِلَيَّ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، قَالَ: وَحَضَرْنَا عِنْدَهُ يَوْمًا لِقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ فَتَمَادَى بِنَا الْوَقْتُ إِلَى أَنْ وَصَلَتْ إِلَيْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الشَّمْسُ وَتَأَذَّيْنَا بِحَرِّهَا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ تَحَوَّلَ الشَّيْخُ إِلَى الظِّلِّ، فَقَالَ وَاللَّهِ فِي الْحَالِ: قُلْ نَارُ جَهَنَّمُ أَشَدُّ حَرًّا. فَصْلٌ: وَمِنْ مُصْطَلَحِ أَهْلِ فَنِّ الْبَلَاغَةِ أَنْ يُصَدِّرُوا إِنْشَاءَاتِهِمْ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِيهَا مُنَاسَبَةٌ لِمَا هُمْ بِصَدَدِهِ وَيُورِدُوهَا بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيرٍ، بِقَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ نَحْوِهِ لِتَكُونَ الْبَسْمَلَةُ مُلَاصِقَةً لِلْآيَةِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ، أَنْشَأَ الشهاب بن فضل الله صُورَةَ مُبَايَعَةٍ لِلْخَلِيفَةِ الحاكم بن المستكفي العباسي أَوْرَدَ صَدْرَهَا: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَقُرِئَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ وَمَشَايِخِ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَكَانُوا جَمًّا غَفِيرًا وَعَدَدًا كَثِيرًا، فَمَا مِنْهُمْ مَنْ أَبْدَى لِذَلِكَ نَكِيرًا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ. وَأَنْشَأَ الجمال اليعموري كِتَابَ بِشَارَةٍ بِخَلَاصِ دِمْيَاطَ مِنَ الْفِرِنْجِ بِحَضْرَةِ الشَّيْخِ عز الدين بن عبد السلام وَأَرْسَلَهُ إِلَى بَغْدَادَ لِحَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] . وَأَنْشَأَ ابن الأثير كِتَابًا عَنْ زَعِيمِ الْمَوْصِلِ إِلَى صَدْرِ الدِّينِ شَيْخِ الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ يُبَشِّرُهُ بِعَوْدِ مَمْلَكَتِهِ إِلَيْهِ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] وَأَنْشَأَ تَقْلِيدًا لِقَاضِي الْقُضَاةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15] ، وَأَنْشَأَ أَيْضًا رِسَالَةً فِي رَجُلٍ غَضِبَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ أَوْرَدَ صَدْرَهَا {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] . وَأَنْشَأَ الحافظ فتح الدين بن سيد الناس رِسَالَةً فِي صُلْحٍ بَيْنَ طَائِفَةٍ أَوْرَدَ فِي صَدْرِهَا: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] . وَأَنْشَأَ ابن الأثير كِتَابًا فِي تَهْنِئَةِ الْخَلِيفَةِ بِمَوْلُودٍ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] ، وَأَنْشَأَ كِتَابًا إِلَى أَخِيهِ العلامة مجد الدين صَاحِبِ جَامِعِ الْأُصُولِ يَذْكُرُ مُفَارَقَتَهُ مِصْرَ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وَأَنْشَأَ كِتَابًا إِلَى الْخَلِيفَةِ عَنِ الملك الأفضل حِينَ حُوصِرَتْ دِمَشْقُ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] ، وَأَنْشَأَ كِتَابًا إِلَى الْخَلِيفَةِ عَنِ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْ مَمَالِيكِهِ أَرَادُوا الْفَتْكَ بِهِ فَظَفِرَ بِهِمْ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] . وَأَنْشَأَ الكمال عبد الرزاق الأصبهاني مَقَامَةً فِي الْقَوْسِ أَوْرَدَ صَدْرَهَا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83] . وَكَتَبَ الشيخ علي بن وفا رِسَالَةً إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَوْرَدَ صَدْرَهَا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] . وَأَلَّفَ الحافظ الذهبي كِتَابًا فِي رَتَنٍ الَّذِي ادَّعَى الصُّحْبَةَ بَعْدَ السِّتِّمِائَةِ سَمَّاهُ كَسْرَ وَثَنِ رَتَنٍ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] . وَأَنْشَأَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ كِتَابَ بِشَارَةٍ بِفَتْحِ بِلَادِ النُّوبَةِ وَالسُّودَانِ لَمَّا غُزِيَتْ أَوْرَدَ صَدْرَهُ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء: 12] . وَأَنْشَأَ فخر الدين بن الدهان كِتَابًا إِلَى الْقَاضِي الْفَاضِلِ يَسْأَلُهُ الصُّلْحَ لِأَمِيرِ الْمَوَاصِلَةِ مَعَ السُّلْطَانِ صلاح الدين بن أيوب افْتَتَحَهُ بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] . وَأَعْظَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ وَأَفْضَلُ وَأَفْخَمُ وَأَكْمَلُ إِمَامُ الْعُلَمَاءِ وَالْبُلَغَاءِ إِمَامُنَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكَ الْبَرَاعَةِ، وَأَتَى بِوَاجِبِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَصَدَّرَ كِتَابَ الرِّسَالَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] وَبَنَى عَلَيْهَا الْخُطْبَةَ وَلَمْ يُصَدِّرْهَا بِقَوْلِهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، بَلْ وَصَلَهَا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ وَاجِبَهَا وَصَلُ الْآيَةِ بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَالَ: قَالَ اللَّهُ، وَنَحْوُهُ، ثُمَّ لَمَّا عَقَدَ الْأَبْوَابَ وَأَوْرَدَ الْآيَاتِ فِيهَا لِلِاحْتِجَاجِ صَدَّرَهَا بِقَوْلِهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَعْطَى كُلَّ مَقَامٍ حَقَّهُ وَوَفَّى كُلَّ مَوْضِعٍ قِسْطَهُ وَكَيْفَ لَا وَهُوَ إِمَامُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَرَاعَةِ وَالَّذِي يَقْتَدِي بِهِ أَكَابِرُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لِذَلِكَ مِنْ نُكْتَةٍ يَسْتَحْسِنُهَا أَهْلُ الذَّوْقِ أَوْ دَلِيلٍ مِنَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ يَطْرَبُ إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّوْقِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَمَّا النُّكْتَةُ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الْآيَةَ مَقَامَ خُطْبَةِ الْمَقَامَةِ أَوِ الرِّسَالَةِ أَوْ نَحْوِهَا بِجَامِعِ أَنَّهَا ذِكْرٌ وَالْخُطْبَةُ ذِكْرٌ، كَمَا جَعَلَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مَقَامَ خُطْبَةِ الْكِتَابِ فَافْتَتَحَ بِهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْآيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ نَاسَبَ أَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ بَلْ تَكُونُ مُلْصَقَةً بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ أَثْنَاءِ سُورَةٍ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُبَسْمِلَ وَيَقْرَأَ عَقِبَهَا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَرَادَهُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ إِذَا بَسْمَلَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ أَرَادَ إِيرَادَ آيَةٍ لِلِاحْتِجَاجِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ مَحْضَ الْقِرَاءَةِ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحَالٍ، وَلَوْ فَعَلَهُ عُدَّ بِدْعَةً وَخِلَافًا لَمَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْقِرَاءَاتِ فِي كُتُبِهِمْ، وَلِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرِدْ قَطُّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا مِنْ سَائِرِ الْأُمَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَقْرَءُوا مِنْ أَثْنَاءِ سُورَةٍ يَقُولُونَ عَقِبَ الْبَسْمَلَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُفْتَتَحِ قِرَاءَتِهِمْ، بَلْ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْآيَةَ مَوْصُولَةً بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولُوا: قَالَ اللَّهُ، إِذَا أَرَادُوا إِيرَادَ آيَةٍ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى حُكْمٍ أَوْ نَحْوِهِ يَقُولُونَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَسْمِلُوا، هَذَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ افْتِتَاحَ الْخُطْبَةِ بَسْمَلَ وَوَصَلَ الْبَسْمَلَةَ بِالْآيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ اللَّهُ، وَلَمَّا أَرَادَ الِاحْتِجَاجَ فِي الْأَبْوَابِ بِالْآيَاتِ قَالَ: قَالَ اللَّهُ، وَذَكَرَ الْآيَةَ مِنْ غَيْرِ بَسْمَلَةٍ، وَعَلَى ذَلِكَ عَمَلُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَبُلَغَائِهَا كَافَّةً. وَأَمَّا الدَّلِيلُ فَعَامٌّ وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَخَاصٌّ وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى الْيَمَنِ فَصَدَّرَهُ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ بِآيَةٍ كَالْخُطْبَةِ وَالْعُنْوَانِ وَبَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ لِلْكِتَابِ وَوَصَلَهَا بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَحْوَهُ، وَبِذَلِكَ اقْتَدَى الْأَئِمَّةُ وَالْبُلَغَاءُ فِي مُكَاتَبَاتِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ وَخُطَبِهِمْ وَإِنْشَاءَاتِهِمْ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله الحافظ، أَنَا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثَنَا أحمد بن عبد الجبار، ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابن إسحاق، حَدَّثَنِي «عبد الله بن أبي بكر، عَنْ أَبِيهِ أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قَالَ: هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا الَّذِي كَتَبَهُ لعمرو بن حزم حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ لعمرو بن حزم حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَقَّ كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُبَشِّرَ النَّاسَ بِالْخَيْرِ، وَسَاقَ الْكِتَابَ بِطُولِهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ: ثَنَا سليمان بن داود، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أبي إسحاق قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا ابن الزبير {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11] صَدَقَةُ الْفِطْرِ صَاعٌ صَاعٌ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الِاقْتِبَاسُ فِي الشِّعْرِ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمُو أَصْحَابِنَا مَعَ شُيُوعِهِ فِي أَعْصَارِهِمْ، وَاسْتِعْمَالِ الشُّعَرَاءِ لَهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَسُكُوتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمُ نَصِّهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ جَائِزًا كَضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَالِاقْتِبَاسِ فِي النَّثْرِ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ اسْتَعْمَلُوهُ فِي شِعْرِهِمْ، قَالَ الشيخ تاج الدين السبكي فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ الْأُسْتَاذِ أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي أَحَدِ كِبَارِ الْأَصْحَابِ وَأَجِلَّائِهِمْ، مِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ: يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ ... ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَفْ أَبْشِرْ بِقَوْلِ اللَّهِ فِي آيَاتِهِ ... إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ قَالَ ابن السبكي: اسْتِعْمَالُ مِثْلِ الْأُسْتَاذِ أبي منصور مِثْلَ هَذَا الِاقْتِبَاسِ فِي شِعْرِهِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّهُ جَلِيلُ الْقَدْرِ وَبَعْضُ النَّاسِ بَحَثَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا الْأُسْتَاذُ أبو منصور مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَقَدْ فَعَلَ هَذَا، وَأَسْنَدَ عَنْهُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْأُسْتَاذُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ، وَهُمَا حُجَّةٌ فِي جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: أَنْشَدَنَا أحمد بن محمد بن يزيد لِنَفْسِهِ: سَلِ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وَاتَّقِهِ ... فَإِنَّ التُّقَى خَيْرُ مَا يُكْتَسَبُ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ ... وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ فَإِسْنَادُ الْبَيْهَقِيِّ هَذَا الشِّعْرَ وَتَخْرِيجُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ الْجَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجَوِّزُهُ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ الرافعي، وَنَاهِيكَ بِهِ إِمَامَةً وَجَلَالَةً وَوَرَعًا، فَقَالَ وَأَنْشَدَهُ فِي أَمَالِيهِ وَرَوَاهُ عَنْهُ الْأَئِمَّةُ: الْمُلْكُ لِلَّهِ الَّذِي عَنَتِ الْوُجُو ... هُ لَهُ وَذَلَّتْ عِنْدَهُ الْأَرْبَابُ مُتَفَرِّدٌ بِالْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ قَدْ ... خَسِرَ الَّذِينَ يُحَارِبُوهُ وَخَابُوا دَعْهُمْ وَزَعْمَ الْمُلْكِ يَوْمَ غُرُورِهِمْ ... فَسَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ وَاسْتَعْمَلَهُ أَيْضًا شيخ الشيوخ الحموي، وابن الوردي وَجَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ آخِرُهُمُ الحافظ ابن حجر، وَلَمَّا أَنْشَأَ شَيْخُنَا الشهاب الحجازي كِتَابَهُ فِي اقْتِبَاسَاتِ الْقُرْآنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أَوْقَفَهُ عَلَيْهِ فَكَتَبَ لَهُ خَطَّهُ عَلَيْهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ الشرف ابن المقري صَاحِبُ الرَّوْضِ وَالْإِرْشَادِ فِي شَرْحِ بَدِيعِيَّتِهِ: مَا كَانَ مِنَ الِاقْتِبَاسِ فِي الشِّعْرِ فِي الْمَوَاعِظِ وَالزُّهْدِ وَمَدْحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ فَهُوَ مَقْبُولٌ وَغَيْرُهُ مَرْدُودٌ، وَقَالَ التقي بن حجة: الِاقْتِبَاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مَقْبُولٌ وَمُبَاحٌ وَمَرْدُودٌ، فَالْأَوَّلُ مَا كَانَ فِي الْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْعُهُودِ، وَالثَّانِي مَا كَانَ فِي الْغَزَلِ وَالرَّسَائِلِ وَالْقِصَصِ، وَالثَّالِثُ مَا كَانَ فِي الْهَزْلِ وَالْخَلَاعَةِ. وَذَكَرَ الشيخ علاء الدين العطار تِلْمِيذُ النووي فِي كِتَابٍ لَهُ أَلَّفَهُ فِي الشِّعْرِ أَنَّهُ سَأَلَ النووي عَنِ الِاقْتِبَاسِ فَأَجَازَهُ فِي النَّثْرِ وَكَرِهَهُ فِي الشِّعْرِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الشيخ بهاء الدين بن السبكي فَجَوَّزَهُ فِي النَّثْرِ وَاسْتَعْمَلَهُ وَقَالَ: الْوَرَعُ اجْتِنَابُهُ فِي الشِّعْرِ - ذَكَرَهُ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ. قُلْتُ: وَعِلَّةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ النَّثْرِ وَالشِّعْرِ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ لَمَّا نُزِّهَ عَنْ كَوْنِهِ شِعْرًا نَاسَبَ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ تَضْمِينِهِ الشِّعْرَ بِخِلَافِ النَّثْرِ. هَذَا مَجْمُوعُ الْمَنْقُولِ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَحَاصِلُهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مِنَ الْقُرْآنِ وَاقْتِبَاسِهِ فِي النَّثْرِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي اقْتِبَاسِهِ فِي الشِّعْرِ؛ فَالْأَكْثَرُونَ جَوَّزُوهُ وَاسْتَعْمَلُوهُ مِنْهُمُ الرافعي، وَأَمَّا النووي، والبهاء بن السبكي فَكَرِهَاهُ وَرَعًا لَا تَحْرِيمًا، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَقْلٍ بِتَحْرِيمِهِ لِأَحَدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي غَيْرِ الْهَزْلِ وَالْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ. وَيَلْتَحِقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ الشَّيْخُ ولي الدين العراقي عَنِ الشريف تقي الدين الحسيني أَنَّهُ نَظَمَ قَوْلَهُ: مَجَازٌ حَقِيقَتُهَا فَاعْبُرُوا ... وَلَا تَعْمُرُوا هَوِّنُوهَا تَهُنِ وَمَا حُسْنُ بَيْتٍ لَهُ زُخْرُفٌ ... تَرَاهُ إِذَا زُلْزِلَتْ لَمْ يَكُنِ ثُمَّ تَوَقَّفَ لِكَوْنِهِ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْقُرْآنِيَّةَ فِي الشِّعْرِ فَجَاءَ إِلَى الشَّيْخِ تقي الدين بن دقيق العيد ; لِيَسْتَفْتِيَهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْشَدَهُ إِيَّاهُمَا قَالَ لَهُ الشَّيْخُ: قُلْ " وَمَا حُسْنُ كَهْفٍ" فَقَالَ: يَا سَيِّدِي أَفَدْتَنِي وَأَفْتَيْتَنِي، ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّيْخَ داود الباخلي الشاذلي تَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِاللَّطِيفَةِ الْمُرْضِيَةِ فِي شَرْحِ دُعَاءِ الشَّاذِلِيَّةِ وَبَسَطَهَا أَحْسَنَ بَسْطٍ، فَقَالَ مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ - يَعْنِي الشَّيْخَ أبا الحسن الشاذلي - فَقَدِ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى آخِرِهِ هَذَا اللَّفْظُ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ التِّلَاوَةِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: فَقَدِ ابْتَلَى الْمُؤْمِنُونَ، وَلِيَقُولَ الْمُنَافِقُونَ، وَالْقُرْآنُ هُنَالِكَ {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} [الأحزاب: 11] {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 12] وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ التِّلَاوَةَ وَلَوْ أُرِيدُ التِّلَاوَةُ لَتَعَيَّنَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِهَا إِذْ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَزِيدَ حَرْفًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا يَنْقُصَ حَرْفًا، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَقْطَعُ بِهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ؟ وَإِذَا لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ جَازَ لِلْإِنْسَانِ النُّطْقُ بِاللَّفْظِ الْمُوَافِقِ لِلتِّلَاوَةِ سَوَاءٌ كَانَ جُنُبًا أَوْ مُتَطَهِّرًا أَوْ يَجُوزُ مَسُّهُ مَكْتُوبًا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ; لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَزِيدَ لَفْظًا وَيَنْقُصَ لَفْظًا كَغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ. قَالَ: وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خُصُوصًا فِي وَقْتٍ وَتَرَدَّدَ سُؤَالُ النَّاسِ مِنِّي عَنْهَا، وَأَجَبْتُ عَنْهَا، قَالَ: وَهَذَا نَصُّ السُّؤَالِ: هَلْ يَجُوزُ ذِكْرُ كَلِمَاتٍ يَسِيرَةٍ مِمَّا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَيُقْصَدُ بِهِ مَعْنًى غَيْرُ مَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ لِمَنِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] أَوْ {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] أَوْ عَتَبٌ عَلَى أَمْرٍ فَقَالَ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58] فَإِنَّ مَدْلُولَ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ غَيْرُ مَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ حَالِ نَفْسِهِ هُوَ فَقَالَ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] أَوْ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ فَثَبَتَ قَوْمٌ وَاضْطَرَبَ آخَرُونَ فَقَالَ: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] أَوْ ضَمَّنَ ذَلِكَ خُطْبَةً أَوْ رِسَالَةً قَاصِدًا سِيَاقَ قَوْلِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ مَعَانِيَ التِّلَاوَةِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيَنْقُصَ مِنْهُ أَوْ يُغَيِّرَ نَظْمَهُ بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ أَوْ تَغْيِيرِ حَرَكَةِ إِعْرَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَنَصُّ الْجَوَابِ: الْكَلَامُ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ مُسْتَمَدٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا تَحْقِيقُ مَعَانِي ذَلِكَ وَتَبْيِينُ وُجُوهِ قَوَاعِدَ تَنْبَنِي عَلَيْهَا وُجُوهُ مَعَانِيهِ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي الْكَلَامَ مِنْ عُلُومٍ غَامِضَةٍ جَلِيلَةٍ هِيَ أَسَاسُ الْعُلُومِ، وَمُسْتَنَارُ الْفُهُومِ قَلَّ مَنْ يَصِلُ بِالتَّحْقِيقِ إِلَيْهَا، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعُلُوِّهَا عَنْ فَهْمِ الْعُمُومِ، وَغُمُوضِ مَعَانِيهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْفُهُومِ كَعِلْمِ قَوَاعِدِ مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَعِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَدَقَائِقِ عُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ وَأَسْرَارِهِمَا، وَعِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ وَالْمَعَانِي وَتَصَرُّفِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَسَعَةِ مَيْدَانِهِ، وَالنَّظَرِ فِي سُرْعَةِ تَصْرِيفِ جَوَادِ الْبَلَاغَةِ عِنْدَ إِطْلَاقِ عِنَانِهِ فِي أَنْحَاءِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ وَالتَّصَرُّفِ فِي بَدَائِعِ الْمَعَانِي فِي التَّوَصُّلِ إِلَى الْإِفْهَامِ، وَلِكُلِّ عَبْدٍ فِي مِقْدَارِ فَهْمِهِ وَمَبْلَغِ عِلْمِهِ حَالٌ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَلَقَدْ بَلَغَنِي عَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ عز الدين بن عبد السلام أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَانَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَقَالَ: لَا أُجِيبُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِدِقَّةِ الْجَوَابِ عَنْ أَفْهَامِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَطُفَ الْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ الْعُلُومِ اسْتَصْعَبَ ذَلِكَ عَلَى فَهْمِ مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا فَهْمٍ ثَاقِبٍ، وَذِهْنٍ صَحِيحٍ وَمُمَارَسَةٍ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ أَدَوَاتٌ لِإِدْرَاكِ غَامِضِ الْمَعَانِي، وَلَقَدْ ذَاكَرْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ شَيْخَ وَقْتِهِ وَإِمَامَ عَصْرِهِ شَيْخَنَا الشَّيْخَ شمس الدين الجزري فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِي: حَضَرْتُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 فَحَاوَلْتُ أَنْ أُوصِلَ إِلَى أَذْهَانِهِمْ مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ لِبُعْدِ أَذْهَانِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ ذَلِكَ، وَالْأَصْلِ الْآخَرِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ ذَلِكَ وَهِيَ الْقَوَاطِعُ السَّمْعِيَّةُ وَالنُّقُولُ الْبَيِّنَةُ الْجَلِيَّةُ الَّتِي تَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ، وَيَرْتَفِعُ عِنْدَ وُجُودِهَا النِّزَاعُ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ كِفَايَةٍ وَأَكْبَرُ حُجَّةٍ، وَأَجَلُّ بَيَانٍ، وَأَوْضَحُ مَحَجَّةٍ، إِذِ النُّقُولُ الصَّرِيحَةُ يَصِلُ إِلَى فَهْمِ مَعْنَاهَا وَإِدْرَاكِ دَلَالَتِهَا عُمُومُ الْأَفْهَامِ، وَيَشْتَرِكُ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَفِي تَقَصِّيهَا وَالنَّظَرِ لِمَا فِيهَا مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، وَبَيَانٌ لِمِثْلِ هَذَا الْحَالِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْخُطَبَاءِ وَالْأُدَبَاءِ، وَمَا سَطَّرَهُ فِي ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ وَأَئِمَّةُ اللِّسَانِ قَوْلًا. وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى فِي ذَلِكَ حُكْمًا، وَذَلِكَ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ كَافٍ، وَجَوَابٌ فِي الْمَسْأَلَةِ شَافٍ. أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ علي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: " «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» " الْحَدِيثَ، هَذَا ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ التِّلَاوَةَ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] فَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ بَيَانٍ وَأَشْفَى جَوَابٍ لِمَا ذُكِرَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عِنْدَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: وَجْهُ قَوْلِهِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تِلَاوَةَ الْآيَةِ بَلِ الْإِخْبَارُ بِالِاعْتِرَافِ بِحَالِهِ، فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى قَوَاعِدَ جَلِيلَةٍ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِشَيْءٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ غَيْرُ التِّلَاوَةِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ غَيْرُ التِّلَاوَةِ جَازَ أَنْ يُحْذَفَ شَيْءٌ مِنْهُ وَيُزَادَ عَلَى سِيَاقِ قَوْلِ قَائِلِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِ هرقل فَإِنَّ فِيهِ: «ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هرقل عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ، وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ - إِلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ، فَذَكَرَ فِيهِ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَالتِّلَاوَةَ وَالسَّلَامَ، وَذَكَرَ فِيهِ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» " وَالتِّلَاوَةُ {رَبَّنَا آتِنَا} [البقرة: 201] وَقَدْ سَمَّاهُ أَنَسٌ دُعَاءً وَلَمْ يُسَمِّهِ تِلَاوَةً. وَفِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثُ: " «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُبْعَثُ» " الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: " «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ» "، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: " «قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» ". وَحَدِيثُ البراء: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] ". » وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» فَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا؛ الْحَذْفِ حَيْثُ حَذَفَ الْهَاءَ مِنْ تَفْعَلُوهُ، وَالزِّيَادَةِ. وَالْقَصْدُ سِيَاقُ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا قَصَدَ غَيْرَ التِّلَاوَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى مالك فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يحيى بن سعيد أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ: " «اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغِثْنِي مِنَ الْفَقْرِ» "، وَرُوِيَ فِي كِتَابٍ إِلَى مَلِكِ فَارِسَ " «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كسرى عَظِيمِ فَارِسَ- إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً ; لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ» ". وَرُوِيَ فِي عَهْدِ أبي بكر لعمر: " هَذَا مَا عَهِدَ أبو بكر خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْخَيْرَ أَرَدْتُ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا اكْتَسَبَ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ "، وَفِي رِسَالَةِ أبي بكر إِلَى علي أَيَّامَ تَوَقُّفِهِ عَنِ الْبَيْعَةِ فَقَالَ: وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ شَهِيدٌ وَبِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ بَصِيرٌ، وَقَالَ علي فِي جَوَابِهِ آخِرَ كَلَامٍ لَهُ: وَإِنِّي عَائِدٌ إِلَى جَمَاعَتِكُمْ وَمُبَايِعٌ صَاحِبَكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وَمِنْ رَسَائِلِ الْقَاضِي الْفَاضِلِ وَقَدْ ذَكَرَ الْفِرِنْجَ: وَغَضِبُوا زَادَهُمُ اللَّهُ غَضَبًا، وَأَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ حَطَبًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَقِيهِ الْإِمَامِ الْخَطِيبِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ نَبَاتَةَ فِي خُطَبِهِ الْمَشْهُورَةِ السَّائِرَةِ شَرْقًا وَغَرْبًا قَالَ فِي خُطْبَةٍ هُنَالِكَ: يُرْفَعُ الْحِجَابُ، وَيُوضَعُ الْكِتَابُ، وَيُجْمَعُ مَنْ وَجَبَ لَهُ الثَّوَابُ، وَحَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فَيُضْرَبُ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، وَقَالَ فِي خُطْبَةٍ أُخْرَى: يَا لَهُ مِنْ نَادِمٍ عَلَى تَضْيِيعِهِ أَسَفًا عَلَى الْمُسِيءِ مِنْ صَنِيعِهِ، حَيْثُ عَايَنَ رُتَبَ الصَّالِحِينَ وَأَبْصَرَ مَنَازِلَ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَكَانُوا نُصْبَ نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ وَلَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِهِ، وَقَالَ فِي أُخْرَى: أَلَا وَإِنَّ الْجِهَادَ كَنْزٌ وَفَّرَ اللَّهُ بِهِ أَقْسَامَكُمْ، وَحِرْزٌ طَهَّرَ اللَّهُ بِهِ أَجْسَامَكُمْ، وَعِزٌّ أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ إِسْلَامَكُمْ، فَإِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، فَأَحْسِنُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ الثِّقَةَ بِمَنْ لَمْ يَزَلْ بِكُمْ بَرًّا لَطِيفًا، وَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، وَاغْتَنِمُوا بِمُقَارَعَةِ الْعَدُوِّ وَقُرْبِ الْفَرَجِ فَإِنَّ اللَّهَ اجْتَبَاكُمْ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وَقَالَ فِي أُخْرَى: وَخَرِسَتِ الْأَلْسُنُ الْفَصِيحَةُ عَنِ الْكَلَامِ، وَقُضِيَ بِدَارِ الْبَوَارِ لِمَنْ حُرِمَ دَارَ السَّلَامِ وَعُرِفَ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَأُخِذُوا بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ، وَكَلَامُهُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي خُطَبِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْفُصَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ اللِّسَانِ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْخُطَبِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ ; لِأَنَّهَا اشْتَهَرَتْ عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ، وَذُكِرَتْ فِي جَمْعِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمُوعِهِمْ وَتَكَرَّرَتْ عَلَى أَسْمَاعِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ فَالِاحْتِجَاجُ بِهَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ جَلِيٌّ ظَاهِرٌ. وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ ناصر الدين بن المنير فِي خُطَبِهِ الْمَشْهُورَةِ مَعَ اشْتِهَارِهِ بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَتَقَدُّمِهِ وَتَبَحُّرِهِ فِي ذَلِكَ وَسِيَادَتِهِ، فَقَالَ فِي خُطْبَةٍ: كَيْفَ بِكَ إِذَا جِئْتَ وَأَنْتَ لِجَمِيعِ مَا خَلَّفْتَ فَاقِدٌ؟ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَاهِدٌ. وَقَالَ فِي أُخْرَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَيُكَافِئُ بِالْحُسْنَى وَالزِّيَادَةِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا. وَقَالَ فِي أُخْرَى: بَلْ هُوَ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ يَسْمَعُ النَّجْوَى، وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَهُوَ تَعَالَى أَيْنَمَا كُنَّا مَعَنَا. وَقَالَ فِي أُخْرَى: فَاللَّهَ اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ شَمِّرُوا الذَّيْلَ، فَإِنَّ السَّيْلَ قَدْ بَلَغَ الزُّبَى فَحُلُّوا الْحُبَا وَسُلُّوا الظِّبَا، وَأَعِدُّوا لِعَدُوِّكُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَهُمْ بِهِ رَهَبًا. قَالَ: وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْخُطَبِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ، وَتَزِيدُ هَذِهِ بِوُفُورِ عِلْمِ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ مِنْ هَذَيْنِ لِشُهْرَتِهِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وَكَثْرَةِ دَوْرِ خُطَبِهِمَا بَيْنَ النَّاسِ وَكَثْرَتِهِمَا، وَإِلَّا فَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ وَالْفُصَحَاءِ فِي هَذَا الْمِنْهَاجِ مُتَّسِعٌ وَكَثِيرٌ، وَسُلُوكُ أَرْبَابِ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ فِي ذَلِكَ مَعْلُومٌ وَشَهِيرٌ. وَقَالَ الحريري فِي الْمَقَامَةِ الثَّانِيَةِ الْحُلْوَانِيَّةِ: فَلَمْ يَكُ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ، حَتَّى أَنْشَدَ فَأَغْرَبَ، وَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ الْكُوفِيَّةِ: فَهَلْ سَمِعْتُمْ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا الْعُجَابِ؟ فَقُلْنَا: لَا وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ. وَقَالَ فِي السَّادِسَةِ: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، وَجُرْتُمْ عَنِ الْقَصْدِ جِدًّا، وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: فَإِنْ كُنْتَ صَدَعْتَ عَنْ وَصْفِكَ بِالْيَقِينِ فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَقَالَ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ: وَاصْبِرْ عَلَى كَيْدِ الزَّمَانِ وَمُرِّهِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَالَ فِي الرَّجَبِيَّةِ: كَلَّا سَاءَ مَا تَتَوَهَّمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، وَقَالَ فِي الْمَيَّافَارِقِيَّةِ: وَلَا سِيَّمَا يَفْتَحُ مُسْتَصْعَبًا ... مُسْتَغْلَقَ الْبَابِ مَنِيعًا مَهِيبْ إِلَّا وَنُودِيَ حِينَ يَسْمُو لَهُ ... نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبْ وَقَالَ فِي الْبَغْدَادِيَّةِ: فَعَاهَدَنِي أَنْ لَا أَفُوهَ بِمَا اعْتَمَدْ مَا دُمْتُ حِلًّا بِهَذَا الْبَلَدْ، وَقَالَ فِي الْمَلَطِيَّةِ: فَقَالَ افْعَلْ لِئَلَّا يَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ وَيَظُنُّوا بِي الظُّنُونَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرٌ جِدًّا. وَالْقَصْدُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا ذُكِرَ لِيَعْلَمَ النَّاظِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ، وَالِاسْتِشْهَادُ بِمَا فِي الْمَقَامَاتِ لِكَثْرَةِ دَوْرِهَا بَيْنَ النَّاسِ وَاشْتِهَارِهَا وَاطِّلَاعِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا فِيهَا وَقِرَاءَتِهَا وَإِقْرَائِهَا وَحِفْظِهَا وَشَرْحِهَا وَالِاعْتِنَاءِ بِهَا يُوَضِّحُ صِحَّةَ الِاسْتِشْهَادِ بِمَا فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرُوهَا، أَنَا أَذْكُرُ جُمْلَةً دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مُؤَكِّدَةً لِمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ وَعُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ وَفُرْسَانُ اللِّسَانِ وَالَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ ; لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَعْلُومُ السَّبِيلِ عِلْمًا جَزْمًا، وَأَنَّهُ مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ نَثْرًا وَنَظْمًا: وَأَنْشَدَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي ذَلِكَ جُمْلَةً فِي كِتَابِ الْإِعْجَازِ لَهُ، وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِ الْفَوَائِدِ لَهُ قَالَ: أَنْشَدَنِي بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ: رَحَلَ الظَّاعِنُونَ عَنْكَ وَأَبْقَوْا ... فِي حَوَاشِي الْحِشَاءِ وَجْدًا مُقِيمَا قَدْ وَجَدْنَا السَّلَامَ بَرْدًا سَلَامًا ... إِذْ وَجَدْنَا النَّوَى عَذَابًا أَلِيمَا وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْبَيَانِ فِي كُتُبِهِمْ فَقَدْ أَكْثَرُوا مِنْ ذَلِكَ أَنْشَدُوا لِلْحَمَاسِيِّينَ: إِذَا رُمْتُ عَنْهَا سَلْوَةً قَالَ شَافِعٌ ... مِنَ الْحُبِّ مِيعَادُ السُّلُوِّ الْمَقَابِرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 سَيَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا سَرِيرَةُ وُدٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: لَا تُعَاشِرْ مَعْشَرًا ضَلُّوا الْهُدَى ... فَسَوَاءٌ أَقْبَلُوا أَوْ أَدْبَرُوا بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ... وَالَّذِي يُخْفُونَ مِنْهَا أَكْبَرُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: إِنْ كُنْتِ أَزْمَعْتِ عَلَى هَجْرِنَا ... مِنْ غَيْرِ مَا جُرْمٍ فَصَبْرٌ جَمِيلْ وَإِنْ تَبَدَّلْتِ بِنَا غَيْرَنَا ... فَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلْ وَقَوْلُ الْآخَرِ: خَلَّةُ الْغَانِيَاتِ خَلَّةُ سُوءٍ ... فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ وَإِذَا مَا سَأَلْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ... فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ قَالَ: وَلَوْلَا خَشْيَةُ التَّطْوِيلِ لَذَكَرْتُ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً كَثِيرَةً لَكِنْ فِي التَّنْبِيهِ بِمَا ذُكِرَ كِفَايَةٌ ; وَلِأَنِّي أَكْرَهُ ذِكْرَ التَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ مَشْهُورٌ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ: وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى وَعُلَمَاءُ الْأُصُولِ فَقَدْ نَصَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِمَامُ هَذَا الْفَنِّ وَالْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ لَهُ عَلَى تَضْمِينِ كَلِمَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِي نَثْرِ الْكَلَامِ وَنَظْمِهِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً، وَلَكِنْ أَشَارَ إِلَى كَرَاهَةِ التَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِإِجْلَالِ كَلِمَاتٍ تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ أَنْ تُسَاقَ فِي أَوْزَانِ الشِّعْرِ وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ فِي الشِّعْرِ خَاصَّةً دُونَ الْمَنْعِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالْمَكْرُوهُ جَائِزٌ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَلَامِ، وَكَلَامُ مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَافٍ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ محيي الدين النووي فِي كِتَابِ التِّبْيَانِ لَهُ فَقَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ: خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، وَقَصَدَ بِهِ غَيْرَ الْقُرْآنِ فَهُوَ جَائِزٌ، قَالُوا: وَيَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ أَنْ يَقُولَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِذَا لَمْ يَقْصِدَا الْقُرْآنَ فَانْظُرْ صَرِيحَ هَذَا النَّقْلِ، وَهَذَا إِمَامٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَلْ هُوَ فِي هَذَا الزَّمَانِ عُمْدَةُ الْمَذْهَبِ فِي نَقْلِهِ وَتَصْحِيحِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِجَوَازِ أَنْ يُقْصَدَ غَيْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الْقُرْآنِ كَرَّرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ قُدْوَةٌ فِي الْعُلُومِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ، وَلَوْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ نَقْلًا وَبَحْثًا لَاتَّسَعَ جِدًّا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْبَيَانِ وَأَئِمَّةُ الْفَصَاحَةِ وَأَهْلُ الِاجْتِهَادِ فِي بَدَائِعِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ فَقَدْ أَوْضَحُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَسَمَّوْهُ بِالِاقْتِبَاسِ، وَلَمْ يَكْتَفُوا فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ الْجَوَازِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ مِنْ حُسْنِ الْكَلَامِ وَجَيِّدِهِ وَمَعْدُودًا فِي طَبَقَاتِ الْفَصَاحَةِ إِذْ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْبَدِيعِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى التَّصْرِيحِ بِالْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى، وَأَئِمَّةُ الْفَصَاحَةِ وَهُوَ كَمَا تَرَى أَمْرٌ بَيِّنٌ مَعْلُومٌ وَاضِحٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ، وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ وَشَوَاهِدُهَا مِنَ السُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُصَحَاءِ كَثِيرٌ جِدًّا. وَمِمَّا اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى الِاقْتِبَاسِ مَعَ تَغْيِيرِ اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ قَوْلُ بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ: قَدْ كَانَ مَا خِفْتُ أَنْ يَكُونَا ... إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاجَعُونَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: يُرِيدُ الْجَاهِلُونَ لِيُطْفِئُوهُ ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّهْ وَمِمَّا اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ قَوْلُ ابن عباد: قَالَ لِي إِنَّ رَقِيبِي ... سَيِّئَ الْخُلْقِ فَدَارِهْ قُلْتُ دَعْنِي وَجْهَكَ الْجَ ... نَّةُ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهْ وَهَذَا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَدِيثَ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مُوَافَقَةٌ فِي ظَاهِرِ عِبَارَةٍ فَقَطْ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُسَدِّدُ وَالْهَادِي، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. انْتَهَى جَوَابُ الشَّيْخِ داود الشاذلي بِلَفْظِهِ، وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحَدُ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ أَخَذَ التَّصَوُّفَ عَنِ الشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله، وَالْعُلُومَ عَنِ الشَّيْخِ شمس الدين محمد بن يوسف الجزري شَارِحِ مِنْهَاجِ الْبَيْضَاوِيِّ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَلَهُ مُؤَلَّفَاتٌ جَيِّدَةٌ تُؤْذِنُ بِطُولِ بَاعٍ، وَرُسُوخِ قَدَمٍ وَسَعَةِ اطِّلَاعٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَفَعَنَا بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 [أَسْئِلَةٌ وَارِدَةٌ مَنِ التَّكْرُورِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ أَسْئِلَةٌ مِنَ الْفَقِيرِ الْعَاصِي الْحَقِيرِ الْمُذْنِبِ الْمُنْكَسِرِ الرَّاجِي عَفْوَ رَبِّهِ الْكَرِيمِ الْكَبِيرِ وَسَمَّيْتُهُ مَطْلَبَ الْجَوَابِ بِفَصْلِ الْخِطَابِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَامِلِ الذَّاتِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الْأَزَلِيِّ الصِّفَاتِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى حَبِيبِهِ الْمُفَضَّلِ عَلَى سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ. فَصْلٌ: رَدُّ الْجَوَابِ عَلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ فَرْضٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ لِآدَمَ {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] كَمَا أَنَّ السُّكُوتَ عَلَى مَنْ لَا يَعْلَمُ فَرْضٌ كَمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] وَكَذَلِكَ أَنْ نَخْضَعَ لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يُعَلِّمْهُ لَكَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا وَكَانُوا عِبَادًا مُكْرَمِينَ، وَأَبَى إِبْلِيسُ وَقِيلَ لَهُ: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 35] وَالسُّؤَالُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَرْضٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . فَصْلٌ: نَسْأَلُ عَنْ قَوْمٍ عَادَةُ مُلُوكِهِمْ أَخْذُ الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ بِعَادَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي زَمَنٍ مَعْرُوفٍ، وَأَكْثَرُهُ عِنْدَ ظُهُورِ الثُّرَيَّا أَوِ الشِّتَاءِ أَوِ الصَّيْفِ بِأَمْوَالٍ شَتَّى، مِنْهَا مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ كَالْمَنِّ، وَمِنْهَا مَا يَخْرُجُ مِنَ الدَّوْمِ حَتَّى حِبَالُهَا وَنِعَالُهَا وَحَصِيرُهَا وَيَفْرِضُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَالْبَلَدُ لِلْمُلُوكِ، وَمَنْ أَرَادَهُ مِنْهُمْ فَيَجِيءُ عِنْدَهُمْ فَيُعْطِيهِمْ شَيْئًا ثُمَّ يَشْتَرِطُونَ عَلَيْهِ شُرُوطَهُمْ فَيُرْضُونَهُمْ، فَإِنَّ نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ خَرَاجِهِمْ أَخَذُوهُ وَعَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ وَجَعَلُوا فِي بِلَادِهِمْ مَنْ أَرَادُوا. فَصْلٌ: وَلَهُمْ عِنْدَ قَوْمٍ بَقَرَاتٌ وَشِيَاهٌ وَمَزَاوِدُ طَعَامٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْخَرَاجِ فِي كُلِّ زَمَنٍ مَعْرُوفٍ، فَمَنْ أَعْطَى وَإِلَّا ضَرَبُوهُ أَوْ نَفَوْهُ. فَصْلٌ: وَيَأْتِيهِمْ سَادَاتُ قَوْمٍ وَكُبَرَاؤُهُمْ مَعَ جَمَاعَاتِهِمْ فَيَطْلُبُونَ الْبِلَادَ فَيَقُولُونَ لَهُمْ: إِنْ كَانَتْ عَادَتُنَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَأْتُوا بِقَبِيلَتِكُمْ فَلْنَخْتَرْ وَاحِدًا مِنْكُمْ. يَحْكُمُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَمَرَّةً يَحْكُمُونَ لِمَنْ يُعْطِيهِمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً أَوْ يَرْجُونَ مِنْهُ أَوْ يَخَافُونَ شَرَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَاصِمُ عَلَى الْأَحْرَارِ وَيَدْعُوهُمْ بِالْعَبِيدِ، فَإِنْ مَاتَ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَقْسِمُوا بَيْنَ وَرَثَتِهِ، ثُمَّ يَدْعُوهُمْ مَنْ بَقِيَ بِاسْمِ الرِّقِّ، وَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ أَحْرَارٌ كَادُوا يَقْتُلُونَكَ وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ عَبِيدٌ أَتْبَاعٌ لِلسَّيْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُمْ كَالْخَدَمِ بِالضَّرْبِ وَالْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْخَرُ مِنْهُمْ وَيَأْخُذُ مِنْهُمُ الْأَمْوَالَ وَلَا يَضُرُّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهُمْ بِالتَّنَافُسِ وَالتَّنَازُعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَمَّرُ عَلَى قَوْمٍ فَيَأْخُذُ مِنْهُ الْخَرَاجَ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ الْمُلُوكُ، فَإِنْ أَبَوْا نَفَاهُمْ أَوْ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْأَمِيرَ أَوْ وُزَرَاءَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَمَّرُ عَلَى بَلَدٍ فَيَتْرُكُهُ وَيَمْشِي إِلَى أَحْرَارِ قَبِيلَتِهِ حَيْثُ كَانُوا فَيَأْخُذُ مَا أَرَادَ حَتَّى يَكُونَ الْقِتَالُ فِي ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُورَثُ فَمَا تَرَكَهُ بَعْدَهُ لِأَبْنَاءِ إِخْوَتِهِ وَأَهْلِ الْقُوَّةِ وَالْجَاهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ أَمِيرًا عَلَى قَوْمٍ فَيُعْطِي الْمُلُوكَ مَالَهُ ثُمَّ يَجِيءُ عِنْدَهُمْ فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ أَضْعَافَ ذَلِكَ. فَصْلٌ: مِنْ بَعْضِ أَمْوَالِ الْمُلُوكِ الْخَرَاجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَكْسُ الْأَسْفَارِ وَالْأَسْوَاقِ عَلَى كُلِّ مَنْ جَاءَ بِالْخَيْلِ، أَوِ الْإِبِلِ، أَوِ الْبَقَرِ، أَوِ الْغَنَمِ، أَوِ الرَّقِيقِ، أَوِ الثِّيَابِ، أَوِ الطَّعَامِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْأَبْوَابِ عِنْدَ دُخُولِ قَوْمٍ أَوْ خُرُوجِهِمْ وَلَوْ بِحَطَبٍ. فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ الْمُصَاحَبَةُ وَالْمُرَاسَلَةُ فَإِنْ قَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَهَبُوهُمْ أَوْ قَطَعُوا عَلَيْهِمُ الطُّرُقَ لَمْ يُبَالُوا بِذَلِكَ إِنْ أَعْطَوْهُمْ شَيْئًا، وَمِنْهُمْ مَنْ إِذَا أَغَرْتَ عَلَى الْكُفَّارِ وَآذَيْتَهُمْ آذَاكَ أَكْثَرَ مِمَّا آذَيْتَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَوْنًا لِلْكُفَّارِ وَضَعْفًا لِلْمُسْلِمِينَ. فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَ الْكُفَّارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِسُكُونِ بِلَادِهِمْ أَوْ رِبْحِ تِجَارَتِهِ فِي أَرْضِهِمْ أَوْ سُكُونِ بَعْضِ أَقَارِبِهِمْ أَوْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ مِنْ دُنْيَاهُمْ لَا يُبَالُونَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ إِلَّا حَيْثُ كَانَتِ اللُّقْمَةُ بَدَاءً. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُبَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا حَيْثُ كَانَ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ مَعَهُ وَإِلَّا فَلَا. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُعْطِي الْمَرْأَةَ صَدَاقَهَا أَصْلًا وَكَانَ ذَلِكَ عَادَةً فَلَيْسَ لَهُنَّ عِنْدَ الرِّجَالِ إِلَّا الذَّبِيحَةُ وَالنَّفَقَةُ. فَصْلٌ: وَعَادَتُهُمْ عَدَمُ الْحَيَاءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ بِالنِّسَاءِ وَخَلْوَتِهِمْ بِهِنَّ، وَاللَّعِبُ بِهِنَّ وَحَدِيثُهُنَّ وَرُؤْيَتُهُنَّ وَكَشْفُ زِينَتِهِنَّ، وَأَكْثَرُهُنَّ لِلْمِزْمَارِ وَالْعُودِ وَالْغِنَاءِ وَضَرْبِ الدُّفُوفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وَالزَّغَارِيتِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ كُلِّهَا وَيُعَرِّضْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ وَيَقُلْنَ إِنَّ الْجِنَّ فِينَا وَإِنَّ دَوَاءَنَا بِذَلِكَ، وَفِيهِنَّ مَنْ يَقُلْنَ إِنَّ مِنَ الْخَدَمِ مَنْ يَقْتُلُ، وَإِنْ مَسَّكَ مَرِضْتَ وَإِذَا جَنَّ اللَّيْلُ يَطِرْنَ وَمَعَهُنَّ النَّارُ وَيَقْتُلْنَ بِذَلِكَ. فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ تَكْبُّرًا وَتَجَبُّرًا وَتَنَافُسًا وَيَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ بِلَادَ اللَّهِ إِذَا وَكَّلَهُ الْأُمَرَاءُ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِالْخَرَاجِ، وَيَمْنَعُ الْمَاءَ وَالْفَوَاكِهَ وَالْحَشِيشَ وَالْكَلَأَ وَكُلَّ مَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يَمْنَعُونَ الطُّرُقَ وَيَسُدُّونَهَا بِالْحِجَارَةِ وَالْأَشْجَارِ حَتَّى لَا يَقْرَبَ الْمُسَافِرُونَ بِلَادَهُمْ، وَيُعَذِّبُونَ بِهَائِمَ الْمُسْلِمِينَ بِآلَاتٍ مِنَ الْعَذَابِ وَالضَّرْبِ وَسَدِّ الْأَفْوَاهِ، وَيَرْبِطُونَ مَعَ أَذْنَابِ الْأَنْعَامِ الشَّوْكَةَ وَمَا لَهُ أَذًى. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ حِرْفَةٌ إِلَّا الْغِنَاءَ وَالْمِزْمَارَ وَمَدْحَ مَنْ أَعْطَاهُ وَذَمَّ عَكْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ حِرْفَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ وَيَعِيشُ فِي أَمْوَالِهِمُ الْحَرَامِ. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا حَتَّى يَجِيءَ أَوَانُ الطَّعَامِ، فَيَحْضُرُ وَيُسَلِّمُ وَيَأْكُلُ. فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ الْقِمَارُ وَالْمَيْسِرُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَنْكِحَ النِّسَاءَ الْمُطَلَّقَاتِ بِالثَّلَاثِ فَيُحَلِّلُهُنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ. فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَرْمِيَ عَقْلَهُ فَيَجْعَلَ نَفْسَهُ كَالْمَجْنُونِ فَيُضْحِكَ النَّاسَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ السُّؤَالُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ النِّسَاءَ الْكَثِيرَاتِ الْأَمْوَالِ وَيَعِيشَ فِي رِزْقِهِنَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ السَّرِقَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ الِاخْتِلَاسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَصِيدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأُمَرَاءِ فَيَقْضِي لِلنَّاسِ حَوَائِجَهُمْ، وَيَعِيشُ هُنَاكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يُعَادِيَ لِلنَّاسِ أَعْدَاءَهُمْ وَيُحِبَّ لَهُمْ أَحِبَّتَهُمْ سَوَاءٌ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ أَوِ الْبَاطِلِ. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ عِلْمُ الْحَدِيثِ، وَالْقَصَصُ وَأَخْبَارُ الدُّنْيَا وَالْحِكَايَاتُ الْمُضْحِكَةُ بِالْحَقِّ أَوِ الْكَذِبِ. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَكُونَ نَمَّامًا أَوْ مُغْتَابًا أَوْ مُتَجَسِّسًا، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ مُعَادَاةُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا بَيْنَ النِّسَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وَالرِّجَالِ كَالدَّيُّوثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَخْلِطَ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ أَوِ الشَّحْمَ مَعَ اللَّحْمِ الْهَزِيلِ، أَوْ دَنِيئًا بِجَيِّدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يُنْزِلَ الْمُسَافِرِينَ فِي مَسْكَنِهِ فَيَخْدَعُهُمْ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَقِلَّةِ عُقُولِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ إِلْبَاسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ عِنْدَ الْمَوَازِينِ وَالْمَكَايِيلِ. فَصْلٌ: عَوَائِدُ بَعْضِهِمُ الْبُخْلُ وَالْجُبْنُ، وَعَدَمُ الرَّحْمَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً وَقَطْعُ الرَّحِمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَادَتُهُ السَّخَاءُ وَالْكَرَمُ وَالشَّجَاعَةُ إِلَّا أَنَّ عِنْدَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَثْرَةَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالِاخْتِلَاطَ بِالنِّسَاءِ الْأَجَانِبِ، وَيَحْلِفُونَ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالنِّسَاءِ، وَيَشْهَدُونَ بِالزُّورِ، وَلِنِسَائِهِمْ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ يَخْلُونَ فِيهِ بِالرِّجَالِ فِي يَوْمِ نِكَاحٍ، أَوْ يَوْمِ عُرْسٍ أَوْ يَوْمِ عِيدٍ، وَلَهُمْ لَهْوٌ يَتَضَارَبُونَ فِيهِ حَتَّى يَقَعَ فِي ذَلِكَ شَجٌّ، وَكَسْرُ سِنٍّ أَوْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ، أَوْ قَتْلٌ. وَعَادَةُ بَعْضِهِمْ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَالْعُلُومُ وَالْمَدَائِحُ وَالْحَجُّ، وَمَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَذْبَحُونَ لَهَا، وَلَا تَصُومُ نِسَاؤُهُمْ وَلَا يُصَلِّينَ إِلَّا إِذَا كَبِرْنَ، وَلَا يَدْخُلُونَ مَسَاجِدَهُمْ إِلَّا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَصًا، وَعِنْدَهُمْ طَلْسَمَاتٌ لِلنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالرَّهْجِ وَالْحُرُوبِ وَالْمَحَبَّةِ وَوَجَعِ الرَّأْسِ وَالضِّرْسِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُلُوكُ الدُّنْيَا وَأَبْنَاءُ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْحَدُ الْبَعْثَ وَالْحَشْرَ وَالنَّشْرَ وَالْحِسَابَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَيَسْجُدُونَ لِمُلُوكِهِمْ وَيَرْكَعُونَ لَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ، وَيَجْعَلُونَ أَمْوَالَهُمْ دُوَلًا بَيْنَهُمْ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَقْتُلُونَهُمْ. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ عَادَتُهُ أَنْ يَجِيءَ إِلَى قَوْمٍ فَيَسْأَلُهُمْ إِبِلَهُمْ لِيُسَافِرُوا عَلَيْهَا فَيَحْمِلُوا عَلَيْهَا الطَّعَامَ إِلَى بَلَدِ الْمِلْحِ، وَيَحْمِلُوا عَلَيْهَا الْمِلْحَ إِلَى بِلَادِ السُّودَانِ، فَيَبِيعُونَهَا بِالثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى بِلَادِهِمْ فَيَجِيئُهُمْ أَرْبَابُ الْإِبِلِ فَيُعْطُونَهُمْ مِنَ الثِّيَابِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَمَرَّةً يَرْضَوْنَ، وَمَرَّةً يَأْبَوْنَ حَتَّى يَسْتَرْضُوهُمْ وَإِلَّا فَيُخَاصِمُونَ مَا شَرَطَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ ذَرَّةً. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ أَبَدًا فَلَا يَتَوَضَّئُونَ إِلَّا نَادِرًا، وَلَا يَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ إِلَّا نَادِرًا، وَتَوْحِيدُهُمْ بِالْفَمِ وَمَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ، وَزَكَاتُهُمْ يَجْلِبُونَ بِهَا مَصَالِحَ دُنْيَاهُمْ أَوْ يَدْفَعُونَ بِهَا مَضَارَّهُمْ، وَحَجُّهُمْ بِالْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَادَتُهُ مَحَبَّةُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَالصَّدَقَةُ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ وَقِرَى الضَّيْفِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَلَا يَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَكَبُّرٍ، وَاسْتِرْقَاقِ الْأَحْرَارِ، وَالْمُقَاتَلَةِ، وَالظُّلْمِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَادَتُهُ مُصَاحَبَةُ الْكُفَّارِ وَمُؤَاخَاتُهُمْ، وَذِكْرُ أَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَعُيُوبِهِمْ لَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَادِي مَنْ عَادَى الْكُفَّارَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فَصْلٌ: وَمِنْ فُقَهَائِهِمْ مَنْ عَادَتُهُ تَرْكُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَخْذُ الرِّسَالَةِ وَالْمُدَوَّنَةِ الصُّغْرَى، وابن الجلاب والطليطلي، وابن الحاجب حَتَّى عَادَوْا مَنْ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ، وَيَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: إِنْ كَذَبْتُ عَلَى رَبِّي أَيُّ أَرْضٍ تَحْمِلُنِي، وَإِذَا سَمِعُوا آيَةً تُتْلَى لِتَفْسِيرٍ نَفَرُوا عَنْهَا نَفْرَةَ الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُ الْأُمَرَاءَ طَرْفَةَ عَيْنٍ يَأْكُلُ مَعَهُمْ وَيَشْرَبُ وَيَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَلِّلُ ذَلِكَ لِلْمُلُوكِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَكَتَ لَمْ يَأْمُرْ وَلَمْ يَنْهَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَهَى فَعَادَوْهُ فَخَافَ فَسَكَتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ وَلَا يَسْتَحِقُّهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَشْتَرِطَ مَعَ النَّاسِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ وَيُقْرِئَ صِبْيَانَهُمْ، وَيَرَى عِنْدَهُمُ الْمُنْكَرَ الْعَظِيمَ وَيَسْكُتَ، وَإِنْ تَكَلَّمَ قَالُوا لَهُ: اسْكُتْ فَقَدْ ذَكَرْتَ مَا عَلَيْكَ فَخُذْ شَرْطَكَ وَمَالَكَ، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، فَيَسْكُتُ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِذَا وَعَظْتَ النَّاسَ قَالُوا لَكَ: أَمَا نَحْنُ فُقَهَاءُ مِثْلَكَ؟ فَنَحْنُ قَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ، وَسَكَتْنَا عَنْهُ، هَذَا آخِرُ الزَّمَانِ نَهْيُ الْمُنْكَرِ فِيهِ مُنْكَرٌ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَتَقُولُ لَهُ الْعَامَّةُ: أَمَا رَأَيْتَ فُلَانًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ وَأَتْقَى وَأَعَزُّ وَأَشْرَفُ وَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ وَهُوَ يَرَاهُ، وَيَقْدِرُ عَلَى قَطْعِهِ؟ فَيُسْكِتُوكَ بِذَلِكَ، وَإِلَّا جَعَلُوكَ شَرَّ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَجْهَلَ النَّاسِ وَأَسْفَهَ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَعِظُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَيُطِيعُكَ وَيُصَدِّقُكَ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ يُكَذِّبُكَ، وَيَذْكُرُ لِلْعَامَّةِ دَلَائِلَهُ عَلَى تَكْذِيبِكَ وَتَصْدِيقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِذَا وَعَظْتَ الْعَامَّةَ وَقَبِلَتْ وَتَابَتْ خَلَا بِهِمْ، فَنَقَضَ عَنْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى تَعُودَ الْعَامَّةُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ الْعُشْرَ عِنْدَ الْمِيرَاثِ فَلَا يَقْسِمُ لِأَحَدٍ إِلَّا إِذَا أَخَذَ عُشْرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنِ اكْتِسَابُهُ بِالطَّلْسَمَاتِ وَالرُّقَى لِبَابِ الْمَحَبَّةِ وَالنِّكَاحِ وَالْوَجْهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمَنْ غَضِبُوا عَلَيْهِ يَفْعَلُونَ بِهِ مَا قَدَرُوا مِنْ مَكَائِدِ السُّوءِ فَمَرَّةً يُوَافَقُ فِعْلُهُمْ بِالْقَدَرِ، وَيَقُولُونَ: هَذَا فِعْلُنَا. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِي الْقَضَاءَ بِمَالِهِ وَيَأْخُذُ الرِّشْوَةَ وَالسُّحْتَ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَمِّرُهُ الْمُلُوكُ عَلَى قَوْمٍ فَيَأْخُذُ زَكَاتَهُمْ، وَلَا يَقْسِمُهَا بَيْنَ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ يَقْرَأُ بِالشَّوَاذِّ وَيَتْرُكُ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةَ. فَصْلٌ: وَمِنْهُمُ الْأَلَدُّ الْخَصْمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَالْعِبَادَةَ، وَلُزُومَ الْخَلْوَةِ وَقِرَاءَةَ الرِّسَالَةِ وَالشِّهَابِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عِنْدَ الْجُهَّالِ يَأْكُلُ مَعَهُمْ وَيَشْرَبُ وَيَكُونُ إِمَامَهُمْ. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقْتُلُونَ بَعْضًا بِمَسٍّ أَوْ مُقَارَبَةٍ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُمْرِضُونَهُمْ، وَإِنْ أَعْطَوْهُمْ مَا أَرَادُوا دَاوَوْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْجَرَبَ وَالْجُذَامَ وَالْبَرَصَ وَالزُّكَامَ وَسَائِرَ الْأَمْرَاضِ تُعْدِي، وَإِذَا نُكِحَتِ امْرَأَةٌ وَمَاتَ عِنْدَهَا ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ تَشَاءَمُوا بِهَا، وَكَذَلِكَ الدَّارُ وَالْخَيْلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ بَعْضَ الطُّيُورِ أَوِ السِّبَاعِ أَنْحَسُ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِذَا رَمَيْتَهُ بِمُشْطٍ يَقُولُ لَكَ: لَا، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِطَلَاقٍ، وَيَقُولُونَ فِي الْأَيَّامِ: بَعْضُهَا مَنْحُوسٌ وَبَعْضُهَا مَسْعُودٌ، وَيَذُمُّونَ الْحِجَامَةَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَشُرْبَ الدَّوَاءِ وَمَشْيَ الْمُسَافِرِينَ وَالنِّكَاحَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْبِلَادِ وَالْمِيَاهِ وَالْمَرَاعِي يَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَهَا أَعْكَسُ مِنْ بَعْضٍ. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَارِفٌ إِذَا كَرِهَتِ الْبَهِيمَةُ أَوْلَادَهَا، وَيَعْرِفُ أَسْبَابَ ذَلِكَ وَيَقُولُ لِلنَّاسِ: تَعَالَوْا عِنْدِي كُلُّكُمْ، فَيَأْتُونَهُ فَيَكِيلُ بِذِرَاعِهِ أَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا مَسَحَ بِيَدَيْهِ أَرْجُلَهُمْ وَيَعْزِمُ بِشَيْءٍ فِي نَفْسِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ قِرَاءَةٌ، ثُمَّ يَكِيلُهُمْ ثَانِيَةً فَيَزِيدُ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ يَنْقُصُ، فَيَأْخُذُ ذَلِكَ، فَيَأْخُذُونَ مِنْ أَشْعَارِ رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ فَيُبَخِّرُونَهُ عَلَى تِلْكَ الْبَهِيمَةِ فَيُوَافِقُ مَرَّةً، وَمَرَّةً لَا. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ إِذَا سُرِقَ مَالُهُ وَأَخَذَ الْمُتَّهَمِينَ فَيُوقِدُ نَارًا، وَيُقَيِّدُ الْمُتَّهَمِينَ بِشَيْءٍ قَصِيرٍ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَشْيِ عَلَيْهَا فَيَمُرُّونَ عَلَيْهَا، فَالَّذِي يَسْرِقُ تَارَةً تَحْرِقُهُ، وَالَّذِي لَمْ يَسْرِقْ لَا تَحْرِقُهُ وَلَا تَمَسُّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ الْمُتَّهَمَ وَيَأْخُذُ الْمِرْآةَ وَيُعَلِّقُهَا عَلَى خَيْطٍ، وَيَأْخُذُ الْخَيْطَ وَيُدْلِي الْمِرْآةَ وَيَجْعَلُ خَطَّيْنِ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُ الرَّمَادَ عَلَى خَطٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَيَتْرُكُ الْآخَرَ وَيُدْلِيهَا عَلَى وَسَطِ الْخَطَّيْنِ، وَيَقْرَءُونَ سُورَةَ يس عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ تَحَرَّكَتِ الْمِرْآةُ وَجَرَتْ عَلَى طَرِيقِ الرَّمَادِ ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ يُقْرِئُ الصِّبْيَانَ فَإِذَا خَتَمَ وَاحِدٌ أَوْ بَلَغَ النِّصْفَ أَوِ الثُّلُثَ حَمَلُوهُ عَلَى دَرَقَةٍ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ أَوْ عَلَى فَرَسٍ أَوْ جَمَلٍ وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ، وَيَطُوفُونَ بِهِ الْبَلَدَ كُلَّهُ يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ آيَاتِ الرَّجَاءِ وَمَدَائِحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعْطِيهِمُ النَّاسُ طَعَامًا وَشَرَابًا وَغَنَمًا وَثِيَابًا فَيَتْرُكُونَهُ لِلْفَقِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي بَيْنَ الْعَوَامِّ وَيُنَاجِي كُلَّ مَنْ يَلْقَاهُ: أَلَا أُرِيَكَ رُقْيَةَ الْعَيْنِ وَالنِّكَاحِ وَدُخْلَةَ الْقُلُوبِ وَالْوَجْهِ عِنْدَ السَّلَاطِينِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُزَوِّجُونَ إِلَّا صَاحِبَ نَسَبٍ وَحَسَبٍ وَمَالٍ كَثِيرٍ وَلَا يُزَوِّجُونَ الْفَقِيرَ وَلَوْ كَانَ عَالِمًا صَالِحًا تَقِيًّا. فَصْلٌ: وَمِنْهُمْ قَوْمٌ لَا يَعُدُّونَ الطَّلَاقَ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُمْ حَدٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُدُّ الطَّلَاقَ، فَإِذَا وَصَلُوا ثَلَاثًا أَعْطَى شَيْئًا ثُمَّ يُعِيدُهَا بِغَيْرِ مُحَلِّلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْتَدُّ الْمَرْأَةَ فَتَنْكِحُ مَنْ أَرَادَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِي لِلَّتِي طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مَنْ يُحَلِّلُهَا أَوْ تَشْتَرِيهِ هِيَ بِنَفْسِهَا أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مُلُوكٌ لَا يُقِيمُونَ الْقِصَاصَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ الْمَالَ وَيَقْسِمُونَهُ بَيْنَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ شَرْعًا. فَصْلٌ: مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ شَرِيفٌ لِيُكْرَمَ وَلَا شَهَادَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَالِمٌ أَوْ وَلِيٌّ أَوْ عَابِدٌ لِيُسْتَخْدَمَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِذَا قَصَدَهُ الْمُسْلِمُونَ بِقَتْلٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ نَحْوِهِ يُقَاتِلُ حَتَّى يَقْتُلَ أَوْ يُقْتَلَ، وَفِي نِيَّتِهِ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي الْقِتَالَ حَتَّى يُقْتَلَ بِغَيْرِ حَرَكَةٍ مِنْهُ، وَفِي نِيَّتِهِ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة: 29] كَمَا فَعَلَ هَابِيلُ ثُمَّ عُثْمَانُ أَيُّهُمَا أَعْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَصْلٌ: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ الْقِتَالُ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ؟ فَصْلٌ: فَقِيهٌ رَأَى مُنْكَرًا فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّاسُ نَهْيَهُ وَلَا أَمْرَهُ يُسْقِطُ ذَلِكَ عَنْهُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَصْلٌ: مَا قُلْتُمْ فِيمَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ وَقَصَدَ بِهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً؟ فَصْلٌ: مَا قُلْتُمْ فِيمَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ وَخَوَّفُوهُ فَسَكَتَ خَوْفًا؟ وَفِيمَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ ثُمَّ سَكَتَ عَجْزًا عَنْ سُوءِ مَقَالَاتِ النَّاسِ لَهُ وَالضَّرَرِ وَالتَّعَبِ؟ فَصْلٌ: مَا قُلْتُمْ فِي رَجُلَيْنِ أَمَرَا بِمَعْرُوفٍ، وَنَهَيَا عَنْ مُنْكَرٍ حَتَّى رَأَيَا أَمْرًا عَظِيمًا فِيهِ هَلَاكُ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فَتَرَكَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلَيْهِ وَقَاتَلَ عَلَيْهِ الْآخَرُ حَتَّى قَتَلَ وَقُتِلَ أَيُّهُمَا أَعْلَى مِنَ الْآخَرِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 فَصْلٌ: مَا قُلْتُمْ فِي رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُخَالِطُ أُمَرَاءَ السُّوءِ فَيَشْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ لَدَيْهِمْ وَيَنْفَعُهُمْ، وَالْآخَرُ اعْتَزَلَهُمْ أَيُّهُمَا أَعْلَى؟ فَصْلٌ: فِي بِلَادِنَا كُتُبٌ يَذْكُرُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَاوِيلَ لَيْسَتْ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَمَا يُفْعَلُ فِيهَا؟ . فَصْلٌ: هَلْ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ اللَّهِ كَكِتَابِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ أَمْ لَا؟ . فَصْلٌ: هَلْ يَجُوزُ مَدْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ أَمْ لَا؟ . فَصْلٌ: هَلْ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِمَحَبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَاصٍ وَتَارِكٌ بَعْضَ الْفَرَائِضِ؟ فَصْلٌ: رَجُلٌ يَعِظُ الرِّجَالَ فَقَالَ لَهُ النِّسَاءُ: عِظْنَا مَعَهُمْ فَجَعَلَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ سِتْرًا لَا يَرَى أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ؛ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَصْلٌ: أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُقْرِئَ نِسَاءَنَا سُورَةَ النُّورِ حَتَّى يَحْفَظْنَهَا وَيُفَسِّرْنَهَا أَمْ لَا؟ فَصْلٌ: أَيَجُوزُ لِمُسْلِمٍ إِنْ حَضَرَ الْقِتَالَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ أَنْ يَرْمِيَ نَفْسَهُ فِي الْغَرَرِ لِحُبِّ الشَّهَادَةِ؟ فَصْلٌ: أَيَجِبُ الْقِتَالُ عَلَى أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا تَجْهِيزُ الْأُمُورِ وَصَلَاحُهَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَرْمِيَ نَفْسَهُ عَلَى أَشَدِّ الْبَأْسِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهُوَ إِذَا مَاتَ لَمْ يَجْتَمِعِ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ لِقِتَالٍ، وَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ؟ فَصْلٌ: هَلْ تُقْبَلُ هَدِيَّةُ الْكُفَّارِ وَتَجُوزُ صُحْبَتُهُمْ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ جِزْيَةٌ؟ فَصْلٌ: وَتُبَيِّنُ لِي أَمْرَ هَيْئَةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِدَلَائِلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَعَرْضِ بَلَدِنَا وَطُولِهَا، وَبَلَغَنِي أَنَّكَ أَلَّفْتَ شَيْئًا فِي حُرُوفِ التَّهَجِّي فَلَا يَلِيقُ بِكَرَمِكَ أَنْ تَكْتُمَهُ عَنَّا، وَأَنَا أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، وَإِنِّي لَمُشْتَاقٌ إِلَى لِقَائِكَ غَايَةً. وَاسْمِي محمد بن محمد بن علي اللمتوني فَلَا تَنْسَنِي فِي دُعَائِكَ. وَالسَّلَامُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فَتْحُ الْمَطْلَبِ الْمَبْرُورِ وَبَرَدُ الْكَبِدِ الْمَحْرُورِ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ مِنَ التَّكْرُورِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْفَقِيرِ عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد بن خضر بن أيوب بن محمد بن همام الخضيري السيوطي الشافعي إِلَى حَبِيبِهِ وَأَخِيهِ فِي اللَّهِ الشَّيْخِ الْعَالِمِ الصَّالِحِ شمس الدين محمد بن محمد بن علي اللمتوني أَعَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدَّارَيْنِ وَأَزَالَ عَنْ قَلْبِهِ كُلَّ رَيْنٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَعَلَى وَلَدِكَ وَأَهْلِكَ وَمَنْ يَلُوذُ بِكَ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ عَلَيَّ أَسْئِلَتُكَ الْمُفِيدَةُ الَّتِي سَمَّيْتَهَا مَطْلَبَ الْجَوَابِ. وَهَذِهِ أَجْوِبَتُهَا سَمَّيْتُهَا (فَتْحَ الْمَطْلَبِ الْمَبْرُورِ وَبَرَدَ الْكَبِدِ الْمَحْرُورِ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ مَنِ التَّكْرُورِ) فَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ مِنْ فِعْلِ الْمُلُوكِ وَالرَّعِيَّةِ لِلْأَشْيَاءِ الَّتِي وَصَفْتَهَا كُلُّهَا مَذْمُومَةٌ وَمُحَرَّمَةٌ شَرْعًا إِلَّا مَا اسْتَثْنَيْتُهُ لَكَ، وَبَعْضُهُ أَشَدُّ فِي الْحُرْمَةِ مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا مُقْتَضٍ لِلْكُفْرِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْتَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ لِلْأَصْنَامِ وَيَعْبُدُونَهَا، وَقَوْمٍ أَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَقَوْمٍ أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ لِمُلُوكِهِمْ. فَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ، وَالْبَاقِي مُحَرَّمٌ لَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ إِلَّا مَا يُسْتَثْنَى، وَالْقَدْرُ الْمُسْتَثْنَى مِنَ التَّحْرِيمِ مَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا حَتَّى يَجِيءَ أَوَانُ الطَّعَامِ، فَيَحْضُرَ وَيُسَلِّمَ وَيَأْكُلَ، وَمَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَنْكِحَ الْمُطَلَّقَاتِ الثَّلَاثِ فَيُحَلِّلُهُنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ لَفْظًا فِي الْعَقْدِ، وَمَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ كَالْمَجْنُونِ يُضْحِكُ النَّاسَ، وَمَنْ حِرْفَتُهُ السُّؤَالُ، وَمَنْ حِرْفَتُهُ نِكَاحُ النِّسَاءِ الْكَثِيرَاتِ الْأَمْوَالِ وَيَعِيشُ فِي رِزْقِهِنَّ، وَمَنْ حِرْفَتُهُ الصَّيْدُ، وَمَنْ حِرْفَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأُمَرَاءِ فَيَقْضِي لِلنَّاسِ حَوَائِجَهُمْ وَيَرْتَزِقُ بِذَلِكَ، وَمَنْ حِرْفَتُهُ التَّحْدِيثُ وَالْقَصَصُ وَرِوَايَةُ الْأَخْبَارِ الْحَقِّ بِخِلَافِ الْكَذِبِ، وَمَنْ يَأْخُذُ إِبِلَ قَوْمٍ لِلسَّفَرِ ثُمَّ إِذَا رَجَعَ أَرْضَاهُمْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ شَيْئًا، وَمَنْ يَكُونُ عِنْدَ الْجُهَّالِ يَؤُمُّهُمْ وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ وَيَشْرَبُ، وَمَنْ يُقْرِئُ الصِّبْيَانَ فَإِذَا خَتَمَ وَاحِدٌ دَارَ بِهِ الْبَلَدَ فَيُعْطَى عَلَيْهِ مَا يُعْطَى، وَمَنْ يَكْتُبُ لِلنَّاسِ الرُّقَى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَذْمُومٌ شَرْعًا، وَمَنْ لَا يُزَوِّجُ إِلَّا صَاحِبَ نَسَبٍ وَحَسَبٍ وَمَالٍ فَكُلُّ هَذِهِ الصُّوَرِ لَيْسَتْ بِمُحَرَّمَةٍ، لَكِنَّ بَعْضَهَا مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَبَعْضَهَا مُبَاحٌ. وَبَقِيَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ مَا يُذْكَرُ جَوَابُهُ فَمِنْهَا مَنْ سَكَتَ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ لِخَوْفٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا أَنْكَرَ وَقَالُوا لَهُ: قَدْ بَلَّغْتَ فَاسْكُتْ فَسَكَتَ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ أَوْ لَهُ شَوْكَةٌ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى إِزَالَتِهِ بِالْيَدِ، وَمِنْهَا مَنْ يَقْرَأُ بِالشَّوَاذِّ وَذَلِكَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِنْهَا الْأَلَدُّ الْخَصْمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهَا مَنْ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَالْعِبَادَةَ وَلُزُومَ الْخَلْوَةِ وَقِرَاءَةَ الرِّسَالَةِ وَالشِّهَابِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ وَهَذَا مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ الْحَسَنَةِ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ، وَمِنْهَا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقْتُلُ بِمَسٍّ أَوْ مُقَارَبَةٍ أَوْ يُمْرِضُ وَهَذَا اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِسِحْرٍ أَثِمَ فَاعِلُهُ أَوْ كَفَرَ، وَمِنْهَا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَاضَ تُعْدِي وَهُوَ اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ ; قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَدْوَى» ، وَمِنْهَا التَّشَاؤُمُ بِالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ مُئَوَّلٌ؟ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مالك، وَمِنْهَا التَّشَاؤُمُ بِبَعْضِ الطُّيُورِ أَوِ السِّبَاعِ أَوْ بِالْمُشْطِ أَوْ بِالْأَيَّامِ وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ، وَمِنْهَا ذَمُّ الْحِجَامَةِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَهُوَ صَحِيحٌ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ والحاكم مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَى أبو داود «عَنْ أبي بكرة أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنِ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَيَزْعُمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ» . وَرَوَى الْبَزَّارُ والحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» " وَرَوَى أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الحسين بن علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يَحْتَجِمُ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ» " وَصَحَّ الْأَمْرُ بِالْحِجَامَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الحاكم وَغَيْرُهُ. وَمِنْهَا ذَمُّ السَّفَرِ وَالنِّكَاحِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا، ثَبَتَ عَنْ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يُسَافِرَ فِي مِحَاقِ الشَّهْرِ، وَإِذَا كَانَ الْقَمَرُ فِي الْعَقْرَبِ، وَمِنْهَا ذَمُّ شُرْبِ الدَّوَاءِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَلَمْ أَقِفْ فِيهِ عَلَى حَدِيثٍ وَلَا أَثَرٍ. وَمِنْهَا ذَمُّ بَعْضِ الْبِلَادِ وَالْمِيَاهِ وَالْمَرَاعِي وَذَلِكَ خَاصٌّ بِمَا حَلَّتْ بِهِ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ فِي بَابِلَ وَالْحِجْرِ وَآبَارِ ثَمُودَ وَنَحْوِهَا. وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْبَهِيمَةِ، وَالْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ وَهَذَا شَيْءٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَمِنْهَا مَنْ قُصِدَ بِقَتْلٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ فَقَاتَلَ، وَآخَرُ أَبَى الْقِتَالَ حَتَّى قُتِلَ بِغَيْرِ حَرَكَةٍ أَيُّهُمَا أَعْلَى، وَالْجَوَابُ: الَّذِي أَبَى الْقِتَالَ أَعْلَى وَأَفْضَلُ مِنَ الَّذِي قَاتَلَ وَفِيهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ: " «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» ". وَمِنْهَا: هَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ الْقِتَالُ فِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: لَا. وَمِنْهَا: مَنْ رَأَى مُنْكَرًا وَعَلِمَ أَنَّ النَّاسَ لَا يَقْبَلُونَ نَهْيَهُ وَأَمْرَهُ أَيَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ وَالْجَوَابُ: لَا يَسْقُطُ بَلْ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، فَإِنَّ قُبِلَ قُبِلَ، وَإِنَّ رُدَّ رُدَّ. وَمِنْهَا: مَنْ أَمَرَ وَنَهَى وَقَصَدَ بِهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مَذْمُومٌ آثِمٌ فَشَرْطُ ذَلِكَ الْإِخْلَاصُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْهَا: مَنْ أَمَرَ وَنَهَى، ثُمَّ سَكَتَ لِخَوْفٍ أَوْ عَجْزٍ عَنْ سُوءِ مَقَالَاتِ النَّاسِ لَهُ أَوْ ضَرَرٍ أَوْ تَعَبٍ، وَالْجَوَابُ: هُوَ مَعْذُورٌ. وَمِنْهَا: رَجُلَانِ أَمَرَا وَنَهَيَا ثُمَّ قَاتَلَ وَاحِدٌ وَتَرَكَ آخَرُ الْقِتَالَ أَيُّهُمَا أَعْلَى؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الَّذِي تَرَكَ أَعْلَى وَأَفْضَلُ فَلَيْسَ سَلُّ السَّيْفِ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَيِّنِ. وَمِنْهَا: رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يُخَالِطُ أُمَرَاءَ السُّوءِ فَيَشْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ لَدَيْهِمْ وَيَنْفَعُهُمْ، وَالْآخَرُ اعْتَزَلَهُمْ أَيُّهُمَا أَعْلَى؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَوَّلَ أَعْلَى إِنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الِافْتِتَانَ بِهِمْ وَالدُّخُولَ فِي أَهْوَائِهِمْ، وَالثَّانِيَ أَعْلَى لِمَنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: سَأَلْتَ عَنْ كُتُبٍ فِيهَا أَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَتْ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَيْسَ عِنْدَكُمْ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَمَا تَفْعَلُونَ؟ وَالْجَوَابُ: لَا تَرْوُوا مِنْهَا إِلَّا مَا ثَبَتَ وُرُودُهُ، وَإِلَّا فَقِفُوا عَنْ رِوَايَتِهَا حَتَّى تَكْتُبُوا بِهَا إِلَيَّ وَأُنْبِئَكُمْ بِأَمْرِهَا، وَإِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ أَوْ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَارْوُوهُ مُطْمَئِنِّينَ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مَذْكُورًا فِي تَصَانِيفِ الشَّيْخِ محيي الدين النووي، أَوِ المنذري صَاحِبِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَارْوُوهُ مُطْمَئِنِّينَ. وَمِنْهَا: هَلْ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ اللَّهِ كَكِتَابِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ؟ وَالْجَوَابُ: قَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِالْكَعْبَةِ. وَمِنْهَا: هَلْ يَجُوزُ مَدْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَجَمِيِّ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ. وَمِنْهَا: هَلْ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِمَحَبَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَاصٍ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ. وَمِنْهَا: رَجُلٌ يَعِظُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ سِتْرٌ لَا يَتَرَاءَيَانِ أَيَجُوزُ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ. وَمِنْهَا: هَلْ يَجُوزُ إِقْرَاءُ النِّسَاءِ سُورَةَ النُّورِ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، رَوَى الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُنْزِلُوهُنَّ الْغُرَفَ، وَلَا تُعَلِّمُونَهُنَّ الْكِتَابَةَ -يَعْنِي النِّسَاءَ- وَعَلِمُوهُنَّ الْغَزْلَ وَسُورَةَ النُّورِ» ". وَمِنْهَا: أَيَجُوزُ لِمُسْلِمٍ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ أَنْ يَرْمِيَ نَفْسَهُ فِي الْغَرَرِ لِحُبِّ الشَّهَادَةِ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ وَيَجُوزُ ذَلِكَ لِلْأَمِيرِ الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ. وَمِنْهَا: أَيَجِبُ الْقِتَالُ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا تَجْهِيزُ الْأُمُورِ وَصَلَاحُهَا؟ وَالْجَوَابُ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا تَجْهِيزُ الْأُمُورِ وَصَلَاحُهَا. وَمِنْهَا: هَلْ تُقْبَلُ هَدِيَّةُ الْكُفَّارِ وَتَجُوزُ صُحْبَتُهُمْ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وَمِنْهَا: سَأَلْتَ أَنْ أُبَيِّنَ لَكَ أَمْرَ هَيْئَةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِدَلَائِلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ لِي فِي ذَلِكَ تَأْلِيفًا كَامِلًا يُسَمَّى الْهَيْئَةَ السُّنِّيَّةَ فِي الْهَيْئَةِ السَّنِيَّةِ، وَسَأُرْسِلُ لَكُمْ مِنْهُ نُسْخَةً. وَسَأَلْتَ عَنِ الرِّسَالَةِ الَّتِي لِي فِي حُرُوفِ التَّهَجِّي وَسَأُرْسِلُ لَكُمْ مِنْهَا نُسْخَةً أَيْضًا. وَإِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ كَمَا أَحْبَبْتَنِي، وَنَرْجُو مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يَجْمَعَنَا فِي اللَّهِ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ يَسْبِقُ، وَلَا تَنْسَنِي مِنْ دُعَائِكَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 [الْفَتَاوَى الْأُصُولِيَّةُ] مَسْأَلَةٌ: - وَقَعَتْ فِي الدَّرْسِ - قَالَ الشَّيْخُ جلال الدين المحلي فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ: وَإِثْمُ الْقَاتِلِ الَّذِي هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِإِيثَارِهِ نَفْسَهُ بِالْبَقَاءِ عَلَى مُكَافِئِهِ الَّذِي خَيَّرَهُ بَيْنَهُمَا الْمُكْرِهُ بِقَوْلِهِ: اقْتُلْ هَذَا وَإِلَّا قَتَلْتُكَ، أَقُولُ: أَشْكَلَ إِعْرَابُ (الَّذِي) ، وَعَائِدُهُ، فَإِنَّ الْمُمْكِنَ فِيهِ أُمُورٌ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الْهَاءَ فِي خَيَّرَهُ عَائِدَةٌ عَلَى الْقَاتِلِ، وَفَاعِلُ خَيَّرَ الْمُكْرِهُ. أَحَدُهَا: أَنْ يُجْعَلَ (الَّذِي) صِفَةً لِمُكَافِئٍ، وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ عَوْدُ ضَمِيرٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مُثَنًّى عَلَى (الَّذِي) وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَالْعَائِدُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ. الثَّانِي: أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِنَفْسِهِ وَمُكَافِئِهِ؛ إِمَّا عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ سَبَبِيَّةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْمُطَابَقَةُ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِالرَّجُلَيْنِ الضَّارِبِ أَبُوهُمَا عَمْرًا، أَوْ هُوَ فَاسِدٌ لِاخْتِلَافِ إِعْرَابِهِمَا فَإِنَّ نَفْسَهُ مَنْصُوبٌ، وَمُكَافِئَهُ مَجْرُورٌ ; وَلِأَنَّ الْإِفْرَادَ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ لِإِسْنَادِ الْوَصْفِ إِلَى الظَّاهِرِ، وَلَا إِسْنَادَ فِي (الَّذِي) ، وَإِنَّمَا رَبْطُهُ مَرَرْتُ بِالرَّجُلَيْنِ الَّذِي ضَرَبَ أَبُوهُمَا عَمْرًا. الثَّالِثُ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لَهُمَا عَلَى أَنَّ (الَّذِي) أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، (وَالَّذِي) إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ جَازَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] فَحَصَلَتِ الْمُطَابَقَةُ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْإِعْرَابِ فَيُوجِبُ جَعْلَ الَّذِي نَعْتًا مَقْطُوعًا عَلَى الرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ وَلَا يُخِلُّ بِالتَّرْكِيبِ. الرَّابِعُ: أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْبَقَاءِ، وَالْبَقَاءُ مُعَرَّفٌ بِلَامِ الْجِنْسِ صَادِقٌ بِالْوَاحِدِ فَأَكْثَرَ، فَجَاءَ الْمَوْصُولُ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ، وَالضَّمِيرُ مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهُ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْثَلُ الْأَوْجُهِ وَأَقْرَبُهَا. الْخَامِسُ: أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِإِيثَارِهِ كَذَلِكَ. السَّادِسُ: أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْقَاتِلِ، فَالْعَائِدُ الْهَاءُ فِي خَيَّرَهُ، وَهَذَا أَسْهَلُ الْأَوْجُهِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مَعْنًى وَإِعْرَابًا أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ الْكَثِيرِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ سَبَبُ النُّزُولِ يَخُصُّ الْمَنْزُولَ فِيهِ بِلَفْظِهِ وَحُكْمِهِ أَمْ يَعُمُّهُ وَغَيْرَهُ، وَإِذَا وَرَدَ السَّبَبُ خَاصًّا فَهَلْ يَكُونُ التَّخْصِيصُ مِنَ السَّبَبِ أَمْ مِنَ النَّصِّ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّصِّ فَهَلْ يَقْضِي عَلَى النَّصِّ أَمْ لَا؟ وَهَلِ السَّبَبُ نَاشِئٌ عَنِ النَّصِّ أَمْ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ؟ وَهَلِ التَّأْوِيلُ نَاشِئٌ عَنِ النَّصِّ أَمْ لَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الْجَوَابُ: أَمَّا كَوْنُ سَبَبِ النُّزُولِ هَلْ يَخُصُّ الْمَنْزُولَ فِيهِ أَمْ لَا - فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ يَخُصُّ الْمَنْزُولَ فِيهِ فَلَا يَعُمُّ غَيْرَهُ، وَالْأَصَحُّ وَهُوَ رَأْيُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَخُصُّهُ بَلْ يَعُمُّ غَيْرَهُ، وَلَكِنْ صُورَةُ السَّبَبِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذَا وَرَدَ السَّبَبُ خَاصًّا فَهَلْ يَكُونُ التَّخْصِيصُ مِنَ السَّبَبِ أَمْ مِنَ النَّصِّ؟ فَهَذَا إِنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِنَا بِأَنَّ السَّبَبَ يَخُصُّ الْمَنْزُولَ فِيهِ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَصَحَّ خِلَافُهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِهِ فَالتَّخْصِيصُ مِنَ السَّبَبِ لِلنَّصِّ الْعَامِّ اللَّفْظِ فَقَطْ عَدَّهُ أَهْلُ الْأُصُولِ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ لِلْعُمُومِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا وَرَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مُتَّصِلٍ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَمَنْ يَرَى جَوَازَ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ لَا يَسْتَنْكِرُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّصِّ فَهَلْ يَقْضِي عَلَى النَّصِّ؟ قَدْ عُلِمَ جَوَابُهُ وَهُوَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ نَصٌّ أَيْضًا، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ، وَالْحَدِيثُ يَقْضِي عَلَى الْقُرْآنِ ; أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، ويحيى هَذَا مِنَ التَّابِعِينَ مِنْ أَضْرَابِ الزُّهْرِيِّ. وَقَوْلُهُ: وَهَلِ السَّبَبُ نَاشِئٌ عَنِ النَّصِّ؟ قَدْ عُلِمَ جَوَابُهُ وَهُوَ أَنَّهُ نَاشِئٌ عَنْ نَصٍّ لَكِنْ نَصٌّ حَدِيثِيٌّ لَا قُرْآنِيٌّ، وَلَيْسَ نَاشِئًا عَنِ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ السَّبَبَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ نَصٍّ مَقْبُولٍ لَا عَنْ تَأْوِيلٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: وَهَلِ التَّأْوِيلُ نَاشِئٌ عَنِ النَّصِّ؟ جَوَابُهُ: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا تَأْوِيلَ. مَسْأَلَةٌ: تَقَرَّرَ أَنَّهُ إِذَا خَلَا الْعَصْرُ عَنْ مُجْتَهِدٍ يَقُومُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَثِمُوا عَنْ آخِرِهِمْ فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْفَتْرَةِ: إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ صَاحِبُ النَّازِلَةِ مَنْ يَنْقُلُ لَهُ حُكْمًا فِي نَازِلَتِهِ، الصَّحِيحُ انْتِفَاءُ التَّكْلِيفِ عَنِ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ إِيجَابٌ وَلَا تَحْرِيمٌ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِأَيِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ. الْجَوَابُ: مُتَعَلِّقُ الْإِثْمِ مُخْتَلِفٌ، فَالْإِثْمُ لِمَنْ كَانَ يُمْكِنُهُ بُلُوغُ هَذِهِ الرُّتْبَةِ وَقَصَّرَ فِيهَا، وَعَدَمُ التَّكْلِيفِ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُخَاطَبُ بِفَرْضِ الِاجْتِهَادِ كُلَّ أَحَدٍ بَلْ مَنْ هُوَ فِي صِفَةٍ خَاصَّةٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ: الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ يُقَلِّدُ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ كَلْبِيَّةٌ فَغَسَلَهَا عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ إِمَامِهِ ثُمَّ أَصَابَتْهُ وَعَسُرَ عَلَيْهِ غَسْلُهَا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ يَرَى عَدَمَ وُجُوبِ هَذَا الْغَسْلِ أَمْ لَا ; لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ وَعَمِلَ بِهِ أَوَّلًا يَمْنَعُهُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ آخِرًا؟ وَإِذَا قُلْتُمْ: إِنَّ لَهُ التَّقْلِيدَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الأسنوي فِي شَرْحِ مِنْهَاجِ الْبَيْضَاوِيِّ: إِنَّهُ إِذَا قَلَّدَ مُجْتَهِدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فِي مَسْأَلَةٍ فَلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِيهَا اتِّفَاقًا، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي حُكْمٍ آخَرَ عَلَى الْمُخْتَارِ، فَلَوِ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا فَفِي الرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَذَاهِبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ؛ ثَالِثُهَا: يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، هَلْ مَعْنَاهُ امْتِنَاعُ التَّقْلِيدِ فِيمَا تَقَدَّمَ السُّؤَالُ عَنْهُ أَمْ لَا؟ وَمَا الرَّاجِحُ مِنَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ؟ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّيْخِ جلال الدين المحلي فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ: وَإِذَا عَمِلَ الْعَامِّيُّ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ فِي حَادِثَةٍ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ فِي مِثْلِهَا ; لِأَنَّهُ قَدِ الْتَزَمَ ذَلِكَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ بِهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ أَيْ جَوَازُ الرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهِ فِي حُكْمٍ آخَرَ - إِلَى أَنْ قَالَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ قَالَ: فِي خُرُوجِهِ عَنْهُ أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا لَا يَجُوزُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَيَجُوزُ فِي بَعْضٍ تَوَسُّطًا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَوَازِ فِي غَيْرِ مَا عَمِلَ بِهِ أَخْذًا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي عَمَلِ غَيْرِ الْمُلْتَزِمِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ قَالَ ابن الحاجب كالآمدي اتِّفَاقًا، فَالْمُلْتَزِمُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَقَدْ حَكَيَا فِيهِ الْجَوَازَ فَيُقَيَّدُ بِمَا قُلْنَاهُ انْتَهَى، وَإِذَا قُلْتُمْ بِامْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ فِي الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الَّتِي عَمِلَ بِهَا فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ ذَلِكَ مَعَ مَا قَالَ الكمال الدميري فِي شَرْحِهِ فِي الْقَضَاءِ؟ : فَرْعٌ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ مَذْهَبٌ مُدَوَّنٌ، وَإِذَا دُوِّنَتِ الْمَذَاهِبُ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ؟ الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ كَمَا لَوْ قَلَّدَ فِي الْقِبْلَةِ هَذَا أَيَّامًا انْتَهَى، وَإِطْلَاقُهُ شَامِلٌ لَمَا عَمِلَ بِهِ وَمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَالْمَسْئُولُ إِيضَاحُ ذَلِكَ. الْجَوَابُ: الْأَصَحُّ جَوَازُ الِانْتِقَالِ مُطْلَقًا فِيمَا عَمِلَ بِهِ وَفِيمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، كَذَا صَحَّحَهُ الرافعي وَهُوَ الْمَنْقُولُ فِي السُّؤَالِ عَنِ الدميري لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ غَيْرُ الَّتِي حَكَى فِيهَا الْمَنْعَ اتِّفَاقًا ; وَلِذَا جَمَعَ الْأُصُولِيُّونَ بَيْنَهُمَا فَحَكَوُا الِاتِّفَاقَ فِي هَذِهِ وَحَكَوُا الْخِلَافَ فِي تِلْكَ، وَمِنْ جُمْلَةِ قَوْلِ التَّفْصِيلِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ تِلْكَ فِي التَّمَذْهُبِ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، وَإِرَادَةِ الِانْتِقَالِ عَنْهُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ، وَمَسْأَلَةُ الْمَنْعِ اتِّفَاقًا فِيمَنِ اسْتَفْتَى فِي حَادِثَةٍ مُجْتَهِدًا فَأَفْتَاهُ وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي هَذِهِ تَقْلِيدًا فِي جُزْئِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ خَاصَّةٍ، وَتِلْكَ فِيهَا تَقْلِيدٌ كُلِّيٌّ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ لَا التَّفْصِيلِ، إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمُقَلِّدُ الشَّافِعِيِّ إِذَا غَسَلَ نَجَاسَةَ الْكَلْبِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْتَقِلَ وَيُقَلِّدَ غَيْرَهُ فِيهَا فَلَهُ ذَلِكَ، لَكِنْ بِشَرْطِ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ فِي جَمِيعِ شُرُوطِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ مِنْ مَسْحِ كُلِّ الرَّأْسِ أَوِ الرُّبُعِ وَالدَّلْكِ، وَمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً بِاتِّفَاقِ الْمَذْهَبَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 [الْفَتَاوَى الْقُرْآنِيَّةُ] [سُورَةُ الْفَاتِحَةِ] [ سبب افتتاح القرآن الكريم بها ] سُورَةُ الْفَاتِحَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: وُجِدَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: افْتَتَحَ سُبْحَانَهُ كِتَابَهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ; لِأَنَّهَا جَمَعَتْ جَمِيعَ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهَا أُمُّ الْقُرْآنِ، وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالْأَسَاسُ فَصَارَتْ كَالْعُنْوَانِ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَالتَّبْيِينِ. الْجَوَابُ: هَذَا الْكَلَامُ قَدْ تَكَلَّمْتُ عَلَيْهِ فِي عِدَّةٍ مِنْ تَصَانِيفِي مِنْهَا: الْإِتْقَانُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا: الْإِكْلِيلُ فِي اسْتِنْبَاطِ التَّنْزِيلِ، وَمِنْهَا: قَطْفُ الْأَزْهَارِ فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ، وَمِنْهَا: حَاشِيَةُ الْبَيْضَاوِيِّ، وَأَنَا أُلَخِّصُ ذَلِكَ هُنَا فَأَقُولُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا افْتَتَحَ سُبْحَانَهُ كِتَابَهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ; لِأَنَّهَا جَمَعَتْ جَمِيعَ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ فَنَاسَبَ الِافْتِتَاحُ بِهَا ; لِأَنَّهَا تَصِيرُ كَبَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ وَهِيَ الْإِتْيَانُ أَوَّلَ الْكَلَامِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ، وَكَالْعُنْوَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْعُنْوَانِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى بِذَلِكَ، قَالَ ابن أبي الأصبع فِي بَدَائِعِ الْقُرْآنِ: الْعُنْوَانُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُتَكَلِّمُ فِي غَرَضٍ فَيَأْتِي لِقَصْدِ تَكْمِيلِهِ وَتَأْكِيدِهِ بِأَمْثِلَةٍ فِي أَلْفَاظٍ تَكُونُ عُنْوَانًا لِأَخْبَارٍ مُتَقَدِّمَةٍ وَقِصَصٍ سَالِفَةٍ، وَمِنْهُ نَوْعٌ عَظِيمٌ جِدًّا وَهُوَ عُنْوَانُ الْعُلُومِ بِأَنْ يَذْكُرَ فِي الْكَلَامِ أَلْفَاظٌ تَكُونُ مَفَاتِيحَ الْعُلُومِ، وَمَدَاخِلَ لَهَا - هَذَا كَلَامُ ابن أبي الأصبع، وَالْفَاتِحَةُ لِكَوْنِهَا جَامِعَةً لِجَمِيعِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى مَفَاتِيحِ الْعُلُومِ وَمَدَاخِلِهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ، وَهَذِهِ الْعُلُومُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أَجَلُّ الْعُلُومِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ الْإِيمَانُ، وَالثَّانِيَ هُوَ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الْأَعْمَالُ، وَالثَّالِثَ هُوَ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ مَحَاسِنُ الْأَخْلَاقِ وَيَصِلُ إِلَى حَضْرَةِ الْخَلَّاقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وَمَا عَدَا هَذِهِ مِنَ الْعُلُومِ كَالْوَسِيلَةِ لَهَا، فَلَمَّا جَمَعَتِ الْفَاتِحَةُ هَذِهِ كَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تَكُونَ عُنْوَانَ الْقُرْآنِ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابن أبي الأصبع. [الْقُذَاذَةُ فِي تَحْقِيقِ مَحَلِّ الِاسْتِعَاذَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَقَعَ السُّؤَالُ عَمَّا يَقَعُ مِنَ النَّاسِ كَثِيرًا إِذَا أَرَادُوا إِيرَادَ آيَةٍ قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَيَذْكُرُونَ الْآيَةَ هَلْ (بَعْدَ) هَذِهِ جَائِزَةٌ قَبْلَ الِاسْتِعَاذَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ أَصَابَ الْقَارِئُ فِي ذَلِكَ أَوْ أَخْطَأَ؟ فَأَقُولُ: الَّذِي ظَهَرَ لِي مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ وَالِاسْتِدْلَالُ أَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يَقُولَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَذْكُرُ الْآيَةَ وَلَا يَذْكُرُ الِاسْتِعَاذَةَ فَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ - أَخْرَجَ أحمد، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَالَ أبو طلحة: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ» " الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ عَنْ حمزة بن عبد الله بن عمر قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: حَضَرَتْنِي هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ فَلَمْ أَجِدْ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ جَارِيَةٍ لِي رُومِيَّةٍ فَأَعْتَقْتُهَا، وَأَخْرَجَ ابن المنذر عَنْ نافع قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَشْتَرِي السُّكَّرَ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، فَنَقُولُ لَهُ: لَوِ اشْتَرَيْتَ لَهُمْ بِثَمَنِهِ طَعَامًا كَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ، فَيَقُولُ: إِنِّي أَعْرِفُ الَّذِي تَقُولُونَ لَكِنْ سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ يُحِبُّ السُّكَّرَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللَّهِ فَلَا يَضُرُّهُ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] » " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 " «إِنَّ اللَّهَ قَضَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ هَدَاهُ، وَمَنْ وَثِقَ بِهِ نَجَّاهُ» " قَالَ الربيع: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: مَا تَقُولُ فِي سُلْطَانٍ عَلَيْنَا يَظْلِمُونَا، وَيَعْتَدُونَ عَلَيْنَا فِي صَدَقَاتِنَا أَفَلَا نَمْنَعُهُمْ؟ قَالَ: لَا، الْجَمَاعَةَ الْجَمَاعَةَ، إِنَّمَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ الْخَالِيَةُ بِتَفَرُّقِهَا، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ؟ وَأَخْرَجَ أبو يعلى، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ» ) قَالَ الحسن: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وابن مردويه عَنِ ابن عمرو «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْجُمُعَةِ: " هِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] " وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ فَالصَّوَابُ الِاقْتِصَارُ عَلَى إِيرَادِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَاذَةٍ اتِّبَاعًا لِلْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْبَابَ بَابُ اتِّبَاعٍ، وَالِاسْتِعَاذَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98] إِنَّمَا هِيَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلتِّلَاوَةِ، أَمَّا إِيرَادُ آيَةٍ مِنْهُ لِلِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُكْمٍ فَلَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَعُوذُ بِاللَّهِ " تَرْكِيبٌ لَا مَعْنَى لَهُ وَلَيْسَ [فِيهِ] مُتَعَلِّقٌ لِلظَّرْفِ وَإِنْ قُدِّرَ تَعَلُّقُهُ بِقَالَ فَفِيهِ الْفَسَادُ الْآتِي، وَإِنْ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَذَكَرَ الْآيَةَ فَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ جَعْلُ الِاسْتِعَاذَةِ مَقُولًا لِلَّهِ وَلَيْسَتْ مِنْ قَوْلِهِ، وَإِنْ قَدَّمَ الِاسْتِعَاذَةَ ثُمَّ عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ: قَالَ اللَّهُ وَذَكَرَ الْآيَةَ فَهُوَ أَنْسَبُ مِنَ الصُّورَتَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُ خِلَافُ الْوَارِدِ، وَخِلَافُ الْمَعْهُودِ مِنْ وَصْلِ آخِرِ الِاسْتِعَاذَةِ بِأَوَّلِ الْمَقْرُوءِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ فَاصِلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلتِّلَاوَةِ، وَبَيْنَ إِيرَادِ آيَةٍ مِنْهُ لِلِاحْتِجَاجِ جَلِيٌّ وَاضِحٌ. مَسْأَلَةٌ: إِذَا قَرَأَ كَلِمَةً مُلَفَّقَةً مِنْ قِرَاءَتَيْنِ كَالرَّحِيمِ مَالِكِ بِالْإِدْغَامِ مَعَ الْأَلِفِ، وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى بِتَرْكِ الْأَلِفِ وَعَدَمِ الْإِمَالَةِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُلْتُمْ: يَجُوزُ، فَهَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ سَوَاءٌ أَخَلَّ بِالْمَعْنَى أَمْ لَا؟ غَيَّرَ نَظْمَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ مَعَ نَصْبِ اللَّامِ أَمْ لَا؟ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الْجَوَابُ: الَّذِي اخْتَارَهُ ابن الجزري فِي النَّشْرِ أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَرَتِّبَةً عَلَى الْأُخْرَى مُنِعَ التَّلْفِيقُ مَنْعَ تَحْرِيمٍ كَمَنْ يَقْرَأُ {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] بِرَفْعِهِمَا أَوْ بِنَصْبِهِمَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ مَقَامِ الرِّوَايَةِ وَغَيْرِهَا، فَيَحْرُمُ فِي الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ كَذِبٌ فِي الرِّوَايَةِ وَتَخْلِيطٌ، وَيَجُوزُ فِي التِّلَاوَةِ، هَذَا خُلَاصَةُ مَا قَالَهُ ابن الجزري، وَذَكَرَ ابن الصلاح والنووي أَنَّ التَّالِيَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ مَا دَامَ الْكَلَامُ مُرْتَبِطًا، فَإِذَا انْقَضَى ارْتِبَاطُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِقِرَاءَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابن الجزري، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَهَذَا أَثَرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَغَيْرُهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَرَادَ أَنَّ اتِّبَاعَ مَنْ قَبْلَنَا فِي الْحُرُوفِ سُنَّةٌ، وَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَةُ الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ إِمَامٌ وَلَا هِيَ مَشْهُورَةٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ سَائِغًا فِي اللُّغَةِ. انْتَهَى. مَسْأَلَةٌ: الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أبو داود فِي سُنَنِهِ «عَنِ الشريد بن سويد قَالَ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا، وَقَدِ اتَّكَأْتُ عَلَى إِلْيَةِ يَدِي الْيُسْرَى، وَوَضَعْتُهَا خَلْفَ ظَهْرِي، فَقَالَ: " أَتَقْعُدُ قَعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» " مَنْ هُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ؟ هَلْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] . الْجَوَابُ: نَعَمْ، الْمُرَادُ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَهُمُ الْيَهُودُ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى كَرَاهَةِ هَذِهِ الْقِعْدَةِ لِفِعْلِ الْيَهُودِ لَهَا، وَأَوْرَدَ بَعْدَهُ حَدِيثَ الْبُخَارِيِّ عَنْ عائشة أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ يَدَهُ فِي خَاصِرَتِهِ، وَتَقُولُ: إِنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ كَرَاهَةُ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ فِي كَيْفِيَّةِ قُعُودِهِمْ. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ الْإِمَامِ الْبَيْضَاوِيِّ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُسْتَكِنِّ فِي (وَلِيُّ) أَوْ مِنَ الْمَوْصُولِ أَوْ مِنْهُمَا، بَيِّنَ لَنَا كَيْفَ صِيغَةُ الْحَالِ عَلَى كُلٍّ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الْجَوَابُ: مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ صَاحِبَ الْحَالِ وَالْحَالَ يُشْبِهَانِ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ، فَلِذَلِكَ السَّبَبِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَالِ وَاحِدًا وَيَتَعَدَّدُ حَالُهُ، كَمَا يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ وَاحِدًا وَالْخَبَرُ مُتَعَدِّدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَالِ مُتَعَدِّدًا وَالْحَالُ مُتَعَدِّدٌ أَوْ مُتَّحِدٌ، وَيُشْتَرَطُ وُجُودُ الرَّابِطِ لِكُلٍّ مِنَ الضَّابِطَيْنِ، كَمَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الرَّابِطِ لِكُلٍّ مِنَ الْمُبْتَدَأَيْنِ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمَشْهُورَةِ حَتَّى فِي الْأَلْفِيَّةِ أَنَّ الْحَالَ يَأْتِي مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ عَامِلًا فِيهِ كَمَا قَالَ: وَلَا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ ... إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي (وَلِيُّ) وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ أبو حيان فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّ صِيغَةَ (وَلِيُّ) صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَفِيهِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ هُوَ الْأَوْضَحُ، وَالْحَالُ تَأْتِي مِنَ الْفَاعِلِ كَثِيرًا، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ حَالَ إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ مُخْرِجًا لَهُمْ؛ أَيْ: مَوْلَاهُمْ حَيْثُ أَخْرَجَهُمْ، وَالْحَالُ قَيْدٌ فِي الْعَامِلِ، فَجُمْلَةُ الْإِخْرَاجِ حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لِهَيْئَةِ التَّوَلِّي، وَضَمِيرُ يُخْرِجُ الْمُسْتَتِرُ فِيهِ هُوَ الرَّابِطُ لِجُمْلَةِ الْحَالِ بِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا جُعِلَ مِنْ ضَمِيرِ (وَلِيُّ) لَا مِنْ نَفْسِ (وَلِيُّ) ; لِأَنَّهُ وَاقِعٌ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْحَالَ لَا تَأْتِي مِنَ الْخَبَرِ، بَلْ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا، وَهُوَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِشَرْطِهِ أَوِ الْمُبْتَدَأُ عَلَى رَأْيٍ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا يَأْتِي مِنْهُ الْحَالُ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ إِلَى الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الْمَوْصُولِ وَاضِحٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ مَجْرُورٌ بِإِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ إِلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ قَاعِدَةِ مَا كَانَ الْمُضَافُ عَامِلًا فِيهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ ; وَلِهَذَا لَوْ جِئْتَ بَدَلَ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْفِعْلِ ظَهَرَتِ الْمَفْعُولِيَّةُ فَيُقَالُ: اللَّهُ تَوَلَّى الَّذِينَ آمَنُوا، فَيَكُونُ الَّذِينَ مَفْعُولًا وَالْحَالُ يَأْتِي مِنَ الْمَفْعُولِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ حَالَ كَوْنِهِمْ مُخْرَجِينَ بِهِدَايَتِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ، فَإِذَا قُدِّرَتِ الْحَالُ مِنْ ضَمِيرِ (وَلِيُّ) كَانَتْ فِي تَقْدِيرِ مُخْرِجًا بِالْكَسْرِ اسْمَ فَاعِلٍ، وَإِذَا قَدَّرْتَهَا مِنَ الَّذِينَ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ كَانَتْ فِي تَقْدِيرِ مُخْرَجِينَ بِالْفَتْحِ اسْمَ مَفْعُولٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَاضِحٌ أَيْضًا وَهُوَ أَنَّهَا حَالٌ مِنْهُمَا مَعًا، فَإِنَّ فِيهَا رَابِطَيْنِ: رَابِطٌ بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ ضَمِيرُ يُخْرِجُ الْمُسْتَتِرُ الَّذِي هُوَ فَاعِلٌ، وَرَابِطٌ بِالثَّانِي، وَهُوَ ضَمِيرُ الَّذِينَ آمَنُوا، الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ يُخْرِجُ، وَهُوَ هُمْ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا: اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ حَالَ كَوْنِهِ مُخْرِجًا لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ، وَحَالَ كَوْنِهِمْ مُخْرَجِينَ بِالِاهْتِدَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مُلَاحَظَةٌ أُخْرَى لِقَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ وَهِيَ اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] هَلْ يَصِحُّ نَصْبُ حَلَالًا عَلَى التَّمْيِيزِ؟ الْجَوَابُ: لَا يَصِحُّ، بَلْ هُوَ حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ. [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ] مَسْأَلَةٌ: الْمَسْئُولُ مِنْ صَدَقَاتِكُمْ، فَسَّحَ اللَّهُ فِي أَجَلِكُمْ بَيَانُ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ الْبَيْضَاوِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] ذَكَرَ الْخَيْرَ وَحْدَهُ ; لِأَنَّهُ الْمَقْضِيُّ بِالذَّاتِ وَالشَّرُّ مَقْضِيٌّ بِالْعَرَضِ؛ إِذْ لَا يُوجَدُ شَرٌّ جُزْئِيٌّ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ خَيْرًا كُلِّيًّا -بَيَانًا شَافِيًا. الْجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى النَّظَرِ إِلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَكَذَا أَحْكَامُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنِ ذَلِكَ، وَإِنْ خَفِيَ وَجْهُ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا ; وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " «لَا تَتَّهِمِ اللَّهَ عَلَى نَفْسِكَ» " فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ كَانَ مَظِنَّةً أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: كَيْفَ قَدَّرَ الشَّرَّ وَهُوَ خِلَافُ مَا عُلِمَ نَظَرُهُ إِلَيْهِ شَرْعًا وَقَدَرًا؟ وَهَذِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُعْتَزِلَةُ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الشَّرَّ الْيَسِيرَ إِذَا كَانَ وَسِيلَةً إِلَى خَيْرٍ كَثِيرٍ كَانَ ارْتِكَابُهُ مَصْلَحَةً لَا مَفْسَدَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَصْدَ وَالْحِجَامَةَ وَشُرْبَ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، وَقَطْعَ السِّلْعَةِ وَنَحْوَهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُؤْلِمَةِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى حُصُولِ الصِّحَّةِ؟ يَحْسُنُ ارْتِكَابُهُ فِي مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَيُعَدُّ خَيْرًا لَا شَرًّا، وَصِحَّةً لَا مَرَضًا، لِاسْتِلْزَامِهِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا قَضَاهُ اللَّهُ مِنَ الشَّرِّ فَإِنَّمَا قَضَاهُ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى خَيْرٍ أَعْظَمَ وَأَعَمَّ نَفْعًا ; وَلِهَذَا وَرَدَ: " «لَا تَكْرَهُوا الْفِتَنَ فَإِنَّ فِيهَا حَصَادَ الْمُنَافِقِينَ» "، وَوَرَدَ: " «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ الْعُجْبَ الْعُجْبَ» " فَتَقْدِيرُ الذُّنُوبِ وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَلَيْسَتْ لِكَوْنِهَا مَقْصُودَةً فِي نَفْسِهَا بَلْ لِغَيْرِهَا وَهُوَ السَّلَامَةُ مِنْ دَاءِ الْعُجْبِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَلِهَذَا قِيلَ: يَا مَنْ إِفْسَادُهُ إِصْلَاحٌ يَعْنِي أَنَّ مَا قَدَّرَهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ فَلِتَضَمُّنِهِ مَصَالِحَ عَظِيمَةً اغْتُفِرَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْيَسِيرُ فِي جَنْبِهَا لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَيْهَا، وَمَا أَدَّى إِلَى الْخَيْرِ فَهُوَ خَيْرٌ، فَكُلُّ شَرٍّ قَدَّرَهُ اللَّهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يُقْصَدْ بِالذَّاتِ بَلْ بِالْعَرَضِ لِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْخَيْرِ الْأَعْظَمِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ خَيْرٌ فَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26] فَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي وَجْهِ أَنَّهُ شَامِلٌ لِمَا قَصَدَ أَصْلًا، وَلِمَا وَقَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 اسْتِلْزَامًا، وَهَذِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ، الَّتِي قَرَّرَهَا الْغَزَالِيُّ وَأَلَّفْنَا فِي شَرْحِهَا كِتَابَ: تَشْيِيدِ الْأَرْكَانِ، فَلْيَنْظُرْهُ مَنْ أَرَادَ الْبَسْطَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] كَيْفَ أَضَافَ الْحَجَّ إِلَى الْبَيْتِ، وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ؟ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحَجُّ عَرَفَةُ» ". الْجَوَابُ: كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْ هَذَا وَمِنْ شَأْنِ الْمُضَافِ أَبَدًا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِلَّا إِضَافَةَ الْبَيَانِ؟ وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ فِي الْآيَةِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ " «الْحَجُّ عَرَفَةُ» " فَعَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ مُعْظَمُ أَفْعَالِ الْحَجِّ وُقُوفُ عَرَفَةَ. فَأَعَادَ السَّائِلُ السُّؤَالَ: يُحِيطُ عِلْمُ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُعْظَمُ أَفْعَالِ الْحَجِّ يَكُونُ بِعَرَفَةَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِضَافَةِ الْحَجِّ إِلَى الْبَيْتِ دُونَ غَيْرِهِ. فَأَجَبْتُ: الْبَيْتُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فَأُضِيفَ الْحَجُّ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125] وَقَالَ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ - فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 - 97] فَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ عَرَفَةَ وَسَائِرِ الْبِقَاعِ، إِلَّا الْقَبْرَ الشَّرِيفَ النَّبَوِيَّ، فَأُضِيفَ الْحَجُّ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ الْمُعَظَّمُ فَوْقَ عَرَفَةَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحَجُّ عَرَفَةُ» " فَاعْتِبَارٌ آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سِيقَ لِبَيَانِ مَا يَعْتَنِي الْحَاجُّ بِحُصُولِهِ خَوْفَ فَوَاتِ الْحَجِّ، فَإِنَّ وُقُوفَ عَرَفَةَ مُقَدَّرٌ بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْعِيدِ، فَمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْوُقُوفَ فِي لَحْظَةٍ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ فَاتَهُ الْحَجُّ بِخِلَافِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْحَلْقِ الَّتِي هِيَ بَقِيَّةُ أَرْكَانِ الْحَجِّ، فَإِنَّهَا لَا تَفُوتُ أَصْلًا وَلَا تَتَقَيَّدُ بِوَقْتٍ بَلْ هِيَ مُطْلَقَةٌ مَتَى فُعِلَتْ أَجْزَأَتْ؛ فَلِهَذَا قَالَ: " «الْحَجُّ عَرَفَةُ» " أَيِ: الْأَمْرُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ إِدْرَاكُ الْحَجِّ أَوْ فَوَاتُهُ وُقُوفُ عَرَفَةَ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ فَاتَهُ الْحَجُّ فَهَذِهِ إِضَافَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: حَجُّ الْبَيْتِ إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَافْهَمِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِضَافَتَيْنِ. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] مَا السِّمَةُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ؟ وَهَلْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَبَةٌ؟ فَإِنَّ الشَّيْخَ مجد الدين الشيرازي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 نَقَلَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَذَبَةٌ طَوِيلَةٌ نَازِلَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَتَارَةً عَلَى كَتِفِهِ، وَأَنَّهُ مَا فَارَقَ الْعَذَبَةَ قَطُّ، وَأَنَّهُ قَالَ: " خَالِفُوا الْيَهُودَ وَلَا تُصَمِّمُوا فَإِنَّ تَصْمِيمَ الْعِمَامَةِ مِنْ زِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ " وَأَنَّهُ قَالَ: " أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِمَامَةٍ صَمَّاءَ " فَهَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ؟ وَمَا عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْعَذَبَةَ سُنَّةٌ وَتَرَكَهَا مُسْتَنْكِفًا عَنْهَا؟ وَهَلْ إِذَا اقْتَدَى الشَّخْصُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَذَبَةِ وَحَصَلَ لَهُ الْخُيَلَاءُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ كَلَامُ اللَّهِ؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا السِّمَةُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِأَسَانِيدَ عَنْ علي، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا الصُّوفُ الْأَبْيَضُ فِي نَوَاصِي خُيُولِهِمْ وَأَذْنَابِهَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْعِهْنِ الْأَحْمَرِ، وَرُوِيَ عَنْ مكحول وَغَيْرِهِ أَنَّهَا الْعَمَائِمُ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ وكيع، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ يحيى بن عباد أَنَّ الزبير كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ مُعْتَجِرًا بِهَا، فَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ، عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ، وَرَوَاهُ ابن المنذر مِنْ طَرِيقِ هشام، عَنْ عباد بن حمزة، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: مِثْلُ سِيمَا الزبير، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمُ بِيضٌ قَدْ أَرْسَلُوهَا إِلَى ظُهُورِهِمْ، وَفِي إِسْنَادِهِ عمار بن أبي مالك ضَعَّفَهُ الأزدي، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عروة قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى سِيمَا الزبير وَهُوَ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " قَوْلِهِ: {مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] قَالَ: مُعَلِّمِينَ " وَكَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمُ سُودٌ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَهُوَ بَدْرِيٌّ، قَالَ: خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ فِي عَمَائِمَ صُفْرٍ قَدْ طَرَحُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ. فَالَّذِي صَحَّ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي الْعَمَائِمِ أَنَّهَا صُفْرٌ مُرْخَاةٌ بَيْنَ الْأَكْتَافِ، وَرِوَايَةُ الْبِيضِ وَالسُّودِ ضَعِيفَةٌ. وَالِاعْتِجَارُ لَفُّ الْعِمَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ. وَأَمَّا الْعَذَبَةُ فَوَقَفْتُ فِيهَا عَلَى عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْ لُبْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلْبَاسِهِ وَلَيْسَ فِيهَا طَوِيلَةٌ: الْأَوَّلُ «عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وأبو داود. الثَّانِي: «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ» ، قَالَ نافع: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ. الثَّالِثُ: «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَدَلَهَا بَيْنَ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي» ، رَوَاهُ أبو داود. الرَّابِعُ: عَنْ عائشة قَالَتْ: «عَمَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَرْخَى لَهُ أَرْبَعَ أَصَابِعَ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ شَيْخِهِ مِقْدَامِ بْنِ دَاوُدَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الْخَامِسُ: عَنْ ثَوْبَانَ " «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اعْتَمَّ أَرْخَى عِمَامَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» " رَوَاهُ فِي الْأَوْسَطِ وَفِيهِ الحجاج بن رشدين ضَعِيفٌ. السَّادِسُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَأَرْسَلَ مِنْ خَلْفِهِ أَرْبَعَ أَصَابِعَ أَوْ نَحْوَهَا ثُمَّ قَالَ: " هَكَذَا فَاعْتَمَّ فَإِنَّهُ أَعْرَبُ وَأَحْسَنُ» "، رَوَاهُ فِي الْأَوْسَطِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. السَّابِعُ: «عَنْ أبي عبد السلام قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمُّ؟ قَالَ: " كَانَ يُدِيرُ كَوْرَ الْعِمَامَةِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَغْرِزُهَا مِنْ وَرَائِهِ وَيُرْسِلُهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ» "، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ إِلَّا أبا عبد السلام وَهُوَ ثِقَةٌ. الثَّامِنُ: عَنْ أبي موسى «أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى ذُؤَابَتَهَا مِنْ وَرَائِهِ» . رَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ عبد الله بن تمام وَهُوَ ضَعِيفٌ. التَّاسِعُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُمْ بِالْعَمَائِمِ، فَإِنَّهَا سِيمَا الْمَلَائِكَةِ وَأَرْخُوهَا خَلْفَ ظُهُورِكُمْ» " رَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ علي بن يونس وَهُوَ مَجْهُولٌ. الْعَاشِرُ: عَنْ أبي أمامة قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوَلِّي وَالِيًا حَتَّى يُعَمِّمَهُ وَيُرْخِيَ لَهَا مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ نَحْوَ الْأُذُنِ» ، رَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ جميع بن ثوب مَتْرُوكٌ. الْحَادِي عَشَرَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا إِلَى خَيْبَرَ فَعَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا مِنْ وَرَائِهِ، أَوْ قَالَ: عَلَى كَتِفِهِ» ، رَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. الثَّانِي عَشَرَ: عَنْ عائشة قَالَتْ: " «عَمَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ بِفِنَاءِ بَيْتِي هَذَا، وَتَرَكَ مِنْ عِمَامَتِهِ مِثْلَ وَرَقِ الْعُشَرِ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ أَكْثَرَ الْمَلَائِكَةِ مُعْتَمِّينَ» " أَخْرَجَهُ ابن عساكر. هَذَا مَا حَضَرَنِي الْآنَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِيهَا، فَقَوْلُ الشَّيْخِ مجد الدين: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَبَةٌ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ: طَوِيلَةٌ لَمْ أَرَهُ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَحَادِيثِ إِرْخَائِهَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَ كَتِفَيْهِ صَحِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ: وَتَارَةً عَلَى كَتِفِهِ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مِنْ لُبْسِهِ لَكِنْ مِنْ إِلْبَاسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَعْمِيمِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وعليا، وَقَوْلُهُ: مَا فَارَقَ الْعَذَبَةَ قَطُّ، لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ بَلْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْهَدْيِ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمُّ تَارَةً بِعَذَبَةٍ وَتَارَةً بِلَا عَذَبَةٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ: " خَالِفُوا الْيَهُودَ " إِلَى آخِرِهِ، وَحَدِيثُ: " أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِمَامَةٍ صَمَّاءَ " فَلَا أَصْلَ لَهُمَا، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَتَرَكَهَا اسْتِنْكَافًا عَنْهَا أَثِمَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَنْكِفٍ فَلَا، قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: يَجُوزُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ بِإِرْسَالِ طَرَفِهَا وَبِغَيْرِ إِرْسَالِهِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ إِرْسَالِهَا شَيْءٌ، وَإِرْسَالُهَا إِرْسَالًا فَاحِشًا كَإِرْسَالِ الثَّوْبِ فَيَحْرُمُ لِلْخُيَلَاءِ وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، مَنْ جَرَّ شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " رَوَاهُ أبو داود، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا إِذَا اقْتَدَى الشَّخْصُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمَلِ الْعَذَبَةِ وَحَصَلَ لَهُ ضِمْنَ ذَلِكَ خُيَلَاءُ، فَدَوَاؤُهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُ وَيُعَالِجَ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ الْعَذَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَزُلْ إِلَّا بِتَرْكِهَا فَلْيَتْرُكْهَا مُدَّةً حَتَّى يَزُولَ ; لِأَنَّ تَرْكَهَا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَإِزَالَةُ الْخُيَلَاءِ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْأَحَادِيثُ كَلَامُ اللَّهِ؟ فَنَعَمْ بِمَعْنَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] وَرَوَى أبو داود، وَابْنُ حَيَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمَا يَعْدِلُهُ، فَرُبَّ شَبْعَانَ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» ". وَرَوَى أبو داود مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ نَحْوَهُ وَفِيهِ: " «أَلَا إِنِّي أَمَرْتُ وَوَعَظْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا بِمِثْلِ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرَ» "، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَطْلُوبِ مَا رَوَاهُ أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي مِثْلُ الْحَيَّيْنِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا رَبِيعَةُ وَمُضَرُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَقُولُ مَا أَقُولُ» " وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ، أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، وَهُوَ شَامِيٌّ ثِقَةٌ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ ; وَلِذَلِكَ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ اسْتَوْعَبْتُهَا فِي الْقِطْعَةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا عَلَى سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ. مَسْأَلَةٌ: مَا وَجْهُ عَطْفِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] عَلَى قَوْلِهِ: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 193] مَعَ أَنَّ الذُّنُوبَ بِمَعْنَى السَّيِّئَاتِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالذُّنُوبِ الْكَبَائِرُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ التَّكْفِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الصَّغَائِرِ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالذُّنُوبِ مَا قَدَّمُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَبِالسَّيِّئَاتِ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الْمُرَادَ بِالذُّنُوبِ تَرْكُ الطَّاعَاتِ، وَبِالسَّيِّئَاتِ فِعْلُ الْمَعَاصِي. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُتَرَادِفَيْنِ كَقَوْلِهِ: وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا. [سُورَةُ النِّسَاءِ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] مَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: {ضِعَافًا} [النساء: 9] مَعَ أَنَّ ذُرِّيَّةً يُغْنِي عَنْهُ، فَإِنَّ الذُّرِّيَّةَ هُمُ الصِّغَارُ؟ الْجَوَابُ: أَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّفْسِيرُ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَسَّرَ الذُّرِّيَّةَ فِي الْآيَةِ بِالْأَوْلَادِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا وَفَسَّرَ قَوْلَهُ {ضِعَافًا} [النساء: 9] أَيْ: صِغَارًا فَعُلِمَ أَنَّ الذُّرِّيَّةَ شَامِلٌ لِلْأَوْلَادِ مُطْلَقًا كَيْفَ كَانُوا، وَتَخْصِيصُهُمْ فِي الْآيَةِ بِالصِّغَارِ مِنَ الْوَصْفِ أَعْنِي صِغَارًا، وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ: الذُّرِّيَّةُ أَصْلُهَا الصِّغَارُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَعًا فِي التَّعَارُفِ، هَذَا لَفْظُهُ، وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِإِطْلَاقِ الذُّرِّيَّةِ عَلَى الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3] وَقَوْلِهِ: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ أَيْضًا، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ - ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 33 - 34] وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الذُّرِّيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الْأَوْلَادِ وَعَلَى الْآبَاءِ أَيْضًا، قَالَ صَاحِبُ نَظْمِ الْقُرْآنِ: الذُّرِّيَّةُ تُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَلِلْأَصْلِ وَالنَّسْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] أَيْ آبَاءَهُمْ، وَقَالَ الزملكاني فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ: الذُّرِّيَّةُ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْأَوْلَادِ تُطْلَقُ عَلَى الْآبَاءِ ; لِأَنَّ الْأَبَ ذُرِئَ مِنَ الْوَلَدِ أَيْ خُلِقَ، فَكَانَ ذُرِّيَّةً لِوَلَدِهِ، كَمَا أَنَّ الْوَلَدَ ذَرِيءٌ مِنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَمِنِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْآبَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] أَيْ آبَاءَهُمْ قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34] جَعَلَ آدَمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ ذُرِّيَّةً لِلْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 مَسْأَلَةٌ: مَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ بِأَنَّهُ حَرَامٌ اسْتِنَادًا لِمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِيهِ بِالْحُرْمَةِ كَآيَةِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ هَلِ الْحُرْمَةُ فِيهِ لِعَيْنِهِ أَمْ لِمَعْنًى آخَرَ؟ حَكَوْا فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَحِينَئِذٍ فَالْقَائِلُ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُعَيَّنٌ هَلْ يَقُولُ: إِنَّ حَدَّ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِهِ؛ قَيْدُ الْأَفْعَالِ فِيهِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، أَوْ مُعْتَبَرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِخْرَاجِ مَا احْتَرَزُوا عَنْهُ بِهِ مِمَّا لَا يُسَمَّى حُكْمًا، وَحِينَئِذٍ فَكَيْفَ مُعَلَّقُ الْحُكْمِ بِالْعَيْنِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ ذَهَبَ. الْجَوَابُ: الْخِلَافُ فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ هَلْ هُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ شَهِيرٌ حَكَاهُ خَلَائِقُ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي التَّقْرِيبِ، وَحَكَاهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ السبكي، وَزَيَّفَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ جِدًّا حَتَّى قَالَ: إِنَّهُ قَالَ بِهِ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ، وَحَكَاهُ وَلَدُهُ الشَّيْخُ تاج الدين وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ أَصْلُنَا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ - هَذِهِ عِبَارَتُهُ، وَذَكَرَ وَالِدُهُ أَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي فُرُوعٍ فِقْهِيَّةٍ، مِنْهَا مَا لَوْ كَانَ بِيَدِ شَخْصٍ مَالٌ مَغْصُوبٌ فَأَعْطَاهُ لِآخَرَ، وَهُمَا جَاهِلَانِ بِالْغَصْبِ ظَانَّانِ أَنَّهُ مِلْكُهُ فَإِنْ قُلْنَا: التَّحْرِيمُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ؛ لَمْ يُوصَفْ هَذَا الْمَالُ بِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَإِنْ قُلْنَا مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ وُصِفَ بِهِ، وَمِنْهَا قَتْلُ الْخَطَأِ يُوصَفُ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى قَوْلِ الْأَعْيَانِ دُونَ الْأَفْعَالِ، وَذَكَرَ وَلَدُهُ الشَّيْخُ تاج الدين لَهُ فَوَائِدَ أُصُولِيَّةً مِنْهَا أَنَّ نَحْوَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] لَا إِجْمَالَ فِيهِ قَطْعًا عَلَى قَوْلِ الْأَعْيَانِ وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ عَلَى قَوْلِ الْأَفْعَالِ، وَأَمَّا حَدُّ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ مَاشٍ عَلَى الْقَوْلِ الصَّوَابِ دُونَ الْقَوْلِ الْمُزَيَّفِ، وَمَنْ يَقُولُ بِالْمُزَيَّفِ يَحْتَاجُ فِي الْحَدِّ إِلَى عِبَارَةٍ تُنَاسِبُ مَذْهَبَهُ، هَذَا آخِرُ الْجَوَابِ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ السَّائِلِ: هَلِ الْحُرْمَةُ فِيهِ لِعَيْنِهِ أَمْ لِمَعْنًى آخَرَ؛ عِبَارَةٌ مُلْبِسَةٌ، فَإِنَّ لَنَا مَسْأَلَتَيْنِ: مَسْأَلَةُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْأَفْعَالِ، أَوْ بِالْأَعْيَانِ، وَهَذِهِ مُطَّرِدَةٌ فِي كُلِّ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، وَمَسْأَلَةُ إِذَا قُلْنَا: تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، فَفِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَجْرِي فِيهَا خِلَافٌ هَلِ التَّحْرِيمُ لِلْعَيْنِ أَوِ الذَّاتِ أَوْ لِمَعْنًى خَارِجٍ كَمَا قِيلَ فِي اسْتِعْمَالِ أَوَانِي النَّقْدَيْنِ، وَهَذِهِ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ فِي كُلِّ تَحْرِيمٍ، فَأَوَّلُ السُّؤَالِ يُوهِمُ أَنَّهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَآخِرُهُ يُوهِمُ أَنَّهُ عَنِ الْأُولَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 [سُورَةُ الْأَعْرَافِ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] هَلْ كَانَتِ الْأَيَّامُ ثَمَّ مَوْجُودَةً قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ وَهَلْ كَانَتْ لَهَا ثَمَّ أُمُورٌ تُعْرَفُ بِهَا أَوْ فِي الْآيَةِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ؟ الْجَوَابُ: الَّذِي وَضَحَ لِي بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالتَّمَهُّلِ أَيَّامًا حَتَّى أَعْطَيْتُ النَّظَرَ حَقَّهُ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَخَلْقَ الْأَيَّامِ كَانَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذِكْرُ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ يَطُولُ، وَلَكِنْ نَذْكُرُ شَيْئًا مُخْتَصَرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ " وَفِي لَفْظٍ: " الْأَرْضَ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَالنُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَالدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَآدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» " فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمُسَمَّاةِ بِعَيْنِهَا، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وابن المنذر فِي تَفْسِيرَيْهِمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ دُخَانًا فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ فَسَمَا عَلَيْهِ فَسَمَّاهُ سَمَاءً، ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاءَ فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ أَرَضِينَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا وَأَقْوَاتَ أَهْلِهَا وَشَجَرَهَا، وَمَا يَنْبَغِي لَهَا فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَفَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَلْقِ الَّذِي فِيهَا. فَهَذَا الْأَثَرُ أَيْضًا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَيَّامَ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ هِيَ هَذِهِ الْمُسَمَّاةُ بِعَيْنِهَا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي أَنَّ الِابْتِدَاءَ يَوْمَ الْأَحَدِ لَا يَوْمَ السَّبْتِ لِأَحَادِيثَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ، وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ أَعَلَّهُ الْحُفَّاظُ وَصَوَّبُوا وَقْفَهُ عَلَى كعب، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْخَلْقَ وَقَعَ فِي الْأَيَّامِ الْمُسَمَّاةِ الْمَعْهُودَةِ، وَقَدْ دَلَّ الْأَثَرُ الَّذِي سُقْنَاهُ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَيَّامَ لَمْ يَتَقَدَّمْ خَلْقُهَا لِقَوْلِهِ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَفَتْقَهُمَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ اللَّيْلِ كَانَ قَبْلُ أَمِ النَّهَارُ؟ قَالَ: اللَّيْلُ ثُمَّ قَرَأَ {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] فَهَلْ تَعْلَمُونَ كَانَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ظُلْمَةٌ؟ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ نَهَارٌ وَلَا أَيَّامٌ، وَرَوَى ابن عساكر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْأَحَدَ، فَسَمَّاهُ الْأَحَدَ. فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الْأَرْبَعَةُ إِذَا رُكِّبَتْ مَعَ بَعْضِهَا أَنْتَجَتْ لِلْمُجْتَهِدِ أَنَّ خَلْقَ الْأَيَّامِ وَقَعَ مُقَارِنًا لِخَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ لَا مُتَقَدِّمًا وَلَا مُتَأَخِّرًا، وَأَنَّ الْأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] هِيَ أَوَّلُ أَيَّامٍ خُلِقَتْ فِي الدُّنْيَا. مَسْأَلَةٌ يَا عَالِمَ الْعَصْرِ لَا زَالَتْ أَنَامِلُكُمْ ... تَهْمِي وَجُودُكُمُ نَامٍ مَدَى الزَّمَنِ لَقَدْ سَمِعْتُ خِصَامًا بَيْنَ طَائِفَةٍ ... مِنَ الْأَفَاضِلِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاللُّسُنِ فِي الْأَرْضِ هَلْ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ وَهَلْ ... بِالْعَكْسِ جَا أَثَرٌ يَا نُزْهَةَ الْزَمَنِ؟ فَمِنْهُمُ قَالَ إِنَّ الْأَرْضَ مُنْشَأَةٌ ... بِالْخَلْقِ قَبْلَ السَّمَا قَدْ جَاءَ فِي السُّنَنِ وَمِنْهُمُ مَنْ أَتَى بِالْعَكْسِ مُسْتَنِدًا ... إِلَى كَلَامِ إِمَامٍ مَاهِرٍ فَطِنِ أَوْضِحْ لَنَا مَا خَفِيَ مِنْ مُشْكِلٍ وَأَبِنْ ... نَجَّاكَ رَبُّكَ مِنْ وِزْرٍ وَمِنْ مِحَنِ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... مَاحِي الضَّلَالَةِ هَادِي الْخَلْقِ لِلسُّنَنِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْأَفْضَالِ وَالْمِنَنِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَبْعُوثِ بِالسُّنَنِ الْأَرْضُ قَدْ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ كَمَا ... قَدْ نَصَّهُ اللَّهُ فِي حم فَاسْتَبِنِ وَلَا يُنَافِيهِ مَا فِي النَّازِعَاتِ أَتَى ... فَدَحْوُهَا غَيْرُ ذَاكَ الْخَلْقِ لِلْفَطِنِ فَالْحَبْرُ أَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ أَجَابَ بِذَا ... لَمَّا أَتَاهُ بِهِ قَوْمٌ ذَوُو لُسُنِ وابن السيوطي قَدْ خَطَّ الْجَوَابَ لِكَيْ ... يَنْجُوَ مِنَ النَّارِ وَالْآثَامِ وَالْفِتَنِ مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ} [العنكبوت: 44] هَلِ السَّمَاوَاتُ مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ؟ الْجَوَابُ: هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَمَنْ أَعْرَبَهُ مَفْعُولًا بِهِ فَقَدْ غَلَّطَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمُ ابن الحاجب فِي أَمَالِيهِ، وابن هشام فِي مُغْنِيهِ، وَوَجَّهُوهُ بِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ مَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْفِعْلِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ، ثُمَّ أَوْقَعَ الْفَاعِلُ بِهِ فِعْلًا، وَالْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ مَا كَانَ الْفِعْلُ الْعَامِلُ بِهِ هُوَ فِعْلَ إِيجَادِهِ، قَالَ ابن هشام: وَالَّذِي غَرَّ النَّحْوِيِّينَ فِي هَذَا أَنَّهُمْ يُمَثِّلُونَ الْفِعْلَ الْمُطْلَقَ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَهُمْ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ إِنْشَاءُ الْأَفْعَالِ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الذَّوَاتِ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَدَثًا، وَلَوْ مَثَّلُوا بِأَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُوجِدٌ لِلْأَفْعَالِ وَلِلذَّوَاتِ جَمِيعًا قَالَ: وَكَذَا الْبَحْثُ فِي: أَنْشَأْتُ كِتَابًا، وَعَمِلَ فُلَانٌ خَيْرًا، وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابن هشام، وَقَدْ رَأَيْتُ لِلشَّيْخِ تقي الدين السبكي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا تَأْلِيفَيْنِ نَفِيسَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُطَوَّلٌ سَمَّاهُ: التَّهَدِّي إِلَى مَعْنَى التَّعَدِّي أَتَى فِيهِ بِنَفَائِسَ وَغَرَائِبَ، ثُمَّ لَخَّصَهُ فِي كِتَابٍ أَخْصَرَ مِنْهُ سَمَّاهُ: بَيَانَ الْمُحْتَمَلِ فِي تَعَدِّيهِ عَمَلٌ، قَالَ فِيهِ فِي تَوْجِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ: الْمَفْعُولُ بِهِ هُوَ مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ قَوْلِنَا: مَفْعُولٌ بِهِ؛ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ غَيْرَهُ، فَزَيْدًا فِي: ضَرَبْتُ زَيْدًا مَفْعُولٌ بِهِ ; لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الْمَفْعُولُ الَّذِي أَوْجَدَهُ الْفَاعِلُ فَالضَّرْبُ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ، وَكَذَا نَحْوُ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ، وَعَمِلْتُ صَالِحًا، السَّمَاوَاتُ وَالصَّالِحُ هُوَ نَفْسُ الْمَفْعُولِ لَا مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَالْمَفْعُولُ غَيْرُهُ فَهُوَ مُطْلَقٌ بِمَعْنَى أَنَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَفَاعِيلِ مُقَيَّدٌ، وَهُوَ نَفْسُ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَيِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْقُيُودِ، وَهُوَ الصَّادِرُ عَنِ الْفَاعِلِ وَهُوَ نَفْسُ فِعْلِهِ قَالَ: وَإِنَّمَا سَرَى الْغَلَطُ مِنْ ظَنِّ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ كُلُّ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ مَصْدَرًا، هَذَا كَلَامُ السبكي. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187] مَا إِعْرَابُهُ؟ الْجَوَابُ: أَيَّانَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَمُرْسَاهَا مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. [سُورَةُ بَرَاءَةَ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] هَلْ يُفَسَّرُ الْقِيَامُ هُنَا بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَهَلْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي زِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ أَنَّهُ لِإِحْيَائِهَا لِتُؤْمِنَ بِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ تَارِيخَ الزِّيَارَةِ كَانَ بَعْدَ النَّهْيِ. الْجَوَابُ: الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ عَلَى الْقَبْرِ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ حَالَةَ الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ سَاعَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُمَّ الزِّيَارَةَ أَيْضًا أَخْذًا مِنَ الْإِطْلَاقِ، وَتَارِيخُ الزِّيَارَةِ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ لَا بَعْدَهُ، فَإِنَّ الَّذِي صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَهَا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْآيَةُ نَازِلَةٌ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ خَاصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ كَانَ بَقِيَّةُ الْمُشْرِكِينَ يَلْحَقُونَ بِهِمْ قِيَاسًا، وَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ الزِّيَارَةِ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ، وَهَذَا الْإِذْنُ عِنْدِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الْمُوَحِّدِينَ لَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ اخْتِيَارِي، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِ الْكُفَّارِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي الْقِيَامِ عَلَى قَبْرِ أُمِّهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُمْ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ يَأْذَنُ لَهُ فِيهِ، وَاحْتِمَالُ التَّخْصِيصِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ صَرِيحٍ، فَإِنْ قُلْتَ: اسْتِئْذَانُهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِلَّا لَزَارَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ قُلْتُ: لَعَلَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَقْفَةٌ فِي صِحَّةِ تَوْحِيدِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. [سُورَةُ يُونُسَ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي} [يونس: 35] مَا أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَمَاضِيهَا وَمَا إِعْلَالُهَا، وَهَلْ إِعْلَالُهَا جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ؟ الْجَوَابُ: أَصْلُ (يَهِدِّي) يَهْتَدِي قُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا لِتُدْغَمَ، فَصَارَ يَهْدَدِي، ثُمَّ سُكِّنَتْ لِذَلِكَ فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا وَهِيَ الْفَتْحَةُ إِلَى الْهَاءِ قَبْلَهَا، وَأُدْغِمَتْ فَصَارَ يَهِدِّي، قَالَ أبو البقاء: وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] فِيمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَالطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، قَالَ: فَالْأَصْلُ يَخْتَطِفُ قُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الطَّاءِ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْخَاءِ، وَأَمَّا الْمَاضِي فَهَدَّى، وَالْأَصْلُ اهْتَدَى قُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا فَصَارَ اهْدَدَى وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْهَاءِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فَحُذِفَتْ وَأُدْغِمَتِ الدَّالُ فِي الدَّالِ فَصَارَتْ هَدَّى، وَهَذَا الْإِعْلَالُ جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْقِيَاسِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ التَّصْرِيفِ، فَإِنَّ فَاءَ الِافْتِعَالِ تُدْغَمُ فِي أَحْرُفٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْهَا الدَّالُ، وَقَدْ مَثَّلَ لِذَلِكَ الجاربردي بِقِرَاءَةِ (مُرَدِّفِينَ) وَالْأَصْلُ مُرْتَدِفِينَ، قُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا فَصَارَ مُرْدَدِفِينَ ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الدَّالِ إِلَى الرَّاءِ وَأُدْغِمَتْ فِي الثَّانِيَةِ. [سُورَةُ هُودٍ] مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» " مَا الْمُرَادُ بِأَخَوَاتِهَا؟ الْجَوَابُ: الْمُرَادُ بِهِنَّ سُورَةُ الْوَاقِعَةِ، وَالْمُرْسَلَاتِ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ كَذَا ثَبَتَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ والحاكم، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي رِوَايَةٍ: وَالْحَاقَّةِ، زَادُ ابن مردويه فِي أُخْرَى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، زَادَ ابن سعد فِي أُخْرَى الْقَارِعَةَ وَسَأَلَ سَائِلٌ، وَفِي أُخْرَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 [سُورَةُ يُوسُفَ] [أسئلة عن سورة يوسف ] مَسْأَلَةٌ: مَا قَوْلُ حَاوٍ لِتَنْبِيهٍ لِبَهْجَتِهِ ... دُرٌّ نَفِيسٌ صَحِيحٌ يَخْطَفُ الْبَصَرَا بِرَوْضَةٍ أَظْهَرَ الْمِنْهَاجَ فِي مَلَأٍ ... مُحَرَّرًا وَلِأَرْبَابِ الذَّكَا قَمَرَا فِي آيَةٍ قُرِئَتْ فِي يُوسُفَ عَلَنًا ... فِي وَحْيِ قُرْآنِنَا هَذَا إِلَيْكَ جَرَى وَفِي إِشَارَاتِ آيَاتِ الْكِتَابِ بِهَا ... بِتِلْكَ فِي آيَةٍ تَبْدُو لِمَنْ نَظَرَا هَلِ الْإِشَارَةُ مَعْنَاهَا الْجَمِيعُ وَهَلْ ... بِأَحْسَنِ الْقَصَصِ الْقُرْآنُ قَدْ حُصِرَا؟ وَهَلْ تَنَزَّلُ فِي صَوْمٍ بِأَجْمَعِهِ أَوْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَنْزَلْنَا كَمَا ذُكِرَا وَأَهْلُ كُفْرٍ وَتَوْحِيدٍ لَهُمْ رُفَقٌ ... فِي النَّارِ إِنْ عُذِّبُوا هَلْ ذَاكَ قَدْ أُثِرَا لَا زِلْتَ تَجْلُو ظَلَامَ الْجَهْلِ فِي زَمَنٍ بِكُمْ زَهَا وَلِإِرْشَادِ الْأَنَامِ يُرَى ... بِكُمْ شَفَا وَبِتَوْضِيحِ الْعُلُومِ سَمَا لِمُسْلِمٍ وَلِجَمْعِ الْخَلْقِ قَدْ شُهِرَا الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا مِثْلَ مَا أَمَرَا ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرَا إِنَّ الْإِشَارَةَ خَصُّوهَا بِمَا اشْتَمَلَتْ ... عَلَيْهِ سُورَتُهَا لَا شَكَّ مُنْحَصِرَا وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ فِيهَا كَانَ مَنْزِلُهُ ... إِلَى سَمَاءِ الْدُنَا جَمْعًا كَمَا أُثِرَا وَأَهْلُ تَوْحِيدِهِ فِي النَّارِ يَرْتَفِقُوا ... بِمَوْتِهِمْ فَشُعُورٌ مِنْهُمُ شُعِرَا وَأَهْلُ كُفْرٍ فَمِنْهُمْ ذُو تَشَدُّدِهِ ... وَمَنْ يُخَفَّفُ عَنْهُ حَسْبُ مَا ذُكِرَا [دَفْعُ التَّعَسُّفِ عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْبِيَاءُ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ فَمَنْ أَصَابَ؟ الْجَوَابُ: فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ سَلَفًا وَخَلَفًا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، أَمَّا السَّلَفُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِنُبُوَّتِهِمْ - كَذَا قَالَ ابن تيمية، وَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَمَّا أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، فَنُقِلَ عَنِ ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 زيد أَنَّهُ قَالَ بِنُبُوَّتِهِمْ، وَتَابَعَهُ عَلَى هَذَا فِئَةٌ قَلِيلَةٌ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَتْبَاعِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَمَّا الْخَلَفُ، فَالْمُفَسِّرُونَ فِرَقٌ؛ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ ابن زيد كَالْبَغَوِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي رَدِّهِ كالقرطبي، والإمام فخر الدين، وابن كثير، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ كابن الجوزي، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِهِمْ أَنْبِيَاءَ كَتَفْسِيرِهِ الْأَسْبَاطَ بِمَنْ نُبِّئَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْمُنَزَّلَ إِلَيْهِمْ بِالْمُنَزَّلِ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ كَأَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، والواحدي، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فَسَّرَ الْأَسْبَاطَ بِأَوْلَادِ يَعْقُوبَ، فَحَسِبَهُ نَاسٌ قَوْلًا بِنُبُوَّتِهِمْ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِمْ ذُرِّيَّتُهُ لَا بَنُوهُ لِصُلْبِهِ، كَمَا سَيَأْتِي تَحْرِيرُ ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَا: إِخْوَةُ يُوسُفَ لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُمْ، وَذِكْرُ الْأَسْبَاطِ وَعَدُّهُمْ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُرِيدُ مَنْ نُبِّئَ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَسْبَاطِ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا النَّقْلِ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ مِثْلِ الْقَاضِي، وَقَالَ ابن كثير: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَيَحْتَاجُ مُدَّعِي ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سِوَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 136] إِلَى قَوْلِهِ (وَالْأَسْبَاطِ) وَهَذَا فِيهِ احْتِمَالٌ ; لِأَنَّ بُطُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُمُ: الْأَسْبَاطُ كَمَا يُقَالُ لِلْعَرَبِ: قَبَائِلُ، وَلِلْعَجَمِ: شُعُوبٌ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَذَكَرَهُمْ إِجْمَالًا ; لِأَنَّهُمْ كَثِيرُونَ وَلَكِنْ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ نَسْلِ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَعْيَانِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ أُوحِيَ إِلَيْهِمُ. انْتَهَى. وَقَالَ الواحدي: الْأَسْبَاطُ مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبَائِلِ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَ فِي الْأَسْبَاطِ أَنْبِيَاءُ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف: 6] يَعْنِي الْمُخْتَصِّينَ بِالنُّبُوَّةِ مِنْهُمْ، وَقَالَ السمرقندي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] إِلَى قَوْلِهِ: (وَالْأَسْبَاطِ) السِّبْطُ بِلُغَتِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَبِيلَةِ لِلْعَرَبِ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ، فَأَضَافَ إِلَيْهِمْ كَمَا أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَضَافَ إِلَى أُمَّتِهِ، فَقَالَ: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا فَكَذَلِكَ الْأَسْبَاطُ أَنْزَلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَأَضَافَ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْأَسْبَاطِ} [النساء: 163] هُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ أُوحِيَ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ، ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّيْخَ تقي الدين بن تيمية أَلَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُؤَلَّفًا خَاصًّا قَالَ فِيهِ مَا مُلَخَّصُهُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَاللُّغَةُ وَالِاعْتِبَارُ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ خَبَرٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّأَهُمْ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ نُبِّئُوا بِقَوْلِهِ فِي آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ {وَالْأَسْبَاطِ} [النساء: 163] وَفَسَّرَ الْأَسْبَاطَ بِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمْ أَوْلَادَهُ لِصُلْبِهِ بَلْ ذُرِّيَّتَهُ كَمَا يُقَالُ فِيهِمْ أَيْضًا بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ كَانَ فِي ذُرِّيَّتِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَالْأَسْبَاطُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، قَالَ أبو سعيد الضرير: أَصْلُ السِّبْطِ شَجَرَةٌ مُلْتَفَّةُ كَثِيرَةُ الْأَغْصَانِ فَسُمُّوا الْأَسْبَاطَ لِكَثْرَتِهِمْ، فَكَمَا أَنَّ الْأَغْصَانَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ كَذَلِكَ الْأَسْبَاطُ كَانُوا مِنْ يَعْقُوبَ، وَمِثْلُ السِّبْطِ الْحَافِدُ، وَكَانَ الحسن والحسين سِبْطَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَسْبَاطُ حَفَدَةُ يَعْقُوبَ ذَرَارِيُّ أَبْنَائِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ - وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: 159 - 160] فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَسْبَاطَ هُمُ الْأُمَمُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّ سَبْطَةٍ أُمَّةٌ لَا أَنَّهُمْ بَنُوهُ الِاثْنَا عَشَرَ، بَلْ لَا مَعْنَى لِتَسْمِيَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَنْتَشِرَ عَنْهُمُ الْأَوْلَادُ أَسْبَاطًا، فَالْحَالُ أَنَّ السِّبْطَ هُمُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ قَالَ: الْأَسْبَاطُ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ لَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ أَوْلَادُهُ لِصُلْبِهِ، بَلْ أَرَادَ ذُرِّيَّتَهُ كَمَا يُقَالُ: بَنُو إِسْرَائِيلَ وَبَنُو آدَمَ، فَتَخْصِيصُ الْآيَةِ بِبَنِيهِ لِصُلْبِهِ غَلَطٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَلَا الْمَعْنَى، وَمَنِ ادَّعَاهُ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا، وَالصَّوَابُ أَيْضًا: أَنَّ كَوْنَهُمْ أَسْبَاطًا إِنَّمَا سُمُّوا بِهِ مِنْ عَهْدِ مُوسَى لِلْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمِنْ حِينَئِذٍ كَانَتْ فِيهِمُ النُّبُوَّةُ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ نَبِيٌّ قَبْلَ مُوسَى إِلَّا يُوسُفَ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] الْآيَاتِ، فَذَكَرَ يُوسُفَ وَمَنْ مَعَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَسْبَاطَ فَلَوْ كَانَ إِخْوَةُ يُوسُفَ نُبِّئُوا كَمَا نُبِّئَ يُوسُفُ لَذُكِرُوا مَعَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ يَذْكُرُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمَحَامِدِ وَالثَّنَاءِ مَا يُنَاسِبُ النُّبُوَّةَ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ كَمَا قَالَ عَنْ مُوسَى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [القصص: 14] الْآيَةَ، وَقَالَ فِي يُوسُفَ كَذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ " «أَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ نَبِيٌّ مِنْ نَبِيٍّ مِنْ نَبِيٍّ» " فَلَوْ كَانَتْ إِخْوَتُهُ أَنْبِيَاءَ كَانُوا قَدْ شَارَكُوهُ فِي هَذَا الْكَرَمِ، وَهُوَ تَعَالَى لَمَّا قَصَّ قِصَّةَ يُوسُفَ وَمَا فَعَلُوا مَعَهُ ذَكَرَ اعْتِرَافَهُمْ بِالْخَطِيئَةِ وَطَلَبَهُمُ الِاسْتِغْفَارَ مِنْ أَبِيهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ فَضْلِهِمْ مَا يُنَاسِبُ النُّبُوَّةَ، وَلَا شَيْئًا مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ وَلَا ذَكَرَ عَنْهُمْ تَوْبَةً بَاهِرَةً كَمَا ذَكَرَ عَنْ ذَنْبِهِ دُونَ ذَنْبِهِمْ، بَلْ إِنَّمَا حَكَى عَنْهُمُ الِاعْتِرَافَ وَطَلَبَ الِاسْتِغْفَارَ، وَلَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلَا بَعْدَهَا أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مِنْ عُقُوقِ الْوَالِدِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَإِرْقَاقِ الْمُسْلِمِ وَبَيْعِهِ إِلَى بِلَادِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ الْبَيِّنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَكَاهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ شَيْئًا يُنَاسِبُ الِاصْطِفَاءَ وَالِاخْتِصَاصَ الْمُوجِبَ لِنَبُّوتِهِمْ بَلِ الَّذِي حَكَاهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا حَكَاهُ عَنْ يُوسُفَ، ثُمَّ إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَهْلَ مِصْرَ نَبِيٌّ قَبْلَ مُوسَى سِوَى يُوسُفَ لِآيَةِ غَافِرٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ نَبِيٌّ لَكَانَ قَدْ دَعَا أَهْلَ مِصْرَ وَظَهَرَتْ أَخْبَارُ نُبُوَّتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ نَبِيٌّ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ مُتَعَدِّدَةٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كُلَّهُمْ مَاتُوا بِمِصْرَ وَهُوَ أَيْضًا، وَأَوْصَى بِنَقْلِهِ إِلَى الشَّامِ فَنَقَلَهُ مُوسَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْغَلَطَ فِي دَعْوَى نُبُوَّتِهِمْ حَصَلَ مِنْ ظَنِّ أَنَّهُمْ هُمُ الْأَسْبَاطُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا الْأَسْبَاطُ ذُرِّيَّتُهُمُ الَّذِينَ قُطِّعُوا أَسْبَاطًا مِنْ عَهْدِ مُوسَى، كُلُّ سِبْطٍ أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَسْبَاطِ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ لَقَالَ: وَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ فَإِنَّهُ أَوْجَزُ وَأَبْيَنُ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْأَسْبَاطِ عَلَى لَفْظِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِيهِمْ مِنْ حِينِ تَقْطِيعِهِمْ أَسْبَاطًا مِنْ عَهْدِ مُوسَى، هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ ابن تيمية، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سُورَةُ الْحِجْرِ] مَسْأَلَةٌ: مَا الْقَوْلُ يَا عَالِمَ الْعَصْرِ الَّذِي شَهِدَتْ ... بِفَضْلِهِ فِرَقُ الْأَعْجَامِ وَالْعَرَبِ فِي قَوْلِ رَبِّ الْعُلَا فِيمَا حَكَاهُ لَنَا ... فِي سُورَةِ الْحِجْرِ عَنْ قَوْمٍ أُولِي نَسَبِ مُسْتَثْنِيًا فِي نَجَاةِ آلِ لُوطِهِمُ ... بِجَمْعِهِمْ يَا أُولِي الْأَحْلَامِ وَالرُّتَبِ مُسْتَثْنِيًا ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ امْرَأَةً ... مُقَرِّرًا أَنَّهَا فِي غَابِرِ الْحِقَبِ مَا حُكْمُ الَاوَّلِ وَالثَّانِي وَذِكْرِهِمَا ... فِي آيَةٍ نَسَقًا يُفْضِي إِلَى السَّبَبِ مَا الشَّأْنُ فِيهِ أَبِنْ لَا زِلْتَ تُرْشِدُنَا ... فِي الْمُشْكِلَاتِ وَمَا تُبْدِيهِ مِنْ عَجَبِ أَنَالَكَ اللَّهُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ إِذَا ... هَالَ الْحِسَابُ وَظَلَّ النَّاسُ فِي كَرَبِ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... حَامِي الْبَرِّيَّةِ مَاحِي الشِّرْكِ وَالرِّيَبِ وَآلِهِ الْغُرِّ وَالْأَصْحَابِ مَا طَلَعَتْ ... شَمْسُ الضُّحَى وَحَدَا حَادٍ عَلَى قَتَبِ الْجَوَابُ: حَمْدًا لِمَنْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِالْعَرَبِي ... مُفَصَّلَ الْقَوْلِ مَحْضًا غَيْرَ ذِي أَشَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا ... مُحَمَّدٍ خَيْرِ أَهْلِ الْعُجْمِ وَالْعَرَبِ إِذَا تَكَرَّرَ مُسْتَثْنًى نَظَرْتَ إِلَى ... مَعْنَاهُ يُوصِلُكُ الْمَعْنَى إِلَى الْأَرَبِ فَحَيْثُ أَمْكَنَ فِي كُلٍّ لِسَابِقِهِ ... فَاجْعَلْهُ مِنْهُ بِلَا رَيْبٍ وَلَا نَصَبِ وَهَذِهِ الْآيَةُ الْغَرَّاءُ مِنْهُ فَخُذْ ... فَصْلَ الْخِطَابِ وَكُنْ فِي الْحَرْبِ ذَا أُهَبِ فَأَوَّلٌ مُخْرَجٌ مِنْ مُجْرِمِينَ عُدُّوا ... لِآلِ لُوطٍ فَلَا جُرْمَ لِآلِ نَبِي وَالثَّانِي يَنْفِي مِنَ الْإِنْجَاءِ مَرْأَتَهُ ... هَذَا الْجَوَابُ عَنِ الْأَشْيَاخِ وَالْكُتُبِ وَابْنُ السُّيُوطِيِّ يَرْجُو عَفْوَ خَالِقِهِ ... وَأَنْ يَكُونَ بِخَيْرِ الْخَلْقِ ذَا سَبَبِ [سُورَةُ النَّحْلِ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] هَلِ الْمُرَادُ بِهَا جِنْسُ النِّعْمَةِ أَوِ النِّعْمَةُ الْوَاحِدَةُ؟ الْجَوَابُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْجِنْسُ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ مِنْ أَهْلِ التَّدْقِيقِ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ، ومحمود بن حمزة الكرماني فِي غَرَائِبِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ النِّعْمَةَ الْوَاحِدَةَ لَوْ عُدَّ مَا يَتَشَعَّبُ عَنْهَا مِنَ النِّعَمِ لَمْ يُحْصَ، وَهَذَا أَدَقُّ مَعْنًى وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ لِمُرَادِ الْأَلْفَاظِ وَمَوَارِدِ اللُّغَةِ. [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ] مَسْأَلَةٌ: مَاذَا جَوَابُ إِمَامٍ مُفْرَدٍ شُهِرَتْ ... آيَاتُهُ كَاشْتِهَارِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَنْ يُحْصِي فَضَائِلَهُ ... فِي الْعَصْرِ بَلْ لَيْسَ ذَا فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ فِيمَا قَرَأْنَاهُ فِي الِاسْرَا وَبَانَ لَنَا ... مَعْنَاهُ فِي مُحْكَمِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ بِأَنَّ لَا شَيْءَ فِي الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا ... إِلَّا يُسَبِّحُ فِي حَمْدٍ لِمُقْتَدِرِ وَقَوْلِ أَحْمَدَ طَهَ حَيْثُ مَرَّ عَلَى ... قَبْرَيْنِ قَدْ عُذِّبَا فِي غَايَةِ الضَّرَرِ وَشَقَّ غُصْنًا رَطِيبًا ثُمَّ أَوْدَعَ فِي ... كُلٍّ نَصِيبًا كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ وَقَالَ تَسْبِيحُ هَذَا الْغُصْنِ غَايَتُهُ ... يَبَسًا يَحِلُّ بِهِ يَنْفِيهِ عَنْ نَظَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 هَلْ ذَا يُعَارِضُ آيَاتِ الْكِتَابِ إِذَا أَوْ لَا يُعَارِضُهُ يَا مُنْتَهَى وَطَرِي؟ ... جَنَّاتُ عَدْنٍ لَكُمْ مَأْوًى وَمَسْكَنُكُمْ يَوْمَ الْمَعَادِ بِقَصْرٍ يَانِعٍ نَضِرِ ... وَلَا بَرِحْتُمْ لِحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ كَمَا تَأْلِيفُكُمْ لِلْهُدَى يَسْمُو مَدَى الدَّهْرِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي الْآصَالِ وَالْبِكَرِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِ قَدْ خُصِّصَتْ آيَةُ الْإِسْرَى بِمُتَّصِفٍ ... وَصْفَ الْحَيَاةِ كَرَطْبِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ فَيَابِسٌ مَاتَ لَا تَسْبِيحَ مِنْهُ كَذَا ... مَا زَالَ عَنْ مَوْضِعٍ كَالْقَطْعِ لِلْحَجَرِ [سُورَةُ الْكَهْفِ] مَسْأَلَةٌ: مِنْ حَلَبَ - قَدْ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيِّ مَوْضِعٌ عَسِرٌ فَهْمُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الفاتحة: 23 - 28989] وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّهْيِ؛ أَيْ: لَا تَقُولَنَّ لِأَجْلِ شَيْءٍ تَعْزِمُ عَلَيْهِ: إِنِّي فَاعِلُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ إِلَّا بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ؛ أَيْ: إِلَّا مُلْتَبِسًا بِمَشِيئَتِهِ قَائِلًا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ أَيْ: إِلَّا وَقْتَ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَهُ بِمَعْنَى أَنْ يَأْذَنَ لَكَ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِفَاعِلٍ ; لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ اقْتِرَانِ الْمَشِيئَةِ بِالْفِعْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ، وَاسْتِثْنَاءُ اعْتِرَاضِهَا دُونَهُ لَا يُنَاسِبُ النَّهْيَ. انْتَهَى. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ ذَلِكَ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِفَاعِلٍ ; لِأَنَّ إِلَى آخِرِهِ فَإِنَّ هَذَا عَسُرَ فَهْمُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. الْجَوَابُ: سَبَبُ ذَلِكَ وَجَازَةُ الْعِبَارَةِ وَاخْتِصَارُهَا، وَيُوَضِّحُهُ مَا فِي عِبَارَةِ ابن الحاجب حَيْثُ قَالَ: الْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا كَقَوْلِكَ: لَا تَجِيءُ إِلَّا بِإِذْنِ زَيْدٍ، وَلَا تَخْرُجُ إِلَّا عَشِيَّةً عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَعَمُّ الْمَحْذُوفُ حَالًا أَوْ مَصْدَرًا، وَحُذِفَتِ الْبَاءُ مِنْ بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ؛ أَيْ: إِلَّا بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ، وَقَدْ عُلِمَ ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ الْمُسْتَصْحَبَةِ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ هِيَ الْمَشِيئَةُ الْمَذْكُورَةُ بِحَرْفِ الشَّرْطِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِكَ: لَأَفْعَلَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَمَا أَشْبَهَهَا، قَالَ: وَأَمَّا مَا ذَكَرَ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: إِنِّي فَاعِلٌ؛ فَفَاسِدٌ إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: إِنِّي فَاعِلٌ بِكُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي فَاعِلٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، انْتَهَى. وَقَدْ وَضَحَ بِهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِفَاعِلٍ ; لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ اقْتِرَانِ الْمَشِيئَةِ بِالْفِعْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ، وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 التَّعْلِيلُ مِنْ زَوَائِدِهِ عَلَى الْكَشَّافِ أَخَذَهُ مِنْ أَمَالِي ابن الحاجب، وَقَوْلُ الْقَاضِي: وَاسْتِثْنَاءُ اعْتِرَاضِهَا دُونَهُ لَا يُنَاسِبُ النَّهْيَ. هَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكَشَّافِ: وَعِبَارَتُهُ: لَا بِقَوْلِهِ إِنِّي فَاعِلٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنِّي فَاعِلٌ كَذَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ كَانَ مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تَعْتَرِضَ مَشِيئَةُ اللَّهِ دُونَ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ مَا لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلنَّهْيِ انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَاضِيَ عَلَّلَ إِبْطَالَ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي فَاعِلٌ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي فَاعِلٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: إِنِّي فَاعِلٌ إِلَّا أَنْ تَعْتَرِضَ الْمَشِيئَةُ دُونَ الْفِعْلِ، وَهَذَا الْقَدْرُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلنَّهْيِ فِيهِ فَلَا يَلْتَئِمُ مَعَهُ قَوْلُهُ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ فَبَطَلَ تَعْلِيقُ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي فَاعِلٌ وَتَعَيَّنَ تَعْلِيقُهُ بِالنَّهْيِ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ ذَكَرَهُ ابن الحاجب وَلَمْ يَذْكُرْهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فَجَمَعَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا كَعَادَتِهِ فِي الْجَمْعِ وَالْإِيجَازِ. [سُورَةُ طه] مَسْأَلَةٌ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا - وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] . الْجَوَابُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُسْلِمِ الَّذِي حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ بَلْ فِي الْكَافِرِ، وَمَعْنَى نِسْيَانِهِ تَرْكُهُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ، فَيُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97] وَلَا يُظَنُّ مِنْ ذَلِكَ سُهُولَةُ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ، فَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ» " رَوَاهُ أبو داود. [سُورَةُ الْفُرْقَانِ] مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَادًا وَثَمُودَ} [الفرقان: 38] لِمَ صُرِفَتْ ثَمُودُ وَفِيهَا عِلَّتَانِ مَانِعَتَانِ مِنَ الصَّرْفِ الْعُجْمَةُ وَالْعَلَمِيَّةُ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ فِي ثَمُودَ عُجْمَةٌ، بَلْ هُوَ اسْمٌ عَرَبِيٌّ نَصَّ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ مِنْهُمُ الجوهري فِي صِحَاحِهِ، وَكَذَا نَصَّ أَهْلُ التَّارِيخِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ قَبِيلَةَ ثَمُودَ مِنَ الْعَرَبِ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 مِنَ الْعَجَمِ، وَلِهَذِهِ الصِّيغَةِ اشْتِقَاقَاتٌ وَتَصَارِيفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ الْأَعْجَمِيِّ فَلَيْسَ فِيهِ حِينَئِذٍ إِلَّا الْعَلَمِيَّةُ، ثُمَّ إِنِ اعْتُبِرَ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ، وَإِنِ اعْتُبِرَ اسْمًا لِلْأَبِ أَوِ الْحَيِّ صُرِفَ لِخُلُوِّهِ مِنْ عِلَّةٍ ثَانِيَةٍ. [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ] مَسْأَلَةٌ: مَاذَا يَقُولُ إِمَامُ الْعَصْرِ مَنْ شَهِدَتْ ... بِفَضْلِهِ الْخَلْقُ حَتَّى شَاعَ وَاشْتَهَرَا فِي قِصَّةِ الْمُجْتَبَى مُوسَى الْكَلِيمِ تَرَى ... فِي قَوْلِ خَالِقِنَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَا مُخَاطِبًا فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ تَثْنِيَةً ... قَوْلًا كَذَاكَ كَمَا قَدْ قِيلَ مُعْتَبَرَا إِنَّا رَسُولُ إِلَهِ الْعَرْشِ مُفْرَدَةً ... مِنْ غَيْرِ تَثْنِيَةٍ تَبْدُو لِمَنْ نَظَرَا هَلِ الرِّسَالَةُ لِلِاثْنَيْنِ مُسْنَدَةً ... أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَا نَاظِمَ الدُّرَرَا وَإِنْ تَقُولُوا لِكُلٍّ مَا دَلَالَتُهُ ... أَوْ وَاحِدٍ وَحْدَهُ وَالْحَالُ قَدْ شُهِرَا وَإِنْ يَكُنْ لَهُمَا مَاذَا تَقُولُ إِذَا ... قَدْ بَلَّغَتْ مِنْ قَرِيبٍ مِنْهُمَا وَجَرَى أَثَابَكَ اللَّهُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ كَمَا ... ضَاءَ الزَّمَانُ بِكُمْ وَالْغَيْثُ قَدْ قُطِرَا الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا لَيْسَ مُنْحَصِرَا ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرَا مُوسَى وَهَارُونُ بِالْإِرْسَالِ قَدْ وُصِفَا ... لَمَّا دَعَا بِاشْتِرَاكٍ حَيْثُ سَالَ جَرَى أَمَا تَلَوْتَ بِطَهَ بَعْدَ أَزْرِيَ أَشْ ... رِكْهُ وَيَتْلُوهُ فِي أَمْرِي كَمَا أُثِرَا وَحَيْثُ أُفْرِدَ فِي أَنَا رَسُولُ فَلَا ... إِشْكَالَ عِنْدَ لَبِيبٍ خَالَطَ الْكُبَرَا فَمِنْ قَوَاعِدِ هَذَا النَّحْوِ أَنَّ فَعُو ... لًا مَعْ فَعِيلٍ يَجِي لِاثْنَيْنِ أَوْ كُثُرَا [سُورَةُ الْأَحْزَابِ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] إِلَى قَوْلِهِ: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] هَلِ الْإِعْدَادُ لِلْمَجْمُوعِ أَوْ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ؟ الْجَوَابُ: الْإِعْدَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الْآيَةِ مِنَ الصِّفَاتِ لَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الصِّفَاتِ، فَالْمَعْطُوفَاتُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَةِ لَا مِنْ عَطْفِ الذَّوَاتِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْبَالِغُونَ دَرَجَةَ الْكَمَالِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَدِّ أَكْمَلُ مَا أَعَدَّ بِدَلِيلِ تَنْكِيرِ مَغْفِرَةِ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَتَنْكِيرِ أَجْرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَوَصْفِهِ تَعْظِيمًا وَإِذَا قَالَ اللَّهُ لِشَيْءٍ: عَظِيمٌ؛ فَهُوَ عَظِيمٌ جِدًّا، لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مَا أُعِدَّ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّصِفُوا بِكُلِّ هَذِهِ الصِّفَاتِ، أَوْ بِبَعْضِهَا فَإِنَّ أَجْرَهُمْ دُونَ ذَلِكَ، هَذَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِنْبَاطُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمَعَانِي، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ عَنِ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ: إِنَّ الْمَوْعُودَ فِي الْقُرْآنِ بِالْجَنَّةِ لَمْ يَقَعْ مُرَتَّبًا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْإِيمَانِ، بَلْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِلَّا مَقْرُونًا بِاشْتِرَاكِ انْضِمَامِ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْحَثِّ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الْوَاقِعَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلٌّ مِنْهَا جُزْءُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كُلٌّ مِنْهَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ اسْتِقْلَالًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِنْبَاطُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ فَرْدٍ مَحْكُومًا عَلَيْهِ اسْتِقْلَالًا لَزِمَ الْحُكْمُ عَلَى فَرْدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ كَالصَّوْمِ أَوِ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ مُجَرَّدًا عَنِ الْوَصْفِ الْمُصَدَّرِ بِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَإِذَا بَطَلَ اللَّازِمُ بَطَلَ الْمَلْزُومُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا مُسْتَثْنًى لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ؛ قُلْنَا: وَالْبَاقِي أَيْضًا دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ مَجْمُوعِهِ الْقَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةُ وَالْبَيَانِيَّةُ، وَالسِّيَاقُ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْحِسَابِ وَالْوَزْنِ وَالتَّقَاصِّ إِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهَا بِلَفْظِهَا مَعَ مُرَاعَاةِ قَوَاعِدِ الِاسْتِدْلَالِ وَأَسَالِيبِ الْبَيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الِاجْتِهَادِ أَنْتَجَتْ لِلْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْإِعْدَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سُورَةُ سَبَأٍ] مَسْأَلَةٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَارِي الْخَلْقِ وَالنَّسَمِ ... وَمُنْزِلِ الْكُتْبِ لِلتَّبْيِينِ لِلْأُمَمِ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَبْعُوثِ مِنْ مُضَرٍ ... مُحَمَّدِ الْمُصْطَفَى الْهَادِي مِنَ الظُّلَمِ وَآلِهِ وَصِحَابٍ ثُمَّ شِيعَتِهِ ... وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ لِأَثَرِهِمِ مَاذَا تَقُولُ مَوَالِينَا وَسَادَتُنَا ... وَقُدْوَةُ الْخَلْقِ لِلرَّحْمَنِ بِالْحِكَمِ؟ مَنْ مَدْحُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ مُنْتَظِمٌ ... بِفَاطِرٍ وَسِوَاهَا أَيَّ مُنْتَظِمِ أَبْقَاهُمُ اللَّهُ فِي خَيْرٍ وَفِي دَعَةٍ ... وَفِي ازْدِيَادِ عُلُومٍ فَوْقَ عِلْمِهِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 هَلْ جَازَ أَنْ يَقْرَأَ الْإِنْسَانُ فِي سَبَأٍ مِنْسَاتِهِ وَبِجَرِّ الْهَاءِ كَالْقَسَمِ ... وَهَلْ يُجَازَى بِهَا بِالْيَاءِ إِنْ ضُمِمَتْ بِكَسْرِ زَايٍ وَضَمِّ الرَّاءِ فِي الْكَلِمِ ... وَهَلْ هِشَامٌ قَرَا فِي نَصِّ مَذْهَبِهِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ ابْرَاهَامَ مُلْتَزِمِ؟ ... فِي سُورَةِ الْحَجِّ أَوْ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَمَا تَرَوْنَ فِيمَنْ قَرَا هَذَا بِلَا كَتَمِ؟ ... وَحَالِفٍ بِطَلَاقٍ مِنْ حَلِيلَتِهِ بِأَنَّ ذَا لَيْسَ مِنْ سَبْعٍ عَلَى الْأُمَمِ الْجَوَابُ: أَمَّا مَنْ قَرَأَ (مِنْسَأَتِهِ) بِالْجَرِّ فَهُوَ لَاحِنٌ مُخْطِئٌ غَالِطٌ جَاهِلٌ ; لِأَنَّهَا مَفْعُولُ تَأْكُلُ، وَالْمِنْسَأَةُ: الْعَصَا، وَأَمَّا (وَهَلْ يُجَازَى إِلَّا الْكَفُورُ) فَفِيهِ قِرَاءَتَانِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَرَفْعِ الْكَفُورِ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ، وَبِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْكَفُورِ مَفْعُولًا، وَلَيْسَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِبْرَاهَامُ فِي الْحَجِّ وَالْأَنْبِيَاءِ فَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقِ التَّيْسِيرِ وَالشَّاطِبِيَّةِ، لَكِنَّ ابن الجزري ذَكَرَ فِي النَّشْرِ أَنَّ عياشا رَوَى عَنِ ابن عامر أَنَّهُ قَرَأَ إِبْرَاهَامَ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِيمَا فِي التَّيْسِيرِ وَالشَّاطِبِيَّةِ، لَكِنْ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ شَوَاذِّ السَّبْعَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ السبكي وَغَيْرُهُ أَنَّ عِنْدَهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا شَاذًّا، وَأَمَّا الْحَالِفُ بِالطَّلَاقِ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَيْسَتْ مِنَ السَّبْعِ فَأَقُولُ: إِنْ كَانَ مِنَ الْمُبْتَدِئِينَ فِي هَذَا الْفَنِّ مِمَّنْ أَخَذَ بِالتَّيْسِيرِ وَالشَّاطِبِيَّةِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مُرَادَهُ لَيْسَتْ مِنَ السَّبْعِ مِنْ طَرِيقِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَيْهِمَا الْآنَ الْمُعَوَّلُ، فَيَمِينُهُ مَخْصُوصَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُتَبَحِّرِينَ مِمَّنْ أَمْكَنَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي النَّشْرِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يَصِلَ إِلَى دَرَجَةِ التَّرْجِيحِ بِحَيْثُ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ شُذُوذُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَعَدَمُ إِثْبَاتِهَا، فَلَا يَحْنَثُ حِينَئِذٍ، وَقُلْتُ فِي الْجَوَابِ نَظْمًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْأَفْضَالِ وَالنِّعَمِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَبْعُوثِ لِلْأُمَمِ مَنْ قَالَ فِي سَبَأٍ مِنْسَاتِهِ وَأَتَى ... بِالْجَرِّ فَهْوَ حِمَارٌ قُدْهُ بِاللُّجُمِ وَمَنْ قَرَا هَلْ نُجَازِي نُونٌ أَوَّلُهُ ... وَكَسْرُ زَايٍ فَنَصْبُ الرَّاءِ عَنْهُ نُمِي وَلَيْسَ فِي الْحَجِّ إِبْرَاهَامُ وَاقْتَرَبَا ... لَا فِي الْقَصِيدِ وَلَا التَّيْسِيرِ فَاحْتَكِمِ لَكِنَّ فِي النَّشْرِ عَنْ عَيَّاشِ يَأْثِرُهُ ... عَنِ ابْنِ عَامِرِهِمْ يَا طِيبَ نَشْرِهِمِ وَحَالِفٌ بِطَلَاقٍ إِذْ نَفَاهُ مِنَ السَّ ... بْعِ الْجَوَابُ لَهُ التَّفْصِيلُ فَارْتَسِمِ إِنْ كَانَ مُبْتَدِئًا لَا حِنْثَ يَلْحَقُهُ ... إِذْ نَفْيُهُ بِيَمِينٍ وَفْقَ ظَنِّهِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 إِذِ الْمُرَادُ بِنَفْيِ السَّبْعِ مِنْ طُرُقٍ أَتَتْ بِتَيْسِيرِهِمْ أَوْ فِي قَصِيدِهِمِ ... وَإِنْ يَكُنْ مِنْ عُلَاةِ الْفَنِّ يَحْنَثْ لَا إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا يَعْلُو لِنَفْيِهِمِ ... وَابْنُ السُّيُوطِيِّ قَدْ خَطَّ الْجَوَابَ لِكَيْ يَنْجُو غَدًا مِنْ سَعِيرِ النَّارِ وَالضَّرَمِ [سُورَةُ يس] مَسْأَلَةٌ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78] ؟ الْآيَةَ الْجَوَابُ: رَوَى الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «جَاءَ العاصي بن وائل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ حَائِلٍ فَفَتَّهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَيَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَّ؟ قَالَ: نَعَمْ يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا وَيُمِيتُكَ، ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ " فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ» ، وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ يُعْرَفُ مَعْنَى الْآيَةِ، فَالْإِنْسَانُ الْمَذْكُورُ هُوَ العاصي بن وائل السهمي، وَهُوَ أَحَدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ قُتِلَ بِبَدْرٍ كَافِرًا، وَضَرْبُهُ الْمَثَلَ بِالْعَظْمِ الرَّمِيمِ وَنَسِيَ خَلْقَهُ أَوَّلًا مِنْ نُطْفَةٍ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] وَالْقَادِرُ عَلَى الْإِنْشَاءِ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ، بَلْ هِيَ أَهْوَنُ. [سُورَةُ الصَّافَّاتِ] 36 - الْقَوْلُ الْفَصِيحُ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ: فَقَدْ وَرَدَتْ إِلَيَّ فَتْوَى فِي السَّيِّدِ إِسْحَاقَ، وَالسَّيِّدِ إِسْمَاعِيلَ مَنِ الذَّبِيحُ مِنْهُمَا؟ وَالْخِلَافُ الْوَارِدُ فِيهِمَا مَا الْأَصَحُّ وَالرَّاجِحُ مِنْهُ؟ فَأَجَبْتُ: الْخِلَافُ فِي الذَّبِيحِ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ حُجَجٌ، أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ فَهُوَ قَوْلُ علي، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وسعيد بن جبير، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، ويوسف بن مهران، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وأبي صالح، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، والكلبي، وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ خُصُوصًا غَالِبَ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَالَ أبو حاتم: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّهُ الْأَظْهَرُ، وَفِي الْهُدَى أَنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ: وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ فَمَرْدُودٌ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا، رَوَى الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ، وَالْخِلَعِيُّ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ إسماعيل بن أبي كريمة، عَنْ عمر بن أبي محمد الخطابي، عَنِ العتبي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ «عَنِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: " حَضَرْنَا مَجْلِسَ معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَذَاكَرَ الْقَوْمُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ أَيُّهُمَا الذَّبِيحُ؟ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِسْمَاعِيلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ: إِسْحَاقُ، فَقَالَ معاوية: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتُمْ، كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَلَفْتُ الْكَلَأَ يَابِسًا، وَالْمَاءَ عَابِسًا، هَلَكَ الْعِيَالُ، وَضَاعَ الْمَالُ، فَعُدْ عَلَيَّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: مَنِ الذَّبِيحَانِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: إِنَّ عبد المطلب لَمَّا أُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ نَذَرَ لِلَّهِ إِنْ سَهُلَ أَمْرُهَا أَنْ يَنْحَرَ بَعْضَ بَنِيهِ فَلَمَّا فَرَغَ أَسْهَمَ بَيْنَهُمْ وَكَانُوا عَشَرَةً، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عبد الله فَأَرَادَ أَنْ يَنْحَرَهُ فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ بَنُو مَخْزُومٍ، وَقَالُوا: أَرْضِ رَبَّكَ وَافْدِ ابْنَكَ فَفَدَاهُ بِمِائَةِ نَاقَةٍ، قَالَ معاوية: هَذَا وَاحِدٌ وَالْآخَرُ إِسْمَاعِيلُ» " هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أبي عاصم الغنوي، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى، فَسَابَقَهُ فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَثَمَّ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَعَلَى إِسْمَاعِيلَ قَمِيصٌ أَبْيَضُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَتِ لَيْسَ لِي ثَوْبٌ تُكَفِّنُنِي فِيهِ غَيْرُهُ فَاخْلَعْهُ حَتَّى تُكَفِّنَنِي فِيهِ، فَعَالَجَهُ لِيَخْلَعَهُ فَنُودِيَ مِنْ خَلْفِهِ {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104] الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي الْمَنَاسِكِ، ثُمَّ رَوَاهُ أحمد مِنْ طَرِيقِ حماد، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِسْحَاقُ، قَالَ ابن كثير: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْمَنَاسِكِ إِنَّمَا وَقَعَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ. وَرَوَى أحمد أَيْضًا عَنْ سفيان، عَنْ منصور، عَنْ خَالِهِ مُسَافِعٍ، «عَنْ صفية بنت شيبة قَالَتْ: " أَخْبَرَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَلَّدَتْ عَامَّةَ أَهْلِ دَارِنَا، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَقَالَتْ مَرَّةً: أَنَّهَا سَأَلَتْ عثمان: لِمَ دَعَاكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قَالَ: إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ حِينَ دَخَلْتُ الْبَيْتَ فَنَسِيتُ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُخَمِّرَهُمَا فَخَمِّرْهُمَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ يَشْغَلُ الْمُصَلِّينَ» ". قَالَ ابن كثير: هَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، فَإِنَّ قُرَيْشًا تَوَارَثُوا قَرْنَيِ الْكَبْشِ الَّذِي فَدَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَدْ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثَنَا يونس، أَنَا ابن وهب، أَخْبَرَنِي عمرو بن قيس، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُفَدَّى إِسْمَاعِيلُ، وَزَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ، وَقَالَ ابن إسحاق: ذَكَرَ محمد بن كعب أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَسَأَلَهُ: أَيُّ ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِهِ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ يَهُودَ لَتَعْلَمُ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ، وَقَالَ ابن كثير: نُصَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ وُلِدَ وَلِإِبْرَاهِيمَ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَوُلِدَ إِسْحَاقُ وَلَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ وَحِيدَهُ - وَفِي نُسْخَةٍ: بِكْرَهُ - فَأَقْحَمُوا هَاهُنَا كَذِبًا وَحَسَدًا (إِسْحَاقَ) وَحَرَّفُوا وَحِيدَكَ بِمَعْنَى الَّذِي لَيْسَ عِنْدَكَ غَيْرُهُ، فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَهَذَا تَحْرِيفٌ وَتَأْوِيلٌ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: وَحِيدٌ إِلَّا لِمَنْ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ أَوَّلَ وَلَدٍ لَهُ مَعَزَّةُ مَا لَيْسَتْ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، فَالْأَمْرُ بِذَبْحِهِ أَبْلَغُ فِي الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ ; وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ غَيْرُهُ وَقَالَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] أَيْ يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ يُسَمَّى يَعْقُوبَ وَذَلِكَ لَا يَتَخَلَّفُ فَامْتَنَعَ أَنْ يُؤْمَرَ بِذَبْحِهِ، قَالَ: وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ إِسْحَاقُ فَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِلَا حُجَّةٍ، وَلَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ لَوْ ثَبَتَ لَقُلْنَا بِهِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبي كريب، عَنْ زيد بن حباب، عَنِ الحسن بن دينار، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الحسن، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ» " والحسن بن دينار مَتْرُوكٌ وَشَيْخُهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مسلم بن إبراهيم، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ علي بن زيد بِهِ مَرْفُوعًا، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الحسن، عَنِ الأحنف، عَنِ العباس قَوْلَهُ، وَهَذَا أَشْبَهُ وَأَصَحُّ انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 قُلْتُ: قَدْ رَفَعَهُ مبارك مَرَّةً فَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ معمر بن سهل الأهوازي، عَنْ مسلم بن إبراهيم، عَنْ مبارك، عَنِ الحسن، عَنِ الأحنف، عَنِ العباس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ» " وَلَهُ شَوَاهِدُ أَحَدُهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ أبي كريب، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ أبي سعيد، عَنْ علي بن زيد، عَنِ الحسن، عَنِ الأحنف، عَنِ العباس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «قَالَ دَاوُدُ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، قَالَ: أَمَّا إِبْرَاهِيمُ، فَأُلْقِيَ فِي النَّارِ فَصَبَرَ فِي أَجْلِي، وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ، وَأَمَّا إِسْحَاقُ فَبَذَلَ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ فَصَبَرَ مِنْ أَجْلِي، وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ، وَأَمَّا يَعْقُوبُ فَغَابَ يُوسُفُ عَنْهُ، وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ» " وأبو سعيد: هو الحسن بن دينار ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَخْرَجَ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَاجِيَةَ، عَنْ محمد بن حرب النسائي، عَنْ عبد المؤمن بن عباد، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عطية، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ دَاوُدَ سَأَلَ رَبَّهُ مَسْأَلَةً فَقَالَ: اجْعَلْنِي مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي ابْتَلَيْتُ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ فَصَبَرَ، وَابْتَلَيْتُ إِسْحَاقَ بِالذَّبْحِ فَصَبَرَ، وَابْتَلَيْتُ يَعْقُوبَ فَصَبَرَ» ". الْحَدِيثُ الثَّانِي: مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ والديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ فَهْمٍ، عَنْ خَلَفِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أبي إسحاق، عَنْ أبي الأحوص، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ» ". الثَّالِثُ: مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أبي إسحاق، عَنْ أبي الأحوص قَالَ: " افْتَخَرَ رَجُلٌ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَفِي لَفْظٍ: فَاخَرَ أسماء بن خارجة رَجُلًا فَقَالَ: أَنَا ابْنُ الْأَشْيَاخِ الْكِرَامِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ " وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: " «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: يُوسُفُ بْنُ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ» " وَفِي سَنَدِهِ بقية وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وأبو عبيدة عَنْ أَبِيهِ عبد الله منقطع. الرَّابِعُ: مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَغْفِرَ لِنِصْفِ أُمَّتِي، أَوْ شَفَاعَتِي فَاخْتَرْتُ شَفَاعَتِي، وَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ لِأُمَّتِي، وَلَوْلَا الَّذِي سَبَقَنِي إِلَيْهِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لَعَجَّلْتُ دَعْوَتِي، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَّجَ عَنْ إِسْحَاقَ كَرْبَ الذَّبْحِ قِيلَ لَهُ: يَا إِسْحَاقُ سَلْ تُعْطَهْ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَتَعَجَّلَنَّهَا قَبْلَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ: اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا قَدْ أَحْسَنَ فَاغْفِرْ لَهُ» " وعبد الرحمن ضَعِيفٌ، قَالَ ابن كثير: وَالْحَدِيثُ غَرِيبٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 مُنْكَرٌ، قَالَ: وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ زِيَادَةٌ مُدْرَجَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَّجَ إِلَى آخِرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالْأَشْبَهُ أَنَّ السِّيَاقَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَحَرَّفُوهُ بِإِسْحَاقَ. وَأَخْرَجَ عبد الرزاق، عَنْ معمر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ القاسم قَالَ: اجْتَمَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وكعب فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً، وَإِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " فَقَالَ كعب: " أَفَلَا أُخْبِرُكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ؟ إِنَّهُ لَمَّا رَأَى ذَبْحَ ابْنِهِ إِسْحَاقَ قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنْ لَمْ أَفْتِنْ هَؤُلَاءِ عِنْدَ هَذِهِ لَمْ أَفْتِنْهُمْ أَبَدًا، فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بِابْنِهِ ; لِيَذْبَحَهُ فَذَهَبَ الشَّيْطَانُ فَدَخَلَ عَلَى سارة، فَقَالَ: أَيْنَ ذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ بِابْنِكِ؟ قَالَتْ: غَدَا بِهِ لِبَعْضِ حَاجَاتِهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَغْدُ بِهِ لِحَاجَةٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بِهِ لِيَذْبَحَهُ، قَالَتْ: وَلِمَ يَذْبَحُهُ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَتْ: قَدْ أَحْسَنَ أَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ، فَذَهَبَ الشَّيْطَانُ فِي أَثَرِهِمَا، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَيْنَ ذَهَبَ بِكَ أَبُوكَ؟ قَالَ: لِبَعْضِ حَاجَاتِهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَا يَذْهَبُ بِكَ لِحَاجَةٍ وَلَكِنَّهُ يَذْهَبُ بِكَ لِيَذْبَحَكَ، قَالَ: وَلِمَ يَذْبَحُنِي؟ قَالَ: يَزْعُمُ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَيَفْعَلَنَّ، فَتَرَكَهُ وَلَحِقَ بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: أَيْنَ غَدَوْتَ بِابْنِكَ؟ قَالَ: لِحَاجَةٍ قَالَ: فَإِنَّكَ لَمْ تَغْدُ بِهِ لِحَاجَةٍ إِنَّمَا غَدَوْتَ بِهِ لِتَذْبَحَهُ، قَالَ: وَلِمَ أَذْبَحُهُ؟ قَالَ: تَزْعُمُ أَنَّ رَبَّكَ أَمَرَكَ بِذَلِكَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ لَأَفْعَلَنَّ، فَتَرَكَهُ وَيَئِسَ أَنْ يُطَاعَ " وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابن وهب، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن حارثة الثقفي أَخْبَرَهُ أَنَّ كعبا قَالَ لأبي هريرة فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: " وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِسْحَاقَ: إِنِّي أَعْطَيْتُكَ دَعْوَةً أَسْتَجِيبُ لَكَ فِيهَا، قَالَ إِسْحَاقُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْعُوكَ أَنْ تَسْتَجِيبَ لِي أَيُّمَا عَبْدٍ لَقِيَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ "، وَقَالَ عبد الله بن أحمد فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ: أَنَا الليث بن خالد أبو بكر البلخي، حَدَّثَنَا محمد بن ثابت العبدي، عَنْ موسى بن أبي بكر عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَنَامِ ذَبْحَ إِسْحَاقَ سَارَ بِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَى الْمَنْحَرِ بِمِنًى مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا صَرَفَ عَنْهُ الذَّبْحَ وَأُمِرَ بِذَبْحِ الْكَبْشِ ذَبَحَهُ، ثُمَّ رَاحَ بِهِ رَوَاحًا إِلَى مَنْزِلِهِ فِي عَشِيَّةٍ وَاحِدَةٍ مَسِيرَةَ شَهْرٍ طُوِيَتْ لَهُ الْأَوْدِيَةُ وَالْجِبَالُ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَسَبَهُ القرطبي لِلْأَكْثَرِينَ، وَعَزَاهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى عمر، وعلي، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وجابر، والعباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وأبي ميسرة، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وعبد الله بن شقيق، وَالزُّهْرِيِّ، والقاسم بن يزيد، ومكحول، وكعب، وعثمان بن حاضر، والسدي، والحسن، وقتادة، وأبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 الهذيل، وابن سابط، ومسروق، وعطاء، ومقاتل - وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَجَابَ عَنِ الْبِشَارَةِ بِيَعْقُوبَ بِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ - أَيِ: الْعَمَلَ - وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنَّهُ كَانَ وُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ مَعَ يَعْقُوبَ أَيْضًا، وَأَمَّا الْقَرْنَانِ فَمِنَ الْجَائِزِ أَنَّهُمَا نُقِلَا مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَارَ بِهِ مِنَ الشَّامِ عَلَى الْبُرَاقِ حَتَّى أَتَى بِهِ مِنًى فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا صُرِفَ عَنْهُ الذَّبْحُ سَارَ بِهِ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ داود عَنْ عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112] قَالَ: بُشِّرَ بِهِ نَبِيًّا حِينَ فَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الذَّبْحِ، وَلَمْ تَكُنِ الْبِشَارَةُ بِالنُّبُوَّةِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ، وَجَزَمَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْقَاضِي عياض فِي الشِّفَا، والسهيلي فِي التَّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ، وَكُنْتُ مِلْتُ إِلَيْهِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَأَنَا الْآنَ مُتَوَقِّفٌ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [سُورَةُ الْفَتْحِ] مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] . الْجَوَابُ: أَحْسَنُ مَا يُجَابُ بِهِ عَنِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ كَنَّى بِالْمَغْفِرَةِ عَنِ الْعِصْمَةِ؛ أَيْ: لِيَعْصِمَكَ اللَّهُ عَنِ الذَّنْبِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمُرِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالْعَفْوَ وَالتَّوْبَةَ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي مَعْرِضِ الْإِسْقَاطِ وَالتَّرْخِيصِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَنْبٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] ، {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] أَيْ رَخَّصَ لَكُمْ {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] وَقَدْ أَلَّفْتُ فِي ذَلِكَ مُؤَلَّفًا سَمَّيْتُهُ (الْمُحَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 [سُورَةُ الْوَاقِعَةِ] مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] هَلِ الْوِلْدَانُ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الدُّنْيَا أَوْ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الْجَنَّةِ، وَهَلْ هُمْ طِوَالٌ أَوْ قِصَارٌ؟ وَهَلْ يَتَمَتَّعُونَ فِي الْآخِرَةِ بِالنِّسَاءِ؟ الْجَوَابُ: الْوِلْدَانُ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الْجَنَّةِ لَا الدُّنْيَا، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخِلْقَةِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَكَذَلِكَ الْحُورُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْبَشَرِ، فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْخِلْقَةِ، وَلَا يَتَمَتَّعُ الْوِلْدَانُ فِي الْجَنَّةِ بِالنِّسَاءِ بَلْ هُمْ مُعَدُّونَ لِخِدْمَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. [سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ] مَسْأَلَةٌ مِنْ حَلَبَ: وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ فِي سُورَةِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1] {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] فَمَا وَجْهُ كَوْنِهِ نَظِيرًا لَهُ. الْجَوَابُ: وَجْهُ إِيقَاعِ لَفْظِ الْكُفْرِ مَوْضِعَ عَدَمِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ هُنَاكَ أَوْقَعَ، {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] مَوْضِعَ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَهُنَا أَوْقَعَ (وَلِلْكَافِرِينَ) مَوْضِعَ وَلِلَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَهَا. [سُورَةُ الْمُلْكِ] مَسْأَلَةٌ مِنْ حَلَبَ: وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْمُلْكِ فِي قَوْلِهِ: {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11] قَالَ: وَالتَّغْلِيبُ لِلْإِيجَازِ إِلَى آخِرِهِ فَالتَّغْلِيبُ فِي مَاذَا؟ الْجَوَابُ: هُوَ فِي قَوْلِهِ {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11] فَإِنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْفَرِيقَانِ: أَصْحَابُ السَّعِيرِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا} [الملك: 10] فِيهِمْ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى طِبْقِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَقِيلَ: فَسُحْقًا لَهُمْ وَلِأَصْحَابِ السَّعِيرِ مِنْهُمْ، فَوَقَعَ التَّغْلِيبُ ; لِلْإِيجَازِ، وَلِأَنَّ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِيهِمْ يَصِيرُونَ مِنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 [سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34] هَلْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِضَوْءِ الشَّمْسِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِلنَّهَارِ ضَوْءٌ غَيْرُ ضَوْءِ الشَّمْسِ مُخْتَصٌّ بِهِ أَمْ لَا نُورَ لَهُ وَلَا ضَوْءَ أَصْلًا؟ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ؟ وَهَلِ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ نُورَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزَّأَهُ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ فَخَلَقَ مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ الْعَرْشَ، وَخَلَقَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي الْقَلَمَ، وَخَلَقَ مِنَ الثَّالِثِ اللَّوْحَ، ثُمَّ قَسَّمَ الْجُزْءَ الرَّابِعَ وَجَزَّأَهُ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ، وَخَلَقَ مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ الْعَقْلَ، وَخَلَقَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي الْمَعْرِفَةَ، وَخَلَقَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنُورَ الْأَبْصَارِ وَنُورَ النَّهَارِ، وَجَعَلَ الْجُزْءَ الرَّابِعَ تَحْتَ سَاقِ الْعَرْشِ مَدْخُورًا يَقْتَضِي أَنَّ نُورَ الشَّمْسِ غَيْرُ نُورِ النَّهَارِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] أَنَّ الضُّحَى هُنَا هُوَ النَّهَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس: 3] ؟ وَهَلْ هُمَا غَيْرَانِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ وَابْسُطُوا الْجَوَابَ أَثَابَكُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، الصُّبْحُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْفَجْرُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَأَسْفَرَ مَعْنَاهُ: أَضَاءَ، كَذَا أَخْرَجَهُ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ قَتَادَةَ، وَإِذَا تَعَلَّقَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِضَوْءِ الشَّمْسِ، وَمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، وَكَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ مُخْتَلِفٌ، مِنْهُ مَا يَشْهَدُ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ نُورُهُ غَيْرُ نُورِ الشَّمْسِ، وَمِنْهُ مَا يَشْهَدُ لِأَنَّ نُورَهُ نُورُهَا، فَمِنَ الْأَوَّلِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ السدي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] قَالَ: الظُّلُمَاتُ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَالنُّورُ: نُورُ النَّهَارِ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النَّهَارَ لَهُ نُورٌ حَيْثُ أَضَافَهُ إِلَيْهِ وَقَابَلَهُ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَلَيْسَ سَبَبُهُ الشَّمْسَ كَمَا أَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ نَشَأَتْ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَخَلَقَ الظُّلْمَةَ قَبْلَ النُّورِ وَخَلَقَ الْجَنَّةَ قَبْلَ النَّارِ، وَأَخْرَجَ ابن المنذر عَنْ أبي عبيد فِي الْآيَةِ قَالَ: النُّورُ الضَّوْءُ، فَهَذَانِ صَرِيحَانِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ ضَوْءٌ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَى حِيَالِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالشَّمْسِ وَلَا بِغَيْرِهَا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عكرمة قَالَ: سُئِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّيْلُ كَانَ قَبْلَ النَّهَارِ؟ فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30] قَالَ: فَالرَّتْقُ: الظُّلْمَةُ، اللَّيْلُ كَانَ قَبْلَ النَّهَارِ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] ، فَكَمَا أَنَّ اللَّيْلَ كَانَ يُسَمَّى لَيْلًا قَبْلَ خَلْقِ الْقَمَرِ فِيهِ، كَذَلِكَ كَانَ يُسَمَّى النَّهَارُ نَهَارًا قَبْلَ خَلْقِ الشَّمْسِ، وَاسْتَمَرَّتِ التَّسْمِيَةُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بَعْدَ خَلْقِ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، فَالنَّهَارُ عَلَى هَذَا غَيْرُ الشَّمْسِ، وَضَوْؤُهَا غَيْرُ نُورِهَا، وَقَالَ الكرماني الْقَدِيمُ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] جَمَعَ الظُّلُمَاتِ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ عَنْ أَشْيَاءَ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَظُلْمَةِ السَّحَابِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَوَحَّدَ النُّورَ لِأَنَّهُ مُتَّحِدُ الْوَصْفِ، وَهُوَ مَا يُرَى وَيُرَى بِهِ، وَأَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ النَّهَارَ لَهُ نُورٌ يَخُصُّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالشَّمْسِ أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا نَهَارٌ بِلَا شَمْسٍ، أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ شعيب بن الحجام قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وأبو الغالب الرياحي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ الْجَنَّةَ هَكَذَا. وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ بِأَنَّ الْأَيَّامَ عَلَى عِدَّتِهَا أَجْسَامٌ مَخْلُوقَةٌ تَتَكَلَّمُ وَتُحْشَرُ، كَأَثَرِ: مَا مِنْ يَوْمٍ يَنْقَضِي مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا قَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنَ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، ثُمَّ يُطْوَى عَلَيْهِ فَيُخْتَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَفُضُّ خَاتَمَهُ. أَخْرَجَهُ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ حَدِيثَ: «تُحْشَرُ الْأَيَّامُ عَلَى هَيْئَتِهَا، وَتُحْشَرُ الْجُمُعَةُ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً، أَهْلُهَا يَحُفُّونَ بِهَا كَالْعَرُوسِ، تُضِيءُ لَهُمْ، يَمْشُونَ فِي ضَوْئِهَا» . فَهَذِهِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهَارَ لَهُ ضَوْءٌ يَخُصُّهُ، لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالشَّمْسِ، لَكِنْ عَارَضَ هَذَا أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] فَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَالشَّمْسِ وَالنَّهَارِ، وَكَانَ يَقُولُ: الضُّحَى هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَضُحَاهَا: وَضَوْئِهَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِالشَّمْسِ وَنَهَارِهَا لِأَنَّ ضَوْءَ الشَّمْسِ الظَّاهِرَةِ هُوَ النَّهَارُ. هَذِهِ عِبَارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النَّهَارَ هُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ، وَقَالَ الكرماني الْقَدِيمُ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: وَالشَّمْسُ سِرَاجُ النَّهَارِ بِالْإِجْمَاعِ، وَضُحَاهَا: ارْتِفَاعُهَا وَضَوْؤُهَا وَحَرُّهَا، وَقِيلَ: هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ، ثُمَّ قَالَ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس: 3] أَيْ: جَلَّى الظُّلْمَةَ، وَقِيلَ: جَلَّا الشَّمْسَ؛ لِأَنَّهَا تَظْهَرُ بِالنَّهَارِ، وَإِنْ كَانَ النَّهَارُ مِنْ ضَوْئِهَا. هَذِهِ عِبَارَتُهُ، وَهِيَ أَيْضًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النَّهَارَ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَهُوَ وَقْتُ مَا احْمَرَّ الْأُفُقُ بِحَاجِبِ الشَّمْسِ. فَأَسْنَدَ نُورَ الصَّبَاحِ وَالنَّهَارِ إِلَى الشَّمْسِ. وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ اسْتَوْفَيْتُهَا فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ شَاهِدَةً لِلْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِطَالَةِ بِذِكْرِهَا، وَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَجْرَ أَيْضًا مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، وَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي السُّؤَالِ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ السَّائِلِ: وَهَلْ قَالَ قَائِلٌ. . . إِلَى آخِرِهِ؟ قَدْ حَكَيْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ قَتَادَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [سُورَةُ وَالْمُرْسَلَاتِ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ - كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 32 - 33] . الْجَوَابُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَالْقَصْرِ} [المرسلات: 32] قِرَاءَتَانِ، الْمَشْهُورَةُ بِسُكُونِ الصَّادِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَيْتُ، قَالَهُ ابن قتيبة، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَالْحُصُونِ وَالْمَدَائِنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِفَتْحِ الصَّادِ، جَمْعُ قَصْرَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ، وَقِيلَ: أُصُولُ الشَّجَرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: اقْصُرُوا لَنَا الْحَطَبَ، فَيُقْطَعُ عَلَى قَدْرِ الذِّرَاعِ وَالذِّرَاعَيْنِ. وَقَوْلُهُ: (جِمَالَاتٌ) فِيهِ قِرَاءَتَانِ، الْمَشْهُورَةُ بِكَسْرِ الْجِيمِ، جَمْعُ جِمَالَةٍ، وَجِمَالَةٌ جَمْعُ جَمَلٍ، وَالصُّفْرُ هِيَ السُّودُ، شَبَّهَهَا بِالْإِبِلِ السُّودِ، وَإِطْلَاقُ الصُّفْرِ عَلَى الْإِبِلِ السُّودِ مَعْرُوفٌ كَإِطْلَاقِ السَّوَادِ عَلَى الْخُضْرَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (جُمَالَاتٌ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفَسَّرَهُ بِحِبَالِ السُّفُنِ، يُجْمَعُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَطِ الرِّجَالِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَالْقِرَاءَتَانِ بِتَفْسِيرِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 33] قِطَعُ نُحَاسٍ. أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 [سُورَةُ اللَّيْلِ] [سبب نزول لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى..] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى - وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 15 - 17] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، هَلْ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ؟ وَمَا سَبَبُ نُزُولِهَا؟ وَهَلِ الْمُرَادُ بِالْأَتْقَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ؟ الْجَوَابُ: أَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِمَا عَنْ عبد الله بن الزبير، وَابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، حَيْثُ اشْتَرَى سَبْعَةً كُلُّهُمْ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ وَأَعْتَقَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أبي بكر، وَأَنَّ مَا قَبْلَهَا نَزَلَ فِي أمية بن خلف، وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أبي بكر الواحدي فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، والسهيلي فِي التَّعْرِيفِ وَالْأَعْلَامِ، وَقَالَ القرطبي فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَشْقَى: أمية بن خلف، وَالْأَتْقَى: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: أَرَادَ بِالْأَشْقَى وَالْأَتْقَى الشَّقِيَّ وَالتَّقِيَّ، وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ وَضَعَّفَهُ، وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ، وَقَدْ تَوَارَدَتْ خَلَائِقُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَا يُحْصَوْنَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أبي بكر، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْحَبْلُ الْوَثِيقُ فِي نُصْرَةِ الصِّدِّيقِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ، فَقَدْ رُفِعَ إِلَيَّ سُؤَالٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى - وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 15 - 18] ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، هَلْ نَزَلَ ذَلِكَ فِي رَجُلَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ؟ وَمَا سَبَبُ نُزُولِهِ؟ وَهَلِ الْمُرَادُ بِالْأَتْقَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ؟ وَذَكَرَ السَّائِلُ أَنَّ السَّبَبَ فِي هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الْأَمِيرَ ازدمر حَاجِبَ الْحُجَّابِ وَالْأَمِيرَ خاير بك مِنْ حَدِيدٍ وَقَعَ بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ فِي أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ هُوَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ؟ وَأَنَّ خاير بك قَائِلٌ بِذَلِكَ، وَأَنَّ ازدمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ طَالَبَ خاير بك بِدَلِيلٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ أبا بكر أَفْضَلُ، وَأَنَّ خاير بك اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17] ؛ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ أبي بكر، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَأَنَّ ازدمر قَالَ: الْأَتْقَى عَامٌّ فِي أبي بكر وَغَيْرِهِ، وَطَالَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِشَهَادَةِ الْعُلَمَاءِ لَهُ بِنَصْرِهِ قَوْلَهُ، وَأَنَّ الشَّيْخَ شمس الدين الجوجري كَتَبَ عَلَى سُؤَالٍ نَظِيرِ هَذَا السُّؤَالِ. فَقُلْتُ: أَرِنِي مَا كَتَبَ. فَأَرَانِيهِ، فَإِذَا فِيهِ أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي أبي بكر فَإِنَّهَا عَامَّةُ الْمَعْنَى؛ إِذِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَقُلْتُ: هَذَا شَأْنُ مَنْ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي كُلِّ وَادٍ، وَالرَّجُلُ فَقِيهٌ، فَمَا لَهُ يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ فَنِّهِ؟ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ حَدِيثِيَّةٌ أُصُولِيَّةٌ كَلَامِيَّةٌ نَحْوِيَّةٌ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَبَحِّرًا فِي هَذِهِ الْعُلُومِ الْخَمْسَةِ لَمْ يُحْسِنِ التَّكَلُّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَا أُوَضِّحُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي فَصْلَيْنِ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَقْرِيرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ بِشْرِ بْنِ السَّرِيِّ، ثَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 17 - 19] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنِي محمد بن إبراهيم الأنماطي، ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ بِهِ، وَقَالَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا موسى بن هارون، ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ بِهِ، وَقَالَ الْآجُرِّيُّ فِي الشَّرِيعَةِ: ثَنَا أبو بكر بن أبي داود، ثَنَا محمود بن آدم المروزي، ثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: ثَنَا أَبِي، ثَنَا محمد بن أبي عمر العدني، ثَنَا سفيان، ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَعْتَقَ سَبْعَةً كُلُّهُمْ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ، مِنْهُمْ بلال وعامر بن فهيرة، وَفِيهِ نَزَلَتْ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابن عبد الأعلى، ثَنَا ابن ثور، عَنْ معمر قَالَ: أَخْبَرَنِي عَنْ سعيد فِي قَوْلِهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17] قَالَ: نَزَلَتْ فِي أبي بكر، أَعْتَقَ نَاسًا لَمْ يَلْتَمِسْ مِنْهُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً، مِنْهُمْ بلال وعامر بن فهيرة، وَقَالَ ابن إسحاق: حَدَّثَنِي محمد بن أبي عتيق، عَنْ عامر بن عبد الله، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أبو قحافة لأبي بكر: أَرَاكَ تُعْتِقُ رِقَابًا ضِعَافًا، فَلَوْ أَنَّكَ إِذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أَعْتَقْتَ رِجَالًا جُلْدًا يَمْنَعُونَكَ وَيَقُومُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 دُونَكَ. فَقَالَ: يَا أَبَتِ، إِنِّي إِنَّمَا أُرِيدُ مَا أُرِيدُ. ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17 - 21] أَخْرَجَهُ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ الْبَكَّائِيِّ عَنِ ابن إسحاق، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي هارون بن إدريس الأصم، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، ثَنَا محمد بن إسحاق، عَنْ محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يُعْتِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، فَكَانَ يُعْتِقُ عَجَائِزَ وَنِسَاءً إِذَا أَسْلَمْنَ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَيْ بُنَيَّ أَرَاكَ تُعْتِقُ أُنَاسًا ضُعَفَاءَ، فَلَوْ أَنَّكَ أَعْتَقْتَ رِجَالًا جُلْدًا يَقُومُونَ مَعَكَ وَيَمْنَعُونَكَ وَيَدْفَعُونَ عَنْكَ. فَقَالَ: أَيْ أَبَتِ، إِنَّمَا أُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِيهِ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5 - 6] إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 - 20] وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ثَنَا أَبِي، ثَنَا منصور بن أبي مزاحم، ثَنَا ابن أبي الوضاح، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اشْتَرَى بلالا مِنْ أمية بن خلف وأبي بن خلف بِبُرْدَةٍ وَعَشْرِ أَوَاقٍ، فَأَعْتَقَهُ لِلَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] إِلَى آخِرِهَا فِي أبي بكر وأمية بن خلف. وَقَالَ الْآجُرِّيُّ فِي الشَّرِيعَةِ: ثَنَا حَامِدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْبَلْخِيُّ، ثَنَا منصور بن أبي مزاحم، ثَنَا أبو سعيد المؤدب عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أبي إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ أبا بكر اشْتَرَى بلالا مِنْ أمية بن خلف وأبي بن خلف بِبُرْدَةٍ وَعَشْرِ أَوَاقٍ فَأَعْتَقَهُ لِلَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] ، إِلَى قَوْلِهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 17 - 18] يَعْنِي أبا بكر، {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] قَالَ: لَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ أبو بكر لِيَدٍ كَانَتْ مِنْهُ إِلَيْهِ فَيُكَافِئَهُ بِهَا، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 20 - 21] ، وَفِي تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: بَلَغَنِي أَنَّ أمية بن خلف قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي بِلَالٍ حِينَ قَالَ: أَتَبِيعُنِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَبِيعُهُ بِقِسْطَاسٍ؛ عَبْدٍ لأبي بكر صَاحِبِ عَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ وَغِلْمَانٍ وَجَوَارٍ وَمَوَاشٍ، وَكَانَ مُشْرِكًا يَأْبَى الْإِسْلَامَ، فَاشْتَرَاهُ أبو بكر بِهِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ أبو بكر ببلال إِلَّا لِيَدٍ كَانَتْ لبلال عِنْدَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] وَفِي تَفْسِيرِ القرطبي رَوَى عطاء والضحاك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَذَّبَ الْمُشْرِكُونَ بلالا فَاشْتَرَاهُ أبو بكر بِرَطْلٍ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ذَهَبٍ مِنْ أمية بن خلف وَأَعْتَقَهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا أَعْتَقَهُ أبو بكر إِلَّا لِيَدٍ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ. فَنَزَلَتْ {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] . قَالَ الْآجُرِّيُّ: هَذَا وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَصَّ أبا بكر بِأَشْيَاءَ فَضَّلَهُ بِهَا عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِنُزُولِ الْآيَةِ، وَهُوَ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْعُلُومِ الْأَرْبَعَةِ: التَّفْسِيرِ وَالْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَالنَّحْوِ، وَقَدْ تَوَارَدَتْ خَلَائِقُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَا يُحْصَوْنَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَذَا أَصْحَابُ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الْمُبْهَمَاتِ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي تَضْعِيفِ مَا أَفْتَى بِهِ الجوجري، وَذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: ثَلَاثَةٌ جَدَلِيَّةٌ وَوَاحِدٌ مِنْ طَرِيقِ التَّحْقِيقِ، فَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُولَى فَأَحَدُهَا أَنْ نَقُولَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِ لَهَا فِي كِتَابٍ أَوْ كِتَابَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُتْقِنًا لِذَلِكَ الْفَنِّ بِجَمِيعِ أَطْرَافِهِ مَاهِرًا فِيهِ مُتَبَحِّرًا فِيهِ، لَجَازَ لِآحَادِ الطَّلَبَةِ أَنْ يُفْتُوا، بَلِ الْعَوَامُّ وَالسُّوقَةُ لَا يَعْدَمُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِعِدَّةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ تَعَلَّمَهَا مِنْ عَالِمٍ أَوْ رَآهَا فِي كِتَابٍ، وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُفْتِيَ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ لَوْ تَعَلَّمَ مَسَائِلَ وَعَرَفَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا، إِنَّمَا يُفْتِي الْمُتَبَحِّرُ فِي الْعِلْمِ الْعَارِفُ بِتَنْزِيلِ الْوَقَائِعِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الْكُتُبِ، وَمَا شَرَطُوا فِي الْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا إِلَّا لِهَذَا الْمَعْنَى وَأَمْثَالِهِ، وَالْمَدَارُ الْآنَ عَلَى التَّبَحُّرِ، فَمَنْ تَبَحَّرَ فِي فَنٍّ أَفْتَى بِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى فَنٍّ لَمْ يَتَبَحَّرْ فِيهِ، وَيُطْلِقَ قَلَمَهُ فِيهِ وَهُوَ لَمْ يَقِفْ عَلَى مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِ أَرْبَابِ ذَلِكَ الْفَنِّ، فَلَعَلَّهُ يَعْتَمِدُ عَلَى مَقَالَةٍ مَرْجُوحَةٍ وَهُوَ يَظُنُّهَا عِنْدَهُمْ صَحِيحَةً، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَقُصَارَى أَمْرِهِ النَّظَرُ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالتَّوْضِيحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ حَتَّى يُحِيطَ بِالْفَنِّ خِبْرَةً وَيَقِفَ عَلَى غَرَائِبِهِ وَغَوَامِضِهِ وَنَوَادِرِهِ، فَضْلًا عَنْ ظَوَاهِرِهِ وَمَشَاهِيرِهِ، وَمَا مَثَلُ مَنْ يُفْتِي فِي النَّحْوِ وَقُصَارَى أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ إِلَّا مَثَلُ مَنْ قَرَأَ الْمِنْهَاجَ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَأَرَادَ أَنْ يُفْتِيَ فِي الْفِقْهِ، فَلَوْ جَاءَتْهُ مَسْأَلَةٌ مِنَ الرَّوْضَةِ مَثَلًا فَإِنْ كَانَ دَيِّنًا قَالَ: هَذِهِ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ أَنْكَرَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، بَلْ وَلَا وَاللَّهِ لَا يُكْتَفَى فِي إِبَاحَةِ الْفَتْوَى بِحِفْظِ الرَّوْضَةِ وَحْدَهَا، فَمَاذَا يَصْنَعُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا التَّرْجِيحُ، مَاذَا يَصْنَعُ فِي الْمَسَائِلِ ذَاتِ الصُّوَرِ وَالْأَقْسَامِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الرَّوْضَةِ بَقِيَّةُ صُوَرِهَا وَأَقْسَامِهَا، مَاذَا يَصْنَعُ فِي مَسَائِلَ لَهَا قُيُودٌ وَمَحَالُّ تُرِكَتْ مِنَ الرَّوْضَةِ وَهِيَ مُفَرَّقَةٌ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الْكُتُبِ؟ مَاذَا يَصْنَعُ فِي مَسَائِلَ خَلَتْ عَنْهَا الرَّوْضَةُ بِالْكُلِّيَّةِ؟ بَلْ لَا بُدَّ فِي الْمُفْتِي مِنْ أَنْ يَضُمَّ إِلَى الرَّوْضَةِ حِمْلَ كُتُبٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْهَضْ إِلَى ذَلِكَ وَعَسُرَ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَا أَقَلَّ مِنِ اسْتِيعَابِ كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَدْ قَالَ ابن بلبان الحنفي فِي كِتَابِهِ زَلَّةِ الْقَارِئِ: قَالَ الشَّيْخُ أبو عبد الله الجرجاني فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي هَذَا الْبَابِ - يَعْنِي بَابَ اللَّحْنِ فِي الْقِرَاءَةِ - إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: حَقِيقَةِ النَّحْوِ، وَالْقِرَاءَاتِ الشَّوَاذِّ، وَأَقَاوِيلِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْبَابِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ حَاوٍ لِجَمِيعِ الْعُلُومِ، وَأَئِمَّةُ الْمُفَسِّرِينَ أَصْنَافٌ شَتَّى، كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ غَلَبَ عَلَيْهِ فَنٌّ مِنَ الْعُلُومِ، فَكَانَ تَفْسِيرُهُ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ مِنْ حَيْثُ ذَلِكَ الْفَنُّ الْغَالِبُ عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ التَّكَلُّمَ عَلَى آيَةٍ مِنْ حَيْثِيَّةٍ أَنْ يَنْظُرَ تَفْسِيرَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفَنُّ الَّذِي تِلْكَ الْحَيْثِيَّةُ مِنْهُ، فَمَنْ أَرَادَ التَّكَلُّمَ عَلَى آيَةٍ مِنْ حَيْثُ التَّفْسِيرُ الَّذِي هُوَ نَقْلٌ مَحْضٌ وَمَعْرِفَةُ الْأَرْجَحِ فِيهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ عَلَيْهَا تَفَاسِيرَ أَئِمَّةِ النَّقْلِ وَالْأَثَرِ، وَأَجَلُّهَا تَفْسِيرُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ؛ فَقَدْ قَالَ النووي فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ: كِتَابُ ابْنِ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ لَمْ يُصَنِّفْ أَحَدٌ مِثْلَهُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مِنْ تَفَاسِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ تَفْسِيرُ الْحَافِظِ عماد الدين ابن كثير. وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ التَّكَلُّمَ عَلَى آيَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ أَوِ الْآتِيَةِ كَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَحْوَالِ الْبَرْزَخِ وَالْبَعْثِ وَالْمَلَكُوتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، فَالْأَوْلَى أَخْذُهَا مِنَ التَّفْسِيرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَسَائِرِ تَفَاسِيرِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُسْنَدَةِ؛ كَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ والفريابي وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي الشَّيْخِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَمَنْ أَرَادَ التَّكَلُّمَ عَلَى آيَةٍ مِنْ حَيْثُ عِلْمُ الْكَلَامِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ عَلَيْهَا تَفْسِيرَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَاشْتَهَرَ بِالْبَرَاعَةِ فِيهِ، كَابْنِ فُورَكَ والباقلاني وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ والإمام فخر الدين والأصبهاني وَنَحْوِهِمْ، وَمَنْ أَرَادَ التَّكَلُّمَ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابُ فَالْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ عَلَيْهَا تَفْسِيرَ أَئِمَّةِ النَّحْوِ الْمُتَبَحِّرِينَ فِيهِ؛ كأبي حيان، وَمَنْ أَرَادَ التَّكَلُّمَ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْبَلَاغَةُ فَالْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ عَلَيْهَا الْكَشَّافَ وَتَفْسِيرَ الطيبي وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمَسْأَلَةُ تَفْضِيلِ أبي بكر مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَكَوْنِهِ هُوَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ، فَكَانَ الْأَوْلَى للجوجري قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَنْ يَنْظُرَ عَلَيْهَا كِتَابَ ابْنِ جَرِيرٍ وَنَحْوَهُ؛ لِأَجْلِ مَعْرِفَةِ الْأَرْجَحِ فِي التَّفْسِيرِ، وَكِتَابَ الإمام فخر الدين وَنَحْوَهُ؛ لِأَجْلِ مَعْرِفَةِ التَّقْرِيرِ الْكَلَامِيِّ، ثُمَّ يَنْهَضَ إِلَى مُرَاجَعَةِ كُتُبِ أَئِمَّةِ الْكَلَامِ لِيَنْظُرَ كَيْفَ قَرَّرُوا الِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أَفْضَلِيَّةِ الصديق، كَكُتُبِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وابن فورك والباقلاني وَالشَّهْرَسْتَانِيِّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَيَتْعَبَ كُلَّ التَّعَبِ وَيَجِدَّ كُلَّ الْجِدِّ، وَيَعْتَزِلَ الرَّاحَةَ وَالشُّغْلَ، وَلَا يَسْأَمَ وَلَا يَضْجَرَ، وَيَدَعَ الْفُتْيَا تَمْكُثُ عِنْدَهُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَالْعَامَ وَالْعَامَيْنِ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِ النَّاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَنَظَرَ وَحَقَّقَ وَأَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ كُلَّ إِشْكَالٍ وَأَعَدَّ لَهُ الْجَوَابَ الْمَقْبُولَ، حَطَمَ حِينَئِذٍ عَلَى الْكِتَابَةِ وَحَكَمَ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ وَفَصَلَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الِاسْتِعْجَالُ فِي الْجَوَابِ وَالْكِتَابَةِ بِمُجَرَّدِ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ وَيَظْهَرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، مَعَ الرَّاحَةِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى الشُّهْرَةِ، وَعَدَمِ التَّضَلُّعِ بِذَلِكَ الْفَنِّ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ، وَلِهَذَا تَجِدُ الْوَاحِدَ مِمَّنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ يَكْتُبُ وَيَرْجِعُ وَيَتَزَلْزَلُ بِأَدْنَى زَلْزَلَةٍ، وَيَضْطَرِبُ قَوْلُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ مَرَّاتٍ، وَيَبْحَثُ مَعَهُ أَدْنَى الطَّلَبَةِ فَيُشَكِّكُهُ، وَأَكْثَرُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا صَمَّمَ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَقُولَ: الظَّاهِرُ كَذَا أَوْ كَذَا، أَوْ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ لِي، مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى مُسْتَنَدٍ بِيَدِهِ أَوْ حُجَّةٍ يُظْهِرُهَا، كَأَنَّهُ الشَّيْخُ أبو الحسن الشاذلي إِمَامُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ فِي زَمَانِهِ الَّذِي كَانَ يُسْأَلُ مُعْتَمِدًا عَلَى الْإِلْهَامِ الْوَاقِعِ فِي قَلْبِهِ، ذَاكَ إِلْهَامُهُ صَوَابٌ لَا يُخْطِئُ، وَبَعْدَ مَوْتَاتٍ مَاتَهَا فِي اللَّهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُفْتِيَ حُكْمُهُ حُكْمُ الطَّبِيبِ، يَنْظُرُ فِي الْوَاقِعَةِ وَيَذْكُرُ فِيهَا مَا يَلِيقُ بِهَا بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ وَالشَّخْصِ وَالزَّمَانِ، فَالْمُفْتِي طَبِيبُ الْأَدْيَانِ، وَذَلِكَ طَبِيبُ الْأَبْدَانِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَحْكَامٌ بِحَسَبِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ. قَالَ السبكي: لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ، بَلْ بِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ الْحَادِثَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِمَجْمُوعِ أُمُورٍ حُكْمٌ لَا يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَإِذَا حَدَثَتْ صُورَةٌ عَلَى صِفَةٍ خَاصَّةٍ عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِيهَا، فَقَدْ يَكُونُ مَجْمُوعُهَا يَقْتَضِي الشَّرْعُ لَهُ حُكْمًا خَاصًّا. هَذَا كَلَامُ السبكي، قَرَّرَهُ فِي كِتَابٍ أَلَّفَهُ فِي شَأْنِ رَافِضِيٍّ حَكَمَ بِقَتْلِهِ، وَسَمَّاهُ غَيْرَةَ الْإِيمَانِ الْجَلِيِّ لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وَقَالَ السبكي أَيْضًا فِي فَتَاوِيهِ مَا مَعْنَاهُ: يُوجَدُ فِي فَتَاوِي الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَشْيَاءُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا الْمَذْهَبُ فِي كُلِّ صُورَةٍ؛ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى وَقَائِعَ، فَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ تِلْكَ الْوَقَائِعَ يُسْتَحَقُّ أَنْ يُفْتَى بِهَا بِذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ اطِّرَادُ ذَلِكَ وَاسْتِمْرَارُهُ، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا تَتَعَلَّقُ بِرَافِضِيٍّ، وَلَيْتَهُ رَافِضِيٌّ فَقَطْ، بَلْ زِنْدِيقٌ جَاهِلٌ مِنْ كِبَارِ الْجَهَلَةِ، وَلَقَدِ اجْتَمَعْتُ بِهِ مَرَّةً فَرَأَيْتُ مِنْهُ الْعَجَبَ مِنْ إِنْكَارِهِ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدِّ أَقْوَالِهِ الشَّرِيفَةِ، وَيَقُولُ لَعَنَهُ اللَّهُ وَفَضَّ فَاهُ: النَّبِيُّ وَاسِطِيٌّ، مَا قَالَهُ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ فَصَحِيحٌ، وَمَا قَالَهُ وَلَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فِي الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ كَلِمَةً لَا أَسْتَطِيعُ ذِكْرَهَا، فَرَجَعْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ أَجْتَمِعْ بِهِ إِلَى الْآنَ، وَأَلَّفْتُ مُؤَلَّفًا سَمَّيْتُهُ: مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ فِي الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ: علي عِنْدَهُ الْعِلْمُ وَالشَّجَاعَةُ، وأبو بكر لَيْسَ عِنْدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا زَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ مَالَهُ فَكَافَأَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ أبا بكر أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ وَأَشْجَعُهُمْ، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كَذِبٌ، ثُمَّ أَعَادَ الْآنَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ مَعَ خاير بك وَطَلَبَ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ أبي بكر بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَدِيثَ حُجَّةً، فَذَكَرَ لَهُ خاير بك هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَمْ يَقُلْهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، بَلْ رَآهَا فِي بَعْضِ كُتُبِ الْكَلَامِ فَذَكَرَهَا، فَكَانَ لَا يَلِيقُ بالجوجري فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَنْ يُفْتِيَ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ خَاصَّةً بأبي بكر وَلَا دَالَّةً عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، فَيُؤَيِّدَ مَقَالَةَ الرَّافِضِيِّ وَيُثَبِّتَهُ عَلَى مُعْتَقَدِهِ الْخَبِيثِ وَيَدْحَضَ حُجَّةً قَرَّرَهَا أَئِمَّةٌ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ أَعْلَمُ بِالتَّفْسِيرِ وَالْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ مِثْلِ الجوجري، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَرْجُوحَ لَكَانَ اللَّائِقُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، فَكَيْفَ وَهُوَ الرَّاجِحُ وَالَّذِي أَفْتَى بِهِ الجوجري قَوْلٌ مَرْجُوحٌ؟ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْجَدَلِيَّةُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ التَّحْقِيقِ، فَأَقُولُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ: يُرِيدُ بِالْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ زَكِيًّا لَا رِيَاءَ وَلَا سُمْعَةَ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍالصِّدِّيقَ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَقَالَ ابن الخازن فِي تَفْسِيرِهِ: الْأَتْقَى هُنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرازي فِي تَفْسِيرِهِ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَتْقَى أبو بكر، وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ علي، فَانْظُرْ إِلَى نَقْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ إِجْمَاعَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَتْقَى أبو بكر لَا كُلُّ تَقِيٍّ، وَقَالَ الأصبهاني فِي تَفْسِيرِهِ: خُصَّ الصِّلِيُّ بِالْأَشْقَى وَالتَّجَنُّبُ بِالْأَتْقَى، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ شَقِيٍّ يَصْلَاهَا، وَكُلَّ تَقِيٍّ يُجَنَّبُهَا، لَا يَخْتَصُّ بِالصِّلِيِّ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ، وَلَا بِالنَّجَاةِ أَتْقَى الْأَتْقِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ حَالَتَيْ عَظِيمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَظِيمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُرِيدَ أَنْ يُبَالَغَ فِي صِفَتَيْهِمَا الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ فَقِيلَ: الْأَشْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالصِّلِيِّ، كَأَنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ. وَقِيلَ: الْأَتْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالنَّجَاةِ، كَأَنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ. انْتَهَى. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَتْقَى أَتْقَى الْأَتْقِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا مُطْلَقُ التَّقِيِّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وَأَتْقَى الْأَتْقِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَالَ النسفي فِي تَفْسِيرِهِ: الْأَتْقَى: الْأَكْمَلُ تَقْوَى، وَهُوَ صِفَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَقَالَ: وَدَلَّ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] انْتَهَى. وَقَالَ القرطبي فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَتْقَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: أَرَادَ بِالْأَشْقَى وَالْأَتْقَى الشَّقِيَّ وَالتَّقِيَّ، كَقَوْلِ طرفة: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ أَيْ وَاحِدٍ وَوَحِيدٍ، فَوَضَعَ أَفْعَلَ مَوْضِعَ فَعِيلٍ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَعَانِي هُوَ الَّذِي أَفْتَى بِهِ الجوجري عَادِلًا عَنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ النَّحْوِ، قَالَ ابن الصلاح: حَيْثُ رَأَيْتُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي، فَالْمُرَادُ بِهِ مُصَنِّفُو الْكُتُبِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ كالزجاج والفراء والأخفش وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. انْتَهَى. وَكَذَا نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّهَا فِي أبي بكر بِعِتْقِهِ مَنْ أَعْتَقَ مِنَ الْمَمَالِيكِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ. فَأَنْتَ تَرَى هَذِهِ النُّقُولَ تُنَادِي عَلَى أَنَّ الَّذِي أَفْتَى بِهِ الجوجري مَقَالَةٌ فِي الْآيَةِ لِبَعْضِ النَّحْوِيِّينَ مَشَى عَلَيْهَا بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ وَقَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَصَحَّحَهُ الْخَلَفُ اخْتِصَاصُهَا بأبي بكر إِبْقَاءً لِلصِّيغَةِ عَلَى بَابِهَا. هَذَا بَيَانُ رُجْحَانِ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ التَّفْسِيرُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ أُصُولُ الْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةُ فَأَقُولُ: قَوْلُ الجوجري: إِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَرْعٌ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ عُمُومٌ حَتَّى يَكُونَ الْعِبْرَةُ بِهِ، وَالْآيَةُ لَا عُمُومَ فِيهَا أَصْلًا وَرَأْسًا، بَلْ هِيَ نَصٌّ فِي الْخُصُوصِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُمُومَ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنْ (أَلِ) الْمَوْصُولَةِ وَالتَّعْرِيفِيَّةِ، وَلَيْسَتْ (أَلْ) هَذِهِ مَوْصُولَةً قَطْعًا ; لِأَنَّ الْأَتْقَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَ (أَلِ) الْمَوْصُولَةُ لَا تُوصَلُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ بِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ، وَإِنَّمَا تُوصَلُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَفِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ خِلَافٌ، وَأَمَّا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فَلَا تُوصَلُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا التَّعْرِيفِيَّةُ فَإِنَّمَا تُفِيدُ الْعُمُومَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ، فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى مُفْرَدٍ لَمْ تُفِدْهُ، كَمَا اخْتَارَ الإمام فخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 الدين، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تُفِيدُهُ فِيهِ، قَيَّدَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ عَهْدٌ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تُفِدْهُ قَطْعًا، هَذَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَالْأَتْقَى مُفْرَدٌ لَا جَمْعٌ، وَالْعَهْدُ فِيهِ مَوْجُودٌ فَلَا عُمُومَ فِيهِ قَطْعًا، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي الْأَتْقَى. فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ نَفِيسٌ فَتَحَ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ تَأْيِيدًا لِلْجَنَابِ الصِّدِّيقِيِّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَتْقَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَا عُمُومَ فِيهِ، بَلْ وَضْعُهُ لِلْخُصُوصِ ; فَإِنَّهُ لِتَفَرُّدِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ، وَأَنَّهُ لَا مُسَاوِيَ لَهُ فِيهَا، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ النَّاسِ، أَوِ الْأَفْضَلُ، فَإِنَّهَا صِيغَةُ خُصُوصٍ قَطْعًا عَقْلًا وَنَقْلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَنَاوَلَ غَيْرَهُ أَبَدًا، فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي الْأَتْقَى، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ تَقْرِيرُ الأصبهاني حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل: 15] {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17] . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ شَقِيٍّ يَصْلَاهَا، وَكُلَّ تَقِيٍّ يُجَنَّبُهَا؟ لَا يَخْتَصُّ بِالصِّلِيِّ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ وَلَا بِالنَّجَاةِ أَتْقَى الْأَتْقِيَاءِ، وَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّهُ نَكَّرَ النَّارَ فَأَرَادَ نَارًا بِعَيْنِهَا مَخْصُوصَةً بِالْأَشْقَى، فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17] ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَفْسَقَ الْمُسْلِمِينَ يُجَنَّبُ تِلْكَ النَّارَ الْمَخْصُوصَةَ لَا الْأَتْقَى مِنْهُمْ خَاصَّةً. قُلْتُ: الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ حَالَتَيْ عَظِيمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَظِيمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُرِيدَ أَنْ يُبَالَغَ فِي صِفَتِهِمَا الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ فَقِيلَ: الْأَشْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالصِّلِيِّ، كَأَنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ، وَقِيلَ: الْأَتْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالنَّجَاةِ، كَأَنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ. هَذِهِ عِبَارَتُهُ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي إِرَادَةِ الْخُصُوصِ؛ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَمَنْ جَنَحَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا لِلْعُمُومِ احْتَاجَ إِلَى تَأْوِيلِ الْأَتْقَى بِالتُّقَى لِيَخْرُجَ عَنِ التَّفْضِيلِ، وَهَذَا مَجَازٌ قَطْعًا، وَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ يُسَاعِدُهُ، بَلِ الدَّلِيلُ يُعَارِضُهُ، وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَإِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا نَقَلَهُ مَنْ تَقَدَّمَ، فَثَبَتَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِلتَّفْضِيلِ، وَأَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ، وَأَنَّهُ لَا عُمُومَ فِيهِ أَصْلًا. فَإِنْ قُلْتَ: لَمْ يُؤْخَذِ الْعُمُومُ مِنْ لَفْظِ (الْأَتْقَى) بَلْ مِنْ لَفْظِ (الَّذِي يُؤْتِي) ، فَإِنَّ (الَّذِي) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. قُلْتُ: هَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْكَ وَجَهْلٌ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ فَإِنَّ (الَّذِي) وَصْفٌ لِلْأَتْقَى، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَتْقَى خَاصٌّ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ صِفَتُهُ كَذَلِكَ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْوَصْفَ لَا يَكُونُ أَعَمَّ مِنَ الْمَوْصُوفِ، بَلْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَخَصَّ مِنْهُ، فَاشْدُدْ بِهَذَا الْكَلَامِ يَدَيْكَ وَعَضَّ عَلَيْهِ بِنَاجِذَيْكَ، عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] وَقَوْلِهِ: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] مَا يُشِيرُ إِلَى التَّنْصِيصِ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَقَدْ قَرَّرَ الإمام فخر الدين اخْتِصَاصَ الْآيَةِ بأبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 بكر وَالِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَقَالَ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَّا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَتْقَى أبو بكر، وَذَهَبَ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ علي، وَالدَّلَالَةُ النَّقْلِيَّةُ تَرُدُّ ذَلِكَ وَتُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَتْقَى أَفْضَلُ الْخَلْقِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وَالْأَكْرَمُ هُوَ الْأَفْضَلُ، فَالْأَتْقَى الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا أبو بكر وَإِمَّا علي، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى علي، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى أبي بكر، وَإِنَّمَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهَا عَلَى عَلِيٍّ لِأَنَّهُ قَالَ عَقِيبَ صِفَةِ هَذَا الْأَتْقَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] ، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَصْدُقُ عَلَى علي؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ أَبِيهِ، فَكَانَ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ وَيَكْسُوهُ وَيُرَبِّيهِ، فَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْعِمًا عَلَيْهِ نِعْمَةً يَجِبُ جَزَاؤُهَا، أَمَّا أبو بكر فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، بَلْ أبو بكر كَانَ يُنْفِقُ عَلَى الرَّسُولِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ نِعْمَةُ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الدِّينِ، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ لَا تُجْزَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] ، وَالْمَذْكُورُ هُنَا لَيْسَ مُطْلَقَ النِّعْمَةِ، بَلْ نِعْمَةٌ تُجْزَى، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَصْلُحُ لعلي، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كَانَ أَفْضَلَ الْخَلْقِ، وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَفْضَلَ مِنَ الْآيَةِ إِمَّا أبو بكر وَإِمَّا علي، وَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لعلي، تَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى أبي بكر، وَثَبَتَ دَلَالَةُ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أبا بكر أَفْضَلُ الْأُمَّةِ. انْتَهَى كَلَامُ الْإِمَامِ. [سُورَةُ الْقَدْرِ] مَسْأَلَةٌ. يَا مُفْرِدًا فَاقَ أَهْلَ الْعَصْرِ بَلْ سَلَفًا ... وَصَارَ مُشْتَهِرًا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالْأَفْرَادِ قَدْ شُهِرَتْ ... وَهَلْ تُظَنُّ بِشَهْرِ الصَّوْمِ فِي الْأَزَلِ أَوْ بِالْيَقِينِ وَبِالْعَشْرِ الْأَخِيرِ تُرَى ... مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ وَلَا جَدَلِ وَإِنْ تَقُولُوا بِهِ مَاذَا أَوَائِلُهَا ... هَلْ بِالْغُرُوبِ إِلَى فَجْرٍ يَلُوحُ جَلِي وَهَلْ لِقَائِمِ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنْ عَمَلٍ ... مِنَ الْغُرُوبِ بِفَرْدِ الْعَشْرِ فِي وَجَلِ يَدْعُو الْإِلَهَ مُظِنًّا أَنَّ دَعْوَتَهُ ... قَدِ اسْتُجِيبَتْ بِنَيْلِ الْقَصْدِ وَالْأَمَلِ أَفْتُوا عُبَيْدًا غَدَا مِمَّنْ يَلُوذُ بِكُمْ ... يَرْجُو لَكُمْ كُلَّ قَدْرٍ تَقْصِدُونَ عَلِي أَثَابَكُمْ رَبُّكُمْ جَنَّاتِهِ كَرَمًا ... بِجَاهِ خَيْرِ الْبَرَايَا أَشْرَفِ الرُّسُلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْحَمْدِ فِي الْأَزَلِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ خَاتَمِ الرُّسُلِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَقْوَالٌ وَعِدَّتُهَا ... لِنَحْوِ خَمْسِينَ قَوْلًا يَا أَخِي صَلِّ فَقِيلَ دَائِرَةٌ فِي الْعَامِ أَجْمَعِهِ ... وَقِيلَ بَلْ نِصْفُ شَعْبَانٍ بِلَا زَلَلِ وَرَجَّحُوا كَوْنَهَا شَهْرَ الصِّيَامِ أَتَتْ ... وَذَاكَ ظَنٌّ قَوِيٌّ بِالدَّلِيلِ جَلِي وَكَوْنُهَا فِيهِ دَارَتْ قَوْلُ طَائِفَةٍ ... وَكَوْنُهَا فِي الْأَخِيرِ الْعَشْرِ فَهْوَ جَلِي وَذَاكَ ظَنٌّ بِلَا قَطْعٍ وَأَوَّلُهَا ... مِنَ الْغُرُوبِ إِلَى فَجْرِ الصَّبَاحِ جَلِي وَمَنْ يَقُمْ نِصْفَ لَيْلٍ أَوْ أَقَلَّ حَوَى ... فَضْلَ الْقِيَامِ بِهَا فَاقْصِدْ بِلَا وَجَلِ بَلْ مَنْ يُصَلِّي الْعِشَا وَالصُّبْحَ ثُمَّتْ فِي ... جَمَاعَةٍ حَازَ مِنْهَا الْحَظَّ فِي الْأَمَلِ كَذَا أَتَى فِي حَدِيثٍ صَحَّ مُسْنَدُهُ ... فَاقْبَلْهُ طَوْعًا وَكُنْ فِي الدِّينِ ذَا عَمَلِ هَذَا جَوَابُ ابْنِ الْأَسْيُوطِيِّ مُرْتَجِيًا ... مِنْ فَضْلِ خَالِقِهِ الْغُفْرَانَ لِلزَّلَلِ بِرَوْضَةِ الْمُشْتَهِي خَطَّ الْجَوَابِ لَدَى ... شَوَّالٍ مِنْ عَامِ تِسْعِينَ بِلَا مَلَلِ مَسْأَلَةٌ: فِي كَيْفِيَّةِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ، هَلْ يَتَلَقَّاهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِكَلَامٍ يَفْهَمُهُ الْمَلَكُ أَوْ بِالْعَرَبِيَّةِ لِلنَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ لِلنَّبِيِّ الْعِبْرَانِيِّ، وَهَلْ يُلْقِيهِ الْمَلَكُ إِلَى جِبْرِيلَ أَوْ جِبْرِيلُ الْمُتَلَقِّي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وَفُسِّرَ بِنُزُولِهِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ، مَا كَيْفِيَّةُ نُزُولِهِ إِلَيْهِ؟ وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِلْقَلَمِ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هَلْ يَكُونُ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُلْهِمُهُ لِلْقَلَمِ أَوْ بِإِمْلَاءٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَكَيْفَ أَخَذَ الْمَلَكُ الْوَحْيَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ هَلْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُ: الْيَوْمُ الْفُلَانِيُّ يَقَعُ فِيهِ كَذَا خُذْهُ مِنَ اللَّوْحِ؟ أَوْ يَوْمَ يَقَعُ فِيهِ يَقُولُ لَهُ: خُذْهَا وَأَلْقِهَا إِلَى النَّبِيِّ؟ وَهَلْ تَنَامُ الْمَلَائِكَةُ؟ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] هَلِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ الْوَحْيِ مَلَكٌ أَوْ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ. الْجَوَابُ: قَالَ الأصبهاني فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِهِ: اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْإِنْزَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِظْهَارُ الْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَ كَلَامَهُ جِبْرِيلَ وَعَلَّمَهُ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ جِبْرِيلُ أَدَّاهُ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الطيبي فِي حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ: لَعَلَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَلَقَّفَهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَلَقُّفًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 رُوحَانِيًّا، أَوْ يَحْفَظَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَنْزِلَ بِهِ إِلَى الرَّسُولِ وَيُلْقِيَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقُطْبُ الرازي فِي حَوَاشِي الْكَشَّافِ: الْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَى الرُّسُلِ أَنْ يَتَلَقَّفَهَا الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَلَقُّفًا رُوحَانِيًّا، أَوْ يَحْفَظَهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَيَنْزِلَ بِهَا فَيُلْقِيَهَا عَلَيْهِمْ. انْتَهَى. وَقَدْ سَأَلْتُ شَيْخَنَا الْعَلَّامَةَ محيي الدين الكافيجي عَنْ كَيْفِيَّةِ التَّلَقُّفِ الرُّوحَانِيِّ فَقَالَ لِي: لَا يُكَيَّفُ. وَقَالَ الزركشي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، وَأَنَّ جِبْرِيلَ حَفِظَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنَزَلَ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحْرُفَ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا بِقَدْرِ جَبَلِ قَافٍ. وَالثَّانِي أَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا نَزَلَ بِالْمَعَانِي خَاصَّةً، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ وَعَبَّرَ عَنْهَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ. وَتَمَسَّكَ قَائِلُ هَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 - 194] . وَالثَّالِثُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَى عَلَيْهِ الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ يَقْرَءُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَزَلَ بِهِ كَذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِنَّا أَسْمَعْنَاهُ الْمَلَكَ وَأَفْهَمْنَاهُ إِيَّاهُ، وَأَنْزَلْنَاهُ بِمَا سَمِعَ، فَيَكُونُ الْمَلَكُ هُوَ الْمُنْتَقِلَ بِهِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلُ، قَالَ أبو شامة: وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي كَيْفِيَّةِ تَلَقِّي جِبْرِيلَ الْوَحْيَ، وَحَاصِلُ مَا فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا أَنَّهُ أُلْهِمَهُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ حَفِظَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَوْلُ التَّلَقُّفِ الرُّوحَانِيِّ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْإِلْهَامُ، فَلَا يَكُونُ قَوْلًا رَابِعًا، وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أبو إسحاق إسماعيل البخاري الصفار عَنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ مِنْ جِبْرِيلَ إِلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، هَلْ سَمِعَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى جُمْلَةً أَمْ جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ قَالَ: كِلَا الْوَجْهَيْنِ جَائِزٌ، وَذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَدْرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّعَ جِبْرِيلَ كُلَّهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَمْلَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى السَّفَرَةِ - وَهُمْ مَلَائِكَةٌ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا - لِكَيْ لَا يَكُونَ لَهُمُ احْتِيَاجٌ حِينَ أَسْمَعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ. وَذَكَرَ الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ أبو الليث فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8] وَقَالَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ: جَاءَ بِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ نُجُومًا [نُجُومًا] . وَذَكَرَ الدينوري أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ اللَّهِ جُمْلَةً ثُمَّ نَزَلَ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَفَرِّقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ سَمَاعًا مِنْ إِسْرَافِيلَ، وَإِسْرَافِيلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَفَرِّقًا، وَيُقَالُ: جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِمَا يَحْتَاجُ لَهُ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ مُتَفَرِّقًا. وَقَدْ نَظَرْتُ فِي الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فَوَجَدْتُهَا أَيْضًا مُخْتَلِفَةً، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ النواس بن سمعان مَرْفُوعًا: " «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ أَخَذَتِ السَّمَاءُ رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاءِ صَعِقُوا وَخَرُّوا سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُهُمْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلَ، فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، فَيَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ أَهْلُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا؟ قَالَ: الْحَقَّ، فَيَنْتَهِي بِهِ إِلَى حَيْثُ أُمِرَ» " وَأَخْرَجَ ابن مردويه مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: " «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً فَيَفْزَعُونَ» " الْحَدِيثَ، هَذَانِ الْحَدِيثَانِ شَاهِدَانِ لِلْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ جِبْرِيلَ يَسْمَعُ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَأَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ عَنِ ابن سابط قَالَ: " فِي أُمِّ الْكِتَابِ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وُكِّلَ بِهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَوُكِّلَ جِبْرِيلُ بِالْكُتُبِ وَالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّصْرِ عِنْدَ الْحُرُوبِ، وَبِالْهَلَكَاتِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ قَوْمًا، وَوُكِّلَ مِيكَائِيلُ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ، وَوُكِّلَ مَلَكُ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَارَضُوا بَيْنَ حِفْظِهِمْ وَبَيْنَ مَا كَانَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَيَجِدُونَهُ سَوَاءً ". فَهَذَا شَاهِدٌ لِلْقَوْلِ الثَّالِثِ: أَنَّ جِبْرِيلَ حَفِظَ الْوَحْيَ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ يُنَاجِيهِ إِذِ انْشَقَّ أُفُقُ السَّمَاءِ وَنَزَلَ مَلَكٌ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، قَالَ: فَقُلْتُ: نَبِيٌّ عَبْدٌ، فَعَرَجَ ذَلِكَ الْمَلَكُ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِسْرَافِيلُ، خَلَقَهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَافًّا قَدَمَيْهِ لَا يَرْفَعُ طَرْفَهُ، بَيْنَ يَدَيْهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ فِي شَيْءٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ اللَّوْحُ فَضَرَبَ جَبْهَتَهُ فَيَنْظُرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِي أَمَرَنِي بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ مِيكَائِيلَ أَمَرَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ عَمَلِ مَلَكِ الْمَوْتِ أَمَرَهُ بِهِ» " الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ كعب قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ أَمْرًا جَاءَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ حَتَّى يُصَفِّقَ جَبْهَةَ إِسْرَافِيلَ فَيَرْفَعَ رَأْسَهُ فَيَنْظُرَ، فَإِذَا الْأَمْرُ مَكْتُوبٌ، فَيُنَادِي جِبْرِيلَ فَيُلَبِّيهِ، فَيَقُولُ: أُمِرْتَ بِكَذَا أُمِرْتَ بِكَذَا، فَيَهْبِطُ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ فَيُوحِي إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ عَنْ أبي بكر الهذلي قَالَ: إِذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْأَمْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 تَدَلَّتِ الْأَلْوَاحُ عَلَى إِسْرَافِيلَ بِمَا فِيهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا إِسْرَافِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلَ فَيُجِيبُهُ. وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أبي سنان قَالَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ مُعَلَّقٌ بِالْعَرْشِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ بِشَيْءٍ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ، فَيَجِيءُ اللَّوْحُ حَتَّى يَقْرَعَ جَبْهَةَ إِسْرَافِيلَ، فَيَنْظُرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ دَفَعَهُ إِلَى مِيكَائِيلَ، وَإِنْ كَانَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ دَفَعَهُ إِلَى جِبْرِيلَ. الْحَدِيثَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ اسْتَوْفَيْتُهَا فِي كِتَابِي الَّذِي أَلَّفْتُهُ فِي أَخْبَارِ الْمَلَائِكَةِ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عبد الرحمن بن سابط قَالَ: يُدَبِّرُ أَمْرَ الدُّنْيَا أَرْبَعَةٌ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ وَإِسْرَافِيلُ، فَأَمَّا جِبْرِيلُ فَمُوَكَّلٌ بِالرِّيَاحِ وَالْجُنُودِ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَمُوَكَّلٌ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ، وَأَمَّا مَلَكُ الْمَوْتِ فَمُوَكَّلٌ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ عَلَيْهِمْ. وَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عكرمة بن خالد: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمَلَائِكَةِ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: " جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ، فَأَمَّا جِبْرِيلُ صَاحِبُ الْحَرْبِ وَصَاحِبُ الْمُرْسَلِينَ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَصَاحِبُ الْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ، وَأَمَّا مَلَكُ الْمَوْتِ فَمُوَكَّلٌ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ فَأَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ» ". فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ خِلَافِ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ جِبْرِيلَ يَأْخُذُ الْوَحْيَ مِنْ إِسْرَافِيلَ، وَإِسْرَافِيلُ يَأْخُذُهُ مِمَّا كُتِبَ تِلْكَ السَّاعَةَ فِي اللَّوْحِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ لِمَنْ تَأَمَّلَ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ. وَقَوْلُ السَّائِلِ: أَوْ بِالْعَرَبِيَّةِ لِلنَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ لِلنَّبِيِّ الْعِبْرَانِيِّ. جَوَابُهُ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: لَمْ يَنْزِلْ وَحْيٌ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ تَرْجَمَ كُلُّ نَبِيٍّ لِقَوْمِهِ. وَقَوْلُهُ: هَلْ يُلْقِيهِ الْمَلَكُ إِلَى جِبْرِيلِ أَوْ جِبْرِيلُ الْمُتَلَقِّي مِنَ اللَّهِ؟ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا شَاهِدٌ لِلْأَوَّلِ وَبَعْضُهَا شَاهِدٌ لِلثَّانِي. وَقَوْلُهُ: مَا كَيْفِيَّةُ نُزُولِهِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ؟ ذَكَرَ علي بن سهل النيسابوري فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ حَفِظَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ أَتَى بِهِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فَأَمْلَاهُ عَلَى السَّفَرَةِ الْكَتَبَةُ، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ - كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15 - 16] وَتَابَعَهُ الْإِمَامُ عَلَمُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ جَمَالِ الْقُرَّاءِ: نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِإِمْلَائِهِ عَلَى السَّفَرَةِ الْكِرَامِ وَإِنْسَاخِهِمْ إِيَّاهُ وَتِلَاوَتِهِمْ لَهُ. وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَلَمِ فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ أَجْرَاهُ بِالْكِتَابَةِ لِمَا هُوَ كَائِنٌ، بِقُدْرَةٍ مِنَ اللَّهِ لَا بِالْإِمْلَاءِ وَلَا بِالْإِلْهَامِ ; لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يَكُونَانِ لِلْحَيَوَانِ، وَالْقَلَمُ مِنْ نَوْعِ الْجَمَادِ، وَخِطَابُهُ وَرَدُّهُ الْجَوَابَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 بَابِ خِطَابِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] . وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْعَرْشَ اسْتَوَى عَلَيْهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْرِيَ بِإِذْنِهِ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ. فَقَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ ; أَيْ بِقُدْرَتِهِ، أَيْ أَوْجَدَ الْكِتَابَةَ فِي اللَّوْحِ بِمَرِّ الْقَلَمِ عَلَيْهِ بِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقَلَمَ فَكَتَبَ بِهِ مَا هُوَ خَالِقٌ وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَإِدْخَالُ بَاءِ الْآلَةِ عَلَيْهِ وَإِسْنَادُ كَتَبَ إِلَى اللَّهِ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَلَمَ آلَةٌ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُ السَّائِلِ: وَكَيْفَ أَخَذَ الْمَلَكُ الْوَحْيَ مِنَ اللَّوْحِ. . . إِلَى آخِرِهِ؟ جَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَثَرِ كعب وَشِبْهِهِ. وَقَوْلُهُ: وَهَلْ تَنَامُ الْمَلَائِكَةُ؟ لَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] أَنَّهُمْ لَا يَنَامُونَ. وَقَوْلُهُ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} [النجم: 10] إِلَى آخِرِهِ، مِنْ جُمْلَةِ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَرْضُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ، وَمِنْهُ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِبَيَانِهِ. مَسْأَلَةٌ: رَجُلٌ ادَّعَى أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كَلِمَةٍ بِقَدْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَالِاشْتِغَالَ بِهَا أَفْضَلُ مِنَ الْقُرْآنِ، يَعْنِي التِّلَاوَةَ وَالذِّكْرَ، مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَفْضَلُ كَلِمَةٍ قُلْتُهَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» "، فَهَلْ مَا يَقُولُ مُسْتَقِيمٌ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ» "؟ وَأَيْضًا فَالْقُرْآنُ تَحْرُمُ تِلَاوَتُهُ عَلَى الْجُنُبِ وَمَسُّهُ عَلَى الْمُحْدِثِ، بِخِلَافِ الذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ. الْجَوَابُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، فَتَفْضِيلُهَا عَلَى بَقِيَّةِ كَلِمَاتِهِ مِنْ بَابِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ، لَا مِنْ بَابِ تَفْضِيلِ غَيْرِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقُرْآنِ. مَسْأَلَةٌ: مَا كَيْفِيَّةُ مَا حُزِّبَ الْقُرْآنُ هَلْ هُوَ بَعَدِّ الْآيَاتِ أَمْ غَيْرِهَا؟ الْجَوَابُ: حُزِّبَ بَعْضُ الْحُرُوفِ لَا الْآيَاتُ وَلَا الْكَلِمَاتُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 [الْفَتَاوَى الْحَدِيثِيَّةُ] [كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [ مسائل متفرقة ] كِتَابُ الطَّهَارَةِ مَسْأَلَةٌ: مَا قَوْلُكُمْ فِي حَدِيثِ: " «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ» " أَخْرَجَهُ أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ، هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ ضَعِيفٌ؟ وَمَا وَجْهُ ضَعْفِهِ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ أَوِ الْمَعْنَى؟ وَكَذَا حَدِيثُ: " «الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ» " هَلْ خَرَّجَهُ أَحَدٌ؟ فَإِنَّ المنذري فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ قَالَ: لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ خَرَّجَهُ، وَلَعَلَّهُ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ، وَالْمَسْئُولُ: الْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَتَبْيِينُ صِحَّتِهِمَا وَمَعَانِيهِمَا. الْجَوَابُ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ضَعِيفٌ، صَرَّحَ بِضَعْفِهِ جَمَاعَةٌ، وَسَبَبُهُ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الْأَفْرِيقِيَّ، ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد: نَحْنُ لَا نَرْوِي عَنْهُ شَيْئًا، لَكِنْ أبو داود إِذْ رَوَاهُ سَكَتَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُضَعِّفْهُ، وَقَدْ قَالَ: إِنَّ مَا رُوِّيتُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَلَمْ أُضَعِّفْهُ فَهُوَ صَالِحٌ - يَعْنِي لِلِاحْتِجَاجِ - وَالصَّالِحُ لَهُ إِمَّا صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ حَسَنًا ; لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ لَمْ يُتَّفَقْ عَلَى ضَعْفِهِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الثَّوْرِيُّ يُعَظِّمُهُ وَيَعْرِفُ حَقَّهُ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ تَضْعِيفُ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْوُضُوءُ حَسَنَةٌ، فَمَنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ " كُتِبَ لَهُ " بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَلَمْ نَرَ أَحَدًا أَخْرَجَهُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ المنذري، وَكَذَا قَالَ الحافظ زين الدين العراقي فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْإِحْيَاءِ، لَكِنْ قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: إِنَّ رزينا أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَعْنَاهُ أَيْضًا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ يُكْسِبُ أَعْضَاءَهُ نُورًا، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَضَاءَةِ، وَدَلِيلُهُ قَضِيَّةُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ، فَكَانَ الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ يُقَوِّي ذَلِكَ النُّورَ وَيَزِيدُهُ ; إِذْ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ مِنَ الْحَدَثِ مَا يَقْتَضِي سَتْرَهُ، وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ شرف الدين المناوي يَذْكُرُ لَنَا أَنَّ الصَّالِحِينَ يُشَاهِدُونَ الْحَدَثَ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَيُرَتِّبُونَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ حَدِيثٌ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْقَدْرِ بَعْدَ الْوُضُوءِ؟ وَمَا حَالُهُ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الْجَوَابُ: رَوَى الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقِ أبي عبيدة، عَنِ الحسن، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ فِي أَثَرِ وُضُوئِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] مَرَّةً وَاحِدَةً كَانَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ، وَمَنْ قَرَأَهَا مَرَّتَيْنِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الشُّهَدَاءِ، وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا حَشَرَهُ اللَّهُ مَحْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ» . وأبو عبيدة مَجْهُولٌ. مَسْأَلَةٌ: مَا قَوْلُكُمْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أبو داود: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ فَقَالَ: " مَنْ فَعَلَ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» هَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ؟ . الْجَوَابُ: لَيْسَ لَفْظُ الْحَدِيثِ هَكَذَا، إِنَّمَا لَفْظُهُ: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» . هَكَذَا هُوَ فِي سُنَنِ أبي داود وَابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، كَمَا قَالَهُ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ رَاجِعٌ إِلَى الْإِيتَارِ، وَهُوَ سُنَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. [الْأَخْبَارُ الْمَأْثُورَةُ فِي الِاطِّلَاءِ بِالنُّورَةِ] [حكم الِاطِّلَاءِ بِالنُّورَةِ] 38 - الْأَخْبَارُ الْمَأْثُورَةُ فِي الِاطِّلَاءِ بِالنُّورَةِ. مَسْأَلَةٌ: مَا قَوْلُكُمْ فِي الِاطِّلَاءِ بِالنُّورَةِ، هَلْ هُوَ سُنَّةٌ مَأْثُورَةٌ عَنِ الشَّارِعِ أَمْ لَا؟ وَهَلِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ ثَابِتَةٌ أَمْ لَا؟ كَحَدِيثِ أم سلمة الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا طَلَى بَدَأَ بِعَوْرَتِهِ بِالنُّورَةِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ كُلِّهِ» ، وَحَدِيثِ عائشة الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَتْ: «اطَّلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّورَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، عَلَيْكُمْ بِالنُّورَةِ؛ فَإِنَّهَا طَيِّبَةٌ وَطَهُورٌ، وَإِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُ بِهَا عَنْكُمْ أَوْسَاخَكُمْ وَأَشْعَارَكُمْ» فَإِنْ قُلْتُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ، فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أَخْرَجَهُ أبو حاتم عَنْ أَنَسٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَوَّرُ، فَإِذَا كَثُرَ شَعْرُهُ حَلَقَهُ» ؟ وَقَوْلِ الشَّيْخِ محيي الدين النووي فِي فَتَاوِيهِ: لَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ مَرْفُوعَةً وَمَوْقُوفَةً وَمَقْطُوعَةً، مَوْصُولَةً وَمُرْسَلَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِاسْتِعْمَالِ النُّورَةِ، فَهِيَ مُبَاحَةٌ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ، وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا سُنَّةٌ؟ مَحَلُّ تَوَقُّفٍ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ تَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهَا كَحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى السُّنَّةِ، فَقَدْ يُقَالُ هُنَا: إِنَّ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي لَا يَدُلُّ فِعْلُهُ لَهَا عَلَى السُّنِّيَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي فَعَلَهَا وَلَمْ تُوصَفْ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهَا سُنَّةٌ ; لِمَا فِيهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ، وَقَدْ يُقَالُ فِيهَا بِالِاسْتِحْبَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَخَفُّ مَرْتَبَةً مِنَ السُّنَّةِ، وَمَحَلُّ هَذَا كُلِّهِ مَا لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَنَوِّرُ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِعْلِهِ، أَمَّا إِذَا قَصَدَ ذَلِكَ فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ مَأْجُورٌ وَآتٍ بِسُنَّةٍ. [ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَوَّرَ] قَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا علي بن محمد، ثَنَا عبد الرحمن بن عبد الله، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الرُّمَّانِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اطَّلَى بَدَأَ بِعَوْرَتِهِ فَطَلَاهَا وَسَائِرَ جَسَدِهِ أَهْلُهُ» ، قَالَ الحافظ عماد الدين ابن كثير فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي الْحَمَّامِ: هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وعبد الرحمن بن عبد الله هَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْأَطْرَافِ أَنَّهُ أبو سعيد مولى بني هاشم، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ علي بن محمد، عَنْ إسحاق بن منصور، عَنْ كامل أبي العلاء، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أم سلمة، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطَّلَى وَوَلِيَ عَانَتَهُ بِيَدِهِ» ، وَقَدْ رَوَاهُ عبد الرزاق عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ منصور عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ. انْتَهَى كَلَامُ ابن كثير. قُلْتُ: وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ، قَالَ الْخَرَائِطِيُّ فِي مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ: حَدَّثَنَا القنطري، ثَنَا يزيد بن خالد بن يزيد، ثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ كهيل، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أم سلمة، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَوِّرُهُ الرَّجُلُ، فَإِذَا بَلَغَ مَرَاقَّهُ تَوَلَّى هُوَ ذَلِكَ» ، وَقَالَ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الوزان، ثَنَا سليمان بن سلمة الجنائزي، ثَنَا سليمان بن ناشرة قَالَ: «سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيَّ يَقُولُ: كَانَ ثَوْبَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَارًا لِي، فَكَانَ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ، فَقُلْتُ: وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدْخُلُ الْحَمَّامَ؟ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَكَانَ يَتَنَوَّرُ» . أَخْرَجَهُ يعقوب بن سفيان فِي تَارِيخِهِ عَنْ سليمان بن سلمة الحمصي، ثَنَا بقية، ثَنَا سليمان بن ناشرة بِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فَاتَ ابن كثير. وَأَخْرَجَهُ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ موسى بن أيوب، عَنْ بقية، عَنْ عمر بن سليمان الدمشقي، عَنْ مكحول، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 خَيْبَرَ جُعِلَتْ لَهُ مَائِدَةٌ، فَأَكَلَ مُتَّكِئًا وَاطَّلَى وَأَصَابَتْهُ الشَّمْسُ وَلَبِسَ الظُّلَّةَ، قَالَ أحمد: سَأَلْتُ آدم: مَا الظُّلَّةُ؟ قَالَ: الْبُرْطُلَّةُ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِهِ» . وَهَذَا أَيْضًا فَاتَ ابن كثير. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: ثَنَا هشيم عَنْ أبي المشرفي - ليث بن أبي راشد - عَنْ أبي معشر، عَنْ إبراهيم قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اطَّلَى وَلِيَ عَانَتَهُ بِيَدِهِ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ هشيم وشريك، كِلَاهُمَا عَنْ أبي المشرفي بِهِ، قَالَ ابن كثير: وَهُوَ مُرْسَلٌ يَتَقَوَّى بِالْمَوْصُولِ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: ثَنَا الصفدي بن سنان العقيلي، عَنْ محمد بن الزبير الحنظلي، عَنْ مكحول قَالَ: «لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ أَكَلَ مُتَّكِئًا وَتَنَوَّرَ» . قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ فَاتَ ابن كثير فَلَمْ يَذْكُرْهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَقَالَ أبو داود فِي الْمَرَاسِيلِ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، عَنْ عبد الواحد - هو ابن زياد - عَنْ صالح بن صالح، عَنْ أبي معشر زياد بن كليب، «أَنَّ رَجُلًا نَوَّرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْعَانَةَ كَفَّ الرَّجُلُ، وَنَوَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ» . أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى. وَفِي تَارِيخِ ابن عساكر بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَوَّرُ كُلَّ شَهْرٍ، وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ كُلَّ خَمْسَ عَشْرَةَ» . هَذَا الْحَدِيثُ فَاتَ ابن كثير، وَفِيهِ فَائِدَةٌ نَفِيسَةٌ وَهِيَ ذِكْرُ التَّوْقِيتِ. [ذِكْرُ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ] أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ يعلى بن مرة الثقفي قَالَ: «اطَّلَيْتُ يَوْمًا ثُمَّ تَخَلَّقْتُ بِزَعْفَرَانٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاوَلْتُهُ يَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيَّ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي عَلَى يَدِكَ؟ قُلْتُ: إِنِّي تَنَوَّرْتُ ثُمَّ تَخَلَّقْتُ، فَقَالَ: أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: أَلَكَ سُرِّيَّةٌ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَانْطَلِقْ فَاغْسِلْهُ ثُمَّ اغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَانْطَلَقْتُ فَاغْتَسَلْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى عَلَيَّ» . وَأَخْرَجَ مسدد فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ فَيُنَوِّرُهُ صَاحِبُ الْحَمَّامِ، فَإِذَا بَلَغَ حِقْوَهُ قَالَ لِصَاحِبِ الْحَمَّامِ: اخْرُجْ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيِّ قَالَ: كَانَ ثَوْبَانُ جَارًا لَنَا، وَكَانَ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَتَنَوَّرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أسامة بن زيد الليثي عَنْ نافع قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَطَّلِي فَيَأْمُرُنِي أَطْلِيهِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ سَفَلَتَهُ وَلِيَهَا هُوَ، وَأَخْرَجَ الْخَرَائِطِيُّ عَنْ مكحول قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّامَ دَخَلُوا الْحَمَّامَاتِ وَاطَّلَوْا بِالنُّورَةِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نافع، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ، وَكَانَ يَتَنَوَّرُ فِي الْبَيْتِ وَيَلْبَسُ إِزَارًا، وَيَأْمُرُنِي أَطْلِي مَا ظَهَرَ مِنْهُ، ثُمَّ يَأْمُرُنِي أَنْ أُؤَخَّرَ عَنْهُ فَيَلِيَ فَرْجَهُ، وَأَخْرَجَ عبد الرزاق عَنْ أم كلثوم قَالَتْ: أَمَرَتْنِي عائشة فَطَلَيْتُهَا بِالنُّورَةِ، ثُمَّ طَلَيْتُهَا بِالْحِنَّاءِ عَلَى أَثَرِهَا مَا بَيْنَ قَرْنِهَا إِلَى قَدَمِهَا، مِنْ حَصْبَاءَ كَانَتْ بِهَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ: حَدَّثَنَا مالك بن إسماعيل، عَنْ كامل، عَنْ حبيب قَالَ: دَخَلَ الْحَمَّامَ عطاء وطاووس وَمُجَاهِدٌ، فَاطَّلَوْا فِيهِ، وَحَدَّثَنَا أبو أسامة عَنْ عمر بن حمزة أَنَّ سالما اطَّلَى مَرَّةً. وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ أبي عثمان والربيع وأبي حارثة قَالَ: بَلَغَ عمر أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ دَخَلَ الْحَمَّامَ فَتَدَلَّكَ بَعْدَ النُّورَةِ بِخُبْزِ عُصْفُرٍ مَعْجُونٍ بِخَمْرٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَدَلَّكْتَ بِخَمْرٍ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ظَاهِرَ الْخَمْرِ وَبَاطِنَهَا، وَقَدْ حَرَّمَ مَسَّ الْخَمْرِ كَمَا حَرَّمَ شُرْبَهَا، فَلَا تُمِسُّوهَا أَجْسَامَكُمْ فَإِنَّهَا نَجَسٌ. [ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَنَوَّرْ] قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ: حَدَّثَنَا حسين بن علي، عَنْ زائدة، عَنْ هشام، عَنِ الحسن - هو البصري - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر لَا يَطَّلُونَ» . قَالَ ابن كثير: هَذَا مِنْ مَرَاسِيلِ الحسن، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِيهَا، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَا أَدْرِي مَنْ أَخْبَرَنِي عَنْ قَتَادَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَنَوَّرْ» . وَأَخْرَجَ أبو داود فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سعيد، عَنْ قَتَادَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَنَوَّرْ وَلَا أبو بكر وَلَا عمر وَلَا عثمان» ، كِلَاهُمَا مُنْقَطِعٌ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مسلم الملائي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَوَّرُ، فَإِذَا كَثُرَ شَعَرُهُ حَلَقَهُ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مسلم الملائي ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَتَادَةُ أَخَذَهُ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ. قُلْتُ: فَرَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَوَّلًا ضَعِيفٌ، وَثَانِيًا مَعَارَضٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْهُ سَنَدًا وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَثَالِثًا أَنَّ تِلْكَ مُثْبِتَةٌ وَهَذَا نَافٍ، وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ عِنْدَ التَّعَارُضِ تَقْدِيمُ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي، خُصُوصًا أَنَّ الَّتِي رَوَتِ الْإِثْبَاتَ بَاشَرَتِ الْوَاقِعَةَ، وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ أَجْدَرُ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ ; فَإِنَّهَا مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْخَلْوَةِ غَالِبًا، لَا بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَجْوِبَةٍ، وَسَادِسٌ: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، فَتَارَةً كَانَ يَتَنَوَّرُ وَتَارَةً كَانَ يَحْلِقُ وَلَا يَتَنَوَّرُ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَتَقَدَّمَ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَوَّرُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ عَنْ مسكين بن عبد العزيز، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَارِيَتُهُ تَحْلِقُ عَنْهُ الشَّعَرَ، فَقَالَ: إِنَّ النُّورَةَ تُرِقُّ الْجِلْدَ. فَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، هَذَا فِي أَوْقَاتٍ وَهَذَا فِي أَوْقَاتٍ، نَعَمْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّنَوُّرَ وَيُعَلِّلُهُ بِأَنَّهُ مِنَ النَّعِيمِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا حبان بن علي، عَنْ محمد بن قيس الأسدي، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَطِيبُ بِالْحَدِيدِ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَنَوَّرُ؟ قَالَ: إِنَّهَا مِنَ النَّعِيمِ وَأَنَا أَكْرَهُهَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وكيع، عَنْ محمد بن قيس الأسدي، عَنْ علي بن أبي عائشة قَالَ: كَانَ عمر رَجُلًا أَهْدَبَ، وَكَانَ يَحْلِقُ عَنْهُ الشِّعَرَ، وَذُكِرَتْ لَهُ النُّورَةُ فَقَالَ: النُّورَةُ مِنَ النَّعِيمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ الْإِكْثَارَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: حَدَّثَنَا بقية، حَدَّثَنِي أرطاة بن المنذر، حَدَّثَنِي بَعْضُهُمْ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَمَّامِ، وَكَثْرَةَ طِلَاءِ النُّورَةِ، وَالتَّوَطِّيَ عَلَى الْفُرُشِ ; فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ. فَهَذَا الْأَثَرُ قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ، وَأَوْلَى مَا اعْتُمِدَ فِي التَّوْقِيتِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقُ، وَهُوَ التَّنَوُّرُ كُلَّ شَهْرٍ، فَيُكْرَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا حماد بن الحسن بن عنبسة الوراق، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْخَطَّابِ، ثَنَا حميد - يعني ابن يعقوب مولى بني هاشم، وَكَانَ ثِقَةً - عَنِ العباس بن فضل، عَنِ القاسم، عَنْ أبي حازم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَكْذِبُوا، فَوَاللَّهِ مَا اطَّلَى نَبِيٌّ قَطُّ، لَكِنْ قَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: مَا اطَّلَى نَبِيٌّ قَطُّ ; أَيْ: مَا مَالَ إِلَى هَوَاهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ مَيْلِ الطُّلَى، وَهِيَ الْأَعْنَاقُ، وَاحِدَتُهَا طُلَاةٌ، يُقَالُ: أَطْلَى الرَّجُلُ إِطْلَاءً: إِذَا مَالَتْ عُنُقُهُ إِلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ. انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُلَخَّصِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ فِي حَدِيثِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أَطْلَى نَبِيٌّ قَطُّ» : أَيْ: مَا مَالَتْ طُلَاتُهُ، أَيْ عُنُقُهُ، أَيْ مَا جَارَ، وَقَالَ عبد الغافر الفارسي فِي مَجْمَعِ الْغَرَائِبِ: فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: مَا أَطْلَى نَبِيٌّ قَطُّ - أَيْ مَا مَالَ إِلَى هَوًى - وَالْأَصْلُ فِيهِ مَيْلُ عُنُقِ الْإِنْسَانِ، يُقَالُ: أَطْلَى الرَّجُلُ ; أَيْ مَالَتْ عُنُقُهُ لِلْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا صَاحِبُ الْقَامُوسِ. خَاتِمَةٌ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَنْ صُنِعَتْ لَهُ النُّورَةُ وَدَخَلَ الْحَمَّامَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ بلقيس: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل: 44] فَإِذَا هِيَ شَعْرَاءُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا يُذْهِبُهُ؟ قَالُوا: يُذْهِبُهُ الْمُوسَى، قَالَ: أَثَرُ الْمُوسَى قَبِيحٌ، فَجَعَلَتِ الشَّيَاطِينُ النُّورَةَ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جُعِلَتْ لَهُ النُّورَةُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ مِثْلَهُ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي فِي الْقِصَّةِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ صَنَعُوا لَهُ نُورَةً مِنْ أَصْدَافٍ فَطَلَوْهَا فَذَهَبَ الشَّعَرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 [كِتَابُ الصَّلَاةِ] [ مسائل متفرقة ] مَسْأَلَةٌ: الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أبو داود «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اسْكُنُوا، وَخَرَجَ وَاغْتَسَلَ وَعَادَ وَتَحَرَّمَ بِهِمْ» ، هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ نَوَى الْقُدْوَةَ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ ظَاهِرٌ أَمْ لَا؟ وَقَوْلُ الأسنوي: وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ أَنْشَئُوا اقْتِدَاءً جَدِيدًا، هَلْ عُلِمَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ أَوْ طَرِيقٍ، وَهَلْ عُيِّنَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ؟ الْجَوَابُ: الِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْمَعْلُومِ، أَيْ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ ; لِأَنَّهُمْ تَابَعُوهُ بَعْدَ عَوْدِهِ، وَلَا يُمْكِنُ الْمُتَابَعَةُ إِلَّا بَعْدَ إِنْشَاءِ اقْتِدَاءٍ جَدِيدٍ ; لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ الْأَوَّلَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الصُّبْحُ. مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى قَوْمٍ» ، فَهَلْ كَانَ ذَلِكَ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْقُنُوتِ الَّذِي هُوَ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، إِلَى آخِرِهِ، أَمِ ابْتَدَأَ بِهِ دُونَهُ؟ الْجَوَابُ: لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الْقُنُوتِ الَّذِي هُوَ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا إِلَى آخِرِهِ، وَبَيْنَ الدُّعَاءِ عَلَى الْقَوْمِ، بَلْ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي قُنُوتِهِ عَلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ» هَلْ وَرَدَ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَوَاهُ الحاكم وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ أَيْضًا، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جابر عَنْ علي، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ عَنْ عائشة، وَأَسَانِيدُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. مَسْأَلَةٌ: قَدْ كَرِهَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يُقَالَ لِلْعِشَاءِ: عَتَمَةٌ، فَكَيْفَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَشَهِدُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» . الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ مِنْ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 تَسْمِيَتِهَا عَتَمَةً. الثَّانِي: أَنَّهُ جَرَى عَلَى مَا اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» " وَقَدْ نَهَى أَنْ يُحْلَفَ بِالْآبَاءِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ جَرَى عَلَى الْأَلْسِنَةِ. الثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: مَا فِي الْعِشَاءِ أَوِ الصُّبْحِ، فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَسْمِيَتِهَا عَتَمَةً. الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ ذَلِكَ لِبَيَانِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَسْمِيَتِهَا بِهِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ حَدِيثُ: " «لَا تُسَوِّدُونِي فِي الصَّلَاةِ» "؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ أَنَّ بلالا أَوْ غَيْرَهُ أَذَّنَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ؟ الْجَوَابُ: وَرَدَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَالْمَشْهُورُ الَّذِي صَحَّحَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، أَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُؤَذِّنْ قَبْلَهَا بلال وَلَا غَيْرُهُ. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ» هَلِ الْمُرَادُ الْكَمَالُ أَوْ عَدَمُ الصِّحَّةِ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا وَلَا هَذَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النَّفْيِ الْمُرَادِ بِهِ النَّفْيُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا النَّفْيُ هُنَا فَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، أَيْ لَا تُصَلُّوا إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ وَضْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مالك، عَنْ أبي حازم، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ، قَالَ أبو حازم: لَا أَعْلَمُ إِلَّا يُنْمَى ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أبو عبد الله: وَقَالَ إسماعيل: يَنْمِي ذَلِكَ - وَلَمْ يَقُلْ: يُنْمِي بِرَفْعِ الْيَاءِ - هَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ: يُنْمِي ذَلِكَ - بِرَفْعِ الْيَاءِ - وَلَمْ يَقُلْ: يَنْمِي - أَيْ بِالْفَتْحِ - فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَوِ التَّقْدِيرُ - يَنْمِي ذَلِكَ - وَلَمْ يَقُلْ: يُنْمَى بِرَفْعِ الْيَاءِ، وَمَا وَجْهُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ وَمَا الرِّوَايَةُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ قَالَ إسماعيل: يُنْمَى، بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَلَمْ يَقُلْ: يَنْمِي، بِالْفَتْحِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: «سَلِّمُوا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا تُسَلِّمُوا عَلَى يَهُودِ أُمَّتِي " قِيلَ: وَمَنْ يَهُودُ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: " تُرَّاكُ الصَّلَاةِ» هَلْ وَرَدَ؟ الْجَوَابُ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَأُورِدَ فِي الْفِرْدَوْسِ بِلَفْظِ: «وَلَا تُسَلِّمُوا عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ» وَبَيَّضَ لَهُ وَلَدُهُ فِي مُسْنَدِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ إِسْنَادًا. مَسْأَلَةٌ: مِنَ التَّكْرُورِ - مَا الْفَرْقُ بَيْنَ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ عَنْ بَيْعِ بُيُوتِهِمْ حِينَ أَرَادُوا بَيْعَهَا بِسَبَبِ بُعْدِهَا مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْأَبْعَدُ فَالْأَبْعَدُ مِنَ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ أَجْرًا» . وَبَيْنَ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ الدَّارِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَى الدَّارِ الشَّاسِعَةِ كَفَضْلِ الْغَازِي عَلَى الْقَاعِدِ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ؟ الْجَوَابُ: لَا تَخَالُفَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ; فَإِنَّ كُلَّ وَاقِعَةٍ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا، وَشَاهِدُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ وَرَدَتْ فِي تَفْضِيلِ مَيَامِينِ الصُّفُوفِ، فَلَمَّا رَغِبَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَطَّلُوا مَيْسَرَةَ الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَيْسَرَةَ الْمَسْجِدِ قَدْ تَعَطَّلَتْ، فَقَالَ: «مَنْ عَمَّرَ مَيْسَرَةَ الْمَسْجِدِ كُتِبَ لَهُ كِفْلَانِ مِنَ الْأَجْرِ» ، فَأَعْطَى أَهْلَ الْمَيْسَرَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ضِعْفَ مَا لِأَهْلِ الْمَيْمَنَةِ مِنَ الْأَجْرِ، وَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا خَصَّ بِذَلِكَ هَذِهِ الْحَالَةَ لَمَّا صَارَتْ مُعَطَّلَةً، وَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ أَصْلُ الْقَضِيَّةِ تَفْضِيلُ الدَّارِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَى الْبَعِيدَةِ مِنْهَا، فَلَمَّا ثَبَتَ لَهَا هَذَا الْفَضْلُ رَغِبَ كُلُّ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يُغَيِّرُوا ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ وَيَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَرَّى ظَاهِرُ الْمَدِينَةِ، فَأَعْطَاهُمْ هَذَا الْفَضْلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَنَزَلَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ: «يَا بَنِي سَلِمَةَ، دِيَارُكُمْ تَكْتُبُ آثَارَكُمْ» . مَسْأَلَةٌ: فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «الْعُطَاسُ وَالنُّعَاسُ وَالتَّثَاؤُبُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ» إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ ضَعِيفٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَوْلُهُ: وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هريرة: «إِنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ وَيُحِبُّ الْعُطَاسَ فِي الصَّلَاةِ» ، قَالَ الحافظ ابن حجر: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 مَوْقُوفٌ. وَفِي حَدِيثِ عبد الرزاق عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «سَبْعٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. فَذَكَرَ مِنْهَا شِدَّةَ الْعُطَاسِ» . مَا الْجَمْعُ بَيْنَ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: الْمَقَامُ مَقَامَانِ: مَقَامُ الْإِطْلَاقِ وَمَقَامٌ نِسْبِيٌّ، فَأَمَّا مَقَامُ الْإِطْلَاقِ فَإِنَّ التَّثَاؤُبَ وَالْعُطَاسَ فِي الصَّلَاةِ كِلَاهُمَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ، وَأَمَّا الْمَقَامُ النِّسْبِيُّ، فَإِذَا وَقَعَا فِي الصَّلَاةِ مَعَ كَوْنِهِمَا مِنَ الشَّيْطَانِ، فَالْعُطَاسُ فِي الصَّلَاةِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ التَّثَاؤُبِ فِيهَا، وَالتَّثَاؤُبُ فِيهَا أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِنَ الْعُطَاسِ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ أَثَرُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى تَفَاوُتِ رُتَبِ بَعْضِ الْمَكْرُوهِ عَلَى بَعْضٍ، هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ لَفْظِ (فِي الصَّلَاةِ) فِي الْأَثَرِ. [الْجَوَابُ الْحَزْمُ عَنْ حَدِيثِ التَّكْبِيرُ جَزْمٌ] مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: التَّكْبِيرُ جَزْمٌ، وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ تَأْيِيدًا لِمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَنْطِقْ بِالتَّكْبِيرِ إِلَّا مَجْزُومًا، هَلِ الْحَدِيثُ ثَابِتٌ أَمْ لَا؟ وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ أَوْ ضَعِيفٌ؟ وَمَنْ خَرَّجَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ؟ وَمَنْ رِجَالُهُ وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْكَلَامِ عَلَى سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ؟ وَمَا التَّحْقِيقُ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، هَلْ يُشْتَرَطُ الْجَزْمُ فِيهَا أَوْ لَا؟ وَهَلْ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا نَصٌّ أَمْ لَا؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا الْحَدِيثُ فَغَيْرُ ثَابِتٍ، قَالَ الْحَافِظُ أبو الفضل ابن حجر فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: حَدِيثُ: التَّكْبِيرُ جَزْمٌ، لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، حَكَاهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ. انْتَهَى. وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى إِسْنَادِهِ عَنِ النَّخَعِيِّ، قَالَ عبد الرزاق فِي مُصَنَّفِهِ: عَنْ يحيى بن العلاء عَنْ مغيرة قَالَ: قَالَ إبراهيم: التَّكْبِيرُ جَزْمٌ، يَقُولُ: لَا يُمَدُّ - هَكَذَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ مُفَسَّرًا - وَهَذَا التَّفْسِيرُ إِمَّا مِنَ الرَّاوِي عَنِ النَّخَعِيِّ أَوْ مِنْ يحيى أَوْ مِنْ عبد الرزاق، وَكُلٌّ مِنْهُمْ أَوْلَى بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْأَثَرِ، وَفَسَّرَهُ بِذَلِكَ أَيْضًا الْإِمَامُ الرافعي فِي الشَّرْحِ، وابن الأثير فِي النِّهَايَةِ، وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ، وَأَغْرَبَ المحب الطبري فَقَالَ: مَعْنَاهُ لَا يُمَدُّ وَلَا يُعْرَبُ، بَلْ يُسَكَّنُ آخِرُهُ. وَهَذَا الثَّانِي مَرْدُودٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا مُخَالَفَتُهُ لِتَفْسِيرِ الرَّاوِي، وَالرُّجُوعُ إِلَى تَفْسِيرِ الرَّاوِي أَوْلَى كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، الثَّانِي مُخَالَفَتُهُ لِمَا فَسَّرَهُ بِهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، الثَّالِثُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْجَزْمِ عَلَى حَذْفِ الْحَرَكَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْطِقْ بِالتَّكْبِيرِ إِلَّا مَجْزُومًا، فَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وَإِنْ كَانَ هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ فَصَاحَتَهُ الْعَظِيمَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَأَمَّا هَلْ يُشْتَرَطُ الْجَزْمُ؟ فَجَوَابُهُ: لَا، بَلْ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهِ بِالْحَرَكَةِ صَحَّ تَكْبِيرُهُ وَانْعَقَدَتْ صَلَاتُهُ ; لِأَنَّ قُصَارَى أَمْرِهِ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالْحَرَكَةِ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ، وَهُوَ دُونَ اللَّحْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ لَحَنَ بِأَنْ نَصَبَ الْجَلَالَةَ مَثَلًا، لَمْ يَضُرَّهُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، كَمَا لَوْ لَحَنَ فِي الْفَاتِحَةِ لَحْنًا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى ; فَإِنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا هَلْ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ؟ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ غَالِبُ الْأَصْحَابِ اكْتِفَاءً بِمَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي اللَّحْنِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَمَنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ كالمحب الطبري فَكَلَامُهُ فِي الِاسْتِحْبَابِ لَا فِي الِاشْتِرَاطِ، بِقَرِينَةِ ذِكْرِ ذَلِكَ مَعَ مَسْأَلَةِ الْمَدِّ، وَمَدُّ التَّكْبِيرِ لَا يُبْطِلُ بِلَا خِلَافٍ، وَحَذْفُهُ سُنَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، نَعَمْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى جَزْمِ التَّكْبِيرِ بِمَعْنَى حَذْفِهِ وَعَدَمِ مَدِّهِ وَتَمْطِيطِهِ. [الْمَصَابِيحُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَبَعْدُ، فَقَدْ سُئِلْتُ مَرَّاتٍ: هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّرَاوِيحَ وَهِيَ الْعِشْرُونَ رَكْعَةً الْمَعْهُودَةَ الْآنَ؟ وَأَنَا أُجِيبُ بِلَا، وَلَا يُقْنَعُ مِنِّي بِذَلِكَ، فَأَرَدْتُ تَحْرِيرَ الْقَوْلِ فِيهَا، فَأَقُولُ: الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْحِسَانُ وَالضَّعِيفَةُ الْأَمْرُ بِقِيَامِ رَمَضَانَ، وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِعَدَدٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَإِنَّمَا صَلَّى لَيَالِيَ صَلَاةً لَمْ يُذْكَرْ عَدَدُهَا ثُمَّ تَأَخَّرَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ ; خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ بِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ، لَا يَصْلُحُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَأَنَا أُورِدُهُ وَأُبَيِّنُ وَهَاءَهُ، ثُمَّ أُبَيِّنُ مَا ثَبَتَ بِخِلَافِهِ. رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، أَنَا إبراهيم بن عثمان، عَنِ الحكم بن مقسم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوَتْرَ» " أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ: ثَنَا أبو نعيم، ثَنَا أَبُو شيبة - يعني إبراهيم بن عثمان - بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ: ثَنَا منصور بن أبي مزاحم، ثَنَا أبو شيبة بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، أَيْ مِنْ طَرِيقِ أبي شيبة أَيْضًا , قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ جِدًّا لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، قَالَ الذهبي فِي الْمِيزَانِ: إبراهيم بن عثمان أبو شيبة الكوفي قاضي واسط يَرْوِي عَنْ زَوْجِ أُمِّهِ الحكم بن عيينة، كَذَّبَهُ شُعْبَةُ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: سَكَتُوا عَنْهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وَهِيَ مِنْ صِيَغِ التَّجْرِيحِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، قَالَ الذهبي: وَمِنْ مَنَاكِيرِهِ مَا رَوَاهُ عَنِ الحكم بن مقسم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوَتْرَ» ، قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ لَهُ عَنِ الحكم عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنَ الْحَكَمِ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ: «مَا هَلَكَتْ أُمَّةٌ إِلَّا فِي آدَارَ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي آدَارَ» . وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. انْتَهَى كَلَامُ الذهبي. وَقَالَ المزني فِي تَهْذِيبِهِ: أَبُو شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ لَهُ مَنَاكِيرُ، مِنْهَا حَدِيثُ «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوَتْرَ» ، قَالَ: وَقَدْ ضَعَّفَهُ أحمد وَابْنُ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وأبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ والأحوص بن المفضل الغلابي، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الجوزجاني: سَاقِطٌ، وَقَالَ أبو علي النيسابوري: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ صالح بن محمد البغدادي: ضَعِيفٌ، لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَقَالَ معاذ العنبري: كَتَبْتُ إِلَى شُعْبَةَ أَسْأَلُهُ عَنْهُ: أَرْوِي عَنْهُ؟ قَالَ: لَا تَرْوِ عَنْهُ ; فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَذْمُومٌ. انْتَهَى. وَمَنِ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَضْعِيفِهِ لَا يَحِلُّ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِهِ، مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ الْمُطَّلِعَيْنِ الْحَافِظَيْنِ الْمُسْتَوْعِبَيْنِ حَكَيَا فِيهِ مَا حَكَيَا وَلَمْ يَنْقُلَا عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ وَثَّقَهُ وَلَا بِأَدْنَى مَرَاتِبِ التَّعْدِيلِ، وَقَدْ قَالَ الذهبي، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ فِي نَقْدِ الرِّجَالِ: لَمْ يَتَّفِقِ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْفَنِّ عَلَى تَجْرِيحِ ثِقَةٍ وَلَا تَوْثِيقِ ضَعِيفٍ، وَمَنْ يُكَذِّبُهُ مِثْلُ شُعْبَةَ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى حَدِيثِهِ، مَعَ تَصْرِيحِ الْحَافِظَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ نَقْلًا عَنِ الْحُفَّاظِ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ فِي رَدِّهِ، وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ الْمَرْدُودِ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ «أَنَّ عائشة سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً» . الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عمر أَنَّهُ قَالَ فِي التَّرَاوِيحِ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ، فَسَمَّاهَا بِدْعَةً، يَعْنِي بِدْعَةً حَسَنَةً، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَصَرَّحَ بِهِ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام، حَيْثُ قَسَّمَ الْبِدْعَةَ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ وَقَالَ: وَمِثَالُ الْمَنْدُوبَةِ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ النووي فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: الْمُحْدَثَاتُ فِي الْأُمُورِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا أُحْدِثَ مِمَّا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلَالَةُ. وَالثَّانِي مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ، وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ، وَقَدْ قَالَ عمر فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، يَعْنِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ - هَذَا آخِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ الصَّحَابِيِّ قَالَ: كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَذَكَرَهُ ; فَإِنَّهُ أَوْلَى بِالْإِسْنَادِ وَأَقْوَى فِي الِاحْتِجَاجِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهَا، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ كَعَدَدِ الْوَتْرِ وَالرَّوَاتِبِ، فَرُوِيَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا أَرْبَعِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوَتْرِ، وَعَنْ مالك: التَّرَاوِيحُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوَتْرِ ; لِقَوْلِ نافع: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ يَقُومُونَ رَمَضَانَ بِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً، يُوتِرُونَ مِنْهَا بِثَلَاثٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا تُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً تَشْبِيهًا بِأَهْلِ مَكَّةَ، حَيْثُ كَانُوا يَطُوفُونَ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ طَوَافًا وَيُصَلُّونَ رَكْعَتَيْهِ وَلَا يَطُوفُونَ بَعْدَ الْخَامِسَةِ، فَأَرَادَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مُسَاوَاتَهُمْ فَجَعَلُوا مَكَانَ كُلِّ طَوَافٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ عَدَدُهَا بِالنَّصِّ لَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالصَّدْرُ الْأَوَّلُ كَانُوا أَوْرَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ طَالَعَ كُتُبَ الْمَذْهَبِ، خُصُوصًا شَرْحَ الْمُهَذَّبِ، وَرَأَى تَصَرُّفَهُ وَتَعْلِيلَهُ فِي مَسَائِلِهَا، كَقِرَاءَتِهَا وَوَقْتِهَا وَسَنِّ الْجَمَاعَةِ فِيهَا بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَإِجْمَاعِهِمْ، عَلِمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا خَبَرٌ مَرْفُوعٌ لَاحْتُجَّ بِهِ. هَذَا جَوَابِي فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابن حجر مَا نَصُّهُ: قَوْلُ الرافعي: «إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالنَّاسِ عِشْرِينَ رَكْعَةً لَيْلَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ اجْتَمَعَ النَّاسُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ مِنَ الْغَدِ: " خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَلَا تُطِيقُوهَا» " مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ حَدِيثِ عائشة، دُونَ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، زَادَ الْبُخَارِيُّ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَأَمَّا الْعَدَدُ فَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جابر «أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَوْتَرَ» . فَهَذَا مُبَايِنٌ لِمَا ذَكَرَهُ الرافعي قَالَ: نَعَمْ ذِكْرُ الْعِشْرِينَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوَتْرَ» ، زَادَ سليم الرازي فِي كِتَابِ التَّرْغِيبِ: وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِي الْمُوَطَّأِ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ عمر أَنَّهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً - الْحَدِيثَ. انْتَهَى. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِشْرِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 [رَكْعَةً] لَمْ تَثْبُتْ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا نَقَلَهُ عَنْ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ غَايَةٌ فِيمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَمَسُّكِنَا بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عائشة أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ ; فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صَلَّى التَّرَاوِيحَ ثَمَانِيًا ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا وَاظَبَ عَلَيْهِ، كَمَا وَاظَبَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَضَاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ مَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَلَوْ فَعَلَ الْعِشْرِينَ وَلَوْ مَرَّةً لَمْ يَتْرُكْهَا أَبَدًا، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَمْ يَخْفَ عَلَى عائشة حَيْثُ قَالَتْ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْأَوَائِلِ للعسكري: أَوَّلُ مَنْ سَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ عمر سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، الرِّجَالَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَالنِّسَاءَ عَلَى سليمان بن أبي حثمة. وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة نَحْوَهُ، وَزَادَ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ جَمَعَ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ: سليمان بن أبي حثمة. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي محمد بن يوسف: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: كُنَّا نَقُومُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً نَقْرَأُ فِيهَا بِالْمِئِينَ، وَنَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَنَنْقَلِبُ عِنْدَ بُزُوغِ الْفَجْرِ. فَهَذَا أَيْضًا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عائشة. وَكَانَ عمر لَمَّا أَمَرَ بِالتَّرَاوِيحِ اقْتَصَرَ أَوَّلًا عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي صَلَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ زَادَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ. وَقَالَ سعيد أَيْضًا: حَدَّثَنَا هشيم، ثَنَا زكريا بن أبي مريم الخزاعي: سَمِعْتُ أبا أمامة يُحَدِّثُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يَكْتُبْ عَلَيْكُمْ قِيَامَهُ، وَإِنَّمَا الْقِيَامُ شَيْءٌ ابْتَدَعْتُمُوهُ فَدُومُوا عَلَيْهِ وَلَا تَتْرُكُوهُ ; فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا، ثُمَّ تَلَا: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27] الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أحمد بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى الْقِيَامِ» . وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي التَّوَسُّطِ: وَأَمَّا مَنْ نَقَلَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى فِي اللَّيْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ خَرَجَ فِيهِمَا عِشْرِينَ رَكْعَةً، فَهُوَ مُنْكَرٌ، وَقَالَ الزركشي فِي الْخَادِمِ: دَعْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً لَمْ يَصِحَّ، بَلِ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ الصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْعَدَدِ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ جابر «أَنَّهُ صَلَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 بِهِمْ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَالْوَتْرَ، ثُمَّ انْتَظَرُوهُ فِي الْقَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ» . رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا. وَقَالَ السبكي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ كَمْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيَالِيَ، هَلْ هُوَ عِشْرُونَ أَوْ أَقَلُّ، قَالَ: وَمَذْهَبُنَا أَنَّ التَّرَاوِيحَ عِشْرُونَ رَكْعَةً ; لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نَقُومُ عَلَى عَهْدِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوَتْرِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَاسْتَدَلَّ بِهِ، وَرَأَيْتُ إِسْنَادَهُ فِي الْبَيْهَقِيِّ، لَكِنْ فِي الْمُوَطَّأِ وَفِي مُصَنَّفِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَقَالَ الجوري مِنْ أَصْحَابِنَا: عَنْ مالك أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَهُوَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهِيَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ لَهُ: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوَتْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ قَرِيبٌ، قَالَ: وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُحْدِثَ هَذَا الرُّكُوعُ الْكَثِيرُ؟ وَقَالَ الجوري: إِنَّ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَا حَدَّ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ نَافِلَةٌ، وَرَأَيْتُ فِي كِتَابِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ آثَارًا فِي صَلَاةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَسِتٍّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً، لَكِنَّهَا بَعْدَ زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى رِوَايَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ بِالْوَتْرِ، وَأَنَّ رِوَايَةَ مالك فِي إِحْدَى عَشْرَةَ وَهْمٌ، وَقَالَ: إِنَّ غَيْرَ مالك يُخَالِفُهُ وَيَقُولُ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، غَيْرَ مالك، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى مُصَنَّفِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ رَوَاهَا كَمَا رَوَاهَا مالك عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ محمد بن يوسف شَيْخِ مالك، فَقَدْ تَضَافَرَ مالك وعبد العزيز الدراوردي عَلَى رِوَايَتِهَا، إِلَّا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَسْهُلُ الْخِلَافُ فِيهِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ النَّوَافِلِ؛ مَنْ شَاءَ أَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ، وَلَعَلَّهُمْ فِي وَقْتٍ اخْتَارُوا تَطْوِيلَ الْقِيَامِ عَلَى عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فَجَعَلُوهَا إِحْدَى عَشْرَةَ، وَفِي وَقْتٍ اخْتَارُوا عَدَدَ الرَّكَعَاتِ فَجَعَلُوهَا عِشْرِينَ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا. انْتَهَى كَلَامُ السبكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 [كِتَابُ الصِّيَامِ] مَسْأَلَةٌ: الَّذِي يُقَالُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنَّ الْأَيَّامَ الْبِيضَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا هَبَطَ مِنَ الْجَنَّةِ اسْوَدَّ جِلْدُهُ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِصِيَامِهَا، فَلَمَّا صَامَ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ ابْيَضَّ ثُلُثُ جِلْدِهِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي الثُّلُثُ الثَّانِي، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ بَقِيَّتُهُ، هَلْ لَهُ أَصْلٌ؟ الْجَوَابُ: هَذَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي أَمَالِيهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ وَمَوْقُوفًا مِنْ آخَرَ، وَأَخْرَجَهُ ابن الجوزي فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَرْفُوعِ، وَقَالَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ وَفِي إِسْنَادِهِ جَمَاعَةٌ مَجْهُولُونَ لَا يُعْرَفُونَ. مَسْأَلَةٌ: فِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيِّ: " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَهُ» " مَا مَعْنَاهُ؟ الْجَوَابُ: كَانَ خَطَرَ لِي احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ مَعْنَاهُ: فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ الصَّوْمَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» " فَالضَّمِيرُ فِي "عَمِلَهُ" رَاجِعٌ إِلَى الصَّوْمِ الْمَفْهُومِ مِنْ صَائِمٍ. الثَّانِي أَنْ يَكُونَ هَذَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا شُرِعَ هَذَا الْحُكْمُ، فَأَخْبَرَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ بِحَضْرَتِهِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ هَذِهِ الْحَسَنَةَ مِنْهُمْ فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» " ثُمَّ رَاجَعْتُ طُرُقَ الْحَدِيثِ فَوَجَدْتُهَا تُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ ; فَإِنَّ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عبد الحق بن أبي سليمان، عَنْ عطاء، عَنْ زيد بن خالد الجهني قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا، وَمَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا» " وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عطاء، عَنْ زيد بن خالد مَرْفُوعًا: " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، وَمَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا» ". وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عطاء عَنْ زيد بن خالد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 مَرْفُوعًا: " «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ، أَوْ فَطَّرَ صَائِمًا، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا» ". وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عطاء، عَنْ زيد بن خالد مَرْفُوعًا: " «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا أَوْ جَهَّزَ غَازِيًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» " دَلَّتْ هَذِهِ الطُّرُقُ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْحَدِيثِ: فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ الصَّوْمَ، لَا مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ تَفْطِيرَ الصَّائِمِ، وَإِنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَغْيِيرِ الرُّوَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "مَنْ" فِيهِ بِمَعْنَى " مَا"، وَالْأَصْلُ: كَانَ لَهُ أَجْرُ مَا عَمِلَهُ وَهُوَ الصَّوْمُ، فَالضَّمِيرُ فِي "عَمِلَهُ" رَاجِعٌ إِلَى "مَنْ" بِمَعْنَى "مَا" مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى التَّأْوِيلِ السَّابِقِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ: كَانَ لَهُ أَجْرٌ، بِالتَّنْوِينِ، وَ: مِنْ عَمَلِهِ، بِالْجَرِّ. قُلْتُ: لَا، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ "مِنْ" إِنْ قُدِّرَتْ تَبْعِيضِيَّةً وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الصَّائِمِ كَانَ مُنَافِيًا لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ ; فَإِنَّهَا تَقْتَضِي الْمِثْلِيَّةَ، وَتِلْكَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ تَقْتَضِي الْبَعْضِيَّةَ، وَإِنْ قُدِّرَتْ تَبْعِيضِيَّةً وَالضَّمِيرُ لِلتَّفْطِيرِ، فَفَاسِدٌ كَمَا لَا يَخْفَى. الثَّانِي أَنَّهَا إِنْ قُدِّرَتْ سَبَبِيَّةً وَالضَّمِيرُ لِلصَّائِمِ، فَفَاسِدٌ كَمَا لَا يَخْفَى ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْجَرُ بِسَبَبِ عَمَلِ غَيْرِهِ، إِنَّمَا يُؤْجَرُ بِسَبَبِ عَمَلِ نَفْسِهِ، أَوْ لِلْمُفْطِرِ، لَمْ يَصِحَّ اعْتِلَاقُ مَا بَعْدَهُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا. مَسْأَلَةٌ: فِي حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ نَهْرًا يُقَالُ لَهُ: رَجَبٌ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ رَجَبٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ» ". وَحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَامَ مِنْ شَهْرٍ حَرَامٍ الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ، كُتِبَ لَهُ عِبَادَةُ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ» "، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ صَامَ مِنْ رَجَبٍ يَوْمًا كَانَ كَصِيَامِ شَهْرٍ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ غُلِّقَتْ عَنْهُ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ السَّبْعَةُ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتٍ» " هَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَالْغَرِيبِ. الْجَوَابُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِمَوْضُوعَةٍ، بَلْ هِيَ مِنْ قِسْمِ الضَّعِيفِ الَّذِي تَجُوزُ رِوَايَتُهُ فِي الْفَضَائِلِ، أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، والأصبهاني وابن شاهين، كِلَاهُمَا فِي التَّرْغِيبِ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ الحافظ ابن حجر: وَلَيْسَ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُنْظَرُ فِي حَالِهِ سِوَى منصور بن زائدة الأسدي، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ لَكِنْ لَمْ أَرَ فِيهِ تَعْدِيلًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ الذهبي فِي الْمِيزَانِ وَضَعَّفَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الْحَدِيثُ الثَّانِي فَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وأبو نعيم وَغَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقٍ بَعْضُهَا بِلَفْظِ: عِبَادَةِ سَنَتَيْنِ، قَالَ الحافظ ابن حجر: وَهُوَ أَشْبَهُ، وَمَخْرَجُهُ أَحْسَنُ، وَإِسْنَادُ الْحَدِيثِ أَمْثَلُ مِنَ الضَّعِيفِ قَرِيبٌ مِنَ الْحَسَنِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّالِثُ فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ طُرُقُ وَشَوَاهِدُ ضَعِيفَةٌ لَا تَثْبُتُ، إِلَّا أَنَّهُ يَرْتَقِي عَنْ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا. وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَالْغَرِيبِ فَإِنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، فَقَدْ يَكُونُ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا غَرِيبًا مَعًا، وَقَدْ يَكُونُ غَرِيبًا لَا ضَعِيفًا ; لِصِحَّةٍ سَنَدِهِ أَوْ حُسْنِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا لَا غَرِيبًا لِتَعَدُّدِ إِسْنَادِهِ وَفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْقَبُولِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 [كِتَابُ الْحَجِّ] مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا، إِلَّا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا» " مَا مَعْنَاهُ؟ . الْجَوَابُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا ; أَيْ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الْمُعْتَادِ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ ; لِأَنَّهُ صَلَّاهَا بِغَلَسٍ جِدًّا وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَانَتْ عَادَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ عَنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَلِيلًا، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَصَلَّاهُمَا مَجْمُوعَتَيْنِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ بِأَنْ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ وَصَلَّاهُمَا جَمِيعًا بِمُزْدَلِفَةَ. وَجَمْعٌ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ مُزْدَلِفَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ قَالَ: إِنَّ حَدِيثَ: «الْبَاذِنْجَانُ لِمَا أُكِلَ لَهُ» ، أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ: " «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» " هَلْ هُوَ مُصِيبٌ أَوْ مُخْطِئٌ. الْجَوَابُ: هُوَ مُخْطِئٌ أَشَدَّ الْخَطَأِ ; فَإِنَّ حَدِيثَ الْبَاذِنْجَانِ كَذِبٌ بَاطِلٌ مَوْضُوعٌ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابن الجوزي فِي الْمَوْضُوعَاتِ، والذهبي فِي الْمِيزَانِ، وَغَيْرُهُمَا، وَحَدِيثُ زَمْزَمَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، قِيلَ: صَحِيحٌ، وَقِيلَ: حَسَنٌ، وَقِيلَ: ضَعِيفٌ، فَأَدْنَى دَرَجَاتِهِ الضَّعْفُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّهُ فِي حَدِّ الْوَضْعِ، قَالَ الشَّيْخُ بدر الدين الزركشي فِي كِتَابِهِ التَّذْكِرَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ: حَدِيثُ: الْبَاذِنْجَانُ لِمَا أُكِلَ لَهُ، بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَقَدْ لَهِجَ بِهِ الْعَوَامُّ حَتَّى سَمِعْتُ قَائِلًا مِنْهُمْ يَقُولُ: هُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ: مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ، قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ قَبِيحٌ، قَالَ: وَحَدِيثُ: " «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» " أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ جابر بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَرَوَاهُ الخطيب فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ بِإِسْنَادٍ قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ شرف الدين الدمياطي: إِنَّهُ عَلَى رَسْمِ الصَّحِيحِ. انْتَهَى. وَقَدْ أَلَّفَ الحافظ ابن حجر جُزْءًا فِي حَدِيثِ: مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ فِي تَخْرِيجِ الْأَذْكَارِ فَاسْتَوْعَبَ، وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ وَصَحَّحَهُ آخَرُونَ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ المنذري فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 التَّرْغِيبِ، وَالْحَافِظُ الدمياطي، قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ حَسَنٌ لِشَوَاهِدِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ مِنْ حَدِيثِ جابر وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ: وَحَدِيثُ جابر مُخَرَّجٌ فِي مُسْنَدِ أحمد وَمُسْنَدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُصَنَّفِهِ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَسُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَشُعَبِ الْإِيمَانِ لَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَمُسْتَدْرَكِ الحاكم، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا، لَكِنَّ سَنَدَهُ مَقْلُوبٌ، وَوَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا عَنْ معاوية مَوْقُوفًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ لَا عِلَّةَ لَهُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخَرُ مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ تَرَكْتُهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ. وَلَمَّا نَظَرَ المنذري والدمياطي إِلَى كَثْرَةِ شَوَاهِدِهِ مَعَ جَوْدَةِ طَرِيقِ أبي الزبير عَنْ جابر حَكَمَا لَهُ بِالصِّحَّةِ. مَسْأَلَةٌ: مَاذَا جَوَابُ إِمَامٍ فَاقَ أَعْصُرَهُ ... وَخَطُّهُ فَاقَ فِي الْإِفْتَاءِ مَنْ سَبَقَا فِيمَنْ رَوَى أَنَّ بَاذِنْجَانَهُمْ وَرَدَتْ ... فِيهِ الرِّوَايَةُ مِنْ قَوْلِ الَّذِي صَدَقَا مُحَمَّدٍ خَيْرِ خَلْقِ اللَّهِ قَاطِبَةً ... صَلَّى عَلَيْهِ إِلَهُ الْعَرْشِ مَنْ خَلَقَا إِنَّ الشِّفَاءَ بِهِ قَصْدًا لِآكِلِهِ ... كَمَاءِ زَمْزَمَ دَامَ الْغَيْثُ مُنْدَفِقَا مِنْ فَضْلِكُمْ هَلْ لِهَذَا صِحَّةٌ فَلَكَمْ ... أَعْرَبْتُمُ عَنْ أُمُورٍ جَلَّ مَنْ خَلَقَا أَوْضِحْ لَنَا أَمْرَهُ دَامَ السُّرُورُ بِكُمْ ... يَا أَفْصَحَ النَّاسِ إِنْ أَفْتَى وَإِنْ نَطَقَا لَازِلْتُمُ عُدَّةً لِلسَّائِلِينَ لَكُمْ ... وَبَابُ جُودِكُمُ لِلنَّاسِ لَا غُلِقَا الْجَوَابُ. اللَّهَ أَشْكُرُ مِنْ نَعْمَائِهِ غَدَقَا ... وَأُتْبِعُ الشُّكْرَ بِالتَّحْمِيدِ مُلْتَحِقَا ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْهَادِي النَّبِيِّ وَمَنْ ... أَسْرَى بِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ ثُمَّ رَقَى أَبْطِلْ أَحَادِيثَ بَاذِنْجَانِهِمْ فَلَقَدْ ... نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ الْمَوْضُوعُ مُخْتَلَقَا وَمَاءُ زَمْزَمَ صَحِّحْ مَا رَوَوْهُ بِهِ ... وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَمَّ الْقَوْلُ مُتَّسِقَا مَسْأَلَةٌ: يَا غُرَّةً فِي جَبْهَةِ الدَّهْرِ أَفْتِنَا ... لَا زِلْتَ تُفْتِي كُلَّ مَنْ جَا يَسْأَلُ فِي زَمْزَمَ أَوْ مَاءِ كَوْثَرَ حَشْرُنَا ... مَنْ مِنْهُمَا يَا ذَا الْمَعَالِي أَفْضَلُ؟ جُوزِيتَ بِالْإِحْسَانِ عَنَّا كُلِّنَا ... وَبِجَنَّةِ الْمَأْوَى جَزَاؤُكَ أَكْمَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الْجَوَابُ: لِلَّهِ حَمْدًا وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِي ... مُحَمَّدٍ مَنْ لِلْبَرِيَّةِ يَفْضُلُ مَا جَاءَنَا خَبَرٌ بِذَلِكَ ثَابِتٌ ... فَالْوَقْفُ عَنْ خَوْضٍ بِذَلِكَ أَجْمَلُ هَذَا جَوَابُ ابن السيوطي رَاجِيًا ... مِنْ رَبِّهِ التَّثْبِيتَ لِمَا يُسْأَلُ مَسْأَلَةٌ: قَالَ الجندي فِي فَضَائِلِ مَكَّةَ: ثَنَا عبد الرحمن بن محمد، ثَنَا عبد الرزاق، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَشَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ» ". الْجَوَابُ: أبو معشر المدني هو نجيح السندي، رَوَى لَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ. مَسْأَلَةٌ: يَا عَالِمَ الْعَصْرِ لَا زَالَتْ أَنَامِلُكُمْ ... تَهْمِي وَعِلْمُكُمُ فِي الْأَرْضِ يَنْتَشِرُ هَلِ النَّبِيُّونَ حَجُّوا الْبَيْتَ كُلُّهُمُ ... أَوْ لَمْ يَحُجَّ بِهِ بَعْضٌ كَمَا ذَكَرُوا؟ عَنْ صَالِحٍ مَعَ هُودٍ أَنَّ حَجَّهُمَا ... لِلْبَيْتِ أُنْكِرَ يَا مَوْلًى لَهُ نَظَرُ وَآدَمُ حِينَ حَجَّ الْبَيْتَ هَلْ أَحَدٌ ... لِرَأْسِهِ حَالِقٌ إِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرُوا هَلْ بِالْحَدِيدِ وَهَلْ جِبْرِيلُ فَاعِلُهُ ... أَوْ جَوْهَرٍ أَوْ بِغَيْرٍ هَلْ لِذَا أَثَرُ؟ اكْشِفْ لَنَا وَأَبِنْ لَا زِلْتَ تُرْشِدُنَا ... طُرُقَ الصَّوَابِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْعُمُرُ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... مَا دَامَ لِلْبَيْتِ حُجَّاجٌ وَمُعْتَمِرُ الْجَوَابُ: نَعَمْ، وَرَدَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ هُودٍ وَصَالِحٍ تَشَاغَلَا بِأَمْرِ قَوْمِهِمَا حَتَّى قَبَضَهُمَا اللَّهُ وَلَمْ يَحُجَّا، أَخْرَجَهُ ابن إسحاق فِي الْمُبْتَدَأِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، وَقِصَّتُهُ أَنَّ جِبْرِيلَ حَلَقَ رَأْسَ آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حِينَ حَجَّ بِيَاقُوتَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، رُوِّينَاهَا فِي تَارِيخِ الخطيب مِنْ طَرِيقِ جعفر بن محمد عَنْ آبَائِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 [كِتَابُ النِّكَاحِ] مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» " هَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ وَهَلْ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هُوَ صَحِيحٌ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِمَذْهَبِنَا ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ حَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى مَا إِذَا صَرَّحَ فِي الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِ أَنَّهُ إِذَا وَطِئَ طَلَّقَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْحَمْلِ الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ كِبَارِ الْمَالِكِيَّةِ، قَالَ: الْأَظْهَرُ بِمَعَانِي الْحَدِيثِ حَمْلُهُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ، لَا عَلَى نِيَّتِهِ ; لِأَنَّ امْرَأَةَ رفاعة صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا تُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ الْحَدِيثُ إِقْرَارَهَا عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ، فَإِذَا لَمْ تَقْدَحْ فِيهِ نِيَّتُهَا فَكَذَلِكَ نِيَّةُ الزَّوْجِ، وَنِيَّةُ الْمُطَلِّقِ أَوْلَى أَنْ لَا تُقْدَحَ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْحَدِيثِ مَعْنًى إِلَّا الْحَمْلُ عَلَى الْإِظْهَارِ، فَيَكُونُ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ بَرِيرَةَ فِي مُفَارَقَتِهَا زَوْجَهَا مَعَ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَهَا فِي إِبْقَائِهِ، لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْبِرُ مَنْ شَاءَ عَلَى نِكَاحِ مَنْ شَاءَ مِنَ الرِّجَالِ ; لِأَنَّ ذَاكَ حَيْثُ كَانَ مِنْهُ إِلْزَامٌ، وَحَدِيثُ بَرِيرَةَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلْزَامٌ لَهَا، وَلِهَذَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَأْمُرُنِي أَمْ تَشْفَعُ؟ فَاسْتَفْهَمَتْهُ هَلْ هُوَ مُلْزِمٌ لَهَا أَمْ مُخَيِّرٌ. فَأَجَابَهَا بِقَوْلِهِ: " «لَا بَلْ أَشْفَعُ» " الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ مُخَيِّرٌ لَا مُلْزِمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» " لِمَ بَدَأَ بِالنِّسَاءِ وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ؟ . الْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ بَيَانَ مَا أَصَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، بَدَأَ بِهِ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " «مَا أَصَبْنَا مِنْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ إِلَّا النِّسَاءَ» " وَلَمَّا كَانَ الَّذِي حُبِّبَ إِلَيْهِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا هُوَ أَفْضَلَهَا وَهُوَ النِّسَاءُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» " نَاسَبَ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ بَيَانَ أَفْضَلِ الْأُمُورِ [الدِّينِيَّةِ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وَذَلِكَ الصَّلَاةُ ; فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ عَلَى أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ مِنْ جَمْعِهِ بَيْنَ أَفْضَلِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَفْضَلِ أُمُورِ الدِّينِ، وَفِي ذَلِكَ ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى نَظِيرِهِ، وَعَبَّرَ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِعِبَارَةٍ أَبْلَغَ مِمَّا عَبَّرَ بِهِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، حَيْثُ اقْتَصَرَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا عَلَى مُجَرَّدِ التَّحَبُّبِ، وَقَالَ فِي أَمْرِ الدِّينِ: جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي ; فَإِنَّ فِي قُرَّةِ الْعَيْنِ مِنَ التَّعْظِيمِ فِي الْمَحَبَّةِ مَا لَا يَخْفَى. مَسْأَلَةٌ: فِي قِصَّةِ السَّيِّدِ سُلَيْمَانَ، هَلْ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، أَوْ قَالَ: عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً؟ الْجَوَابُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رِوَايَاتٌ، إِحْدَاهَا: عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، الثَّانِيَةُ: عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ تَعْلِيقًا، فَقَالَ: قَالَ شعيب وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: تِسْعِينَ، وَهُوَ أَصَحُّ. هَذِهِ عِبَارَتُهُ، الثَّالِثَةُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ فِي النِّكَاحِ، الرَّابِعَةُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، هَكَذَا عَلَى الشَّكِّ، رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ، الْخَامِسَةُ: عَلَى سِتِّينَ امْرَأَةً، أَشَارَ إِلَيْهَا الحافظ ابن حجر فَقَالَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مَا نَصُّهُ: مُحَصَّلُ الرِّوَايَاتِ: سِتُّونَ وَسَبْعُونَ وَتِسْعُونَ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَمِائَةٌ، قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا أَنَّ السِّتِّينَ كُنَّ حَرَائِرَ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ سَرَارِيَّ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَأَمَّا السَّبْعُونَ فَلِلْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا التِّسْعُونَ وَالْمِائَةُ فَكُنَّ دُونَ الْمِائَةِ وَفَوْقَ التِّسْعِينَ، فَمَنْ قَالَ: تِسْعُونَ أَلْغَى الْكَسْرَ، وَمَنْ قَالَ: مِائَةٌ، جَبَرَهُ، وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْجِهَادِ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى رِوَايَةٍ سَادِسَةٍ - وَهِيَ أَلْفُ امْرَأَةٍ - أَخْرَجَ الْحَافِظُ أبو القاسم ابن عساكر مِنْ طَرِيقِ الخدري عَنْ مقاتل، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عبد الرحمن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَ لَهُ أَرْبَعُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسِتُّمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، فَقَالَ يَوْمًا: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى أَلْفِ امْرَأَةٍ، فَتَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمِلْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ إِنْسَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوِ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَوُلِدَ لَهُ مَا قَالَ فُرْسَانٌ، وَلَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 [كِتَابُ الْجِنَايَاتِ] مَسْأَلَةٌ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» ، هَلْ وَرَدَ وَهَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ أَخْرَجَهُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ لَمْ يَتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ نَهْرِ الْخَبَالِ» " لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ أحمد وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَصَرًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا بِلَفْظِ: كَانَ نَجِسًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، بَدَلَ: لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ، وَبَدَلَ: فَإِنْ تَابَ: فَإِنْ عَادَ، وَعَنْ أبي ذر أَخْرَجَهُ أحمد وَالْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ، وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ أَخْرَجَهُ أبو يعلى وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ نَحْوَهُ أَيْضًا، وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مُخْتَصَرًا: " «مَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» " وَعَنْ أسماء بنت يزيد أَخْرَجَهُ أحمد وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ: " «لَمْ يَرْضَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ". مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَدِيثِ أَتَى ابْنُ مَسْعُودٍ بِرَجُلٍ نَشْوَانَ فَقَالَ: تَرْتِرُوهُ وَمَزْمِزُوهُ، ثُمَّ دَعَا بِسَوْطٍ فَقُطِعَتْ ثَمَرَتُهُ ثُمَّ دُقَّ رَأْسُهُ، مَا مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ فِي النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ: تَرْتِرُوهُ وَمَزْمِزُوهُ ; أَيْ حَرِّكُوهُ لِيُسْتَنْكَهَ هَلْ يُوجَدُ مِنْهُ رِيحُ الْخَمْرِ أَمْ لَا، وَيُرْوَى: تَلْتِلُوهُ، وَمَعْنَى الْكُلِّ التَّحْرِيكُ. وَقَالَ فِي حَرْفِ الْمِيمِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 مَزْمِزُوهُ هُوَ أَنْ يُحَرَّكَ تَحْرِيكًا عَنِيفًا لَعَلَّهُ يُفِيقُ مِنْ سُكْرِهِ وَيَصْحُو، قَالَ: وَثَمَرَةُ السَّوْطِ: طَرَفُهُ الَّذِي يَكُونُ فِي أَسْفَلِهِ، وَإِنَّمَا دَقَّهَا لِتَلِينَ؛ تَخْفِيفًا عَلَى الَّذِي يُضْرَبُ. مَسْأَلَةٌ: عَنْ أيمن بن خريم قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَقَالَ: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ إِشْرَاكًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " ثَلَاثًا، ثُمَّ قَرَأَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] » مَنْ رَوَاهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمَا حَالُهُ؟ . الْجَوَابُ: رَوَاهُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ هَكَذَا، وأيمن مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، فَذَكَرَهُ ابن منده وَغَيْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ العجلي: تَابِعٌ صَالِحٌ ثِقَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ خريم بن فاتك وَهُوَ وَالِدُ أيمن، هَكَذَا أَخْرَجَهُ أحمد وأبو داود وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: إِنَّهُ الصَّوَابُ ; أَيْ إِنَّهُ مِنْ حَدِيثِ خريم، لَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِهِ أيمن، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " «تَعْدِلُ شَهَادَةُ الزُّورِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ» " أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 [كِتَابُ الْأَدَبِ وَالرَّقَائِقِ] [ مسائل متفرقة ] مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ» " هَلِ الْمُرَادُ بِالْكُرَاعِ مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ بِالْمَدِينَةِ؟ الْجَوَابُ: الْأَرْجَحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُرَاعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كُرَاعُ الدَّابَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَكَانٌ بِالْحَرَّةِ، وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ بِلَفْظِ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ، وَرَدَّهُ النُّقَّادُ وَقَالُوا: إِنَّهُ تَحْرِيفٌ. مَسْأَلَةٌ: هَلِ الْأَفْضَلُ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا الْأَفْضَلُ الذِّكْرُ أَوِ الْحَمْدُ؟ الْجَوَابُ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» " دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ أَفْضَلُ نَوْعِهِ، وَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْحَمْدِ ; فَإِنَّ نَوْعَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ نَوْعِ الدُّعَاءِ، وَدَلِيلٌ آخَرُ رَوَى ابن شاهين فِي السُّنَّةِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «التَّوْحِيدُ ثَمَنُ الْجَنَّةِ، وَالْحَمْدُ ثَمَنُ كُلِّ نِعْمَةٍ» "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ; لِأَنَّ الْجَنَّةَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَثَمَنُهَا أَفْضَلُ. مَسْأَلَةٌ: مِنَ التَّكْرُورِ - مَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ بِالْمِلْحِ وَالرَّمَادِ» ؟ وَمَا الْعَهْدُ وَالْوَعْدُ فِي حَدِيثِ سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ؟ وَمَا مَعْنَى: مَنْ قَالَهَا مُوقِنًا؟ الْجَوَابُ: مَعْنَى أَثَرِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَأْتَدِمُ بِالْمِلْحِ وَيَخْلِطُهُ بِالرَّمَادِ، مُبَالَغَةً فِي التَّضَرُّعِ وَالتَّوَاضُعِ. وَالْعَهْدُ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي عَالَمِ الذَّرِّ يَوْمَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، وَالْوَعْدُ مَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» " وَمَعْنَى مَنْ قَالَهَا مُوقِنًا: مُخْلِصًا مُصَدِّقًا بِثَوَابِهَا. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ» ، هَلْ وَرَدَ؟ وَمَنْ خَرَّجَهُ؟ وَهَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 يَا رَبِّ، مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ» " رَوَاهُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وأبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: كُلَّ شَيْءٍ كَائِنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ مُؤَمَّلَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا بِلَفْظِ: " لَمَّا «خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ» " وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ بِلَفْظِ: " «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْرِيَ بِإِذْنِهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ، بِمَا أَجْرِي؟ قَالَ: بِمَا أَنَا خَالِقٌ وَكَائِنٌ فِي خَلْقِي مِنْ قَطْرٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ نَفْسٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَجَلٍ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» " وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، فَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ، فَجَرَى بِمَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ» " وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا بِلَفْظِ: " «إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ فَأَمَرَهُ بِكَتْبِ كُلِّ شَيْءٍ» " وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ أبي عبد الله مولى بني أمية عَنْ أبي صالح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ، وَهِيَ الدَّوَاةُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ مَا يَكُونُ، أَوْ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ عَمَلٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ أَجَلٍ، فَكَتَبَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» " وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] قَالَ: لَوْحٌ مِنْ نُورٍ وَقَلَمٌ مِنْ نُورٍ يَجْرِي بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " «لَآيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ» " مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ؟ الْجَوَابُ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ " «أَحِبُّوا الْبَنِينَ فَإِنَّ الْبَنَاتِ يُحْبِبْنَ أَنْفُسَهُنَّ» " هَلْ وَرَدَ؟ الْجَوَابُ: هَذَا لَا يُعْرَفُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ شَكَا الضَّعْفَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَكْلِ الْبَيْضِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «: كَمَا تَكُونُونَ يُوَلَّى عَلَيْكُمْ» ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الْجَوَابُ: نَعَمْ، رَوَاهُ ابن جميع فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ الحسن عَنْ أبي بكرة، وَذَكَرَ ابن الأنباري فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّ الرِّوَايَةَ: كَمَا تَكُونُوا، بِحَذْفِ النُّونِ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: «الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» ، هَلْ وَرَدَ؟ وَهَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ وَمَنْ أَخْرَجَهُ؟ الْجَوَابُ: وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَدِيثُ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وأبو يعلى وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ يوسف بن عطية عَنْ ثابت عَنْهُ، ويوسف مَتْرُوكٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكبير والأصبهاني فِي تَرْغِيبِهِ مِنْ طَرِيقِ الحكم عَنْ إبراهيم عَنْ علقمة عَنْهُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقِ أبي الهيثم السليل بن موسى بن سليل، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ بسر بن نافع، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أبي سلمة عَنْهُ، بِلَفْظِ: " «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ وَتَحْتَ كَنَفِهِ، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى عِيَالِهِ، وَأَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مَنْ ضَيَّقَ عَلَى عِيَالِهِ» ". مَسْأَلَةٌ: " حَدِيثُ: «لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ» " هَلْ وَرَدَ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَحَسَّنَهُ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ أَنَّ سَعْفَصَ نَهْرٌ فِي السَّمَاءِ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ الْجَنَّةِ؟ . الْجَوَابُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالطَّبَقَةَ الْأُولَى مِنْ أَوْلَادِهِ كَانُوا سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَالثَّانِيَةَ أَرْبَعِينَ، وَالثَّالِثَةَ عِشْرِينَ، وَالرَّابِعَةَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ؟ . الْجَوَابُ: هَذَا الْعَدَدُ الْمَخْصُوصُ فِي الطَّبَقَاتِ لَمْ يَرِدْ، وَإِنَّمَا وَرَدَ أَنَّ طُولَ آدَمَ كَانَ سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَأَنَّ مَنْ بَعْدَهُ تَنَاقَصَ وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَتَنَاقَصُونَ. مَسْأَلَةٌ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قُرَيْشًا؛ فَإِنَّ عِلْمَ الْعَالِمِ مِنْهُمْ يَسَعُ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ» ، مَنْ رَوَاهُ؟ الْجَوَابُ: رَوَاهُ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ " «أَنَا جَدُّ كُلِّ تَقِيٍّ» " هَلْ وَرَدَ؟ الْجَوَابُ: لَا أَعْرِفُهُ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: «مَنْ جَلَسَ فَوْقَ عَالِمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكَأَنَّمَا جَلَسَ عَلَى الْمُصْحَفِ» ، هَلْ لَهُ أَصْلٌ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الْجَوَابُ: لَا أَصْلَ لَهُ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: «مَنْ بَشَّ فِي وَجْهِ ذِمِّيٍّ فَكَأَنَّمَا لَكَزَنِي فِي جَنْبِي» ، هَلْ لَهُ أَصْلٌ؟ . الْجَوَابُ: لَا أَصْلَ لَهُ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ اطَّلَعَ عَلَى النَّارِ فَرَأَى فِيهَا رَجُلًا عَلَيْهِ حُلَلٌ خُضْرٌ وَيُرَوَّحُ عَلَيْهِ بِمَرَاوِحَ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا حاتم الطائي؟ وَهَلْ وَرَدَ أَنَّ شَجَرَةً كَانَتْ فِي بُسْتَانٍ فَقُطِعَتْ نِصْفَيْنِ، فَجُعِلَ مِنْهَا نِصْفٌ فِي الْقِبْلَةِ وَالْآخَرُ فِي مِرْحَاضٍ، فَشَكَا إِلَى رَبِّهِ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَجْعَلَنَّكَ فِي مَجْلِسِ قَاضٍ لَا يَعْرِفُ الشَّرْعَ. الْجَوَابُ: هَذَانِ بَاطِلَانِ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْشِ هُوَ الَّذِي يَخْفَى؟ قَالَ: شَيْءٌ لَا يَكُونُ» ، وَحَدِيثُ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» ، هَلْ هُمَا صَحِيحَانِ؟ الْجَوَابُ: الْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ» ، كَيْفَ لَفْظُهُ وَمَنْ رَوَاهُ؟ الْجَوَابُ: رَوَاهُ أبو داود وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ» " وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أبي ذر بِلَفْظِ: " «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يَضَعَهُ مَتَى وَضَعَهُ» ". مَسْأَلَةٌ: رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ والمسعودي فِي تَارِيخِهِ وَغَيْرُهُمَا: " «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ رَمَى بِالْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالزِّرَاعَةِ حِينَ أُهْبِطُ مِنَ الْجَنَّةِ وَزَرَعَ، أَرْسَلَ اللَّهُ طَائِرَيْنِ عَلَيْهِ يَأْكُلَانِ مَا زَرَعَ وَيُخْرِجَانِ مَا بَذَرَ، فَشَكَا إِلَى اللَّهِ ذَلِكَ، فَهَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ وَبِيَدِهِ قَوْسٌ وَوَتَرٌ وَسَهْمَانِ، فَقَالَ آدَمُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَأَعْطَاهُ الْقَوْسَ وَقَالَ: هَذَا قُوَّةُ اللَّهِ، وَأَعْطَاهُ الْوَتَرَ وَقَالَ: هَذِهِ شِدَّةُ اللَّهِ، وَأَعْطَاهُ السَّهْمَيْنِ وَقَالَ: هَذِهِ نِكَايَةُ اللَّهِ، وَعَلَّمَهُ الرَّمْيَ بِهِمَا، فَرَمَى الطَّائِرَيْنِ فَقَتَلَهُمَا وَجَعَلَهَا عُدَّةً فِي غُرْبَتِهِ وَأُنْسًا عِنْدَ وَحْشَتِهِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ ثُمَّ إِلَى وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خُذْهَا ونش أب، وَمِنْهُ اشْتُقَّ اسْمُ النُّشَّابِ. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَلْ هِيَ الْقَوْسُ الَّتِي هَبَطَتْ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ غَيْرُهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا هِيَ، وَإِنَّ آدَمَ خَبَّأَهَا كَمَا خَبَّأَ عَصَا مُوسَى، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا غَيْرُهَا، وَإِنَّ اللَّهَ أَهْبَطَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ قَوْسًا مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَ وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ أَرَمَى أَهْلِ زَمَانِهِ، وَعَنْهُ أُخِذَ الرَّمْيُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، وَالَّذِي ذُكِرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَنَعَهَا هِيَ قَوْسُ النَّبْعِ، وَصَحَّ أَنَّ تَرْكَ الرَّمْيِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ مَعْصِيَةٌ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى بِالْقَوْسِ وَرَكِبَ الْخَيْلَ مُسْرَجَةً وَمُعَرَّاةً، وَتَقَلَّدَ بِالسَّيْفِ وَطَعَنَ بِالرُّمْحِ، وَكَانَ عِنْدَهُ ثَلَاثُ قِسِيٍّ: قَوْسٌ تُدْعَى الرَّوْحَاءَ، وَقَوْسٌ تُسَمَّى الْبَيْضَاءَ، وَقَوْسٌ تُسَمَّى الصَّفْرَاءَ، وَقَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ الْمُحْتَسِبَ فِيهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنْبِلَهُ، وَارْمُوا وَارْكَبُوا، وَإِنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وَكُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الْمُؤْمِنُ بَاطِلٌ إِلَّا تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَرَمْيَهُ عَنْ قَوْسِهِ وَمُلَاعَبَةَ امْرَأَتِهِ» " فَهَلْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ صَحِيحَةٌ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَكُمْ زِيَادَةٌ فَتَفَضَّلُوا بِهَا. الْجَوَابُ: أَمَّا الْمَنْقُولُ عَنِ الطَّبَرِيِّ أَوَّلًا فَلَمْ أَرَ لَهُ أَصْلًا فِي الْحَدِيثِ، وَرَاجَعْتُ تَارِيخَ الطَّبَرِيِّ فِي تَرْجَمَةِ آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَلَمْ أَجِدْهُ فِيهِ، وَلَا يَبْعُدُ صِحَّتُهُ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَ آدَمَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَطَقَ بِالْعَرَبِيَّةِ إِسْمَاعِيلُ، وَرَأَيْتُ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا آدَمُ حَتَّى تَقَادَمَتِ الْعَرَبِيَّةُ فَحُرِّفَتْ وَصَارَتْ سُرْيَانِيَّةً، فَجَاءَ إِسْمَاعِيلُ وَفَتَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ بِهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا ذُكِرَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى بِالْقَوْسِ وَرَكِبَ الْخَيْلَ، فَصَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ، وَمِنْ رُكُوبِهِ الْخَيْلَ مُعْرَوْرَاتٍ رُكُوبُهُ فَرَسَ أَبِي الدَّحْدَاحِ لَيْلَةَ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: «لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا» . وَأَمَّا تَقَلُّدُهُ السَّيْفَ. . . وَأَمَّا حَدِيثُ «إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ» - الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، فَأَخْرَجَهُ أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، وَأَمَّا زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ إِجَابَةً لِمَا الْتَمَسَ السَّائِلُ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الرَّمْيِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ الْقِسِيَّ إِبْرَاهِيمُ، عَمِلَ لِإِسْمَاعِيلَ قَوْسًا وَلِإِسْحَاقَ قَوْسًا، فَكَانُوا يَرْمُونَ بِهِمَا، فَعَلَّمَهُمُ الرَّمْيَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْقَوْسَ الْفَارِسِيَّةَ نمروذ، وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ أبي رافع مَرْفُوعًا: " «حَقُّ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ أَنْ يُعَلِّمَهُ الْكِتَابَةَ وَالسِّبَاحَةَ وَالرَّمْيَ» " وَفِي الصَّحِيحِ: " «ارْمُوا بَنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي تَفْسِيرِ «قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] " أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ " قَالَهَا ثَلَاثًا» ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: " «مَنْ مَشَى بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ» ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «تَعَلَّمُوا الرَّمْيَ فَإِنَّ بَيْنَ الْهَدَفَيْنِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» " وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ عَنْ عائشة مَرْفُوعًا: " «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِذَا أَلَحَّ بِهِ هَمُّهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ قَوْسَهُ فَيَنْفِي بِهَا هَمَّهُ» " وَأَسَانِيدُهَا ضَعِيفَةٌ، وَرُوِيَ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ أبي عمرو الأنصاري البدري: " «مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَصَّرَ أَوْ بَلَغَ كَانَ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّمْيِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَلَّفْتُ كِتَابًا فِي الرَّمْيِ سَمَّيْتُهُ غَرْسَ الْأَنْشَابِ فِي الرَّمْيِ بِالنُّشَّابِ، وَكِتَابًا فِي الْخَيْلِ سَمَّيْتُهُ جَرَّ الذَّيْلِ فِي عِلْمِ الْخَيْلِ. [الْقَوْلُ الْجَلِيُّ فِي حَدِيثِ الْوَلِيِّ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَسْأَلَةٌ: الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ شُورَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جِبْرِيلَ عَنِ اللَّهِ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: " «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنِّي لَأَغْضَبُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَغْضَبُ اللَّيْثُ الْحَرِدُ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي الْمُؤْمِنُ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي الْمُؤْمِنُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا، إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يَسْأَلُنِي الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَكُفُّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فَيُفْسِدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا السُّقْمُ، وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، إِنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ ; إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ» "، مَنْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ؟ وَمَا حَالُهُ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْأَوْلِيَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ والحكم بن موسى قَالَا: ثَنَا الحسن بن يحيى الخشني عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ هشام الكناني، عَنْ أَنَسٍ، بِطُولِهِ وَلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَهُ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ الحسن بن يحيى الخشني، قَالَ: ثَنَا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا عبد الجبار بن عاصم ح وَثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآجُرِّيُّ، ثَنَا أحمد بن يحيى الحلواني ح وَثَنَا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا أحمد بن محمد بن يزيد البراتي، قَالَا: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثَنَا الحسن بن يحيى الخشني بِهِ بِطُولِهِ وَلَفْظِهِ وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ إِلَّا هشام، وَعَنْهُ صَدَقَةُ، تَفَرَّدَ بِهِ الحسن، والحسن بن يحيى قَالَ الذهبي: تَرَكُوهُ، وَقَالَ أبو حاتم: صَدُوقٌ سَيِّئُ الْحِفْظِ، وَقَالَ دحيم: لَا بَأْسَ بِهِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ عمر بن سعيد الدمشقي - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ عبد الكريم الجزري، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنِّي لَأَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي، إِنِّي لَأَغْضَبُ لَهُمْ كَمَا يَغْضَبُ اللَّيْثُ الْحَرِدُ» " هَكَذَا رَوَاهُ مُخْتَصَرًا، ثُمَّ إِنَّ لِأَصْلِ الْحَدِيثِ شَوَاهِدَ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» " تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ، وَأَوْرَدَهُ الذهبي فِي الْمِيزَانِ فِي تَرْجَمَةِ خالد وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، تَفَرَّدَ بِهِ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَلَوْلَا هَيْبَةُ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ لَعَدَدْتُهُ فِي مُنْكَرَاتِ خالد، وَذَلِكَ لِغَرَابَةِ لَفْظِهِ وَلِأَنَّهُ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ شريك وَلَيْسَ بِالْحَافِظِ. اه. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حماد بن خالد الخياط، عَنْ عبد الواحد مولى عروة، عَنْ عروة، عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ الْفَرَائِضِ، وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ إِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ وَإِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 عَنْ وَفَاتِهِ لِأَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» " وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا عبد الواحد، وَثَّقَهُ أبو زرعة والعجلي وَابْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُمْ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، قَالَ: ثَنَا هارون بن كامل، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، ثَنَا إبراهيم بن سويد المدني، حَدَّثَنِي أبو حزرة يعقوب بن مجاهد، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عائشة، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِمِثْلِ أَدَاءِ فَرَائِضِي، وَإِنَّ عَبْدِي لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ عَيْنَهُ الَّتِي يُبْصِرُ بِهَا، وَأُذُنَهُ الَّتِي يَسْمَعُ بِهَا، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» "، وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عروة إِلَّا أبو حزرة وعبد الواحد بن ميمون. قُلْتُ: وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا هارون. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ عَنِ العباس بن الوليد، عَنْ يوسف بن خالد، عَنْ عمر بن إسحاق، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ميمونة أم المؤمنين أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ فَرَائِضِي، وَإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ رِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ، وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، إِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَإِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» ". ويوسف - هو السمتي - كَذَّابٌ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أبي أمامة، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْعَدَاوَةِ. ابْنَ آدَمَ، لَمْ تُدْرِكْ مَا عِنْدِي إِلَّا بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكَ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَحَبَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَأَكُونَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ، وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، فَإِذَا دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَإِنِ اسْتَنْصَرَنِي نَصَرْتُهُ» ". وَفِي سَنَدِهِ علي بن زيد ضَعِيفٌ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ نَاصَبَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَرُبَّمَا سَأَلَنِي وَلِيِّي الْمُؤْمِنُ الْغِنَى فَأَصْرِفُهُ عَنِ الْغِنَى إِلَى الْفَقْرِ، وَلَوْ صَرَفْتُهُ إِلَى الْغِنَى لَكَانَ شَرًّا لَهُ، وَرُبَّمَا سَأَلَنِي وَلِيِّي الْمُؤْمِنُ الْفَقْرَ فَأَصْرِفُهُ إِلَى الْغِنَى، وَلَوْ صَرَفْتُهُ إِلَى الْفَقْرِ لَكَانَ شَرًّا لَهُ» ". وَمِنْ شَوَاهِدِ قَوْلِهِ: " «وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 لَمَنْ يَسْأَلُنِي الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ» " إِلَى آخِرِهِ، مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ عَنْ حاجب بن أبي بكر، عَنْ أحمد الدورقي، عَنْ أبي عثمان الأموي، عَنْ صخر بن عكرمة، عَنْ كليب الجهني رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْلَا أَنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ مِنَ الْعُجْبِ مَا خَلَّيْتُ بَيْنَ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الذَّنْبِ» " وَمَا أَخْرَجَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقِ جعفر بن محمد بن عيسى الناقد، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ ضمام بن إسماعيل، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْلَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعْجَبُ بِعَمَلِهِ لَعُصِمَ مِنَ الذَّنْبِ حَتَّى لَا يَهُمَّ بِهِ، وَلَكِنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْعُجْبِ» "، وَمَا أَخْرَجَهُ أبو نعيم والحاكم فِي التَّارِيخِ مِنْ طَرِيقِ سلام بن أبي الصهباء، عَنْ ثابت، عَنْ أَنَسٍ، والديلمي مِنْ طَرِيقِ كثير بن يحيى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الجريري، عَنْ أبي نضرة، عَنْ أبي سعيد قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ: الْعُجْبَ الْعُجْبَ» ". مَسْأَلَةٌ: شَخْصٌ رَوَى حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: " «مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ» "، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تُجَازِفُ فِي الْحَدِيثِ، فَمَا حَالُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا مَعْنَاهُ؟ الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَالتَّرَدُّدُ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ مَشْهُورَةٌ، أَحْسَنُهَا - وَعَلَيْهِ [جَرَى] ابن الجوزي - أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخِطَابِ لَنَا بِمَا نَعْقِلُ، وَالْبَارِي تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: " «وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» " فَكَمَا أَنَّ أَحَدَنَا يُرِيدُ ضَرْبَ وَلَدِهِ تَأْدِيبًا فَتَمْنَعُهُ الْمَحَبَّةُ وَتَبْعَثُهُ الشَّفَقَةُ فَيَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ الْوَالِدِ كَالْمُعَلِّمِ لَمْ يَتَرَدَّدْ، بَلْ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى ضَرْبِهِ لِتَأْدِيبِهِ، فَأُرِيدَ تَفْهِيمُنَا لِتَحْقِيقِ الْمَحَبَّةِ لِلْوَلِيِّ بِذِكْرِ التَّرَدُّدِ جَرْيًا عَلَى مُخَاطَبَةِ الْعَرَبِ بِمَا يَفْهَمُونَ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَعْرَبَهُ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ» " هَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أبي عصمة، عَنْ زيد العمي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَرْفُوعًا: " «مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ كُلَّهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ أَرْبَعُونَ حَسَنَةً، فَإِنْ أَعْرَبَ بَعْضَهُ وَلَحَنَ فِي بَعْضِهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَإِنْ لَمْ يُعْرِبْ مِنْهُ شَيْئًا فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» " وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ لَمْ يُدْرِكْ عمر، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ. الثَّانِي أَنَّ زيدا العمي لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. الثَّالِثُ أَنَّ عصمة هو نوح بن أبي مريم الْجَامِعُ الْكَذَّابُ الْمَعْرُوفُ بِالْوَضْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا صَنَعَتْ يَدَاهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الذهبي فِي تَرْجَمَتِهِ وَعَدَّهُ مِنْ مَنَاكِيرِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى مُخَالِفَةٍ فِي السَّنَدِ وَالصَّحَابِيِّ وَالْمَتْنِ، وَهُوَ دَلِيلُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ وَنَكَارَتِهِ وَاضْطِرَابِهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا الفضل بن هارون، ثَنَا إسماعيل بن هارون الترجماني، ثَنَا عبد الرحيم بن زيد العمي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عروة، عَنْ عائشة مَرْفُوعًا: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى أَيِّ حَرْفٍ كَانَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ فَأَعْرَبَ بَعْضًا وَلَحَنَ بَعْضًا كُتِبَ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَمُحِيَ عَنْهُ عِشْرُونَ سَيِّئَةً، وَرُفِعَ لَهُ عِشْرُونَ دَرَجَةً، وَمَنْ قَرَأَهُ وَأَعْرَبَهُ كُلَّهُ كُتِبَ لَهُ أَرْبَعُونَ حَسَنَةً وَمُحِيَ عَنْهُ أَرْبَعُونَ سَيِّئَةً وَرُفِعَ لَهُ أَرْبَعُونَ دَرَجَةً» "، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عروة إِلَّا زيد، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُهُ، وَقَدْ عَرَفْتَ ضَعْفَ زيد، وَابْنُهُ مَتْرُوكٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عبد العزيز بن أبي رواد، عَنْ نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَ فِي قِرَاءَتِهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَرَأَهُ بِغَيْرِ إِعْرَابٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» " وَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا ; فَإِنَّ بقية مُدَلِّسٌ وَقَدْ عَنْعَنَهُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وأبو نعيم مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عبد الرحمن بن يحيى، عَنْ مالك، عَنِ ابن القاسم، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة مَرْفُوعًا: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ كَانَتْ لَهُ دَعْوَةٌ عِنْدَ اللَّهِ مُسْتَجَابَةٌ، إِنْ شَاءَ أَعَدَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» " وَهُوَ غَرِيبٌ أَيْضًا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ نهشل، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنْ أبي الأحوص، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَكَفَّارَةُ عَشْرِ سَيِّئَاتٍ، وَرَفْعُ عَشْرِ دَرَجَاتٍ» ". ونهشل مَتْرُوكٌ. مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَهُوَ الْخُمُولُ نِعْمَةٌ وَكُلٌّ يَأْبَاهُ، وَالشُّهْرَةُ آفَةٌ وَكُلٌّ يَرْضَاهُ، هَلْ وَرَدَ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ هَذَا بِحَدِيثٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ: سَمِعْتُ أبا النواس هبة الله بن سعد الطبري بِآمُلَ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَدِّي لِأُمِّي الْإِمَامَ أَبَا الْمَحَاسِنِ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الرُّويَانِيَّ يَقُولُ: الشُّهْرَةُ آفَةٌ، وَكُلٌّ يَتَحَرَّاهَا، وَالْخُمُولُ رَاحَةٌ وَكُلٌّ يَتَوَقَّاهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْخُمُولِ قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن علي، ثَنَا إبراهيم بن الأشعث، سَمِعْتُ الفضيل يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُقَالُ لِلْعَبْدِ فِي بَعْضِ مِنَنِهِ [الَّتِي] مَنَّ بِهَا عَلَيْهِ: أَلَمْ أُنْعِمْ عَلَيْكَ؟ أَلَمْ أُعْطِكَ؟ أَلَمْ أُخْمِلْ ذِكْرَكَ؟ أَلَمْ أَلَمْ؟ مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " «يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ» " وَحَدِيثُ: «اتَّخِذُوا مَعَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِيَ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ دَوْلَتُهُمْ» ، وَحَدِيثُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْشِدَ بَيْنَ يَدَيْهِ: لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي ... فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِي إِلَّا الْحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ ... فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي فَتَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتِ الْبُرْدَةُ عَنْ كَتِفَيْهِ» ، مَا حَالُهَا؟ الْجَوَابُ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْحَدِيثَانِ الْآخَرَانِ بَاطِلَانِ مَوْضُوعَانِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " «خَيْرُكُمْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ الْخَفِيفُ الْحَاذِ» " هَلْ هُوَ صَحِيحٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ " الْحَالِ " بِاللَّامِ فِي آخِرِهِ، وَقَالَ آخَرُ: إِنَّهُ " الْجَادِ " بِالْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ آخَرُ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: " «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا» " فَهَلْ مَا قَالُوهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ بِلَفْظِ: «خَيْرُكُمْ فِي الْمِائَتَيْنِ كُلُّ خَفِيفِ الْحَاذِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ خَفِيفُ الْحَاذِ؟ قَالَ: مَنْ لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا مَالَ» . وَفِي إِسْنَادِهِ داود بن الجراح، قَالَ فِيهِ أحمد: لَا بَأْسَ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ سفيان بِمَنَاكِيرَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَتْرُوكٌ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: رَوَى غَيْرَ حَدِيثٍ مُنْكَرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَقَالَ أبو حاتم: مَحَلُّهُ الصِّدْقُ، تَغَيَّرَ حِفْظُهُ، قَالَ الذهبي فِي الْمِيزَانِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا غَلِطَ فِيهِ ; فَإِنَّ أبا حاتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 قَالَ فِيهِ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ لَا يُشْبِهُ حَدِيثَ الثِّقَاتِ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ بَدْءُ هَذَا الْخَبَرِ فِيمَا ذُكِرَ لِي أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَوَّادٍ فَذَكَرَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَاسْتَحْسَنَهُ وَكَتَبَهُ، ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ بَعْدُ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ سَمَاعِهِ. انْتَهَى. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أبي أمامة: " «إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ، ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ» "، وَأَمَّا الْحَاذُ فَهُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْخَفِيفَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ بِاللَّامِ أَوْ بِالْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، فَقَدْ صَحَّفَ، قَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ فِي حَرْفِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِي فَصْلِ حَوَذَ: وَأَصْلُ الْحَاذِ طَرِيقَةُ الْمَتْنِ، وَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اللِّبْدُ مِنْ ظَهْرِ الْفَرَسِ ; أَيْ خَفِيفُ الظَّهْرِ مِنَ الْعِيَالِ، وَالْحَاذُ وَالْحَالُ وَاحِدٌ، وَكَذَا قَالَ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، وَزَادَ: ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا لِقِلَّةِ مَالِهِ وَعِيَالِهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: حَاذُ مَتْنِهِ وَحَالُ مَتْنِهِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَوْضِعُ اللِّبْدِ مِنْ ظَهْرِ الْفَرَسِ، وَفِي الْحَدِيثِ: " «مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ» " أَيْ خَفِيفُ الظَّهْرِ. انْتَهَى. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَلَمْ يُصِبْ ; لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ النَّسْخَ خَاصٌّ بِالطَّلَبِ وَلَا يَدْخُلُ الْخَبَرَ، وَهَذَا خَبَرٌ كَمَا تَرَى، ثُمَّ إِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ: " «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا» " حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، بَلْ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ، فَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَنْ لَيْسَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ وَخَشِيَ مِنَ النِّكَاحِ التَّوْرِيطَ فِي أُمُورٍ يَخْشَى مِنْهَا عَلَى دِينِهِ بِسَبَبِ طَلَبِ الْمَعِيشَةِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَلَا نَسْخَ، فَدَعْوَى النَّسْخِ فِي الْخَبَرِ جَهْلٌ بِقَوَاعِدِ الْأُصُولِ. مَسْأَلَةٌ: قَوْلُ صَاحِبِ الشِّفَا عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ عِبَادَتُهُمْ كُلُّ دَارٍ فِيهَا اسْمُ مُحَمَّدٍ» " هَلْ هِيَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَوْ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ؟ وَإِذَا كَانَتْ بِالْيَاءِ فَمَا مَعْنَاهَا؟ أَوْ بِالْمُوَحَّدَةِ فَمَا مَعْنَاهَا؟ الْجَوَابُ: هُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، مِنَ الْعِبَادَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ: كُلُّ دَارٍ، عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ ; أَيْ حِرَاسَةُ كُلِّ دَارٍ أَوْ حِفْظُ كُلِّ دَارٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ ثَابِتٍ. مَسْأَلَةٌ: الْأَسْمَاءُ الَّتِي اشْتَهَرَتْ للبوني هَلْ لَهَا أَصْلٌ؟ الْجَوَابُ: لَمْ أَقِفْ لَهَا عَلَى أَصْلٍ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن سعيد، ثَنَا سلام الطويل عَنِ الحسن بن علي، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ إِدْرِيسَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَدْ فَشَا فِيهِمُ السِّحْرُ فَلَمْ يُطِقْهُمْ، عَلَّمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ لَا تُبْدِيهِنَّ لِلْقَوْمِ فَيَدْعُونِي بِهِنَّ، وَلَكِنْ قُلْهُنَّ سِرًّا فِي نَفْسِكَ، فَكَانَ إِذَا دَعَا بِهِنَّ اسْتُجِيبَ لَهُ، وَبِهِنَّ دَعَا فَرَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا، ثُمَّ عَلَّمَهُنَّ اللَّهُ مُوسَى وَكَانَ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 يَخْلُصُ إِلَيْهِ سِحْرٌ وَلَا سُمٌّ إِذَا دَعَا بِهِنَّ، ثُمَّ عَلَّمَهُنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ إِذَا دَعَا بِهِنَّ اسْتُجِيبَ لَهُ، وَبِهِنَّ دَعَا فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ. قَالَ الحسن: فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ الْتِمَاسَ الْمَغْفِرَةِ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَاغْتَسِلْ وَالْبَسْ ثِيَابًا جُدُدًا، وَقُمْ إِذَا نَامَ كُلُّ ذِي عَيْنٍ فَاخْرُجْ إِلَى فَضَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ فَادْعُ اللَّهَ بِهِنَّ أَرْبَعِينَ مَرَّةً؛ فَإِنَّهُنَّ أَرْبَعُونَ اسْمًا عَدَدَ أَيَّامِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ سَلْ حَاجَتَكَ مِنْ أَمْرِ آخِرَتِكَ وَدُنْيَاكَ، تَقُولُ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ يَا رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَوَارِثَهُ، يَا إِلَهَ الْآلِهَةِ الرَّفِيعُ جَلَالُهُ، يَا اللَّهُ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ فِعَالِهِ، يَا رَحْمَنَ كُلِّ شَيْءٍ وَرَاحِمَهُ، يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ فِي دَيْمُومَةِ مُلْكِهِ وَبَقَائِهِ، يَا قَيُّومُ فَلَا يَفُوتُ شَيْءٌ عَنْ عِلْمِهِ وَلَا يَئُودُهُ، يَا وَاحِدُ الْبَاقِي أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ وَآخِرَهُ، يَا دَائِمُ فَلَا فَنَاءَ وَلَا زَوَالَ لِمُلْكِهِ، يَا صَمَدُ فِي غَيْرِ شِبْهٍ وَلَا شَيْءَ كَمِثْلِهِ، يَا بَارُّ فَلَا شَيْءَ كُفْؤُهُ يُدَانِيهِ وَلَا إِمْكَانَ لِوَصْفِهِ، يَا كَبِيرُ أَنْتَ الَّذِي لَا تَهْتَدِي الْقُلُوبُ لِصِفَةِ عَظَمَتِهِ، يَا بَارِيَ النُّفُوسِ بِلَا مِثَالٍ خَلَا عَنْ غَيْرِهِ، يَا زَاكِيَ الطَّاهِرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْسِهِ، يَا كَافِي الْمُوسِعُ لِمَا خَلَقَ مِنْ عَطَاءِ فَضْلِهِ، يَا نَقِيًّا مِنْ كُلِّ جَوْرٍ لَمْ يَرْضَهُ وَلَمْ يُخَالِطْ فِعَالَهُ، يَا حَنَّانُ أَنْتَ الَّذِي وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، يَا مَنَّانُ ذَا الْإِحْسَانِ قَدْ عَمَّ كُلَّ الْخَلَائِقِ مَنُّهُ، يَا دَيَّانَ الْعِبَادِ فَكُلٌّ يَقُومُ خَاضِعًا لِرَهْبَتِهِ، يَا خَالِقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكُلٌّ إِلَيْهِ مَعَادُهُ، يَا رَحِيمَ كُلِّ صَرِيخٍ وَمَكْرُوبٍ وَغِيَاثَهُ وَمَعَاذَهُ، يَا تَامُّ فَلَا تَصِفُ الْأَلْسُنُ كُلَّ جَلَالِهِ وَعِزِّهِ، يَا مُبْدِئَ الْبَدَائِعِ لَمْ يَبْغِ فِي إِنْشَائِهَا عَوْنًا مِنْ خَلْقِهِ، يَا عَلَّامَ الْغُيُوبِ فَلَا يَئُودُهُ شَيْءٌ مِنْ حِفْظِهِ، يَا حَلِيمُ ذُو الْأَنَاةِ فَلَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، يَا مُعِيدٌ مَا أَفْنَى إِذَا بَرَزَ الْخَلَائِقُ لِدَعْوَتِهِ مِنْ مَخَافَتِهِ، يَا حَمِيدَ الْفِعَالِ ذَا الْمَنِّ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ بِلُطْفِهِ، يَا عَزِيزُ الْمَنِيعُ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ فَلَا شَيْءَ يُعَادِلُهُ، يَا قَاهِرُ ذَا الْبَطْشِ الشَّدِيدِ أَنْتَ الَّذِي لَا يُطَاقُ انْتِقَامُهُ، يَا قَرِيبُ الْمُتَعَالِي فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ عُلُوُّهُ وَارْتِفَاعُهُ، يَا مُذِلَّ كُلِّ جَبَّارٍ بِقَهْرِ عَزِيزِ سُلْطَانِهِ، يَا نُورَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدَاهُ أَنْتَ الَّذِي فَلَقَ الظُّلُمَاتِ نُورُهُ، يَا عَالِي الشَّامِخُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ عُلُوُّهُ وَارْتِفَاعُهُ، يَا قُدُّوسُ الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَلَا شَيْءَ يُعَادِلُهُ مِنْ خَلْقِهِ، يَا مُبْدِئَ الْبَرَايَا وَمُعِيدَهَا بَعْدَ فَنَائِهَا بِقُدْرَتِهِ، يَا جَلِيلُ الْمُتَكَبِّرُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَالْعَدْلُ أَمْرُهُ وَالصِّدْقُ وَعْدُهُ، يَا مَحْمُودُ فَلَا تَبْلُغُ الْأَوْهَامُ كُلَّ ثَنَائِهِ وَمَجْدِهِ، يَا كَرِيمَ الْعَفْوِ ذَا الْعَدْلِ أَنْتَ الَّذِي مَلَأَ كُلَّ شَيْءٍ عَدْلُهُ، يَا عَظِيمُ ذَا الثَّنَاءِ الْفَاخِرِ وَذَا الْعِزِّ وَالْمَجْدِ وَالْكِبْرِيَاءِ فَلَا يُذَلُّ عِزُّهُ، يَا عَجِيبُ فَلَا تَنْطِقُ الْأَلْسُنُ بِكُلِّ آلَائِهِ وَثَنَائِهِ، يَا غِيَاثِي عِنْدَ كُلِّ كُرْبَةٍ وَيَا مُجِيبِي عِنْدَ كُلِّ دَعْوَى أَسْأَلُكَ أَمَانًا مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْ تَحْبِسَ عَنِّي أَبْصَارَ الظَّلَمَةِ الْمُرِيدِينَ بِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 السُّوءَ، وَأَنْ تَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَرِّ مَا يُضْمِرُونَ إِلَى خَيْرِ مَا لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُكَ، اللَّهُمَّ هَذَا الدُّعَاءُ وَمِنْكَ الْإِجَابَةُ، وَهَذَا الْجُهْدُ وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ؟ الْجَوَابُ: ذَكَرَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ تقي الدين الشمني رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَاشِيَةِ الشِّفَا عِنْدَ ذِكْرِهِ شِرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّرَاوِيلِ وَقَوْلِهِ لأبي هريرة: " «صَاحِبُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِحَمْلِهِ» "، قَالَ: قَالُوا: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، وَلَكِنَّهُ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَلْبَسْهَا، وَفِي الْهُدَى لابن القيم أَنَّهُ لَبِسَهَا، قَالُوا: وَهُوَ سَبْقُ قَلَمٍ. انْتَهَى. وَقَدْ أَجَبْتُ بِذَلِكَ مَرَّاتٍ ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الشِّفَا فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ وَمُسْنَدِ أبي يعلى، وَفِيهِ أَنَّهُ لَبِسَهَا، وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «دَخَلْتُ يَوْمًا السُّوقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ إِلَى الْبَزَّازِينَ فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَكَانَ لِأَهْلِ السُّوقِ وَزَّانٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " زِنْ وَأَرْجِحْ "، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّرَاوِيلَ فَذَهَبْتُ لِأَحْمِلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: " صَاحِبُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِشَيْئِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا يَعْجِزُ عَنْهُ فَيُعِينُهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّكَ لَتَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ؟ قَالَ: " أَجَلْ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَبِاللَّيْلِ وَبِالنَّهَارِ، فَإِنِّي أُمِرْتُ بِالسَّتْرِ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَسْتَرَ مِنْهُ» أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ يوسف بن زياد الواسطي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الْأَفْرِيقِيِّ، عَنْ أبي مسلم الأغر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ويوسف وَشَيْخُهُ ضَعِيفَانِ. وَأَخْرَجَ أحمد قَالَ: ثَنَا يزيد بن هارون، أَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، «سَمِعْتُ أبا صفوان مالك بن عمير الأسدي يَقُولُ: قَدِمْتُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَى مِنِّي سَرَاوِيلَ فَأَرْجَحَ لِي» . مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» " مَا الْمُرَادُ بِأَخَوَاتِهَا؟ الْجَوَابُ: الْمُرَادُ بِهِ سُورَةُ الْوَاقِعَةِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، كَذَا ثَبَتَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ والحاكم، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي رِوَايَةٍ: وَالْحَاقَّةِ، زَادَ ابن مردويه فِي أُخْرَى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، زَادَ ابن سعد فِي أُخْرَى: الْقَارِعَةِ وَسَأَلَ سَائِلٌ، وَفِي أُخْرَى عَنْ عطاء قَوْلَهُ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] . مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَعْنِي حَدِيثَ: " «إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» " عَلَى بُطْلَانِ مَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ مِنَ الْجُوعِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُطْعَمُ وَيُسْقَى مِنْ رَبِّهِ إِذَا وَاصَلَ، فَكَيْفَ يُتْرَكُ جَائِعًا مَعَ عَدَمِ الْوِصَالِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 شَدِّ حَجَرٍ عَلَى بَطْنِهِ؟ قَالَ: وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ " الْحُجْزَ " بِالزَّايِ، وَهُوَ طَرَفُ الْإِزَارِ، فَتَصَحُّفٌ بِالرَّاءِ. الْجَوَابُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُطْعَمَ وَيُسْقَى إِذَا وَاصَلَ فِي الصَّوْمِ تَكْرِمَةً لَهُ، وَيَحْصُلُ لَهُ الْجُوعُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى وَجْهِ الِابْتِلَاءِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْأَنْبِيَاءِ تَعْظِيمًا لَهُ، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا» " وَكَمَا قَالَ جابر فِي حَدِيثِهِ لِامْرَأَتِهِ: «سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ» . مَسْأَلَةٌ: سِيرَةُ الْبَكْرِيِّ هَلْ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، أَوِ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الصِّحَّةُ؟ وَهَلْ تَجُوزُ قِرَاءَتُهَا؟ الْجَوَابُ: الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْبُطْلَانُ وَالْكَذِبُ، وَلَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهَا. مَسْأَلَةٌ: هَلْ رُدَّتِ الشَّمْسُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا غَرَبَتْ فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ أَوْ فِي غَيْرِهَا؟ وَهَلْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا أَوْ قَضَاهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؟ الْجَوَابُ: الثَّابِتُ فِي الصِّحَاحِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، لَكِنْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الشَّمْسَ رُدَّتْ إِلَيْهِ حَتَّى صَلَّاهَا وَقَالَ: إِنَّ رُوَاتَهُ ثِقَاتٌ، حَكَاهُ عَنْهُ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، والحافظ ابن حجر فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَمَا فِي الصِّحَاحِ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: بَعْدَمَا غَرَبَتْ، أَوْ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، عَلَى وُجُودِ الْغُرُوبِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَهَا عَادَتْ، فَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ رِوَايَةَ الصِّحَاحِ سَكَتَتْ عَنِ الْعَوْدِ الثَّابِتِ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا أَنَّ الشَّمْسَ رُدَّتْ لِأَجْلِهِ بَعْدَمَا غَرَبَتْ عَنْ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَتِ الْعَصْرُ فَاتَتْهُ، وَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجْرِهِ فَقَالَ: " «اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ الشَّمْسَ» " فَطَلَعَتْ بَعْدَمَا غَرَبَتْ، وَوَرَدَ أَنَّ الشَّمْسَ حُبِسَتْ لَهُ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ حِينَ أُخْبِرَ بِقُدُومِ الْعِيرِ فَأَبْطَأَتْ، وَالْقِصَّتَانِ فِي الشِّفَا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، وَقَدْ تَكَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِهِ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ» " هَلْ لَهُ أَصْلٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وعصمة بن مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 مَسْأَلَةٌ: فِي رَجُلٍ بِيَدِهِ حَجَرُ بِلَّوْرٍ يَقْعُدُ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَيَقُولُ: الْأَحْجَارُ سَلَّمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْحَجَرُ مِنْ جِنْسِ الْأَحْجَارِ الَّتِي سَلَّمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: كَذَبْتَ، هَذَا الْحَجَرُ مَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مِنْ جِنْسِهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَأَيُّهُمَا الْمُخْطِئُ وَالْمُصِيبُ؟ وَهَلِ الْأَحْجَارُ إِذَا سَمِعَتْ صَوْتَ الْمُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُصَلِّي عَلَيْهِ بِلِسَانِ الْحَالِ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ مَنْ كَتَبَ اسْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَرَقِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَا تَزَالُ تِلْكَ الْأَحْرُفُ تُصَلِّي مَا دَامَتْ تِلْكَ الْأَحْرُفُ مَكْتُوبَةً؟ وَهَلْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَجَرَ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ الْجَوَابُ: ثَبَتَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ أَنَّ الْأَحْجَارَ سَلَّمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنِ الْبِلَّوْرُ بِخُصُوصِهِ لَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَحْجَارَ إِذَا سَمِعَتِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ، وَلَا وَرَدَ أَيْضًا أَنَّ مَنْ كَتَبَ اسْمَهُ الشَّرِيفَ فِي الْوَرَقِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحْرُفُ، وَإِنَّمَا الْوَارِدُ: «مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ - أَيْ عَلَى الْمُصَلِّي - مَا دَامَ اسْمُهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . مَسْأَلَةٌ: فِي خَبَرٍ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَخَلَقَ الْأَرْزَاقَ قَبْلَ الْأَرْوَاحِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، مَا الْجَوَابُ عَنِ التَّعَارُضِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ؟ الْجَوَابُ: إِنَّمَا يُطْلَبُ الْجَوَابُ عَنِ التَّعَارُضِ بَيْنَ حَدِيثَيْنِ ثَابِتَيْنِ، وَهَذَانَ الْحَدِيثَانِ غَيْرُ ثَابِتَيْنِ، أَمَّا الثَّانِي فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَوَرَدَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا، فَلَا نُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلْأَرْزَاقِ. مَسْأَلَةٌ: فِي أَخْبَارٍ وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «احْتَجَمَ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَبَيْنَ الْكَتِفَيْنِ» ، وَقِيلَ: فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ، وَقِيلَ: وَهُوَ مُحْرِمٌ بِمُشَلَّلٍ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ، مَا الْجَوَابُ عَنِ الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ وَعَنِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ؟ الْجَوَابُ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ أبو داود عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «احْتَجَمَ ثَلَاثًا فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ» ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْأَخْدَعَانِ: عِرْقَانِ فِي جَانِبَيِ الْعُنُقِ، وَالْكَاهِلُ مُقَدَّمُ أَعْلَى الظَّهْرِ، وَقَالَ الجوهري فِي الصِّحَاحِ: الْأَخْدَعُ: عِرْقٌ، وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الْوَرِيدِ، وَهُمَا أَخْدَعَانِ، وَرُبَّمَا وَقَعَتِ الشَّرْطَةُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَنْزِفُ صَاحِبُهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 فَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِمُشَلَّلٍ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْأُولَى وَفَتْحِهَا، اسْمُ مَوْضِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَا وَرَدَ عَنْ بحيرا أَنَّهُ بَشَّرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْبِشَارَةُ صَادِرَةً مِنْهُ عَنْ إِيمَانٍ بِهِ حِينَئِذٍ؟ وَهَلْ مَاتَ بحيرا قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَمْ بَعْدَهَا؟ وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَهَلْ مَاتَ مُسْلِمًا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: بِشَارَةُ بحيرا الرَّاهِبِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا لَقِيَهُ فِي سَفَرِهِ كَانَتْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، فَفِي طَبَقَاتِ ابن سعد وَدَلَائِلِ أبي نعيم أَنَّ سِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذْ ذَاكَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي رِوَايَةٍ أَخْرَجَهَا ابن منده: عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ بحيرا عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ وَانْتَهَى إِلَيْهِ عِلْمُهَا، قَالَ ابن حجر فِي كِتَابِ الْإِصَابَةِ: مَا أَدْرِي أَدْرَكَ الْبَعْثَةَ أَمْ لَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابن منده وأبو نعيم فِي كِتَابَيْهِمَا فِي الصَّحَابَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ مَاتَ عَلَى دِينٍ حَقٍّ، وَهُوَ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْرَكَ الْبَعْثَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ قَبْلَ نَسْخِهِ بِالْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ حِينَ وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَطَسَ أَشَمَّتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِكَوْنِهِ عَطَسَ أَوْ شَمَّتَتْهُ، وَمَا الْمُشَمِّتُ وَمَنِ الرَّاوِي، أَهِيَ الشفاء أَوْ غَيْرُهَا، وَمَا نَسَبُهَا؟ الْجَوَابُ: لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ مُصَرِّحًا عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وُلِدَ عَطَسَ، وَعَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ شَمَّتَتْهُ بَعْدَ مُرَاجَعَةِ أَحَادِيثِ الْمَوْلِدِ مِنْ مَظَانِّهَا، كَالطَّبَقَاتِ لابن سعد وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ ولأبي نعيم وَتَارِيخِ ابن عساكر عَلَى بَسْطِهِ وَاسْتِيعَابِهِ، وَكَالْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ وَنَحْوِهِ. وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَتْهُ الشفاء فِيهِ لَفْظٌ يُشْبِهُ التَّشْمِيتَ، لَكِنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ الْعُطَاسُ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أُمِّهِ الشفاء بنت عمرو بن عوف قَالَتْ: لَمَّا وَلَدَتْ آمنة بنت وهب مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَعَ عَلَى يَدَيَّ فَاسْتَهَلَّ، فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ وَرَحِمَكَ رَبُّكَ، الْحَدِيثَ، وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الِاسْتِهْلَالَ هُوَ صِيَاحُ الْمَوْلُودِ أَوَّلَ مَا يُولَدُ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ هُنَا الْعُطَاسُ فَمُحْتَمَلٌ، وَحَمْلُ الْقَائِلِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَلَكِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الشفاء فَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا بِنْتُ عمرو بن عوف، وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابن سعد فِي طَبَقَاتِهِ أَنَّهَا بِنْتُ عوف بن عبد الحرث بن زهرة بن كلاب، أَسْلَمَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 قَدِيمًا وَهَاجَرَتْ وَمَاتَتْ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْتِقُ عَنْ أُمِّي؟ فَقَالَ: " نَعَمْ "، فَأَعْتَقَ عَنْهَا، قَالَ ابن سعد: فَكَانَ فِيهَا سُنَّةُ الْعَتَاقَةِ عَنِ الْمَيِّتِ. مَسْأَلَةٌ: أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ حَدِيثًا فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ» " ثُمَّ قَالَ: " أَيْ طَالِبُهُ " فَهَلْ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ؟ وَهَلْ رَائِدٌ بِمَعْنَى طَالِبٍ كَمَا ذَكَرَهُ، أَوْ لَهُ مَعْنًى آخَرُ؟ فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى طَالِبٍ فَلَيْسَ كُلُّ حُمَّى مَخُوفَةً؛ إِذْ فِيهَا الْمَخُوفُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَوْتِ، وَفِيهَا الْغَيْرُ الْمَخُوفِ، وَقَوْلُهُ: الْحُمَّى، يَشْمَلُ الْكُلَّ. الْجَوَابُ: الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ، قَالَ ابن الأثير فِي مَعْنَاهُ: أَيْ رَسُولُ الْمَوْتِ الَّذِي يَتَقَدَّمُهُ كَمَا يَتَقَدَّمُ الرَّائِدُ قَوْمَهُ. انْتَهَى. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِيهِ عَدَمُ اسْتِلْزَامِهِ كُلَّ حُمَّى لِلْمَوْتِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ كُلَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُقَدِّمَاتٌ لِلْمَوْتِ وَمُنْذِرَاتٌ بِهِ، وَإِنْ أَفْضَتْ إِلَى سَلَامَةٍ، جَعَلَهَا [اللَّهُ] تَذْكِرَةً لِابْنِ آدَمَ يَتَفَكَّرُ بِهَا الْمَوْتَ، وَقَدْ أَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا مِنْ مَرَضٍ يَمْرَضُهُ الْعَبْدُ إِلَّا رَسُولُ مَلَكِ الْمَوْتِ عِنْدَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ مَرَضٍ يَمْرَضُهُ الْعَبْدُ أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: أَتَاكَ رَسُولٌ بَعْدَ رَسُولٍ فَلَمْ تَعْبَأْ بِهِ، وَقَدْ أَتَاكَ رَسُولٌ يَقْطَعُ أَثَرَكَ مِنَ الدُّنْيَا. فِي آثَارٍ أُخَرَ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَوَضَحَ أَنَّ الْأَمْرَاضَ كُلَّهَا رُسُلٌ لِلْمَوْتِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا مُقَدِّمَاتُهُ وَمُنْذِرَاتٌ بِهِ إِلَى أَنْ يَجِيءَ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ مُوجِبًا لِلْمَوْتِ بِذَاتِهِ. مَسْأَلَةٌ: مَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ» " الْحَدِيثَ، وَعَنْ قَوْلِهِ فِي تَعْوِيذَةِ الحسن والحسين: " «أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ كُلِّ هَامٍّ وَهَامَّةٍ» " الْحَدِيثَ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْهَامِ وَالثَّانِي عَلَى وُجُودِهِ، فَمَا التَّوْفِيقُ؟ الْجَوَابُ: الْحَدِيثُ الثَّانِي لَفْظُهُ: " «مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ» " وَالْهَامَّةُ بِالتَّشْدِيدِ وَاحِدَةُ الْهَوَامِّ، وَهِيَ الْحَيَّاتُ وَالْعَقَارِبُ وَمَا شَاكَلَهَا، وَأَمَّا الْهَامَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَهِيَ بِالتَّخْفِيفِ، شَيْءٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُهُ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْقَتِيلَ إِذَا قُتِلَ يَخْرُجُ لَهُ طَائِرٌ يُسَمَّى الْهَامَةَ فَيَقُولُ: اسْقُونِي اسْقُونِي، حَتَّى يُؤْخَذَ بِثَأْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا عمرو إِلَّا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي ... أَضْرِبْكَ حَتَّى تَقُولَ الْهَامَةُ اسْقُونِي مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " «شِفَاءُ أُمَّتِي فِي ثَلَاثٍ: آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ لَعْقَةٍ مِنْ عَسَلٍ، أَوْ كَأْسٍ مِنْ حَجَّامٍ، أَوْ لَذْعَةٍ مِنْ نَارٍ» " هَلْ وَرَدَ لَذْعَةٌ مِنْ نَارٍ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، وَرَدَ لَذْعَةٌ مِنْ نَارٍ، لَكِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ: " «إِنْ كَانَ فِي أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جابر، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» "، وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ لَعْقَةِ عَسَلٍ» " هَذِهِ أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ، وَاللَّذْعَةُ بِسُكُونِ الذَّالِ الْمَنْقُوطَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بِلَا نَقْطٍ، هِيَ الْخَفِيفُ مِنْ حَرْقِ النَّارِ، وَلَيْسَتْ بِالْغَيْنِ الْمَنْقُوطَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ كَمَا يَنْطِقُ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ قَلِّبْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ " هَلْ وَرَدَ؟ . الْجَوَابُ: لَمْ يَرِدْ بِلَفْظِ قَلِّبْ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، إِنَّمَا وَرَدَ: " «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» "، رَوَاهُ أحمد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أسماء بنت يزيد، وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عائشة. مَسْأَلَةٌ: مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُدَّاحِ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ: «زَيِّنُوا مَجَالِسَكُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَوْ تُعْرَضُ عَلَيَّ» ، هَلْ هُوَ حَدِيثٌ؟ وَهَلْ هُوَ حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ أَوْ ضَعِيفٌ، وَمَا لَفْظُهُ؟ الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، أَخْرَجَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ بِلَفْظِ: " «زَيِّنُوا مَجَالِسَكُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ ; فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ عَلَيَّ نُورٌ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَوْ تَبْلُغُنِي، فَقِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ ثَابِتٍ قَوِيٍّ، أَوَّلُهُ: " «صَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الحسن بن علي. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْمِغْزَلِ حَدِيثٌ؟ الْجَوَابُ: رَوَى ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ يزيد بن مروان، عَنْ زياد بن عبد الله القرشي قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى هند بنت المهلب بن أبي صفرة، وَهِيَ امْرَأَةُ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَرَأَيْتُ فِي يَدِهَا مِغْزَلًا تَغْزِلُ فَقُلْتُ: أَتَغْزِلِينَ وَأَنْتِ امْرَأَةُ أَمِيرٍ؟ قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَطْوَلُكُنَّ طَاقَةً أَعْظَمُكُنَّ أَجْرًا، وَهُوَ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَيَذْهَبُ بِحَدِيثِ النَّفْسِ» ". وَأَخْرَجَ ابن عساكر مِنْ طَرِيقِ موسى بن إبراهيم المروزي: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أبي حازم، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَمَلُ الْأَبْرَارِ مِنَ الرِّجَالِ الْخِيَاطَةُ، وَعَمَلُ الْأَبْرَارِ مِنَ النِّسَاءِ الْمِغْزَلُ» " وموسى بن إبراهيم مَتْرُوكٌ. وَأَخْرَجَ ابن عساكر مِنْ طَرِيقِ محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 بن بكار السكسكي: ثَنَا موسى بن أبي عوف، ثَنَا العقيلي، ثَنَا زياد أبو السكن، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى أم سلمة وَبِيَدِهَا مِغْزَلٌ تَغْزِلُ بِهِ فَقُلْتُ: كُلَّمَا أَتَيْتُكِ وَجَدْتُ فِي يَدَيْكِ مِغْزَلًا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَيُذْهِبُ حَدِيثَ النَّفْسِ، وَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَعْظَمَكُنَّ أَجْرًا أَطْوَلُكُنَّ طَاقَةً» وَقَالَ الخطيب فِي التَّارِيخِ: أَنَا محمد بن الحسين بن الفضل القطان، أَنَا عثمان بن أحمد الدقاق، ثَنَا سهل بن أحمد الواسطي، ثَنَا عمرو بن علي، قَالَ: محمد بن زياد صَاحِبُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ كَذَّابٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ثَنَا مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «زَيِّنُوا مَجَالِسَ نِسَائِكُمْ بِالْمِغْزَلِ» ". مَسْأَلَةٌ: مَا الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثٍ صَحَّ فِي سَنَدٍ ... عَنْ أَكْرَمِ الْخَلْقِ وَالْمَبْعُوثِ مِنْ مُضَرِ إِنَّ الْوِلَادَةَ لِلْمَوْلُودِ كَائِنَةٌ ... بِإِذْنِ خَالِقِنَا حَقًّا عَلَى الْفِطَرِ وَوَالِدَاهُ بِتَهْوِيدٍ وَمَا مَعَهُ ... يُصَرِّفَاهُ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ وَبَيْنَ مَا صَحَّ فِي الْآثَارِ أَنَّ إِذَا ... أَرَادَ رَبُّ الْعُلَا التَّخْلِيقَ لِلْبَشَرِ فَيَأْخُذُ الْمَلَكُ الْمَاءَ الْمُخَلَّقَ فِي ... يَدٍ يُمَرِّغُهُ فِي تُرْبٍ مُعْتَبَرِ يَقُولُ يَا رَبِّ مَخْلُوقٌ وَكَيْفَ بِهِ ... مُقَدَّرُ الْخَلْقِ مِنْ أُنْثَى وَمِنْ ذَكَرِ مَا الرِّزْقُ مَا أَجَلٌ مَا الْحَالُ فِيهِ وَهَلْ ... يَشْقَى وَيَسْعَدُ مَا الْمَحْتُومُ فِي الْقَدَرِ مِنْ أَيْنَ لِلْأَبَوَيْنِ الْحُكْمُ فِيهِ إِذَا ... كَانَ الْقَضَا وَمَضَى حَالٌ عَلَى قَدَرِ حَقِّقْ لَنَا يَا إِمَامَ الْعَصْرِ صُورَتَهُ ... يَا عَالِمًا فَاقَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْأَثَرِ وَحَافِظَا الْمَرْءِ إِنْ حَانَتْ مَنِيَّتُهُ ... وَفَارَقَتْ رُوحُهُ جِسْمًا مِنَ الْبَشَرِ فَهَلْ يَمُوتَانِ أَوْ لِلْغَيْرِ يَنْتَقِلَا ... يَا ذَا الْعُلُومِ وَرَبَّ الْخُبْرِ وَالْخَبَرِ لَا زَالَ مَجْدُكَ مَحْرُوسًا بِأَرْبَعَةٍ ... الْعِزِّ وَالنَّصْرِ وَالْإِقْبَالِ وَالظَّفَرِ الْجَوَابُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ مَوْصُولًا مَدَى الدَّهْرِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَبْعُوثِ مِنْ مُضَرِ مَا بَيْنَ ذَيْنِ تَنَافٍ كُلُّ ذِي سَبَبٍ ... وَذِي فِعَالٍ جَرَى فِي سَابِقِ الْقَدَرِ فَيَكْتُبُ الْمَلَكُ الْمَأْمُورُ مَا سَبَقَتْ بِهِ ... الْمَقَادِيرُ مِنْ رُشْدٍ وَمِنْ خُسْرِ فَيُولَدُ الْمَرْءُ ذَا رُشْدٍ وَتُدْرِكُهُ ... سَوَابِقُ الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ فِي الذِّكْرِ يُسَبِّبُ اللَّهُ أَسْبَابَ الضَّلَالِ عَلَى ... يَدَيْ أَبٍ أَوْ لِعَيْنِ الْجِنِّ وَالْبَشَرِ أَلَا تَرَى قَاتِلَ الْإِنْسَانِ ذَا سَبَبٍ ... وَكَانَ فِي قَدَرِ هَذَا مُنْتَهِي الْعُمُرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وَحَافِظَا الْمَرْءِ مَهْمَا مَاتَ يَعْتَكِفَا ... بِقَبْرِهِ ذَاكِرَيْنِ اللَّهَ فِي الدَّهْرِ يُسَبِّحَانِ بِتَهْلِيلٍ وَيُكْتَبُ ذَا ... لِصَاحِبِ الْقَبْرِ هَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ وَلَا يَمُوتَانِ إِلَّا عِنْدَ نَفْخَتِهِ ... فِي الصُّورِ لِلصَّعْقِ كَالْأَمْلَاكِ فَادَّكِرِ وابن السيوطي قَدْ خَطَّ الْجَوَابَ لِكَيْ ... يَكُونَ فِي الْحَشْرِ مِمَّنْ فَازَ بِالظَّفَرِ مَسْأَلَةٌ. مَاذَا جَوَابُكَ يَا بَحْرَ الْعُلُومِ وَيَا ... مُجْلِيَ الْهُمُومِ وَمَنْ فِي دَهْرِهِ بَرَعَا فِي الْقَهْقَرَى رَجْعَةِ الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... رَسُولِ رَبِّ الْعُلَا لِمَا لَهُ وَقَعَا مَعْ عَمِّهِ حمزة مَاذَا الْمُرَادُ بِهِ ... مَا حِكْمَةٌ فِيهِ يَا مَنْ لِلْوَرَى نَفَعَا أَوْضِحْ لَنَا أَمْرَهُ مِنْ فَضْلِكُمْ لِنَرَى ... مَا لَمْ يُرَ الْآنَ فِي مِصْرٍ وَلَا سُمِعَا لَكَ النَّعِيمُ غَدًا يَوْمَ الْحِسَابِ فَكَمْ ... أَبْدَيْتَ مِنْ حُجَجٍ كَالْبَدْرِ إِذْ طَلَعَا ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ قَدْ عَلَا شَرَفًا ... عَلَى الْأَنَامِ وَسَادَ الْكُلَّ فَارْتَفَعَا مَا حَنَّ وَحْشٌ إِلَى وَكْرٍ وَغَرَّدَ فِي ... خَمَائِلِ الْأَيْكِ قُمْرِيٌّ وَقَدْ سَجَعَا الْجَوَابُ. الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا نَجْمُ الْهُدَى طَلَعَا ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ سَيِّدِ الشُّفَعَا لَعَلَّهُ كَانَ مِنْ خَوْفِ الْوُثُوبِ وَقَدْ ... رَآهُ فِي حَالَةٍ لَا تَمْنَعُ الْفَزَعَا أَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ لَحْظًا يُدَاوِمُهُ ... لِكَيْ يَرَى مِنْهُ مَا مِنْ بَعْدِهِ صَنَعَا أَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ لِلنَّاسِ تَعْلِمَةً ... كَيْفَ الرُّجُوعُ لَدَى خَوْفٍ فَذَا شُرِعَا أَوْ كَانَ ذَا قَبْلَ نَهْيٍ مِنْهُ مُرْتَجِعًا ... عَنْ قَهْقَرَى فَأَتَاهُ قَبْلَ مَا وَقَعَا وَقَدْ يُقَالُ كَنَى الرَّاوِي بِذَاكَ عَنِ الرّ ... رُجُوعِ لِلْبَيْتِ لَا بِالظَّهْرِ قَدْ رَجَعَا هَذِي أُمُورٌ تَبَدَّتْ قُلْتُ مُحْتَمِلًا ... وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَبْدَى فَاتُّبِعَا مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ فَأَقْلِلْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ» " هَلْ وَرَدَ؟ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ بَاطِلٌ؟ الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عمرو بن غيلان الثقفي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّهُمَّ مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَعَلِمَ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَقْلِلْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَحَبِّبْ إِلَيْهِ لِقَاءَكَ وَعَجِّلْ لَهُ الْقَضَاءَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي وَيُصَدِّقْنِي وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ عُمُرَهُ» " وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ إِنْ صَحَّتْ صُحْبَةُ عمرو بن غيلان ; فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَأَبُوهُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ فَأُمِرَ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ. قُلْتُ: وَمِنْ شَوَاهِدِهِ مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ السُّنَنِ لَهُ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ عبد الله بن عبد الرحمن بن عمرو بن حزم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «اللَّهُمَّ مَنْ أَبْغَضَنِي وَعَصَانِي فَأَكْثِرْ لَهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحَبَّنِي وَأَطَاعَنِي فَارْزُقْهُ الْكَفَافَ، اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ الْكَفَافَ، اللَّهُمَّ رِزْقَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ» " وَيُنَاسِبُهُ مَا أَوْرَدَهُ السلفي فِي الطُّيُورِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ منصور عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ «أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ادْعُ لِي، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَصِحَّ جِسْمَهُ وَأَكْثِرْ مَالَهُ وَأَطِلْ حَيَاتَهُ» . مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " «إِنَّ الْعَيْنَ تَسْبِقُ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ» " هَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ الْجَوَابُ: لَفْظُ الْحَدِيثِ: " «لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» " هَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ أحمد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أسماء بنت عميس بِلَفْظِ: " «لَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» " وَأَخْرَجَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ عبد الله بن جراد بِلَفْظِ: " «الْعَيْنُ وَالنَّفْسُ كَادَا يَسْبِقَانِ الْقَدَرَ» ". مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ «مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَلْيَلْعَنِ الْيَهُودَ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ» ، هَلْ وَرَدَ؟ الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ السلفي فِي الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّاةِ الطُّيُورِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ يحيى بن خالد المخزومي، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن محمد بن طلحة بن زادان المزني، ثِقَةٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عائشة مَرْفُوعًا: " «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ صَدَقَةٌ فَلْيَلْعَنِ الْيَهُودَ» ". [وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ مِنْ حَدِيثِهَا أَيْضًا] وَأَخْرَجَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقِ أبي بكر محمد بن إسحاق بن يعقوب الطلحي عَنْ سليم المكي، عَنْ طلحة بن عمرو، عَنْ عطاء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِهِ. [وَرَوَاهُ أَيْضًا ابن حبيب - أَبِي هُرَيْرَةَ، الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ - فِي تَارِيخِهِ، وَكِلَا الطَّرِيقَيْنِ ضَعِيفٌ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 مَسْأَلَةٌ: مَاذَا يَقُولُ الَّذِي زَادَتْ مَنَاقِبُهُ ... عَلَى أَكَابِرِنَا فِي الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ فِيمَنْ رَوَى أَنَّ خَيْرَ الْخَلْقِ سَيِّدَنَا ... رَسُولَ رَبِّ الْعِبَادِ الْهَادِيَ الْعَرَبِي قَالَ الدَّرَاهِمُ وَالدِّينَارُ قَدْ جُعِلَا ... خَوَاتِمَ اللَّهِ فِي أَرْضٍ لِذِي طَلَبِ مَنْ جَاءَ بِالْخَاتَمِ الْمَذْكُورِ حَاجَتُهُ ... تُقْضَى وَلَمْ يَعْزُهُ رَاوِيهِ لِلْكُتُبِ هَلْ ذَا صَحِيحٌ وَمَا مَعْنَاهُ إِنْ وَرَدَتْ ... بِهِ الرِّوَايَةُ أَوْ قَدْ صَحَّ فِي الْكُتُبِ جُدْ بِالْجَوَابِ فَقَدْ أَشْفَيْتَ لِي عِلَلًا ... نُجِّيتَ دَهْرَكَ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ نَصَبِ وَنِلْتَ جَنَّةَ عَدْنٍ يَوْمَ مَبْعَثِنَا ... بِجَاهِ خَيْرِ الْأَنَامِ الطَّاهِرِ النَّسَبِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا دَائِمَ الْحِقَبِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى خَيْرِ الْوَرَى الْعَرَبِي هَذَا الْحَدِيثُ رَوَيْنَاهُ لَهُ سَنَدٌ ... رُوَاتُهُ ضَعُفَتْ فِيمَا حَكَى الذهبي فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِي الْأَوْسَطِ انْتَظَمَتْ ... فِيهِ رِوَايَتُهُ يَا مُنْتَهَى الطَّلَبِ وَصَحَّ فِي الْحِلْيَةِ الْغَرَّاءِ مِنْ طُرُقٍ ... يُعَلُّ رَفْعٌ بِهَا وَقْفًا عَلَى وهب بِأَنَّهَا خَاتَمٌ تَقْضِي الْمَعَايِشَ لَمْ ... تُوضَعْ لِأَكْلٍ إِذَا عُدَّتْ وَلَا شُرْبِ وابن السيوطي يَرْجُو إِذْ أَجَابَ بِذَا ... فِي الْحَشْرِ لَمْحَةَ غُفْرَانٍ بِلَا نَصَبِ مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُفَ وَكَرُمَ: " «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَوْتِي خَيْرٌ لَكُمْ» " فَقَدْ أَشْكَلَ مِنْ جِهَةِ تَنْزِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ عَلَى الْقَوَاعِدِ النَّحْوِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يُوصَلُ بِمِنْ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ، وَوَصْلُهُ بِهَا غَيْرُ مُتَأَتٍّ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ؛ إِذْ يَصِيرُ الْكَلَامُ: حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ مَمَاتِي، وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حَيَاتِي، وَهُوَ مُشْكِلٌ. الْجَوَابُ: إِنَّمَا حَصَلَ الْإِشْكَالُ مِنْ ظَنِّ أَنَّ خَيْرًا هُنَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَإِنَّ لَفْظَةَ خَيْرٍ لَهَا اسْتِعْمَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ بِهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ لَا الْأَفْضَلِيَّةِ، وَضِدُّهَا الشَّرُّ، وَهِيَ كَلِمَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا لَمْ يُحْذَفْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ بِهَا مَعْنَى الْأَفْضَلِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُوصَلُ بِمِنْ، وَهَذِهِ أَصْلُهَا أَخْيَرُ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهَا تَخْفِيفًا، وَيُقَابِلُهَا شَرٌّ الَّتِي أَصْلُهَا أَشَرُّ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْخَيْرُ ضِدُّ الشَّرِّ، قَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا كِنَانَةُ فِي خَيْرٍ مُخَامِرَةٌ ... وَلَا كِنَانَةُ فِي شَرٍّ بِأَشْرَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وَتَأْنِيثُ هَذِهِ خَيْرَةٌ وَجَمْعُهَا خَيْرَاتٌ، وَهِيَ الْفَاضِلَاتُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ تَعَالَى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} [التوبة: 88] ، وَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ مَعْنَى أَفْعَلَ، فَلَوْ أَرَدْتَ مَعْنَى التَّفْضِيلِ قُلْتَ: فُلَانَةُ خَيْرُ النَّاسِ، وَلَمْ تَقُلْ: خَيْرَةُ، وَلَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى أَفْعَلَ. انْتَهَى كَلَامُ الصِّحَاحِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ يُقَالَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَا اسْمَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] الثَّانِي أَنْ يَكُونَا وَصْفَيْنِ، وَتَقْدِيرُهُمَا تَقْدِيرُ أَفْعَلَ، مِنْ نَحْوِ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ ذَاكَ وَأَفْضَلُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] وَيَحْتَمِلُ الِاسْمِيَّةَ وَالْوَصْفِيَّةَ مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى: [ {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وَقَالَ أبو حيان فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:] {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة: 103] لَيْسَ خَيْرٌ هُنَا أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، بَلْ هِيَ لِلتَّفْضِيلِ لَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ} [فصلت: 40] وَ {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] وَفِي قَوْلِ حسان: فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ انْتَهَى. إِذَا عُرِفَ ذَلِكَ، فَخَيْرٌ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ يُرَادُ بِهَا التَّفْضِيلُ لَا الْأَفْضَلِيَّةُ، فَلَا تُوصَلُ بِمِنْ، وَلَيْسَتْ بِمَعْنَى أَفْعَلَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ، لَا أَنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا، وَلَا أَنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا. مَسْأَلَةٌ: مَاذَا جَوَابُ إِمَامٍ لَا نَظِيرَ لَهُ ... فِي الْعَصْرِ كَلَّا وَلَا فِي سَالِفِ الدَّهْرِ فِي الْحَافِظَيْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذْ كَتَبَا ... هَلْ بِالْمِدَادِ وَحِبْرٍ عُدَّ لِلْبَشَرِ وَكَاغَدٍ يَكْتُبَا مَا كَانَ مَعْ قَلَمٍ ... أَوْ لَا كَذَلِكَ يَا مَنْ ضَاءَ كَالْقَمَرِ أَثَابَكُمْ رَبُّكُمْ جَنَّاتِهِ كَرَمًا ... بِجَاهِ خَيْرِ الْوَرَى الْمَبْعُوثِ مِنْ مُضَرِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا غَيْرَ مُنْحَصِرِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِ مِدَادُهُ الرِّيقُ فِيمَا قَدْ أَتَى وَلِسَا ... نُ الْخَلْقِ أَقْلَامُهُمْ قَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ وَفِي الصَّحِيفَةِ كَتْبٌ وَالْبِطَاقَةِ جَا ... مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ جِنْسٍ صَحَّ فِي الْخَبَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 مَسْأَلَةٌ: هَلِ الشَّمْعُ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ؟ وَهَلِ الِاسْتِضَاءَةُ بِهِ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَدْهَانِ يَقُومُ مَقَامَهُ تُعَدُّ إِسْرَافًا؟ الْجَوَابُ: الشَّمْعُ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ قَدِيمٍ مِنْ زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ العسكري فِي الْأَوَائِلِ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أُوقِدَ لَهُ الشَّمْعُ جذيمة بن مالك الأبرش، وَهُوَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ بِدَهْرٍ، وَلَيْسَ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ إِسْرَافًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنَهَى عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ، بَلْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ أُوقِدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ دَفْنِهِ عبد الله ذا البجادين، وَقَدْ أَلَّفْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ مُؤَلَّفًا سَمَّيْتُهُ: مُسَامَرَةَ السَّمُوعِ فِي ضَوْءِ الشُّمُوعِ. [قَطْفُ الثَّمَرِ فِي مُوَافَقَاتِ عُمَرَ] سُئِلْتُ عَنْ مُوَافَقَاتِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَظَمْتُ فِيهَا هَذِهِ الْأَبْيَاتَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَصَلَّى اللَّهُ ... عَلَى نَبِيِّهِ الَّذِي اجْتَبَاهُ يَا سَائِلِي وَالْحَادِثَاتُ تَكْثُرُ ... عَنِ الَّذِي وَافَقَ فِيهِ عمر وَمَا يُرَى أُنْزِلَ فِي الْكِتَابِ ... مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ الصَّوَابِ خُذْ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فِي أَبْيَاتِ ... مَنْظُومَةٍ تَأْمَنُ مِنْ شَتَاتِ فَفِي الْمَقَامِ وَأُسَارَى بَدْرِ ... وَآيَتَيْ تَظَاهُرٍ وَسَتْرِ وَذِكْرِ جِبْرِيلَ لِأَهْلِ الْغَدْرِ ... وَآيَتَيْنِ أُنْزِلَا فِي الْخَمْرِ وَآيَةِ الصِّيَامِ فِي حِلِّ الرَّفَثْ ... وَقَوْلِهِ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ يُبَثْ وَقَوْلِهِ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى ... يُحَكِّمُوكَ إِذْ بِقَتْلٍ أَفْتَى وَآيَةٍ فِيهَا لِبَدْرٍ أَوْبَهْ ... وَلَا تَصِلْ آيَةً فِي التَّوْبَةْ وَآيَةٍ فِي النُّورِ هَذَا بُهْتَانُ ... وَآيَةٍ فِيهَا بِهَا الِاسْتِئْذَانُ وَفِي خِتَامِ آيَةٍ فِي الْمُؤْمِنِينَ ... تَبَارَكَ اللَّهُ بِحِفْظِ الْمُتَّقِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ فِي صِفَاتِ السَّابِقِينَ ... وَفِي سَوَاءِ آيَةِ الْمُنَافِقِينَ وَعَدَّدُوا مِنْ ذَاكَ نَسْخَ الرَّسْمِ ... لِآيَةٍ قَدْ نَزَلَتْ فِي الرَّجْمِ وَقَالَ قَوْلًا هُوَ فِي التَّوْرَاةِ قَدْ ... نَبَّهَهُ كعب عَلَيْهِ فَسَجَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وَفِي الْأَذَانِ الذِّكْرُ لِلرَّسُولِ ... رَأَيْتُهُ فِي خَبَرٍ مَوْصُولِ وَفِي الْقُرْآنِ جَاءَ بِالتَّحْقِيقِ ... مَا هُوَ مِنْ مُوَافِقِ الصِّدِّيقِ كَقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي ... عَلَيْكُمُ أَعْظِمْ بِهِ مِنْ فَضْلِ وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْمُجَادَلَهْ ... لَا تَجِدُ الْآيَةَ فِي الْمُخَالَلَهْ نَظَمْتُ مَا رَأَيْتُهُ مَنْقُولَا ... وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَى مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " الْغِنَاءُ يُنْبِتُ فِي الْقَلْبِ الْقَسْوَةَ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ " هَلْ وَرَدَ؟ الْجَوَابُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ ذَمِّ الْمَلَاهِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ» " وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لَفْظَةَ الْغِنَى بِالْقَصْرِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ غِنَى الْمَالِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ، وَصَوَّبَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ بِالْمَدِّ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّغَنِّي، وَلِهَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ ذَمِّ الْمَلَاهِي، وَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ هَذَا بِأَنَّ ابْنَ أَبِي الدُّنْيَا أَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا قَالَ: " الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ، وَالذِّكْرُ يُنْبِتُ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ " فَمُقَابَلَةُ الْغِنَاءِ بِالذِّكْرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّغَنِّي. مَسْأَلَةٌ: فِي مَجِيءِ المهدي مِنَ الْغَرْبِ، هَلْ وَرَدَ فِيهِ أَثَرٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ الْآنَ بِالْمَغْرِبِ صِحَّةٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ مَجِيئُهُ قَبْلَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ وَهَلْ نُزُولُ عِيسَى مُؤَقَّتٌ بِوَقْتٍ؟ وَهَلْ يُقِيمُ بِالدُّنْيَا إِذَا نَزَلَ وَيَتَزَوَّجُ وَيُولَدُ لَهُ وِلْدَانٌ يُسَمِّي أَحَدَهُمَا محمدا وَالْآخَرَ أبا موسى؟ وَيُدْفَنُ بِإِزَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَهَلِ الْمَقَالَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَ النَّاسِ: إِنَّهُ يَنْزِلُ بِالشَّامِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَإِنَّ بَغْلَةً تُشَدُّ لَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ انْتِظَارًا لِنُزُولِهِ، لَهَا صِحَّةٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ نُزُولُهُ قَبْلَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَوْ بَعْدَهُ؟ وَمَا طُولُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ؟ وَمِنْ أَيْنَ خُرُوجُهُمْ، وَمَا مِقْدَارُ إِقَامَتِهِمْ؟ وَمَا صِفَةُ الدَّابَّةِ الَّتِي تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَمِنْ أَيْنَ خُرُوجُهَا؟ وَأَيْنَ تَصِلُ؟ وَهَلْ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ عِيسَى أَوْ بَعْدَهُ؟ وَهَلِ الْحُورُ الْعِينُ وَالْمَلَائِكَةُ يَمُوتُونَ أَوْ لَا؟ وَمَنْ يَتَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ؟ الْجَوَابُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ: الْأَحَادِيثُ فِي الْمَهْدِيِّ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَفِي بَعْضِهَا: " «لَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» "، وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، ثُمَّ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ فاطمة، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ العباس، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَمَلَهُ عَلَى الْمَهْدِيِّ ثَالِثِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ الَّذِي تَوَلَّى الْخِلَافَةَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي، وَالَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدِي مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ خَلِيفَةٌ يَقُومُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ فاطمة، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَأَنَّهُ يُبَايَعُ لَهُ بِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَأَنَّهُ يَدْخُلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهُ يَمْكُثُ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَنَّهُ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَتِلُونَ عَلَى الْمُلْكِ فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَمِيرُكُمْ فُلَانٌ، فَيُبَايِعُونَ لَهُ، وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْآنَ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَوْجُودٌ الْآنَ بِالْمَغْرِبِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ فِي حَيَاتِهِ فَيُسَلِّمُ المهدي الْأَمْرَ لَهُ، وَنُزُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتٍ وَهُوَ خُرُوجُ الدجال، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ فِي أَيَّامِهِ وَيَقْتُلُهُ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَمْكُثُ سَبْعَ سِنِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُ يَتَزَوَّجُ وَيُولَدُ لَهُ وَيَحُجُّ وَيُدْفَنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تَرِدْ تَسْمِيَةُ وَلَدِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّهُ يَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ. وَأَمَّا شَدُّ الْبَغْلَةِ كُلَّ جُمُعَةٍ فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَنُزُولُهُ قَبْلَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَإِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي أَوَاخِرِ أَيَّامِهِ. وَأَمَّا طُولُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَفِي أَثَرٍ أَخْرَجَهُ ابن المنذر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا أَنَّهُمْ شِبْرٌ وَشِبْرَانِ وَثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ. وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُمْ أَصْنَافٌ: صِنْفٌ مِنْهُمْ طُولُ الْأَرْزِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يَفْتَرِشُ بِأُذُنِهِ وَيَلْتَحِفُ بِالْأُخْرَى، وَأَمَّا خُرُوجُهُمْ فَمِنْ خَلْفِ السَّدِّ أَقْصَى بِلَادِ التُّرْكِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مُقَدِّمَتَهُمْ بِالشَّامِ وَسَاقَتَهُمْ بِخُرَاسَانَ، وَأَمَّا مُدَّةُ إِقَامَتِهِمْ فَيَسِيرَةٌ فَإِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي زَمَنِ عِيسَى وَيَهْلِكُونَ فِي زَمَنِهِ، وَأَمَّا صِفَةُ الدَّابَّةِ فَذَاتُ زَغَبٍ وَرِيشٍ، لَهَا أَرْبَعَةُ قَوَائِمَ، وَمَسَافَةُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهَا مَسِيرَةُ فَرْسَخٍ لِلرَّاكِبِ، وَخُرُوجُهَا مِنْ صَدْعٍ فِي الصَّفَا بِمَكَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ بَعْضِ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ، فَتَدُورُ الْأَرْضَ بِأَسْرِهَا، وَاخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ هَلْ خُرُوجُهَا قَبْلَ نُزُولِ عِيسَى أَوْ بَعْدَهُ. وَأَمَّا الْحُورُ الْعِينُ وَالْوِلْدَانُ وَزَبَانِيَةُ النَّارِ فَلَا يَمُوتُونَ، وَهُمْ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] ، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَيَمُوتُونَ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، وَيَتَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَيَمُوتُ مَلَكُ الْمَوْتِ بِلَا مَلَكِ الْمَوْتِ. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَسْئِلَةِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ، وَسَرْدُ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ وَالْأَحَادِيثِ يَحْتَمِلُ كَرَارِيسَ كَثِيرَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الطَّاعُونَ وَخْزُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ هَذَا الْأَمْرِ مِنَ الْإِخْوَانِ؟ وَكَيْفَ سُمُّوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِخْوَانًا، وَكَذَا فِي حَدِيثِ الْعَظْمِ؟ وَلَيْسُوا مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهَلْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ شَهَادَةً مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 مِنْهُ؟ وَهَلْ وُجِدَتْ أَدْعِيَةٌ تَمْنَعُ مِنْهُ؟ وَهَلْ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْلَفْ صِحَّةٌ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْمَحْفُوظُ فِي الْحَدِيثِ: " «وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» " هَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وأبو يعلى فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ أبو يعلى مِنْ حَدِيثِ عائشة، كُلُّهُمْ بِلَفْظِ: " أَعْدَائِكُمْ " وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: إِخْوَانِكُمْ، قَالَ الحافظ ابن حجر فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: يَقَعُ فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ بِلَفْظِ: وَخْزُ إِخْوَانِكُمْ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ بَعْدَ التَّتَبُّعِ الطَّوِيلِ التَّامِّ، لَا فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ وَلَا فِي الْأَجْزَاءِ الْمَنْثُورَةِ، فَزَالَ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُمْ إِخْوَانًا فِي حَدِيثِ الْعَظْمِ فَبِاعْتِبَارِ الْإِيمَانِ ; فَإِنَّ الْأُخُوَّةَ فِي الدِّينِ لَا تَسْتَلْزِمُ الِاتِّحَادَ فِي الْجِنْسِ. وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَ مِنْهُ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا وَرَدَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْهُ، بَلِ الْوَارِدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا بِهِ وَطَلَبَهُ لِأُمَّتِهِ، فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " «اللَّهُمَّ طَعْنًا وَطَاعُونًا» " أَخْرَجَهُ أبو يعلى، وَأَخْرَجَ أحمد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: " «إِنَّ الطَّاعُونَ شَهَادَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ» " قَالَ أبو قلابة: فَعَرَفْتُ الشَّهَادَةَ وَعَرَفْتُ الرَّحْمَةَ، وَلَمْ أَدْرِ مَا دَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ حَتَّى أُنْبِئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي إِذْ قَالَ فِي دُعَائِهِ: " «فَحُمَّى إِذَنْ وَطَاعُونًا» " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ سَمِعْتُكَ اللَّيْلَةَ تَدْعُو بِدُعَاءٍ؟ قَالَ: وَسَمِعْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا غَيْرَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأَبَى عَلَيَّ، فَقُلْتُ: فَحُمَّى إِذَنْ أَوْ طَاعُونًا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَأَخْرَجَ أحمد وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّهُمَّ [اجْعَلْ] فَنَاءَ أُمَّتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ» " وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ دَعَا بِهِ، لَا أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْهُ، وَلَمْ يَرِدْ دُعَاءٌ يَمْنَعُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ أَصْلًا، وَلَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْلَفُ تَحْتَ الْأَرْضِ أَوْ لَا يُؤْلَفُ. مَسْأَلَةٌ وَرَدَتْ نَظْمًا: أَظُنُّ النَّاسَ بِالْآثَامِ بَاءُوا ... فَكَانَ جَزَاءَهُمْ هَذَا الْوَبَاءُ أَسَيِّدٌ مَنْ لَهُ قَانُونُ طِبٍّ ... بِحِيلَةِ بُرْئِهِ يُرْجَى الشِّفَاءُ أَآجَالُ الْوَرَى مُتَقَارِبَاتٌ ... بِهَذَا الْفَصْلِ أَمْ فَسَدَ الْهَوَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أَمِ الْأَفْلَاكُ أَوْجَبَتِ اتِّصَالًا ... بِهِ فِي النَّاسِ قَدْ عَاثَ الْفَنَاءُ أَمِ اسْتِعْدَادُ أَمْزِجَةٍ جَفَاهَا ... جَمِيلُ الطَّبْعِ وَاخْتَلَفَ الْغِذَاءُ أَمِ اقْتَرَبَتْ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ ... عَقَائِدُنَا فَلِلزَّمَنِ انْقِضَاءُ أَفِدْنَا مَا حَقِيقَةُ مَا نَرَاهُ ... فَمَا الْأَذْهَانُ أَحْرُفُهَا سَوَاءُ وَقُلْ مَا صَحَّ عِنْدَكَ عَنْ يَقِينٍ ... بِحَقٍّ لَا يُعَارِضُهُ رِيَاءُ فَإِنِّي غَيْرُ مُفْشٍ سِرَّ حَبْرٍ ... مِنَ الْمُتَشَرِّعِينَ بِهِ حَيَاءُ وَلَا تُخْلِ الْأَحِبَّةَ مِنْ دُعَاءٍ ... فَمِنْكَ الْيَوْمَ يُلْتَمَسُ الدُّعَاءُ الْجَوَابُ: بِحَمْدِ اللَّهِ يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ ... وَلِلْمُخْتَارِ يَنْعَطِفُ الثَّنَاءُ سَأَلْتَ فَخُذْ جَوَابَكَ عَنْ يَقِينٍ ... فَمَا أَوْرَدْتَ عِنْدَهُمُ هَبَاءُ فَمَا الطَّاعُونُ أَفْلَاكًا وَلَا إِذْ ... مِزَاجٌ سَاءَ أَوْ فَسَدَ الْهَوَاءُ رَسُولُ اللَّهِ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا ... بِوَخْزِ الْجِنِّ يَطْعَنُنَا الْعَدَاءُ يُسَلِّطُهُمْ إِلَهُ الْخَلْقِ لَمَّا ... بِهِمْ تَفْشُو الْمَعَاصِي وَالزِّنَاءُ يَكُونُ شَهَادَةً فِي أَهْلِ خَيْرٍ ... وَرِجْسًا لِلْأُلَى بِالشَّرِّ بَاءُوا أَتَانَا كُلُّ هَذَا فِي حَدِيثٍ ... صَحِيحٍ مَا بِهِ ضَعْفٌ وَدَاءُ وَمَنْ يَتْرُكْ حَدِيثًا عَنْ نَبِيٍّ ... كَمَا قَالَ الْفَلَاسِفَةُ الْجَفَاءُ فَذَلِكَ مَا لَهُ فِي الْعَقْلِ حَظٌّ ... وَمِنْ دِينِ النَّبِيِّ هُوَ الْبَرَاءُ وَنَاظِمُهُ ابْنُ الْأَسْيُوطِيِّ يَدْعُو ... بِكَشْفِ الْكَرْبِ إِنْ نَفَعَ الدُّعَاءُ مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَدِيثِ الَّذِي وَرَدَ: «لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13] بَكَى عمر وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَمَنْ يَنْجُو مِنَّا قَلِيلٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39] ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر فَقَالَ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا قُلْتَ، فَقَالَ عمر: رَضِينَا عَنْ رَبِّنَا وَتَصْدِيقِ نَبِيِّنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ آدَمَ إِلَيْنَا ثُلَّةٌ، وَمِنِّي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُلَّةٌ، فَلَا يَسْتَتِمُّهَا إِلَّا أَسْوَدَانِ مِنْ رُعَاةِ الْإِبِلِ مِمَّنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ الواحدي فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مَقْطُوعًا هَكَذَا بِلَا إِسْنَادٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ ابن عساكر فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ عبد ربه بن صالح، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: 1] ذُكِرَ فِيهَا: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13] قَالَ عمر: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَّا؟ قَالَ: فَأُمْسِكَ آخِرُ السُّورَةِ سَنَةً، ثُمَّ نَزَلَ: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عمر تَعَالَ فَاسْمَعْ مَا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39] أَلَا وَإِنَّ مِنْ آدَمَ إِلَيَّ ثُلَّةٌ، وَأُمَّتِي ثُلَّةٌ، وَلَنْ تُسْتَكْمَلَ ثُلَّتُنَا حَتَّى نَسْتَعِينَ بِالسُّودَانِ مِنْ رُعَاةِ الْإِبِلِ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» ، فَقَوْلُهُ: بِالسُّودَانِ هُوَ جَمْعُ أَسْوَدَ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي السُّؤَالِ: إِلَّا سُودَانٌ هِيَ إِلَّا الَّتِي لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَسُودَانٌ جَمْعُ أَسْوَدَ، وَلَيْسَ تَثْنِيَةَ أَسْوَدَ مُعَرَّفًا كَمَا ظُنَّ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الدُّرَّةِ الْفَاخِرَةِ فِي كَشْفِ عُلُومِ الْآخِرَةِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَوْتِ: وَذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَكَّلَ أَعْوَانَهُ وَاسْتَعْمَلَهُمْ بِالْمَيِّتِ، فَيَأْتُونَهُ عَلَى صِفَةِ أَبَوَيْهِ عَلَى صِفَةِ الْيَهُودِيَّةِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مُتْ يَهُودِيًّا، فَإِنِ انْصَرَفَ عَنْهُمْ جَاءَ أَقْوَامٌ آخَرُونَ عَلَى صِفَةِ النَّصَارَى، حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهِ كُلُّ عَقَائِدِ كُلِّ مِلَّةٍ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ فَيَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَجُنْدَهُ، فَيَبْتَسِمُ الْمَيِّتُ وَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِكَ فِي دَارِ غُرْبَتِي؟ فَيَقُولُ: أَنَا جِبْرِيلُ، وَهَؤُلَاءِ أَعْدَاؤُكَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، مُتْ عَلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ وَالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَمَا شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى الْإِنْسَانِ وَأَفْرَحَ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] . وَقَالَ رَجُلٌ: الدُّرَّةُ الْفَاخِرَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْغَزَالِيِّ، وَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِحْيَاءِ، وَإِنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: أَجِدُنِي يَا أَمِينَ اللَّهِ وَجِعًا، مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ قَالَ: مَلَكُ الْمَوْتِ، وَهَذَا آخِرُ عَهْدِي بِالدُّنْيَا بَعْدَكَ وَآخِرُ عَهْدِكَ بِهَا، وَلَنْ آسَى عَلَى شَيْءٍ هَالِكٍ مِنْ بَنِي آدَمَ بَعْدَكَ، وَلَنْ أَهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَكَ لِأَحَدٍ أَبَدًا. فَهَلِ الدُّرَّةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْغَزَالِيِّ أَمْ لَا؟ وَهَلِ الْحَدِيثُ الْمُعَارِضُ لَهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عِنْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُرَدُّ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ بِالْحَدِيثِ الْمُعَارِضِ أَمْ لَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الْجَوَابُ: أَمَّا الْمَذْكُورُ أَوَّلًا مِنْ فِتْنَةِ الْمَوْتِ إِلَى آخِرِهِ، فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ هَكَذَا، وَإِنَّمَا وَرَدَ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ، فَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «احْضُرُوا مَوْتَاكُمْ وَلَقِّنُوهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَبَشِّرُوهُمْ بِالْجَنَّةِ؛ فَإِنَّ الْحَلِيمَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَتَحَيَّرُونَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَصْرَعِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ مِنِ ابْنِ آدَمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَصْرَعِ» "، وَأَخْرَجَ الحارث بن أبي أسامة فِي مُسْنَدِهِ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مُعَالَجَةُ مَلَكِ الْمَوْتِ أَشَدُّ مِنْ أَلْفِ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ، وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ إِلَّا وَكُلُّ عِرْقٍ مِنْهُ يَأْلَمُ عَلَى حِدَةٍ، وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْهُ تِلْكَ السَّاعَةَ» " مُرْسَلٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مُرْسَلًا نَحْوَهُ، فَهَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى حُضُورِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَمَّا حُضُورُ جِبْرِيلَ فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ «عَنْ ميمونة بنت سعد قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَنَامُ الْجُنُبُ؟ قَالَ: " مَا أُحِبُّ أَنْ يَنَامَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ؛ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُتَوَفَّى فَلَا يَحْضُرُهُ جِبْرِيلُ» ، دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْضُرُ الْمَوْتَى، خُصُوصًا مَنْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْهُ أَنَّ طَهَارَةَ الْجَنَابَةِ كَافِيَةٌ فِي حُضُورِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ طَهَارَةُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَأَنَّ الْجُنُبَ إِذَا تَوَضَّأَ يُرْجَى لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ وَحُضُورُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الدُّرَّةَ الْفَاخِرَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْغَزَالِيِّ، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْأَكَابِرُ، مِنْهُمُ القرطبي فِي التَّذْكِرَةِ، وَيَنْقُلُ مِنْهَا الصَّفْحَةَ وَالْوَرَقَةَ بِحُرُوفِهَا، وَمِنْهُمْ خَاتِمَةُ الْحُفَّاظِ أبو الفضل ابن حجر فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ. نَعَمِ الدُّرَّةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَلْفَاظٍ رَكِيكَةٍ وَأَشْيَاءَ غَيْرِ مُسْتَقِيمَةِ الْإِعْرَابِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَغْيِيرِ النُّسَّاخِ لِكَثْرَةِ تَدَاوُلِ أَيْدِي الْعَوَامِّ عَلَيْهَا، فَزَادُوا فِيهَا وَنَقَصُوا وَحَرَّفُوا وَغَيَّرُوا، وَقَدْ نَقَلَ الحافظ ابن حجر فِي التَّخْرِيجِ عَنْهَا شَيْئًا لَيْسَ مَوْجُودًا فِيهَا الْآنَ، فَكَأَنَّهُ مِمَّا أَسْقَطَهُ النُّسَّاخُ، وَقَدْ أَمْلَيْتُ عَلَيْهَا تَخْرِيجًا فِي خَمْسِينَ مَجْلِسًا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، حَرَّرْتُ فِيهِ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَبَيَّنْتُ مَا لَهُ أَصْلٌ وَمَا لَا أَصْلَ لَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْوَفَاةِ وَقَوْلُ جِبْرِيلَ: هَذَا آخِرُ وَطْأَتِي بِالْأَرْضِ، فَضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُعَارَضَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ عَهْدِهِ بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ. وَأَمَّا نُزُولُهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فَذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] قَالُوا: الْمُرَادُ بِالرُّوحِ جِبْرِيلُ، وَرَوَى فِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 " «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي كَبْكَبَةٍ مِنَ السَّمَاءِ يُصَلُّونَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى» ". وَأَمَّا نُزُولُهُ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ النواس بن سمعان قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدجال، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قِصَّةِ الدجال وَنُزُولَ عِيسَى وَقَتْلَهُ إِيَّاهُ، قَالَ: " «فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ فِي قِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» " الْحَدِيثَ، فَقَوْلُهُ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى، ظَاهِرٌ فِي نُزُولِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهَلْ يُرَدُّ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ بِالْحَدِيثِ الْمُعَارِضِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَصْلًا، ثُمَّ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ. مَسْأَلَةٌ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ. الْجَوَابُ: الْجَدُّ، بِفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَمَعْنَاهُ فِيمَا ذَكَرَ الخطابي: الْغِنَى، وَفِيمَا ذَكَرَ غَيْرُهُ: الْحَظُّ، قَالَ الخطابي: وَ (مِنْ) هُنَا بِمَعْنَى الْبَدَلِ، وَالْمَعْنَى لَا يَنْفَعُ صَاحِبَ الْغِنَى غِنَاهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ الجوهري فِي الصِّحَاحِ: (مِنْكَ) هُنَا بِمَعْنَى عِنْدَكَ، أَيْ: لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى عِنْدَكَ غِنَاهُ، إِنَّمَا يَنْفَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَالَ ابن التين: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى الْبَدَلِ وَلَا بِمَعْنَى عِنْدَ، بَلْ هُوَ كَمَا تَقُولُ: لَا يَنْفَعُكَ مِنِّي شَيْءٌ إِنْ أَنَا أَرَدْتُكَ بِسُوءٍ، وَأَوْضَحَهُ ابن دقيق العيد فَقَالَ: يَنْفَعُ هُنَا قَدْ ضُمِّنَ مَعْنَى يَمْنَعُ وَمَا قَارَبَهُ، وَ (مِنْ) مُتَعَلِّقٌ بِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلَا يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِالْجَدِّ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ مِنْهُ تَعَالَى نَافِعٌ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا (فَمِنْ) لِلتَّعْدِيَةِ أَوْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ مَا حَكَاهُ الرَّاغِبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَدِّ هُنَا أَبُو الْأَبِ، أَيْ لَا يَنْفَعُ أَحَدًا نَسَبُهُ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا حَكَاهُ القرطبي عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ الْجِدُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُ ذَا الِاجْتِهَادِ اجْتِهَادُهُ، وَأَنْكَرَهُ الطَّبَرِيُّ، وَوَجَّهَ القزاز إِنْكَارَهُ بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْعَمَلِ نَافِعٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ دَعَا الْخَلْقَ إِلَى ذَلِكَ، فَكَيْفَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَهُ؟ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَتَضْيِيعَ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ بِمُجَرَّدِهِ مَا لَمْ يُقَارِنْهُ الْقَبُولُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا وَرَدَ: " «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ» " وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ: السَّعْيُ التَّامُّ فِي الْحِرْصِ، أَوِ الْإِسْرَاعُ فِي الْهَرَبِ، قَالَ النووي: الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 الْحَظُّ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ أَوِ الْوَلَدِ أَوِ الْعَظَمَةِ أَوِ السُّلْطَانِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُنْجِيهِ حَظُّهُ مِنْكَ وَإِنَّمَا يُنْجِيهِ فَضْلُكَ وَرَحْمَتُكَ. مَسْأَلَةٌ: مَاذَا الْجَوَابُ مِنَ الْبَحْرِ الْمُفِيدِ لَنَا ... فِي مُشْكِلٍ وَإِلَيْهِ يُهْرَعُ الْبَشَرُ عِنْدَ الْحَوَادِثِ أَنْ قَالَ الْأَكَابِرُ لَا ... تُفْتَى وَقَصَّرَ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ نَظَرُ فِي الْكَاسِ وَالطَّاسِ وَالسَّاقِي وَشَارِبِهِمْ ... وَفِي النَّدِيمِ وَقَوْلٍ قَالَهُ عمر أَعْنِي بِهِ الْعَالِمَ الْمَعْرُوفَ نِسْبَتُهُ ... لِفَارِضٍ قَبْرُهُ بِالسُّحْبِ مُنْهَمِرُ فِي سَقْيِهِ مِنْ حُمَيَّا كَأْسِ خَمْرَتِهِ ... مَا الصَّفْوُ مَا سُقْيُهُ مَا الْكَاسُ مَا الْخَمْرُ وَأَهْلُ مَكَّةَ قَالُوا فِي سُؤَالِهِمُ ... بِالْهَاشِمِيِّ الْمُصْطَفَى لَمَّا لَهُ حَضَرُوا قُبَيْلَ خَلْقِ السَّمَا وَالْأَرْضِ أَيْنَ ثَوَى ... إِلَهُكَ الْحَقُّ يَا مُخْتَارُ يَا طَهِرُ أَجَابَهُمْ فِي عَمَاءٍ كَانَ وَهْوَ كَذَا ... مَا هُوَ الْعَمَاءُ وَمَا مَعْنَاهُ يَا مَهِرُ وَمَنْ تَوَالَدَ مَخْتُونًا وَعِدَّتُهُمْ ... فِي الْأَنْبِيَاءِ سِوَى طَهَ وَهَلْ حُصِرُوا بِالْفَضْلِ مِنْكَ أَجِبْ هَذَا السُّؤَالَ بَدَا ... قَدِمًا تَصَوُّرُهُ بِالنَّقْلِ مُشْتَهِرُ بَيْنَ الْأَكَابِرِ لَكِنْ لَا جَوَابَ لَهُمْ ... عَلَيْهِ يَا عَالِمًا أَلْفَاظُهُ دُرَرُ وَحَازَ كُلَّ فَخَارٍ بِالْعُلُومِ وَقَدْ ... أَضْحَتْ بِهِ مِصْرُ تَزْهُو ثُمَّ تَفْتَخِرُ الْجَوَابُ: أَمَّا قَوْلُ وَلِيِّ اللَّهِ الشَّيْخِ [الْعَارِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى] عُمَرَ بْنِ الْفَارِضِ، فَلَا نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَاهُ فَلْيَجُعْ جُوعَهُ وَيَسْهَرْ سَهَرَهُ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَهُوَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُخَاضُ فِي مَعْنَاهُ، قَالَ أبو عبيد فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ: لَا نَدْرِي كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَاءُ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ أَمْرٍ لَا تُدْرِكُهُ عُقُولُ بَنِي آدَمَ وَلَا يَبْلُغُ كُنْهَهُ الْوَصْفُ وَالْفَطِنُ، وَقَالَ الأزهري: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَيِّفُهُ بِصِفَةٍ. وَأَمَّا مَنْ خُلِقَ مَخْتُونًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَسَبْعَةَ عَشَرَ: آدَمُ وَشِيثُ وَإِدْرِيسُ وَنُوحٌ وَسَامٌ وَلُوطٌ وَيُوسُفُ وَمُوسَى وَشُعَيْبٌ وَسُلَيْمَانُ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وحنظلة بن صفوان، وَخَاتَمُهُمْ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «اللَّهُمَّ مَنْ دَعَوْتُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَاجْعَلْهُ رَحْمَةً لَهُ» " وَمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقِ اللَّهُمَّ عَلَيْهِ» " فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ وَيُؤَوَّلُ إِلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ لَا يَدْعُو لِمَنْ يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 الْجَوَابُ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ بِلَفْظِ: " «اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا أَنْ لَا تُخْلِفَنِيهِ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَصَلَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " وَأَخْرَجَ أحمد فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ إِلَى حفصة رَجُلًا وَقَالَ: احْتَفِظِي بِهِ، فَغَفَلَتْ عَنْهُ وَمَضَى فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَطَعَ اللَّهُ يَدَكِ " فَفَزِعَتْ فَقَالَ: " إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَيُّمَا إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ مَغْفِرَةً» قَالَ ابن العاص مِنْ أَصْحَابِنَا وَتَبِعَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ شَاءَ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَيَكُونُ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى الْوَالِي إِذَا شَقَّ وَنَحْوَهُ دُعَاءٌ بِسَبَبٍ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ بِالْأَوَّلِ الدُّعَاءُ عَلَى مُعَيَّنٍ وَهَذَا عَلَى مُبْهَمٍ. مَسْأَلَةٌ: " «أَذِيبُوا طَعَامَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ، وَلَا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ» " هَلْ هُوَ وَارِدٌ؟ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ نجم الدين الْكَبْرَا أَنَّ الذِّكْرَ يَقْطَعُ لُقَيْمَاتِ الْحَرَامِ، هَلْ لَهُ مَحْمَلٌ؟ وَهَلْ هُوَ جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَارِدٌ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةً مِنْ حَدِيثِ عائشة مَرْفُوعًا، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ نجم الدين الْكَبْرَا جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى لُقَيْمَاتٍ يَسِيرَةٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ: لُقَيْمَاتٌ - بِالتَّصْغِيرِ - يَأْكُلُهَا الْإِنْسَانُ فِي وَقْتِ غَلَبَةِ الْحَرَامِ عَلَى الدُّنْيَا، كَمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُبَاحُ لَهُ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابن عبد السلام وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَوْ عَمَّ الْحَرَامُ الدُّنْيَا جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ قَدْرَ الْقُوتِ، كَمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَفِي مَعْنَاهُ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا دَمًا عَبِيطًا كَانَ قُوتُ الْمُؤْمِنِ مِنْهَا حَلَالًا، وَمَعَ كَوْنِهِ مُبَاحًا مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ فَإِنَّهُ يُورِثُ ظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] فَالذِّكْرُ يُنَوِّرُهُ وَيَمْحَقُ تِلْكَ الظُّلْمَةَ كَمَا أَنَّ الدَّوَاءَ يُذْهِبُ الْأَخْلَاطَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنَ الْغِذَاءِ الْمَذْمُومِ وَيَقْطَعُهَا {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] . مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ " «مَرَّ بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَى عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ» " إِلَى آخِرِهِ، هَلْ هُوَ صَحِيحٌ يُعْمَلُ بِظَاهِرِهِ؟ وَهَلْ يَكُونُ ثَنَاءُ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مُوجِبًا لِلْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ بِحَسَبِ الثَّنَاءِ؟ أَوِ الْعِبْرَةُ بِثَنَاءِ الْأَكْثَرِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 الْجَوَابُ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الثَّنَاءُ مِنْ عَدْلٍ خَيِّرٍ صَالِحٍ لِلتَّزْكِيَةِ، كَذَا حَمَلَ الْعُلَمَاءُ الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ ثَنَاءُ مَنْ ذُكِرَ مُوجِبًا لِذَاتِهِ بَلْ عَلَامَةٌ عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ثَنَاءِ الْأَكْثَرِ، بَلْ ثَنَاءُ الِاثْنَيْنِ كَافٍ، وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَفِي حِفْظِي أَنْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَنَّهُ يَكْفِي ثَنَاءُ الْوَاحِدِ أَيْضًا، وَلَا يَحْضُرُنِي الْآنَ مَنْ خَرَّجَهُ لِأَنِّي كَتَبْتُ هَذِهِ الْأَحْرُفَ عَلَى عَجَلٍ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] قَالَ: سَبْعُ أَرَضِينَ، فِي كُلِّ أَرْضٍ نَبِيٌّ كَنَبِيِّكُمْ، وَآدَمُ كَآدَمِكُمْ وَنُوحٌ كَنُوحِكُمْ وَإِبْرَاهِيمُ كَإِبْرَاهِيمِكُمْ وَعِيسَى كَعِيسَاكُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنِّي لَا أَعْلَمُ لِأَبِي الضُّحَى مُتَابِعًا، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَهَلْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنَ الْبَشَرِ أَوْ مِنَ الْجِنِّ أَوْ خَلْقٌ آخَرُ؟ وَهَلْ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ مُقَارِنًا لِمِثْلِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ الْبَشَرِ فِي الزَّمَانِ أَمْ كَيْفَ الْحَالُ؟ الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ بِمَرَّةٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ صِحَّةُ الْمَتْنِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِحَّ الْإِسْنَادُ وَيَكُونُ فِي الْمَتْنِ شُذُوذٌ أَوْ عِلَّةٌ تَمْنَعُ صِحَّتَهُ، وَإِذَا تَبَيَّنَ ضَعْفُ الْحَدِيثِ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَأْوِيلِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَقَامِ لَا تُقْبَلُ فِيهِ الْأَحَادِيثُ الضَّعِيفَةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ النُّذُرُ الَّذِينَ كَانُوا يُبَلِّغُونَ الْجِنَّ عَنْ أَنْبِيَاءِ الْبَشَرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمَّى كُلٌّ مِنْهُمْ بِاسْمِ النَّبِيِّ الَّذِي بَلَّغَ عَنْهُ. مَسْأَلَةٌ: هَلْ تَنَامُ الْمَلَائِكَةُ؟ الْجَوَابُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] أَنَّهُمْ لَا يَنَامُونَ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْحَدِيثِ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ، قَالَ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ: أَنَا أبو الحسن علي بن الحسن بن الحسين وَأَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَا: أَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، ثَنَا أبو الفتح المظفر بن أحمد بن برهان المقري، ثَنَا أبو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 محمد بن أيوب الداراني، ثَنَا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني، ثَنَا سليمان بن عبد الرحمن، حَدَّثَنِي عثمان بن حصن بن عبيدة بن علاق، قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ رُوَيْمٍ اللَّخْمِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: رَبَّنَا خَلَقْتَنَا وَخَلَقْتَ بَنِي آدَمَ، فَجَعَلْتَهُمْ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُونَ الشَّرَابَ وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ وَيَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ وَيَنَامُونَ وَيَسْتَرِيحُونَ، وَلَمْ تَجْعَلْ لَنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَاجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلَقْتُهُ بِيَدِي وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ فَكَانَ» . مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَنْ تَجْعَلَنِي فِي حِرْزِكَ وَحِفْظِكَ وَجِوَارِكَ وَتَحْتَ كَنَفِكَ. الْجَوَابُ: أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَدْعُو، فَذَكَرَهُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مَرْفُوعًا. مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ فِي تَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ شَيْءٌ؟ وَهَلْ يَقْرَأُ عِنْدَ تَسْرِيحِهَا شَيْئًا؟ الْجَوَابُ: وَرَدَ فِي تَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ أَحَادِيثُ، أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ [الْقِنَاعَ، يَعْنِي] التَّطَيْلُسَ، وَيُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ، وَيُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ بِالْمَاءِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ» . وَأَخْرَجَ الخطيب فِي الْجَامِعِ مِنْ حَدِيثِ الحسن مُرْسَلًا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ بِالْمُشْطِ» . وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عِنْدَ تَسْرِيحِهَا فَلَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ وَلَا أَثَرٌ. مَسْأَلَةٌ: فِي حَدِيثِ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحَفَظَةَ أَنْ لَا تَكْتُبَ عَلَيْهِ سَيِّئَةً ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ، هَلْ وَرَدَ؟ الْجَوَابُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 [إِعْمَالُ الْفِكْرِ فِي فَضْلِ الذِّكْرِ] مَسْأَلَةٌ فِي الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ: هَلْ هُوَ مُعَادِلٌ لِلصَّدَقَةِ وَيَقُومُ مَقَامَهَا فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ؟ الْجَوَابُ: الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ وَفِي تَفْضِيلِهِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ سَبَبًا لِدَفْعِ الْبَلَاءِ فَهُوَ أَمْرٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ لَا تُحْصَى فِي أَذْكَارٍ مَخْصُوصَةٍ مَنْ قَالَهَا عُصِمَ مِنَ الْبَلَاءِ وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَمِنَ الضُّرِّ وَمِنَ السُّمِّ وَمِنْ لَذْعَةِ الْعَقْرَبِ، وَمِنْ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَكِتَابُ الْأَذْكَارِ لِلشَّيْخِ محيي الدين النووي مَشْحُونٌ بِذَلِكَ، وَكَذَا كِتَابُ الدُّعَاءِ لِلطَّبَرَانِيِّ وَلِلْبَيْهَقِيِّ، فَلَا مَعْنَى لِلْإِطَالَةِ بِذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ فِي لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، أَنَّهَا تَدْفَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الضُّرِّ أَدْنَاهَا الْفَقْرُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَدْنَاهَا الْهَمُّ، وَأَخْرَجَ الحاكم وَصَحَّحَهُ عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ» وَأَخْرَجَ الحاكم أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عائشة مَرْفُوعًا: «الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ أبو داود وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سويد بن جميل قَالَ: مَنْ قَالَ بَعْدَ الْعَصْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قَاتَلْنَ عَنْ قَائِلِهِنَّ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْغَدِ، وَأَخْرَجَ إسحاق بن راهويه فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أُتِيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بِغُرَابٍ وَافِرِ الْجَنَاحَيْنِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَا صِيدَ صَيْدٌ وَلَا عُضِدَتْ عِضَاهٌ وَلَا قُطِعَتْ وَشِيجَةٌ إِلَّا بِقِلَّةِ التَّسْبِيحِ " وَأَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ مِنْ طَرِيقِ ابن عون بن مهران عَنْ أبي بكر مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وأبو الشيخ فِي الْعَظَمَةِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: «مَا أُخِذَ طَائِرٌ وَلَا حُوتٌ إِلَّا بِتَضْيِيعِ التَّسْبِيحِ» ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «آجَالُ الْبَهَائِمِ كُلِّهَا وَخَشَاشِ الْأَرْضِ فِي التَّسْبِيحِ، فَإِذَا انْقَضَى تَسْبِيحُهَا قَبَضَ اللَّهُ أَرْوَاحَهَا» وَمِنْ حَدِيثِ يزيد بن مرثد مَرْفُوعًا: «لَا يُصَادُ شَيْءٌ مِنَ الطَّيْرِ وَالْحِيتَانِ إِلَّا بِمَا يَضِيعُ مِنْ تَسْبِيحِ اللَّهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وَأَمَّا تَفْضِيلُ الذِّكْرِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ، فَمِنَ الْمَوْقُوفَةِ مَا أَخْرَجَهُ الحاكم وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعُهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ» وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سُئِلَ: أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً» وَأَخْرَجَ الحاكم عَنِ البراء مَرْفُوعًا: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَهُوَ كَعِتْقِ نَسَمَةٍ» وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ مُنْذُ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» . فَفِي هَذَيْنِ عَدْلُ الذِّكْرِ بِالْعِتْقِ وَتَفْضِيلُهُ عَلَيْهِ. وَمِنَ الْمَوْقُوفَاتِ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " لَأَنْ أُسَبِّحَ تَسْبِيحَاتٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُنْفِقَ بِعَدَدِهِنَّ دَنَانِيرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". وَأَخْرَجَ عَنْهُ قَالَ: " لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِعَدَدِهَا دَنَانِيرَ "، وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: " لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْمِلَ عَلَى عِدَّتِهَا مِنْ خَيْلٍ بِأَرْسَانِهَا " وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " ذِكْرُ اللَّهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ أَعْظَمُ مِنْ حَطْمِ السُّيُوفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِعْطَاءِ الْمَالِ سَحًّا " وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: " لَأَنْ أُسَبِّحَ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ "، وَأَخْرَجَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا يَحْمِلُ عَلَى الْجِيَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْآخَرُ يَذْكُرُ اللَّهَ، لَكَانَ الذَّاكِرُ أَعْظَمَ وَأَفْضَلَ أَجْرًا. وَأَخْرَجَ عَنْهُ قَالَ: " لَأَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ مِنْ غَدْوَةٍ حَتَّى تَطَلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْمِلَ عَلَى الْجِيَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَأَخْرَجَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: " لَوْ بَاتَ رَجُلٌ يُعْطِي الْقِيَانَ الْبِيضَ وَبَاتَ آخَرُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَوْ يَذْكُرُ اللَّهَ، لَرَأَيْتُ أَنَّ ذَاكِرَ اللَّهِ أَفْضَلُ "، وَأَخْرَجَ عَنِ ابن عمرو قَالَ: " لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَقْبَلَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ مِنَ الْمَغْرِبِ، مَعَ أَحَدِهِمَا ذَهَبٌ لَا يَضَعُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا فِي حَقٍّ، وَالْآخَرُ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى يَلْتَقِيَا فِي طَرِيقٍ، كَانَ الَّذِي يَذْكُرُ اللَّهَ أَفْضَلَهُمَا " فَهَؤُلَاءِ سَبْعُ صَحَابَةٍ صَرَّحُوا بِتَفْضِيلِ الذِّكْرِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَمِنْ أَقْوَالِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أبي الأحوص قَالَ: " لَتَسْبِيحَةٌ فِي طَلَبِ حَاجَةٍ خَيْرٌ مِنْ لَقُوحٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 صَفِيٍّ فِي عَامِ أَزْبَةٍ أَوْ لَزْبَةٍ "، وَأَخْرَجَ عَنْ أبي بردة قَالَ: " لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي حِجْرِهِ دَنَانِيرُ يُعْطِيهَا وَالْآخَرُ يَذْكُرُ اللَّهَ، كَانَ ذَاكِرُ اللَّهِ أَفْضَلَ " وَالْآثَارُ فِي الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ كِفَايَةٌ. وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَفْضِيلِ الذِّكْرِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي تَرْكِهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: افْتَرَضَ اللَّهُ ذِكْرَهُ عِنْدَ أَشْغَلِ مَا تَكُونُوا، عِنْدَ الضِّرَابِ بِالسُّيُوفِ فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [نَتِيجَةُ الْفِكْرِ فِي الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى. وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، سَأَلْتُ أَكْرَمَكَ اللَّهُ عَمَّا اعْتَادَهُ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ مِنْ عَقْدِ حِلَقِ الذِّكْرِ وَالْجَهْرِ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّهْلِيلِ، وَهَلْ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: إِنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ، وَأَحَادِيثُ تَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْإِسْرَارِ بِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، كَمَا جَمَعَ النووي بِمِثْلِ ذَلِكَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِاسْتِحْبَابِ الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْوَارِدَةِ بِاسْتِحْبَابِ الْإِسْرَارِ بِهَا، وَهَا أَنَا أُبَيِّنُ ذَلِكَ فَصْلًا فَصْلًا. [ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ تَصْرِيحًا أَوِ الْتِزَامًا] الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ» وَالذِّكْرُ فِي الْمَلَأِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جَهْرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الْحَدِيثُ الثَّانِي: أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ جابر قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِلَّهِ سَرَايَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَحُلُّ وَتَقِفُ عَلَى مَجَالِسِ الذِّكْرِ فِي الْأَرْضِ، فَارْتَعُوا فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ "، قَالُوا: وَأَيْنَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " مَجَالِسُ الذِّكْرِ، فَاغْدُوَا وَرُوحُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ» . الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ والحاكم - وَاللَّفْظُ لَهُ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً وَفُضَلَاءَ، يَلْتَمِسُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا أَتَوْا عَلَى مَجْلِسِ ذِكْرٍ حَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادِكَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ وَيَسْتَجِيرُونَكَ، فَيَقُولُ: مَا يَسْأَلُونَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ، فَيَقُولُونَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا، ثُمَّ يَقُولُ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونِي؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، فَيَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا، فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ ثُمَّ يَقُولُ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُونِي وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُونِي، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، إِنَّ فِيهِمْ عَبْدًا خَطَّاءً جَلَسَ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، فَيَقُولُ: وَهُوَ أَيْضًا قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» ". الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ معاوية «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ» . الْحَدِيثُ السَّادِسُ: أَخْرَجَ الحاكم وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ» . الْحَدِيثُ السَّابِعُ: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ حَتَّى يَقُولَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّكُمْ مُرَاءُونَ» مُرْسَلٌ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ عِنْدَ الْجَهْرِ دُونَ الْإِسْرَارِ. الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " حِلَقُ الذِّكْرِ» . الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: أَخْرَجَ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَجْلِسَيْنِ، أَحَدُ الْمَجْلِسَيْنِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ، وَالْآخَرُ يُعَلِّمُونَ الْعِلْمَ، فَقَالَ: " كِلَا الْمَجْلِسَيْنِ خَيْرٌ، وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ» . الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ، قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ» . الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ الْيَوْمَ مَنْ أَهْلُ الْكَرَمِ، فَقِيلَ: وَمَنْ أَهْلُ الْكَرَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ فِي الْمَسَاجِدِ» . الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الْجَبَلَ لَيُنَادِي الْجَبَلَ بِاسْمِهِ: يَا فُلَانُ، هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ لِلَّهِ ذَاكِرٌ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمِ، اسْتَبْشَرَ، ثُمَّ قَرَأَ عبد الله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 89 - 90] الْآيَةَ، وَقَالَ: أَيَسْمَعُونَ الزُّورَ وَلَا يَسْمَعُونَ الْخَيْرَ؟ الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ بَكَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أبي عبيد قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ نَادَتْ بِقَاعُ الْأَرْضِ: عَبْدُ اللَّهِ الْمُؤْمِنُ مَاتَ، فَتَبْكِي عَلَيْهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، فَيَقُولُ الرَّحْمَنُ: مَا يُبْكِيكُمَا عَلَى عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ يَمْشِ فِي نَاحِيَةٍ مِنَّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ يَذْكُرُكَ. وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سَمَاعَ الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ لِلذِّكْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ الْجَهْرِ بِهِ. الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَبْدِي، إِذَا ذَكَرْتَنِي خَالِيًا ذَكَرْتُكَ خَالِيًا، وَإِنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَأَكْثَرَ» . الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: «قَالَ ابن الأدرع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 انْطَلَقْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَمَرَّ بِرَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَائِيًا، قَالَ: " لَا، وَلَكِنَّهُ أَوَّاهٌ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ذو البجادين: إِنَّهُ أَوَّاهٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ» ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ هَذَا خَفَضَ مِنْ صَوْتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعْهُ فَإِنَّهُ أَوَّاهٌ» . الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَخْرَجَ الحاكم عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: «إِنَّا لَعِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَفَعَلْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ بَعَثْتَنِي بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَأَمَرْتَنِي بِهَا وَوَعَدْتَنِي عَلَيْهَا الْجَنَّةَ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، ثُمَّ قَالَ: أَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ» . الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ سَيَّارَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذِّكْرِ، فَإِذَا أَتَوْا عَلَيْهِمْ حَفُّوا بِهِمْ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: غَشُّوهُمْ بِرَحْمَتِي فَهُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» . الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قَالَ: «نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف: 28] الْآيَةَ، فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُمْ فَوَجَدَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى، مِنْهُمْ ثَائِرُ الرَّأْسِ وَجَافُّ الْجِلْدِ وَذُو الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَلَمَّا رَآهُمْ جَلَسَ مَعَهُمْ وَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أُصَبِّرَ نَفْسِي مَعَهُمْ» . الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ ثابت قَالَ: «كَانَ سلمان فِي عِصَابَةٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفُّوا فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ؟ قُلْنَا: نَذْكُرُ اللَّهَ، قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَيْكُمْ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُشَارِكَكُمْ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أُصَبِّرَ نَفْسِي مَعَهُمْ» . الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ: أَخْرَجَ الأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ عَنْ أبي رزين العقيلي " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مِلَاكِ الْأَمْرِ الَّذِي تُصِيبُ بِهِ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: عَلَيْكَ بِمَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَإِذَا خَلَوْتَ فَحَرِّكْ لِسَانَكَ بِذِكْرِ اللَّهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ والأصبهاني عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ أَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَلَأَنْ أَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَخْرَجَ الحاكم عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ " وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: " فَنَادَى» . الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَخْرَجَ أحمد وأبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ السائب، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَرَّ أَصْحَابُكَ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ» . الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَخْرَجَ المروزي فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ كَانَا يَأْتِيَانِ السُّوقَ أَيَّامَ الْعَشْرِ فَيُكَبِّرَانِ، لَا يَأْتِيَانِ السُّوقَ إِلَّا لِذَلِكَ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ عمر يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ فَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُ أَهْلُ السُّوقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَإِنَّهُمْ لَيُكَبِّرُونَ فِي الْعَشْرِ حَتَّى كُنْتُ أُشَبِّهُهَا بِالْأَمْوَاجِ مِنْ كَثْرَتِهَا. فَصْلٌ: إِذَا تَأَمَّلْتَ مَا أَوْرَدْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ عَرَفْتَ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ الْبَتَّةَ فِي الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ إِمَّا صَرِيحًا أَوِ الْتِزَامًا، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِحَدِيثِ: «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ» فَهُوَ نَظِيرُ مُعَارَضَةِ أَحَادِيثِ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ بِحَدِيثِ: «الْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ» وَقَدْ جَمَعَ النووي بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْإِخْفَاءَ أَفْضَلُ حَيْثُ خَافَ الرِّيَاءَ أَوْ تَأَذَّى بِهِ مُصَلُّونَ أَوْ نِيَامٌ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ أَكْثَرُ وَلِأَنَّ فَائِدَتَهُ تَتَعَدَّى إِلَى السَّامِعِينَ، وَلِأَنَّهُ يُوقِظُ قَلْبَ الْقَارِئِ وَيَجْمَعُ هَمَّهُ إِلَى الْفِكْرِ وَيَصْرِفُ سَمْعَهُ إِلَيْهِ وَيَطْرُدُ النَّوْمَ وَيَزِيدُ فِي النَّشَاطِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 بِبَعْضِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسِرَّ قَدْ يَمَلُّ فَيَأْنَسُ بِالْجَهْرِ، وَالْجَاهِرُ قَدْ يَكِلُّ فَيَسْتَرِيحُ بِالْإِسْرَارِ. انْتَهَى، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الذِّكْرِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] قُلْتُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كَآيَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] وَقَدْ نَزَلَتْ حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فَيَسْمَعُهُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّونَ الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ، فَأُمِرَ بِتَرْكِ الْجَهْرِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، كَمَا نُهِيَ عَنْ سَبِّ الْأَصْنَامِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابن كثير فِي تَفْسِيرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ شَيْخُ مالك، وَابْنُ جَرِيرٍ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى الذَّاكِرِ حَالَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ أُمِرَ لَهُ بِالذِّكْرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ أَنْ تُرْفَعَ عِنْدَهُ الْأَصْوَاتُ، وَيُقَوِّيِهِ اتِّصَالُهَا بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْإِنْصَاتِ خَشِيَ مِنْ ذَلِكَ الْإِخْلَادَ إِلَى الْبَطَالَةِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالسُّكُوتِ بِاللِّسَانِ إِلَّا أَنَّ تَكْلِيفَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ بَاقٍ حَتَّى لَا يَغْفُلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلِذَا خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] . الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ الصُّوفِيَّةُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَامِلِ الْمُكَمَّلِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ مَحَلُّ الْوَسَاوِسِ وَالْخَوَاطِرِ الرَّدِيَّةِ فَمَأْمُورٌ بِالْجَهْرِ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي دَفْعِهَا، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مِنَ الْحَدِيثِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى مِنْكُمْ بِاللَّيْلِ فَلْيَجْهَرْ بِقِرَاءَتِهِ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَتَسْمَعُ لِقِرَاءَتِهِ، وَإِنَّ مُؤْمِنِي الْجِنِّ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي الْهَوَاءِ وَجِيرَانَهُ مَعَهُ فِي مَسْكَنِهِ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ وَيَسْتَمِعُونَ قِرَاءَتَهُ، وَإِنَّهُ يَنْطَرِدُ بِجَهْرِهِ بِقِرَاءَتِهِ عَنْ دَارِهِ وَعَنِ الدُّورِ الَّتِي حَوْلَهُ فُسَّاقُ الْجِنِّ وَمَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ» . فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] وَقَدْ فُسِّرَ الِاعْتِدَاءُ بِالْجَهْرِ فِي الدُّعَاءِ، قُلْتُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّاجِحَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ تَجَاوُزُ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوِ اخْتِرَاعُ دَعْوَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ ماجه والحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَصَحَّحَهُ عَنْ أبي نعامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ» فَهَذَا تَفْسِيرُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ. الثَّانِي: عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ، فَالْآيَةُ فِي الدُّعَاءِ لَا فِي الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءُ بِخُصُوصِهِ الْأَفْضَلُ فِيهِ الْإِسْرَارُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] وَمِنْ ثَمَّ اسْتُحِبَّ الْإِسْرَارُ بِالِاسْتِعَاذَةِ فِي الصَّلَاةِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهَا دُعَاءٌ، فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يُهَلِّلُونَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا أَرَاكُمْ إِلَّا مُبْتَدِعِينَ، حَتَّى أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ. قُلْتُ: هَذَا الْأَثَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ سَنَدِهِ وَمَنْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ فِي كُتُبِهِمْ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الثَّابِتَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يَقْتَضِي إِنْكَارَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: ثَنَا حسين بن محمد، ثَنَا المسعودي، عَنْ عامر بن شقيق، عَنْ أبي وائل قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ عبد الله كَانَ يَنْهَى عَنِ الذِّكْرِ، مَا جَالَسْتُ عبد الله مَجْلِسًا قَطُّ إِلَّا ذَكَرَ اللَّهَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ أحمد فِي الزُّهْدِ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ ذِكْرِ اللَّهِ لَيَجْلِسُونَ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآثَامِ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُومُونَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَا عَلَيْهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ. [الدُّرُّ الْمُنَظَّمُ فِي الِاسْمِ الْأَعْظَمِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلْيَا، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْمَخْصُوصِ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ذَوِي الْمَقَامِ الْأَسْنَى، وَبَعْدُ، فَقَدْ سُئِلْتُ عَنِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَتَبَّعَ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَالْأَقْوَالِ، فَقُلْتُ: فِي الِاسْمِ الْأَعْظَمِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ، بِمَعْنَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا عَظِيمَةٌ لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ مالك وَغَيْرِهِ: لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْأَسْمَاءِ عَلَى بَعْضٍ، وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَظِيمُ، وَعِبَارَةُ الطَّبَرِيِّ: اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ فِي تَعْيِينِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ؛ إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي خَبَرٍ مِنْهَا أَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: كُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِي يَجُوزُ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى عَظِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْأَعْظَمِيَّةُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَخْبَارِ الْمُرَادُ بِهَا: مَزِيدُ ثَوَابِ الدَّاعِي بِذَلِكَ، كَمَا أُطْلِقَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَزِيدُ ثَوَابِ الدَّاعِي وَالْقَارِئِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا قِيلَ بِذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ وَفِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ (هُوَ) نَقَلَهُ الإمام فخر الدين عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكَشْفِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كَلَامٍ عَظِيمٍ بِحَضْرَتِهِ لَمْ يَقُلْ: أَنْتَ قُلْتَ كَذَا، وَإِنَّمَا يَقُولُ: هُوَ؛ تَأَدُّبًا مَعَهُ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: (اللَّهُ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَمِنْ ثَمَّ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا الحسن بن محمد بن الصباح، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أبي رجاء، حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ جابر بن عبد الله بن زيد أَنَّهُ قَالَ: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ هُوَ اللَّهُ، أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ يَقُولُ: {اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22] وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ: حَدَّثَنَا إسحاق بن إسماعيل، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مسعر قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ: يَا اللَّهُ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: (اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) قَالَ الحافظ ابن حجر فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ «عَنْ عائشة أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَلِّمَهَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَصَلَّتْ وَدَعَتْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْعُوكَ اللَّهَ وَأَدْعُوكَ الرَّحْمَنَ وَأَدْعُوكَ الرَّحِيمَ، وَأَدْعُوكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: إِنَّهُ لَفِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي دَعَوْتِ بِهَا» . قَالَ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ. انْتَهَى. قُلْتُ: أَقْوَى مِنْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ مَا أَخْرَجَهُ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ إِلَّا كَمَا بَيْنَ سَوَادِ الْعَيْنِ وَبَيَاضِهَا مِنَ الْقُرْبِ» ، وَفِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ للديلمي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي سِتِّ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ» . الْقَوْلُ السَّادِسُ: (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أسماء بنت يزيد أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] وَفَاتِحَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الْقَوْلُ السَّابِعُ: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) لِحَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ والحاكم عَنْ أبي أمامة رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَفَعَهُ: «الِاسْمُ الْأَعْظَمُ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ: الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه، قَالَ القاسم الرَّاوِي عَنْ أبي أمامة: الْتَمَسْتُهُ فِيهَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ، وَقَوَّاهُ الفخر الرازي وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى صِفَاتِ الْعَظَمَةِ بِالرُّبُوبِيَّةِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا كَدَلَالَتِهِمَا. الْقَوْلُ الثَّامِنُ: (الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) لِحَدِيثِ أحمد وأبي داود وَابْنِ حِبَّانَ والحاكم «عَنْ أَنَسٍ " أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» . الْقَوْلُ التَّاسِعُ: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) أَخْرَجَ أبو يعلى مِنْ طَرِيقِ السري بن يحيى عَنْ رَجُلٍ مِنْ طَيِّئٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُرِيَنِي الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فَرَأَيْتُ مَكْتُوبًا فِي الْكَوَاكِبِ فِي السَّمَاءِ: يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. الْقَوْلُ الْعَاشِرُ: (ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ معاذ «سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَقَالَ: قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّمْلِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الِاسْمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَاحْتَجَّ لَهُ الفخر بِأَنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّ فِي الْجَلَالِ إِشَارَةً إِلَى جَمِيعِ السُّلُوبِ، وَفِي الْإِكْرَامِ إِشَارَةً إِلَى جَمِيعِ الْإِضَافَاتِ. الْقَوْلُ الْحَادِي عَشَرَ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) لِحَدِيثِ أبي داود وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ والحاكم عَنْ بريدة «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِالِاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ " وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أبي داود: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ» ، قَالَ الحافظ ابن حجر: وَهُوَ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ عَنْ جَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ: (رَبِّ رَبِّ) أَخْرَجَ الحاكم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: اسْمُ اللَّهِ الْأَكْبَرُ رَبِّ رَبِّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عائشة مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَبَّيْكَ عَبْدِي سَلْ تُعْطَ» . الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: - وَلَمْ أَدْرِ مَنْ ذَكَرَهُ (مَالِكُ الْمُلْكِ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] » . الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: (دَعْوَةُ ذِي النُّونِ) لِحَدِيثِ النَّسَائِيِّ والحاكم عَنْ فضالة بن عبيد رَفَعَهُ: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ معبد مَرْفُوعًا: «اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى: دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» ، وَأَخْرَجَ الحاكم عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ؟ دُعَاءُ يُونُسَ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَلْ كَانَتْ لِيُونُسَ خَاصَّةً؟ فَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] » وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كثير بن معبد قَالَ: سَأَلْتُ الحسن عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ قَالَ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَوْلُ ذِي النُّونِ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: (كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ) نَقَلَهُ عياض. الْقَوْلُ السَّادِسَ عَشَرَ: نَقَلَ الفخر الرازي عَنْ زين العابدين أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُعَلِّمَهُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَرَأَى فِي النَّوْمِ: هُوَ اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. الْقَوْلُ السَّابِعَ عَشَرَ: هُوَ مَخْفِيٌّ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عائشة الْمُتَقَدِّمُ لَمَّا دَعَتْ بِبَعْضِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، قَالَ: إِنَّهُ لَفِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي دَعَوْتِ بِهَا. الْقَوْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ: إِنَّهُ كُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى دَعَا الْعَبْدُ بِهِ رَبَّهُ مُسْتَغْرِقًا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي فِكْرِهِ حَالَةَ إِذْ غَيْرُ اللَّهِ؛ فَإِنَّ مَنْ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْحَالَةِ كَانَ قَرِيبَ الْإِجَابَةِ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ، إِنَّمَا هُوَ فَرَاغُ قَلْبِكَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَافْزَعْ إِلَى أَيِّ اسْمٍ شِئْتَ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 فَإِنَّكَ تَسِيرُ بِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم أَيْضًا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ بَعْضَ الْمَشَايِخِ عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ قَالَ: تَعْرِفُ قَلْبَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا رَأَيْتَهُ قَدْ أَقْبَلَ وَرَقَّ فَسَلِ اللَّهَ حَاجَتَكَ، فَذَاكَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. وَأَخْرَجَ أبو نعيم أَيْضًا عَنِ ابن الربيع السائح أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: عَلِّمْنِي الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَقَالَ: اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَطِعِ اللَّهَ يُطِعْكَ كُلُّ شَيْءٍ. الْقَوْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ: (اللَّهُمَّ) حَكَاهُ الزركشي فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ، وَالْمِيمَ دَالَّةٌ عَلَى الصِّفَاتِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، ذَكَرَهُ ابن مظفر، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: اللَّهُمَّ، مَجْمَعُ الدُّعَاءِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ، فَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ. الْعِشْرُونَ: (الم) أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الم هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الم قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى. تَمَّ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ الْحَاوِي لِلْفَتَاوِي. وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الثَّانِي، أَوَّلُهُ الْمِنْحَةُ فِي السُّبْحَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 [الْمِنْحَةُ فِي السُّبْحَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 45 - (الْمِنْحَةُ فِي السُّبْحَةِ) الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى وَبَعْدُ، فَقَدْ طَالَ السُّؤَالُ عَنِ السُّبْحَةِ هَلْ لَهَا أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ؟ فَجَمَعْتُ فِيهَا هَذَا الْجُزْءَ مُتَتَبِّعًا فِيهِ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، والحاكم وَصَحَّحَهُ «عَنِ ابن عمرو قَالَ: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ بِيَدِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أبي شيبة، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ، والحاكم عَنْ بسيرة - وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ التَّوْحِيدَ وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْؤُولَاتٌ وَمُسْتَنْطَقَاتٌ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، والحاكم، وَالطَّبَرَانِيُّ «عَنْ صفية قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ يَدَيَّ أَرْبَعَةُ آلَافِ نَوَاةٍ أُسَبِّحُ بِهِنَّ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بِنْتَ حيي؟ قُلْتُ: أُسَبِّحُ بِهِنَّ، قَالَ: قَدْ سَبَّحْتُ مُنْذُ قُمْتُ عَلَى رَأْسِكِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، قُلْتُ: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " قُولِي سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ مِنْ شَيْءٍ» صَحِيحٌ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ أبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، والحاكم وَصَحَّحَهُ «عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: " أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى - أَوْ حَصًى - تُسَبِّحُ فَقَالَ: أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ؟ قُولِي سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، اللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ» . وَفِي جُزْءِ هِلَالٍ الْحَفَّارِ، وَمُعْجَمِ الصَّحَابَةِ لِلْبَغَوِيِّ، وَتَارِيخِ ابن عساكر مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ جَدِّهِ بقية، عَنْ أبي صفية مولى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 يُوضَعُ لَهُ نِطَعٌ، وَيُجَاءُ بِزِنْبِيلٍ فِيهِ حَصًى فَيُسَبِّحُ بِهِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ يُرْفَعُ فَإِذَا صَلَّى الْأُولَى أَتَى بِهِ، فَيُسَبِّحُ بِهِ حَتَّى يُمْسِيَ. وَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، ثَنَا عفان، ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: رَأَيْتُ أبا صفية - رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ جَارَنَا - قَالَتْ: فَكَانَ يُسَبِّحُ بِالْحَصَى. وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ حكيم بن الديلي أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ يُسَبِّحُ بِالْحَصَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ مَوْلَاةٍ لسعد، أَنَّ سعدا كَانَ يُسَبِّحُ بِالْحَصَى، أَوِ النَّوَى، وَقَالَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ: أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَنَا إسرائيل عَنْ جابر عَنِ امْرَأَةٍ حَدَّثَتْهُ عَنْ فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، أَنَّهَا كَانَتْ تُسَبِّحُ بِخَيْطٍ مَعْقُودٍ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ نعيم بن محرز بن أبي هريرة عَنْ جَدِّهِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ خَيْطٌ فِيهِ أَلْفَا عُقْدَةٍ فَلَا يَنَامُ حَتَّى يُسَبِّحَ بِهِ. وَأَخْرَجَ أحمد فِي الزُّهْدِ، ثَنَا مسكين بن نكير، أَنَا ثابت بن عجلان عَنِ القاسم بن عبد الرحمن قَالَ: كَانَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ نَوًى مِنْ نَوَى الْعَجْوَةِ فِي كِيسٍ فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ أَخْرَجَهُنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً يُسَبِّحُ بِهِنَّ حَتَّى يَنْفَدْنَ. وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ بِالنَّوَى الْمُجَزَّعِ، وَقَالَ الديلي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ: أَنَا عبدوس بن عبد الله، أَنَا أبو عبد الله الحسين بن فتحويه الثقفي، ثَنَا علي بن محمد بن نصرويه، ثَنَا محمد بن هارون بن عيسى بن المنصور الهاشمي، حَدَّثَنِي محمد بن علي بن حمزة العلوي، حَدَّثَنِي عبد الصمد بن موسى، حَدَّثَتْنِي زينب بنت سليمان بن علي، حَدَّثَتْنِي أم الحسن بنت جعفر بن الحسين، عَنْ أَبِيهَا عَنْ جَدِّهَا عَنْ علي مَرْفُوعًا: «نِعْمَ الْمُذَكِّرُ السُّبْحَةُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ بِالْحَصَى. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أبي نضرة عَنْ رَجُلٍ مِنَ الطُّفَاوَةِ، قَالَ: نَزَلْتُ عَلَى إبراهيم وَمَعَهُ كِيسٌ فِيهِ حَصًى أَوْ نَوًى فَيُسَبِّحُ بِهِ حَتَّى يَنْفَدَ. وَأَخْرَجَ عَنْ زَاذَانَ قَالَ: أَخَذْتُ مِنْ أُمِّ يعفور تَسَابِيحَ لَهَا فَلَمَّا أَتَيْتُ عليا قَالَ: ارْدُدْ عَلَى أم يعفور تَسَابِيحَهَا. ثُمَّ رَأَيْتُ كِتَابَ تُحْفَةِ الْعُبَّادِ وَمُصَنِّفُهُ مُتَأَخِّرٌ عَاصَرَ الجلال البلقيني - فَصْلًا حَسَنًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 فِي السُّبْحَةِ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَقْدُ التَّسْبِيحِ بِالْأَنَامِلِ أَفْضَلُ مِنَ السُّبْحَةِ لِحَدِيثِ ابن عمرو، لَكِنْ يُقَالُ إِنَّ الْمُسَبِّحَ إِنْ أَمِنَ مِنَ الْغَلَطِ كَانَ عَقْدُهُ بِالْأَنَامِلِ أَفْضَلَ وَإِلَّا فَالسُّبْحَةُ أَوْلَى. وَقَدِ اتَّخَذَ السُّبْحَةَ سَادَاتٌ يُشَارُ إِلَيْهِمْ وَيُؤْخَذُ عَنْهُمْ، وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ، كَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ خَيْطٌ فِيهِ أَلْفَا عُقْدَةٍ، فَكَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يُسَبِّحَ بِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ قَالَهُ عكرمة، وَفِي سُنَنِ أبي داود مِنْ حَدِيثِ أبي نضرة الغفاري قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ طُفَاوَةَ قَالَ: تَثَوَّيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ أَرَ رَجُلًا أَشَدَّ تَشْمِيرًا وَلَا أَقْوَمَ عَلَى ضَيْفٍ مِنْهُ قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ يَوْمًا وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ لَهُ وَمَعَهُ كِيسٌ فِيهِ حَصًى أَوْ نَوًى وَأَسْفَلَ مِنْهُ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، وَهُوَ يُسَبِّحُ بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْفَدَ مَا فِي الْكِيسِ أَلْقَاهُ إِلَيْهَا فَأَعَادَتْهُ فِي الْكِيسِ فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ يُسَبِّحُ - قَوْلُهُ تَثَوَّيْتُ - أَيْ تَضَيَّفْتُهُ وَنَزَلْتُ فِي مَنْزِلِهِ - وَالْمَثْوَى الْمَنْزِلُ وَقِيلَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُسَبِّحُ بِالنَّوَى الْمُجَزَّعِ - يَعْنِي الَّذِي حُكَّ بَعْضُهُ حَتَّى ابْيَضَّ شَيْءٌ مِنْهُ، وَتُرِكَ الْبَاقِي عَلَى لَوْنِهِ - وَكُلُّ مَا فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ - فَهُوَ مُجَزَّعٌ - قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَذَكَرَ الحافظ عبد الغني فِي الْكَمَالِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عُوَيْمِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ أَلْفِ تَسْبِيحَةٍ، وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ شَبِيبٍ قَالَ: كَانَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ يُسَبِّحُ فِي الْيَوْمِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ سِوَى مَا يَقْرَأُ، فَلَمَّا وُضِعَ لِيُغَسَّلَ جَعَلَ بِأُصْبُعِهِ كَذَا يُحَرِّكُهَا - يَعْنِي بِالتَّسْبِيحِ -، وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْمُحَقَّقِ أَنَّ الْمِائَةَ أَلْفٍ بَلْ وَالْأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَا يُحْصَرُ بِالْأَنَامِلِ فَقَدْ صَحَّ بِذَلِكَ وَثَبَتَ أَنَّهُمَا كَانَا يَعُدَّانِ بِآلَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ لِأَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ سُبْحَةٌ فَقَامَ لَيْلَةً وَالسُّبْحَةُ فِي يَدِهِ قَالَ: فَاسْتَدَارَتِ السُّبْحَةُ فَالْتَفَّتْ عَلَى ذِرَاعِهِ وَجَعَلَتْ تُسَبِّحُ فَالْتَفَتَ أبو مسلم وَالسُّبْحَةُ تَدُورُ فِي ذِرَاعِهِ وَهِيَ تَقُولُ: سُبْحَانَكَ يَا مُنْبِتَ النَّبَاتِ وَيَا دَائِمَ الثَّبَاتِ، قَالَ: هَلُمِّي يَا أم مسلم فَانْظُرِي إِلَى أَعْجَبِ الْأَعَاجِيبِ، قَالَ: فَجَاءَتْ أم مسلم وَالسُّبْحَةُ تَدُورُ وَتُسَبِّحُ فَلَمَّا جَلَسَتْ سَكَتَتْ. ذَكَرَهُ أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري فِي كِتَابِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَارِفُ عمر البزار: كَانَتْ سُبْحَةُ الشَّيْخِ أبي الوفا كاكيش - وبالعربي عبد الرحمن - الَّتِي أَعْطَاهَا لِسَيِّدِي الشَّيْخِ محيي الدين عبد القادر الكيلاني قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ إِذَا وَضَعَهَا عَلَى الْأَرْضِ تَدُورُ وَحْدَهَا حَبَّةً حَبَّةً. وَذَكَرَ القاضي أبو العباس أحمد بن خلكان فِي وَفَيَاتِ الْأَعْيَانِ أَنَّهُ رُئِيَ فِي يَدِ أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمًا سُبْحَةٌ فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ مَعَ شَرَفِكَ تَأْخُذُ بِيَدِكَ سُبْحَةً؟ قَالَ: طَرِيقٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى رَبِّي لَا أُفَارِقُهُ، قَالَ: وَقَدْ رَوَيْتُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مُسَلْسَلًا - وَهُوَ مَا أَخْبَرَنِي بِهِ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد الله مِنْ لَفْظِهِ - وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، قَالَ: أَنَا الْإِمَامُ أبو العباس أحمد بن أبي المحاسن يوسف بن البانياسي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، قَالَ: أَنَا أبو المظفر يوسف بن محمد بن مسعود الترمذي، وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى شَيْخِنَا أبي الثناء، وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، قَالَ: أَنَا عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر، وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، قَالَ: أَنَا أبو محمد يوسف بن أبي الفرج عبد الرحمن بن علي، وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، قَالَ: أَنَا أَبِي وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أبي الفضل بن ناصر، وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، قُلْتُ لَهُ: سَمِعْتُ أبا بكر محمد بن علي السلمي الحداد، وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا نَصْرٍ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُقْرِيَ، وَرَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، قَالَ: رَأَيْتُ أبا الحسن علي بن الحسن بن أبي القاسم المترفق الصوفي وَفِي يَدِهِ سُبْحَةٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أبا الحسن المالكي يَقُولُ: وَقَدْ رَأَيْتُ فِي يَدِهِ سُبْحَةً، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أُسْتَاذُ وَأَنْتَ إِلَى الْآنَ مَعَ السُّبْحَةِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ رَأَيْتُ أُسْتَاذِي الجنيد وَفِي يَدِهِ سُبْحَةٌ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أُسْتَاذُ وَأَنْتَ إِلَى الْآنَ مَعَ السُّبْحَةِ؟ قَالَ: كَذَلِكَ رَأَيْتُ أُسْتَاذِي سَرِيَّ بْنَ مُغَلِّسٍ السَّقَطِيَّ وَفِي يَدِهِ سُبْحَةٌ، فَقُلْتُ: يَا أُسْتَاذُ أَنْتَ مَعَ السُّبْحَةِ؟ فَقَالَ: كَذَلِكَ رَأَيْتُ أُسْتَاذِي مَعْرُوفًا الْكَرْخِيَّ وَفِي يَدِهِ سُبْحَةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَقَالَ: كَذَلِكَ رَأَيْتُ [بشرا الحافي وَفِي يَدِهِ سُبْحَةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَقَالَ: كَذَلِكَ رَأَيْتُ] أُسْتَاذِي عمر المالكي وَفِي يَدِهِ سُبْحَةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فَقَالَ: كَذَلِكَ رَأَيْتُ أُسْتَاذِي الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَفِي يَدِهِ سُبْحَةٌ، فَقُلْتُ: يَا أُسْتَاذُ مَعَ عِظَمِ شَأْنِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ وَأَنْتَ إِلَى الْآنَ مَعَ السُّبْحَةِ؟ فَقَالَ لِي: شَيْءٌ كُنَّا اسْتَعْمَلْنَاهُ فِي الْبِدَايَاتِ مَا كُنَّا نَتْرُكُهُ فِي النِّهَايَاتِ، أُحِبُّ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ بِقَلْبِي وَفِي يَدِي وَلِسَانِي، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي اتِّخَاذِ السُّبْحَةِ غَيْرُ مُوَافَقَةِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ وَالدُّخُولِ فِي سِلْكِهِمْ وَالْتِمَاسِ بَرَكَتِهِمْ، لَصَارَتْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ [مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ وَآكَدِهَا] ، فَكَيْفَ بِهَا وَهِيَ مُذَكِّرَةٌ بِاللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّ أَنْ يَرَاهَا إِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وَيَذْكُرُ اللَّهَ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِهَا، وَبِذَلِكَ كَانَ يُسَمِّيهَا بَعْضُ السَّلَفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ فَوَائِدِهَا أَيْضًا الِاسْتِعَانَةُ عَلَى دَوَامِ الذِّكْرِ، كُلَّمَا رَآهَا ذَكَرَ أَنَّهَا آلَةٌ لِلذِّكْرِ فَقَادَهُ ذَلِكَ إِلَى الذِّكْرِ، فَيَا حَبَّذَا سَبَبٌ مُوَصِّلٌ إِلَى دَوَامِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُسَمِّيهَا حَبْلَ الْوَصْلِ، وَبَعْضُهُمْ رَابِطَةَ الْقُلُوبِ. وَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِقَوْلِهِ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ قَافِلَةٍ فِي دَرْبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَامَ عَلَيْهِمْ سَرِيَّةُ عَرَبٍ وَجَرَّدُوا الْقَافِلَةَ جَمِيعَهُمْ وَجَرَّدُونِي مَعَهُمْ، فَلَمَّا أَخَذُوا عِمَامَتِي سَقَطَتْ مِسْبَحَةٌ مِنْ رَأْسِي فَلَمَّا رَأَوْهَا، قَالُوا: هَذَا صَاحِبُ سُبْحَةٍ فَرَدُّوا عَلَيَّ مَا كَانَ أُخِذَ لِي، وَانْصَرَفْتُ سَالِمًا مِنْهُمْ. فَانْظُرْ يَا أَخِي إِلَى هَذِهِ الْآلَةِ الْمُبَارَكَةِ الزَّاهِرَةِ وَمَا جُمِعَ فِيهَا مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وَلَا مِنَ الْخَلَفِ الْمَنْعُ مِنْ جَوَازِ عَدِّ الذِّكْرِ بِالسُّبْحَةِ، بَلْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ يَعُدُّونَهُ بِهَا وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، وَقَدْ رُئِيَ بَعْضُهُمْ يَعُدُّ تَسْبِيحًا فَقِيلَ لَهُ: أَتَعُدُّ عَلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ أَعُدُّ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَكْثَرَ الذِّكْرِ الْمَعْدُودِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ لَا يَنْحَصِرُ بِالْأَنَامِلِ غَالِبًا، وَلَوْ أَمْكَنَ حَصْرُهُ لَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِذَلِكَ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ وَهُوَ الْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ عَنْ بكر بن خنيس عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ قَالَ: كَانَ فِي يَدِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ سُبْحَةٌ يُسَبِّحُ بِهَا، قَالَ: فَقَامَ وَالسُّبْحَةُ فِي يَدِهِ فَاسْتَدَارَتِ السُّبْحَةُ فَالْتَفَّتْ عَلَى ذِرَاعِهِ وَجَعَلَتْ تُسَبِّحُ، فَالْتَفَتَ أبو مسلم وَالسُّبْحَةُ تَدُورُ فِي ذِرَاعِهِ وَهِيَ تَقُولُ: سُبْحَانَكَ يَا مُنْبِتَ النَّبَاتِ وَيَا دَائِمَ الثَّبَاتِ، فَقَالَ: هَلُمَّ يَا أم مسلم وَانْظُرِي إِلَى أَعْجَبِ الْأَعَاجِيبِ فَجَاءَتْ أم مسلم وَالسُّبْحَةُ تَدُورُ تُسَبِّحُ فَلَمَّا جَلَسَتْ سَكَنَتْ. وَقَالَ عماد الدين المناوي فِي سُبْحَةٍ: وَمَنْظُومَةُ الشَّمْلِ يَخْلُو بِهَا ... اللَّبِيبُ فَتَجْمَعُ مِنْ هِمَّتِهْ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ جَلَّ اسْمُهُ ... عَلَيْهَا تَفَرَّقَ مِنْ هَيْبَتِهْ مَسْأَلَةٌ: هَلْ تَدَاوَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ ثَمَّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ إِنَّهُ أُمِرَ بِالتَّدَاوِي وَلَمْ يَتَدَاوَ؟. الْجَوَابُ: نَعَمْ، قَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ: احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ التَّدَاوِيَ مَكْرُوهٌ، وَمُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْ ذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنَافِعِ الْأَدْوِيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وَالْأَطْعِمَةِ كَالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ، وَالْقُسْطِ وَالصَّبِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدَاوَى، وَبِأَخْبَارِ عائشة بِكَثْرَةِ تَدَاوِيهِ، ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطَبَّبَ فِي نَفْسِهِ، وَطَبَّبَ غَيْرَهُ» انْتَهَى. قُلْتُ: يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وأبو نعيم كِلَاهُمَا فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ مِنْ طَرِيقِ «هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أم المؤمنين أَعْجَبُ مِنْ بَصَرِكِ بِالطِّبِّ، قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا طَعَنَ فِي السِّنِّ سَقِمَ فَوَفَدَتِ الْوُفُودُ، فَنَعَتَتْ فَمِنْ ثَمَّ» ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم مِنْ طَرِيقِ محمد بن عبد الرحمن المليكي، قَالَ: «حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قُلْتُ لعائشة: يَا خَالَةُ إِنِّي لَأُفَكِّرُ فِي أَمْرِكِ وَأَتَعَجَّبُ أَنْ وَجَدْتُكِ عَالِمَةً بِالطِّبِّ فَمِنْ أَيْنَ؟ فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثُرَتْ أَسْقَامُهُ فَكُنَّا نُعَالِجُ لَهُ» . وَأَخْرَجَ أبو نعيم مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ «عَنْ عائشة، أَنَّهُ قِيلَ لَهَا، مِنْ أَيْنَ تَعَلَّمْتِ الطِّبَّ؟ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِسْقَامًا، وَكَانَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَتَنْعِتُ لَهُ فَتَعَلَّمْتُ ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ «عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: كَانَتْ فاطمة تَغْسِلُ الدَّمَ، وعلي يَسْكُبُ الْمَاءَ عَلَيْهَا: فَلَمَّا رَأَتْ فاطمة الدَّمَ لَا يَزِيدُ إِلَّا كَثْرَةً: أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ رَمَادًا أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ» . وَأَخْرَجَ أبو داود، والحاكم وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَطَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعَطَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، " أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: الْحَجْمُ، قُلْتُ: وَمَا الْحَجْمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: خَيْرُ مَا تَدَاوَى بِهِ الْعَرَبُ» . وَأَخْرَجَ الحاكم وَصَحَّحَهُ عَنْ سمرة قَالَ: «دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذَا الْحَجْمُ وَهُوَ خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ عبد الله بن جعفر قَالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَرْنِهِ بَعْدَ مَا» . وَأَخْرَجَ أبو داود، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جابر «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ عَلَى وَرِكِهِ مِنْ وَنْيٍ كَانَ بِهِ يَعْنِي مِنْ وَهْنٍ دُونَ الْخَلْعِ وَالْكَسْرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ» . وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فِي رَأْسِهِ مِنْ أَذًى كَانَ بِهِ» . وَأَخْرَجَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 أبو نعيم عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِرَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ» . وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ صُدِعَ فَيُغَلِّفُ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ» . وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ عبد الرحمن بن عثمان «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ تَحْتَ كَتِفِهِ الْيُسْرَى مِنَ الشَّاةِ الَّتِي أَكَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ» . وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ علي قَالَ: «لَدَغَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْرَبٌ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ: لَعَنَكِ اللَّهُ لَا تَدَعِينَ نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ وَمِلْحٍ فَجَعَلَ يَمْرُسُهَا عَلَيْهَا» . [أَعْذَبُ الْمَنَاهِلِ فِي حَدِيثِ مَنْ قَالَ أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ] 46 - أَعْذَبُ الْمَنَاهِلِ فِي حَدِيثِ مَنْ قَالَ أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، سُئِلْتُ عَنْ حَدِيثِ «مَنْ قَالَ: أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ» . الْجَوَابُ: هَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ كَلَامِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ عَلَى ضَعْفٍ فِي إِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، ويحيى مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ فَإِنَّهُ رَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَحْدَهُ، وَقَدْ يُعَدُّ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَلْقَ غَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ رِوَايَةٌ مُتَّصِلَةٌ، وَقَدْ وَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ وُجِدَ عَنْهُ الْجَزْمُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَكَمَ عَلَيْهِ الْحُفَّاظُ بِالْوَهْمِ فِي رَفْعِهِ، فَإِنَّ لَيْثَ بْنَ أَبِي سُلَيْمٍ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، قَالَ فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ يحيى بن سعيد أَسْوَأَ رَأْيًا فِي أَحَدٍ مِنْهُ فِي ليث لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُرَاجِعَهُ فِيهِ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: ليث أَضْعَفُ مِنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: سَأَلْتُ جريرا عَنْ ليث، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَعَنْ يزيد بن أبي زياد فَقَالَ: كَانَ يزيد أَحْسَنَهُمُ اسْتِقَامَةً فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ عطاء، وَكَانَ ليث أَكْثَرَهُمْ تَخْلِيطًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ هَذَا فَقَالَ: أَقُولُ كَمَا قَالَ جرير، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُحَدِّثُ عَنْ لَيْثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَقَالَ عمرو بن علي: كَانَ يحيى لَا يُحَدِّثُ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَقَالَ أبو معمر القطيعي: كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يُضَعِّفُ لَيْثَ بْنَ أَبِي سُلَيْمٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: قُلْتُ لسفيان: إِنَّ ليثا رَوَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ سفيان وَعَجِبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ جَدُّ طلحة لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ: سَأَلْتُ وكيعا عَنْ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، فَقَالَ: ليث ليث كَانَ سفيان لَا يُسَمَّى ليثا، وَقَالَ قبيصة، قَالَ شُعْبَةُ لِلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ: أَيْنَ اجْتَمَعَ لَكَ عطاء، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ؟ فَقَالَ: إِذْ أَبُوكَ يُضْرَبُ بِالْخُفِّ لَيْلَةَ عُرْسِهِ فَمَا زَالَ شُعْبَةُ مُتَّقِيًا لليث مُذْ يَوْمِئِذٍ، وَقَالَ أبو حاتم: أَقُولُ فِي ليث كَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبِي، وأبا زرعة يَقُولَانِ: ليث لَا يُشْتَغَلُ بِهِ وَهُوَ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أبو زرعة أَيْضًا: ليث لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَقَالَ مؤمل بن الفضل: قُلْنَا لِعِيسَى بْنِ يُونُسَ: لَمْ تَسْمَعْ مِنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ وَكَانَ قَدِ اخْتَلَطَ وَكَانَ يَصْعَدُ الْمَنَارَةَ ارْتِفَاعَ النَّهَارِ فَيُؤَذِّنُ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ. هَذَا مَجْمُوعُ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي تَخْرِيجِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ صِحَّةِ عَقْلِهِ كَثِيرَ التَّخْلِيطِ فِي حَدِيثِهِ بِحَيْثُ جُرِحَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، ثُمَّ طَرَأَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الِاخْتِلَاطُ فِي عَقْلِهِ فَازْدَادَ حَالُهُ سُوءًا، وَحُكْمُ الْمُخْتَلِطُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ مِنَ الثِّقَاتِ الْحُفَّاظِ الْمُحْتَجِّ بِهِمْ أَنَّ مَا رَوَاهُ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ يُرَدُّ، وَكَذَا مَا شُكَّ فِيهِ هَلْ رَوَاهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ. فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمُ مَنِ اخْتَلَطَ مِنَ الثِّقَاتِ الْحُفَّاظِ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِهِمْ فَكَيْفَ بِمَنِ اخْتَلَطَ مِنَ الضُّعَفَاءِ الْمَجْرُوحِينَ الَّذِينَ لَا يُحْتَجُّ بِهِمْ قَبْلَ طُرُوءِ الِاخْتِلَاطِ عَلَيْهِمْ؟ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْحُفَّاظِ إِذَا تَرْجَمُوا أَحَدًا مِمَّنْ تُكِلِّمَ فِيهِ أَنْ يَسْرُدُوا فِي تَرْجَمَتِهِ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَحَادِيثُ سِوَاهَا صَالِحَةٌ نَبَّهُوا عَلَى أَنَّ مَا عَدَا مَا سَرَدُوهُ مِنْ أَحَادِيثِهِ صَالِحٌ مَقْبُولٌ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِمَّنْ خُرِّجَ لَهُ فِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ صَاحِبَ الصَّحِيحِ لَمْ يُخَرِّجْ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَّا مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ قَبُولُ كُلِّ مَا رَوَاهُ، هَكَذَا نَصُّوا عَلَيْهِ. وَهَذَا الرَّجُلُ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِأَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ فَالْحُجَّةُ فِي رِوَايَةِ أبي إسحاق، وَالْحَدِيثُ الَّذِي خَرَّجَهُ صَحِيحٌ مِنْ طَرِيقِ أبي إسحاق، لَا مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ. وَلَمَّا تَرْجَمَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ سَرَدَ أَحَادِيثَهُ الَّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لَهُ أَحَادِيثُ صَالِحَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُ، وَكَذَا صَنَعَ الحافظ الذهبي فِي الْمِيزَانِ سَرَدَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَحَادِيثَ أَنْكَرْتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 عَلَيْهِ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ - أَعْنِي حَدِيثَ: «مَنْ قَالَ أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ» - وَحَدِيثَ: «مَنْ وُلِدَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ فَلَمْ يُسَمِّ أَحَدَهُمْ مُحَمَّدًا فَقَدْ جَهِلَ» . وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابن الجوزي فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَحَدِيثَ: «كَانَ بِالْيَمَنِ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ زُعَاقُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مَاتَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَاءُ أَسْلِمْ فَقَدْ أَسْلَمَ النَّاسُ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ حُمَّ وَلَا يَمُوتُ» ، فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَجْزِمْ ليث بِرَفْعِهِ ; لِقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ صِيغَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الشَّكِّ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ بُطْلَانَ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى ثُبُوتُ هَذَا اللَّفْظِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ لِيَقَعُوا فِي شَيْءٍ وَرَدَ فِيهِ ذَمٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ خَلَائِقَ لَا يُحْصَوْنَ مِنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ كَمَا سُقْتُ رِوَايَاتِهِمْ وَأَلْفَاظَهُمْ فِي الْكِتَابِ الْمُسَمَّى - بِالصَّوَاعِقِ عَلَى النَّوَاعِقِ - وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ لَا يُطْبِقُونَ عَلَى التَّلَفُّظِ بِمَا ذَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّلَفُّظَ بِهِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نَبِيِّ اللَّهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي التَّنْزِيلِ {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] . فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ حُكِمَ عَلَى الْحَدِيثِ بِالْإِبْطَالِ وليث لَمْ يُتَّهَمْ بِكَذِبٍ؟ قُلْتُ: الْمَوْضُوعُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ تَعَمَّدَ وَاضِعُهُ وَضْعَهُ وَهَذَا شَأْنُ الْكَذَّابِينَ، وَقِسْمٌ وَقَعَ غَلَطًا لَا عَنْ قَصْدٍ وَهَذَا شَأْنُ الْمُخَلِّطِينَ وَالْمُضْطَرِبِينَ فِي الْحَدِيثِ كَمَا حَكَمَ الْحُفَّاظُ بِالْوَضْعِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ وَهُوَ: «مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ» فَإِنَّهُمْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَوَاضِعُهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ وَضْعَهُ وَقِصَّتُهُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ العراقي فِي أَلْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُ نَوْعٌ وَضْعُهُ لَمْ يُقْصَدْ ، نَحْوَ حَدِيثِ ثابت: " مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ " الْحَدِيثَ. وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ الْوَضْعُ لِلْمُغَفَّلِينَ وَالْمُخَلِّطِينَ وَالسَّيِّئِ الْحِفْظِ بِعَزْوِ كَلَامِ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِمَّا كَلَامُ تَابِعِيٍّ، أَوْ حَكِيمٍ، أَوْ أَثَرٌ إِسْرَائِيلِيٌّ كَمَا وَقَعَ فِي: " الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ "، " وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ "، " وَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ "، وَغَيْرُ ذَلِكَ يَكُونُ مَعْرُوفًا بِعَزْوِهِ إِلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَلْتَبِسُ عَلَى الْمُخَلِّطِ فَيَرْفَعُهُ إِلَيْهِ وَهْمًا مِنْهُ، فَيَعُدُّهُ الْحُفَّاظُ مَوْضُوعًا، وَمَا تَرَكَ الْحُفَّاظُ بِحَمْدِ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا بَيَّنُوهُ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَى سَعَةِ النَّظَرِ وَطُولِ الْبَاعِ وَكَثْرَةِ الِاطْلَاعِ، وَقَدْ يَقَعُ الْوَضْعُ فِي لَفْظَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ لَا فِي كُلِّهِ كَحَدِيثِ: «لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ جَنَاحٍ» ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ صَدْرُهُ ثَابِتٌ، وَقَوْلُهُ: "أَوْ جَنَاحٍ " مَوْضُوعٌ تَعَمَّدَهُ وَاضِعٌ تَقْرُّبًا إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمَهْدِيِّ، لَمَّا كَانَ مَشْغُوفًا بِاللَّعِبِ بِالْحَمَامِ، وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُ ذَلِكَ لليث هَذَا صَاحِبِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وعطاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الَّذِي «وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي رَمَضَانَ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ: لَا أَجِدُ، قَالَ: أَهْدِ بَدَنَةً، قَالَ: لَا أَجِدُ» ، قَالَ الْحُفَّاظُ: ذِكْرُ الْبَدَنَةِ فِيهِ مُنْكَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ليثا إِنَّمَا زَادَهَا غَفْلَةً وَتَخْلِيطًا لَا عَنْ قَصْدٍ وَعَمْدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [حُسْنُ التَّسْلِيكِ فِي حُكْمِ التَّشْبِيكِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى: قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: " بَابُ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ " وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» ، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» ، قَالَ الحافظ ابن حجر فِي شَرْحِهِ: حَدِيثُ أبي موسى دَالٌّ عَلَى جَوَازِ التَّشْبِيكِ مُطْلَقًا، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ فِي غَيْرِهِ أَجْوَزُ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ قَبْلَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثٌ آخَرُ نَصُّهُ: حَدَّثَنَا حامد بن عمر ثَنَا بشر ثَنَا عاصم، ثَنَا واقد عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «شَبَّكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ» ، قَالَ الحافظ مغلطاي: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الصَّحِيحِ، وَقَالَ الحافظ ابن حجر: هُوَ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ عَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مُعَارَضَةُ مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيكِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ مَرَاسِيلُ وَمُسْنَدٌ مِنْ طُرُقٍ غَيْرِ ثَابِتَةٍ، وَقَالَ ابن المنير: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ تَعَارُضٌ إِذِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ، وَجَمَعَ الإسماعيلي بِأَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَاصِدًا إِلَيْهَا، إِذْ مُنْتَظِرُ الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي، وَقِيلَ: إِنَّ صُورَتَهُ تُشْبِهُ صُورَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الِاخْتِلَافِ، فَكُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ، حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُصَلِّينَ: " «وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» ، وَقَالَ الحافظ مغلطاي فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ مُعَارِضَةٌ لِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيكِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ لَيْسَ مُسَاوِيًا لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الصِّحَّةِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُ: حَدِيثُ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ مالك: رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ لَيُنْكِرُونَ تَشْبِيكَ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا بِهِ بَأْسٌ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عُمَرَ، وسالم ابْنُهُ، فَكَانَا يُشَبِّكَانِ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ مغلطاي: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيكِ وَبَيْنَ تَشْبِيكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مُعَارَضَةٌ ; لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنْ فِعْلِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْمُضِيِّ إِلَيْهَا، وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّشْبِيكِ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ وَلَا فِي الْمُضِيِّ إِلَيْهَا، فَلَا مُعَارَضَةَ إِذَنْ وَبَقِيَ كُلُّ حَدِيثٍ عَلَى حِيَالِهِ انْتَهَى. قُلْتُ: وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي تَشْبِيكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا - زَادَ الْبَيْهَقِيُّ - وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . وَأَخْرَجَ أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ فِي قَوْمٍ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَصَارُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَوْنَ إِذَا أُخِّرْتُمْ فِي زَمَانِ حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وَنُذُورُهُمْ فَاشْتَبَكُوا فَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَيُقْبِلُ أَحَدُكُمْ عَلَى خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَيَذَرُ أَمْرَ الْعَامَّةِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كُنْتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ وَاخْتَلَفُوا حَتَّى يَكُونُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: خُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ» . وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وأحمد، وأبو داود، وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، «عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 شَمْسٍ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ، فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ عَنْ أبي ذر قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أبا ذر كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كُنْتَ فِي حُثَالَةٍ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنِي؟ اصْبِرْ، اصْبِرْ، اصْبِرْ خَالِقُوا النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ وَخَالِفُوهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْكَافِرُ يَقُولُ لَهُ الْقَبْرُ لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا، ثُمَّ يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ أَضْلَاعُهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ فَشَبَّكَهَا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وأبو داود عَنْ جابر فِي حَدِيثِ الْحَجِّ قَالَ: «قَامَ سراقة بن جعشم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ: " دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ» . وَأَخْرَجَ ابن عساكر «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: إِذَا اخْتَلَفُوا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ أُبَصِّرُهُمْ بِالْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِهِ تَقْصِيرٌ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ زَحْفًا» . ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْمُسَلْسَلِ بِالتَّشْبِيكِ أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا الْإِمَامُ تقي الدين الشمني بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، والجلال أبو المعالي القمصي، وأبو العباس أحمد بن الجمال - عبد الله بن علي الكناني - سَمَاعًا عَلَيْهِمَا بِالْقَاهِرَةِ، وناصر الدين أبو الفرج بن الإمام زين الدين أبي بكر المراغي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ، والحافظ تقي الدين أبو الفضل بن فهد الهاشمي سَمَاعًا عَلَيْهِ بِمِنًى، وَشَبَّكَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِيَدَيَّ، قَالَ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي، وَالثَّالِثُ: أَنَا الجمال عبد الله بن علي الحنبلي وَشَبَّكَ بِيَدِ كُلٍّ مِنَّا، قَالَ: أَنَا أبو الحسن علي بن أحمد العرضي وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، وَقَالَ الرَّابِعُ: أَنَا الشَّيْخُ شمس الدين محمد بن محمد الجزري وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، قَالَ: أَنَا أبو حفص عمر بن حسن المزي وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، قَالَ هُوَ. وَالْعُرْضِيُّ: أَنَا أبو الحسن علي بن أحمد بن البخاري وَشَبَّكَ بِيَدَيْ كُلٍّ مِنَّا أَنَا عمر بن سعيد الحلبي وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ أَنَا أَبُو الْفَرَجِ يَحْيَى بْنُ مَحْمُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، أَنَا الْحَافِظُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّيْمِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ أَنَا الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْتَغْفَرِيُّ، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، أَنَا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز المكي، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، أَنَا أبو الحسين محمد بن طالب، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، أَنَا أبو عمر عبد العزيز بن الحسن بن بكر بن عبد الله بن الشرود الصنعاني، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، قَالَ: شَبَّكَ بِيَدَيْ أَبِي ح. وَقَالَ الْخَامِسُ: أَنَا القاضي جمال الدين بن ظهيرة وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، أَنَا البهاء عبد الله بن محمد المكي، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، أَنَا الرضي الطبري، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ بِنْتِ الْجُمَيْزِيِّ، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ أَنَا الشَّرَفُ بْنُ أَبِي عَصْرُونَ، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، أَنَا القاضي أبو عبد الله بن نصر، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الطُّرَيْثِيثِيُّ، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، ثَنَا علي بن أبي نصر وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، حَدَّثَنَا محمد بن علي بن هاشم، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، حَدَّثَنَا عبيد بن إبراهيم الصنعاني، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، ثَنَا بكر بن الشرود، وَشَبَّكَ بِيَدَيَّ، وَقَالَ: شَبَّكَ بِيَدَيَّ ابن أبي يحيى. وَقَالَ ابن أبي يحيى: شَبَّكَ بِيَدَيَّ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ. وَقَالَ صفوان: شَبَّكَ بِيَدَيَّ أيوب بن مالك الأنصاري. وَقَالَ أيوب: شَبَّكَ بِيَدَيَّ عبد الله بن رافع. وَقَالَ عبد الله بن رافع: شَبَّكَ بِيَدَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ. «وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: شَبَّكَ بِيَدَيَّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَالْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَالشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَالْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَالنُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَالدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَآدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . مَسْأَلَةٌ: مَاذَا يَقُولُ إِمَامُ الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ ... قَدْ فَاقَ سَالِفَهُ فِي الْعُجْمِ وَالْعَرَبِ فِيمَا رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ سَيِّدِنَا ... فِي يَوْمِ بَدْرٍ عَقِيبَ النَّصْرِ وَالنَّصَبِ؟ بِأَنَّهُ قَالَ لِلْكُفَّارِ حِينَ رُمُوا ... ضِمْنَ الْقَلِيبِ قَضَوْا لِلنَّارِ وَاللَّهَبِ أَهْلَ الْقَلِيبِ وَجَدْنَا وَعْدَ خَالِقِنَا ... حَقًّا وَفُزْنَا بِنَيْلِ الْقَصْدِ وَالْأَرَبِ فَهَلْ وَجَدْتُمْ حَقِيقًا وَعْدَ رَبِّكُمُ ... وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ قَدْ مَالَ لِلْعَجَبِ؟ وَقَالَ كَلَّمْتُ خَيْرَ الْخَلْقِ مِنْ مُضَرَ ... مَوْتًى خَلَوْا عَنْ سَمَاعِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَأَنَّ أَحْمَدَ خَيْرُ الْخَلْقِ قَالَ لَهُ ... مِنْكُمْ لَأَسْمَعُ فِي بَعْضٍ مِنَ الْكُتُبِ وَأَنْ تَقُولُوا رَوَى فِي قَوْلِ خَالِقِنَا ... فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ لِلْمَبْعُوثِ خَيْرِ نَبِيِّ لَا يَسْمَعُ الْمَيِّتُ مَاذَا الْقَوْلُ فِيهِ وَهَلْ ... مُعَارِضٌ لِلَّذِي قُلْنَاهُ فِي الرُّتَبِ؟ لَا زِلْتَ تُرْشِدُ عَبْدًا ضَلَّ فِي حَلَكٍ ... بِوَاضِحِ الْفَرْقِ خَالِيَ الشَّكِّ وَالرِّيَبِ وَنِلْتَ أَعْلَى مَقَامٍ فِي النَّعِيمِ غَدًا ... مُهَنَّئًا بِسُرُورٍ غَيْرَ مُقْتَضِبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا دَائِمَ الْحِقَبِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَبْعُوثِ خَيْرِ نَبِي سَمَاعُ مَوْتَى كَلَامِ الْخَلْقِ مُعْتَقَدٌ ... جَاءَتْ بِهِ عِنْدَنَا الْآثَارُ فِي الْكُتُبِ وَآيَةُ النَّفْيِ مَعْنَاهَا سَمَاعُ هُدًى ... لَا يَقْبَلُونَ وَلَا يُصْغُوا إِلَى أَدَبِ [شَدُّ الْأَثْوَابِ فِي سَدِّ الْأَبْوَابِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أبو بكر فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَكَانَ أبو بكر أَعْلَمَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أبا بكر، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أبا بكر، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أبي بكر - وَفِي لَفْظٍ - لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا سُدَّتْ إِلَّا خَوْخَةَ أبي بكر " أَخْرَجَهُ ابن عساكر، وَفِي لَفْظٍ: " ثُمَّ هَبَطَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَمَا رُئِيَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ» أَخْرَجَهُ أحمد وَالدَّارِمِيُّ هَذَا حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ كَمَا سَأُشِيرُ إِلَى طُرُقِهِ. قَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ خَصِيصَةٌ لأبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ ابن شاهين فِي السُّنَّةِ: تَفَرَّدَ أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ. وَلِلْأَمْرِ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ تَبْلُغُ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ فِي خِرْقَةٍ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أبي بكر، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أبا بكر خَلِيلًا، وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أبي بكر» ". وَأَخْرَجَ ابن سعد مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أيوب بن بشير الأنصاري، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فَاسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ، فَلَمَّا قَضَى تَشَهُّدَهُ قَالَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ رَبِّهِ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ رَبِّهِ، فَفَطِنَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوَّلَ النَّاسِ، فَعَرَفَ إِنَّمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ، فَبَكَى أبو بكر، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكَ يَا أبا بكر سُدُّوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أبي بكر، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ امْرَءًا أَفْضَلَ عِنْدِي يَدًا فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أبي بكر» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتَّى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ فَخَرَجَ عَاصِبًا رَأْسَهُ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَلَمْ يَفْهَمْهَا إِلَّا أبو بكر فَبَكَى، فَقَالَ: نَفْدِيكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَبْنَائِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكَ، أَفْضَلُ النَّاسِ عِنْدِي فِي الصُّحْبَةِ وَذَاتِ الْيَدِ ابن أبي قحافة، انْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بَابِ أبي بكر، فَإِنِّي رَأَيْتُ عَلَيْهِ نُورًا» . وَأَخْرَجَ عبد الله بن أحمد فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أبو بكر صَاحِبِي وَمُؤْنِسِي فِي الْغَارِ سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أبي بكر» . وَأَخْرَجَ أبو يعلى بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: انْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الْمُلَاصِقَةَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بَيْتِ أبي بكر فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ أَفْضَلَ عِنْدِي فِي الصُّحْبَةِ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُدُّوا عَنِّي كُلَّ بَابٍ إِلَّا بَابَ أبي بكر» ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عائشة قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أبي بكر» . وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عائشة قَالَتْ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ: " صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ مِنْ سَبْعِ آبَارٍ شَتَّى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ فَصَبَبْنَا عَلَيْهِ فَخَرَجَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أبو بكر فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ سُدُّوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أبي بكر، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ امْرَءًا أَفْضَلَ عِنْدِي يَدًا فِي الصُّحْبَةِ مِنْ أبي بكر ".» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُؤْذُونِي فِي صَاحِبِي، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ صَاحِبًا لَاتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا أَلَا فَسُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ إِلَّا خَوْخَةَ ابن أبي قحافة» . وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ يحيى بن سعيد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ عَلَيَّ مَنًّا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 الصُّحْبَةِ وَذَاتِ يَدِهِ أبو بكر فَأَغْلِقُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّارِعَةَ كُلَّهَا فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أبي بكر، فَقَالَ نَاسٌ: أَغَلَقَ أَبْوَابَنَا وَتَرَكَ بَابَ خَلِيلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ بَلَغَنِي الَّذِي قُلْتُمْ فِي بَابِ أبي بكر، وَإِنِّي أَرَى عَلَى بَابِ أبي بكر نُورًا، وَأَرَى عَلَى أَبْوَابِكُمْ ظُلْمَةً» مُرْسَلٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو طَاهِرٍ الْمُخْلِصُ فِي فَوَائِدِهِ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ يحيى بن سعيد عَنْ أَنَسٍ بِهِ، وَزَادَ: فَكَانَتِ الْآخِرَةُ أَعْظَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُولَى " قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا أَعْلَمُ وَصَلَهُ عَنِ الليث غَيْرُ عبد الله بن صالح وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنِ الليث عَنْ يحيى بن سعيد بِدُونِ ذِكْرِ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ عَنْ أبي الأحوص حكيم بن عمير العنسي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عِنْدَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ سَدِّ [تِلْكَ] الْأَبْوَابِ إِلَّا بَابَ أبي بكر " وَقَالَ: " لَيْسَ مِنْهَا بَابٌ إِلَّا وَعَلَيْهِ ظُلْمَةٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بَابِ أبي بكر فَإِنَّ عَلَيْهِ نُورًا» . وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ أبي الحويرث قَالَ: " «لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَبْوَابِ تُسَدُّ إِلَّا بَابَ أبي بكر قَالَ عمر: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَفْتَحُ كُوَّةً أَنْظُرُ إِلَيْكَ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا» . وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ أبي البداح بن عاصم بن عدي، قَالَ: «قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُكَ فَتَحْتَ أَبْوَابَ رِجَالٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَا بَالُكَ سَدَدْتَ أَبْوَابَ رِجَالٍ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عباس مَا فَتَحْتُ عَنْ أَمْرِي، وَلَا سَدَدْتُ عَنْ أَمْرِي» . فَصْلٌ: وَأَخْرَجَ أحمد، وَالنَّسَائِيُّ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «كَانَ لِنَفِرٍّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْوَابٌ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَوْمًا: سُدُّوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ علي فَتَكَلَّمَ أُنَاسٌ فِي ذَلِكَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَمَرْتُ بِسَدِّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ غَيْرَ بَابِ علي، فَقَالَ فِيهِ قَائِلُكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا سَدَدْتُ شَيْئًا وَلَا فَتَحْتُهُ وَلَكِنِّي أُمِرْتُ بِشَيْءٍ فَاتَّبَعْتُهُ» . وَأَخْرَجَ أحمد، وَالنَّسَائِيُّ، وأبو يعلى، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَتَرْكِ بَابِ علي فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَدَدْتَ أَبْوَابَنَا كُلَّهَا إِلَّا بَابَ علي قَالَ: مَا أَنَا سَدَدْتُ أَبْوَابَكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَدَّهَا» . وَأَخْرَجَ أحمد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَسُدَّتْ إِلَّا بَابَ علي» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَزَادَ: «فَقَالَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ مَا أُمِرْتُ بِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ إِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " «أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أبي بكر أَنْ سُدَّ بَابَكَ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً فَسَدَّ بَابَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عمر، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى العباس بِمِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنَا سَدَدْتُ أَبْوَابَكُمْ وَفَتَحْتُ بَابَ علي، وَلَكِنَّ اللَّهَ فَتَحَ بَابَ علي وَسَدَّ أَبْوَابَكُمْ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْطَلِقْ فَمُرْهُمْ فَلْيَسُدُّوا أَبْوَابَهُمْ فَانْطَلَقْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ فَفَعَلُوا إِلَّا حمزة فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ فَعَلُوا إِلَّا حمزة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لحمزة فَلْيُحَوِّلْ بَابَهُ، فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُحَوِّلَ بَابَكَ فَحَوَّلَهُ» . وَأَخْرَجَ أحمد، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ غَيْرَ بَابِ علي، وَكَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَهُوَ جُنُبٌ وَهُوَ طَرِيقُهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا غَيْرَ بَابِ علي فَقَالَ العباس: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْرَ مَا أَدْخُلُ أَنَا وَحْدِي، وَأَخْرُجُ قَالَ: مَا أَمَرْتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَسُدَّهَا كُلَّهَا غَيْرَ بَابِ علي» ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ علي فَقَالَ: انْظُرْ إِلَى مَنْزِلِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ سَدَّ أَبْوَابَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَقَرَّ بَابَهُ» . وَأَخْرَجَ أحمد مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أُعْطِيَ علي ثَلَاثَ خِصَالٍ: زَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنَتِهِ وَوَلَدَتْ لَهُ، وَسَدَّ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ» ، فَهَذِهِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ حَدِيثًا فِي الْأَمْرِ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ وَبَقِيَتْ أَحَادِيثُ أُخَرُ تَرَكْتُهَا كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ. فَصْلٌ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَّهُ سَدَّ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ أبي بكر، وَبَيْنَ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ أَنَّهُ سَدَّ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ علي، فَإِنَّهُمَا قِصَّتَانِ إِحْدَاهُمَا غَيْرُ الْأُخْرَى، فَقِصَّةُ علي كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً وَهِيَ فِي سَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ، وَقَدْ كَانَ أَذِنَ لعلي أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ، وَقِصَّةُ أبي بكر مُتَأَخِّرَةٌ فِي مَرَضِ الْوَفَاةِ فِي سَدِّ طَاقَاةٍ كَانُوا يَسْتَقْرِبُونَ الدُّخُولَ مِنْهَا وَهِيَ الْخَوْخُ، كَذَا جَمَعَ القاضي إسماعيل المالكي فِي أَحْكَامِهِ، وَالْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِيهِ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِهِ، وَعِبَارَةُ الْكَلَابَاذِيِّ لَا تُعَارِضُ بَيْنَ قِصَّةِ علي وَقِصَّةِ أبي بكر ; لِأَنَّ بَابَ أبي بكر كَانَ مِنْ جُمْلَةِ خَوْخَاتٍ يَطَّلِعُ مِنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَبْوَابُ الْبُيُوتِ خَارِجَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ تِلْكَ الْخَوْخِ فَلَمْ تَبْقَ تُطَّلَعُ مِنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَتُرِكَتْ خَوْخَةُ أبي بكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 فَقَطْ. وَأَمَّا بَابُ علي فَكَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ يَخْرُجُ مِنْهُ وَيَدْخُلُ مِنْهُ. وَقَالَ الحافظ ابن حجر: قِصَّةُ علي فِي سَدِّ الْأَبْوَابِ، وَأَمَّا سَدُّ الْخَوْخِ فَالْمُرَادُ بِهِ طَاقَاةٌ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ يَسْتَقْرِبُونَ الدُّخُولَ مِنْهَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِسَدِّهَا إِلَّا خَوْخَةَ أبي بكر، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِخْلَافِ أبي بكر لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَسْجِدِ كَثِيرًا دُونَ غَيْرِهِ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ قِصَّةِ علي ذِكْرُ حمزة قِصَّتَهُ فَإِنَّ حمزة قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ. فَصْلٌ: قَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بَلِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ مِنْ فَتْحِ بَابٍ شَارِعٍ إِلَى مَسْجِدٍ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ وَلَا لِعَمِّهِ العباس وَلَا لأبي بكر إِلَّا لعلي لِمَكَانِ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَمِنْ فَتْحِ خَوْخَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ طَاقَةٍ أَوْ كُوَّةٍ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ وَلَا لعمر إِلَّا لأبي بكر خَاصَّةً لِمَكَانِ الْخِلَافَةِ، وَلِكَوْنِهِ أَفْضَلَ النَّاسِ يَدًا عِنْدَهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى التَّعْلِيلِ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُبْدَأِ بِهَا، وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ أَحَدٍ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ عمر اسْتَأْذَنَ فِي كُوَّةٍ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُقَاسُ عَلَيْهِ؟ وَقَدْ مُنِعَ عمر، وَاسْتَأْذَنَ العباس فِي فَتْحِ بَابٍ صَغِيرٍ بِقَدْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَهُوَ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ وَقَدْ مُنِعَ مِنْهُ عمر والعباس؟ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ بِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسُدَّ مَا سَدَّ وَلَمْ يَفْتَحْ مَا فَتَحَ إِلَّا بِأَمْرِهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَرَضِ الْوَفَاةِ، وَفِي آخِرِ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَهِدَ بِهِ إِلَى أُمَّتِهِ وَمَاتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ، وَتَقَلَّدَ ذَلِكَ حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَلَا يَكْتُمَهُ، فَإِنْ تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ مَنُوطٌ بِرَأْيِ الْإِمَامِ زِدْ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْعِهِ، فَلَا رَأْيَ لِأَحَدٍ فِي إِبَاحَتِهِ، بَلْ لَوْ وَقَفَ رَجُلٌ مِنْ آحَادِ النَّاسِ مَسْجِدًا وَشَرَطَ فِيهِ شَيْئًا اتُّبِعَ شَرْطُهُ، فَكَيْفَ بِمَسْجِدٍ وَقَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَّ فِيهِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَمْرٍ وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْوَحْيِ، وَجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ عَهْدِهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مَسَاجِدَ لَا تَعْرِضُ فِي شُرُوطِ وَاقِفِيهَا لِمَنْعٍ وَلَا لِغَيْرِهِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ تَوَقُّفٍ وَنَظَرٍ، وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْمَسْجِدَ الشَّرِيفَ قَدْ زَالَتْ مَعَالِمُهُ وَجُدُرُهُ وَوُسِّعَ زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُجْدِيهِ هَذَا شَيْئًا فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ وَأَحْكَامَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 الثَّابِتَةَ لَهُ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوِ اتَّسَعَ وَأُزِيلَتْ جُدُرُهُ وَأُعِيدَتْ عَادَتْ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ مَنُوطٌ بِالْمَسْجِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا بِذَاكَ الْجِدَارِ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ بُنِيَ فِي زَمَنِ عمر وَوُسِّعَ فِي زَمَنِ عثمان وَغَيْرِهِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَهُ، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الْفَتْحِ فِي الْجِدَارِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْفَاتِحِ، قُلْنَا: إِنْ كَانَ مَعَ إِعَادَةِ حَائِطِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ كَمَا كَانَتْ بِحَيْثُ يُسَدُّ الْبَابُ وَالشَّبَابِيكُ الَّتِي فِي الْجِدَارِ فَلَا يُسْتَطْرَقُ مِنْهُ، وَلَا يُطَّلَعُ مِنْهَا فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ إِزَالَةِ حَائِطِ الْمَسْجِدِ وَبَقَاءِ الِاسْتِطْرَاقِ وَالِاطِّلَاعِ، فَمَعَاذَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذِهِ ذَرِيعَةٌ وَحِيلَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ، وَإِذَا مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر مِنْ فَتْحِ كُوَّةٍ يَنْظُرُهُ مِنْهَا حِينَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَكَيْفَ يَهْدِمُ الْحَائِطَ جَمِيعَهُ؟ بَلْ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَأَقُولُ لَوْ أُعِيدَ حَائِطُ الْمَسْجِدِ وَبُنِيَ خَلْفَهُ جِدَارٌ أَطْوَلُ مِنْهُ وَفُتِحَ فِي أَعْلَاهُ كُوَّةٌ يُطَّلَعُ مِنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ; احْتِيَاطًا لِلْحَدِيثِ، وَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّبَابِيكَ تَصِيرُ مُعَدَّةً لِمَنْ يَجْلِسُ فِيهَا مُرْتَفِعًا، وَالْقَبْرُ الشَّرِيفُ تَحْتَهُ فَهَذَا أَشَدُّ وَأَشَدُّ، وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُتَحَرٍّ الِاحْتِيَاطُ لِدِينِهِ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ فِيهِ بَعْدَ نَصِّهِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ يُنْقَضُ وَفَتْوَى الْمُفْتِي بِمَا يُعَارِضُ تُرَدُّ، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى خِلَافِهِ بِالْحِيَلِ الْفَاسِدَةِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ: تَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» . فَصْلٌ: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ مُفْتِي عَصْرِنَا أَفْتَوْا بِجَوَازِ فَتْحِ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ وَالشُّبَّاكِ مِنْ دَارٍ بُنِيَتْ مُلَاصِقَةً لِلْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمُ اسْتِرْوَاحًا وَعَدَمَ وُقُوفٍ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ رُوجِعَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي مُسْتَنَدِهِ فِيمَا أَفْتَى بِهِ فَأَبْدَوْا شُبَهًا كُلُّهَا مَرْدُودَةٌ، وَلَوْلَا جَنَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَظَمَتُهُ الرَّاسِخَةُ فِي الْقَلْبِ، لَمْ أَتَكَلَّمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَكُنْتُ إِلَى السُّكُوتِ أَمْيَلَ لَكِنْ لَا أَرَى السُّكُوتَ يَسَعُنِي فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا عَهْدٌ عَهِدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ وَفَاتِهِ فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَهُ، وَلَا يُرَاعِيَ فِيهِ صَدِيقًا وَلَا حَبِيبًا، وَلَا بَعِيدًا وَلَا قَرِيبًا، وَأَنَا أَذْكُرُ شُبَهَ الْمُفْتِينَ وَأَرُدُّهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا نَقْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَهْلِ مَذْهَبِنَا وَنَقُولُ بِالْجَوَازِ اسْتِحْسَانًا حَيْثُ لَا ضَرَرَ، وَجَوَابُ هَذَا أَنَّهُ لَا اسْتِحْسَانَ مَعَ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ حَيْثُ رَأَى النَّاظِرُ ذَلِكَ، وَجَوَابُ هَذَا أَنَّ النَّصَّ مَنَعَ الْقِيَاسَ، وَدَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مَنُوطٌ بِرَأْيِ الْإِمَامِ. وَجَوَابُ هَذَا أَنَّهُ لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَلْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 يُغَيِّرَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْئًا بِرَأْيِهِ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِزَمَنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى تَخْصِيصِ النُّصُوصِ بِدَلِيلٍ. ثَانِيهَا: أَنَّ الْقِصَّةَ أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ، وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا إِلَّا دُونَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْصُوصًا بِزَمَنٍ لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّنَهُ وَإِلَّا لَكَانَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، لَا سِيَّمَا وَهِيَ آخِرُ جِلْسَةٍ جَلَسَهَا لِلنَّاسِ. رَابِعُهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَمَرُّوا إِلَى أَنِ انْقَرَضُوا وَهُمْ بَاقُونَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوهُ شَرْعًا مُؤَبَّدًا. خَامِسُهَا: يُقَالُ لِهَذَا الَّذِي ادَّعَى التَّخْصِيصَ مَا وَجْهُ مَنْعِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِهِ وَالْإِذْنِ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَالصَّحَابَةُ أَشْرَفُ وَأَجَلُّ وَأَحَقُّ بِكُلِّ خَيْرٍ؟ وَهَلْ يَتَخَيَّلُ مُتَخَيِّلٌ أَنْ يُرَخِّصَ لِأَهْلِ الْقَرْنِ الْأَرْذَلِ مَا مُنِعَ [مِنْهُ] أَشْرَفُ الْأُمَّةِ وَخِيَارُهُمْ؟! مَعَاذَ اللَّهِ؟! وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَنْعُ مَخْصُوصٌ بِجِدَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُدِمَ وَأُعِيدَ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْمُعَادَ مِلْكٌ لِلْمُعِيدِ فَيَفْتَحُ فِيهِ مَا شَاءَ وَلَا يَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يُوقِفَهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْدُودٌ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْقَوْلِ فُهِمَ أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْجِدَارِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَسْجِدِ، وَقَصْدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُسْتَطْرَقَ إِلَى مَسْجِدِهِ مِنْ بَابٍ فِي دَارٍ تُلَاصِقُهُ، وَلَا يُطَّلَعُ إِلَيْهِ مِنْ كُوَّةٍ فِي دَارٍ تُلَاصِقُهُ، فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بَقِيَ الْجِدَارُ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ أَوْ أُزِيلَ وَأُعِيدَ غَيْرُهُ فَإِنَّ الْمُعَادَ يَقُومُ مَقَامَ الْجِدَارِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. الثَّانِي: أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِالْعِلِيَّةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ رَتَّبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ هُنَا عَلَى الْوَصْفِ حَيْثُ قَالَ: «انْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا» ، وَفِي لَفْظٍ: " الشَّوَارِعَ إِلَى الْمَسْجِدِ " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالشَّوَارِعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي سَدِّهَا كَوْنُهَا شَارِعَةً إِلَى الْمَسْجِدِ أَيْ طَرِيقًا إِلَيْهِ مِنْ دَارٍ فَسَدَّ كُلَّ بَابٍ يَشْرَعُ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنْ دَارٍ، سَوَاءٌ فُتِحَ فِي الْجِدَارِ النَّبَوِيِّ أَمْ فِي الْجِدَارِ الَّذِي أُعِيدَ مَكَانَهُ، أَمْ فِي جِدَارِ صَاحِبِ الدَّارِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْجِدَارَ النَّبَوِيَّ أُزِيلَ فِي عَهْدِ عمر، وعثمان وَبُنِيَ غَيْرُهُ، وَأَبْقَى الصَّحَابَةُ هَذَا الْحُكْمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ تَعَلُّقَ ذَلِكَ بِالْمَسْجِدِ لَا بِالْجِدَارِ، وَإِلَّا لَكَانُوا يَفْتَحُونَ لَهُمْ أَبْوَابًا وَكَوَّاتٍ وَيَحْتَجُّونَ بِأَنَّ الْجِدَارَ النَّبَوِيَّ أُزِيلَ، وَهَذَا الْجِدَارُ مِلْكُ عمر أَوْ عثمان وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَوْرَعُ وَأَشَدُّ خَشْيَةً. وَانْظُرْ إِلَى «قَوْلِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَنْبَغِي أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 يُزَادَ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا مَا زِدْتُ» أَخْرَجَهُ أحمد، وأبو يعلى، وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ فَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّوَقُّفِ مِنْ إِحْدَاثِ شَيْءٍ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ إِلَّا بِنَصٍّ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الرَّابِعُ: أَنَّ دَعْوَى أَنَّ الْجِدَارَ الْمُعَادَ مِلْكٌ لِلْمُعِيدِ يُقَالُ عَلَيْهِ أَوَّلًا هَدْمُ الْجِدَارِ الَّذِي قَبْلَهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ فَإِعَادَتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْهَادِمِ، فَإِذَا أَعَادَهُ كَانَ بَدَلَ مُتْلَفٍ لَا مِلْكًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ فَإِعَادَتُهُ وَاجِبَةٌ مِنْ مَالِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ أَوْ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا أُعِيدَ مِنْهُمَا كَانَ وَقْفًا كَمَا كَانَ لَا مِلْكًا، وَإِنْ أَعَادَهُ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى نِيَّةِ إِعَادَتِهِ لِلْمَسْجِدِ، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْضًا أَوْ عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَكَيْفَ يَبْنِي عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ. الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا الْجِدَارَ الْمُعَادَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَمْحَضَ جِدَارًا لِلْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ أَوْ يَجْعَلَ جِدَارًا لِلدَّارِ الَّتِي تُبْنَى مُلَاصِقَةً، وَيَكْتَفِي بِهِ عَنْ إِعَادَةِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ أَوْ يُجْعَلُ جِدَارًا لَهَا، وَيُعَادُ جِدَارُ الْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ، فَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ إِهْمَالُ إِعَادَةِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَوِ الْحَاكِمِ الشَّافِعِيِّ نَاظِرِ الْحَرَمِ الشَّرِيفِ إِعَادَةُ جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَلَا يَتْرُكُهُ مَهْدُومًا، وَيَزِيدُ ذَلِكَ تَحْرِيمًا أَنْ يُبْنَى عَلَى أَرْضِ الْمَسْجِدِ، وَيُجْعَلَ جِدَارًا لِلدَّارِ، فَهَذَا فِيهِ أَخْذُ قِطْعَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ وَإِدْخَالُهَا فِي الدَّارِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَجَبَ فَصْلُ الدَّارِ مِنْهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِدَارِ الْمَسْجِدِ فِي الدَّارِ. السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: " سُدُّوا الْأَبْوَابَ اللَّاصِقَةَ فِي الْمَسْجِدِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ الْحُكْمَ بِجِدَارِهِ بَلْ عَلَّقَهُ بِاللُّصُوقِ فِي الْمَسْجِدِ أَيْ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِهِ فَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ بَابٍ لَصِقَ بِهِ مِنْ أَيِّ جِدَارٍ كَانَ. السَّابِعُ: أَنَّ الْحَدِيثَ الْآتِيَ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ بُنِيَ مَسْجِدِي هَذَا إِلَى صَنْعَاءَ كَانَ مَسْجِدِي» دَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ مَسْجِدًا وَالَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ، فَكَذَلِكَ يَسْتَوِي الْجِدَارُ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ وَالَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ. الثَّامِنُ: لَوْ قُدِّرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ احْتِيَاجُ بَعْضِ حِيطَانِ الْكَعْبَةِ إِلَى هَدْمٍ وَإِصْلَاحٍ، فَهَدَمَهَا الْإِمَامُ وَأَعَادَهَا فَهَلْ يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ الْحَائِطَ الَّذِي أَعَادَهُ مِلْكٌ لَهُ يَفْتَحُ فِيهِ مَا شَاءَ وَيَتَصَرَّفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى يُوقِفَهُ؟ فَإِنْ قِيلَ بِذَلِكَ فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَحَائِطُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ كَذَلِكَ، إِذِ الْحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ مُسْتَوِيَانِ فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، وَقِيَاسُ الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ عَلَى الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ أَشْبَهُ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، لِمَا لَهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ لَا سِيَّمَا مَعَ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ النُّصُوصِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ. التَّاسِعُ: قَدْ ذَكَرَ الأقفهسي أَنَّ الملك الظاهر بيبرس هُوَ الَّذِي أَحْدَثَ الْمَقْصُورَةَ حَوْلَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ زِيَادَةُ تَعْظِيمٍ وَحُرْمَةٍ لِلْحُجْرَةِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الأقفهسي هَذَا الْفِعْلَ لِكَوْنِهِ حَجَرَ طَائِفَةً مِنَ الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ عَنْ صَلَاةِ النَّاسِ فِيهَا، وَصَارَ هَذَا الْقَدْرَ مَأْوَى النِّسَاءِ بِأَطْفَالِهِنَّ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، وَنَقَلَ عَنْ قاضي القضاة عز الدين بن جماعة أَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ للملك الظاهر فَسَكَتَ وَمَا أَجَابَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُنْظَرُ فِيهِ انْتَهَى. فَانْظُرْ إِلَى تَوَقُّفِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْقَدْرِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِمَنْعٍ، بَلْ قُصِدَ التَّعْظِيمُ فِيهِ، وَالْحُرْمَةُ ظَاهِرٌ، فَكَيْفَ بِإِحْدَاثِ بَابٍ يَشْرَعُ أَوْ شَبَابِيكُ يَطَّلِعُ مِنْهَا أَوْ يَجْلِسُ فِيهَا الْجَالِسُ مُرْتَفِعًا مَعَ مُصَادَمَةِ ذَلِكَ لِلنُّصُوصِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِمَنْ قَالَ بِذَلِكَ اطِّرَادُ الْحُرْمَةِ فِي الْجِدَارِ الْمُعَادِ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّوَقُّفِ وَالْوَرَعِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَحَلِّ الْخَطِرِ. الْعَاشِرُ: هَلْ يَظُنُّ ظَانٌّ أَوْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ الْمَنْعَ بِالْجِدَارِ بُخْلًا بِجِدَارِهِ أَوْ حِرْصًا عَلَيْهِ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَضْعُفَ الْجِدَارُ؟ كَلَّا وَاللَّهِ بَلْ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْعَ الِاسْتِطْرَاقِ وَالِاطِّلَاعِ إِلَى مَسْجِدِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْجِدَارِ بِخُصُوصِهِ حَسْبَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: هَلْ كَانَ الْمَنْعُ لعمر وَغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجِدَارُ حَتَّى لَوْ فَتَحُوا مِنْ جِدَارِهِمْ حَيْثُ لَا جِدَارَ لِلْمَسْجِدِ لَجَازَ لَهُمْ ذَلِكَ؟ الْأَحَادِيثُ تَقْتَضِي خِلَافَهُ كَمَا مَنْ مَرَّ عَلَيْهَا. الثَّانِيَ عَشَرَ: هَذَا الْمَنْعُ قَدْ أَسْنَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْوَحْيِ وَلَمْ يُبَيِّنْ عِلَّتَهُ، فَإِنْ أُدْرِكَ لَهُ عِلَّةٌ وَهُوَ تَعْظِيمُ الْمَسْجِدِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي كُلِّ جِدَارٍ، وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ عِلَّةٌ اسْتَمَرَّ أَيْضًا، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ إِذَا لَمْ يُنَصَّ يَكُونُ عَنْ قِيَاسٍ وَمَا لَا تُدْرَكُ عِلَّتُهُ لَا يَدْخُلُهُ الْقِيَاسُ كَسَائِرِ الْأُمُورِ التَّوْقِيفِيَّةِ وَالتَّعَبُّدِيَّةِ، وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْعِلَّةُ اخْتِصَاصُهُ بِالْجِدَارِ قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِعِلَّةٍ، وَإِنْ قَالَ: الْعِلَّةُ خَوْفُ إِضْعَافِهِ، قُلْنَا: هِيَ عِلَّةٌ سَاقِطَةٌ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 يَلْتَزِمُونَ بِنَاءَهُ كُلَّمَا وَهِيَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلَّلُ بِتَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ فَيَعُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عِلَّتِهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: قَدْ وَقَعَ فِي الْأَحَادِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ هَذَا عَهْدٌ عَهِدَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ عَلِمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ كَائِنٌ فِي أُمَّتِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَعَلِمَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَقَعُ فِي خِلَافَةِ عمر إِزَالَةُ تِلْكَ الْجُدُرِ الْمَوْجُودَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِسِنِينَ قَلِيلَةٍ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الَّذِي عَهِدَ بِهِ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْجُدُرِ لَبَيَّنَهُ لِعِلْمِهِ بِزَوَالِهَا عَنْ قَرِيبٍ. الرَّابِعَ عَشَرَ: قَدْ وَرَدَ عَنْ عائشة أَنَّهَا كَانَتْ تَمْنَعُ أَهْلَ الدُّورِ الْمُطِيفَةِ بِالْمَسْجِدِ مِنْ دَقِّ الْوَتَدِ فِي الْحَائِطِ، وَذَلِكَ بَعْدَ إِزَالَةِ الْجُدُرِ الَّتِي كَانَتْ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُدُرَ الَّتِي أُعِيدَتْ لَهَا حُكْمُ الْجُدُرِ الْأُوَلِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ وَلَمْ يَقُلْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْجِدَارِ. السَّادِسَ عَشَرَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ أَنَّ دَارَ أبي بكر الَّتِي أُبْقِيَتْ فِيهَا الْخَوْخَةُ بَاعَهَا أبو بكر فِي أَمْرٍ احْتَاجَ إِلَيْهِ فَاشْتَرَتْهَا حفصة أم المؤمنين بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا وُسِّعَ الْمَسْجِدُ فِي زَمَنِ عثمان طَلَبَ مِنْهَا أَنْ تَبِيعَهَا لِيُوَسِّعَ بِهَا الْمَسْجِدَ فَامْتَنَعَتْ وَقَالَتْ: كَيْفَ بِطَرِيقِي فِي الْمَسْجِدِ؟ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ الِاخْتِصَاصَ بِالْمَسْجِدِ لَا بِالْجِدَارِ امْتِنَاعَ فَتْحِ الْأَبْوَابِ وَنَحْوِهَا وَلَوْ بَعْدَ تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ النَّبَوِيِّ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ ابن الصلاح سُئِلَ عَنْ رِبَاطٍ مَوْقُوفٍ عَلَى الصُّوفِيَّةِ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُفْتَحَ فِيهِ بَابٌ جَدِيدٌ مُضَافًا إِلَى بَابِهِ الْقَدِيمِ، فَأَجَابَ بِالْجَوَازِ بِشُرُوطٍ وَاسْتَدَلَّ بِفِعْلِ عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ فَتَحَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَبْوَابًا زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ، وَهَذَا مِنِ ابن الصلاح دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْجِدَارَ الْمُعَادَ لَهُ حُكْمُ الْجِدَارِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا فَتَحَ فِي جِدَارِهِ الَّذِي بَنَاهُ هُوَ بَعْدَ إِزَالَةِ الْجُدُرِ النَّبَوِيَّةِ وَالْجُدُرِ الْعُمَرِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُخْتَلِفًا لَمْ يَنْهَضْ لِابْنِ الصَّلَاحِ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ فِي الْفَرْقِ جِدَارُ الرِّبَاطِ جِدَارُ الْوَاقِفِ فَلَا يُفْتَحُ فِيهِ، وَالْجِدَارُ الَّذِي فَتَحَ فِيهِ عثمان لَيْسَ جِدَارَ الْوَاقِفِ بَلْ هُوَ جِدَارٌ وَمَلَكَهُ فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ، وَقَدْ نَقَلَ السبكي كَلَامَ ابن الصلاح هَذَا فِي فَتَاوِيهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ فَهُوَ تَقْرِيرٌ لِهَذَا الْفَهْمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 الثَّامِنَ عَشَرَ: صَرَّحَ العبادي، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِأَنَّهُ لَوِ الْتَمَسَ مِنَ النَّاسِ آلَةً لِيَبْنِيَ بِهَا مَسْجِدًا فَأَعْطَوْهُ الْآلَةَ فَبَنَى بِهَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا بِنَفْسِ الْبِنَاءِ، وَلَا يَحْتَاجِ إِلَى إِنْشَاءِ وَقْفٍ، كَمَا لَوْ أَحْيَا مَوَاتًا بِنِيَّةٍ جَعَلَهَا مَسْجِدًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا بِالنِّيَّةِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى وَقْفٍ، نَقَلَهُ الزركشي فِي التَّكْمِلَةِ عَنِ الجويني، وابن العماد فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ عَنِ العبادي، وَهَذَا يَدْفَعُ الْقَوْلَ بِأَنَّ حَائِطَ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ إِذَا أَعَادَهَا الْإِمَامُ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ وَيَحْتَاجُ إِلَى إِنْشَاءِ وَقْفٍ ; لِأَنَّهُ مَا نَوَى بِعِمَارَتِهَا إِلَّا إِعَادَةَ حَائِطِ الْمَسْجِدِ، وَالْقَرَائِنُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ مُتَضَافِرَةٌ مِنْهَا كَوْنُ الْبِنَاءِ عَلَى أَرْضِ الْمَسْجِدِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا بَنَى مَسْجِدًا فِي مَوَاتٍ وَنَوَى بِهِ الْمَسْجِدَ صَارَ بِهِ مَسْجِدًا وَيُغْنِي الْفِعْلُ مَعَ النِّيَّةِ عَنِ الْقَوْلِ، قَالَ: وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الْآلَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ الْبِنَاءِ، وَهِيَ قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّهَا لِلْمَسْجِدِ فَيَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ نَقَلَهُ الزركشي فِي التَّكْمِلَةِ، وَصَّدَرَ هَذَا الْكَلَامَ وَالِاسْتِثْنَاءَ الَّذِي فِي آخِرِهِ بِبُطْلَانِ الْقَوْلِ بِأَنَّ حَائِطَ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ إِذَا أَعَادَهَا الْإِمَامُ صَارَتْ مِلْكَهُ وَيَحْتَاجُ إِلَى وَقْفٍ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حِينَ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ صَرَّحَ بِوَقْفٍ وَلَا ذَكَرَ لَفْظًا ذَكَرَهُ الزركشي فِي التَّكْمِلَةِ، قُلْتُ: وَكَذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَا عَنِ المهدي حِينَ وَسَّعَاهُ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ بَنَوْهُ بَعْدَ الْحَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِوَقْفٍ وَلَا ذَكَرُوا لَفْظًا وَلَا نَبَّهَهُمْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْبِنَاءَ الْمَحْدُودَ تَابِعٌ لِلْمَسْجِدِ الْقَدِيمِ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: قَالَ الزركشي: أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ لَوْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ لَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ حِينَ بَنَى مَسْجِدَهُ تَلَفَّظَ بِوَقْفِهِ، قُلْتُ: وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَاهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِالْوَحْيِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِوَقْفِهِ، فَإِنَّ قُوَّةَ الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ تُعْطِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ مَسْجِدِهِ وَتَسْتَمِرُّ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ كُلُّ مَنْ جَدَّدَهُ إِلَى تَصْرِيحٍ بِوَقْفِهِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا نَقْلًا عَنِ الْإِمَامِ: لَا شَكَّ فِي انْقِطَاعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 تَصَرُّفِ الْإِمَامِ عَنْ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ انْتَهَى. وَهَذَا الْكَلَامُ صَرِيحٌ فِي مَنْعِهِ مِنْ أَنْ يَبْنِيَ حَائِطًا عَلَى بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ وَيَضُمَّ إِلَيْهَا زِيَادَةً فِي الْبِنَاءِ مَوْصُولَةً بِهَا مُتَمَلِّكًا ذَلِكَ وَيَتَصَرَّفَ فِي الْمَجْمُوعِ بِفَتْحِ الشَّبَابِيكِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ إِعَادَةُ حَائِطِ الْمَسْجِدِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ بِمَا شَاءَ مَعَ وُجُودِ سَهْمِ الْمَصَالِحِ الَّذِي يَجِبِ عَلَيْهِ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ مِنْهُ وَإِعَادَتُهَا كَمَا كَانَتْ؟ هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ، وَمَا أَظُنُّ فَقِيهًا يَسْمَحُ بِهِ إِلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ نِيَّةِ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ، وَكَذَا مَعَ وُجُودِ رِيعٍ مُتَحَصِّلٍ مِنْ وَقْفِ الْمَسْجِدِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: قَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ مِلْكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لِثُبُوتِ الْحَيَاةِ لَهُ، وَلِهَذَا أُنْفِقَ عَلَى زَوْجَاتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ مِنْ سَهْمِهِ الَّذِي كَانَ يَسْتَحِقُّهُ، فَكَذَلِكَ يُبْنَى مِنْهُ مَا تَهَدَّمَ مِنْ مَسْجِدِهِ، وَيُعَادُ عَلَى وَضْعِهِ، وَشَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَصَرُّفٍ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: لَا شَكَّ فِي أَنَّ جَمِيعَ مَا بِأَيْدِي الْمُلُوكِ الْآنَ هُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَيْسَ فِي أَيْدِيهِمْ شَيْءٌ يُثْبِتُ أَنَّهُ مِلْكُهُمْ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ، وَأَيُّ جِهَةٍ فَرَضَتْ فَعَنْهَا الْجَوَابُ الشَّافِي فَالْحَائِطُ الْمُعَادُ لَمْ يُبْنَ بِمَالِ نَفْسِهِ فَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: قَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى قُرَيْشٍ حَيْثُ تَصَرَّفُوا فِي الْكَعْبَةِ لَمَّا بَنَوْهَا، وَلَمْ يُعِيدُوهَا عَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَسَدُّوا أَحَدَ بَابَيْهَا، وَغَيَّرُوا مَوْضِعَ الْآخَرِ وَهَمَّ بِهَدْمِهَا، وَإِعَادَةِ الْبَابَيْنِ كَمَا كَانَا لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَصْلَحَةُ التَّآلُفِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَخَوْفُ ارْتِدَادِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ الْمُعَادَ لَهُ حُكْمُ مَا كَانَ قَبْلَ الْهَدْمِ، وَإِلَّا كَانَ يُقَالُ أَنَّ قُرَيْشًا إِنَّمَا تَصَرَّفَتْ فِي بِنَائِهَا الَّذِي بَنَتْهُ مِنْ مَالِهَا، وَأَنَّ بِنَاءَ إِبْرَاهِيمَ قَدْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ وَزَالَ رَسْمُهُ، وَلِهَذَا قَالَ السبكي فِيمَا سَيَأْتِي نَقْلُهُ عَنْهُ: أَنَّ هَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحِ الْبَابِ الثَّانِي فِي الْكَعْبَةِ رَدٌّ لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ وَبَيْنَ مَا بَنَاهُ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، وَإِنَّمَا قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي بَنَاهَا آحَادُ النَّاسِ إِنْ سَلِمَ الْفَرْقُ وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ ابن الصلاح قِيَاسُ رِبَاطِ الصُّوفِيَّةِ فِي إِحْدَاثِ بَابٍ فِيهِ عَلَى الْكَعْبَةِ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: صَرَّحَ ابن العماد فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ مَسَاجِدُ مُتَلَاصِقَةً فَأَرَادَ النَّاظِرُ رَفْعَ الْجِدَارِ الَّتِي بَيْنَهَا وَجَعْلَهَا مَسْجِدًا وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَغْيِيرِ مَعَالِمِ الْوَقْفِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُ جِدَارِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَالِاقْتِصَارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 عَلَى جِدَارٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ لِلْمَدْرَسَةِ الَّتِي تُلَاصِقُهُ مُكْتَفِيًا بِهِ عَنْ جِدَارِ الْمَسْجِدِ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَدْرَسَةِ أَوِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ جِدَارٍ لِلْمَسْجِدِ مُتَمَيِّزٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ جِدَارِ غَيْرِهِ يَخْتَصُّ بِهِ وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: هَذِهِ الْمَدْرَسَةُ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَسْجِدًا كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَدَارِسِ وَالرُّبَطِ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ فِي الْجِدَارِ، إِذْ لَا يَتَمَيَّزُ حِينَئِذٍ جِدَارُ الْمَسْجِدِ الَّذِي حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ مِنْ جِدَارِ الْمَدْرَسَةِ الَّذِي لَا يُعْطَى حُكْمُ الْمَسْجِدِ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا تَحْرِيمُ مُكْثِ الْجُنُبِ وَصِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ وَالِاعْتِكَافُ وَتَحْرِيمُ الْبُصَاقِ وَحَمْلُ الْجُذُوعِ وَإِعَادَتُهُ إِذَا هُدِمَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ، أَوْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْجِدًا فَيُنْظَرُ إِلَى مَا أَوْرَدَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَنْعُ مَخْصُوصٌ بِالْقَدْرِ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي وُسِّعَ بِهَا فَلَا وَهَذَا مَرْدُودٌ بِنَصِّ الْعُلَمَاءِ، عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَيْنِ وَلَوْ وُسِّعَا مَعًا لَمْ تَخْتَلِفْ أَحْكَامُهُمَا الثَّابِتَةُ لَهُمَا، وَقَدْ وُسِّعَ فِي زَمَنِ عثمان وَغَيْرِهِ، وَاسْتَمَرَّ الصَّحَابَةُ عَلَى إِبْقَاءِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ. وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ بُنِيَ مَسْجِدِي هَذَا إِلَى صَنْعَاءَ كَانَ مَسْجِدِي» ، وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ مُدَّ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ لَكَانَ مِنْهُ. فَهَذَا الْحَدِيثُ وَالْأَثَرُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ أَحْكَامَ الْمَسْجِدِ ثَابِتَةٌ لَهُ، وَلَوْ هُدِمَ عَمَّا كَانَ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُعِيدَ وَلَوْ وُسِّعَ وَامْتَدَّ، وَأَيْضًا فَالتَّوْسِعَةُ لَا تَمْنَعُ اسْتِمْرَارَ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِطْرَاقِ إِلَى الْقَدْرِ الْمَزِيدِ الِاسْتِطْرَاقُ إِلَى بَقِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ فَالْمَحْذُورُ بَاقٍ. فَصْلٌ: وَقَدْ تَعَرَّضَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا لِلْمَسْأَلَةِ وَعُمُومِهَا فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَسُئِلَ الشَّيْخُ تقي الدين عَنْ بَابٍ فُتِحَ فِي سُورِ الْمَسْجِدِ هَلْ بَعْدَ فَتْحِهِ يَجُوزُ الِاسْتِطْرَاقُ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ مِثْلَ الْأَبْوَابِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمِثْلَ شُبَّاكِ الطَّيْبَرْسِيَّةِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْجَامِعِ الْأَزْهَرِ أَمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؟ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْجِدَارُ عَرِيضًا بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى وَضْعِ الْقَدَمِ فِي وَسَطِهِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُتَكَلَّمُ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي جَوَازِ فَتْحِ الْبَابِ الْمَذْكُورِ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَكَادُ الشَّافِعِيَّةُ يَرْتَابُونَ فِي عَدَمِ إِيجَازِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَحْتَرِزُونَ عَنْ تَغْيِيرِ الْوَقْفِ جِدًّا، وَلَمَّا فُتِحَ شُبَّاكُ الطَّيْبَرْسِيَّةِ فِي جِدَارِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ وَرَأَيْتُهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَلَمَّا فَتَحَ الشَّيْخُ علاء الدين فِي بَيْتِهِ فِي الْمَدْرَسَةِ الشَّرِيفِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ شُبَّاكًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 لَطِيفًا لِأَجْلِ الضَّوْءِ خَشِيَ الْإِنْكَارَ [عَلَيْهِ] فَقَالَ لِي: إِنَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى كَلَامٍ لابن الرفعة فِي الْمَطْلَبِ شَرْحِ الْوَسِيطِ. وَرَأَيْتُ أَنَا ذَلِكَ الْكَلَامَ عِنْدَ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي تَعْلِيلِ الْوَجْهِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْجَارِيَةِ الْمَوْقُوفَةِ ; لِأَنَّهُ يَنْقُصُ الْوَقْفُ وَيُخَالِفُ غَرَضَ الْوَاقِفِ، فَقَالَ ابن الرفعة: قَوْلُهُ: وَيُخَالِفُ غَرَضَ الْوَاقِفِ يُفْهَمُ أَنَّ أَغْرَاضَ الْوَاقِفِينَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهَا يُنْظَرُ إِلَيْهَا ; وَلِهَذَا كَانَ شَيْخُنَا عماد الدين يَقُولُ: إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ تَغْيِيرَ بِنَاءِ الْوَقْفِ فِي صُورَتِهِ لِزِيَادَةِ رِيعِهِ جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْوَاقِفُ بِلَفْظِهِ ; لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ ذَكَرَهُ الْوَاقِفُ حَالَةَ الْوَقْفِ لَأَثْبَتَهُ فِي كِتَابِ وَقْفِهِ. قَالَ ابن الرفعة: وَقُلْتُ: ذَلِكَ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتِهِ. وَقَاضِي الْقُضَاةِ تقي الدين بن دقيق العيد، وَأَنَّ قاضي القضاة تاج الدين وَوَلَدَهُ قاضي القضاة صدر الدين عَمِلَا بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْوَقْفِ مِنْ تَغْيِيرِ بَابٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ لِي فِي جَوَابِ ذَلِكَ: كَانَ وَالِدِي يَعْنِي الشَّيْخَ مجد الدين يَقُولُ: كَانَ شَيْخِي المقدسي يَقُولُ بِذَلِكَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ قَالَ الشيخ تقي الدين: وَنَاهِيكَ بالمقدسي أَوْ كَمَا قَالَ: فَأَشْعَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِرِضَاهُ فَاغْتَبَطَ ابن الرفعة بِمَا اسْتَشْعَرَهُ مِنْ رَضَى الشَّيْخِ تقي الدين وَكَانَ قُدْوَةَ زَمَانِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَكَانَ بِحَيْثُ يُكْتَفَى مِنْهُ بِأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، والمقدسي شَيْخُ وَالِدِهِ مَالِكِيٌّ فَقِيهٌ مُحَدِّثٌ قُدْوَةٌ أَيْضًا، وَقَدْ قُلْتُ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: أَنَّ الَّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْجَوَازِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا يُغَيِّرُ مُسَمَّى الْوَقْفِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يُزِيلَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهِ بِأَنْ يَنْقُلَ بَعْضَهُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، فَإِنِ اقْتَضَى زَوَالَ شَيْءٍ مِنَ الْعَيْنِ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا وُجِدَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ فَلَا بَأْسَ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْوَقْفِ، فَهَذَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ مَقْصُودِي فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَإِنْ لَمْ أُصَرِّحْ بِهِ، وَفَتْحُ شُبَّاكِ الطَّيْبَرْسِيَّةِ لَا مَصْلَحَةَ لِجَامِعِ الْأَزْهَرِ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ فَتْحُ أَبْوَابٍ لِلْحَرَمِ لَا حَاجَةَ لِلْحَرَمِ بِهَا وَإِنَّمَا هِيَ لِمَصْلَحَةِ سَاكِنِيهَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ. وَفِي فَتَاوَى ابن الصلاح رِبَاطٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الصُّوفِيَّةِ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُفْتَحَ فِيهِ بَابٌ جَدِيدٌ مُضَافًا إِلَى بَابِهِ الْقَدِيمِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ بِمَنْعٍ وَلَا إِطْلَاقٍ؟ أَجَابَ: إِنِ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ تَغْيِيرَ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَنْ هَيْئَةٍ كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْوَقْفِ إِلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مُجَانِسَةٍ لَهَا مِثْلَ أَنْ يُفْتَحَ الْبَابُ إِلَى أَرْضٍ وُقِفَتْ بُسْتَانًا مَثَلًا فَيَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ مَحَلِّ الِاسْتِطْرَاقِ مِنْهُ، وَجَعْلَ ذَلِكَ الْقَدْرِ طَرِيقًا بَعْدَ أَنْ كَانَ أَرْضَ غَرْسٍ وَزِرَاعَةٍ فَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وَشِبْهُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مُجَرَّدَ فَتْحِ بَابٍ جَدِيدٍ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْمَصْلَحَةِ لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ الصَّحِيحَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْوِيغِهِ الْحَدِيثَ: " «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكَ بِالْكُفْرِ لَجَعَلْتُ لِلْكَعْبَةِ بَابَيْنِ» وَلَا فَرْقَ، وَالْأَثَرُ فِعْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ إِجْمَاعٌ. قُلْتُ: الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ لَكِنْ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِالْكَعْبَةِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْبَابَيْنِ كَانَا فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ فَفَتْحُ الثَّانِي رَدٌّ لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ، وَأَمَّا فِعْلُ عثمان فَكَانَ لِمَصْلَحَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَلْزَمُ طَرْدُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ هَدْمٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ جِئْنَا نَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ عَصْرٍ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ ابن الصلاح: لَا بُدَّ أَنْ يُصَانَ ذَلِكَ عَنْ هَدْمِ شَيْءٍ لِأَجْلِ الْفَتْحِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْمَكَانِ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْقُوفِ، فَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُ الْوَقْفِ فِيهِ بِبَيْعٍ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ الْفَتْحُ بِانْتِزَاعِ حِجَارَتِهِ بِأَنْ تُجْعَلَ فِي طَرَفٍ آخَرَ مِنَ الْمَكَانِ، فَلَا بَأْسَ - هَذَا كَلَامُ ابن الصلاح، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ الْفَتْحُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فِي بَابٍ جَدِيدٍ فِي الْحَرَمِ إِذَا ضَاقَتْ أَبْوَابُهُ مِنِ ازْدِحَامِ الْحَجِيجِ وَنَحْوِهِمْ، فَيُفْتَحُ فِيهِ بَابٌ آخَرُ وَأَكْثَرُ لِيَتَّسِعُوا، فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقُولُ أَنَّهُ جَائِزٌ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، أَمَّا غَيْرُهُ لِغَرَضٍ خَاصٍّ مِنْ جِيرَانِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَلَا. الْمَوْضِعُ الثَّانِي وَهُوَ جَوَازُ الِاسْتِطْرَاقِ فِيهِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَا نَقْلَ عِنْدِي فِي مِثْلِهِ، وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّهُ حَيْثُ جَازَ الْفَتْحُ جَازَ الِاسْتِطْرَاقُ وَلَا إِشْكَالَ، وَحَيْثُ لَمْ يَجُزِ الْفَتْحُ فَقَدْ خَطَرَ لِي فِي نَظَرِي فِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْكَعْبَةِ الَّذِي هُوَ الْيَوْمَ، وَهُوَ الَّذِي أَحْدَثَتْهُ قُرَيْشٌ بَدَلًا عَنِ الْبَابِ التَّحْتَانِيِّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَخَطَرَ لِي فِي الْجَوَابِ عَنْهُ أَنَّ دَخُولَ الْكَعْبَةِ مَشْرُوعٌ سُنَّةً وَرُبَّمَا كَانَ وَاجِبًا، فَلَا يُتْرَكُ لِفِعْلِ قُرَيْشٍ وَلَمْ يَكُنْ تَغْيِيرُ ذَلِكَ الْبَابِ مُمْكِنًا لِمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِكَ " فَاجْتَمَعَ فِي بَابِ الْكَعْبَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا جَوَازُ إِبْقَائِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالثَّانِي الْحَاجَةُ إِلَى دُخُولِ الْكَعْبَةِ إِقَامَةً لِلشَّرْعِ الْمَسْنُونِ وَالْوَاجِبِ وَهَكَذَا الْآنَ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى جَوَازِ تَغْيِيرِهِمَا مَعًا، وَيَكْفِي تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلًا لِجَوَازِ إِبْقَاءِ ذَلِكَ الْبَابِ وَالدُّخُولِ مِنْهُ رَدْعٌ يَكُونُ فُتِحَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُخُولُهُ مِنْهُ شَرْعٌ مُسْتَقِلٌّ، وَيَكُونُ أَيْضًا فِي أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ وَقَدْ أُفْرِدَ عَنْهُ بِبِنَاءٍ لَطِيفٍ فِيهِ فَتْحَتَانِ شَرْقِيَّةٌ وَغَرْبِيَّةٌ فِي جِرْيَةٍ مُتَلَاصِقَتَانِ لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ وَالدُّخُولُ فِيهِ مِنْ إِحْدَى الْفَتْحَتَيْنِ، أَوْ مِنْ فَوْقِ جِدَارِهِ اللَّطِيفِ مَا أَظُنُّ أَحَدًا يَمْنَعُ مِنْهُ وَلَا أَدْرِي هَلْ دَخَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَا، وَلَكِنْ جَاءَ فِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ لعائشة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 " صَلِّي فِيهِ " وَالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا يَكْفِي فِي مَشْرُوعِيَّةِ إِبْقَائِهِ وَالدُّخُولِ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْفَتْحَتَيْنِ، وَمِنَ التَّسَوُّرِ عَلَى جِدَارِهِ، وَكَيْفَ كَانَ فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الدُّخُولِ فِيهِ [جَازَ] الدُّخُولُ مِنْهُ كَالدُّخُولِ فِي الْكَعْبَةِ لِاجْتِمَاعِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ كَانَ الْجَوَازُ لِأَجْلِ جَوَازِ الْإِبْقَاءِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَلِلتَّقْرِيرِ؟ وَأَمَّا الْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ لِلْحَرَمِ مِنْ أَمَاكِنَ لِأَصْحَابِهَا فَلَا حَاجَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا لِلْحَرَمِ بِهَا فَلَا يَجُوزُ فَتْحُهَا وَلَا يَجُوزُ إِبْقَاؤُهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّخُولِ إِلَى الْحَرَمِ مِنْهَا، فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْكَعْبَةِ فَيَظْهَرُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَعْنًى فَإِنَّ شَيْخَنَا ابن الرفعة لَمَّا زُيِّنَتِ الْقَاهِرَةُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ زِينَةً عَظِيمَةً أَفْتَى بِتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا قَالَ: لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُعْمَلُ لِيُنْظَرَ إِلَيْهَا فَهُوَ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهَا [فَفِي] تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا حَمْلٌ عَلَى تَرْكِهَا، وَهَكَذَا إِذَا تَوَاطَأَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى سَدِّهِ الْوَاجِبِ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْوَاجِبِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَتَرْكُ الْوَاجِبِ حَرَامٌ، بَلْ أَقُولُ أَنَّ الدُّخُولَ مِنْهُ دِعَايَةٌ إِلَى الْحَرَامِ وَدَوَامِهِ فَيَكُونُ حَرَامًا، وَالثَّانِي أَنَّ الْوَقْفَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَنَا، وَإِنَّمَا جَازَ لَنَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِإِذْنٍ مِنَ الْوَاقِفِ شَرْطًا أَوْ عُرْفًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ، فَوَافَقَ الْجَامِعَ وَالْحَرَمَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا، وَقْفُهُ عَلَى صِفَةٍ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَصَرَّفَ فِيهِ إِلَّا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَالدُّخُولُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمَفْتُوحِ لَمْ يَقْتَضِهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ فَلَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لَنَا، وَأَيْضًا فَمَنْ مَلَكَ مَكَانًا مَلَكَ تَحْتَهُ إِلَى تَحْتِ تُخُومِ الْأَرْضِ، وَفَوْقَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَالْهَوَاءِ الَّذِي فَوْقَهُ مَمْلُوكٌ لَهُ فَالدَّاخِلُ مِنَ الْبَابِ مُتَصَرِّفٌ فِي هَوَاءِ غَيْرِهِ بِمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ مُلَاحَظَةِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعَتَبَةُ عَرِيضَةً، بِحَيْثُ يَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا أَوْ لَا، نَعَمْ إِنْ كَانَتْ عَرِيضَةً يَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْهَوَاءِ وَالْقَرَارِ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ الْمَنْعُ إِنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ الْجِدَارِ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا زَالَ الْجِدَارُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَلَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْمَكَانِ كَمَا لَوِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ، وَاعْتِبَارُ مِلْكِ الْهَوَاءِ بِحَيْثُ يُقَالُ لَيْسَ لَهُمَا الْعُبُورُ إِذَا انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ لَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَلَا الْعُرْفُ وَهُوَ مُسْتَنْكَرٌ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يُتَخَيَّلُ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا إِعَانَةٌ عَلَى ظُلْمٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِعَانَةً عَلَى ظُلْمٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَذَلِكَ حَيْثُ لَا يُفِيدُ الِامْتِنَاعُ مِنَ الدُّخُولِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ إِذَا كَانَ الْمُمْتَنِعُ مُطَاعًا، فَيَكُونُ امْتِنَاعُهُ سَبَبًا لِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ فَيَجِبُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا مَنْعَ، لَا سِيَّمَا قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّغْيِيرِ سَاكِنًا فِي جِوَارِ الْحَرَمِ فِي مَكَانٍ قَدْ فُتِحَ مِنْهُ بَابٌ كَذَلِكَ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى سَدِّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 فَيُحْتَمَلُ جَوَازُ دُخُولِهِ مِنْهُ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ إِذَا احْتَاجَ بِأَنْ يَكُونَ فِي اللَّيْلِ وَنَحْوِهِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَا مَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ فَإِنَّا نَقْطَعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِجَوَازِ دُخُولِهِ قِيَاسًا عَلَى الْكَعْبَةِ لِلْحَاجَةِ، وَأَمَّا السَّكَنُ فِيهِ فَلَا يَمْتَنِعُ - هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ السبكي فِي فَتَاوِيهِ. وَقَالَ الزركشي فِي كِتَابِهِ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ: بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابَ الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ وَأَدْخَلَ فِيهِ حَدِيثَ أبي سعيد «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ وَقَالَ: " لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أبي بكر» ، وَظَاهِرُ الْخَبَرِ الْمَنْعُ وَخُصُوصِيَّةُ الصِّدِّيقِ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ هَذِهِ عِبَارَتُهُ، وَأَوْرَدَ ابن العماد فِي كِتَابِهِ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ كَلَامَ السبكي بِحُرُوفِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى حَدِيثِ الْأَمْرِ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ إِشْكَالًا وَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ فَقَالَ: يَلْزَمُ عَلَى الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ - يَعْنِي الَّتِي أَمَرَ بِسَدِّهَا - إِنْ كَانَتْ مِنْ أَصْلِ الْوَقْفِ الَّتِي وُضِعَ الْمَسْجِدُ عَلَيْهَا لَزِمَ عَلَيْهِ جَوَازُ تَغْيِيرِ مَعَالِمِ الْوَقْفِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الْهَيْئَةِ الَّتِي وُضِعَ عَلَيْهَا أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً لَزِمَ عَلَيْهِ جَوَازُ فَتْحِ بَابٍ فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَكُوَّةٍ يَدْخُلُ مِنْهَا الضَّوْءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةٌ حَتَّى يَجُوزُ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ أَنْ يَفْتَحَ مِنْ دَارِهِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَسْجِدِ بَابًا إِلَى الْمَسْجِدِ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْوَاقِفِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي وَقَفَ الْمَسْجِدَ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ انْتِقَالِ الْوَقْفِ وَزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ عِبَارَتُهُ. قُلْتُ: الْإِشْكَالُ سَاقِطٌ فَإِنَّ الْفَتْحَ أَوَّلًا كَانَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَوَحْيٍ، فَكَانَ جَائِزًا ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَأَمَرَ بِالسَّدِّ بِوَحْيٍ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ، وَقَدْ فُهِمَ مِنْ كَلَامِ السبكي السَّابِقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَتْحُ إِلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا يُغَيِّرُ مُسَمَّى الْوَقْفِ، وَأَنْ لَا يُزِيلَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْوَقْفِ أَوْ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا شَرْطٌ رَابِعٌ مِنْ فَتَاوَى ابن الصلاح، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ نَصٌّ عَلَى مَنْعِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ جَازَ الْفَتْحُ وَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ، وَقَدْ فُقِدَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ شَرْطَانِ: الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: فَإِنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ لِلْمَسْجِدِ بَلْ لِلْمَدْرَسَةِ الْمُجَاوِرَةِ، كَمَا قَالَهُ السبكي فِي الطَّيْبَرْسِيَّةِ مَعَ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، وَفِي الْبُيُوتِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالرَّابِعُ فَإِنَّ الْوَاقِفَ وَهُوَ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى مَنْعِهِ، وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى الْوَحْيِ الشَّرِيفِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ وَلَوْ قِيلَ بِالْجَوَازِ فِي بَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ بَنَى السُّلْطَانُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 سِقَايَةً لِلشُّرْبِ فِي رَحَبَةِ الْجَامِعِ الطُّولُونِيِّ وَفَتَحَ لَهُ شُبَّاكًا فِي الْجِدَارِ الْمُحَوِّطِ عَلَى الرَّحَبَةِ لِيُسَهِّلَ شُرْبَ الْمَارِّينَ مِنْهَا، وَهَذَا الْفَتْحُ جَائِزٌ هُنَا لِوُجُودِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَعَدَمِ نَصٍّ مِنَ الْوَاقِفِ عَلَى مَنْعِهِ، وَلَوْ أَرَادَ السُّلْطَانُ الْآنَ الزِّيَادَةَ فِي عِدَّةِ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لَجَازَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يُسْتَحَبُّ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا وُجُودُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَالثَّانِي الرَّدُّ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَسَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِشْرُونَ بَابًا. فَائِدَةٌ نَخْتِمُ بِهَا الْكِتَابَ: قَالَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: فَرْعٌ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ آخِرِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ قَالَ: «بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سِتِّينَ ذِرَاعًا أَوْ يَزِيدُ،» قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: جَعَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ طُولَ الْمَسْجِدِ مِائَةً وَسِتِّينَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهُ فِي مُقَدِّمَه مِائَتَيْنِ وَفِي مُؤَخَّرِهِ ثَمَانِينَ، زَادَ فِيهِ المهدي مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ فَقَطْ مِائَةً وَخَمْسِينَ، وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ سِتَّةً، كَمَا كَانَتْ فِي زَمَنِ عمر، وَزَادَ فِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَجَعَلَ طُولَهُ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهُ دُونَ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ، هَذَا مَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: بَرَكَتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي فِيهِ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدُ السهل وسهيل - غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ - وَكَانَا فِي حِجْرِ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، فَابْتَاعَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَأَمَرَ أبا بكر أَنْ يُعْطِيَهُمَا ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّخْلِ الَّذِي فِي الْحَدِيقَةِ وَبِالْغَرْقَدِ الَّذِي فِيهِ أَنْ يُقْطَعَ، وَأَمَرَ بِاللَّبِنِ فَضُرِبَ، وَكَانَ فِي الْمِرْبَدِ قُبُورُ جَاهِلِيَّةٍ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُبِشَتْ، وَأَمَرَ الْعِظَامَ أَنْ تُغَيَّبَ، وَكَانَ فِي الْمِرْبَدِ مَاءٌ مُسْتَحَلٌّ فَسَيَّرُوهُ حَتَّى ذَهَبَ وَأَسَّسُوا الْمَسْجِدَ فَجَعَلُوا طُولَهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ إِلَى مُؤَخَّرِهِ مِائَةَ ذِرَاعٍ، وَفِي هَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ مِثْلَ ذَلِكَ فَهُوَ مُرَبَّعٌ، وَيُقَالُ: كَانَ أَقَلَّ مِنَ الْمِائَةِ وَجَعَلُوا الْأَسَاسَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ عَلَى الْأَرْضِ بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ بَنَوْهُ بِاللَّبِنِ وَبَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَجَعَلَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ وَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا الْحَمَّالُ لَا حَمَّالُ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبْرَرُ بِنَا وَأَطْهَرْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ: بَابًا فِي مُؤَخَّرِهِ، وَبَابًا يُقَالُ لَهُ بَابُ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْبَابُ الَّذِي يُدْعَى بَابَ عَاتِكَةَ، وَالْبَابَ الثَّالِثَ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْبَابُ الَّذِي يَلِي آلَ عُثْمَانَ، وَجَعَلَ طُولَ الْجِدَارِ بُسُطِهِ وَعُمُدِهِ الْجُذُوعَ وَسَقْفَهُ جَرِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَسْقُفُهُ؟ فَقَالَ: عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى خُشَيْبَاتٌ وَتَمَامُ الشَّأْنِ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ، وَبَنَى بُيُوتًا إِلَى جَنْبِهِ بِاللَّبِنِ وَسَقَّفَهَا بِجُذُوعِ النَّخْلِ وَالْجَرِيدِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْبِنَاءِ بَنَى بعائشة فِي الْبَيْتِ الَّذِي بَابُهُ شَارِعٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَجَعَلَ سودة فِي الْبَيْتِ الْآخَرِ، الَّذِي يَلِيهِ إِلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِي آلَ عُثْمَانَ، وَأَخْرَجَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ عَنْ مجمع بن يزيد قَالَ: «بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ مَرَّتَيْنِ، بَنَاهُ حِينَ قَدِمَ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ فِي مِائَةٍ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ بَنَاهُ وَزَادَ فِيهِ مِثْلَهُ فِي الدَّوْرِ وَضَرْبِ الْحُجُرَاتِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ» ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا بَنَاهُ بِالْجَرِيدِ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ بِاللَّبِنِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أبو بكر شَيْئًا وَزَادَ فِيهِ عمر وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عثمان فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ» . وَقَالَ الأقفهسي فِي تَارِيخِ الْمَدِينَةِ: قِيلَ كَانَ عَرْضُ الْجِدَارِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِنَةً ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَثُرُوا بَنَوْهُ لَبِنَةً وَنِصْفًا، ثُمَّ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ لَزِدْنَا، فَقَالَ: نَعَمْ فَزَادُوا فِيهِ، وَبَنَوْا جِدَارَهُ لَبِنَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَطْحٌ فَشَكَوُا الْحَرَّ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُقِيمَ لَهُ سَوَارٍ مِنْ جُذُوعٍ، ثُمَّ طُرِحَتْ عَلَيْهَا الْعَوَارِضُ وَالْحُصُرُ وَالْإِذْخِرُ، فَأَصَابَتْهُمُ الْأَمْطَارُ فَجَعَلَ يَكِفُ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ بِالْمَسْجِدِ فَطُيِّنَ، فَقَالَ: عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى، وَالْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا زَادَ فِيهِ عمر جَعَلَ طُولَهُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَبَدَّلَ أَسَاطِينَهُ بِأُخَرَ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، وَسَقَّفَهُ بِجَرِيدٍ، وَجَعَلَ طُولَ السَّقْفِ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَفَرَشَهُ بِالْحَصَى، وَلَمَّا زَادَ فِيهِ عثمان - وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ - جَعَلَ طُولَهُ مِائَةً وَسِتِّينَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ سِتَّةً. وَلَمَّا زَادَ فِيهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَذَلِكَ بِأَمْرِ الْوَلِيدِ بْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 عَبْدِ الْمَلِكِ - وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ - جَعَلَ طُولَهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ الْأَرْبَعَةِ مَنَارَةً لِلْأَذَانِ، وَجَعَلَ لَهُ عِشْرِينَ بَابًا وَبَنَى عَلَى الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ حَائِطًا، وَلَمْ يُلْصِقْهُ بِجِدَارِ الْحُجْرَةِ وَلَا بِالسَّقْفِ، وَطُولَهُ مِقْدَارَ نِصْفِ قَامَةٍ بِالْآجُرِّ، فَلَمَّا حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هَدَمَ الْمَنَارَةَ الَّتِي هِيَ قِبَلَ الْمَسْجِدِ مِنَ الْغَرْبِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ مُطِلَّةً عَلَى دَارِ مروان فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَأَطَلَّ عَلَى سليمان، وَهُوَ فِي الدَّارِ فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا، ثُمَّ زَادَ فِيهِ المهدي سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَلَمْ يَزِدْ بَعْدَهُ أَحَدٌ شَيْئًا، ثُمَّ عَمَّرَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي صَحْنِهِ قُبَّةً لِحِفْظِ حَوَاصِلِ الْحَرَمِ وَذَخَائِرِهِ، ثُمَّ احْتَرَقَ الْمَسْجِدُ الشَّرِيفُ بِالنَّارِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنَ الْحَرَّةِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ فَأَرْسَلَ الصُّنَّاعَ وَالْآلَاتِ مَعَ حُجَّاجِ الْعِرَاقِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَسَقَّفُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْحُجْرَةَ الشَّرِيفَةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ وَالشَّرْقِيِّ إِلَى بَابِ جِبْرِيلَ، وَسَقَّفُوا الرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قُتِلَ الْخَلِيفَةُ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَاسْتَوْلَى التَّتَارُ عَلَى بَغْدَادَ، فَوَصَلَتِ الْآلَاتُ مِنْ صَاحِبِ الْيَمَنِ الملك المظفر يوسف بن عمر بن رسول، فَعَمِلَ إِلَى بَابِ السَّلَامِ، ثُمَّ عَمِلَ مِنْ بَابِ السَّلَامِ إِلَى بَابِ الرَّحْمَةِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ مِصْرَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزَ الْمُعِزِّي، ثُمَّ انْتَقَلَ الْمُلْكُ آخِرَ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الملك الظاهر بيبرس الصالحي، فَعَمِلَ فِي أَيَّامِهِ بَاقِيَ الْمَسْجِدِ وَجُعِلَتِ الْأَبْوَابُ أَرْبَعَةً، ثُمَّ لَمَّا حَجَّ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ أَرَادَ أَنْ يُدِيرَ عَلَى الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ داربزينا مِنْ خَشَبٍ، فَقَاسَ مَا حَوْلَهَا بِيَدِهِ، وَأَرْسَلَهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَعَمِلَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ وَطُولَهُ نَحْوَ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ فِي أَيَّامِ الملك المنصور قلاوون عُمِلَتِ الْقُبَّةُ عَلَى الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ فِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ فِي أَيَّامِ الملك العادل كتبغا زِيدَ فِي الداربزين الَّذِي عَلَى الْحُجْرَةِ حَتَّى وُصِلَ بِسَقْفِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ، ثُمَّ فِي أَيَّامِ الملك الناصر محمد بن قلاوون فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِمِائَةٍ جُدِّدَ سَقْفُ الرِّوَاقِ الَّذِي فِيهِ الرَّوْضَةُ الشَّرِيفَةُ، ثُمَّ جُدِّدَ السَّقْفُ الشَّرْقِيُّ وَالْغَرْبِيُّ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِعِمَارَةِ الْمَنَارَةِ الرَّابِعَةِ مَكَانَ الَّتِي هَدَمَهَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَعُمِّرَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِإِنْشَاءِ الرِّوَاقَيْنِ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، ثُمَّ فِي أَيَّامِ الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون جُدِّدَتِ الْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ أُحْكِمَتْ فِي أَيَّامِ الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِأَنْ سَمَّرَ عَلَيْهَا أَلْوَاحًا مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 خَشَبٍ وَمِنْ فَوْقِهَا أَلْوَاحُ الرَّصَاصِ، ثُمَّ فِي أَيَّامِ سُلْطَانِ الْعَصْرِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ قايتباي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ عَمَّرَ قُبَّةً أُخْرَى وَأَشْيَاءَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ نُزُولُ صَاعِقَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتِ الْمَسْجِدَ بِأَسْرِهِ، وَذَلِكَ فِي لَيْلَةِ ثَالِثَ عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ الصُّنَّاعَ وَالْآلَاتِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَعَلَيْهِمُ الخواجا شمس الدين بن الزمن، فَهَدَمَ الْحَائِطَ الْقِبْلِيَّةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بِجِوَارِ الْمَسْجِدِ مَدْرَسَةً بَاسْمِ السُّلْطَانِ وَيَجْعَلَ الْحَائِطَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْمَدْرَسَةِ، وَيَفْتَحَ فِيهِ بَابًا يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَشَبَابِيكَ مُطِلَّةً عَلَيْهِ، فَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَرْسَلَ يَطْلُبُ مَرْسُومًا مِنَ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ فَبَلَغَهُ مَنْعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: اسْتَفْتُوا الْعُلَمَاءَ، فَأَفْتَاهُ الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمَاعَةٌ بِالْجَوَازِ، وَامْتَنَعَ آخَرُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَجَاءَنِي الْمُسْتَفْتِي يَوْمَ الْأَحَدِ رَابِعَ عَشَرِيَّ رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ فَجَمَعْتُ الْأَحَادِيثَ الْمُصَدَّرَ بِهَا، وَأَرْسَلْتُهَا لقاضي القضاة الشافعي، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَرَى اخْتِصَاصَهَا بِالْجِدَارِ النَّبَوِيِّ وَقَدْ أُزِيلَ، وَهَذَا الْجِدَارُ مِلْكُ السُّلْطَانِ يَفْتَحُ فِيهِ مَا شَاءَ، وَلَا يَصِيرُ وَقْفًا إِلَّا بِوَقْفِهِ، فَذَكَرْتُ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا، وَأَلْحَقْتُهَا بِالْأَحَادِيثِ مَعَ مَا ذُكِرَ مَعَهَا وَأَفْرَدْتُهَا تَأْلِيفًا، وَرَأَيْتُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عَشَرِيَّ رَجَبٍ فِي الْمَنَامِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي هِمَّةٍ وَأَنَا وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَرْسَلَنِي لَا أَدْرِي إِلَى عمر أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا أَدْرِي هَلْ أَرْسَلَنِي إِلَيْهِ لِأَدْعُوَهُ أَوْ لِأُبَلِّغَهُ رِسَالَةً، وَلَمْ أَضْبُطْ مِنَ الْمَنَامِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرَ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا أَرْجُو أَنْ لَا يُتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوهُ، ثُمَّ بَرَزَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ بِالْفَتْحِ حَسْبَمَا أَفْتَاهُ مَنْ أَفْتَاهُ، وَسَافَرَ الْقَاصِدُ بِذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ وَأَرْسَلَ إِلَى رَجُلَانِ مِنْ كِبَارِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ يُخْبِرَانِي أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَتِمُّ فَفِي رَمَضَانَ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ رُجِعَ عَنْهُ، وَعَدَلُوا إِلَى الْفَتْحِ مِنَ الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ، وَأَفْتَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِجَوَازِ ذَلِكَ لِأَنَّ دَارَ أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَكَانَ لَهُ بَابٌ مَفْتُوحٌ فَيُفْتَحُ نَظِيرُهُ فَوَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ. فَأَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ وَقَرَّرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي فَتْحِ الْبَابِ بَلْ أُمِرَ بِسَدِّ بَابِهِ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لَهُ فِي خَوْخَةٍ صَغِيرَةٍ وَهِيَ الْمُرَادَةُ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، فَلَا يَجُوزُ الْآنَ فَتْحُ بَابٍ كَبِيرٍ قَطْعًا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ الْمَعْنَى الِاسْتِطْرَاقُ فَيَسْتَوِيَ الْبَابُ وَالْخَوْخَةُ فِي الْجَوَازِ، لِأَنَّ النَّصَّ مِنَ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّفْرِقَةِ حَيْثُ أَمَرَ بِسَدِّ بَابِهِ وَأَبْقَى خَوْخَتَهُ يَمْنَعُ مِنَ التَّسْوِيَةِ وَالْإِلْحَاقِ، وَأَمَّا جَوَازُ فَتْحِ الْخَوْخَةِ الْآنَ فَأَقُولُ: لَوْ بَقِيَتْ دَارُ أبي بكر وَاتَّفَقَ هَدْمُهَا وَإِعَادَتُهَا أُعِيدَتْ بِتِلْكَ الْخَوْخَةِ، كَمَا كَانَتْ بِلَا مِرْيَةٍ، وَكَانَ يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُعَادَ مِثْلُ تِلْكَ الْخَوْخَةِ قَدْرًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وَمَحَلًّا، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهَا بِالتَّوْسِعَةِ، وَلَا جَعْلُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْحَائِطِ اقْتِصَارًا عَلَى مَا وَرَدَ الْإِذْنُ مِنَ الشَّارِعِ الْوَاقِفِ فِيهِ، لَكِنَّ دَارَ أبي بكر هُدِمَتْ وَأُدْخِلَتْ فِي الْمَسْجِدِ زَمَنَ عثمان، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى بِإِزَائِهَا دَارٌ يُفْتَحُ مِنْهَا خَوْخَةٌ نَظِيرَ ذَلِكَ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَتَوَقُّفٌ فَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ ; لِأَنَّ تِلْكَ خِصِّيصَةٌ كَانَتْ لأبي بكر فَلَا تَتَعَدَّى دَارَهُ، وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ قَدْ ثَبَتَ مِنْ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الَّتِي بِإِزَاءِ دَارِ أبي بكر إِلَى الْمَسْجِدِ بِوَاسِطَةِ دَارِ أبي بكر فَيَسْتَمِرُّ. وَالثَّانِي: لَا أُبْدِيهِ خَوْفًا أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ الْمُتَوَسِّعُونَ. وَعَلَى الِاحْتِمَالِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطَيْنِ يَتَعَذَّرُ الْآنَ وُجُودُهُمَا أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُفْتَحُ بِقَدْرِ تِلْكَ الْخَوْخَةِ لَا أَوْسَعَ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى سِمَتِهَا لَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَالْأَمْرَانِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِمَا الْآنَ لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِ تِلْكَ الْخَوْخَةِ وَمَحَلِّهَا، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُ الشَّرْطِ امْتَنَعَ الْمَشْرُوطُ، فَتَلَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ مِنَ الْخَوْخَةِ وَمِنَ الشَّبَابِيكِ أَيْضًا، وَبِتَحَقُّقِ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ يُجَابُ عَنِ الْأَمْرِ الثَّانِي الَّذِي رَمَزْتُ إِلَيْهِ، وَلَمْ أُبْدِهِ إِنْ عَثَرَ عَلَيْهِ عَاثِرٌ، هَذَا مَا عِنْدِي فِي ذَلِكَ. خَاتِمَةٌ: وَأَمَّا كِسْوَةُ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، فَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا ابن أبي الهيجاء وزير ملك مصر، بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَضِيءَ فَكَسَاهَا دِيبَاجًا أَبْيَضَ، ثُمَّ بَعْدَ سَنَتَيْنِ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَضِيءُ كِسْوَةً دِيبَاجًا بَنَفْسَجِيًّا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لَمَّا وَلِيَ كِسْوَةً مِنَ الدِّيبَاجِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ لَمَّا حَجَّتْ أُمُّ الْخَلِيفَةِ وَعَادَتْ أَرْسَلَتْ كِسْوَةً كَذَلِكَ، ثُمَّ صَارَتْ تُرْسَلُ الْكِسْوَةُ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ كُلَّ سَبْعِ سِنِينَ مِنَ الدِّيبَاجِ الْأَسْوَدِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الأقفهسي. [الْعَجَاجَةُ الزَّرْنَبِيَّةُ فِي السُّلَالَةِ الزَّيْنَبِيَّةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. مَسْأَلَةٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُزِقَ مِنَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَلَدًا، وَمِنَ الْإِنَاثِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِينَ أَعْقَبُوا مِنْ وَلَدِهِ الذُّكُورِ خَمْسَةٌ، قَالَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ: كَانَ النَّسْلُ مِنْ وَلَدِ علي لِخَمْسَةٍ: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، والعباس بن الكلابية، وَعُمَرَ بن التغلبية. مَسْأَلَةٌ: فاطمة الزهراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رُزِقَتْ مِنَ الْأَوْلَادِ خَمْسَةً: الحسن، والحسين، ومحسنا، وأم كلثوم، وزينب فَأَمَّا محسن فَدَرَجَ سَقْطًا، وَأَمَّا الحسن والحسين فَأَعْقَبَا الْكَثِيرَ الطَّيِّبَ، وَأَمَّا أم كلثوم فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 اللَّهُ عَنْهُ، وَوَلَدَتْ لَهُ زيدا ورقية، وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ ابْنُ عَمِّهَا عون بن جعفر بن أبي طالب فَمَاتَ عَنْهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ أَخُوهُ محمد فَمَاتَ عَنْهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ أَخُوهُ عبد الله بن جعفر فَمَاتَتْ عِنْدَهُ، وَلَمْ تَلِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ شَيْئًا، وَأَمَّا زينب، فَتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا عبد الله بن جعفر فَوَلَدَتْ لَهُ عليا، وعونا الْأَكْبَرَ، وعباسا، ومحمدا، وأم كلثوم. مَسْأَلَةٌ: أَوْلَادُ زَيْنَبَ الْمَذْكُورَةِ مِنْ عبد الله بن جعفر مَوْجُودُونَ بِكَثْرَةٍ، وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ مِنْ آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ آلَهُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَقَالَ: " أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي " ثَلَاثًا فَقِيلَ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ قَالَ: أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حَرَّمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ، قِيلَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ. » الثَّانِي: أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَأَوْلَادِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي التَّهْذِيبِ: أَوْلَادُ بَنَاتِ الْإِنْسَانِ لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا مَعْدُودِينَ فِي ذُرِّيَّتِهِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَوْلَادِ أَوْلَادِ فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبِنْتِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ هَلْ يُشَارِكُونَ أَوْلَادَ الحسن، والحسين فِي أَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَالْجَوَابُ لَا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ مَنْ يُسَمَّى وَلَدًا لِلرَّجُلِ وَبَيْنَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ ; وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي دَخَلَ وَلَدُ الْبِنْتِ، وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى مَنْ يُنْسَبُ إِلَيَّ مِنْ أَوْلَادِي لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُ الْبِنْتِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِ أَوْلَادُ بَنَاتِهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِ بَنَاتِ بَنَاتِهِ، فَالْخُصُوصِيَّةُ لِلطَّبَقَةِ الْعُلْيَا فَقَطْ، فَأَوْلَادُ فاطمة الْأَرْبَعَةُ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ، أَوْلَادُ الحسن والحسين يُنْسَبُونَ إِلَيْهِمَا، فَيُنْسَبُونَ إِلَيْهِ، وَأَوْلَادُ زينب وأم كلثوم يُنْسَبُونَ إِلَى أَبِيهِمْ عمر وعبد الله لَا إِلَى الْأُمِّ إِلَى أَبِيهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ بِنْتِ بِنْتِهِ لَا أَوْلَادُ بِنْتِهِ، فَجَرَى الْأَمْرُ فِيهِمْ عَلَى قَاعِدَةِ الشَّرْعِ فِي أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي النَّسَبِ لَا أُمَّهُ، وَإِنَّمَا خَرَجَ أَوْلَادُ فاطمة وَحْدَهَا لِلْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي وَرَدَ الْحَدِيثُ بِهَا، وَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى ذُرِّيَّةِ الحسن والحسين. أَخْرَجَ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ بَنِي أُمٍّ عَصَبَةٌ إِلَّا ابْنَيْ فاطمة أَنَا وَلِيُّهُمَا وَعَصَبَتُهُمَا» . وَأَخْرَجَ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ بَنِي أُمٍّ عَصَبَةٌ إِلَّا ابْنَيْ فاطمة أَنَا وَلِيُّهُمَا وَعَصَبَتُهُمَا» فَانْظُرْ إِلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ كَيْفَ خَصَّ الِانْتِسَابَ وَالتَّعْصِيبَ بالحسن والحسين، دُونَ أُخْتَيْهِمَا لِأَنَّ أَوْلَادَ أُخْتَيْهِمَا إِنَّمَا يُنْسَبُونَ إِلَى آبَائِهِمْ. وَلِهَذَا جَرَى السَّلَفُ وَالْخَلَفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 عَلَى أَنَّ ابْنَ الشَّرِيفَةِ لَا يَكُونُ شَرِيفًا، وَلَوْ كَانَتِ الْخُصُوصِيَّةُ عَامَّةً فِي أَوْلَادِ بَنَاتِهِ، وَإِنْ سَفَلْنَ لَكَانَ ابْنُ كُلِّ شَرِيفَةٍ شَرِيفًا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ كَذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلِهَذَا حَكَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لِابْنَيْ فاطمة دُونَ غَيْرِهَا مِنْ بَنَاتِهِ ; لِأَنَّ أُخْتَهَا زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تُعْقِبْ ذَكَرًا حَتَّى يَكُونَ كالحسن والحسين فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَعْقَبَتْ بِنْتًا وَهِيَ أمامة بنت أبي العاصي بن الربيع، فَلَمْ يَحْكُمْ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِهَا فِي زَمَنِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَهَا لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا بِنْتُ بِنْتِهِ، وَأَمَّا هِيَ فَكَانَتْ تُنْسَبُ إِلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ بَنَاتِهِ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ لزينب ابنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَدٌ ذَكَرٌ لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمُ الحسن والحسين فِي أَنَّ وَلَدَهُ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا تَحْرِيرُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ خَبَطَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِعِلْمٍ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ هَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَشْرَافٌ؟ وَالْجَوَابُ: إِنَّ اسْمَ الشَّرِيفِ كَانَ يُطْلَقُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ سَوَاءٌ كَانَ حَسَنِيًّا أَمْ حُسَيْنِيًّا أَمْ عَلَوِيًّا، مِنْ ذُرِّيَّةِ محمد بن الحنفية وَغَيْرِهِ مِنْ أَوْلَادِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَمْ جَعْفَرِيًّا أَمْ عَقِيلِيًّا أَمْ عَبَّاسِيًّا، وَلِهَذَا تَجِدُ تَارِيخَ الحافظ الذهبي مَشْحُونًا فِي التَّرَاجِمِ بِذَلِكَ يَقُولُ: الشريف العباسي، الشريف العقيلي، الشريف الجعفري، الشريف الزينبي، فَلَمَّا وَلِيَ الْخُلَفَاءُ الْفَاطِمِيُّونَ بِمِصْرَ قَصَرُوا اسْمَ الشَّرِيفِ عَلَى ذُرِّيَّةِ الحسن والحسين فَقَطْ، فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ بِمِصْرَ إِلَى الْآنَ، وَقَالَ الحافظ ابن حجر فِي كِتَابِ الْأَلْقَابِ: الشَّرِيفُ بِبَغْدَادَ لَقَبٌ لِكُلِّ عَبَّاسِيٍّ، وَبِمِصْرَ لَقَبٌ لِكُلِّ عَلَوِيٍّ انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُصْطَلَحَ الْقَدِيمَ أَوْلَى وَهُوَ إِطْلَاقُهُ عَلَى كُلِّ عَلَوِيٍّ وَجَعْفَرِيٍّ وَعَقِيلِيٍّ وَعَبَّاسِيٍّ كَمَا صَنَعَهُ الذهبي وَكَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كِلَاهُمَا فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابن مالك فِي الْأَلْفِيَّةِ: وَآلِهِ الْمُسْتَكْمِلِينَ الشَّرَفَا، فَلَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى ذُرِّيَّةِ زينب الْمَذْكُورِينَ أَشْرَافٌ، وَكَمْ أَطْلَقَ الذهبي فِي تَارِيخِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّرَاجِمِ قَوْلَهُ: الشريف الزينبي، وَقَدْ يُقَالُ: يُطْلَقُ عَلَى مُصْطَلَحِ أَهْلِ مِصْرَ: الشَّرَفُ أَنْوَاعٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَخَاصٌّ بِالذُّرِّيَّةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّيْنَبِيَّةُ وَأَخَصُّ مِنْهُ شَرَفُ النِّسْبَةِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِذُرِّيَّةِ الحسن والحسين. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُمْ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ بَنِي جَعْفَرٍ مِنَ الْآلِ. السَّادِسُ: أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بِالْإِجْمَاعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 السَّابِعُ: أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ وَقْفِ بِرْكَةِ الْحَبَشِ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ بِرْكَةَ الْحَبَشِ لَمْ تُوقَفْ عَلَى أَوْلَادِ الحسن والحسين خَاصَّةً، بَلْ وُقِفَتْ نِصْفَيْنِ: النِّصْفُ الْأَوَّلُ عَلَى الْأَشْرَافِ وَهُمْ أَوْلَادُ الحسن والحسين، وَالنِّصْفُ الثَّانِي عَلَى الطَّالِبِيِّينَ وَهُمْ ذُرِّيَّةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِخْوَتِهِ، وَذُرِّيَّةُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَذُرِّيَّةُ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَثَبَتَ هَذَا الْوَقْفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى قاضي القضاة بدر الدين يوسف السنجاوي فِي ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ اتَّصَلَ ثُبُوتُهُ عَلَى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام تَاسِعَ عَشَرِيَّ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنَ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ اتَّصَلَ ثُبُوتُهُ عَلَى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة. ذَكَرَ ذَلِكَ ابن المتوج فِي كِتَابِهِ "إِيقَاظِ الْمُتَأَمِّلِ". الثَّامِنُ: هَلْ يَلْبَسُونَ الْعَلَامَةَ الْخَضْرَاءَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَةَ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا كَانَتْ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِأَمْرِ الملك الأشرف شعبان بن حسين، وَقَالَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أبي عبد الله بن جابر الأندلسي الأعمى صَاحِبِ شَرْحِ الْأَلْفِيَّةِ الْمَشْهُورِ بِالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ: جَعَلُوا لِأَبْنَاءِ الرَّسُولِ عَلَامَةً ... إِنَّ الْعَلَامَةَ شَأْنُ مَنْ لَمْ يُشْهَرِ نُورُ النُّبُوَّةِ فِي وَسِيمِ وُجُوهِهِمْ ... يُغْنِي الشَّرِيفَ عَنِ الطِّرَازِ الْأَخْضَرِ وَقَالَ الأديب شمس الدين محمد بن إبراهيم الدمشقي: أَطْرَافُ تِيجَانٍ أَتَتْ مِنْ سُنْدُسٍ ... خُضْرٍ بِأَعْلَامٍ عَلَى الْأَشْرَافِ وَالْأَشْرَفُ السُّلْطَانُ خَصَّصَهُمْ بِهَا ... شَرَفًا لِيَعْرِفَهُمْ مِنَ الْأَطْرَافِ وَحَظُّ الْفَقِيهِ فِي ذَلِكَ إِذَا سُئِلَ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ هَذِهِ الْعَلَامَةُ بِدْعَةً مُبَاحَةً لَا يُمْنَعُ مِنْهَا مَنْ أَرَادَهَا مِنْ شَرِيفٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُؤْمَرُ بِهَا مَنْ تَرَكَهَا مِنْ شَرِيفٍ وَغَيْرِهِ، وَالْمَنْعُ مِنْهَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ لَيْسَ أَمْرًا شَرْعِيًّا ; لِأَنَّ النَّاسَ مَضْبُوطُونَ بِأَنْسَابِهِمُ الثَّابِتَةِ، وَلَيْسَ لُبْسُ الْعَلَامَةِ مِمَّا وَرَدَ بِهِ شَرْعٌ فَيُتَّبَعُ إِبَاحَةً وَمَنْعًا - أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ - أَنَّهُ أَحْدَثَ التَّمْيِيزَ بِهَا لِهَؤُلَاءِ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُخَصَّ ذَلِكَ بِخُصُوصِ الْأَبْنَاءِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ ذُرِّيَّةُ الحسن والحسين، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُعَمَّمَ فِي كُلِّ ذُرِّيَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَسِبُوا إِلَيْهِ كَالزَّيْنَبِيَّةِ، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُعَمَّمَ فِي كُلِّ أَهْلِ الْبَيْتِ كَبَاقِي الْعَلَوِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 وَالْجَعْفَرِيَّةِ وَالْعَقِيلِيَّةِ كُلٌّ جَائِزٌ شَرْعًا، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] فَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَخْصِيصِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِلِبَاسٍ يَخْتَصُّونَ بِهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْأَكْمَامِ وَإِدَارَةِ الطَّيْلَسَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِيُعْرَفُوا فَيُجَلُّوا تَكْرِيمًا لِلْعِلْمِ، وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعُ: هَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى الْأَشْرَافِ؟ وَالْعَاشِرُ: هَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَشْرَافِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ فِي كَلَامِ الْمُوصِي وَالْوَاقِفِ نَصٌّ يَقْتَضِي دُخُولَهُمْ أَوْ خُرُوجَهُمُ اتُّبِعَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَلَا هَذَا فَقَاعِدَةُ الْفِقْهِ أَنَّ الْوَصَايَا وَالْأَوْقَافَ تُنَزَّلُ عَلَى عُرْفِ الْبَلَدِ، وَعُرْفُ مِصْرَ مِنْ عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ إِلَى الْآنَ أَنَّ الشَّرِيفَ لَقَبٌ لِكُلِّ حَسَنِيٍّ وَحُسَيْنِيٍّ خَاصَّةً فَلَا يَدْخُلُونَ عَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْعُرْفِ، وَإِنَّمَا قَدَّمْتُ دُخُولَهُمْ فِي وَقْفِ بِرْكَةِ الْحَبَشِ ; لِأَنَّ وَاقِفَهَا نَصَّ فِي وَقْفِهِ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ وَقَفَ نِصْفَهَا عَلَى الْأَشْرَافِ، وَنِصْفَهَا عَلَى الطَّالِبِيِّينَ. [آخِرُ الْعَجَاجَةِ الزَّرْنَبِيَّةِ فِي السُّلَالَةِ الزَّيْنَبِيَّةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ كِتَابِ نُزْهَةِ الْمَجَالِسِ لعبد الرحمن الصفوري عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَلْيَلْعَنِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى» . حِكَايَةٌ: «خَرَجَ عَلِيُّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبِيعُ إِزَارَ فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِيَأْكُلُوا بِثَمَنِهِ فَبَاعَهُ بِسِتَّةِ دَرَاهِمَ، فَرَآهُ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَمَعَهُ نَاقَةٌ، فَقَالَ: يَا أبا الحسن اشْتَرِ هَذِهِ النَّاقَةَ، فَقَالَ: مَا مَعِي ثَمَنُهَا، قَالَ: إِلَى أَجَلٍ فَاشْتَرَاهَا بِمِائَةٍ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مِيكَائِيلُ فِي طَرِيقِهِ فَقَالَ: أَتَبِيعُ هَذِهِ النَّاقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاشْتَرَيْتُهَا بِمِائَةٍ، قَالَ: وَلَكَ مِنَ الرِّبْحِ سِتُّونَ فَبَاعَهَا لَهُ، فَعَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: بِعْتَهُ النَّاقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ادْفَعْ إِلَيَّ دَيْنِي فَدَفَعَ لَهُ مِائَةً، وَرَجَعَ بِسِتِّينَ، فَقَالَتْ لَهُ فاطمة: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ قَالَ: تَاجَرْتُ مَعَ اللَّهِ بِسِتَّةٍ فَأَعْطَانِي سِتِّينَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: الْبَائِعُ جِبْرِيلُ، وَالْمُشْتَرِي مِيكَائِيلُ، وَالنَّاقَةُ لفاطمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 تَرْكَبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . حِكَايَةٌ: " رَأَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِرْعَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُبَاعُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَيْلَةَ عُرْسِهِ عَلَى فاطمة، فَقَالَ عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا دِرْعُ فَارِسِ الْإِسْلَامِ لَا يُبَاعُ أَبَدًا فَدَفَعَ لِغُلَامِ علي أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ وَرَدَّ الدِّرْعَ مَعَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عثمان وَجَدَ فِي دَارِهِ أَرْبَعَمِائَةِ كِيسٍ فِي كُلِّ كِيسٍ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ دِرْهَمٍ هَذَا ضَرْبُ الرَّحْمَنِ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: هَنِيئًا لَكَ يَا عثمان ". وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِ غَرِيبٍ ضَحِكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا نَظَرَ الْغَرِيبُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَعَنْ أَمَامِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، فَلَمْ يَرَ أَحَدًا يَعْرِفُهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَنْظُرُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْغَرِيبِ أَلْفَ نَظْرَةٍ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَا مِنْ غَرِيبٍ يَمْرَضُ فَيَرَى بِبَصَرِهِ فَلَا يَقَعُ عَلَى مَنْ يَعْرِفُهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ نَفَسٍ يَتَنَفَّسُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ حَسَنَةٍ وَمَحَا عَنْهُ سَبْعِينَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ» . وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «أَكْرِمُوا الْغُرَبَاءَ فَإِنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ شَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا وَأَنَّهُ يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا لِيَقُمِ الْغُرَبَاءُ فَيَقُومُونَ يَسْتَبِقُونَ إِلَى اللَّهِ، أَلَا مَنْ أَكْرَمَهُمْ فَقَدْ أَكْرَمَنِي، وَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَكْرَمَ غَرِيبًا فِي غُرْبَتِهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ «: " أَلَا لَا غُرْبَةَ عَلَى مُؤْمِنٍ، وَمَا مَاتَ مُؤْمِنٌ فِي غُرْبَةٍ غَابَ عَنْهُ بَوَاكِيهِ إِلَّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ» . وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قَالَ ارْحَمُوا الْيَتَامَى، وَأَكْرِمُوا الْغُرَبَاءَ، فَإِنِّي كُنْتُ فِي الصِّغَرِ يَتِيمًا وَفِي الْكِبَرِ غَرِيبًا ". » وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ آذَى جَارَهُ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ حَارَبَ جَارَهُ فَقَدْ حَارَبَنِي، وَمَنْ حَارَبَنِي فَقَدْ حَارَبَ اللَّهَ ". » وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَسْأَلَةُ النَّاسِ مِنَ الْفَوَاحِشِ، مَا أُحِلَّ مِنَ الْفَوَاحِشِ غَيْرُهَا ".» «وَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لَا تُحْوِجْنِي إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، قَالَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الَّذِينَ إِذَا أَعْطَوْا مَنُّوا، وَإِذَا مَنَعُوا عَابُوا» . فَائِدَةٌ: أَصَابَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاجَةٌ فَذَهَبَ إِلَى صَدِيقٍ لَهُ لِيَسْتَقْرِضَ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَمْ يُقْرِضْهُ فَرَجَعَ مَهْمُومًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ لَوْ سَأَلْتَنِي لَأَعْطَيْتُكَ فَقَالَ: يَا رَبِّ عَرَفْتُ مَقْتَكَ لِلدُّنْيَا فَخَشِيتُ أَنْ أَسْأَلَكَ إِيَّاهَا فَتَمْقُتُنِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ لَيْسَتِ الْحَاجَةُ مِنَ الدُّنْيَا. حِكَايَةٌ: قَالَ النسفي فِي زَهْرَةِ الرِّيَاضِ: لَمَّا تَوَلَّى سُلَيْمَانُ الْمُلْكَ جَاءَهُ جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ يُهَنِّئُونَهُ إِلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهَا جَاءَتْ تُعَزِّيهِ فَعَاتَبَهَا النَّمْلُ فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ: كَيْفَ أُهَنِّئُهُ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا زَوَى عَنْهُ الدُّنْيَا، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْآخِرَةَ، وَقَدْ شُغِلَ سُلَيْمَانُ بِأَمْرٍ لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 يَدْرِي عَاقِبَتَهُ فَهُوَ بِالتَّعْزِيَةِ أَوْلَى مِنَ التَّهْنِئَةِ، وَجَاءَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ شَرَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شَرِبْتَهُ لَمْ تَمُتْ فَشَاوَرَ جُنْدَهُ إِلَّا الْقُنْفُذَ فَإِنَّهُ كَانَ غَائِبًا، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يَشْرَبَهُ، فَأَرْسَلَ الْفَرَسَ خَلْفَ الْقُنْفُذِ فَلَمْ يُجِبْهَا، فَأَرْسَلَ الْكَلْبَ خَلْفَهَا فَأَجَابَهُ، فَسَأَلَهُ سُلَيْمَانُ عَنِ الشَّرَابِ فَقَالَ: لَا تَشْرَبْهُ فَإِنَّ الْمَوْتَ فِي عِزٍّ خَيْرٌ مِنَ الْبَقَاءِ فِي سِجْنِ الدُّنْيَا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَأَرَاقَ الشَّرَابَ فِي الْبَحْرِ فَطَابَ مَاؤُهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَيْفَ أَطَعْتَ الْكَلْبَ دُونَ الْفَرَسِ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا تَعْدُو بِصَاحِبِهَا وَبِغَيْرِهِ، وَالْكَلْبُ لَا يُطِيعُ إِلَّا صَاحِبَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْمَحَبَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ ثَلَاثٌ» ". فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَمْطَرَ اللَّهُ عَلَى أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ؟ قِيلَ: جَعَلَهُ اللَّهُ عِوَضًا عَنِ الدُّودِ الَّذِي أَكَلَهُ، فَالْجَرَادُ خِلْعَةُ الطَّائِعِ وَعُقُوبَةُ الْعَاصِي ; لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرِيضَ تُلْقَى ذُنُوبُهُ فِي الْبَحْرِ فَيَخْلُقُ اللَّهُ مِنْهَا التِّمْسَاحَ، فَإِذَا مَاتَ التِّمْسَاحُ صَارَ دُودًا ثُمَّ جَرَادًا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الْأَدَبِ مِنْ كِتَابِ الْمَوْتِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ طِينَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الدُّنْيَا مِيرَاثُ الْغَرُورِ، وَمَسْكَنُ الْبَطَّالِينَ، وَسُوقُ الرَّاغِبِينَ، وَمَيْدَانُ الْفَاسِقِينَ، وَسِجْنُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَزْبَلَةُ الْمُتَّقِينَ - زَادَ مُؤَلِّفُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَزْرَعَةٌ لِلْعَالِمِينَ. فَائِدَةٌ: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّوَكُّؤُ عَلَى الْعَصَا مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا» ، وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الْعَصَا عَلَامَةُ الْمُؤْمِنِ وَسُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ خَرَجَ فِي سَفَرٍ وَمَعَهُ عَصًا مِنْ لَوْزٍ مَرَّ " أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ سَبُعٍ ضَارٍ، وَلِصٍّ عَاصٍ، وَمِنْ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَمَنْزِلِهِ، وَكَانَ مَعَهُ سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ مِنَ الْمُعَقِّبَاتِ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، حَتَّى يَرْجِعَ وَيَضَعَهَا» ، وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ «: " مَنْ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ يَأْخُذِ الْعَصَا عُدَّ لَهُ مِنَ الْكِبَرِ وَالْعُجْبِ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ خَيْرُكُمْ مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ وَلَا الْآخِرَةَ لِلدُّنْيَا، وَلَكِنَّ خَيْرَكُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْ هَذِهِ لِهَذِهِ» . لَطِيفَةٌ: «قَالَ أَنَسٌ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَأَيْنَا طَيْرًا أَعْمَى يَضْرِبُ بِمِنْقَارِهِ عَلَى شَجَرَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَتَدْرِي مَا يَقُولُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْعَدْلُ وَقَدْ حَجَبْتَ عَنِّي بَصَرِي وَقَدْ جُعْتُ، فَأَقْبَلَتْ جَرَادَةٌ فَدَخَلَتْ فِي فِيهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِمِنْقَارِهِ عَلَى الشَّجَرَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتَدْرِي مَا يَقُولُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 عَمِلَ فُرْقَةً بَيْنَ امْرَأَةٍ وَزَوْجِهَا، كَانَ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ ". » مَوْعِظَةٌ: عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ خَانَتْ زَوْجَهَا فِي الْفِرَاشِ فَعَلَيْهَا نِصْفُ عَذَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ» ، وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ لَمْ يَلْبَثْ فِي قَبْرِهِ إِلَّا سَاعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلِكًا يُشْبِهُ الْخُطَّافَ، فَيَخْطِفُهُ بِرِجْلَيْهِ وَيَطْرَحُهُ فِي بِلَادِ قَوْمِ لُوطٍ، وَيَكْتُبُ عَلَى جَبِينِهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» ، وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَطْفَالٍ لَيْسَ لَهُمْ رُؤُوسٌ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمَظْلُومُونَ، فَيَقُولُ: مَنْ ظَلَمَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: آبَاؤُنَا كَانُوا يَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ فَأَلْقَوْنَا فِي الْأَدْبَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: سُوقُوهُمْ إِلَى النَّارِ وَاكْتُبُوا عَلَى جِبَاهِهِمْ آيِسِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» . وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يُمْسَخُ اللُّوطِيُّ فِي قَبْرِهِ خِنْزِيرًا وَتَدْخُلُ [النَّارُ] فِي مِنْخَرَيْهِ وَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «: " الْعِفْرِيتُ أَخْبَرَنَا عَنْ إِبْلِيسَ فَتَوَجَّهَ مَعَهُ إِلَى الْبَحْرِ فَوَجَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَقَالَ: أَخْبِرْنَا بِأَبْغَضِ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكَ، قَالَ: اللِّوَاطُ وَلَوْلَا مَمْشَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أَخْبَرْتُكَ ". » وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَشَى فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ حَلَالًا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَلْفَ امْرَأَةٍ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، كُلُّ امْرَأَةٍ فِي قَصْرٍ مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ، وَكَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ خَطَاهَا أَوْ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا فِي ذَلِكَ عِبَادَةُ سَنَةٍ، قِيَامُ لَيْلِهَا وَصِيَامُ نَهَارِهَا ". » وَذَكَرَ ابن الجوزي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ أَرْبَعِينَ بَدَلًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَذَلِكَ كُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ قَامَ مَقَامَهُ آخَرُ. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْأَبْدَالُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَأَرْبَعُونَ امْرَأَةً كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلًا، وَكُلَّمَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهَا امْرَأَةً» . فَائِدَةٌ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ «: " إِذَا غَسَلَتِ الْمَرْأَةُ ثِيَابَ زَوْجِهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهَا أَلْفَيْ حَسَنَةٍ، وَغَفَرَ لَهَا أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَاسْتَغْفَرَ لَهَا كُلُّ شَيْءٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَرَفَعَ لَهَا أَلْفَيْ دَرَجَةٍ» . وَقَالَتْ عائشة: " صَرِيرُ مِغْزَلِ الْمَرْأَةِ يَعْدِلُ التَّكْبِيرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالتَّكْبِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَثْقَلُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ كَسَتْ زَوْجَهَا مِنْ غَزْلِهَا كَانَ لَهَا بِكُلِّ سُدًى مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ. قَالَ أبو قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَرِيرُ مِغْزَلِ الْمَرْأَةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللَّهِ سَوَاءٌ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنِ اشْتَرَى لِعِيَالِهِ شَيْئًا ثُمَّ حَمَلَهُ بِيَدِهِ إِلَيْهِمْ حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ ذَنْبَ سَبْعِينَ سَنَةً ". » وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ فَرَّحَ أُنْثَى فَكَأَنَّمَا بَكَى مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 خَشْيَةِ اللَّهِ، وَمَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ بَدَنَهُ عَلَى النَّارِ» . وَرَأَيْتُ فِي كِتَابِ النُّورَيْنِ فِي إِصْلَاحِ الدَّارَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الْبَيْتُ الَّذِي فِيهِ الْبَنَاتُ يُنْزِلُ اللَّهُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَحْمَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا تَنْقَطِعُ زِيَارَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ، يَكْتُبُونَ لِأَبَوَيْهِمَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِبَادَةَ سَنَةٍ» . وَعَنْ حذيفة أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «أَطْعَمَنِي جِبْرِيلُ الْهَرِيسَةَ أَشُدُّ بِهَا ظَهْرِي لِقِيَامِ اللَّيْلِ، أَوَّلُ مَنْ حَرَثَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَدْرَكَهُ التَّعَبُ آخِرَ النَّهَارِ فَقَالَ لحواء: ازْرَعِي مَا بَقِيَ فَصَارَ زَرْعُهَا شَعِيرًا، فَتَعَجَّبَتْ مِنْ ذَلِكَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى آدَمَ لَمَّا أَطَاعَتِ الْعَدُوَّ الْمُشِيرَ أَبْدَلْنَا الْقَمْحَ بِالشَّعِيرِ. » وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «نِعْمَ الطَّعَامُ الزَّبِيبُ يَشُدُّ الْعَصَبَ وَيُذْهِبُ الْوَصَبَ، وَيُطْفِئُ الْغَضَبَ، وَيَذْهَبُ بِالْبَلْغَمِ، وَيُصَفِّي اللَّوْنَ، وَيُطَيِّبُ النَّكْهَةَ - يَعْنِي رَائِحَةَ الْفَمِ.» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا لِلنُّفَسَاءِ عِنْدِي شِفَاءٌ مِثْلُ الرُّطَبِ، وَلَا لِلْمَرِيضِ مِثْلُ الْعَسَلِ» . وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «أَطْعِمُوا نِسَاءَكُمْ فِي نِفَاسِهِنَّ التَّمْرَ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ طَعَامُهَا فِي نِفَاسِهَا التَّمْرَ خَرَجَ وَلَدُهَا حَلِيمًا» . وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «أَطْعِمُوا حَبَالَاكُمُ اللِّبَانَ - يَعْنِي بِذَلِكَ حَصَى لِبَانِ الذَّكَرِ - فَإِنْ يَكُنْ فِي بَطْنِهَا ذَكَرٌ يَكُنْ ذَكِيَّ الْقَلْبِ» . وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِأَكْلِ الْبَلَسِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عُرُوقَ الْجُذَامِ أَلَا وَهُوَ التِّينُ ".» وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «كُلُوا السَّفَرْجَلَ فَإِنَّهُ يَجْلُو عَنِ الْفُؤَادِ وَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا وَأَطْعَمَهُ مِنْ سَفَرْجَلِ الْجَنَّةِ، فَيَزِيدُ فِي قُوَّتِهِ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا ". » وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «سَأَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِبْلِيسَ عَنْ ضَجِيعِهِ فَقَالَ: السَّكْرَانُ، وَعَنْ جَلِيسِهِ قَالَ: النَّاسِي يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَعَنْ ضَيْفِهِ فَقَالَ: السَّارِقُ، وَعَنْ أَنِيسِهِ فَقَالَ: الشَّاعِرُ، وَعَنْ رَسُولِهِ فَقَالَ: الْكَاهِنُ، وَالسَّاحِرُ، وَعَنْ قُرَّةِ عَيْنِهِ فَقَالَ: الَّذِي يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، وَعَنْ حَبِيبِهِ قَالَ: تَارِكُ الصَّلَاةِ، وَعَنْ أَعَزِّ النَّاسِ قَالَ: مَنْ سَبَّ أبا بكر وعمر ".» وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الرَّافِضَةِ قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَا أبا الحسن كَيْفَ سَبَقَكَ أبو بكر بِالْخِلَافَةِ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي كُنْتُ اشْتَغَلْتُ بِتَجْهِيزِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ حَضَرْتَ مُبَايَعَةَ أبي بكر؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَنْ بَايَعَهُ أَوَّلًا؟ قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَعَهُ عُكَّازٌ أَخْضَرُ، فَقَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ذَاكَ إِبْلِيسُ أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ «أَوَّلَ مَنْ يُبَايِعُ أبا بكر إِبْلِيسُ» . لَطِيفَةٌ: رَأَيْتُ فِي شَوَارِدِ الْمُلَحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ، وَالْعَرُوسُ تُجَلَّى تَارَةً بِتَاجٍ، وَتَارَةً بِعِمَامَةٍ، وَتَارَةً بِمِنْطَقَةٍ، وَتَارَةً بِسَيْفٍ، فَتَاجُهُ أبو بكر، وَعِمَامَتُهُ عمر، وَمِنْطَقَتُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 عثمان، وَسَيْفُهُ علي. وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ وَأَدْخَلَ الرُّوحَ فِي جَسَدِهِ، أَمَرَنِي أَنْ آخُذَ تُفَّاحَةً مِنَ الْجَنَّةِ فَأَعْصِرُهَا فِي حَلْقِهِ فَعَصَرْتُهَا، فَخَلَقَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْقَطْرَةِ الْأُولَى، وَمِنَ الثَّانِيَةِ أبا بكر، وَمِنَ الثَّالِثَةِ عمر، وَمِنَ الرَّابِعَةِ عثمان، وَمِنَ الْخَامِسَةِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَكْرَمْتَهُمْ؟ فَقَالَ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ خَمْسَةُ أَشْيَاخٍ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، وَهَؤُلَاءِ أَكْرَمُ عِنْدِي مِنْ جَمِيعِ خَلْقِي فَلَمَّا عَصَى آدَمُ قَالَ: يَا رَبِّ بِحُرْمَةِ أُولَئِكَ الْأَشْيَاخِ الْخَمْسَةِ الَّذِينَ فَضَّلْتَهُمْ إِلَّا تُبْتَ عَلَيَّ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. » وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «أَوَّلُ مَنْ جَزِعَ مِنَ الشَّيْبِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَآهُ فِي عَارِضِهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الشَّوْهَةُ الَّتِي شَوَّهَتْ بِخَلِيلِكَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ هَذَا سِرْبَالُ الْوَقَارِ وَنُورُ الْإِسْلَامِ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا أَلْبَسْتُهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِي يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي لَا شَرِيكَ لِي إِلَّا اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ أَنْصِبَ لَهُ مِيزَانًا، أَوْ أَنْشُرَ لَهُ دِيوَانًا، أَوْ أُعَذِّبَهُ بِالنَّارِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا، فَأَصْبَحَ رَأْسُهُ مِثْلَ الْغَمَامَةِ الْبَيْضَاءِ» . وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «اخْتَضِبُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسْتَبْشِرُونَ بِخِضَابِ الْمُؤْمِنِ» . وَقَالَ أبو طيبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَفَقَةُ دِرْهَمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَنَفَقَةُ دِرْهَمٍ فِي خِضَابِ اللِّحْيَةِ بِسَبْعَةِ آلَافٍ. وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ وَهُوَ مُخْتَضِبٌ بِالْحِنَّاءِ أَتَاهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ مُنْكَرٌ لِنَكِيرٍ: ارْفُقْ بِالْمُؤْمِنِ أَمَا تَرَى نُورَ الْإِيمَانِ.» وَقَالَ أَنَسٌ: «دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ فَقَالَ: أَلَسْتَ مُسْلِمًا؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَاخْتَضِبْ» . فَائِدَةٌ: قَالَ ابن كعب: قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَرَّحَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ عُوفِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ وَزِيدَ فِي عُمْرِهِ ". » وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ أَمَرَّ الْمُشْطَ عَلَى حَاجِبِهِ عُوفِيَ مِنَ الْوَبَاءِ» . وَقَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالْمُشْطِ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الْفَقْرَ، وَمَنْ سَرَّحَ لِحْيَتَهُ حَتَّى يُصْبِحَ كَانَ لَهُ أَمَانًا حَتَّى يُمْسِيَ ; لِأَنَّ اللِّحْيَةَ زَيْنُ الرِّجَالِ وَجَمَالُ الْوَجْهِ» . فَائِدَةٌ: قَالَ وهب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ سَرَّحَ لِحْيَتَهُ بِلَا مَاءٍ زَادَ هَمُّهُ أَوْ بِمَاءٍ نَقَصَ هَمُّهُ، وَمَنْ سَرَّحَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ زَادَهُ اللَّهُ نَشَاطًا، أَوِ الِاثْنَيْنِ قَضَى حَاجَتَهُ، أَوِ الثُّلَاثَاءِ زَادَهُ اللَّهُ رَخَاءً، أَوِ الْأَرْبِعَاءِ زَادَهُ اللَّهُ نِعْمَةً، أَوِ الْخَمِيسِ زَادَ اللَّهُ فِي حَسَنَاتِهِ، أَوِ الْجُمُعَةِ زَادَهُ اللَّهُ سُرُورًا، أَوِ السَّبْتِ طَهَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ. وَمَنْ سَرَّحَهَا قَائِمًا رَكِبَهُ الدَّيْنُ أَوْ قَاعِدًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 ذَهَبَ عَنْهُ الدَّيْنُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ فَمَا يُجْزَى إِلَّا عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ ". » وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «لِكُلِّ شَيْءٍ آلَةٌ وَآلَةُ الْمُؤْمِنِ الْعَقْلُ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ دِعَامَةٌ، وَدِعَامَةُ الْمُؤْمِنِ الْعَقْلُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ غَايَةٌ، وَغَايَةُ الْعُبَّادِ الْعَقْلُ، وَلِكُلِّ صِنْفٍ رَاعٍ وَرَاعِي الْعَابِدِينَ الْعَقْلُ، وَلِكُلِّ تَاجِرٍ بِضَاعَةٌ، وَبِضَاعَةُ الْمُجْتَهِدِينَ الْعَقْلُ، وَلِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ قَيِّمٌ وَقَيِّمُ بُيُوتِ الصِّدِّيقِينَ الْعَقْلُ، وَلِكُلِّ خَرَابٍ عِمَارَةٌ، وَعِمَارَةُ الْآخِرَةِ الْعَقْلُ» . وَرَأَيْتُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ: «نَهَانَا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُمَشِّطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ خِفَّةُ لِحْيَتِهِ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَتْ عائشة: مَنْ أَكَلَ الْيَقْطِينَ بِالْعَدَسِ رَقَّ قَلْبُهُ. وَعَنْ أَنَسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ مَدِينَةً تَحْتَ الْعَرْشِ مِنْ مِسْكٍ أَذْفَرَ عَلَى بَابِهَا مَلَكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ أَلَا مَنْ زَارَ عَالِمًا فَقَدْ زَارَ الرَّبَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ» . وَعَنْ أَنَسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عُتَقَاءِ اللَّهِ مِنَ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ مُتَعَلِّمٍ يَخْتَلِفُ إِلَى بَابِ عَالِمٍ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ عِبَادَةَ سَنَةٍ، وَيُبْنَى لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ مَدِينَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَيَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَالْأَرْضُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ ". » وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ خَاضَ فِي الْعِلْمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ سَبْعِينَ أَلْفَ رَقَبَةٍ، وَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَكَأَنَّمَا حَجَّ أَرْبَعِينَ أَلْفَ حَجَّةٍ، وَهُوَ فِي رِضْوَانِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ ". » وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ مَلِكَاهُ، وَإِنْ مَاتَ فِي طَلَبِهِ مَاتَ شَهِيدًا، وَكَانَ قَبْرُهُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَيُوَسَّعُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ الْبَصَرِ، وَيُنَوِّرُ عَلَى جِيرَانِهِ أَرْبَعِينَ قَبْرًا عَنْ يَمِينِهِ، وَأَرْبَعِينَ قَبْرًا عَنْ يَسَارِهِ، وَأَرْبَعِينَ مِنْ خَلْفِهِ، وَأَرْبَعِينَ أَمَامَهُ» . حِكَايَةٌ: «قَالَ أبو جهل: يَا مُحَمَّدُ إِنْ أَخْرَجْتَ لَنَا طَاوُوسًا مِنْ صَخْرَةٍ فِي دَارِي آمَنْتُ بِكَ، فَدَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَصَارَتِ الصَّخْرَةُ تَئِنُّ أَنِينَ الْمَرْأَةِ الْحُبْلَى ثُمَّ انْشَقَّتْ عَنْ طَاوُوسٍ صَدْرُهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَرَأْسُهُ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَجَنَاحَاهُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَرِجْلَاهُ مِنْ جَوْهَرٍ، فَلَمَّا رَآهُ أبو جهل أَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ» . وَرَأَيْتُ فِي الزَّهْرِ الْفَائِحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا فِي أَصْحَابِهِ، فَمَرَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ مُشْرِكَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ دُونَ شَهْرَيْنِ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُ عَبَسَتْ فِي وَجْهِهِ فَانْتَفَضَ الطِّفْلُ وَتَرَكَ ثَدْيَهَا، وَقَالَ: يَا ظَالِمَةً نَفْسَهَا تَعْبَسِي فِي وَجْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَنْ أَخْبَرَكَ أَنِّي أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ بِذَلِكَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: صَدَقَ الْغُلَامُ ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْ خُدَّامِكَ فِي الْجَنَّةِ، فَدَعَا لَهُ فَمَاتَ فِي الْحَالِ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ أَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَاأَسَفَاهْ عَلَى مَا فَاتَنِي مِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَبْشِرِي فَقَدْ هَدَمَ الْغُلَامُ عَنْكِ مَا فَعَلْتِيهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى كَفَنِكِ وَحَنُوطِكِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْهَوَاءِ فَمَاتَتْ أَيْضًا فِي الْحَالِ فَصَلَّى عَلَيْهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . حِكَايَةٌ: فِي رَوْضِ الْأَفْكَارِ: أَنَّ «امْرَأَةً خَرَجَتْ تَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهَا شَابٌّ فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَتْ: أَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتُحِبِّينَهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَبِحَقِّهِ ارْفَعِي نِقَابَكِ حَتَّى أَنْظُرَ وَجْهَكِ، فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخْبَرَتْ زَوْجَهَا بِذَلِكَ، فَأَوْقَدَ تَنُّورًا ثُمَّ قَالَ: بِحَقِّهِ عَلَيْكِ ادْخُلِي التَّنُّورَ، فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا فِيهِ، ثُمَّ ذَهَبَ وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: ارْجِعْ وَاكْشِفْ عَنْهَا، فَكَشَفَ فَرَآهَا سَالِمَةً وَقَدْ جَلَّلَهَا الْعَرَقُ» ، وَدَعَا اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ الشَّمْسَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خَيْبَرَ فَطَلَعَتْ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَعْرِفَةُ آلِ مُحَمَّدٍ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَحُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ جَوَازٌ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالْوَلَايَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ أَمَانٌ مِنَ الْعَذَابِ» ". رَأَيْتُ فِي الْقَوْلِ الْبَدِيعِ عَنْ علي عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: «مَنْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَغَزَا بَعْدَهَا غَزَاةً كُتِبَتْ غَزَاتُهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ حَجَّةٍ فَانْكَسَرَتْ قُلُوبُ قَوْمٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْجِهَادِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مَا صَلَّى عَلَيْكَ أَحَدٌ إِلَّا كَتَبْتُ صَلَاتَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ غَزَاةٍ كُلُّ غَزَاةٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ حَجَّةٍ» ، وَقَالَ علي: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً ثَمَرُهَا أَكْبَرُ مِنَ التُّفَّاحِ، وَأَصْغَرُ مِنَ الرُّمَّانِ، أَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَأَغْصَانُهَا مِنَ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ، وَجُذُوعُهَا مِنَ الذَّهَبِ، وَوَرَقُهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَحْدَقَ النَّظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ: لَمَّا رَفَعَتْكَ حليمة وَأَنْتَ ابْنُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا رَأَيْتُكَ تُخَاطِبُ الْقَمَرَ وَيُخَاطِبُكَ بِلُغَةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، قَالَ: يَا عَمِّ قَرَصَنِي الْقِمَاطُ فِي جَانِبِي الْأَيْمَنِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَبْكِيَ فَقَالَ الْقَمَرُ: لَا تَبْكِ وَلَوْ قَطَرَ مِنْ دُمُوعِكَ قَطْرَةٌ عَلَى الْأَرْضِ قَلَبَ اللَّهُ الْخَضْرَاءَ عَلَى الْغَبْرَاءِ فَصَفَّقَ العباس فَقَالَ: أَزِيدُكَ يَا عَمِّ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: ثُمَّ قَرَصَنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 الْقِمَاطُ فِي جَانِبِي الْأَيْسَرِ فَهَمَمْتُ أَنْ أَبْكِيَ فَقَالَ الْقَمَرُ: لَا تَبْكِ يَا حَبِيبَ اللَّهِ فَإِنْ وَقَعَ مِنْ دُمُوعِكَ قَطْرَةٌ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ تَنْشَقَّ عَنْ خَضْرَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَسَكَتَ شَفَقَةً عَلَى أُمَّتِي، فَصَفَّقَ العباس وَقَالَ: أَكُنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ وَأَنْتَ ابْنُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا؟ فَقَالَ: يَا عَمِّ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ صَرِيرَ الْقَلَمِ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَأَنَا فِي ظُلْمَةِ الْأَحْشَاءِ، أَفَأَزِيدُكَ يَا عَمِّ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ مِائَةَ أَلْفِ نَبِيٍّ وَأَرْبَعًا وَعِشْرِينَ أَلْفَ نَبِيٍّ مَا مِنْهُمْ مِنْ نَبِيٍّ عَلِمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ حَتَّى بَلَغَ أَشُدَّهُ - وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً - إِلَّا عِيسَى فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ مِنْ جَوْفِ أُمِّهِ قَالَ: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَابْنَ أَخِيكَ، أَفَأَزِيدُكَ يَا عَمِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَمَّا وُلِدْتُ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى سَبْعَةَ جِبَالٍ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَلَأَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيُقَدِّسُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ ثَوَابَ تَسْبِيحِهِمْ وَتَقْدِيسِهِمْ لِعَبْدٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَزْعَجَ أَعْضَاءَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ» - ذَكَرُهُ فِي شَوَارِدِ الْمُلَحِ - وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَجَهَرَ بِهَا شَهِدَ لَهُ كُلُّ حَجَرٍ وَمَدَرٍ وَرَطْبٍ وَيَابِسٍ» ". وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابًا مِنَ الْعَافِيَةِ» ". وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ فَإِنَّهَا تَحُلُّ الْعُقَدَ وَتُفَرِّجُ الْكُرَبَ» ". وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَاعِدًا غُفِرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا غُفِرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ» ". وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «مَنْ شَمَّ الْوَرْدَ الْأَحْمَرَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فَقَدْ جَفَانِي» ". وَعَنْ أَنَسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَرْدَ الْأَحْمَرَ مِنْ بَهَائِهِ، وَجَعَلَهُ رِيحًا لِأَنْبِيَائِهِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَهَاءِ اللَّهِ وَيَشُمَّ رَائِحَةَ الْأَنْبِيَاءِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْوَرْدِ الْأَحْمَرِ» ". وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَشُمَّ رَائِحَتِي فَلْيَشُمَّ الْوَرْدَ الْأَحْمَرَ» ". لَطِيفَةٌ: يُسْتَحَبُّ إِكْثَارُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَكْلِ الرُّزِّ ; لِأَنَّهُ كَانَ جَوْهَرًا أُودِعَ فِيهِ نُورُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا خَرَجَ النُّورُ مِنْهُ تَفَتَّتَ وَصَارَ حَبًّا. وَعَنْ علي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «كُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ فِيهِ دَاءٌ وَشِفَاءٌ، إِلَّا الْأَرُزَّ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ لَا دَاءَ فِيهِ» ". لَطِيفَةٌ: قَالَ مُؤَلِّفُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: سَمِعْتُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لِبَعْضِ الْفُقَرَاءِ تَعَالَ كُلْ مِنْ هَذَا الْعَدَسِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: أَطْعِمُونِي مِنَ الرُّزِّ الْمَيْشُومِ. رَأَيْتُ فِي مَنَازِلِ الْأَنْوَارِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَيَّرَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 " «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ قُبَّةً فِي الْجَنَّةِ عَرْضُهَا ثَلَثُمِائَةِ عَامٍ قَدْ حَفَّتْهَا رِيَاحُ الْكَرَامَةِ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ أَكْثَرَ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ» ". فَائِدَةٌ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى قَالَ: اللَّهُمَّ يَا رَبَّ مُحَمَّدٍ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْزِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ أَهْلُهُ أَتْعَبَ سَبْعِينَ كَاتِبًا أَلْفَ صَبَاحٍ وَلَمْ يَبْقَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ أَدَّاهُ وَغُفِرَ لِوَالِدَيْهِ وَحُشِرَ مَعَ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» ". فَائِدَةٌ: رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ كَانَ لَهُ ذُو بَطْنٍ فَأَجْمَعَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا رَزَقَهُ اللَّهُ غُلَامًا» ". وَقَالَتْ جليلة بنت عبد الجليل: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ لَا يَعِيشُ لِي وَلَدٌ فَقَالَ: اجْعَلِي لِلَّهِ عَلَيْكِ أَنْ تُسَمِّيهِ مُحَمَّدًا فَفَعَلَتْ فَعَاشَ وَلَدُهَا» . وَرَأَيْتُ فِي الْمَوْرِدِ الْعَذْبِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «مَنْ صَبَّحَ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فِي الدُّنْيَا صَبَّحَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَا» ". وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «لَوْ يَعْلَمُ الْأَمِيرُ مَا فِي ذِكْرِ اللَّهِ لَتَرَكَ إِمَارَتَهُ، وَلَوْ يَعْلَمُ التَّاجِرُ مَا فِي ذِكْرِ اللَّهِ لَتَرَكَ تِجَارَتَهُ، وَلَوْ أَنَّ ثَوَابَ تَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ قُسِّمَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ عَشَرَةُ أَضْعَافِ الدُّنْيَا» ". وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ أَلْفُ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ طَلْعُهَا - أَيْ ثَمَرُهَا - كَثَدْيِ الْأَبْكَارِ أَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، وَأَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ، كُلَّمَا أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا عَادَ كَمَا كَانَ» ". وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ خَلَقَ اللَّهُ مَلَكًا لَهُ عَيْنَانِ وَجَنَاحَانِ وَشَفَتَانِ وَلِسَانٌ يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَيَسْتَغْفِرُ لِقَائِلِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". فَائِدَةٌ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «أَكْثِرُوا مِنَ الْحَمْدِ لِلَّهِ فَإِنَّ لَهَا عَيْنَيْنِ وَجَنَاحَيْنِ تَطِيرُ بِهِمَا وَتَسْتَغْفِرُ لِقَائِلِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". مَوْعِظَةٌ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً ضَرَبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» ". فَائِدَةٌ: عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «خَلَقَ اللَّهُ نُورًا قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَلْفِ عَامٍ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ مِسْكًا، فَكَتَبَ بِهِ سُورَةَ يس، وَخَلَقَ لَهَا خَمْسِينَ أَلْفَ جَنَاحٍ فَلَمْ تَمُرَّ فِي سَمَاءٍ إِلَّا خَضَعَتْ لَهَا سُكَّانُهَا وَسَجَدُوا لَهَا، فَمَنْ تَعَلَّمَ يس وَعَرَفَ حَقَّهَا كَانَ فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا» "، وَقَوْلُهُ: " خَلَقَ لَهَا أَيْ لِثَوَابِهَا "، وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «يس تُدْعَى فِي التَّوْرَاةِ الْمُعِمَّةَ قِيلَ: وَمَا الْمُعِمَّةُ؟ قَالَ: تَعُمُّ صَاحِبَهَا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتُكَابِدُ عَنْهُ بَلْوَى الدُّنْيَا وَأَهَاوِيلَ الْآخِرَةِ» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 وَفِي الْخَبَرِ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى عِشْرِينَ أَلْفَ نَهْرٍ، وَقَالَ لِلْقَلَمِ: اكْتُبْ فَضْلَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وَفِي كِتَابِ الْبَرَكَةِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا حُبًّا لِي وَتَبَرُّكًا كَانَ هُوَ وَمَوْلُودُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَمَا قَعَدَ قَوْمٌ عَلَى طَعَامٍ حَلَالٍ فِيهِمْ رَجُلٌ اسْمُهُ اسْمِي إِلَّا تَضَاعَفَتْ فِيهِمُ الْبَرَكَةُ» ، وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «زَوَّجَنِي عائشة رَبِّي فِي السَّمَاءِ، وَأَشْهَدَ عَقْدَهَا الْمَلَائِكَةَ، وَأُغْلِقَتْ أَبْوَابُ النِّيرَانِ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا مَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ وَرِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ» ". رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْمَجَامِيعِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَا جِبْرِيلُ هَلْ كُنْتَ تَعْلَمُ بَرَاءَةَ عائشة؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ لَمْ تُخْبِرْنِي؟ قَالَ: أَرَدْتُ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ لَا تَفْعَلِ الشِّدَّةُ مِنِّي، وَالْفَرَجُ مِنِّي» ". وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَا صَبَّ اللَّهُ فِي صَدْرِي شَيْئًا إِلَّا صَبَبْتُهُ فِي صَدْرِ أبي بكر» ". وَعَنْ حذيفة قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: أَيْنَ أبو بكر؟ قَالَ: لَبَّيْكَ، قَالَ: أَلَحِقْتَ مَعِي الرَّكْعَةَ الْأُولَى؟ قَالَ: كُنْتُ مَعَكَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَوَسْوَسَ لِي شَيْءٌ فِي الطَّهَارَةِ، فَخَرَجْتُ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ يَا أبا بكر فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا بِقَدَحٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَاءٌ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ مِنَ الشَّهْدِ - بِفَتْحِ الشِّينِ عَلَى الْأَفْصَحِ - وَعَلَيْهِ مِنْدِيلٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَتَوَضَّأْتُ ثُمَّ وَضَعْتُ الْمِنْدِيلَ مَكَانَهُ فَقَالَ: يَا أبا بكر لَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الْقِرَاءَةِ أُخِذَتْ رُكْبَتِي فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ حَتَّى جِئْتَ وَإِنَّ الَّذِي وَضَّأَكَ جِبْرِيلُ، وَالَّذِي مَنْدَلَكَ مِيكَائِيلُ، وَالَّذِي أَخَذَ بِرُكْبَتِي إِسْرَافِيلُ» ". لَطِيفَةٌ: قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا علي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُقَدِّمَكَ فَأَبَى إِلَّا أبا بكر» . حِكَايَةٌ: قَالَ حذيفة: «صَنَعَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَعَامًا وَدَعَا أَصْحَابَهُ فَأَطْعَمَهُمْ لُقْمَّةً لُقْمَّةً وَقَالَ: سَيِّدُ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ، وَأَطْعَمَ أبا بكر ثَلَاثَ لُقَمٍ فَسَأَلَهُ العباس عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَمَّا أَطْعَمْتُهُ أَوَّلَ لُقْمَةٍ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَنِيئًا لَكَ يَا عَتِيقُ، فَلَمَّا لَقَمْتُهُ الثَّانِيَةَ قَالَ لَهُ مِيكَائِيلُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَفِيقُ، فَلَمَّا لَقَمْتُهُ الثَّالِثَةِ قَالَ لَهُ رَبُّ الْعِزَّةِ: هَنِيئًا لَكَ يَا صِدِّيقُ» . وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَوَّلُ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ الْحَقُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْخَذُ بِيَدِهِ فَيَنْطَلِقُ إِلَى الْجَنَّةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» ، «وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَطَرَتْ قَطْرَةٌ - يَعْنِي مِنَ السَّمَاءِ - يَقُولُ: رَبِّ لَكَ الْحَمْدُ ذَهَبَ السُّخْطُ وَنَزَلَتِ الرَّحْمَةُ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «إِذَا تَقَرَّبَ النَّاسُ إِلَى خَالِقِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ فَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْعَقْلِ» . وَعَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 فَأُعْطِيتُ سَفَرْجَلَةً فَانْفَلَقَتْ عَنْ حَوْرَاءَ فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: إِنَّ عَلَى هَذَا النَّهْرِ سَبْعِينَ أَلْفَ شَجَرَةٍ كُلُّ شَجَرَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ غُصْنٍ، عَلَى كُلِّ غُصْنٍ سَبْعُونَ أَلْفَ وَرَقَةٍ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ حَوْرَاءُ مِثْلِي خَلَقَهُنَّ اللَّهُ لِمُحِبِّي أبي بكر، وعمر» ". لَطِيفَةٌ: عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «رَأَيْتُ حمزة وَجَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَنَامِ، وَكَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا طَبَقٌ فِيهِ نَبْقٌ كَالزَّبَرْجَدِ فَأَكَلَا مِنْهُ ثُمَّ صَارَ عِنَبًا، فَأَكَلَا مِنْهُ ثُمَّ صَارَ رُطَبًا فَأَكَلَا مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُمَا: مَا وَجَدْتُمَا أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ؟ قَالَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قُلْتُ: ثُمَّ مَاهْ؟ قَالَا: الصَّلَاةُ عَلَيْكَ، قُلْتُ: ثُمَّ مَاهْ؟ قَالَا: حُبُّ أبي بكر وعمر» ". «وَمَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا مَجْنُونٌ فَقَالَ: الْمَجْنُونُ الْمُقِيمُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَكِنْ قُولُوا مُصَابٌ» . وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «تَهُبُّ عَلَى النَّارِ رِيحٌ فَيَقُولُونَ مَا رَأَيْنَا رِيحًا أَنْتَنَ مِنْ هَذِهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ هَذِهِ رِيحُ مَنْ يَسُبُّ أبا بكر وعمر» ". وَكَانَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا ذَكَرَ الْكُوفَةَ قَالَ: كَنْزُ الْإِيمَانِ، وَرُمْحُ اللَّهِ الْأَطْوَلُ. لَطِيفَةٌ: «عَطَسَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَضْرَةِ يَهُودِيٍّ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَقَالَ: يَهْدِيكَ اللَّهُ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» . وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَنَاوَلَنِي جِبْرِيلُ تُفَّاحَةً فَانْفَلَقَتْ عَنْ حَوْرَاءَ عَيْنَاءَ مَرْضِيَّةٍ كَأَنَّ مَقَادِمِ عَيْنِهَا أَجْنِحَةُ النُّسُورِ فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِلْخَلِيفَةِ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ» ". وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ بِمَلِكٍ جَالِسٍ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ نُورٍ إِحْدَى رِجْلَيْهِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْأُخْرَى فِي الْمَغْرِبِ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ لَوْحٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عِزْرَائِيلُ تَقَدَّمْ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ " فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا أَحْمَدُ مَا فَعَلَ ابْنُ عَمِّكَ علي؟ قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُ ابْنَ عَمِّي عليا؟ قَالَ: وَكَيْفَ لَا أَعْرِفُهُ وَقَدْ وَكَلَنِي رَبِّي بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْخَلَائِقِ مَا خَلَا رُوحَكَ وَرُوحَ ابْنِ عَمِّكَ» . وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " «أَنْتَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، وَأَنْتَ الْفَارُوقُ الَّذِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ» ". وَقَالَ علي: " قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا علي إِنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ بَعْدِي فَتَدْخُلُهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ» ". وَقَالَ لِي عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّكَ بَعْدَ مَوْتِكَ خُتِمَ لَهُ بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ» ". وَقَالَ أَنَسٌ: خَرَجْتُ مَعَ بلال، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى السُّوقِ فَاشْتَرَى بِطِّيخًا وَانْطَلَقْنَا إِلَى مَنْزِلِهِ فَكَسَرَ وَاحِدَةً فَوَجَدَهَا مُرَّةً فَأَمَرَ بلالا بِرَدِّ الْبِطِّيخِ إِلَى صَاحِبِهِ، فَلَمَّا رَدَّهُ قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَا أبا الحسن إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ حُبَّكَ عَلَى الْبَشَرِ وَالشَّجَرِ فَمَنْ أَجَابَ إِلَى حُبِّكَ عَذُبَ وَطَابَ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ إِلَى حُبِّكَ خَبُثَ وَمَرَّ وَأَظُنُّ هَذَا الْبِطِّيخَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 مِمَّنْ لَا يُحِبُّنِي» ، وَفِي حَاوِي الْقُلُوبِ الطَّاهِرَةِ وَغَيْرِهِ فِي أَرْضِ اللَّهِ بِلَادٌ لَهَا بِطِّيخٌ يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ خَارُوفُ غَنَمٍ يَعِيشُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ". فَائِدَةٌ: عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَنْ أَحَبَّ عليا بِقَلْبِهِ فَلَهُ ثَوَابُ ثُلُثِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَنْ أَحَبَّهُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فَلَهُ ثَوَابُ ثُلُثَيْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَنْ أَحَبَّهُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ فَلَهُ ثَوَابُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّقِيَّ كُلَّ الشَّقِيِّ مَنْ أَبْغَضَ عليا فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي، أَلَا وَإِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ السَّعِيدَ كُلَّ السَّعِيدِ مَنْ أَحَبَّ عليا فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حُبُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَأْكُلُ الذُّنُوبَ، كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَلَوِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى حُبِّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ جَهَنَّمَ. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: حُبُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَسَنَةٌ لَا تَضُرُّ مَعَهَا مَعْصِيَةٌ، وَبُغْضُهُ مَعْصِيَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ، وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْقَضِيبِ الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ الَّذِي غَرَسَهُ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ فَلْيَتَمَسَّكْ بِحُبِّ علي» "، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «لَوْ وُضِعَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي كِفَّةٍ، وَوَزْنُ إِيمَانِ علي فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَ إِيمَانُ علي» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا بِطَائِرٍ فِي فَمِهِ لَوْزَةٌ خَضْرَاءُ فَأَلْقَاهَا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوُجِدَ فِيهَا دُودَةٌ خَضْرَاءُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا بِالْأَصْفَرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ نُصْرَتُهُ بعلي» . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: «إِنَّكَ سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ وَقَائِدُ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ» . وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَلِيٌّ أَخُو رَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ بِأَلْفَيْ عَامٍ» . فَائِدَةٌ: رَأَيْتُ فِي الزَّهْرِ الْفَاتِحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلي: " «تَخَتَّمْ بِالْعَقِيقِ الْأَحْمَرِ فَإِنَّهُ جَبَلٌ أَقَرَّ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِي بِالنُّبُوَّةِ، وَلَكَ بِالْوَصِيَّةِ وَلِأَوْلَادِي بِالْإِمَامَةِ، وَلِمُحِبِّيكَ بِالْجَنَّةِ» ". وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «عَلَيْكُمْ بِالْخِضَابِ فَإِنَّهُ أَهْيَبُ لِعَدُوِّكُمْ وَأَعْجَبُ إِلَى نِسَائِكُمْ» ". وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «عَلَيْكُمْ بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَابُ الْإِسْلَامِ وَيُصَفِّي الْبَصَرَ وَيُذْهِبُ الصُّدَاعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالسَّوَادَ» ". وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ بَيْضَاءَ، وَإِنَّ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَى اللَّهِ الْبِيضُ» ". وَقَالَ النسفي: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ إِنِّي آخَيْتُ بَيْنَكُمَا وَجَعَلْتُ عُمْرَ أَحَدِكُمَا أَطْوَلَ مِنَ الْآخَرِ فَأَيُّكُمَا يُؤْثِرُ صَاحِبَهُ، فَاخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَيَاةَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمَا أَفَلَا كُنْتُمَا كعلي بن أبي طالب آخَيْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ يُؤْثِرُ بِنَفْسِهِ اهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ وَاحْفَظَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ، فَكَانَ مِيكَائِيلُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَجِبْرِيلُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَنْ مِثْلُكَ يَا ابن أبي طالب يُبَاهِي اللَّهُ بِكَ الْمَلَائِكَةَ؟ وَقَالَ الحسن: حَيَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِلْتَا يَدَيْهِ وَرَدَّا، وَقَالَ: سَيِّدُ رَيَاحِينِ الْجَنَّةِ سِوَى الْآسِ. وَقَالَ طَاوُوسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالتِّينِ} [التين: 1] هُوَ أبو بكر {وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] عمر {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2] عثمان {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3] عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَفِي حَدِيثٍ: «أَنَا مَدِينَةُ [الْعِلْمِ] وعلي بَابُهَا» . فَائِدَةٌ: «نَزَلَ جِبْرِيلُ بِطَبَقِ تُفَّاحٍ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَعْطِ مَنْ تُحِبُّ، وَكَانَ الطَّبَقُ مَسْتُورًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ وَأَخَذَ تُفَّاحَةً عَلَى جَانِبِهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ هَدِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ: مَنْ أَبْغَضَ الصِّدِّيقَ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى عَلَى جَانِبِهَا الْبَسْمَلَةُ هَذِهِ هَدِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلَى الْآخَرِ مَنْ أَبْغَضَ عمر فَهُوَ فِي سَقَرَ، ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى عَلَى جَانِبِهَا الْبَسْمَلَةُ هَذِهِ هَدِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ الْحَنَّانِ الْمَنَّانِ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلَى الْآخَرِ مَنْ أَبْغَضَ عثمان فَخَصْمُهُ الرَّحْمَنُ، ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى عَلَى جَانِبِهَا الْبَسْمَلَةُ هَذِهِ هَدِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ الْغَالِبِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مَنْ أَبْغَضَ عليا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ وَلِيًّا، فَحَمِدَ اللَّهَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . قَالَ النسفي وَغَيْرُهُ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَنَّةَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَرَأَى قَصْرَ خديجة، أَخَذَ جِبْرِيلُ تُفَّاحَةً مِنْ شَجَرَةٍ مِنَ الْقَصْرِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ كُلْ [مِنْ] هَذِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ مِنْهَا بِنْتًا تَحْمِلُ بِهَا خديجة فَفَعَلَ فَلَمَّا حَمَلَتْ خديجة بِهَا وَجَدَتْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا انْتَقَلَتِ الرَّائِحَةُ إِلَيْهَا، «فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ قَبَّلَ فاطمة، فَلَمَّا كَبِرَتْ قَالَ: يَا تُرَى هَذِهِ الْحُورِيَّةُ لِمَنْ؟ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: الْيَوْمَ كَانَ عَقْدُ فاطمة فِي مَوْطِنِهَا فِي قَصْرِ أُمِّهَا فِي الْجَنَّةِ الْخَاطِبُ إِسْرَافِيلُ وَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ الشَّهِيدُ وَالْوَلِيُّ رَبُّ الْعِزَّةِ وَالزَّوْجُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ» . وَقَالَ أَنَسٌ: «بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَذَا جِبْرِيلُ يُخْبِرُنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَوَّجَكَ فاطمة وَأَشْهَدَ عَلَى تَزْوِيجِهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَأَوْحَى إِلَى شَجَرَةِ طُوبَى أَنِ انْثُرِي عَلَيْهِمُ الدُّرَّ وَالْيَاقُوتَ فَنَثَرَتْ عَلَيْهِمْ فَابْتَدَرَ الْحُورُ الْعِينِ يَلْتَقِطْنَ فِي أَطْبَاقٍ الدُّرَّ وَالْيَاقُوتَ وَالْحَلَّ وَالْحُلَلَ فَهُمْ يَتَهَادُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «أَبْشِرْ يَا أبا الحسن فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَوَّجَكَ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 أُزَوِّجَكَ فِي الْأَرْضِ، وَلَقَدْ هَبَطَ عَلَيَّ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي لَمْ أَرَ قَبْلَهُ فِي الْمَلَائِكَةِ مِثْلَهُ بِوُجُوهٍ شَتَّى وَأَجْنِحَةٍ شَتَّى فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ أَبْشِرْ بِاجْتِمَاعِ الشَّمْلِ وَطَهَارَةِ النَّسْلِ، فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنَا الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِإِحْدَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَأْذَنَ لِي بِبِشَارَتِكَ، وَهَذَا جِبْرِيلُ عَلَى أَثَرِي يُخْبِرُكَ عَنْ كَرَامَةِ رَبِّكَ لَكَ، فَمَا تَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ وَضَعَ فِي يَدِهِ حَرِيرَةً بَيْضَاءَ فِيهَا سَطْرَانِ مَكْتُوبَانِ بِالنُّورِ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الْخُطُوطُ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَاخْتَارَكَ مِنْ خَلْقِهِ وَبَعَثَكَ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَيْهَا ثَانِيًا فَاخْتَارَ لَكَ مِنْهَا أَخًا وَوَزِيرًا وَصَاحِبًا فَزَوَّجَهُ ابْنَتَكَ فاطمة، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالَ: أَخُوكَ فِي الدِّينِ وَابْنُ عَمِّكَ فِي النَّسَبِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى الْجِنَانِ أَنْ تَزَخْرَفِي، وَإِلَى الْحُورِ أَنْ تَزَيَّنِي» ، وَإِلَى شَجَرَةِ طُوبَى كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «دَخَلَتْ أم أيمن عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَبْكِي - فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ زَوَّجَ بِنْتَهُ وَنَثَرَ عَلَيْهَا اللَّوْزَ وَالسُّكَّرَ، فَتَذَكَّرْتُ تَزْوِيجَكَ فاطمة وَلَمْ تَنْثُرْ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْكَرَامَةِ وَاسْتَخَصَّنِي بِالرِّسَالَةِ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا زَوَّجَ عليا فاطمة أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَنْ يُحْدِقُوا بِالْعَرْشِ فِيهِمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَأَمَرَ الْجِنَانَ أَنْ تُزَخْرَفَ وَالْحُورَ الْعِينِ أَنْ تُزَيَّنَ، ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَرْقُصَ فَرَقَصَتْ، ثُمَّ أَمَرَ الطُّيُورَ أَنْ تُغَنِّيَ فَغَنَّتْ، ثُمَّ أَمَرَ شَجَرَةَ طُوبَى أَنْ تَنْثُرَ عَلَيْهِمُ اللُّؤْلُؤَ الرَّطْبَ مَعَ الدُّرِّ الْأَبْيَضِ مَعَ الزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ مَعَ الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ» . وَفِي الرِّوَايَةِ: كَانَ الزَّوَاجُ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا أَنِ انْثُرِي مَا عَلَيْكِ فَنَثَرَتِ الدُّرَّ وَالْجَوْهَرَ وَالْمَرْجَانَ، هَذَا كَذِبٌ مُفْتَرًى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ، قَاتَلَ اللَّهُ وَاضِعَهُ، مَا أَشَدَّ عَذَابَهُ فِي النِّيرَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ حُمَاةِ السُّنَّةِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ. وَالْمَسْؤُولُ - مِنْ مَوَالِينَا وَسَادَاتِنَا عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَحَسَنَاتِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ جَمَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِوُجُودِهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَرَكَاتِهِمْ وَجُودِهِمْ - إِمْعَانُ النَّظَرِ فِيمَا سُطِرَ فِي هَذِهِ الْكُرَّاسَةِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُدَوَّنَ فِي كِتَابٍ، وَيُسَمَّى نُزْهَةَ الْمَجَالِسِ وَمُنْتَخَبَ النَّفَائِسِ، وَيَتَدَاوَلَهُ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ؟ وَيَكْتُبَهُ أَوْ يَسْتَكْتِبَهُ وَيُقْرَأَ وَيُنْقَلَ مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 عَلَى الْكَرَاسِيِّ وَالْمَنَابِرِ، وَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنِ اسْتَهْدَفَ وَجَمَعَهُ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهُ خَادِمُ السُّنَّةِ الْفَقِيرُ إبراهيم الناجي وَنَصَحَهُ وَنَهَاهُ وَفَارَقَهُ قَائِلًا: رَجَعْتُ عَنْهُ كَمَا رَجَعَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ عَنِ الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ؟ وَهَلْ يُؤْمَرُ بِإِعْدَامِهِ وَمَا وُجِدَ مِنْ نُسَخِهِ مَعَ أَنَّ مَا اخْتُصِرَ مِنَ الْكِتَابَةِ مِنْهُ خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَقُولَةِ أَكْثَرُ مِمَّا كُتِبَ، أَمْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ؟ أَمْعِنُوا فِي الْجَوَابِ بَوَّأَكُمُ اللَّهُ زُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ. [الدُّرَّةُ التَّاجِيَّةُ عَلَى الْأَسْئِلَةِ النَّاجِيَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَبَعْدُ، فَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ دِمَشْقَ مِنْ مُحَدِّثِهَا الشَّيْخِ برهان الدين الناجي، وَصَحِبَتْهَا كِتَابٌ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى رَجُلٍ أَوْدَعَهَا تَصْنِيفًا لَهُ، وَأَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَسَأَلَ فِي الْكِتَابَةِ بِذَلِكَ فَرَأَيْتُ كَثِيرًا مِنْهَا كَمَا قَالَ: وَفِيهَا أَحَادِيثُ وَارِدَةٌ بَعْضُهَا مَقْبُولٌ، وَبَعْضُهَا فِيهِ مَقَالٌ، وَهَا أَنَا أَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا حَدِيثًا حَدِيثًا. الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ " «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَلْيَلْعَنِ الْيَهُودَ» " - أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ عائشة، والخطيب فِي تَارِيخِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِسْنَادُهُمَا ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ " وَالنَّصَارَى ". الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ الْغَرِيبِ أَخْرَجَهُ الديلي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، وَقَالَ: أَنَا ابْنُ مَنْدَوَيْهِ، ثَنَا أبو نعيم ثَنَا الغطريفي، ثَنَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، ثَنَا رافع بن أشرس، ثَنَا النضر بن كثير، عَنْ طَاوُوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فَذَكَرَهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ - وَلَهُ شَوَاهِدُ - قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ: ثَنَا حجاج بن عمران السدوسي، ثَنَا عمرو بن الحصين العقيلي، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ عَنِ الحكم بن أبان عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ إِذَا احْتُضِرَ فَرَمَى بِبَصَرِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ فَلَمْ يَرَ إِلَّا غَرِيبًا، وَذَكَرَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَتَنَفَّسَ فَلَهُ بِكُلِّ نَفَسٍ تَنَفَّسَهُ يَمْحُو اللَّهُ عَنْهُ أَلْفَيْ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَيَكْتُبُ لَهُ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَةٍ» - عمرو بن الحصين مَتْرُوكٌ. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ الْغَرِيبِ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: ثَنَا يحيى بن طلحة، ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو السَّكْسَكِيِّ، عَنْ شريح بن عبيد الحضرمي، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، أَلَا لَا غُرْبَةَ عَلَى مُؤْمِنٍ مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 مَاتَ مُؤْمِنٌ فِي غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ إِلَّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] ثُمَّ قَالَ: " إِنَّهُمَا لَا يَبْكِيَانِ عَلَى كَافِرٍ» " أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ - ثَنَا محمد بن عبد الله المديني، ثَنَا إسماعيل بن عباس، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو بِهِ. الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ " «مَنْ آذَى جَارَهُ فَقَدْ آذَنِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ» . قَالَ سمويه - فِي فَوَائِدِهِ - ثَنَا سعيد بن سليمان، ثَنَا موسى بن خالد عَنِ القاسم العجلي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ آذَى مُسْلِمًا فَقَدْ آذَنِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» ". وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، ثَنَا سعيد بن محمد بن المغيرة الواسطي، ثَنَا سعيد بن سليمان، ثَنَا موسى بن خلف العمي، ثَنَا القاسم العجلي بِهِ، وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنِ القاسم إِلَّا موسى تَفَرَّدَ بِهِ سعيد. الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " «التَّوَكُّؤُ عَلَى الْعَصَا مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا» " - أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ هَكَذَا - وَقَالَ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ: أَنَا عبدوس إِجَازَةً عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشِّيرَازِيِّ ثَنَا محمد بن عمران الجرجاني، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ نَصْرٍ بِبَلْخَ، ثَنَا علي بن إسماعيل بن الفضل، وَكَانَ مُعَدَّلًا، ثَنَا عبد الله بن عاصم المروزي، ثَنَا يَحْيَى بْنُ هَاشِمٍ الْغَسَّانِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حَمْلُ الْعَصَا عَلَامَةُ الْمُؤْمِنِ وَسُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ» ". وَأَخْرَجَ الديلمي مِنْ طَرِيقِ وثيمة بن موسى عَنْ سلمة بن الفضل عَنْ محمد بن إسحاق عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: " «كَانَتْ لِلْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ مَخْصَرَةٌ يَتَخَصَّرُونَ بِهَا تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " [قَوْلُهُ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا] أَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنْ أَتَّخِذَ الْعَصَا فَقَدِ اتَّخَذَهَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أبي أمامة، قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَكِّئٌ عَلَى عَصًا» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عبد الله بن أنيس أَنَّهُ «أَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَصًا يَتَخَصَّرُ بِهَا فَنَاوَلَهَا إِيَّاهُ» . الْحَدِيثُ السَّادِسُ: «لَيْسَ خَيْرُكُمْ مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، وَلَا الْآخِرَةَ لِلدُّنْيَا وَلَكِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 خَيْرُكُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْ هَذِهِ لِهَذِهِ» ، وَأَخْرَجَهُ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ، والديلمي قَالَ: أَنَا أَبِي أَنَا عبد الله بن علي بن إسحاق الطوسي، أَنَا أبو حسان محمد بن أحمد بن محمد المزني، أَنَا إبراهيم بن محمد الوراق، أَنَا سعيد بن هاشم بن مزيد، ثَنَا محمد بن هاشم البعلبكي، أَنَا أَبِي، ثَنَا يزيد بن زياد الدمشقي، ثَنَا حميد عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ بِخَيْرِكُمْ مَنْ تَرَكَ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَلَا آخِرَتَهُ لِدُنْيَاهُ، حَتَّى يُصِيبَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَإِنَّ الدُّنْيَا بَلَاغٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا كَلًّا عَلَى النَّاسِ» . وَقَالَ الخطيب فِي تَارِيخِهِ: أَخْبَرَنِي محمود بن عمر العكبري، أَنَا أبو طالب عبد الله بن محمد بن عبد الله، أَنَا عَمِّي أبو العباس أحمد بن عبد الله، فِيمَا أَجَازَهُ لَنَا، أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ عِيسَى الْمِصْرِيَّ حَدَّثَهُمْ قَالَ: ثَنَا يغنم بن سالم بن قنبر، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «خَيْرُكُمْ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ آخِرَتَهُ لِدُنْيَاهُ وَلَا دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ» ". وَأَخْرَجَهُ الديلمي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أحمد بن عيسى بِهِ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: «لَيْسَ خَيْرُكُمُ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ وَلَا الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْآخِرَةَ لِلدُّنْيَا، وَلَكِنْ يَتَنَاوَلُونَ مِنْ كُلٍّ» . الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ خَانَتْ زَوْجَهَا فِي الْفِرَاشِ، فَعَلَيْهَا نِصْفُ عَذَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» - الْحَدِيثَ، قَالَ الخطيب فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ حَتَّى يُحْشَرَ مَعَهُمْ» "، عيسى بن مسلم الصفار مُنْكَرُ الْحَدِيثِ - وَلَهُ شَاهِدٌ أَخْرَجَهُ ابن عساكر عَنْ وكيع قَالَ: سَمِعْنَا فِي حَدِيثِ " «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ سَارَ بِهِ قَبْرُهُ حَتَّى يَصِيرَ مَعَهُمْ، وَيُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَهُمْ» . الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ " «يَمْسَخُ اللَّهُ اللُّوطِيَّ فِي قَبْرِهِ خِنْزِيرًا» - أَخْرَجَهُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ، وابن الجوزي مِنْ طَرِيقِ مروان بن محمد السنجاري عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ، عَنْ إسماعيل بن أم درهم، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «اللُّوطِيُّ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ مُسِخَ فِي قَبْرِهِ خِنْزِيرًا» ، وَسَنَدُهُ وَاهٍ. الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: حَدِيثُ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «الْأَبْدَالُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَأَرْبَعُونَ امْرَأَةً كُلَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلًا، وَكُلَّمَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهَا امْرَأَةً» - أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أبو محمد الخلال فِي كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، والديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقِ إبراهيم بن الوليد الجشاش - ثَنَا أبو عمر الغدائي، ثَنَا أبو سلمة الخرساني عَنْ عطاء عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِهِ. الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: حَدِيثُ حذيفة مَرْفُوعًا: «أَطْعَمَنِي جِبْرِيلُ الْهَرِيسَةَ أَشُدُّ بِهَا ظَهْرِي لِقِيَامِ اللَّيْلِ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وأبو نعيم كِلَاهُمَا فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ، والخطيب فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ محمد بن الحجاج الواسطي، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وربعي عَنْ حذيفة بِهِ، ومحمد بن الحجاج كَذَّابٌ، وَأَوْرَدَهُ ابن الجوزي فِي الْمَوْضُوعَاتِ. الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ: حَدِيثُ " «نِعْمَ الطَّعَامُ الزَّبِيبُ يَشُدُّ الْعَصَبَ، وَيُذْهِبُ الْوَصَبَ، وَيُطْفِئُ الْغَضَبَ، وَيَذْهَبُ بِالْبَلْغَمِ، وَيُصَفِّي اللَّوْنَ، وَيُطَيِّبُ النَّكْهَةَ» - أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ وأبو نعيم مَعًا فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ، والخطيب فِي تَلْخِيصِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ قُتَيْبَةَ، ثَنَا سعيد بن زياد بن فايد بن زياد بن أبي هند الداري عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبي هند مَرْفُوعًا بِهِ، قَالَ الأزدي: سعيد بن زياد مَتْرُوكٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا أَدْرِي: الْبَلِيَّةُ مِمَّنْ هِيَ أَمِنْهُ أَوْ مِنْ أَبِيهِ أَوْ مِنْ جَدِّهِ؟ . الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَا لِلنُّفَسَاءِ عِنْدِي شِفَاءٌ مِثْلُ الرُّطَبِ، وَلَا لِلْمَرِيضِ مِثْلُ الْعَسَلِ» - أَخْرَجَهُ أبو نعيم فِي الطِّبِّ، ثَنَا عبد الله بن محمد بن جعفر ثَنَا محمد بن العباس بن أيوب، ثَنَا العباس بن الحسن البلخي، ثَنَا الجوسي، أَنَا علي بن عروة، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِهِ، وعلي بن عروة مَتْرُوكٌ. الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ: «أَطْعِمُوا نِسَاءَكُمْ فِي نِفَاسِهِنَّ التَّمْرَ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ طَعَامُهَا فِي نِفَاسِهَا التَّمْرَ خَرَجَ وَلَدُهَا حَلِيمًا» ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَةَ فِي أَخْبَارِ أَصْبَهَانَ، والخطيب وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِمَا مِنْ طَرِيقِ سليمان بن عمرو، عَنْ سعد بن طارق الأشجعي، عَنْ سلمة بن قيس مَرْفُوعًا بِهِ - وسليمان كَذَّابٌ - وَأَوْرَدَهُ ابن الجوزي فِي الْمَوْضُوعَاتِ. الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ: «أَطْعِمُوا حَبَالَاكُمُ اللِّبَانَ» - الْحَدِيثَ - أَخْرَجَهُ أبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 نعيم فِي الطِّبِّ، ثَنَا محمد بن عبد الرحمن بن الفضل، ثَنَا علي بن جعفر، ثَنَا محمد بن أحمد بن العلاء النبعي، ثَنَا الحارث بن محمد بن الحارث بن إسحاق، ثَنَا إبراهيم بن محمد الفريابي، ثَنَا الفضل بن العباس التيمي، عَنْ موسى بن جعفر عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَطْعِمُوا حَبَالَاكُمُ اللِّبَانَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي بَطْنِهَا ذَكَرٌ يَكُنْ ذَكِيَّ الْقَلْبِ، وَإِنْ تَكُنْ أُنْثَى يَحْسُنْ خَلْقُهَا، وَتَعْظُمْ عَجِيزَتُهَا» . الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ: «كُلُوا السَّفَرْجَلَ فَإِنَّهُ يَجْلُو عَنِ الْفُؤَادِ» - أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ والحاكم، فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وأبو نعيم فِي الطِّبِّ، والضياء فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ طلحة قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي يَدِهِ سَفَرْجَلَةٌ - فَرَمَى بِهَا إِلَيَّ وَقَالَ: دُونَكَهَا أبا محمد فَإِنَّهَا تُجِمُّ الْفُؤَادَ - وَفِي لَفْظٍ: فَإِنَّهَا تَشُدُّ الْقَلْبَ، وَتُطَيِّبُ النَّفْسَ، وَتُذْهِبُ بِطَخَاوَةِ الصَّدْرِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ، وأبو نعيم مَعًا فِي الطِّبِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «أُهْدِيَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرْجَلَةٌ مِنَ الطَّائِفِ فَأَكَلَهَا، وَقَالَ: كُلُوهُ فَإِنَّهُ يَجْلُو عَنِ الْفُؤَادِ وَيُذْهِبُ طَخَاءَ الصَّدْرِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جَاءَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَفَرْجَلَةٍ قَدِمَ بِهَا مِنَ الطَّائِفِ فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ يَذْهَبُ بِطَخَاوَةِ الصَّدْرِ وَيَجْلُو الْفُؤَادَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ، وأبو نعيم عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا السَّفَرْجَلَ عَلَى الرِّيقِ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ وَغَرَ الصَّدْرِ» . الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ: إِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ قَبْرَهُ، الْحَدِيثَ - أَخْرَجَهُ ابن الجوزي فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ طَرِيقِ داود بن صغير عَنْ أبي عبد الرحمن البراء عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «مَا مَاتَ مَخْضُوبٌ وَلَا دَخَلَ الْقَبْرَ إِلَّا وَمُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ لَا يَسْأَلَانِهِ، يَقُولُ مُنْكَرٌ: يَا نَكِيرُ سَائِلْهُ، فَيَقُولُ: كَيْفَ أُسَائِلُهُ وَنُورُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ» ، قَالَ ابن الجوزي: داود مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: قَالَ أَنَسٌ: «دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ فَقَالَ: أَلَسْتَ مُسْلِمًا؟ قَالَ: بَلَى قَالَ فَاخْتَضِبْ» - أَخْرَجَهُ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ، ثَنَا الجراح بن مخلد، ثَنَا إسماعيل بن عبد الحميد بن عبد الرحمن العجلي، ثَنَا علي بن أبي سارة، عَنْ ثابت، عَنْ أَنَسٍ بِهِ. الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ سَرَّحَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 عُوفِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ» ، أَخْرَجَهُ تمام فِي فَوَائِدِهِ، أَنَا إبراهيم بن محمد بن سنان، ومحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، قَالَا: ثَنَا زكريا بن يحيى، ثَنَا الفتح بن نصر بن عبد الرحمن الفارسي، ثَنَا حسان بن غالب، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِهِ، وحسان وَثَّقَهُ ابن يونس، وَحَمَلَ عَنْهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَهُ أبو نعيم، فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَالَ: مُنْكَرٌ بِمَرَّةٍ، وَأَوْرَدَهُ ابن الجوزي فِي الْمَوْضُوعَاتِ. الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ: حَدِيثُ أَنَّ «الرَّجُلَ لَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ وَمَا يُجْزَى إِلَّا عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ» - أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، والعقيلي فِي الضُّعَفَاءِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ» - هَذَا أَخْرَجَهُ أبو داود وَالنَّسَائِيُّ والحاكم وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ هَكَذَا - وَبِهَذَا وَمِثْلِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ النَّاجِي لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْحِفْظِ نَصِيبٌ. الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ خِفَّةُ لِحْيَتِهِ» - أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ والخطيب - وَضَعَّفَهُ - وَأَوْرَدَهُ ابن الجوزي فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَقِيلَ " إِنَّ فِيهِ تَصْحِيفًا، وَإِنَّمَا هُوَ " «خِفَّةُ لِحْيَيْهِ بِذِكْرِ اللَّهِ» " حَكَاهُ الخطيب. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ " «دَعَا اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ الشَّمْسَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي خَيْبَرَ، فَطَلَعَتْ بَعْدَمَا غَرَبَتْ» ، هَذَا ثَابِتٌ - وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ - اسْتَوْعَبْتُهَا فِي التَّعَقُّبَاتِ عَلَى مَوْضُوعَاتِ ابن الجوزي. الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ: " «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» " هَذَا أَخْرَجَهُ أبو داود فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عبد الله بن حبشي، وَصَحَّحَهُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: " «يَعْنِي مِنْ سِدْرِ الْحَرَمِ» " وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنْ حَدِيثِ عائشة، وَمِنْ حَدِيثِ عمرو بن أوس الثقفي، وَمِنْ حَدِيثِ علي، وَمِنْ حَدِيثِ معاوية بن حيدة، وَمِنْ مُرْسَلِ عروة وَتَكَلَّمَ النَّاسُ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى حِفْظٍ، وَقَدْ أَفْرَدْتُ فِيهِ مُؤَلَّفًا سَمَّيْتُهُ رَفْعَ الْخِدْرِ عَنْ قَطْعِ السِّدْرِ. الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ «سُورَةِ يس تُدْعَى فِي التَّوْرَاةِ الْمُعِمَّةَ قِيلَ: وَمَا الْمُعِمَّةُ؟ قَالَ: تَعُمُّ صَاحِبَهَا بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتُكَابِدُ عَنْهُ بَلْوَى الدُّنْيَا وَأَهَاوِيلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 الْآخِرَةِ» - أَخْرَجَهُ ابن الضريس فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وابن مردويه فِي التَّفْسِيرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، والخطيب فِي تَارِيخِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ الخطيب أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مِثْلَهُ. الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ " «مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا حُبًّا لِي وَتَبَرُّكًا، كَانَ هُوَ وَمَوْلُودُهُ فِي الْجَنَّةِ» " أَخْرَجَهُ ابن بكير فِي فَضْلِ مَنِ اسْمُهُ محمد. وأحمد مِنْ حَدِيثِ أبي أمامة وَسَنَدُهُ عِنْدِي عَلَى شَرْطِ الْحَسَنِ. الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ " «يَا علي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُقَدِّمَكَ فَأَبَى إِلَّا تَقْدِيمَ أبي بكر» " أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، والخطيب وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ علي وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا: «أَوَّلُ مَنْ يُصَافِحُهُ الْحَقُّ عمر، وَأَوَّلُ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ» - هَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، والحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ " «مَرَّ رَجُلٌ فَقَالُوا: هَذَا مَجْنُونٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَجْنُونُ الْمُقِيمُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَكِنْ قُولُوا مُصَابٌ» . وَأَخْرَجَهُ تمام فِي فَوَائِدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وأبو بكر الشَّافِعِيُّ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. الْحَدِيثُ الثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَنَاوَلَنِي جِبْرِيلُ تُفَّاحَةً فَانْفَلَقَتْ عَنْ حَوْرَاءَ عَيْنَاءَ مَرْضِيَّةٍ، كَأَنَّ مَقَادِيمَ عَيْنِهَا أَجْنِحَةُ النُّسُورِ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِلْخَلِيفَةِ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ» ، أَخْرَجَهُ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، والعقيلي فِي الضُّعَفَاءِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَخْرَجَهُ الخطيب فِي تَارِيخِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ أوس بن أوس الثقفي، وَأَخْرَجَهُ أبو يعلى مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ وَأَسَانِيدُهَا ضَعِيفَةٌ وَأَمْثَلُهَا حَدِيثُ عقبة. الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوَكِّلُ بِآكِلِ الْخَلِّ مَلَكَيْنِ يَسْتَغْفِرَانِ لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ» - أَخْرَجَهُ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ، والديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ زهير بن محمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الْمُنْكَدِرِ عَنْ جابر وَهَؤُلَاءِ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ، غَيْرَ أَنَّ الوليد يُدَلِّسُ التَّسْوِيَةَ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ أَنَسٍ وَاهِيَةٌ، أَخْرَجَهَا ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ. الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ أبي ذر: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «أَنْتَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، وَأَنْتَ الْفَارُوقُ الَّذِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ» ، أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ أَنَّهُ قَالَ لعلي: «أَنْتَ سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَقَائِدُ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ» ، أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وابن قانع فِي مُعْجَمِهِ، والباوردي فِي الْمَعْرِفَةِ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ حَدِيثِ عبد الله بن أسعد بن زرارة عَنْ أَبِيهِ - وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ: «مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ علي أَخُو رَسُولِ اللَّهِ، قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ بِأَلْفَيْ عَامٍ» - أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ: «عَلَيْكُمْ بِالْخِضَابِ فَإِنَّهُ أَهْيَبُ لِعَدُوِّكُمْ، وَأَعْجَبُ إِلَى نِسَائِكُمْ» - أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ صهيب بِلَفْظِ: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا اخْتَضَبْتُمْ بِهِ لِهَذَا السَّوَادِ أَرْغَبُ إِلَى نِسَائِكُمْ، وَأَهْيَبُ لَكُمْ فِي صُدُورِ عَدُوِّكُمْ» . الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ: «عَلَيْكُمْ بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابُ الْإِسْلَامِ وَيُصَفِّي الْبَصَرَ وَيُذْهِبُ الصُّدَاعَ وَإِيَّاكُمْ وَالسَّوَادَ» - وَرَدَ مُفَرَّقًا فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ. الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ بَيْضَاءَ وَإِنَّ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَى اللَّهِ الْبِيضُ» - أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ، ثَنَا سليمان بن محمد المباركي، ثَنَا أبو شهاب عَنْ حمزة النصيبي، عَنْ عمرو بن دينار، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالْمِعْزَى خَيْرًا، فَإِنَّهَا مَالٌ رَقِيقٌ أَيْ لَيْسَ لَهُ صَبْرُ الضَّأْنِ عَلَى الْجَفَاءِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ، وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَحَبُّ الْمَالِ إِلَى اللَّهِ الضَّأْنُ، وَعَلَيْكُمْ بِالْبَيَاضِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ بَيْضَاءَ، فَلْيَلْبَسْهُ أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ، وَإِنَّ دَمَ الشَّاةِ الْبَيْضَاءِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دَمِ السَّوْدَاوَيْنِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ: «مَنْ عَمِلَ فُرْقَةً بَيْنَ امْرَأَةٍ وَزَوْجِهَا» ، الْحَدِيثَ - أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ عَمِلَ فِي فُرْقَةٍ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَزَوْجِهَا كَانَ فِي غَضَبِ اللَّهِ وَلَعَنْتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِصَخْرَةٍ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ» ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: حَدِيثُ: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وعلي بَابُهَا» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ علي، وَالطَّبَرَانِيُّ والحاكم وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَسَّنَهُ الْحَافِظَانِ: العلائي، وابن حجر. الْحَدِيثُ الْأَرْبَعُونَ: حَدِيثُ «مَنْ قَالَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْزِ مُحَمَّدًا مَا هُوَ أَهْلُهُ، أَتْعَبَ سَبْعِينَ كَاتِبًا أَلْفَ صَبَاحٍ» ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا أحمد بن رشدين، ثَنَا هانئ بن المتوكل الإسكندراني، ثَنَا معاوية بن صالح، عَنْ جعفر بن محمد، عَنْ عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «مَنْ قَالَ: جَزَى اللَّهُ مُحَمَّدًا عَنَّا مَا هُوَ أَهْلُهُ، أَتْعَبَ سَبْعِينَ كَاتِبًا أَلْفَ صَبَاحٍ» . حَدِيثُ حذيفة: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَيْنَ أبو بكر» ؟ الْحَدِيثَ - وَأَخْرَجَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ فِي فَوَائِدِهِ، وَقَالَ الذهبي فِي الْمِيزَانِ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ، وَأَوْرَدَهُ ابن الجوزي فِي الْمَوْضُوعَاتِ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا فَمَقْطُوعٌ بِبُطْلَانِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [رَفْعُ الْخِدْرِ عَنْ قَطْعِ السِّدْرِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أبو داود فِي سُنَنِهِ: بَابٌ فِي قَطْعِ السِّدْرِ، ثَنَا نصر بن علي، ثَنَا أبو أسامة، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عثمان بن أبي سليمان، عَنْ سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عَنْ عبد الله بن حبشي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» " أَخْرَجَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ فِي سُنَنِهِ، ثَنَا أبو عاصم عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي هَلْ سَمِعَ سعيد من عبد الله بن حبشي أَمْ لَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ، وَأَخْرَجَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: ثَنَا أبو مسلم، ثَنَا أبو عاصم، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عثمان بن أبي سليمان، عَنْ سعيد بن محمد، عَنْ عبد الله بن حبشي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» " - يَعْنِي مِنْ سِدْرِ الْحَرَمِ -. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَنَا أبو عبد الله الحافظ، أَنَا محمد بن يحيى الصلحي بِفَمِ الصُّلْحِ، ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، ثَنَا يزيد بن موهب الرملي، ثَنَا مسعدة بن اليسع عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عمرو بن دينار، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» " قَالَ أبو عبد الله: قَالَ أبو علي الحافظ: هَكَذَا كَتَبْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ مسعدة، وَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عمرو بن دينار، عَنْ عروة - قَوْلَهُ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَاهُ أبو عبد الله، أَنَا أبو علي، أَنَا علي بن الحسن بن سلمة، ثَنَا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، ثَنَا أبو أسامة عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَصَارَتْ رِوَايَةُ نصر بن علي، عَنْ أبي أسامة بِهَذَا مَعْلُولَةً. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أبو أسامة رَوَاهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ معمر، كَمَا أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بَشْرَانَ، أَنَا إسماعيل بن محمد الصفار، أَنَا أحمد بن منصور، ثَنَا عبد الرزاق، أَنَا معمر عَنْ عثمان بن أبي سليم، عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، يَرْفَعُ الْحَدِيثَ فِي الَّذِي يَقْطَعُ السِّدْرَ، قَالَ: يُصَبُّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، وَقَالَ: يُصَوَّبُ رَأْسُهُ فِي النَّارِ، قَالَ: فَسَأَلْتُ بَنِي عروة عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عروة قَطَعَ سِدْرَةً كَانَتْ فِي حَائِطٍ فَجَعَلَ بَابًا لِحَائِطٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِنْ ثَقِيفٍ عمرو بن أوس، فَقَدْ أَخْبَرَنَا أبو عبد الله الحافظ، أَنَا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثَنَا أحمد بن عبد الجبار، ثَنَا أبو معاوية عَنْ أبي عثمان عَنْ عمرو بن دينار، عَنْ عمرو بن أوس، عَنْ عروة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ السِّدْرَ يَصُبُّهُمُ اللَّهُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ فِي النَّارِ صَبًّا» "، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا هُوَ محمد بن شريك المكي، هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْهُ مُرْسَلًا، وَقَدْ رَوَاهُ القاسم بن أبي شيبة عَنْ وكيع، عَنْ محمد بن شريك العامري، عَنْ عمرو بن دينار، عَنْ عمرو بن أوس، عَنْ عروة، عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ السِّدْرَ يُصَبُّونَ فِي النَّارِ عَلَى رُؤُوسِهِمْ صَبًّا» ". أَخْبَرَنَا أبو عبد الله الحافظ، أَنَا أبو علي الحافظ، أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَنْصَارِيُّ، ثَنَا القاسم بن أبي شيبة فَذَكَرَهُ، قَالَ أبو علي: مَا أُرَاهُ حَفِظَهُ عَنْ وكيع، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ - يَعْنِي القاسم - وَالْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ محمد بن شريك، عَنْ عمرو بن دينار، عَنْ عمرو بن أوس، عَنْ عروة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُرْسَلًا. انْتَهَى. قُلْتُ: قَدْ تُوبِعَ القاسم عَنْ وكيع عَلَى وَصْلِهِ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: ثَنَا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثَنَا مليح بن وكيع بن الجراح، ثَنَا أَبِي عَنْ محمد بن شريك عَنْ عمرو بن دينار، عَنْ عمرو بن أوس، عَنْ عروة، عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ السِّدْرَ يُصَبُّونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ صَبًّا» " قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عمرو إِلَّا محمد، تَفَرَّدَ بِهِ مليح بن وكيع عَنْ أَبِيهِ، هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، بَلْ تَابَعَهُ القاسم بن أبي شيبة. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بَشْرَانَ، أَنَا إسماعيل الصفار، أَنَا أحمد بن منصور، أَنَا عبد الرزاق، أَنَا إبراهيم بن يزيد، ثَنَا عمرو بن دينار عَنْ عمرو بن أوس قَالَ: أَدْرَكْتُ شَيْخًا مِنْ ثَقِيفٍ قَدْ أَفْسَدَ السِّدْرُ زَرْعَهُ، فَقُلْتُ: أَلَا تَقْطَعُهُ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِلَّا مِنْ زَرْعٍ " فَقَالَ: أَنَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ قَطَعَ السِّدْرَ إِلَّا مِنْ زَرْعٍ صُبَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ صَبًّا» " فَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أَقْطَعَهُ مِنَ الزَّرْعِ وَمِنْ غَيْرِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَهَذَا إِسْنَادٌ آخَرُ لعمرو بن أوس سِوَى رِوَايَتِهِ عَنْ عروة، إِنْ كَانَ حَفِظَهُ إبراهيم بن يزيد قَالَ: وَقَدْ رَوَى عَنْ إبراهيم بن يزيد، كَمَا أَخْبَرَنَا أبو عبد الله الحافظ: حَدَّثَنِي أبو يزيد أحمد بن محمد بن وكيع، ثَنَا إبراهيم بن نضر الضبي، ثَنَا صالح بن مسمار، ثَنَا هشام بن سليمان، حَدَّثَنِي إبراهيم بن يزيد عَنْ عمرو بن دينار، عَنْ جعفر بن محمد بن علي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اخْرُجْ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ، مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ رَسُولِهِ: لَعَنَ اللَّهُ قَاطِعَ السِّدْرِ» ". قَالَ: وَأَنَا أبو عبد الله الحافظ، أَنَا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، أَنَا محمد بن عمران بن خزيمة الدينوري أبو بكر، ثَنَا أبو عبد الله المخزومي سعيد بن عبد الرحمن، ثَنَا هشام بن سليمان عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي إبراهيم بن يزيد المكي عَنْ عمرو بن دينار، عَنِ الحسن بن محمد بن علي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ علي فَذَكَرَهُ، قَالَ أبو علي: هَكَذَا قَالَ لَنَا هَذَا الشَّيْخُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ فِي إِسْنَادِهِ وَهْمٌ، وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ هشام بن سليمان، عَنْ إبراهيم بن يزيد وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ جُرَيْجٍ فِي إِسْنَادِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ. قُلْتُ: وَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ هشام، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، ثَنَا صالح بن مسمار، ثَنَا هشام بن سليمان عَنْ إبراهيم بن يزيد، عَنْ عمرو بن دينار، عَنِ الحسن بن محمد بن علي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اخْرُجْ فَنَادِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 النَّاسِ لَعَنَ اللَّهُ قَاطِعَ السِّدْرِ» " قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنِ الحسن إِلَّا عمرو وَلَا عَنْهُ [إِلَّا] إبراهيم، وَلَا عَنْهُ إِلَّا هشام، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ علي بن ثابت عَنْ إبراهيم بن يزيد، عَنْ عمرو بن دينار، عَنْ محمد بن علي مُرْسَلًا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ عَنْ إبراهيم الخوزي، عَنْ عمرو بن دينار. وسليمان الأحول عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عمرو بن أوس الثقفي، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: " إِلَّا مِنْ زَرْعٍ " قَالَ أبو علي الحافظ: حَدِيثُ إبراهيم بن يزيد مُضْطَرِبٌ وإبراهيم ضَعِيفٌ. قُلْتُ: هَذَا الطَّرِيقُ أَخْرَجَهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَاهُ المثنى بن الصباح عَنْ عمرو، عَنْ أبي جعفر، كَمَا أَخْبَرَنَا علي بن بشران: أَنَا إسماعيل الصفار، ثَنَا أحمد بن منصور، ثَنَا عبد الرزاق قَالَ: سَمِعْتُ المثنى بن الصباح يُحَدِّثُ عَنْ عمرو بن دينار، عَنْ أبي جعفر، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: " «اخْرُجْ يَا علي، فَقُلْ عَنِ اللَّهِ لَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَقْطَعُ السِّدْرَ» ". وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَا عبد الله الحافظ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْحَافِظُ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ، ثَنَا عبد القدوس بن عبد الكبير بن شعيب بن الحجاب، ثَنَا عبد القاهر بن شعيب عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «قَاطِعُ السِّدْرِ يُصَوِّبُ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» ". وَقَالَ: أَنَا أبو عبد الله، ثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْحَافِظُ، أَنَا أبو علي محمد بن سليمان المالكي، ثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ، أَنَا يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَخِيهِ مخارق بن الحارث، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ رَسُولِهِ لَعَنَ اللَّهُ عَاضِدَ السِّدْرِ» ". وَقَالَ أبو داود: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، وحميد بن مسعدة قَالَا: ثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَأَلْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ عَنْ قَطْعِ السِّدْرِ - وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى قَصْرِ عروة - فَقَالَ: تَرَى هَذِهِ الْأَبْوَابَ وَالْمَصَارِيعَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ سِدْرِ عروة - كَانَ عروة يَقْطَعُهُ مِنْ أَرْضِهِ - وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، زَادَ حميد: وَقَالَ: يَا عِرَاقِيُّ، جِئْتَنِي بِبِدْعَةٍ، قَالَ: قُلْتُ: إِنَّمَا الْبِدْعَةُ مِنْ قِبَلِكُمْ، سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ هَذَا: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَطَعَ السِّدْرَ» ، قَالَ أبو داود: يَعْنِي مَنْ قَطَعَ السِّدْرَ فِي فَلَاةٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا ابْنُ السَّبِيلِ وَالْبَهَائِمُ، عَبَثًا وَظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ يَكُونُ لَهُ فِيهَا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أبي الحسن العاصمي رِوَايَتَهُ عَنْ أبي عبد الله محمد بن يوسف، عَنْ محمد بن يعقوب بن الفرج، عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أبا عبد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 الشافعي عَنْ قَطْعِ السِّدْرِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «اغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» " فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ أبو داود، وَرُوِّينَا عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُهُ مِنْ أَرْضِهِ، وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ النَّهْيِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا، كَمَا قَالَ أبو داود. وَقَرَأْتُ فِي كِتَابِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ يَحْيَى الْمُزَنِيَّ سُئِلَ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّنْ هَجَمَ عَلَى قَطْعِ السِّدْرِ لِقَوْمٍ أَوْ لِيَتِيمٍ أَوْ لِمَنْ حَرَّمَ اللَّهُ أَنْ يُقْطَعَ عَلَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ بِقَطْعِهِ، فَاسْتَحَقَّ مَا قَالَهُ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ سَبَقَتِ السَّامِعَ فَسَمِعَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَسْمَعِ الْمَسْأَلَةَ، وَجَعَلَ نَظِيرَهُ حَدِيثَ أسامة بن زيد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» "، فَسَمِعَ الْجَوَابَ، وَلَمْ يَسْمَعِ الْمَسْأَلَةَ، وَقَدْ قَالَ: " «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ» ". وَاحْتَجَّ المزني بِمَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِجَازَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُغَسَّلَ الْمَيِّتُ بِالسِّدْرِ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يَجُزِ الِانْتِفَاعُ بِهِ. قَالَ: وَالْوَرَقُ مِنَ السِّدْرِ كَالْغُصْنِ، وَقَدْ سَوَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حُرِّمَ قَطْعُهُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ بَيْنَ وَرَقِهِ وَغَيْرِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وَرَقِ السِّدْرِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ قَطْعِ السِّدْرِ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَالْأَوْلَى عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى سِدْرِ الْحَرَمِ، كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ. وَقَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: قِيلَ: أَرَادَ بِهِ سِدْرَ مَكَّةَ ; لِأَنَّهَا حَرَمٌ. وَقِيلَ: سِدْرُ الْمَدِينَةِ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ ; لِيَكُونَ أُنْسًا وَظِلًّا لِمَنْ يُهَاجِرُ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ السِّدْرَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ، يَسْتَظِلُّ بِهِ أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَالْحَيَوَانُ. أَوْ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ فَيَتَحَامَلُ عَلَيْهِ ظَالِمٌ فَيَقْطَعُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَالْحَدِيثُ مُضْطَرِبُ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يُرْوَى عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - وَكَانَ هُوَ يَقْطَعُ السِّدْرَ، وَيَتَّخِذُ مِنْهُ أَبْوَابًا - وَأَهْلُ الْعِلْمِ مُجْمِعُونَ عَلَى إِبَاحَةِ قَطْعِهِ. انْتَهَى. وَبَقِيَ لِلْحَدِيثِ طُرُقٌ فَاتَتِ الْبَيْهَقِيَّ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ فِي سُنَنِهِ: ثَنَا الرمادي، ثَنَا سفيان عَنْ عثمان بن أبي سليمان، عَنِ ابْنِ عَمٍّ لَهُ يُقَالُ لَهُ حسين، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، عَنْ عبد الله بن شديد، وَعَنْ أبي إسحاق الدوسي، رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الَّذِينَ يَقْطَعُونَ السِّدْرَ يَصُبُّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ صَبًّا» " وَقَالَ الْآخَرُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ: " «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 [الْعُرْفُ الْوَرْدِيُّ فِي أَخْبَارِ الْمَهْدِيِّ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. هَذَا جُزْءٌ جَمَعْتُ فِيهِ الْأَحَادِيثَ، وَالْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي المهدي، لَخَّصْتُ فِيهِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي جَمَعَهَا الحافظ أبو نعيم، وَزِدْتُ عَلَيْهِ مَا فَاتَهُ، وَرَمَزْتُ عَلَيْهِ صُورَةَ (ك) . أَخْرَجَ (ك) ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ السدي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] قَالَ: هُمُ الرُّومُ، كَانُوا ظَاهَرُوا بخت نصر عَلَى خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَفِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة: 114] قَالَ: فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ رُومِيٌّ يَدْخُلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُهُ، أَوْ قَدْ أُخِيفُ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَهُوَ يُؤَدِّيهَا. وَفِي قَوْلِهِ: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [البقرة: 114] قَالَ: أَمَّا خِزْيُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ إِذَا قَامَ المهدي، وَفُتِحَتِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ قَتَلَهُمْ ; فَذَلِكَ الْخِزْيُ. وَأَخْرَجَ (ك) أحمد، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ، ونعيم بن حماد فِي الْفِتَنِ عَنْ علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «المهدي مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أبو داود، ونعيم بن حماد، والحاكم عَنْ أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «المهدي مِنِّي، أَجْلَى الْجَبْهَةِ أَقْنَى الْأَنْفِ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «المهدي مِنَّا، أَجْلَى الْجَنْبَيْنِ أَقْنَى الْأَنْفِ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ أبي سعيد عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «المهدي مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي أَشَمُّ الْأَنْفِ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا» ". وَأَخْرَجَ (ك) أبو داود وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ والحاكم عَنْ أم سلمة: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «المهدي مِنْ عِتْرَتِي مِنْ وَلَدِ فاطمة» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وأبو نعيم عَنْ أَنَسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «نَحْنُ سَبْعَةٌ وَلَدُ عبد المطلب سَادَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ: أَنَا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي» ". وَأَخْرَجَ أحمد والباوردي فِي الْمَعْرِفَةِ، وأبو نعيم عَنْ أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أُبَشِّرُكُمْ بالمهدي، رَجُلٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 مِنْ قُرَيْشٍ [مِنْ عِتْرَتِي] يُبْعَثُ فِي أُمَّتِي عَلَى اخْتِلَافٍ مِنَ النَّاسِ وَزَلَازِلَ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وَيَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الْأَرْضِ، وَيُقَسِّمُ الْمَالَ صِحَاحًا " - فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا صِحَاحًا؟ قَالَ: بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَ النَّاسِ " وَيَمْلَأُ قُلُوبَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ غِنًى، وَيَسَعُهُمْ عَدْلُهُ حَتَّى إِنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا، فَيُنَادِي: مَنْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَيَّ؟ فَمَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، يَأْتِيهِ فَيَسْأَلُهُ، فَيَقُولُ: ائْتِ السَّادِنَ حَتَّى يُعْطِيَكَ، فَيَأْتِيهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَسُولُ المهدي إِلَيْكَ لِتُعْطِيَنِي مَالًا، فَيَقُولُ: احْثُ، فَيَحْثِي وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُ، فَيُلْقِي حَتَّى يَكُونَ قَدْرَ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُ، فَيَخْرُجُ فَيَنْدَمُ، فَيَقُولُ: أَنَا كُنْتُ أَجْشَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ نَفْسًا، كُلُّهُمْ دُعِيَ إِلَى هَذَا الْمَالِ فَتَرَكَهُ غَيْرِي، فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: إِنَّا لَا نَقْبَلُ شَيْئًا أَعْطَيْنَاهُ، فَيَلْبَثُ فِي ذَلِكَ سِتًّا أَوْ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا أَوْ تِسْعَ سِنِينَ، وَلَا خَيْرَ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَهُ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أبو داود، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، حَتَّى يُبْعَثَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا» ". وَأَخْرَجَ (ك) أحمد وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي» ". وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وأبو نعيم والحاكم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا» ". وَأَخْرَجَ (ك) الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا لَيْلَةً لَمَلَكَ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي» ". وَأَخْرَجَ (ك) أحمد، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وأبو داود عَنْ علي، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدَّهْرِ إِلَّا يَوْمٌ لَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَأُهَا عَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا» ". وَأَخْرَجَ أبو داود، ونعيم بن حماد فِي الْفِتَنِ، عَنْ علي أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى ابْنِهِ الحسن، فَقَالَ: إِنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ يُسَمَّى اسْمَ نَبِيِّكُمْ، يُشْبِهُهُ فِي الْخُلُقِ وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الْخَلْقِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ وَزَادَ: يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا. وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وأحمد، وأبو داود، وأبو يعلى، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أم سلمة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَكُونُ اخْتِلَافٌ عِنْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ، فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةَ هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَيَأْتِيهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُخْرِجُونَهُ وَهُوَ كَارِهٌ، فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ مِنَ الشَّامِ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ بِالْبَيْدَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَإِذَا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ أَتَاهُ أَبْدَالُ الشَّامِ، وَعَصَائِبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَيُبَايِعُونَهُ، ثُمَّ يَنْشَأُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَخْوَالُهُ كَلْبٌ، فَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ بَعْثًا، فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بَعْثُ كَلْبٍ، وَالْخَيْبَةُ لِمَنْ لَمْ يَشْهَدْ غَنِيمَةَ كَلْبٍ، فَيُقَسِّمُ الْمَالَ وَيَعْمَلُ فِي النَّاسِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ إِلَى الْأَرْضِ، يَلْبَثُ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أبو داود عَنْ علي قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ يُقَالُ لَهُ الحارث بن حراث عَلَى مُقَدِّمَتِهِ رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ منصور يُوَطِّئُ - أَوْ يُمَكِّنُ - " لِآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا مَكَّنَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ نَصْرُهُ، أَوْ قَالَ إِجَابَتُهُ» ". هَذَا آخِرُ مَا أَوْرَدَهُ أبو داود فِي بَابِ المهدي مِنْ سُنَنِهِ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَلِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي» ". وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَلِيَ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ فِي أُمَّتِي المهدي يَخْرُجُ، يَعِيشُ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا - زَيْدٌ الشَّاكُّ - فَيَجِيءُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: يَا مهدي، أَعْطِنِي أَعْطِنِي، فَيَحْثِي لَهُ فِي ثَوْبِهِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَحْمِلَهُ» ". وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أبي سعيد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَكُونُ فِي أُمَّتِي المهدي إِنْ قَصَدَ فَسَبْعٌ، وَإِلَّا فَتِسْعٌ، فَتَنْعَمُ فِيهِ أُمَّتِي نِعْمَةً لَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطُّ، يُؤْتِي أُكُلَهَا، وَلَا تَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَالْمَالُ يَوْمَئِذٍ كُدُوسٌ، فَيَقُومُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: يَا مَهْدِيُّ أَعْطِنِي، فَيَقُولُ: خُذُوا» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ونعيم بن حماد فِي الْفِتَنِ، وَابْنُ مَاجَهْ وأبو نعيم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذْ أَقْبَلُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَلَمَّا رَآهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَقُلْتُ: مَا نَزَالُ نَرَى فِي وَجْهِكَ شَيْئًا تَكْرَهُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ بَعْدِي بَلَاءً وَتَشْرِيدًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وَتَطْرِيدًا حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَعَهُمْ رَايَاتٌ سُودٌ، فَيَسْأَلُونَ الْحَقَّ فَلَا يُعْطَوْنَهُ، فَيُقَاتِلُونَ فَيُنْصَرُونَ فَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا، فَلَا يَقْبَلُونَهُ حَتَّى يَدْفَعُوهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَيَمْلَأُهَا قِسْطًا كَمَا مَلَؤُوهَا جَوْرًا، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَأْتِهِمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ فَإِنَّهُ المهدي» ". قَالَ الْحَافِظُ عماد الدين بن كثير: فِي هَذَا السِّيَاقِ إِشَارَةٌ إِلَى مُلْكِ بَنِي الْعَبَّاسِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ المهدي يَكُونُ بَعْدَ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، والحاكم وَصَحَّحَهُ، وأبو نعيم عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَقْتَتِلُ عِنْدَ كَنْزِكُمْ ثَلَاثَةٌ، كُلُّهُمُ ابْنُ خَلِيفَةٍ، ثُمَّ لَا تَصِيرُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَطْلُعُ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، فَيَقْتُلُونَكُمْ قَتْلًا لَمْ يُقْتَلْهُ قَوْمٌ، ثُمَّ يَجِيءُ خَلِيفَةُ اللَّهِ المهدي، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فَأْتُوهُ فَبَايِعُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ ; فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ المهدي» ". وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ نَاسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ فَيُوَطِّئُونَ للمهدي سُلْطَانَهُ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أحمد وَالتِّرْمِذِيُّ ونعيم بن حماد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ رَايَاتٌ سُودٌ فَلَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّى تُنْصَبَ بِإِيلْيَاءَ» ". قَالَ ابن كثير: هَذِهِ الرَّايَاتُ السُّودُ لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي أَقْبَلَ بِهَا أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، فَاسْتَلَبَ بِهَا دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ، بَلْ رَايَاتٌ سُودٌ أُخَرُ تَأْتِي صُحْبَةَ المهدي. وَأَخْرَجَ (ك) الْبَزَّارُ والحارث بن أبي أسامة وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ قرة المزني قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَتَمْلَؤُنَّ الْأَرْضَ جَوْرًا وَظُلْمًا، فَإِذَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا بَعَثَ اللَّهُ رَجُلًا مِنِّي، اسْمُهُ اسْمِي وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمُ أَبِي، فَيَمْلَأُهَا عَدْلًا وَقِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، فَلَا تَمْنَعُ السَّمَاءَ شَيْئًا مِنْ قَطْرِهَا، وَلَا الْأَرْضُ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِهَا، يَمْكُثُ فِيهِمْ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا، فَإِنْ أَكْثَرَ فَتِسْعًا» ". وَأَخْرَجَ (ك) الْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَائِمًا فِي بَيْتِ أم سلمة، فَانْتَبَهَ وَهُوَ يَسْتَرْجِعُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِمَّ تَسْتَرْجِعُ؟ " قَالَ: مِنْ قِبَلِ جَيْشٍ يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الْعِرَاقِ فِي طَلَبِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، يَمْنَعُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَإِذَا عَلَوُا الْبَيْدَاءَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ خُسِفَ بِهِمْ، فَلَا يُدْرِكُ أَعْلَاهُمْ أَسْفَلَهُمْ، وَلَا يُدْرِكُ أَسْفَلُهُمْ أَعْلَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". وَأَخْرَجَ (ك) الْبَزَّارُ عَنْ جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَكُونُ فِي أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثُو الْمَالَ حَثْيًا، لَا يَعُدُّهُ عَدًّا» ". وَأَخْرَجَ أحمد عَنْ أبي سعيد سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 " «إِنَّ مِنْ أُمَرَائِكُمْ أَمِيرًا يَحْثُو الْمَالَ حَثْوًا وَلَا يَعُدُّهُ، يَأْتِيهِ الرَّجُلُ فَيَسْأَلُهُ، فَيَقُولُ: خُذْ، فَيَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَيَحْثُو فِيهِ فَيَأْخُذُهُ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ» ". وَأَخْرَجَ (ك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ طلحة بن عبيد الله، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ لَا يَهْدَأُ مِنْهَا جَانِبٌ إِلَّا جَاشَ مِنْهَا جَانِبٌ، حَتَّى يُنَادِيَ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: إِنَّ أَمِيرَكُمْ فُلَانٌ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ المهدي وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ فِيهَا مُنَادٍ يُنَادِي: هَذَا المهدي خَلِيفَةُ اللَّهِ فَاتَّبِعُوهُ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أبو نعيم والخطيب فِي تَلْخِيصِ الْمُتَشَابِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ المهدي، وَعَلَى رَأْسِهِ مَلَكٌ يُنَادِي: إِنَّ هَذَا المهدي فَاتَّبِعُوهُ» ". وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عاصم بن عمر البجلي قَالَ: لَيُنَادَيَنَّ بِاسْمِ رَجُلٍ مِنَ السَّمَاءِ لَا يُنْكِرُهُ الدَّلِيلُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ الذَّلِيلُ. وَأَخْرَجَ (ك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ عمر بن علي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمِنَّا المهدي أَمْ مِنْ غَيْرِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " بَلْ مِنَّا، بِنَا يَخْتِمُ اللَّهُ كَمَا بِنَا فَتَحَ، وَبِنَا يُسْتَنْقَذُونَ مِنَ الشِّرْكِ، وَبِنَا يُؤَلِّفُ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بَعْدَ عَدَاوَةٍ بَيِّنَةٍ، كَمَا أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بَعْدَ عَدَاوَةِ الشِّرْكِ» ". وَأَخْرَجَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وأبو نعيم مِنْ طَرِيقِ مكحول عَنْ علي قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنَّا آلَ مُحَمَّدٍ المهدي أَمْ مِنْ غَيْرِنَا؟ فَقَالَ: لَا. بَلْ مِنَّا، يَخْتِمُ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ، كَمَا فَتَحَ بِنَا، وَبِنَا يُنْقَذُونَ مِنَ الْفِتْنَةِ كَمَا أُنْقِذُوا مِنَ الشِّرْكِ، وَبِنَا يُؤَلِّفُ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بَعْدَ عَدَاوَةِ الْفِتْنَةِ كَمَا أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بَعْدَ عَدَاوَةِ الشِّرْكِ، وَبِنَا يُصْبِحُونَ بَعْدَ عَدَاوَةِ الْفِتْنَةِ إِخْوَانًا كَمَا أَصْبَحُوا بَعْدَ عَدَاوَةِ الشِّرْكِ إِخْوَانًا فِي دِينِهِمْ» ". وَأَخْرَجَ (ك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، والحاكم عَنْ أم سلمة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُبَايِعُ لِرَجُلٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ، فَيَأْتِيهِ عَصَائِبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَبْدَالُ أَهْلِ الشَّامِ، فَيَغْزُوهُ جَيْشٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ» ". وَأَخْرَجَ (ك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أم سلمة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَسِيرُ مَلِكُ الْمَشْرِقِ إِلَى مَلِكِ الْمَغْرِبِ فَيَقْتُلُهُ، فَيَبْعَثُ جَيْشًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَيُخْسَفُ بِهِمْ، ثُمَّ يَبْعَثُ جَيْشًا فَيَنْشَأُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَيَعُوذُ عَائِذٌ بِالْحَرَمِ، فَيَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ، كَالطَّائِرِ الْوَارِدَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ، مِنْهُمْ نِسْوَةٌ، فَيَظْهَرُ عَلَى كُلِّ جَبَّارٍ وَابْنِ جَبَّارٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وَيُظْهِرُ مِنَ الْعَدْلِ مَا يَتَمَنَّى لَهُ الْأَحْيَاءُ أَمْوَاتَهُمْ، فَيَجِيءُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَا تَحْتَ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِمَّا فَوْقَهَا» ". وَأَخْرَجَ (ك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ علي، فَقَالَ: سَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ هَذَا فَتًى يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَعَلَيْكُمْ بِالْفَتَى التَّمِيمِيِّ ; فَإِنَّهُ يُقْبِلُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَهُوَ صَاحِبُ رَايَةِ المهدي» ". وَأَخْرَجَ (ك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أم حبيبة: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يُرِيدُونَ رَجُلًا عِنْدَ الْبَيْتِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ» ". وَأَخْرَجَ (ك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، ونعيم، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ علي: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فِتْنَةٌ تُحَصِّلُ النَّاسَ، كَمَا يُحَصَّلُ الذَّهَبُ فِي الْمَعْدِنِ، فَلَا تَسُبُّوا أَهْلَ الشَّامِ، وَلَكِنْ سُبُّوا شِرَارَهُمْ ; فَإِنَّ فِيهِمُ الْأَبْدَالَ، يُوشِكُ أَنْ يُرْسَلَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ سَيِّبٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَيُغْرِقُ جَمَاعَتَهُمْ حَتَّى لَوْ قَابَلَتْهُمُ الثَّعَالِبُ غَلَبَتْهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ خَارِجٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، ثَلَاثُ رَايَاتٍ، الْمُكَثِّرُ يَقُولُ: هُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَالْمُقَلِّلُ يَقُولُ: هُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، أَمَارَتُهُمْ أَمِتْ أَمِتْ، يَلْقَوْنَ سَبْعَ رَايَاتٍ تَحْتَ كُلِّ رَايَةٍ مِنْهَا رَجُلٌ يَطْلُبُ الْمُلْكَ، فَيَقْتُلُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، وَيَرُدُّ اللَّهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أُلْفَتَهُمْ وَنِعْمَتَهُمْ وَقَاصِيَهُمْ وَدَانِيَهُمْ» ". وَأَخْرَجَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، والحاكم وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ يُحَصِّلُ النَّاسُ مِنْهَا كَمَا يُحَصِّلُ الذَّهَبُ فِي الْمَعْدِنِ، فَلَا تَسُبُّوا أَهْلَ الشَّامِ، وَسُبُّوا ظَلَمَتَهُمْ ; فَإِنَّ فِيهِمُ الْأَبْدَالَ، وَسَيُرْسِلُ اللَّهُ سَيِّبًا مِنَ السَّمَاءِ فَيُغْرِقُهُمْ، حَتَّى لَوْ قَاتَلَهُمُ الثَّعَالِبُ غَلَبَتْهُمْ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ رَجُلًا مِنْ عِتْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إِنْ قَلُّوا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا إِنْ كَثُرُوا أَمَارَتُهُمْ- أَيْ عَلَامَتُهُمْ- أَمِتْ أَمِتْ، عَلَى ثَلَاثِ رَايَاتٍ يُقَاتِلُهُمْ أَهْلُ سَبْعِ رَايَاتٍ، لَيْسَ مِنْ صَاحِبِ رَايَةٍ إِلَّا وَهُوَ يَطْمَعُ بِالْمُلْكِ، فَيُقْتَلُونَ وَيُهْزَمُونَ، ثُمَّ يَظْهَرُ الْهَاشِمِيُّ، فَيَرُدُّ اللَّهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أُلْفَتَهُمْ وَنِعْمَتَهُمْ، فَيَكُونُونَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ» ". وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وأبو نعيم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَقُولُ بِسُنَّتِي، يُنْزِلُ اللَّهُ لَهُ الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وَتُخْرِجُ لَهُ الْأَرْضُ مِنْ بَرَكَتِهَا، تُمْلَأُ الْأَرْضُ مِنْهُ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، يَعْمَلُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ سَبْعَ سِنِينَ، وَيَنْزِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ» ". وَأَخْرَجَ (ك) الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَكُونُ فِي أُمَّتِي المهدي، إِنْ قَصُرَ عُمُرُهُ فَسَبْعٌ، وَإِلَّا فَثَمَانٍ، وَإِلَّا فَتِسْعُ سِنِينَ، يَنْعَمُ أُمَّتِي فِيهَا نِعْمَةً لَمْ يَنْعَمُوا مِثْلَهَا ; الْبَرُّ مِنْهُمْ وَالْفَاجِرُ، يُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ مِدْرَارًا، وَلَا تَدَّخِرُ الْأَرْضُ شَيْئًا مِنَ النَّبَاتِ، وَيَكُونُ الْمَالُ كُدُوسًا، يَقُولُ الرَّجُلُ: يَا مهدي أَعْطِنِي، فَيَقُولُ: خُذْ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أبو يعلى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " حَدَّثَنِي خَلِيلِي أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَيَضْرِبُهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: وَكَمْ يَمْلِكُ؟ قَالَ: خَمْسًا وَاثْنَيْنِ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أبو يعلى، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، عِنْدَ تَظَاهُرٍ مِنَ الْفِتَنِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَنِ أَمِيرٌ، أَوَّلُ مَا يَكُونُ عَطَاؤُهُ لِلنَّاسِ أَنْ يَأْتِيَهُ الرَّجُلُ فَيُحْثِي لَهُ فِي حِجْرِهِ، يُهِمُّهُ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ صَدَقَةَ ذَلِكَ الْمَالِ، لِمَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنَ الْفَرَجِ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أحمد وَمُسْلِمٌ عَنْ جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا وَلَا يَعُدُّهُ عَدًّا» ". وَأَخْرَجَ (ك) أحمد، وَمُسْلِمٌ عَنْ أبي سعيد، وجابر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ يُقَسِّمُ الْمَالَ وَلَا يَعُدُّهُ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ أبي سعيد، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَكُونُ فِي أُمَّتِي المهدي إِنْ قَصُرَ عُمُرُهُ فَسَبْعُ سِنِينَ، وَإِلَّا فَثَمَانٍ، وَإِلَّا فَتِسْعُ سِنِينَ، تَتَنَعَّمُ أُمَّتِي فِي زَمَانِهِ نَعِيمًا لَمْ يَتَنَعَّمُوا مِثْلَهُ قَطُّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، يُرْسِلُ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا، وَلَا تَدَّخِرُ الْأَرْضُ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِهَا» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ أبي سعيد، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «تُمْلَأُ الْأَرْضُ ظُلْمًا وَجَوْرًا، فَيَقُومُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي، فَيَمْلَأُهَا قِسْطًا وَعَدْلًا، يَمْلِكُ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا» ". وَأَخْرَجَ أحمد، وأبو نعيم عَنْ أبي سعيد قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَنْقَضِي الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْأَرْضَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ قَبْلَهُ جَوْرًا، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم، والحاكم عَنْ أبي سعيد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَخْرُجُ المهدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 فِي أُمَّتِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ غِيَاثًا لِلنَّاسِ تَنْعَمُ الْأُمَّةُ، وَتَعِيشُ الْمَاشِيَةُ، وَتُخْرِجُ الْأَرْضُ نَبَاتَهَا، وَيُعْطِي الْمَالَ صِحَاحًا» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ: " «لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ مِنْ عِتْرَتِي رَجُلًا أَفْرَقَ الثَّنَايَا أَعْلَى الْجَبْهَةِ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، يُفِيضُ الْمَالَ فَيْضًا» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ حذيفة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَبَعَثَ اللَّهُ رَجُلًا اسْمُهُ اسْمِي، وَخُلُقُهُ خُلُقِي، يُكْنَى أبا عبد الله» " وَأَخْرَجَ الحارث بن أبي أسامة وأبو نعيم عَنْ أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَتُمْلَأَنَّ الْأَرْضُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، ثُمَّ لَيَخْرُجَنَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي حَتَّى يَمْلَأَهَا قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا» ". وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وأبو نعيم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي، وَخُلُقُهُ خُلُقِي، يَمْلَأُهَا قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا» ". وَأَخْرَجَ نعيم، وأبو نعيم عَنْ أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَكُونُ عِنْدَ انْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَظُهُورٍ مِنَ الْفِتَنِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ المهدي، يَكُونُ عَطَاؤُهُ هَنِيئًا» ". وَأَخْرَجَ أحمد، ونعيم بن حماد، والحاكم، وأبو نعيم عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّايَاتِ السُّودَ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ خُرَاسَانَ فَأْتُوهَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ ; فَإِنَّ فِيهَا خَلِيفَةَ اللَّهِ المهدي» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ حذيفة، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «وَيْحُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ مُلُوكٍ جَبَابِرَةٍ، كَيْفَ يَقْتُلُونَ وَيُخِيفُونَ الْمُطِيعِينَ إِلَّا مَنْ أَظْهَرَ طَاعَتَهُمْ، فَالْمُؤْمِنُ التَّقِيُّ يُصَانِعُهُمْ بِلِسَانِهِ، وَيُقَوِّمُهُمْ بِقَلْبِهِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعِيدَ الْإِسْلَامَ عَزِيزًا قَصَمَ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ أَنْ يُصْلِحَ أُمَّةً بَعْدَ فَسَادِهَا، يَا حذيفة، لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي تَجْرِي الْمَلَاحِمُ عَلَى يَدَيْهِ، وَيَظْهَرُ الْإِسْلَامُ، لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» ". وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وأبو نعيم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا لَيْلَةٌ لَمَلَكَ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي» ". وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وأبو نعيم عَنْ ثَوْبَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَجِيءُ الرَّايَاتُ السُّودَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ زُبَرُ الْحَدِيدِ، فَمَنْ سَمِعَ بِهِمْ فَلْيَأْتِهِمْ، فَلْيُبَايِعْهُمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا لَيْلَةٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي، يَمْلَؤُهَا قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، وَيَقْسِمُ الْمَالَ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ الْغِنَى فِي قُلُوبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَمْكُثُ سَبْعًا، أَوْ تِسْعًا، ثُمَّ لَا خَيْرَ فِي عَيْشِ الْحَيَاةِ بَعْدَ المهدي» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وأبو نعيم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَهُ اللَّهُ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَفْتَحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَجَبَلَ الدَّيْلَمِ» ". وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وابن منده، وأبو نعيم، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ قيس بن جابر، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «سَيَكُونُ بَعْدِي خُلَفَاءُ، وَمِنْ بَعْدِ الْخُلَفَاءِ أُمَرَاءُ، وَمِنْ بَعْدِ الْأُمَرَاءِ مُلُوكٌ، وَمِنْ بَعْدِ الْمُلُوكِ جَبَابِرَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، ثُمَّ يُؤَمَّرُ بَعْدَهُ الْقَحْطَانِيُّ، فَوَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا هُوَ بِدُونِهِ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مِنَّا الَّذِي يُصَلِّي عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ خَلْفَهُ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمُ المهدي: تَعَالَ صَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: أَلَا وَإِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةُ اللَّهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَنْ تَهْلِكَ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي آخِرِهَا، والمهدي فِي وَسَطِهَا» ". وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أبي سعيد، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ، يُعْطِي الْحَقَّ بِغَيْرِ عَدَدٍ» ". وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي عِنْدَ انْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَظُهُورٍ مِنَ الْفِتَنِ، يَكُونُ عَطَاؤُهُ حَثْيًا» ". وَأَخْرَجَ (ك) الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ السفياني فِي عُمْقِ دِمَشْقَ، وَعَامَّةُ مَنْ يَتْبَعُهُ مِنْ كَلْبٍ، فَيَقْتُلُ حَتَّى يَبْقَرَ بُطُونَ النِّسَاءِ، وَيَقْتُلَ الصِّبْيَانَ، فَتَجْمَعُ لَهُمْ قَيْسٌ فَيَقْتُلُهَا، حَتَّى لَا يَمْنَعُ ذَنَبَ تَلْعَةٍ، وَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فِي الْحَرَّةِ، فَيَبْلُغُ السفياني، فَيَبْعَثُ إِلَيْهِ جُنْدًا مِنْ جُنْدِهِ فَيَهْزِمُهُمْ، فَيَسِيرُ إِلَيْهِ السفياني بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى إِذَا صَارَ بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ، فَلَا يَنْجُو مِنْهُمْ إِلَّا الْمُخْبِرُ عَنْهُمْ» ". وَأَخْرَجَ (ك) الحاكم عَنْ أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَنْزِلُ بِأُمَّتِي فِي آخِرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الزَّمَانِ بَلَاءٌ شَدِيدٌ مِنْ سُلْطَانِهِمْ حَتَّى تَضِيقَ الْأَرْضُ عَنْهُمْ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ رَجُلًا مِنْ عِتْرَتِي، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ، وَسَاكِنُ الْأَرْضِ، لَا تَدَّخِرُ الْأَرْضُ شَيْئًا مِنْ بَذْرِهَا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ، وَلَا السَّمَاءُ شَيْئًا مِنْ قَطْرِهَا إِلَّا صَبَّتْهُ، يَعِيشُ فِيهِمْ سَبْعَ سِنِينَ، أَوْ ثَمَانٍ، أَوْ تِسْعًا» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، والروياني، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وأبو عوانة، والحاكم، وأبو نعيم، وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أبي أمامة قَالَ: " «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَذَكَرَ الدَّجَّالَ - وَقَالَ: فَتَنْفِي الْمَدِينَةُ الْخَبَثَ مِنْهَا، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ، وَيُدْعَى ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْخَلَاصِ، فَقَالَتْ أم شريك: فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: هُمْ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ وَجُلُّهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِمَامُهُمُ المهدي رَجُلٌ صَالِحٌ، فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الصُّبْحَ، فَرَجَعَ ذَلِكَ الْإِمَامُ يَنْكِصُ، يَمْشِي الْقَهْقَرَى ; لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى، فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ ; فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ» ". وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنِ ابن سيرين قَالَ: " المهدي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَؤُمُّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ". وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " حَدَّثَنِي فُلَانٌ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ المهدي لَا يَخْرُجُ حَتَّى تُقْتَلَ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ، فَإِذَا قُتِلَتِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ غَضِبَ عَلَيْهِمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، فَأَتَى النَّاسُ المهدي فَزَفُّوهُ كَمَا تُزَفُّ الْعَرُوسُ إِلَى زَوْجِهَا لَيْلَةَ عُرْسِهَا، وَهُوَ يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، وَتُخْرِجُ الْأَرْضُ نَبَاتَهَا، وَتُمْطِرُ السَّمَاءُ مَطَرَهَا، وَتَنْعَمُ أُمَّتِي وِلَايَتَهُ نِعْمَةً لَمْ تَنْعَمْهَا قَطُّ ". وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أبي الجلد قَالَ: " يَكُونُ فِتْنَةٌ بَعْدَهَا فِتْنَةٌ، الْأُولَى فِي الْآخِرَةِ كَثَمَرَةِ السَّوْطِ يَتْبَعُهَا ذُبَابُ السَّيْفِ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ فِتْنَةٌ تُسْتَحَلُّ فِيهَا الْمَحَارِمُ كُلُّهَا، ثُمَّ تَأْتِي الْخِلَافَةُ خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِهِ ". وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وأبو الحسن الحربي فِي الْأَوَّلِ مِنَ الْحَرْبِيَّاتِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَا يَخْرُجُ المهدي حَتَّى تَطْلُعَ مَعَ الشَّمْسِ آيَةٌ ". وَأَخْرَجَ (ك) الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ محمد بن علي قَالَ: " إِنَّ لِمَهْدِينَا آيَتَيْنِ لَمْ يَكُونَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، يَنْكَسِفُ الْقَمَرُ لِأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَتَنْكَسِفُ الشَّمْسُ فِي النِّصْفِ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُونَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَالَ: " إِذَا خُسِفَ بِالْجَيْشِ بِالْبَيْدَاءِ فَهُوَ عَلَامَةُ خُرُوجِ المهدي ". وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وتمام فِي فَوَائِدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: " يَخْرُجُ رَجُلٌ مَنْ وَلَدِ حسن مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، لَوِ اسْتَقْبَلَ بِهِ الْجِبَالَ لَهَدَّهَا، وَاتَّخَذَ فِيهَا طُرُقًا ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ أبي أمامة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ أَرْبَعُ هُدَنٍ، يَوْمَ الرَّابِعَةِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ هِرَقْلَ، يَدُومُ سَبْعَ سِنِينَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ إِمَامُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: المهدي مِنْ وَلَدِي ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، كَأَنَّ وَجْهَهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، فِي خَدِّهِ الْأَيْمَنِ خَالٌ أَسْوَدُ، عَلَيْهِ عَبَاءَتَانِ قَطَوَانِيَتَانِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَسْتَخْرِجُ الْكُنُوزَ، وَيَفْتَحُ مَدَائِنَ الشِّرْكِ» ". وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، والحاكم عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فِي ذِي الْقَعْدَةِ تَجَاذَبُ الْقَبَائِلُ، وَعَامَئِذٍ يُنْهَبُ الْحَاجُّ، فَتَكُونُ مَلْحَمَةٌ بِمِنًى حَتَّى يَهْرَبَ صَاحِبُهُمْ، فَيُبَايَعُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَهُوَ كَارِهٌ، يُبَايِعُهُ مِثْلُ عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرٍ، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الْأَرْضِ» ". وَأَخْرَجَ الروياني فِي مُسْنَدِهِ، وأبو نعيم عَنْ حذيفة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المهدي رَجُلٌ مِنْ وَلَدِي، وَجْهُهُ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ» ". وَأَخْرَجَ الروياني فِي مُسْنَدِهِ، وأبو نعيم عَنْ حذيفة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المهدي رَجُلٌ مِنْ وَلَدِي، لَوْنُهُ لَوْنُ عَرَبِيٍّ، وَجِسْمُهُ جِسْمُ إِسْرَائِيلِيٍّ، عَلَى خَدِّهِ الْأَيْمَنِ خَالٌ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، يَرْضَى فِي خِلَافَتِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ وَأَهْلُ السَّمَاءِ، وَالطَّيْرُ فِي الْجَوِّ» ". وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ، وَفِيهِ: " «وَوَلِيُّكُمُ الْجَابِرُ خَيْرُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، الْحَقُوهُ بِمَكَّةَ ; فَإِنَّهُ المهدي، واسمه محمد بن عبد الله، يَخْرُجُ إِلَيْهِ الْأَبْدَالُ مِنَ الشَّامِ، وَعُصَبُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ زُبَرُ الْحَدِيدِ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم، وأبو بكر بن المقري فِي مُعْجَمِهِ، عَنِ ابن عمرو قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ المهدي مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا كَرِعَةٌ» ". وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنِ الحسين «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لفاطمة: " المهدي مِنْ وَلَدِكِ» ". وَأَخْرَجَ (ك) ابن عساكر عَنِ الحسين أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «أَبْشِرِي يَا فاطمة، المهدي مِنْكِ» ". وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وأبو نعيم عَنْ علي الهلالي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 لفاطمة: " «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ إِنَّ مِنْهُمَا - يَعْنِي مِنَ الحسن والحسين - مَهْدِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِذَا صَارَتِ الدُّنْيَا هَرَجًا وَمَرَجًا، وَتَظَاهَرَتِ الْفِتَنُ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وَأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا كَبِيرٌ يَرْحَمُ صَغِيرًا، وَلَا صَغِيرٌ يُوَقِّرُ كَبِيرًا، بَعَثَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَنْ يَفْتَحُ حُصُونَ الضَّلَالَةِ، وَقُلُوبًا غُلْفًا، يَقُومُ بِالدِّينِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا قُمْتُ فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ، وَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا» ". وَأَخْرَجَ (ك) الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عوف بن مالك أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «تَجِيءُ فِتْنَةٌ غَبْرَاءُ مُظْلِمَةٌ، ثُمَّ يَتْبَعُ الْفِتَنُ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يُقَالُ لَهُ المهدي، فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ فَاتَّبِعْهُ، وَكُنْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ» ". وَأَخْرَجَ (ك) الخطيب فِي الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يُخَلِّينَ الرُّومَ عَلَى وَالٍ مِنْ عِتْرَتِي، اسْمُهُ يُوَاطِئُ اسْمِي، فَيَقْتَتِلُونَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْعِمَاقُ، فَيَقْتُلُونَ فَيُقْتَلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الثُّلُثُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقْتَتِلُونَ يَوْمًا آخَرَ، فَيُقْتَلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقْتَتِلُونَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَيَكُونُ عَلَى الرُّومِ، فَلَا يَزَالُونَ حَتَّى يَفْتَتِحُوا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ فِيهَا بِالْأَتْرِسَةِ إِذْ أَتَاهُمْ صَارِخٌ أَنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَّفَكُمْ فِي ذَرَارِيِّكُمْ» ". وَأَخْرَجَ (ك) ابن سعد، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابن عمرو أَنَّهُ قَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، أَنْتُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بالمهدي. وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، عَنْ علي قَالَ: الْفِتَنُ أَرْبَعٌ: فِتْنَةُ السَّرَّاءِ وَفِتْنَةُ الضَّرَّاءِ وَفِتْنَةُ كَذَا، فَذَكَرَ مَعْدِنَ الذَّهَبِ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُصْلِحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ أَمْرَهُمْ. وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنِ ابن أرطاة قَالَ: يَدْخُلُ السفياني الْكُوفَةَ، فَيَسْتَلُّهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَقْتُلُ مِنْ أَهْلِهَا سِتِّينَ أَلْفًا، ثُمَّ يَمْكُثُ فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً، يُقَسِّمُ أَمْوَالَهَا، وَدُخُولُ الْكُوفَةِ بَعْدَمَا يُقَاتِلُ التُّرْكُ وَالرُّومُ بِقَدْفِنِسِيَا، ثُمَّ يُبْعَثُ عَلَيْهِمْ خَلْفَهُمْ فِتَنٌ، فَتَرْجِعُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى خُرَاسَانَ، فَيَقْتُلُ السفياني، وَيَهْدِمُ الْحُصُونَ حَتَّى يَدْخُلَ الْكُوفَةَ، وَيَطْلُبُ أَهْلَ خُرَاسَانَ وَيَظْهَرُ بِخُرَاسَانَ قَوْمٌ تُذْعِنُ إِلَى المهدي، ثُمَّ يَبْعَثُ السفياني إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَأْخُذُ قَوْمًا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُؤَدِّيَهُمُ الْكُوفَةَ، ثُمَّ يَخْرُجُ المهدي ومنصور هَارِبَيْنِ، وَيَبْعَثُ السفياني فِي طَلَبِهِمَا، فَإِذَا بَلَغَ المهدي ومنصور الْكُوفَةَ نَزَلَ جَيْشُ السفياني إِلَيْهِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فَيُخْسَفُ بِهِمْ، ثُمَّ يَخْرُجُ المهدي حَتَّى يَمُرَّ بِالْمَدِينَةِ، فَيَسْتَنْقِذُ مَنْ كَانَ فِيهَا مَنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَتُقْبِلُ الرَّايَاتُ السَّوْدَاءُ حَتَّى تَنْزِلَ عَلَى الْمَاءِ، فَيَبْلُغُ مَنْ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِ السفياني نُزُولُهُمْ فَيَهْرُبُونَ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْكُوفَةَ حَتَّى يَسْتَنْقِذَ مَنْ فِيهَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ، يُقَالُ لَهُمُ الْعُصَبُ، لَيْسَ مَعَهُمْ سِلَاحٌ إِلَّا قَلِيلٌ، وَفِيهِمْ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَدْ تَرَكُوا أَصْحَابَ السفياني، فَيَسْتَنْقِذُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ سَبْيِ الْكُوفَةِ، وَتَبْعَثُ الرَّايَاتُ السُّودُ بِالْبَيْعَةِ إِلَى المهدي. وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ محمد بن الحنفية قَالَ: يَخْرُجُ رَايَاتٌ سُودٌ لِبَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ أُخْرَى سُودٌ قَلَانِسُهُمْ سُودٌ وَثِيَابُهُمْ بِيضٌ، عَلَى مُقَدَّمَتِهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ شعيب بن صالح، مِنْ تَمِيمٍ، يَهْزِمُونَ أَصْحَابَ السفياني حَتَّى يَنْزِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، يُوَطِّئُ للمهدي سُلْطَانَهُ، وَيَمُدُّ إِلَيْهِ ثَلَاثَمِائَةٍ مِنَ الشَّامِ، يَكُونُ بَيْنَ خُرُوجِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ الْأَمْرَ للمهدي اثْنَانِ وَسَبْعُونَ شَهْرًا. وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ عَنِ الحسن قَالَ: " يَخْرُجُ بِالرَّيِّ رَجُلٌ رَبْعَةٌ أَسْمَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، مَحْرُومٌ كَوْسَجٌ، يُقَالُ لَهُ شعيب بن صالح فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، ثِيَابُهُمْ بِيضٌ، وَرَايَاتُهُمْ سُودٌ، يَكُونُ عَلَى مُقَدَّمَةِ المهدي لَا يَلْقَاهُ أَحَدٌ إِلَّا فَلَّهُ ". وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ علي قَالَ: " لَا يَخْرُجُ المهدي حَتَّى يُقْتَلَ ثُلُثٌ وَيَمُوتَ ثُلُثٌ وَيَبْقَى ثُلُثٌ ". وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ علي قَالَ: " لَا يَخْرُجُ المهدي حَتَّى يَبْصُقَ بَعْضُكُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ ". وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: " عَلَامَةُ خُرُوجِ المهدي إِذَا خُسِفَ بِجَيْشٍ فِي الْبَيْدَاءِ فَهُوَ عَلَامَةُ خُرُوجِ المهدي ". وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ أبي قبيل قَالَ: " اجْتِمَاعُ النَّاسِ عَلَى المهدي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ ". وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: " عَلَامَةُ المهدي إِذَا انْسَابَ عَلَيْكُمُ التُّرْكُ، وَمَاتَ خَلِيفَتُكُمُ الَّذِي يَجْمَعُ الْأَمْوَالَ، وَيُسْتَخْلَفُ بَعْدَهُ رَجُلٌ ضَعِيفٌ، فَيُخْلَعُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنْ بَيْعَتِهِ، وَيُخْسَفُ بِغَرْبِيِّ مَسْجِدِ دِمَشْقَ، وَخُرُوجُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ بِالشَّامِ، وَخُرُوجُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ إِلَى مِصْرَ، وَتِلْكَ أَمَارَةُ السفياني ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ علي قَالَ: " إِذَا نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّ الْحَقَّ فِي آلِ مُحَمَّدٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ المهدي عَلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ، وَيُشْرَبُونَ حُبَّهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ غَيْرُهُ ". وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: " المهدي عَلَى أَوَّلَةِ شعيب بن صالح ". وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أبي جعفر قَالَ: " يَخْرُجُ شَابٌّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ بِكَفِّهِ الْيَمِينِ خَالٌ مِنْ خُرَاسَانَ، بِرَايَاتٍ سُودٍ بَيْنَ يَدَيْهِ شعيب بن صالح، يُقَاتِلُ أَصْحَابَ السفياني فَيَهْزِمُهُمْ ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب بن علقمة قَالَ: يَخْرُجُ عَلَى لِوَاءِ المهدي غُلَامٌ حَدَثُ السِّنِّ، خَفِيفُ اللِّحْيَةِ أَصْفَرُ، لَوْ قَاتَلَ الْجِبَالَ لَهَدَّهَا حَتَّى يَنْزِلَ إِيلِيَاءَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: إِذَا مَلَكَ رَجُلٌ الشَّامَ وَآخَرُ مِصْرَ، فَاقْتَتَلَ الشَّامِيُّ وَالْمِصْرِيُّ، وَسَبَى أَهْلُ الشَّامِ قَبَائِلَ مِنْ مِصْرَ، وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمَشْرِقِ بِرَايَاتٍ سُودٍ صِغَارٍ قَتَلَ صَاحِبَ الشَّامِ، فَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّي الطَّاعَةَ إِلَى المهدي. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أبي قبيل قَالَ: يَكُونُ بِإِفْرِيقِيَّةَ أَمِيرٌ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَيَكُونُ بَعْدَهُ فِتْنَةٌ، ثُمَّ يَمْلِكُ رَجُلٌ أَسْمَرُ يَمْلَؤُهَا عَدْلًا، ثُمَّ يَسِيرُ إِلَى المهدي فَيُؤَدِّي إِلَيْهِ الطَّاعَةَ، وَيُقَاتِلُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ الحسن أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ: " «فَلَا يَلْقَاهُ أَهْلُ بَيْتِهِ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ رَايَةً مِنَ الْمَشْرِقِ سَوْدَاءَ، مَنْ نَصَرَهَا نَصَرَهُ اللَّهُ، وَمَنْ خَذَلَهَا خَذَلَهُ حَتَّى يَأْتُوا رَجُلًا اسْمُهُ كَاسْمِي، فَيُوَلُّونَهُ أَمْرَهُمْ، فَيُؤَيِّدُهُ اللَّهُ وَيَنْصُرُهُ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَخْرُجُ مِنَ الْمَشْرِقِ رَايَاتٌ سُودٌ لِبَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ يَمْكُثُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ تَخْرُجُ رَايَاتٌ سُودٌ صِغَارٌ تُقَاتِلُ رَجُلًا مَنْ وَلَدِ أبي سفيان، وَأَصْحَابُهُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، يُؤَدُّونَ الطَّاعَةَ للمهدي» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ علي قَالَ: " تَخْرُجُ رَايَاتٌ سُودٌ تُقَاتِلُ السفياني فِيهِمْ شَابٌّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فِي كَفِّهِ الْيُسْرَى خَالٌ، وَعَلَى مُقَدَّمَتِهِ رَجُلٌ مِنْ تَمِيمٍ، يُدْعَى شعيب بن صالح فَيَهْزِمُ أَصْحَابَهُ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: " إِذَا بَلَغَ السفياني الْكُوفَةَ، وَقَتَلَ أَعْوَانَ آلِ مُحَمَّدٍ خَرَجَ المهدي عَلَى لِوَائِهِ شعيب بن صالح ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أبي جعفر قَالَ: " تَنْزِلُ الرَّايَاتُ السُّودُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ الْكُوفَةِ، فَإِذَا ظَهَرَ المهدي بِمَكَّةَ بَعَثَ إِلَيْهِ بِالْبَيْعَةِ ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: " إِذَا دَارَتْ رَحَا بَنِي الْعَبَّاسِ، وَرَبَطَ أَصْحَابُ الرَّايَاتِ خُيُولَهُمْ بِزَيْتُونِ الشَّامِ يُهْلِكُ اللَّهُ لَهُمُ الأصهب وَيَقْتُلُهُ وَعَامَّةُ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَا يَبْقَى امْرُؤٌ مِنْهُمْ إِلَّا هَارِبٌ أَوْ مُخْتَفٍ، وَيَسْقُطُ الشُّعْبَتَانِ بَنُو جَعْفَرٍ وَبَنُو الْعَبَّاسِ، وَيَجْلِسُ ابْنُ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ عَلَى مِنْبَرِ دِمَشْقَ، وَيَخْرُجُ الْبَرْبَرُ إِلَى سُرَّةِ الشَّامِ، فَهُوَ عَلَامَةُ خُرُوجِ المهدي ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " إِذَا خَرَجَتْ خَيْلُ السفياني إِلَى الْكُوفَةِ بَعَثَ فِي طَلَبِ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَيَخْرُجُ أَهْلُ خُرَاسَانَ فِي طَلَبِ المهدي، فَيَلْتَقِي هُوَ وَالْهَاشِمِيُّ بِرَايَاتٍ سُودٍ، عَلَى مُقَدَّمَتِهِ شعيب بن صالح فَيَلْتَقِي هُوَ وَالسُّفْيَانِيُّ بِبَابِ إِصْطَخْرَ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ مَلْحَمَةٌ عَظِيمَةٌ، فَتَظْهَرُ الرَّايَاتُ السُّودُ، وَتَهْرُبُ خَيْلُ السفياني، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَنَّى النَّاسُ المهدي وَيَطْلُبُونَهُ ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أبي جعفر قَالَ: " بَعَثَ السفياني جُنُودَهُ فِي الْآفَاقِ بَعْدَ دُخُولِهِ الْكُوفَةَ وَبَغْدَادَ، فَيَبْلُغُهُ فَزْعَةٌ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَيَكُونُ لَهُمْ وَقْعَةٌ بِتُونِسَ، وَوَقْعَةٌ بِدُولَابِ الرَّيِّ، وَوَقْعَةٌ بِتُخُومِ زَرِيحٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُقْبِلُ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ خُرَاسَانَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، شَابٌّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى خَالٌ، سَهَّلَ اللَّهُ أَمْرَهُ وَطَرِيقَهُ، ثُمَّ يَكُونُ لَهُمْ وَقْعَةٌ بِتُخُومِ خُرَاسَانَ، وَيَسِيرُ الْهَاشِمِيُّ فِي طَرِيقِ الرَّيِّ فَيَبْرَحُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنَ الْمَوَالِي، يُقَالُ لَهُ شعيب بن صالح إِلَى إِصْطَخْرَ إِلَى الْأُمَوِيِّ، فَيَلْتَقِي هُوَ والمهدي وَالْهَاشِمِيُّ بِبَيْضَاءِ إِصْطَخْرَ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا مَلْحَمَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى تَطَأَ الْخَيْلُ الدِّمَاءَ إِلَى أَرْسَاغِهَا، ثُمَّ يَأْتِيهِ جُنُودٌ مِنْ سِجِسْتَانَ عَظِيمَةٌ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، فَيُظْهِرُ اللَّهُ أَنْصَارَهُ وَجُنُودَهُ، ثُمَّ تَكُونُ وَاقِعَةٌ بِالْمَدَائِنِ بَعْدَ وَقْعَةِ الرَّيِّ، وَفِي عَاقِرِ قُوفَا وَقْعَةُ صُلْمَةَ، يُخْبِرُ عَنْهَا كُلُّ نَاجٍ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهَا رِيحٌ عَظِيمٌ بِبَابِلَ، وَوَقْعَةٌ فِي أَرْضٍ مِنْ أَرْضِ نَصِيبِينَ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَلَى الْأَحْوَصِ قَوْمٌ مِنْ سَوَادِهِمْ، وَهُمُ الْعُصَبُ، عَامَّتُهُمْ مِنَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ حَتَّى يَسْتَنْقِذُوا مَا فِي يَدَيْهِ مِنْ سَبْيِ كُوفَانَ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ ضمرة بن حبيب وَمَشَايِخِهِمْ قَالُوا: يَبْعَثُ السفياني خَيْلَهُ وَجُنُودَهُ، فَيَبْلُغُ عَامَّةَ الْمَشْرِقِ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ وَأَرْضِ فَارِسَ، فَيَثُورُ بِهِمْ أَهْلُ الْمَشْرِقِ فَيُقَاتِلُونَهُمْ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ وَقَعَاتٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَإِذَا طَالَ عَلَيْهِمْ قِتَالُهُمْ إِيَّاهُ بَايَعُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي آخِرِ الْمَشْرِقِ، فَيَخْرُجُ بِأَهْلِ خُرَاسَانَ، عَلَى مُقَدَّمَتِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مَوْلًى لَهُمْ، يُقَالُ لَهُ شعيب بن صالح، أَصْفَرُ قَلِيلُ اللِّحْيَةِ، يَخْرُجُ إِلَيْهِ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، فَإِذَا بَلَغَهُ خُرُوجُهُ شَايَعَهُ، فَيَصِيرُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، لَوِ اسْتَقْبَلَ بِهِمُ الْجِبَالَ الرَّوَاسِيَ لَهَدَّهَا، فَيَلْتَقِي هُوَ وَخَيْلُ السفياني فَيَهْزِمُهُمْ، فَيَقْتُلُ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ تَكُونُ الْغَالِبَةُ للسفياني، وَيَهْرُبُ الْهَاشِمِيُّ، وَيَخْرُجُ شعيب بن صالح مُخْتَفِيًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، يُوَطِّئُ للمهدي مَنْزِلَهُ إِذَا بَلَغَهُ خُرُوجُهُ إِلَى الشَّامِ - قَالَ الوليد: بَلَغَنِي أَنَّ هَذَا الْهَاشِمِيَّ أَخُو المهدي لِأَبِيهِ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ابْنُ عَمِّهِ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَمُوتُ وَلَكِنَّهُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ يَخْرُجُ إِلَى مَكَّةَ، فَإِذَا ظَهَرَ المهدي خَرَجَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يَخْرُجُ رَجُلٌ قَبْلَ المهدي مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بِالْمَشْرِقِ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، يَقْتُلُ وَيُمَثِّلُ، وَيَتَوَجَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَا يَبْلُغُهُ حَتَّى يَمُوتَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ علي قَالَ: يَبْعَثُ بِجَيْشٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيَأْخُذُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْتَلُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ رِجَالًا وَنِسَاءً، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْرُبُ المهدي وَالْبِيضُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَيُبْعَثُ فِي طَلَبِهِمَا وَقَدْ لَحِقَا بِحَرَمِ اللَّهِ وَأَمْنِهِ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ يوسف بن ذي قربا قَالَ: يَكُونُ خَلِيفَةٌ بِالشَّامِ يَغْزُو الْمَدِينَةَ، فَإِذَا بَلَغَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خُرُوجُ الْجَيْشِ إِلَيْهِمْ خَرَجَ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ فَاسْتَخْفَوْا، فَيَكْتُبُ صَاحِبُ الْمَدِينَةِ إِلَى صَاحِبِ مَكَّةَ إِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، يُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَاقْتُلْهُمْ، فَيُعَظِّمُ ذَلِكَ صَاحِبُ مَكَّةَ، ثُمَّ بَنُو مَرْوَانَ بَيْنَهُمْ فَيَأْتُونَهُ لَيْلًا، وَيَسْتَجِيرُونَ بِهِ، فَيَقُولُ: اخْرُجُوا آمِنِينَ، فَيَخْرُجُونَ، ثُمَّ يَبْعَثُ إِلَى رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، فَيَقْتُلُ أَحَدَهُمَا وَالْآخَرُ يَنْظُرُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَخْرُجُونَ، ثُمَّ يَنْزِلُونَ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ الطَّائِفِ، فَيُقِيمُونَ فِيهِ، وَيَبْعَثُونَ إِلَى النَّاسِ فَيَنْسَابُ إِلَيْهِمْ نَاسٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ غَزَاهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَيَهْزِمُونَهُمْ، وَيَدْخُلُونَ مَكَّةَ فَيَقْتُلُونَ أَمِيرَهَا، وَيَكُونُونَ بِهَا حَتَّى إِذَا خُسِفَ بِالْجَيْشِ اسْتَعَدَّ أَمْرُهُ وَخَرَجَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أبي قبيل قَالَ: يَبْعَثُ السفياني جَيْشًا، فَيَأْمُرُ بِقَتْلِ كُلِّ مَنْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 فِيهَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَيُقْتَلُونَ وَيَفْتَرِقُونَ هَارِبِينَ إِلَى الْبَرَارِي وَالْجِبَالِ حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرُ المهدي، فَإِذَا ظَهَرَ بِمَكَّةَ اجْتَمَعَ مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ إِلَيْهِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يَكُونُ بِالْمَدِينَةِ وَقْعَةٌ يَغْرَقُ فِيهَا أَحْجَارُ الزَّيْتِ، مَا الْحَرَّةُ عِنْدَهَا إِلَّا كَضَرْبَةِ سَوْطٍ، فَيَتَنَحَّى عَنِ الْمَدِينَةِ قَدْرَ بَرِيدَيْنِ، ثُمَّ يُبَايَعُ للمهدي. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَبْعَثُ صَاحِبُ الْمَدِينَةِ إِلَى الْهَاشِمِيِّينَ بِمَكَّةَ جَيْشًا، فَيَهْزِمُونَهُمْ، فَيَسْمَعُ بِذَلِكَ الْخَلِيفَةُ بِالشَّامِ فَيَقْطَعُ إِلَيْهِمْ بَعْثًا فِيهِمْ سِتُّمِائَةِ غَرِيبٍ، فَإِذَا أَتَوُا الْبَيْدَاءَ فَيَنْزِلُهَا فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، أَقْبَلَ رَاعٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَعْجَبُ، فَيَقُولُ: يَا وَيْحَ أَهْلِ مَكَّةَ مَا جَاءَهُمْ؟ فَيَنْصَرِفُ إِلَى غَنَمِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ، فَلَا يَرَى أَحَدًا، فَإِذَا هُمْ قَدْ خُسِفَ بِهِمْ، فَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ارْتَحَلُوا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَأْتِي مَنْزِلَهُمْ فَيَجِدُ قَطِيفَةً قَدْ خُسِفَ بِبَعْضِهَا وَبَعْضُهَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَيُعَالِجُهَا فَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ خُسِفَ بِهِمْ، فَيَنْطَلِقُ إِلَى صَاحِبِ مَكَّةَ فَيُبَشِّرُهُ، فَيَقُولُ صَاحِبُ مَكَّةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَذِهِ الْعَلَامَةُ الَّتِي كُنْتُمْ تُخْبَرُونَ، فَيَسِيرُونَ إِلَى الشَّامِ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أبي قبيل قَالَ: لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ; فَأَمَّا الَّذِي هُوَ بَشِيرٌ فَإِنَّهُ يَأْتِي المهدي بِمَكَّةَ وَأَصْحَابَهُ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَالثَّانِي: يَأْتِي السفياني فَيُخْبِرُهُ بِمَا يَؤُولُ بِأَصْحَابِهِ، وَهُمَا رَجُلَانِ مِنْ كَلْبٍ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: عَلَامَةُ خُرُوجِ المهدي أَلْوِيَةٌ تُقْبِلُ مِنَ الْمَغْرِبِ، عَلَيْهَا رَجُلٌ أَعْرَجُ مِنْ كِنْدَةَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يَخْرُجُ السفياني والمهدي كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، فَيَغْلِبُ السفياني عَلَى مَا يَلِيهِ، والمهدي عَلَى مَا يَلِيهِ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ جعفر قَالَ: يَقُومُ المهدي سَنَةَ مِائَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يُسْتَخْرَجُ المهدي كَارِهًا مِنْ مَكَّةَ مِنْ وَلَدِ فاطمة فَيُبَايَعُ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أبي جعفر قَالَ: " يَظْهَرُ المهدي بِمَكَّةَ عِنْدَ الْعِشَاءِ، مَعَهُ رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَمِيصُهُ، وَسَيْفُهُ، وَعَلَامَاتٌ، وَنُورٌ وَبَيَانٌ، فَإِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَقُولُ: أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَمَقَامَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكُمْ، فَقَدِ اتَّخَذَ الْحَجَرَ وَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَآمُرُكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُحَافِظُوا عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ تُحْيُوا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ، وَتُمِيتُوا مَا أَمَاتَ، وَتَكُونُوا أَعْوَانًا عَلَى الْهُدَى، وَوُزَرَاءَ عَلَى التَّقْوَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ دَنَا فَنَاؤُهَا وَزَوَالُهَا، وَأَذِنَتْ بِانْصِرَامٍ، فَإِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِكِتَابِهِ، وَإِمَاتَةِ الْبَاطِلِ، وَإِحْيَاءِ سُنَّتِهِ، فَيَظْهَرُ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، قَزَعًا كَقَزَعِ الْخَرِيفِ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ أُسْدٌ بِالنَّهَارِ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ للمهدي أَرْضَ الْحِجَازِ، وَيَسْتَخْرِجُ مَنْ كَانَ فِي السِّجْنِ مَنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَتَنْزِلُ الرَّايَاتُ السُّودُ الْكُوفَةَ، فَيُبْعَثُ بِالْبَيْعَةِ إِلَى المهدي، وَيَبْعَثُ المهدي جُنُودَهُ فِي الْآفَاقِ، وَيُمِيتُ الْجَوْرَ وَأَهْلَهُ، وَتَسْتَقِيمُ لَهُ الْبُلْدَانُ، وَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا انْقَطَعَتِ التِّجَارَاتُ وَالطُّرُقُ، وَكَثُرَتِ الْفِتَنُ خَرَجَ سَبْعَةُ نَفَرٍ عُلَمَاءُ مِنْ أُفُقٍ شَتَّى عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، يُبَايِعُ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا حَتَّى يَجْتَمِعُوا بِمَكَّةَ، فَيَلْتَقِي السَّبْعَةُ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا فِي طَلَبِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تَهْدَأَ عَلَى يَدَيْهِ هَذِهِ الْفِتَنُ، وَتُفْتَحَ لَهُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، قَدْ عَرَفْنَاهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَجَيْشِهِ، فَيَتَّفِقُ السَّبْعَةُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَطْلُبُونَهُ فَيُصِيبُونَهُ بِمَكَّةَ، فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ؟ فَيَقُولُ: لَا، بَلْ أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، حَتَّى يُفْلِتَ مِنْهُمْ، فَيَصِفُونَهُ لِأَهْلِ الْخَبَرِ مِنْهُ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ، فَيُقَالُ: هُوَ صَاحِبُكُمُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَقَدْ لَحِقَ بِالْمَدِينَةِ، فَيَطْلُبُونَهُ بِالْمَدِينَةِ فَيُخَالِفُهُمْ إِلَى [أَهْلِ] مَكَّةَ، فَيَطْلُبُونَهُ بِمَكَّةَ فَيُصِيبُونَهُ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَأُمُّكُ فُلَانَةُ ابْنَةُ فُلَانٍ، وَفِيكَ آيَةُ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ أَفْلَتَّ مِنَّا مَرَّةً فَمُدَّ يَدَكَ نُبَايِعْكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِكُمْ، حَتَّى يُفْلِتَ مِنْهُمْ، فَيَطْلُبُونَهُ بِالْمَدِينَةِ فَيُخَالِفُهُمْ إِلَى مَكَّةَ، فَيُصِيبُونَهُ بِمَكَّةَ عِنْدَ الرُّكْنِ، وَيَقُولُونَ لَهُ: إِثْمُنَا عَلَيْكَ، وَدِمَاؤُنَا فِي عُنُقِكَ إِنْ لَمْ تَمُدَّ يَدَكَ نُبَايِعُكَ، هَذَا عَسْكَرُ السفياني قَدْ تَوَجَّهَ فِي طَلَبِنَا، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ حَرَامٍ، فَيَجْلِسُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، فَيَمُدُّ يَدَهُ فَيُبَايَعُ لَهُ، فَيُلْقِي اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، فَيَصِيرُ مَعَ قَوْمٍ أُسْدٍ بِالنَّهَارِ رُهْبَانٍ بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي محمد أَنَّ المهدي وَالسُّفْيَانِيَّ وَكَلْبًا يَقْتَتِلُونَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ تَسْتَقْبِلُهُ الْبَيْعَةُ، فَيُؤْتَى بالسفياني أَمِيرًا، فَيَأْمُرُ بِهِ فَيُذْبَحُ عَلَى بَابِ الرَّحْبَةِ، ثُمَّ تُبَاعُ نِسَاؤُهُمْ وَغَنَائِمُهُمْ عَلَى دُرُوجِ دِمَشْقَ، وَأَخْرَجَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 أَيْضًا عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ محمد بن علي قَالَ: إِذَا سَمِعَ الْعَائِذُ الَّذِي بِمَكَّةَ الْخَسْفَ خَرَجَ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فِيهِمُ الْأَبْدَالُ حَتَّى يَنْزِلُوا إِيلِيَاءَ، فَيَقُولُ الَّذِي بَعَثَ الْجَيْشَ حَتَّى يَبْلُغَهُ الْخَبَرُ مِنْ إِيلِيَاءَ: لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي هَذَا الرَّجُلِ عِبْرَةً، بَعَثْتُ إِلَيْهِ مَا بَعَثْتُ، فَسَاحُوا فِي الْأَرْضِ إِنَّ فِي هَذَا لَعِبْرَةً وَنُصْرَةً، فَيُؤَدِّي إِلَيْهِ السفياني الطَّاعَةَ، فَيَخْرُجُ حَتَّى يَلْقَى كَلْبًا وَهُمْ أَخْوَالُهُ، فَيُعَيِّرُونَهُ بِمَا صَنَعَ وَيَقُولُونَ: كَسَاكَ اللَّهُ قَمِيصًا فَخَلَعْتَهُ، فَيَقُولُ: مَا تَرَوْنَ أَسْتَقِيلُهُ الْبَيْعَةَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَأْتِيهِ إِلَى إِيلِيَاءَ، فَيَقُولُ: أَقِلْنِي، فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ لَهُ: أَتُحِبُّ أَنْ أُقِيلَكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقِيلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ خَلَعَ طَاعَتِي، فَيَأْمُرُ بِهِ عِنْدَ ذَلِكَ فَيُذْبَحُ عَلَى بَلَاطَةِ بَابِ إِيلِيَاءَ، ثُمَّ يَسِيرُ إِلَى كَلْبٍ فَيَنْهَبُهُمْ، فَالْخَائِبُ مَنْ خَابَ يَوْمَ نَهْبِ كَلْبٍ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ علي قَالَ: إِذَا بَعَثَ السفياني إِلَى المهدي جَيْشًا، فَخُسِفَ بِهِمْ بِالْبَيْدَاءِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الشَّامِ قَالَ لِخَلِيفَتِهِمْ: قَدْ خَرَجَ المهدي فَبَايِعْهُ وَادْخُلْ فِي طَاعَتِهِ، وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ بِالْبَيْعَةِ، وَيَسِيرُ المهدي حَتَّى يَنْزِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَتُنْقَلَ إِلَيْهِ الْخَزَائِنُ، وَيَدْخُلَ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَأَهْلُ الْحَرْبِ وَالرُّومُ وَغَيْرُهُمْ فِي طَاعَتِهِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ حَتَّى يَبْنِيَ الْمَسَاجِدَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَمَا دُونَهَا، وَيَخْرُجُ قَبْلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ بِالْمَشْرِقِ، وَيَحْمِلُ السَّيْفَ عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ يَقْتُلُ وَيُمَثِّلُ، وَيَتَوَجَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَا يَبْلُغُهُ حَتَّى يَمُوتَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ علي قَالَ: تَفْرَحُ الْفِتَنُ بِرَجُلٍ مِنَّا يَسُومُهُمْ خَسْفًا، لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ، يَضَعُ السَّيْفَ عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى يَقُولُوا: وَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ وَلَدِ فاطمة، وَلَوْ كَانَ مِنْ وَلَدِهَا لَرَحِمَنَا، يُغْرِيهِ اللَّهُ بِبَنِي الْعَبَّاسِ وَبَنِي أُمَيَّةَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أبي جعفر قَالَ: لَا يَخْرُجُ المهدي حَتَّى تَرَوُا الظَّلَمَةَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ قَالَ: لَا يَخْرُجُ المهدي حَتَّى يُكْفَرَ بِاللَّهِ جَهْرًا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ ابن سيرين قَالَ: لَا يَخْرُجُ المهدي حَتَّى يُقْتَلَ مِنْ كُلِّ تِسْعَةٍ سَبْعَةٌ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: المهدي خَاشِعٌ لِلَّهِ كَخُشُوعِ النَّسْرِ لِجَنَاحِهِ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ عبد الله بن الحارث قَالَ: يَخْرُجُ المهدي وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، كَأَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ المهدي، فَذَكَرَ ثِقَلًا فِي لِسَانِهِ، وَضَرَبَ فَخِذَهُ الْيُسْرَى بِيَدِهِ الْيُمْنَى إِذَا أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، اسْمُهُ اسْمِي وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمُ أَبِي» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِمْيَرَ قَالَ: المهدي أَزَجُّ أَبْلَجُ أَعْيَنُ، يَجِيءُ مِنَ الْحِجَازِ حَتَّى يَسْتَوِيَ عَلَى مِنْبَرِ دِمَشْقَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: المهدي مَوْلِدُهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْمُهُ اسْمُ نَبِيٍّ، وَمُهَاجَرُهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ، بَرَّاقُ الثَّنَايَا، فِي وَجْهِهِ خَالٌ، فِي كَتِفِهِ عَلَامَةُ النَّبِيِّ، يَخْرُجُ بِرَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِرْطٍ مُعَلَّمَةٍ سَوْدَاءَ مُرَبَّعَةٍ، فِيهَا حَجَرٌ لَمْ تُنْشَرْ مُنْذُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تُنْشَرُ حَتَّى يَخْرُجَ المهدي، يَمُدُّهُ اللَّهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَضْرِبُونَ وُجُوهَ - مَنْ خَالَفَهُمْ - وَأَدْبَارَهُمْ، يَبْعَثُ وَهُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ علي قَالَ: " المهدي مِنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، أَدَمٌ ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أرطأة قَالَ: " المهدي ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً ". وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «اسْمُ المهدي محمد» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «اسْمُ المهدي اسْمِي» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: المهدي حَقٌّ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: مِمَّنْ هُوَ؟ قَالَ: مِنْ وَلَدِ فاطمة. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: المهدي شَابٌّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، قِيلَ: عَجَزَ عَنْهَا شُيُوخُكُمْ، وَيَرْجُوهَا شَبَابُكُمْ؟ قَالَ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " المهدي مِنَّا يَدْفَعُهَا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ علي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «المهدي رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي، يُقَاتِلُ عَلَى سُنَّتِي، كَمَا قَاتَلْتُ أَنَا عَلَى الْوَحْيِ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يَخْرُجُ المهدي بَعْدَ الْخَسْفِ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 عَشَرَ رَجُلًا عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَيَلْتَقِي هُوَ وَصَاحِبُ جَيْشِ السفياني، وَأَصْحَابُ المهدي يَوْمَئِذٍ، جُنَّتُهُمُ الْبَرَادِعُ -يَعْنِي تِرَاسَهُمْ - وَيُقَالُ: إِنَّهُ يَسْمَعُ يَوْمَئِذٍ صَوْتَ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ، يُنَادِي: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ أَصْحَابُ فُلَانٍ - يَعْنِي المهدي - فَتَكُونُ الدَّبْرَةُ عَلَى أَصْحَابِ السفياني فَيُقْتَلُونَ، لَا يَبْقَى مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، فَيَهْرُبُونَ إِلَى السفياني فَيُخْبِرُونَهُ، وَيَخْرُجُ المهدي إِلَى الشَّامِ، فَيَتَلَقَّى السفياني المهدي بِبَيْعَتِهِ، وَيُسَارِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يُبَايَعُ للمهدي سَبْعَةُ رِجَالٍ عُلَمَاءُ، تَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ مِنْ أُفُقٍ شَتَّى عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، قَدْ بَايَعَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَيَجْتَمِعُونَ بِمَكَّةَ فَيُبَايِعُونَهُ، وَيَقْذِفُ اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، فَيَسِيرُ بِهِمْ وَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الَّذِينَ بَايَعُوا السفياني بِمَكَّةَ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ جَرْمٍ، فَإِذَا خَرَجَ بَيْنَ مَكَّةَ خَلَفَ أَصْحَابَهُ، وَمَشَى فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ حَتَّى يَأْتِيَ الْحَرَمَ، فَيُبَايِعَ لَهُ فَيُنَدِّمُهُ كَلْبٌ عَلَى بَيْعَتِهِ، فَيَأْتِيهِ فَيَسْتَقِيلُهُ الْبَيْعَةَ فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُغَيِّرُ جُيُوشَهُ لِقِتَالِهِ فَيَهْزِمُهُمْ، وَيَهْزِمُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ الرُّومَ، وَيُذْهِبُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ الْفَقْرَ، وَيَنْزِلُ الشَّامَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أرطأة قَالَ: يَدْخُلُ الصخري الْكُوفَةَ، ثُمَّ يَبْلُغُهُ ظُهُورُ المهدي بِمَكَّةَ فَيَبْعَثُ إِلَيْهِ مِنَ الْكُوفَةِ بَعْثًا، فَيُخْسَفُ بِهِ، فَلَا يَنْجُو مِنْهُمْ إِلَّا بَشِيرٌ إِلَى المهدي، وَنَذِيرٌ إِلَى الِاصْطَخْرِيِّ، فَيُقْبِلُ المهدي مِنْ مَكَّةَ، والصخري مِنَ الْكُوفَةِ نَحْوَ الشَّامِ، كَأَنَّهُمَا فَرَسَا رِهَانٍ، فَيَسْبِقُهُ الصخري فَيَقْطَعُ بَعْثًا آخَرَ مِنَ الشَّامِ إِلَى المهدي، فَيَأْتُونَ المهدي بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَيُبَايِعُونَهُ بَيْعَةَ الْهُدَى، وَيُقْبِلُونَ مَعَهُ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى حَدِّ الشَّامِ الَّذِي بَيْنَ الشَّامِ وَالْحِجَازِ، فَيُقِيمُ بِهَا، وَيُقَالُ لَهُ: أَنْفِذْ فَيَكْرَهُ الْمَجَازَ، وَيَقُولُ: اكْتُبْ إِلَى ابْنِ عَمِّي فُلَانٍ يَخْلَعُ طَاعَتِي فَأَنَا صَاحِبُكُمْ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى الصخري بَايَعَ، وَسَارَ إِلَى المهدي حَتَّى يَنْزِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَلَا يَتْرُكَ المهدي بِيَدِ رَجُلٍ مِنَ الشَّامِ فَتْرًا مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا رَدَّهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَرَدَّ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْجِهَاتِ جَمِيعًا، فَيَمْكُثُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ كَلْبٍ، يُقَالُ لَهُ كنانة يُعِينُهُ كَوْكَبٌ مِنْ رَهْطٍ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الصخري، فَيَقُولُ: بَايَعْنَاكَ وَنَصَرْنَاكَ حَتَّى إِذَا مَلَكْتَ بَايَعْتَ هَذَا لَيَخْرُجَنَّ فَلَيُقَاتِلَنَّ، فَيَقُولُ: فِيمَنْ أَخْرَجَ؟ فَيَقُولُ: لَا تَبْقَى عَامِرِيَّةٌ أَمُّهَا أَكْبَرُ مِنْكَ إِلَّا لَحِقَتْكَ، لَا يَتَخَلَّفُ عَنْكَ ذَاتُ خَسْفٍ، وَلَا ظَلْفٍ، فَيَرْحَلُ وَتَرْحَلُ مَعَهُ عَامِرٌ بِأَسْرِهَا حَتَّى تَنْزِلَ بِيسَانَ، وَيُوَجِّهَ إِلَيْهِمُ المهدي رَايَةً، وَأَعْظَمُ رَايَةٍ فِي زَمَانِ المهدي مِائَةُ رَجُلٍ، فَيَنْزِلُونَ عَلَى مَاءٍ، ثُمَّ إبراهيم، فَتَصُفُّ كَلْبٌ خَيْلَهَا وَرَجْلَهَا وَإِبِلَهَا وَغَنَمَهَا، فَإِذَا تَشَاءَمَتِ الْخَيْلَاتُ وَلَّتْ كَلْبٌ أَدْبَارَهَا، وَأُخِذَ الصخري فَيُذْبَحُ عَلَى الصَّفَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الْمُتَعَرِّضَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عِنْدَ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي بَطْنِ الْوَادِي عَلَى طَرَفِ دُرْجِ طُورِ زِيتَا الْمُقَنْطَرَةِ، الَّتِي عَلَى يَمِينِ الْوَادِي عَلَى الصَّفَا الْمُتَعَرِّضَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، عَلَيْهَا يُذْبَحُ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ، فَالْخَائِبُ مَنْ خَابَ يَوْمَ كَلْبٍ حَتَّى تُبَاعَ الْعَذْرَاءُ بِثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: لَا يَخْرُجُ المهدي حَتَّى يَقُومَ السفياني عَلَى أَعْوَادِهَا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: المهدي يُبْعَثُ بِقِتَالِ الرُّومِ يُعْطَى مَعَهُ عَشَرَةٌ، يَسْتَخْرِجُ تَابُوتَ السَّكِينَةِ مِنْ غَارِ أَنْطَاكِيَةَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ المهدي ; لِأَنَّهُ يَهْدِي لِأَمْرٍ قَدْ خَفِيَ يَسْتَخْرِجُ التَّابُوتَ مِنْ أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا أَنْطَاكِيَةَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ عبد الله بن شريك قَالَ: مَعَ المهدي رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُعَلَّمَةُ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ ابن سيرين قَالَ: عَلَى رَايَةِ المهدي مَكْتُوبٌ الْبَيْعَةُ لِلَّهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ طَاوُوسٍ قَالَ: عَلَامَةُ المهدي أَنْ يَكُونَ شَدِيدًا عَلَى الْعُمَّالِ، جَوَادًا بِالْمَالِ، رَحِيمًا بِالْمَسَاكِينِ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ علي قَالَ: تَكُونُ فِتَنٌ، ثُمَّ تَكُونُ جَمَاعَةٌ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَلَاقٌ فَيُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ فَيَقُومُ المهدي. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ ضمرة عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ: لَا يَخْرُجُ المهدي حَتَّى لَا يَبْقَى قَيْلٌ، وَلَا ابْنُ قَيْلٍ إِلَّا هَلَكَ - وَالْقَيْلُ: الرَّأْسُ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أبي قبيل قَالَ: يُمَلَّكُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَيَقْتُلُ بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ، لَا يَقْتُلُ غَيْرَهُمْ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَيَقْتُلُ لِكُلِّ رَجُلٍ اثْنَيْنِ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا النِّسَاءُ، ثُمَّ يَخْرُجُ المهدي. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: تَكُونُ فِتْنَةٌ كَانَ أَوَّلَهَا لَعِبُ الصِّبْيَانِ، كُلَّمَا سَكَنَتْ مِنْ جَانِبٍ طَمَتْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَلَا تَتَنَاهَى حَتَّى يُنَادِيَ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَلَا إِنَّ الْأَمِيرَ فُلَانٌ ذَلِكُمُ الْأَمِيرُ حَقًّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أبي جعفر قَالَ: يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّ الْحَقَّ فِي آلِ مُحَمَّدٍ، وَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ الْأَرْضِ: إِنَّ الْحَقَّ فِي آلِ عِيسَى، أَوْ قَالَ العباس شَكَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا الصَّوْتُ الْأَسْفَلُ كَلِمَةُ الشَّيْطَانِ، وَالصَّوْتُ الْأَعْلَى كَلِمَةُ اللَّهِ الْعُلْيَا. وَأَخْرَجَ عَنْ إسحاق بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 يحيى عَنْ أُمِّهِ وَكَانَتْ قَدِيمَةً قَالَ: قُلْتُ لَهَا فِي فِتْنَةِ ابن الزبير: إِنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ تُهْلِكُ النَّاسَ، قَالَتْ: كَلَّا يَا بُنَيَّ، وَلَكِنَّ بَعْدَهَا فِتْنَةً تُهْلِكُ النَّاسَ، لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ حَتَّى يُنَادِيَ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْكُمْ بِفُلَانٍ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فِي الْمُحَرَّمِ يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَلَا إِنَّ صَفْوَةَ اللَّهِ فُلَانٌ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فِي سِنِّهِ الضَّرْبُ وَالْمَعْمَعَةُ» ". وَأَخْرَجَ (ك) عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: إِذَا قُتِلَ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ، وَآخِرُهُ تُقْتَلُ بِمَكَّةَ صَنِيعَةً نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: إِنَّ أَمِيرَكُمْ فُلَانٌ وَذَلِكَ المهدي الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ خِصْبًا وَعَدْلًا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: يَكُونُ فُرْقَةٌ وَاخْتِلَافٌ حَتَّى يَطَّلِعَ كَفٌّ مِنَ السَّمَاءِ، وَيُنَادِيَ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: إِنَّ أَمِيرَكُمْ فُلَانٌ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: [إِذَا] الْتَقَى السفياني والمهدي لِلْقِتَالِ يَوْمَئِذٍ يُسْمَعُ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ أَصْحَابُ فُلَانٍ -يَعْنِي المهدي - وَقَالَتْ أسماء بنت عميس: إِنَّ أَمَارَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ كَفًّا مِنَ السَّمَاءِ مُدَلَّاةٌ، يَنْظُرُ إِلَيْهَا النَّاسُ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ الحكم بن نافع قَالَ: إِذَا كَانَ النَّاسُ بِمَنًى وَعَرَفَاتٍ نَادَى مُنَادٍ بَعْدَ أَنْ تَتَحَارَبَ الْقَبَائِلُ: أَلَا إِنَّ أَمِيرَكُمْ فُلَانٌ، وَيَتْبَعُهُ صَوْتٌ آخَرُ أَلَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَ، فَيَقْتَتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَجُلُّ سِلَاحِهِمُ الْبَرَادِعُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَرَوْنَ كَفًّا مُعَلَّمَةً فِي السَّمَاءِ، وَيَشْتَدُّ الْقِتَالُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ أَنْصَارِ الْحَقِّ إِلَّا عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ، فَيَذْهَبُونَ حَتَّى يُبَايِعُوا صَاحِبَهُمْ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: يَحُجُّ النَّاسُ مَعًا، وَيُعَرِّفُونَ مَعًا عَلَى غَيْرِ إِمَامٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ نُزُولٌ بِمِنًى إِذْ أَخَذَهُمْ كَالْكَلْبِ، فَثَارَتِ الْقَبَائِلُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَاقْتَتَلُوا حَتَّى تَسِيلَ الْعَقَبَةُ دَمًا، فَيَفْزَعُونَ إِلَى خَيْرِهِمْ، فَيَأْتُونَهُ وَهُوَ مُلْصِقٌ وَجْهَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَبْكِي، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى دُمُوعِهِ، فَيَقُولُونَ: هَلُمَّ إِلَيْنَا فَلْنُبَايِعْكَ، فَيَقُولُ: وَيْحَكُمْ كَمْ مِنْ عَهْدٍ نَقَضْتُمُوهُ، وَكَمْ مِنْ دَمٍ سَفَكْتُمُوهُ، فَيُبَايِعُ كُرْهًا، فَإِنْ أَدْرَكْتُمُوهُ فَبَايِعُوهُ ; فَإِنَّهُ المهدي فِي الْأَرْضِ والمهدي فِي السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُبْعَثُ المهدي بَعْدَ إِيَاسٍ، وَحَتَّى يَقُولَ النَّاسُ: لَا مهدي، وَأَنْصَارُهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، عَدَدُهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا عَدَدُ أَصْحَابِ بَدْرٍ، يَسِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّامِ حَتَّى يَسْتَخْرِجُوهُ مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ مِنْ دَارٍ عِنْدَ الصَّفَا، فَيُبَايِعُوهُ كُرْهًا، فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَقَامِ، يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يُبَايَعُ المهدي بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، لَا يُوقِظُ نَائِمًا وَلَا يُهْرِيقُ دَمًا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ المهدي مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَيَسْتَخْرِجُهُ النَّاسُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَهُوَ كَارِهٌ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ علي قَالَ: إِذَا خَرَجَتِ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنَ السفياني الَّتِي فِيهَا شعيب بن صالح تَمَنَّى النَّاسُ المهدي، فَيَطْلُبُونَهُ فَيَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَمَعَهُ رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَيْأَسَ النَّاسُ مِنْ خُرُوجِهِ ; لِمَا طَالَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَلَايَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ انْصَرَفَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَحَّ الْبَلَاءُ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَبِأَهْلِ بَيْتِهِ خَاصَّةً فَهُوَ بَاغٍ بَغَى عَلَيْنَا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ قَتَادَةُ: المهدي خَيْرُ النَّاسِ، أَهْلُ نُصْرَتِهِ وَبَيْعَتِهِ مِنْ أَهْلِ كُوفَانَ وَالْيَمَنِ وَأَبْدَالِ الشَّامِ، مُقَدِّمَتُهُ جِبْرِيلُ، وَسَاقَتُهُ مِيكَائِيلُ، مَحْبُوبٌ فِي الْخَلَائِقِ، يُطْفِئُ اللَّهُ بِهِ الْفِتْنَةَ الْعَمْيَاءَ، وَتَأْمَنُ الْأَرْضُ حَتَّى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَتَحُجُّ فِي خَمْسِ نِسْوَةٍ مَا مَعَهُنَّ رَجُلٌ، لَا تَتَّقِي شَيْئًا إِلَّا اللَّهَ، تُعْطِي الْأَرْضُ زَكَاتَهَا وَالسَّمَاءُ بَرَكَتَهَا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ مطر أَنَّهُ ذَكَرَ عِنْدَهُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ المهدي يَصْنَعُ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قُلْنَا: مَا هُوَ؟ قَالَ: يَأْتِيهِ [رَجُلٌ] فَيَسْأَلُهُ، فَيَقُولُ: ادْخُلْ بَيْتَ الْمَالِ فَخُذْ، فَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، وَيَرَى النَّاسَ شِبَاعًا، فَيَنْدَمُ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَيَقُولُ: خُذْ مَا أَعْطَيْتَنِي فَيَأْبَى، وَيَقُولُ: إِنَّا نُعْطِي وَلَا نَأْخُذُ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: إِنِّي أَجِدُ المهدي مَكْتُوبًا فِي أَسْفَارِ الْأَنْبِيَاءِ، مَا فِي عَمَلِهِ ظُلْمٌ وَلَا عَيْبٌ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ضمرة عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِتْنَةً تَكُونُ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَاجْلِسُوا فِي بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْمَعُوا عَلَى النَّاسِ بِخَيْرٍ مِنْ أبي بكر، وعمر، قِيلَ: أَفَيَأْتِي خَيْرٌ مِنْ أبي بكر وعمر؟ قَالَ: قَدْ كَانَ يُفَضَّلُ عَلَى بَعْضٍ، قُلْتُ: فِي هَذَا مَا فِيهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ فِي بَابِ المهدي: حَدَّثَنَا أبو أسامة عَنْ عون، عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 محمد - هو ابن سيرين - قَالَ: يَكُونُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ خَلِيفَةٌ لَا يَفْضُلُ عَلَيْهِ أبو بكر وَلَا عمر، قُلْتُ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا اللَّفْظُ أَخَفُّ مِنَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَالْأَوْجَهُ عِنْدِي: تَأْوِيلُ اللَّفْظَيْنِ عَلَى مَا أُوِّلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ، بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ; لِشِدَّةِ الْفِتَنِ فِي زَمَانِ المهدي، وَتَمَالُؤُ الرُّومِ بِأَسْرِهَا عَلَيْهِ وَمُحَاصَرَةُ الدَّجَّالِ لَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا التَّفْضِيلِ الرَّاجِعِ إِلَى زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَالرِّفْعَةِ عِنْدَ اللَّهِ، فَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ أبا بكر، وعمر أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ. وَأَخْرَجَ (ك) نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَأْوِي إِلَى المهدي أُمَّتُهُ، كَمَا تَأْوِي النَّحْلُ إِلَى يَعْسُوبِهَا، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِمُ الْأَوَّلِ، لَا يُوقِظُ نَائِمًا، وَلَا يُهْرِيقُ دَمًا» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ قَوْمًا، فَقَالَ: الْمَهْدِيُّونَ ثَلَاثَةٌ: مَهْدِيُّ الْخَيْرِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَهْدِيُّ الدَّمِ وَهُوَ الَّذِي تَسْكُنُ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ، وَمَهْدَيُّ الدِّينِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، تَسْلَمُ أُمَّتُهُ فِي زَمَانِهِ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: مَهْدِيُّ الْخَيْرِ يَخْرُجُ بَعْدَ السفياني. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ طَاوُوسٍ قَالَ: إِذَا كَانَ المهدي يَبْذُلُ الْمَالَ، وَيَشْتَدُّ عَلَى الْعُمَّالِ، وَيَرْحَمُ الْمَسَاكِينَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ طَاوُوسٍ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي لَا أَمُوتُ حَتَّى أُدْرِكَ زَمَانَ المهدي، يُزَادُ لِلْمُحْسِنِ فِي إِحْسَانِهِ، وَيُثَابُ فِيهِ عَلَى الْمُسِيءِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الْمَهْدِيُّ يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ وَلَجَ الْبَيْتَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَدَعُ خَزَائِنَ الْبَيْتِ وَمَا فِيهِ مِنَ السِّلَاحِ وَالْمَالِ، أَوْ أُقَسِّمُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: امْضِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَسْتَ بِصَاحِبِهِ، إِنَّمَا صَاحِبُهُ مِنَّا شَابٌّ مِنْ قُرَيْشٍ، يُقَسِّمُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: لِوَاءٌ يَعْقِدُهُ المهدي، يَبْعَثُهُ إِلَى التُّرْكِ فَيَهْزِمُهُمْ، وَيَأْخُذُ مَا مَعَهُمْ مِنَ السَّبْيِ وَالْأَمْوَالِ، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى الشَّامِ فَيَفْتَحُهَا، ثُمَّ يُعْتِقُ كُلَّ مَمْلُوكٍ مَعَهُ وَيُعْطِي أَصْحَابُهُ قِيمَتَهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ: يَتَمَنَّى فِي زَمَانِ المهدي الصَّغِيرُ الْكِبَرَ، وَالْكَبِيرُ الصِّغَرَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ صباح قَالَ: يَمْكُثُ المهدي فِيهِمْ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، يَقُولُ الصَّغِيرُ: يَا لَيْتَنِي كَبِرْتُ، وَيَقُولُ الْكَبِيرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَغِيرًا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: المهدي يَنْزِلُ عَلَيْهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَيُصَلِّي خَلْفَهُ عِيسَى. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: المهدي مِنْ وَلَدِ العباس. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: المهدي مِنْ وَلَدِ فاطمة. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: مَا المهدي إِلَّا مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَا الْخِلَافَةُ إِلَّا فِيهِمْ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ علي قَالَ: المهدي رَجُلٌ مِنَّا مِنْ وَلَدِ فاطمة. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: المهدي الَّذِي يَقُولُونَ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا قِيلَ لَهُ: المهدي. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أرطاة قَالَ: يَبْقَى المهدي أَرْبَعِينَ عَامًا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: حَيَاةُ المهدي ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِمْيَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يَمْلِكُ المهدي سَبْعَ سِنِينَ وَشَهْرَيْنِ وَأَيَّامًا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ دينار قَالَ: بَقَاءُ المهدي أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يَعِيشُ المهدي أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ يَمُوتُ مَوْتًا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ علي قَالَ: يَلِي المهدي أَمْرَ النَّاسِ ثَلَاثِينَ، أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: يَمُوتُ المهدي مَوْتًا، ثُمَّ يَلِي النَّاسَ بَعْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فِيهِ خَيْرٌ وَشَرٌّ، وَشَرُّهُ أَكْثَرُ مِنْ خَيْرِهِ، يَغْصِبُ النَّاسَ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْفُرْقَةِ بَعْدَ الْجَمَاعَةِ، بَقَاؤُهُ قَلِيلٌ، يَثُورُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَقْتُلُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يَمُوتُ المهدي مَوْتًا، ثُمَّ يَصِيرُ النَّاسُ بَعْدَهُ فِي فِتْنَةٍ، وَيُقْبِلُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَيُبَايِعُ لَهُ، فَيَمْكُثُ زَمَانًا، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ بِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ: بَايِعُوا فُلَانًا وَلَا تَرْجِعُوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَيَنْظُرُونَ فَلَا يَعْرِفُونَ الرَّجُلَ، ثُمَّ يُنَادِي ثَلَاثًا، ثُمَّ يُبَايِعُ المنصور، فَيَصِيرُ إِلَى المخزومي فَيَنْصُرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقْتُلُهُ وَمَنْ مَعَهُ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: " يَتَوَلَّى رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، ثُمَّ رَجُلٌ مِنَ الْمَوَالِي، ثُمَّ يَسِيرُ رَجُلٌ مِنَ الْمَغْرِبِ رَجُلٌ جَسِيمٌ طَوِيلٌ عَرِيضُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، فَيَقْتُلُ مَنْ لَقِيَهُ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَيَمُوتُ مَوْتًا، فَتَكُونُ الدُّنْيَا شَرًّا مِمَّا كَانَتْ، ثُمَّ يَلِي بَعْدَهُ رَجُلٌ مِنْ مُضَرَ يَقْتُلُ أَهْلَ الصَّلَاحِ ظَلُومٌ غَشُومٌ، ثُمَّ يَلِي مِنْ بَعْدِ الْمُضَرِيِّ الْعُمَانِيُّ القحطاني، يَسِيرُ سِيرَةَ أَخِيهِ المهدي، وَعَلَى يَدَيْهِ تُفْتَحُ مَدِينَةُ الرُّومِ ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ الوليد عَنْ معمر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا القحطاني بِدُونِ المهدي» ". وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: بَعْدَ الْجَبَابِرَةِ الجابر، ثُمَّ المهدي، ثُمَّ المنصور، ثُمَّ السُّلَّمُ، ثُمَّ أَمِيرُ الْعُصَبِ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنِ ابن عمرو أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَمَنِ، يَقُولُونَ: إِنَّ المنصور مِنْكُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَقُرَشِيٌّ أَبُوهُ، وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ أُسَمِّيَهُ إِلَى أَقْصَى جِدٍّ هُوَ لَهُ لَفَعَلْتُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قيس بن جابر الصدفي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «سَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي رَجُلٌ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ القحطاني وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا هُوَ دُونَهُ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أرطاة قَالَ: يَنْزِلُ المهدي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَكُونُ خَلَفٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بَعْدَهُ تَطُولُ مُدَّتُهُمْ، وَيُخْبِرُونَ حَتَّى يُصَلِّيَ النَّاسُ عَلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، فَلَا يَزَالُ النَّاسُ كَذَلِكَ حَتَّى يَغْزُوَ مَعَ وَالِيهِمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ، يُسَلِّمُهَا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَلَا يَزَالُ النَّاسُ فِي رَخَاءٍ مَا لَمْ يُنْتَقَصْ مُلْكُ بَنِي الْعَبَّاسِ، فَإِذَا انْتُقِصَ مُلْكُهُمْ لَمْ يَزَالُوا فِي فِتَنٍ حَتَّى يَقُومَ المهدي. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: ثَلَاثَةُ أُمَرَاءَ يَتَوَالَوْنَ، تُفْتَحُ كُلُّهَا عَلَيْهِمْ، كُلُّهُمْ صَالِحٌ: الجابر، ثُمَّ المفرج، ثُمَّ ذو العصب يَمْكُثُونَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا بَعْدَهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ سليمان بن عيسى قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ المهدي يَمْكُثُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ يَمُوتُ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِ تُبَّعٍ، يُقَالُ لَهُ المنصور، يَمْكُثُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُقْتَلُ، ثُمَّ يَمْلِكُ الْمَوْلَى يَمْكُثُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ يُقْتَلُ، ثُمَّ يَمْلِكُ بَعْدَهُ هشيم المهدي ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ كعب قَالَ: يَكُونُ بَعْدَ المهدي خَلِيفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ قَحْطَانَ أَخُو المهدي فِي دِينِهِ، يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَفْتَحُ مَدِينَةَ الرُّومِ، وَيُصِيبُ غَنَائِمَهَا. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ أرطاة قَالَ: يَكُونُ بَيْنَ المهدي وَبَيْنَ الرُّومِ هُدْنَةٌ، ثُمَّ يَهْلِكُ المهدي، ثُمَّ يَلِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يَعْدِلُ قَلِيلًا ثُمَّ يُقْتَلُ. وَأَخْرَجَ (ك) أَيْضًا عَنْ قيس بن جابر الصدفي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «القحطاني بَعْدَ المهدي وَمَا هُوَ دُونَهُ» ". وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أرطاة قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ المهدي يَعِيشُ أَرْبَعِينَ عَامًا، ثُمَّ يَمُوتُ عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ مَثْقُوبُ الْأُذُنَيْنِ عَلَى سِيرَةِ المهدي، بَقَاؤُهُ عِشْرُونَ سَنَةً، ثُمَّ يَمُوتُ قَتِيلًا بِالسِّلَاحِ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْدِيٌّ، حَسَنُ السِّيرَةِ، يَغْزُو مَدِينَةَ قَيْصَرَ، وَهُوَ آخِرُ أَمِيرٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَخْرُجُ فِي زَمَانِهِ الدَّجَّالُ، وَيَنْزِلُ فِي زَمَانِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. هَذِهِ الْآثَارُ كُلُّهَا لَخَّصْتُهَا مِنْ كِتَابِ الْفِتَنِ لِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ، وَأَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ. وَبَقِيَ مِنْ أَخْبَارِ المهدي مَا أَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَكُونُ فِي أُمَّتِي المهدي إِنْ طَالَ عُمُرُهُ أَوْ قَصُرَ عُمُرُهُ، مَلَكَ سَبْعَ سِنِينَ، أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ، أَوْ تِسْعَ سِنِينَ فَيَمْلَأُهَا قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وَتُمْطِرُ السَّمَاءُ مَطَرَهَا، وَتُخْرِجُ الْأَرْضُ بَرَكَتَهَا، وَتَعِيشُ أُمَّتِي فِي زَمَانِهِ عَيْشًا لَمْ تَعِشْهُ قَبْلَ ذَلِكَ» ". وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَمْضِي الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى يَلِيَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ فَتًى لَمْ يَلْبِسْهُ الْفِتَنُ، وَلَمْ يَلْبِسْهَا، قِيلَ يَا أبا العباس: يَعْجِزُ عَنْهَا مَشْيَخَتُكُمْ وَيَنَالُهَا شَبَابُكُمْ؟ قَالَ: هُوَ أَمْرُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حكيم بن سعد قَالَ: لَمَّا قَامَ سليمان، فَأَظْهَرَ مَا أَظْهَرَ قُلْتُ لأبي يحيى: هَذَا المهدي الَّذِي يُذْكَرُ؟ قَالَ: لَا. وَأَخْرَجَ (ك) ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ المهدي؟ قَالَ: قَدْ كَانَ مَهْدِيًّا، وَلَيْسَ بِهِ، إِنَّ المهدي إِذَا كَانَ زِيدَ [الْمُحْسِنُ] فِي إِحْسَانِهِ، وَيُكْتَبُ عَلَى الْمُسِيءِ مِنْ إِسَاءَتِهِ، وَهُوَ يُبَدِّلُ الْمَالَ، وَيَشْتَدُّ عَلَى الْعُمَّالِ، وَيَرْحَمُ الْمَسَاكِينَ. وَأَخْرَجَ (ك) أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ هُوَ المهدي؟ قَالَ: هُوَ مَهْدِيٌّ، وَلَيْسَ بِهِ، إِنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْعَدْلَ كُلَّهُ، وَأَخْرَجَ المحاملي فِي آمَالِيهِ، عَنْ أبي جعفر محمد بن علي بن حسين قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنِّي أَنَا المهدي، وَأَنِّي إِلَى أَجْلِي أَدْنَى مِنِّي إِلَى مَا يَدَّعُونَ. وَأَخْرَجَ (ك) أَبُو عُمَرَ الدَّانِي فِي سُنَنِهِ عَنْ حذيفة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَلْتَفِتُ المهدي وَقَدْ نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، كَأَنَّمَا يَقْطُرُ مِنْ شِعْرِهِ الْمَاءُ، فَيَقُولُ المهدي: تَقَدَّمْ صِلِّ بِالنَّاسِ، فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّمَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَكَ، فَيُصَلِّي خَلْفَ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِي» " الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ (ك) ابن الجوزي فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَلَكَ الْأَرْضَ أَرْبَعَةً: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَالْمُؤْمِنَانِ: ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَسُلَيْمَانُ، وَالْكَافِرَانِ: نمروذ، وبخت نصر، وَسَيَمْلِكُهَا خَامِسٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي فِي سُنَنِهِ عَنِ ابن شوذب قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ المهدي ; لِأَنَّهُ يُهْدَى إِلَى جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الشَّامِ، يَسْتَخْرِجُ مِنْهُ أَسْفَارَ التَّوْرَاةِ، يُحَاجُّ بِهَا الْيَهُودَ، فَيُسْلِمُ عَلَى يَدَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ. وَأَخْرَجَ (ك) الدَّانِي عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: قُلْتُ لمحمد بن علي: سَمِعْنَا أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْكُمْ رَجُلٌ يَعْدِلُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالَ: إِنَّا نَرْجُو مَا يَرْجُو النَّاسُ، وَإِنَّا نَرْجُو لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَكُونَ مَا تَرْجُو هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَقَبْلَ ذَلِكَ فِتْنَةٌ شَرُّ فِتْنَةٍ، يُمْسِي الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، وَيُصْبِحُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَلْيَكُنْ مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ. وَأَخْرَجَ (ك) الدَّانِي عَنْ سلمة بن زفر قَالَ: قِيلَ يَوْمًا عِنْدَ حذيفة: قَدْ خَرَجَ المهدي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 فَقَالَ: لَقَدْ أَفْلَحْتُمْ إِنْ خَرَجَ وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ بَيْنَكُمْ، إِنَّهُ لَا يَخْرُجُ حَتَّى لَا يَكُونَ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَى النَّاسِ مِنْهُ مِمَّا يَلْقَوْنَ مِنَ الشَّرِّ. وَأَخْرَجَ (ك) الدَّانِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يُجَاءُ إِلَى المهدي فِي بَيْتِهِ، وَالنَّاسُ فِي فِتْنَةٍ يُهْرَاقُ فِيهَا الدِّمَاءُ، يُقَالُ لَهُ: قُمْ عَلَيْنَا، فَيَأْبَى حَتَّى يُخَوَّفَ بِالْقَتْلِ، فَإِذَا خُوِّفَ بِالْقَتْلِ قَامَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يُهْرَاقُ بِسَبَبِهِ مِحْجَمَةُ دَمٍ. وَأَخْرَجَ (ك) الدَّانِي عَنْ حذيفة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَكُونُ وَقْعَةٌ بِالزَّوْرَاءِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الزَّوْرَاءُ؟ قَالَ: مَدِينَةٌ بِالْمَشْرِقِ بَيْنَ أَنْهَارٍ، يَسْكُنُهَا شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ، وَجَبَابِرَةٌ مِنْ أُمَّتِي، يُقْذَفُ بِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الْعَذَابِ بِالسَّيْفِ، وَخَسْفٌ وَقَذْفٌ وَمَسْخٌ» ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا خَرَجَتِ السُّودَانُ طَلَبَتِ الْعَرَبَ مَكْشُوفُونَ حَتَّى يَلْحَقُوا بِبَطْنِ الْأَرْضِ، أَوْ قَالَ: بِبَطْنِ الْأُرْدُنِّ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ السفياني فِي سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ حَتَّى يَأْتِيَ دِمَشْقَ، فَلَا يَأْتِي عَلَيْهِمْ شَهْرٌ حَتَّى يُتَابِعَهُ مِنْ كَلْبٍ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، فَيَبْعَثُ جَيْشًا إِلَى الْعِرَاقِ فَيَقْتُلُ بِالزَّوْرَاءِ مِائَةَ أَلْفٍ، وَيَنْجَرُّونَ إِلَى الْكُوفَةِ فَيَنْهَبُونَهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَخْرُجُ رَايَةٌ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَيَقُودُهَا رَجُلٌ مِنْ تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ شعيب بن صالح، فَيَسْتَنْقِذُ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ سَبْيِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَيَقْتُلُهُمْ، وَيَخْرُجُ جَيْشٌ آخَرُ مِنْ جُيُوشِ السفياني إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَنْهَبُونَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَسِيرُونَ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ، فَيَقُولُ: يَا جِبْرِيلُ عَذِّبْهُمْ، فَيَضْرِبُهُمْ بِرِجْلِهِ ضَرْبَةً يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ فَيَقْدَمَانِ عَلَى السفياني، فَيُخْبِرَانِهِ بِخَسْفِ الْجَيْشِ فَلَا يَهُولُهُ، ثُمَّ إِنْ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ يَهْرُبُونَ إِلَى قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَيَبْعَثُ السفياني إِلَى عَظِيمِ الرُّومِ أَنْ يَبْعَثَ بِهِمْ فِي الْمَجَامِعِ، فَيَبْعَثُ بِهِمْ إِلَيْهِ، فَيَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ بِدِمَشْقَ - قَالَ حذيفة -: حَتَّى إِنَّهُ يُطَافُ بِالْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فِي الثَّوْبِ عَلَى مَجْلِسٍ مَجْلِسٍ، حَتَّى تَأْتِيَ فَخْذَ السفياني، فَتَجْلِسُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمِحْرَابِ قَاعِدٌ، فَيَقُومُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَقُولُ: وَيْحَكُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؟ إِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، فَيَقُومُ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ، وَيَقْتُلُ كُلَّ مَنْ شَايَعَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَطَعَ عَنْكُمْ مُدَّةَ الْجَبَّارِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَشْيَاعِهِمْ، وَوَلَّاكُمْ خَيْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْحَقُوا بِهِ بمكة ; فَإِنَّهُ المهدي، وَاسْمُهُ أحمد بن عبد الله - قَالَ حذيفة -: فَقَامَ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ لَنَا حَتَّى نَعْرِفَهُ؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِي، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَيْهِ عَبَاءَتَانِ قَطَوَانِيَّتَانِ، كَأَنَّ وَجْهَهُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ، فِي خَدِّهِ الْأَيْمَنِ خَالٌ أَسْوَدُ، ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَيَخْرُجُ الْأَبْدَالُ مِنَ الشَّامِ وَأَشْبَاهُهُمْ، وَيَخْرُجُ إِلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 النُّجَبَاءُ مِنْ مِصْرَ، وَعَصَائِبُ أَهْلِ الشَّرْقِ وَأَشْبَاهُهُمْ حَتَّى يَأْتُوا مَكَّةَ فَيُبَايَعُ لَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، ثُمَّ يَخْرُجُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الشَّامِ، وَجِبْرِيلُ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ، وَمِيكَائِيلُ عَلَى سَاقَتِهِ، فَيَفْرَحُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَالطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ وَالْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَتَزِيدُ الْمِيَاهُ فِي دَوْلَتِهِ، وَتُمَدُّ الْأَنْهَارُ، وَتُضْعِفُ الْأَرْضُ أَهْلَهَا، وَتُسْتَخْرَجُ الْكُنُوزُ، فَيَقْدَمُ الشَّامَ فَيَذْبَحُ السفياني تَحْتَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَغْصَانُهَا إِلَى بُحَيْرَةِ طَبَرَيَّةَ، وَيَقْتُلُ كَلْبًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَالْخَائِبُ مَنْ خَابَ يَوْمَ كَلْبٍ وَلَوْ بِعِقَالٍ، قَالَ حذيفة: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَحِلُّ قِتَالُهُمْ وَهُمْ مُوَحِّدُونَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا حذيفة، هُمْ يَوْمَئِذٍ عَلَى رِدَّةٍ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ وَلَا يُصَلُّونَ» ". وَأَخْرَجَ (ك) الدَّانِي عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «سَيَكُونُ فِي رَمَضَانَ صَوْتٌ، وَفِي شَوَّالَ مَعْمَعَةٌ، وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ تُحَارِبُ الْقَبَائِلُ، وَعَلَامَتُهُ يُنْهَبُ الْحَاجُّ، وَتَكُونُ مَلْحَمَةٌ بِمِنًى تَكْثُرُ فِيهَا الْقَتْلَى، وَتَسِيلُ فِيهَا الدِّمَاءُ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُهُمْ عَلَى الْجَمْرَةِ، حَتَّى يَهْرُبَ صَاحِبُهُمْ، فَيُؤْتَى بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَيُبَايَعُ وَهُوَ كَارِهٌ، وَيُقَالُ لَهُ: إِنْ أَبَيْتَ ضَرَبْنَا عُنُقَكَ، يَرْضَى بِهِ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الْأَرْضِ» ". وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ كعب قَالَ: يَطْلُعُ نَجْمٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَبْلَ خُرُوجِ المهدي، لَهُ ذَنَبٌ يُضِيءُ. وَأَخْرَجَ نعيم عَنْ شريك قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَبْلَ خُرُوجِ المهدي يَنْكَسِفُ الْقَمَرُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَرَّتَيْنِ. وَأَخْرَجَ أبو غنم الكوفي فِي كِتَابِ الْفِتَنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: وَيْحًا لِلطَّالَقَانِ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِيهِ كُنُوزًا لَيْسَتْ مِنَ الذَّهَبِ وَلَا فِضَّةً، وَلَكِنْ بِهَا رِجَالٌ عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَهُمْ أَنْصَارُ المهدي آخِرَ الزَّمَانِ. وَأَخْرَجَ أبو بكر الإسكاف فِي فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَذَّبَ بِالدَّجَّالِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ كَذَّبَ بالمهدي فَقَدْ كَفَرَ» ". وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ جعفر بن يسار الشامي قَالَ: يَبْلُغُ رَدُّ المهدي الْمَظَالِمَ حَتَّى لَوْ كَانَ تَحْتَ ضِرْسِ إِنْسَانٍ شَيْءٌ انْتَزَعَهُ حَتَّى يَرُدَّهُ، وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ سلمان بن عيسى قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ عَلَى يَدَيِ المهدي يَظْهَرُ تَابُوتُ السَّكِينَةِ مِنْ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ حَتَّى يُحْمَلَ، فَيُوضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ الْيَهُودُ أَسْلَمَتْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ. وَفِي (ك) الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «المهدي طَاوُسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ". وَأَخْرَجَ (ك) أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي تُقَاتِلُ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَنْزِلُ عَلَى المهدي، فَيُقَالُ: تَقَدَّمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَصَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: هَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَرَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ» ". وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ خالد بن سمير قَالَ: هَرَبَ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ مِنَ الْمُخْتَارِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَانَ النَّاسُ يَرَوْنَ فِي زَمَانِهِ أَنَّهُ المهدي. وَأَخْرَجَ نعيم عَنْ صباح قَالَ: لَا خِلَافَةَ بَعْدَ حَمْلِ بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى يَخْرُجَ المهدي. وَأَخْرَجَ نعيم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: وَجَدْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَصَبْتُمُ اسْمَهُ، عُمَرُ الْفَارُوقُ قَرْنٌ مِنْ حَدِيدٍ أَصَبْتُمُ اسْمَهُ، عُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ أَوْ فِي كِفْلَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ ; لِأَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا أَصَبْتُمُ اسْمَهُ، ثُمَّ يَكُونُ سَفَّاحٌ، ثُمَّ يَكُونُ مَنْصُورٌ، ثُمَّ يَكُونُ الْأَمِينُ، ثُمَّ يَكُونُ مَهْدِيٌّ، ثُمَّ يَكُونُ سَيْفٌ وَسَلَامٌ - يَعْنِي صَلَاحًا وَعَافِيَةً - ثُمَّ يَكُونُ أَمِيرُ الْعُصَبِ سِتَّةٌ مِنْهُمْ مِنْ وَلَدِ كعب بن لؤي، وَرَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ، كُلُّهُمْ صَالِحٌ لَا يُرَى مِثْلُهُ. وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: يَكُونُ بَعْدَ الْجَبَّارِينَ الجابر، يَجْبُرُ اللَّهُ بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ المهدي، ثُمَّ المنصور، ثُمَّ السلام، ثُمَّ أمير العصب، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْمَوْتِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَمُتْ. وَأَخْرَجَ نعيم مِنْ طَرِيقِ علي بن أبي طلحة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا مَاتَ الْخَامِسُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَالْهَرَجَ فَالْهَرَجَ حَتَّى يَمُوتَ السَّابِعُ، قَالُوا: وَمَا الْهَرَجُ؟ قَالَ: الْقَتْلُ كَذَلِكَ حَتَّى يَقُومَ المهدي» ". وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ محمد بن الحنفية قَالَ: يَمْلِكُ بَنُو الْعَبَّاسِ حَتَّى يَيْأَسَ النَّاسُ مِنَ الْخَيْرِ: ثُمَّ يَتَشَعَّثُ أَمْرُهُمْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا إِلَّا جُحْرَ عَقْرَبٍ فَادْخُلُوا فِيهِ ; فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي النَّاسِ شَرٌّ طَوِيلٌ، ثُمَّ يَزُولُ مُلْكُهُمْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَيَقُومُ المهدي فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ عبد الله بن مسلم قَالَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ فِي الرَّخَاءِ مَا لَمْ يُنْقَضْ مُلْكُ بَنِي الْعَبَّاسِ، فَإِذَا انْتَقَضَ مُلْكُهُمْ لَمْ يَزَالُوا فِي فِتْنَةٍ حَتَّى يَقُومَ المهدي. وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنِ الحكم بن نافع قَالَ: يُقَاتِلُ السفياني التُّرْكَ، ثُمَّ يَكُونُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 اسْتِئْصَالُهُ عَلَى يَدِ المهدي، وَأَوَّلُ لِوَاءٍ يَعْقِدُهُ المهدي يَبْعَثُهُ إِلَى التَّرْكِ، وَقَالَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ: أَنَا الْوَاقِدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ مَعَ عبد الله بن حسين حِينَ خَرَجَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ محمد بن عبد الله، وَوَلِيَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْمَدِينَةَ بَعَثَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، فَأُتِيَ بِهِ فَبَكَّتَهُ، وَكَلَّمَهُ كَلَامًا شَدِيدًا، وَقَالَ: خَرَجْتَ مَعَ الْكَذَّابِ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ بِكَلِمَةٍ إِلَّا أَنَّهُ يُجْرِي شَفَتَيْهِ بِشَيْءٍ لَا يَدْرِي مَا هُوَ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَدْعُو، فَقَامَ مَنْ حَضَرَ جعفر بن سليمان مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَشْرَافِهِمْ، فَقَالُوا: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ عَجْلَانَ فَقِيهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَابِدُهَا، وَإِنَّمَا شُبِّهَ عَلَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ المهدي الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ، فَلَمْ يَزَالُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ حَتَّى تَرَكَهُ، فَوَلَّى مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ مُنْصَرِفًا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةٍ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ. وَأَخْرَجَ (ك) نعيم عَنْ كعب قَالَ: يُحَاصِرُ الدَّجَّالُ الْمُؤْمِنِينَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيُصِيبُهُمْ جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى يَأْكُلُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ مِنَ الْجُوعِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا صَوْتًا فِي الْغَلَسِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا لَصَوْتُ رَجُلٍ شَبْعَانَ فَيَنْظُرُونَ، فَإِذَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَتُقَامُ الصَّلَاةُ فَيَرْجِعُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ المهدي، فَيَقُولُ عِيسَى: تَقَدَّمْ فَلَكَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ يَكُونُ عِيسَى إِمَامًا بَعْدَهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادَى فِي كِتَابِ الْمَلَاحِمِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: يَكُونُ المهدي إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، أَوِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَكُونُ آخَرُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ دُونَهُ، وَهُوَ صَالِحٌ تِسْعَ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: يَهْزِمُ السفياني الْجَمَاعَةَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يَهْلِكُ وَلَا يَخْرُجُ المهدي حَتَّى يُخْسَفَ بِقَرْيَةٍ بِالْغُوطَةِ، تُسَمَّى حَرَسْتَا. وَأَخْرَجَ ابن المنادى فِي الْمَلَاحِمِ قَالَ: «لَيَخْرُجَنَّ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِي عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ، حَتَّى تَمُوتَ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَمُوتُ الْأَبْدَانُ ; لِمَا لَحِقَهُمْ مِنَ الضَّرَرِ وَالشِّدَّةِ وَالْجُوعِ وَالْقَتْلِ، وَتَوَاتُرِ الْفِتَنِ، وَالْمَلَاحِمِ الْعِظَامِ، وَإِمَاتَةِ السُّنَنِ، وَإِحْيَاءِ الْبِدَعِ، وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيُحْيِي اللَّهُ بالمهدي محمد بن عبد الله السُّنَنَ الَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ، وَتُسَرُّ بِعَدْلِهِ وَبَرَكَتِهِ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَتَأَلَّفُ إِلَيْهِ عُصَبُ الْعَجَمِ وَقَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ، فَيَبْقَى عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ لَيْسَتْ بِالْكَثِيرَةِ، دُونَ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ يَمُوتُ» ، قَالَ ابن المنادى: وَفِي كِتَابِ دانيال أَنَّ السُّفْيَانِيِّينَ ثَلَاثَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وَأَنَّ الْمَهْدِيِّينَ ثَلَاثَةٌ، فَيَخْرُجُ السفياني الْأَوَّلُ، فَإِذَا خَرَجَ وَفَشَا ذِكْرُهُ خَرَجَ عَلَيْهِ المهدي الْأَوَّلُ، ثُمَّ يَخْرُجُ السفياني الثَّانِي فَيَخْرُجُ عَلَيْهِ المهدي الثَّانِي، ثُمَّ يَخْرُجُ السفياني الثَّالِثُ فَيَخْرُجُ عَلَيْهِ المهدي الثَّالِثُ، فَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ كُلَّ مَا أَفْسَدَ قَبْلَهُ، وَيَسْتَنْقِذُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ، وَيُحْيِي بِهِ السُّنَّةَ، وَيُطْفِئُ بِهِ نِيرَانَ الْبِدْعَةِ، وَيَكُونُ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ أَعِزَّاءَ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَيَعِيشُونَ أَطْيَبَ عَيْشٍ، وَيُرْسِلُ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا، وَتُخْرِجُ الْأَرْضُ زَهْرَتَهَا وَنَبَاتَهَا فَلَا تَدَّخِرُ مِنْ نَبَاتِهَا شَيْئًا، فَيَمْكُثُ عَلَى ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يَمُوتُ. ثُمَّ قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَدَقَةَ، ثَنَا محمد بن إبراهيم أبو أمية الطرسوسي، ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، ثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عمار بن عبد الله الدهني، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: يَكُونُ المهدي إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، أَوِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ يَكُونُ آخَرُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ صَالِحٌ تِسْعَ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ (ك) ابن منده فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: المهدي شَابٌّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ. (فَصْلٌ) قَالَ عبد الغافر الفارسي فِي مَجْمَعِ الْغَرَائِبِ، وابن الجوزي فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وابن الأثير فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ علي: أَنَّهُ ذَكَرَ المهدي مِنْ وَلَدِ الحسن، فَقَالَ: إِنَّهُ أَزْيَلُ الْفَخِذَيْنِ، وَالْمُرَادُ انْفِرَاجُ فَخِذَيْهِ وَتَبَاعُدُ مَا بَيْنَهُمَا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عَقَدَ أبو داود فِي سُنَنِهِ بَابًا فِي المهدي، وَأَوْرَدَ فِي صَدْرِهِ حَدِيثَ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " «لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ» ". فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ المهدي أَحَدَ الِاثْنَيْ عَشَرَ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ إِلَى الْآنِ وُجُودُ اثْنَيْ عَشَرَ اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ. الثَّانِي: رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «المهدي مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ عَمِّي» "، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، تَفَرَّدَ بِهِ محمد بن الوليد مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 الثَّالِثُ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً، وَلَا الدُّنْيَا إِلَّا إِدْبَارًا، وَلَا النَّاسُ إِلَّا شُحًّا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، وَلَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» "، قَالَ القرطبي فِي التَّذْكِرَةِ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَالْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى خُرُوجِ المهدي مِنْ عِتْرَتِهِ مِنْ وَلَدِ فاطمة ثَابِتَةٌ، أَصَحُّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَالْحُكْمُ بِهَا دُونَهُ. وَقَالَ أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم السحري: قَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ، وَاسْتَفَاضَتْ بِكَثْرَةِ رُوَاتِهَا عَنِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجِيءِ المهدي، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَأَنَّهُ سَيَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَنَّهُ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مَعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيُسَاعِدُهُ عَلَى قَتْلِ الدَّجَّالِ بِبَابِ لُدٍّ بِأَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَأَنَّهُ يَؤُمُّ هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَعِيسَى يُصَلِّي خَلْفَهُ فِي طُولٍ مِنْ قِصَّتِهِ وَأَمْرِهِ، قَالَ القرطبي: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «وَلَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى» " أَيْ: لَا مَهْدِيَّ كَامِلًا مَعْصُومًا إِلَّا عِيسَى، قَالَ: وَعَلَى هَذَا تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ وَيَرْتَفِعُ التَّعَارُضُ، وَقَالَ ابن كثير: هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا يَظْهَرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي إِثْبَاتِ مَهْدِيٍّ غَيْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ لَا يُنَافِيهَا، بَلْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَهْدِيَّ حَقَّ الْمَهْدِيِّ هُوَ عِيسَى، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَهْدِيًّا أَيْضًا. الرَّابِعُ: أَوْرَدَ القرطبي فِي التَّذْكِرَةِ أَنَّ المهدي يَخْرُجُ مِنَ الْغَرْبِ الْأَقْصَى فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْكَشْفُ عَنْ مُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَلْفَ] [الحديث المشهور على الألسنة أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْكُثُ فِي قَبْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ] 53 - الْكَشْفُ عَنْ مُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَلْفَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ: فَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ عَنِ الْحَدِيثِ الْمُشْتَهِرِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْكُثُ فِي قَبْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَنَا أُجِيبُ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ جَاءَنِي رَجُلٌ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ - وَمَعَهُ وَرَقَةٌ بِخَطِّهِ، ذَكَرَ أَنَّهُ نَقَلَهَا مِنْ فُتْيَا أَفْتَى بِهَا بَعْضُ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ أَدْرَكْتُهُ بِالسِّنِّ، فِيهَا: أَنَّهُ اعْتَمَدَ مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ يَقَعُ فِي الْمِائَةِ الْعَاشِرَةِ خُرُوجُ المهدي وَالدَّجَّالِ، وَنُزُولُ عِيسَى وَسَائِرُ الْأَشْرَاطِ، وَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَتَمْضِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 الْأَرْبَعُونَ سَنَةً الَّتِي بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَيُنْفَخُ نَفْخَةُ الْبَعْثِ قَبْلَ تَمَامِ الْأَلْفِ، فَاسْتَبْعَدْتُ صُدُورَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعَالِمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُصَرِّحَ بِرَدِّهِ تَأَدُّبًا مَعَهُ، فَقُلْتُ: هَذَا شَيْءٌ لَا أَعْرِفُهُ، فَحَاوَلَنِي السَّائِلُ تَحْرِيرَ الْمَقَالِ فِي ذَلِكَ فَلَمْ أُبَلِّغْهُ مَقْصُودَهُ، وَقُلْتُ: جَوِّلُوا فِي النَّاسِ جَوْلَةً، فَإِنَّهُ ثَمَّ مَنْ يَنْفُخُ أَشْدَاقَهُ، وَيَدَّعِي مُنَاظَرَتِي، وَيُنْكِرُ عَلَيَّ دَعْوَايَ الِاجْتِهَادَ وَالتَّفَرُّدَ بِالْعِلْمِ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الْمِائَةِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُعَارِضُنِي، وَيَسْتَجِيشُ عَلَيَّ مَنْ لَوِ اجْتَمَعَ هُوَ وَهُمْ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَنَفَخْتُ عَلَيْهِمْ نَفْخَةً صَارُوا هَبَاءً مَنْثُورًا، فَدَارَ السَّائِلُ الْمَذْكُورُ عَلَى النَّاسِ، وَأَتَى كُلَّ ذَاكِرٍ وَنَاسٍ، وَقَصَدَ أَهْلَ النَّجْدَةِ وَالْبَاسِ، فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُزِيلُ عَنْهُ الْإِلْبَاسَ، وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةَ الْعَامِ. وَالسُّؤَالُ: بِكْرٌ لَمْ يَفُضَّ أَحَدٌ خِتَامَهَا، بَلْ وَلَا جَسَرَ جَاسِرٌ أَنْ يَحْسِرَ لِثَامَهَا، وَكُلَّمَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهَا اسْتَعْصَتْ وَامْتَنَعَتْ، وَكُلُّ مَنْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا قُطِعَتْ، وَكُلُّ مَنْ طَرَقَ سَمْعَهُ هَذَا السُّؤَالُ لَمْ يَجِدْ لَهُ بَابًا يَطْرُقُهُ غَيْرَ بَابِي، وَسَلَّمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَا كَاشِفَ لَهُ بَعْدَ لِسَانِي سِوَى وَاحِدٍ، وَهُوَ كِتَابِي، فَقَصَدَنِي الْقَاصِدُونَ فِي كَشْفِهِ، وَسَأَلَنِي الْوَارِدُونَ أَنْ أُحَبِّرَ فِيهِ مُؤَلَّفًا يَزْدَانُ بِوَصْفِهِ، فَأَجَبْتُهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَشَرَعْتُ لَهُمْ مَنْهَلًا، فَإِنْ شَاءُوا عَلُّوا، وَإِنْ شَاءُوا نَهَلُوا، وَسَمَّيْتُهُ: " الْكَشْفُ عَنْ مُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَلْفَ " فَأَقُولُ أَوَّلًا: الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ أَنَّ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ سَنَةٍ، وَلَا تَبْلُغُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ أَنْ مُدَّةَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ فِي أَوَاخِرِ الْأَلْفِ السَّادِسَةِ، وَوَرَدَ أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ، وَيَنْزِلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّ النَّاسَ يَمْكُثُونَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَأَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَهَذِهِ مِائَتَا سَنَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَالْبَاقِي الْآنَ مِنَ الْأَلْفِ مِائَةُ سَنَةٍ وَسَنَتَانِ، وَإِلَى الْآنِ لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَلَا خَرَجَ الدَّجَّالُ الَّذِي خُرُوجُهُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى بِسَنَتَيْنِ، وَلَا ظَهَرَ المهدي الَّذِي ظُهُورُهُ قَبْلَ الدَّجَّالِ بِسَبْعِ سِنِينَ، وَلَا وَقَعَتِ الْأَشْرَاطُ الَّتِي قَبْلَ ظُهُورِ المهدي، وَلَا بَقِيَ يُمْكِنُ خُرُوجُ الدَّجَّالِ عَنْ قَرِيبٍ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ، وَقَبْلَهُ مُقَدِّمَاتٌ تَكُونُ فِي سِنِينَ كَثِيرَةٍ، فَأَقَلُّ مَا يَكُونُ أَنْ يَجُوزَ خُرُوجُهُ عَلَى رَأْسِ الْأَلْفِ، أَيْ: لَمْ يَتَأَخَّرْ إِلَى مِائَةٍ بَعْدَهَا، فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ قَبْلَ تَمَامِ أَلْفِ سَنَةٍ؟ هَذَا شَيْءٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ، بَلِ اتَّفَقَ خُرُوجُ " الدَّجَّالِ " عَلَى رَأْسِ أَلْفٍ، وَهُوَ الَّذِي أَبْدَاهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ احْتِمَالًا، مَكَثَتِ الدُّنْيَا بَعْدَهُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ، الْمِائَتَيْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَالْبَاقِي مَا بَيْنَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 مَغْرِبِهَا، وَلَا نَدْرِي كَمْ هُوَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الدَّجَّالُ عَنْ رَأْسِ أَلْفٍ إِلَى مِائَةٍ أُخْرَى كَانَتِ الْمُدَّةُ أَكْثَرَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ أَصْلًا، وَهَا أَنَا أَذْكُرُ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ الَّتِي اعْتَمَدْتُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ. [ذِكْرُ مَا وَرَدَ أَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ] وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ فِي أَوَاخِرِ الْأَلْفِ السَّادِسَةِ قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ: حَدَّثَنَا صالح بن أحمد بن أبي محمد، حَدَّثَنَا يعلى بن هلال عَنْ ليث، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّمَا الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ مَاتُوا عَلَيْهَا، وَهُمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ جَهَنَّمَ، لَا تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ، وَلَا تَزْرَقُّ عُيُونُهُمْ، وَلَا يُغَلُّونَ بِالْأَغْلَالِ، وَلَا يُقْرَنُونَ مَعَ الشَّيَاطِينِ، وَلَا يُضْرَبُونَ بِالْمَقَامِعِ، وَلَا يُطْرَحُونَ فِي الْأَدْرَاكِ، مِنْهُمْ مَنْ يَمْكُثُ فِيهَا سَاعَةً ثُمَّ يَخْرُجُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْكُثُ فِيهَا يَوْمًا ثُمَّ يَخْرُجُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْكُثُ فِيهَا شَهْرًا ثُمَّ يَخْرُجُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْكُثُ فِيهَا سَنَةً ثُمَّ يَخْرُجُ، وَأَطْوَلُهُمْ مُكْثًا فِيهَا مِثْلُ الدُّنْيَا مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَتْ إِلَى يَوْمِ أُفْنِيَتْ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ» " وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابن عساكر: أَخْبَرَنَا أبو سعيد أحمد بن محمد البغدادي، أَخْبَرَنَا أبو سهل حميد بن أحمد بن عمر الصيرفي، أَخْبَرَنَا أبو عمرو عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب، أَخْبَرَنَا أبو جعفر محمد بن شاذان ابن سعدويه، أَخْبَرَنَا أبو علي الحسن بن داود البلخي، حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الزَّاهِدُ، حَدَّثَنَا أبو هاشم الأيلي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَضَى حَاجَةَ الْمُسْلِمِ فِي اللَّهِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عُمُرَ الدُّنْيَا سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، صِيَامُ نَهَارِهِ وَقِيَامُ لَيْلِهِ» ". وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: حَدَّثَنَا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله البلخي، ثَنَا أحمد بن محمد، حَدَّثَنَا حمزة بن داود، حَدَّثَنَا عمر بن يحيى، حَدَّثَنَا العلاء بن زيد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عُمْرُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ» " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] . وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا أحمد بن النضر العسكري، وجعفر بن محمد العرياني قَالَا: حَدَّثَنَا الوليد بن عبد الملك بن سرح الحراني، حَدَّثَنَا سليمان بن عطاء القريشي الحربي عَنْ سلمة بن عبد الله الجهني، عَنْ عمر بن أبي شجعة بن ربيع الجهني، عَنِ الضحاك بن زمل الجهني قَالَ: رَأَيْتُ رُؤْيَا فَقَصَصْتُهَا عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: «إِذَا أَنَا بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مِنْبَرٍ فِيهِ سَبْعُ دَرَجَاتٍ وَأَنْتَ فِي أَعْلَاهَا دَرَجَةً، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا الْمِنْبَرُ الَّذِي رَأَيْتَ فِيهِ سَبْعَ دَرَجَاتٍ، وَأَنَا فِي أَعْلَاهَا دَرَجَةً، فَالدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَنَا فِي آخِرِهَا أَلْفًا» " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَأَوْرَدَهُ السهيلي فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْإِسْنَادِ فَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ أَنَّهُ قَالَ: الدُّنْيَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ، كُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ، وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِهَا. وَصَحَّحَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْأَصْلَ وَعَضَّدَهُ بِآثَارٍ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: " «وَأَنَا فِي آخِرِهَا أَلْفًا» " أَيْ: مُعْظَمُ الْمِلَّةِ فِي الْأَلْفِ السَّابِعَةِ ; لِيُطَابِقَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّهُ بُعِثَ فِي أَوَاخِرِ الْأَلْفِ السَّادِسَةِ، وَلَوْ كَانَ بُعِثَ فِي أَوَّلِ الْأَلْفِ السَّابِعَةِ كَانَتِ الْأَشْرَاطُ الْكُبْرَى: كَالدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وُجِدَتْ قَبْلَ الْيَوْمِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ ; لِتَقُومَ السَّاعَةُ عِنْدَ تَمَامِ الْأَلْفِ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ الْأَلْفِ السَّابِعَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ [سَنَةٍ] . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الدُّنْيَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ ذَمِّ الْأَمَلِ: حَدَّثَنَا علي بن سعد، حَدَّثَنَا حمزة بن هشام، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّمَا الدُّنْيَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا محمد بن الفضل، حَدَّثَنَا حماد بن زيد عَنْ يحيى بن عتيق، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَسْلَمَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] ، وَجَعَلَ أَجَلَ الدُّنْيَا سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَجَعَلَ السَّاعَةَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، قَدْ مَضَتْ سِتَّةُ أَيَّامٍ، وَأَنْتُمْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. وَقَالَ ابن إسحاق: حَدَّثَنَا محمد بن أبي محمد، حَدَّثَنَا عكرمة - أَوْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: مُدَّةُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ لِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (خَالِدُونَ) ، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابن المنذر، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَنَا شبابة عَنْ ورقاء، عَنِ ابن أبي نجيح، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ الدينوري فِي الْمُجَالَسَةِ: ثَنَا محمد بن عبد العزيز، أَخْبَرَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ سالما الخواص يَقُولُ: سَمِعْتُ عثمان بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 زائدة يَقُولُ: كَانَ كرز يَجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تُرِحْ نَفْسَكَ سَاعَةً؟ فَقَالَ: كَمْ بَلَغَكُمْ عَنِ الدُّنْيَا؟ قَالُوا: سَبْعَةُ آلَافٍ، فَقَالَ: كَمْ بَلَغَكُمْ مِقْدَارُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَعْمَلَ سُبُعَ يَوْمِهِ حَتَّى يَيْأَسَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. [ذِكْرُ مَا وَرَدَ أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ] وَيَنْزِلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ: حَدَّثَنَا يحيى بن عبدك القرطبي، حَدَّثَنَا خلف بن الوليد، حَدَّثَنَا المبارك بن فضالة عَنْ علي بن زيد، عَنْ عبد الرحمن بن أبي بكر، عَنِ العريان بن الهيثم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: مَا كَانَ مُنْذُ كَانَتِ الدُّنْيَا رَأْسُ مِائَةِ سَنَةٍ إِلَّا كَانَ عِنْدَ رَأْسِ الْمِائَةِ أَمْرٌ، فَإِذَا كَانَ رَأْسُ مِائَةٍ خَرَجَ الدَّجَّالُ، وَيَنْزِلُ عِيسَى فَيَقْتُلُهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: يَمْكُثُ النَّاسُ بَعْدَ الدَّجَّالِ أَرْبَعِينَ سَنَةً تُعَمَّرُ الْأَسْوَاقُ وَيُغْرَسُ النَّخْلُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَمْكُثُ فِي النَّاسِ أَرْبَعِينَ عَامًا» . وَأَخْرَجَ أحمد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ عَامًا إِمَامًا عَادِلًا، وَحَكَمًا قِسْطًا» ". وَأَخْرَجَ أحمد فِي الزُّهْدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يَمْكُثُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَوْ يَقُولُ لِلْبَطْحَاءِ: سِيلِي عَسَلًا، لَسَالَتْ ". وَأَخْرَجَ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «بَيْنَ أُذُنَيْ حِمَارِ الدَّجَّالِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: " «وَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُهُ، فَيَتَمَتَّعُونَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَمُوتُ أَحَدٌ وَلَا يَمْرَضُ أَحَدٌ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَنَمِهِ وَلِدَوَابِّهِ: اذْهَبُوا فَارْعَوْا، وَتَمُرُّ الْمَاشِيَةُ بَيْنَ الزَّرْعَيْنِ لَا تَأْكُلُ مِنْهُ سُنْبُلَةً، وَالْحَيَّاتُ وَالْعَقَارِبُ لَا تُؤْذِي أَحَدًا، وَالسَّبُعُ عَلَى أَبْوَابِ الدُّورِ لَا يُؤْذِي أَحَدًا، وَيَأْخُذُ الرَّجُلُ الْمُدَّ مِنَ الْقَمْحِ، فَيَبْذُرُهُ بِلَا حَرْثٍ، فَيَجِيءُ مِنْهُ سَبْعُمِائَةِ مُدٍّ، فَيَمْكُثُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يُكْسَرَ سَدُّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، فَيَمُوجُونَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ فَتَدْخُلُ آذَانَهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مَوْتَى أَجْمَعِينَ، وَتُنْتِنُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، فَيُؤْذُونَ النَّاسَ بِنَتْنِهِمْ، فَيَسْتَغِيثُونَ بِاللَّهِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا يَمَانِيَّةً غَبْرَاءَ، وَيَكْشِفُ مَا بِهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَقَدْ قَذَفَتْ جِيفَتَهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَلَا يَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» ". قَالَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ عَامًا يَعْمَلُ فِيهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّتِي، وَيَمُوتُ، وَيَسْتَخْلِفُونَ بِأَمْرِ عِيسَى رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، يُقَالُ لَهُ: الْمُقْعَدُ، فَإِذَا مَاتَ الْمُقْعَدُ لَمْ يَأْتِ عَلَى النَّاسِ ثَلَاثُ سِنِينَ حَتَّى يُرْفَعَ الْقُرْآنُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ وَمَصَاحِفِهِمْ» ". وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، والحاكم وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَلْبَثُ فِي أُمَّتِي أَرْبَعِينَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُهْلِكَهُ، ثُمَّ يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَهُ سَبْعَ سِنِينَ، لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً تَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلَا تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْ رُوحَهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، فَيَجِيئُهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَيَعْبُدُونَهَا» ". وَأَخْرَجَ أبو يعلى، والروياني فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وابن نافع فِي مُعْجَمِهِ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، والضياء فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ بريدة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ لِلَّهِ رِيحًا يَبْعَثُهَا عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ» ". [ذِكْرُ مُدَّةِ مُكْثِ النَّاسِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا] قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ: حَدَّثَنَا أبو معاوية عَنِ الْأَعْمَشِ: عَنْ أبي قيس، عَنِ الهيثم بن الأسود قَالَ: خَرَجْتُ وَافِدًا فِي زَمَنِ معاوية، فَإِذَا عِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ أَرْضًا فِيكُمْ كَثِيرَةُ السِّبَاخِ يُقَالُ لَهَا كُوتَى؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْهَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لِلْأَشْرَارِ بَعْدَ الْأَخْيَارِ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، لَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مَتَى يَدْخُلُ أَوَّلُهَا، وَأَخْرَجَهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي الْفِتَنِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وكيع عَنْ إسماعيل، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: يَمْكُثُ النَّاسُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَخْبَرَنَا يزيد بن هارون، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، سَمِعْتُ أَبَا خَيْثَمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، أَخْرَجَهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي الْفِتَنِ، وَأَخْرَجَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ كعب قَالَ: إِذَا انْصَرَفَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَبِثُوا سَنَوَاتٍ، فَإِذَا رَأَوْا كَهَيْئَةِ الْهَرَجِ وَالْغُبَارِ، فَإِذَا هِيَ رِيحٌ قَدْ بَعَثَهَا اللَّهُ لِتَقْبِضَ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتِلْكَ آخِرُ عِصَابَةٍ تُقْبَضُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَبْقَى النَّاسُ بَعْدَهُمْ مِائَةَ عَامٍ، لَا يَعْرِفُونَ دِينًا، وَلَا سُنَّةً، يَتَهَارَجُونَ تَهَارُجَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الْحُمُرِ، عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ. وَأَخْرَجَ نعيم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: يُرْسِلُ اللَّهُ، بَعْدَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَقْبِضُ رُوحَ عِيسَى وَأَصْحَابِهِ، وَكُلَّ مُؤْمِنٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَيَبْقَى بَقَايَا الْكُفَّارِ، وَهُمْ شِرَارُ الْأَرْضِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَأَخْرَجَ نعيم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعْبُدَ الْعَرَبُ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ عَامٍ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعْدَ الدَّجَّالِ. [ذِكْرُ مُدَّةِ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ] أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ عَامًا» "، وَأَخْرَجَ ابن أبي داود فِي الْبَعْثِ، وابن مردويه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ عَامًا» "، وَأَخْرَجَ ابن المبارك فِي الزُّهْدِ عَنِ الحسن قَالَ: بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، الْأُولَى يُمِيتُ اللَّهُ بِهَا كُلَّ حَيٍّ، وَالْأُخْرَى يُحْيِي اللَّهُ بِهَا كُلَّ مَيِّتٍ. ثُمَّ بَعْدَ انْتِهَائِي بِالتَّأْلِيفِ إِلَى هُنَا رَأَيْتُ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه، حَدَّثَنِي عبد الصمد أَنَّهُ سَمِعَ وهبا يَقُولُ: قَدْ خَلَا مِنَ الدُّنْيَا خَمْسَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَسِتُّمِائَةِ سَنَةٍ، إِنِّي لَأَعْرِفُ كُلَّ زَمَانٍ مِنْهَا مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ بِنَحْوِ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ تَقْرِيبًا. (فَصْلٌ) وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ الْمُدَّةِ أَيْضًا: مَا أَخْرَجَهُ الحاكم فِي تَارِيخِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو سعيد بن أبي حامد، حَدَّثَنَا عبد الله بن إسحاق بن إلياس، حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا الفضل بن موسى عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُعْبَدَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مِائَةَ سَنَةٍ قَبْلَ ذَلِكَ» ". وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: مَا أَخْرَجَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ قَالَ: سَمِعْتُ وَالِدِي يَقُولُ: سَمِعْتُ سليمان الْحَافِظَ، سَمِعْتُ أبا عصمة نوح بن مطر الفرغاني يَقُولُ: سَمِعْتُ محمد بن أحمد بن سليمان الحافظ، سَمِعْتُ أبا صالح خلف بن محمد يَقُولُ: سَمِعْتُ موسى بن أفلح [يَقُولُ] : سَمِعْتُ أحمد بن الجنيد يَقُولُ: سَمِعْتُ عيسى بن موسى سَمِعْتُ أبا حمزة يَقُولُ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «الْأَشْرَارُ بَعْدَ الْأَخْيَارِ خَمْسِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 يَمْلِكُونَ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُمُ التُّرْكُ» " قَالَ الديلمي: وَأَخْبَرَنَاهُ عَالِيًا أَبِي أَخْبَرَنَا علي الميداني، أَخْبَرَنَا سعيد بن أبي عبد الله، أَخْبَرَنَا أبو عمرو بن المهدي، حَدَّثَنَا ابن مخلد، حَدَّثَنَا أحمد بن الحجاج النيسابوري، أَخْبَرَنَا مقرب بن عمار، أَخْبَرَنَا معمر بن زائدة عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَأَخْبَرَنَا الروياني فِي مُسْنَدِهِ، حَدَّثَنَا محمد بن إسحاق، أَخْبَرَنَا محمد بن أسد الخشني، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ كعب بن علقمة، حَدَّثَنِي حسان بن كريب قَالَ: سَمِعْتُ أبا ذر يَقُولُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «سَيَكُونُ بِمِصْرَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَخْنَسُ، يَلِي سُلْطَانًا ثُمَّ يُغْلَبُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْزَعُ مِنْهُ، فَيَفِرُّ إِلَى الرُّومِ، فَيَأْتِي بِهِمْ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَيُقَاتِلُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ بِهَا، وَذَلِكَ أَوَّلُ الْمَلَاحِمِ» ". أَخْرَجَهُ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ، وَقَالَ: رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنِ الوليد فَأَدْخَلَ بَيْنَ حسان وأبي ذر أبا النجم. أَخْبَرَنَا أبو الحسن علي بن أحمد بن منصور، وعلي بن مسلم الفقيهاني قَالَا: أَخْبَرَنَا أبو الحسين بن أبي الحديد، أَخْبَرَنَا جَدِّي، أَخْبَرَنَا أبو بكر، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا أبو عامر موسى بن عامر، أَخْبَرَنَا الوليد، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ كعب بن علقمة قَالَ: حَدَّثَنِي حسان بن كريب، قَالَ: سَمِعْتُ أبا النجم يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا ذر يَقُولُ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «سَيَكُونُ بِمِصْرَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ أَخْنَسُ يَلِي سُلْطَانًا، ثُمَّ يُغْلَبُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْزَعُ مِنْهُ، فَيَفِرُّ إِلَى الرُّومِ فَيَأْتِي بِهِمْ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَيُقَاتِلُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ بِهَا، فَذَلِكَ أَوَّلُ الْمَلَاحِمِ» ". ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ قَالَ: قَالَ لَنَا أبو سعيد بن يونس: أبو النجم يَرْوِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَالْحَدِيثُ مَعْلُولٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ لِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو يوسف المقدسي - وَكَانَ كُوفِيًّا - عَنْ محمد بن الحنفية قَالَ: يَمْلِكُ بَنُو الْعَبَّاسِ حَتَّى يَيْأَسَ النَّاسُ مِنَ الْخَيْرِ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ أَمْرُهُمْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَيَكُونُ فِي النَّاسِ شَرٌّ طَوِيلٌ، ثُمَّ يَزُولُ مُلْكُهُمْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَيَقُومُ المهدي فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ نعيم أَيْضًا عَنْ جعفر قَالَ: يَقُومُ المهدي سَنَةَ مِائَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أبي قبيل قَالَ: اجْتِمَاعُ النَّاسِ عَلَى المهدي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ تُشْعِرُ بِتَأَخُّرِهِ إِلَى بَعْدِ الْأَلْفِ بِمِائَتَيْنِ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم أَيْضًا عَنْ عَمْرِو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 بْنِ الْعَاصِ قَالَ: تَهْلِكُ مِصْرُ إِذَا رُمِيَتْ بِالْقِسِيِّ الْأَرْبَعِ: قَوْسِ التُّرْكِ، وَقَوْسِ الرُّومِ، وَقَوْسِ الْحَبَشِ، وَقَوْسِ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ، قُلْتُ: وُجِدَ الْأَوَّلُ، وَسَيُوجَدُ الْبَاقُونَ. وَأَخْرَجَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وابن عبد الحكم فِي فُتُوحِ مِصْرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ: لَيَأْتِيَنَّكُمْ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ فَيُقَاتِلُونَكُمْ بِوَسِيمٍ، حَتَّى تَرْكُضَ الْخَيْلُ فِي الدَّمِ، ثُمَّ يَهْزِمُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَأْتِيكُمُ الْحَبَشَةُ فِي الْعَامِ الثَّانِي. وَأَخْرَجَ نعيم عَنْ أبي قبيل قَالَ: خَرَجَ يَوْمًا وَرْدَانُ مِنْ عِنْدِ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى مِصْرَ، فَمَرَّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مُسْتَعْجِلًا، فَنَادَاهُ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أَرْسَلَنِي الْأَمِيرُ إِلَى مَنْفٍ ; فَأَحْفِرُ لَهُ كَنْزَ فِرْعَوْنَ، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَيْهِ وَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ كَنْزَ فِرْعَوْنَ لَيْسَ لَكَ وَلَا لِأَصْحَابِكَ ; إِنَّمَا هُوَ لِلْحَبَشَةِ يَأْتُونَ فِي سُفُنِهِمْ يُرِيدُونَ الْفُسْطَاطَ، فَيَسِيرُونَ حَتَّى يَنْزِلُوا مَنْفًا، فَيُظْهِرُ لَهُمُ اللَّهُ كَنْزَ فِرْعَوْنَ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ مَا يَشَاءُونَ، فَيَقُولُونَ: مَا نَبْغِي غَنِيمَةً أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ فَيَرْجِعُونَ، وَيَخْرُجُ الْمُسْلِمُونَ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى يُدْرِكُوهُمْ فَيَهْزِمُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَبَشَةَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَيَأْسِرُونَهُمْ. وَأَخْرَجَ نعيم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: يُقَاتِلُكُمْ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ بِوَسِيمٍ، فَيَأْتِيكُمْ مَدَدُكُمْ مِنَ الشَّامِ، فَيَهْزِمُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يَأْتِيكُمُ الْحَبَشَةُ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ فَتُقَاتِلُونَهُمْ أَنْتُمْ وَأَهْلُ الشَّامِ، فَيَهْزِمُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. [كَشْفُ الرَّيْبِ عَنِ الْجَيْبِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَسْأَلَةٌ: سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ جَيْبِ قَمِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ كَانَ عَلَى صَدْرِهِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ الْآنَ فِي مِصْرَ وَغَيْرِهَا؟ أَوْ عَلَى كَتِفِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَغَارِبَةُ، وَيُسَمِّيهَا أَهْلُ مِصْرَ فَتْحَةٌ حَيْدَرِيَّةٌ، وَذَكَرَ أَنَّ قَائِلًا قَالَ: إِنَّ هَذَا الثَّانِيَ هُوَ السُّنَّةُ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ شِعَارُ الْيَهُودِ؟ . الْجَوَابُ: لَمْ أَقِفْ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ شِعَارُ الْيَهُودِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي سُنَنِ أبي داود: (بَابٌ فِي حَلِّ الْأَزْرَارِ) ثُمَّ أَخْرَجَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: " «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَبَايَعْنَاهُ، وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ» "، وَفِي رِوَايَةِ الْبَغَوِيِّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ لَمُطْلِقُ الْأَزْرَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 قَالَ: " «فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ أَدْخَلْتُ يَدِي فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ، فَمَسَسْتُ الْخَاتَمَ» "، قَالَ عروة: فَمَا رَأَيْتُ معاوية، وَلَا أَبَاهُ قَطُّ إِلَّا مُطْلِقَيْ أَزْرَارِهِمَا فِي شِتَاءٍ وَلَا حَرٍّ، وَلَا يَزُرَّانِ أَزْرَارَهُمَا أَبَدًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَيْبَ قَمِيصِهِ كَانَ عَلَى صَدْرِهِ، كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ الْآنَ. وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: لَوْ رُئِيَتْ عَوْرَةُ الْمُصَلِّي مِنْ جَيْبِهِ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ لَمْ يَكْفِ، فَلْيُزَرِّرْهُ أَوْ يَشُدَّ وَسَطَهُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْعَوْرَةَ إِنَّمَا تُرَى مِنَ الْجَيْبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِذَا كَانَ عَلَى الصَّدْرِ، بِخِلَافِ الْفَتْحَةِ الْحَيْدَرِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ، رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وأحمد وَالْأَرْبَعَةُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، والحاكم عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: «قُلْتُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ أَصِيدُ أَفَأُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَازْرُرْهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ» "، ثُمَّ رَأَيْتُ النَّقْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ صَرِيحًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابٌ جَيْبُ الْقَمِيصِ مِنْ عِنْدِ الصَّدْرِ وَغَيْرِهِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْجُبَّتَيْنِ فِي مِثْلِ الْمُتَصَدِّقِ وَالْبَخِيلِ، وَفِيهِ: وَيَقُولُ بِأُصْبُعِهِ هَكَذَا فِي جَيْبِهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر فِي شَرْحِهِ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ لَابِسًا قَمِيصًا، وَكَانَ فِي طَوْقِهِ فَتْحَةٌ إِلَى صَدْرِهِ، قَالَ: بَلِ اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى أَنَّ الْجَيْبَ فِي ثِيَابِ السَّلَفِ كَانَ عِنْدَ الصَّدْرِ، قَالَ: وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الْبَخِيلَ إِذَا أَرَادَ إِخْرَاجَ يَدِهِ أَمْسَكَتْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ضَاقَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الثَّدْيُ وَالتَّرَاقِي، وَذَلِكَ فِي الصَّدْرِ، فَبَانَ أَنَّ جَيْبَهُ كَانَ فِي صَدْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَضْطَرَّ يَدَاهُ إِلَى ثَدْيَيْهِ وَتَرَاقِيهِ، قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر بَعْدَ إِيرَادِ كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ: وَفِي حَدِيثِ قرة بن إياس الَّذِي أَخْرَجَهُ أبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ لَمَّا بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «فَأَدْخَلْتُ يَدِي فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ، فَمَسَسْتُ الْخَاتَمَ» " مَا يَقْتَضِي أَنَّ جَيْبَ قَمِيصِهِ كَانَ فِي صَدْرِهِ ; لِأَنَّ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَآهُ مُطْلَقَ الْقَمِيصِ، أَيْ: غَيْرَ مُزَرِّرٍ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ زيد بن أبي أوفى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَظَرَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَإِذَا أَزْرَارُهُ مَحْلُولَةٌ، فَزَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اجْمَعْ عِطْفَيْ رِدَائِكَ عَلَى نَحْرِكَ» " هَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَيْبَهُ كَانَ عَلَى صَدْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] يَعْنِي: عَلَى النَّحْرِ وَالصَّدْرِ فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنِي المثنى، ثَنَا إسحاق بن الحجاج، ثَنَا إسحاق بن إسماعيل عَنْ سليمان بن أرقم، عَنِ الحسن قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَيْهِ قَمِيصٌ [قُوهِيٌّ] مَحْلُولُ الزِّرِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 [كِتَابُ الْبَعْثِ] [هَلْ وَرَدَ أَنَّ الزَّامِرَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِزْمَارِهِ] مَسْأَلَة ٌ: هَلْ وَرَدَ أَنَّ الزَّامِرَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِزْمَارِهِ، وَأَنَّ السَّكْرَانَ يَأْتِي بِقَدَحِهِ، وَأَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَأْتِي يُؤَذِّنُ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ وَرَدَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَوَرَدَ التَّصْرِيحُ بِأَفْرَادٍ مِنْهُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» " أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ جابر، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ حَدِيثِ فضالة بن عبيد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ مَاتَ عَلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ بُعِثَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ مَا رَوَاهُ أبو داود مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: " «يُبْعَثُ الْمَيِّتُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا» " أَيْ: فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَجْرُوحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا -وَفِيهِ أَيْضًا - أَنَّ الَّذِي مَاتَ عَلَى إِحْرَامِهِ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا - وَفِي رِوَايَةٍ مُلَبِّدًا - وَقَدْ رَوَى الأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ مِنْ طَرِيقِ عباد بن كثير، عَنْ أبي الزبير، عَنْ جابر مَرْفُوعًا: " «أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُلَبِّينَ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ، وَيُلَبِّي الْمُلَبِّي» " - وعباد ضَعِيفٌ - إِلَّا أَنَّ لِلْحَدِيثِ شَوَاهِدَ، مِنْهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا. وَرَوَى الأصبهاني أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أبي هدبة - وَهُوَ وَاهٍ - عَنْ أَشْعَثَ الْحُدَّانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا وَهُوَ سَكْرَانُ دَخَلَ الْقَبْرَ سَكْرَانَ، وَبُعِثَ مِنْ قَبْرِهِ سَكْرَانُ» " الْحَدِيثَ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كَشْفِ عُلُومِ الْآخِرَةِ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يُحْشَرُ بِفِتْنَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَقَوْمٌ مَفْتُونُونَ بِالْعُودِ، فَعِنْدَ قِيَامِهِ مِنْ قَبْرِهِ يَأْخُذُ بِيَمِينِهِ فَيَطْرَحُهُ، فَيَعُودُ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ يُبْعَثُ السَّكْرَانُ سَكْرَانَ، وَالزَّامِرُ زَامِرًا، وَشَارِبُ الْخَمْرِ وَالْكُوزُ مُعَلَّقٌ فِي عُنُقِهِ، وَكُلُّ أَحَدٍ عَلَى الْحَالِ الَّذِي صَدَّهُ فِي الدُّنْيَا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِشَارَةٌ إِلَى تَخْصِيصِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي يَأْتِي عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، الْمُرَادُ بِهَا حَالَةُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، بِخِلَافِ الْمُبَاحَاتِ، فَلَا يَأْتِي النَّجَّارُ مَثَلًا بِآلَتِهِ وَالْبَنَّاءُ وَنَحْوُهُمَا إِلَّا أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَاللَّهَ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 [حَدِيثُ أَوَّلُ مَا يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ] مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: " «أَوَّلُ مَا يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ» " هَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ. [حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ حُورٌ عِينٌ] مَسْأَلَةٌ: فِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ «عَنْ أم سلمة قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {حُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] قَالَ: حُورٌ بِيضٌ [عِينٌ] ضِخَامُ الْعُيُونِ، شَفْرُ الْحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ» ، فَإِنَّ الشَّيْخَ شمس الدين السخاوي اسْتُفْتِيَ عَنْهُ، فَأَفْتَى وَضَبَطَهُ بِخَطِّهِ: شُقْرٌ، بِالْقَافِ، وَضَبَطَ الْحَوْرَاءَ بِالرَّفْعِ، وَقَالَ: هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، يَعْنِي أَنَّ الْحَوْرَاءَ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ فِي السُّرْعَةِ وَالطَّيَرَانِ وَالْخِفَّةِ، وَأُحْضِرَتْ إِلَيَّ الْفَتْوَى الَّتِي كَتَبَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ فَرَأَيْتُ خَطَّهُ بِذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: هَذَا تَصْحِيفٌ لِلْحَدِيثِ، وَتَبْدِيلٌ لِمَعْنَاهُ، إِنَّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ: شَفْرُ الْحَوْرَاءِ، بِالْفَاءِ مُضَافًا إِلَى الْحَوْرَاءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُدْبُ الْعَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُهُ بِجَنَاحِ النَّسْرِ فِي الطُّولِ الْمُنَاسِبِ ذَلِكَ ; لِضَخَامَةِ الْعُيُونِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ حَيْثُ قَالَ: «شَفْرُ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ أَطْوَلُ مِنْ جَنَاحِ النَّسْرِ» ، وَمَا قَالَهُ مِنْ عِنْدِهِ فِي تَفْسِيرِ مَا صَحَّفَهُ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. [هَلْ وَرَدَ أَنَّ عَدَدَ دَرَجِ الْجَنَّةِ بِعَدَدِ آيِ الْقُرْآنِ] مَسْأَلَةٌ: هَلْ وَرَدَ أَنَّ عَدَدَ دَرَجِ الْجَنَّةِ بِعَدَدِ آيِ الْقُرْآنِ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله الحافظ، ثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطُ، ثَنَا أبو عبد الله محمد بن روح، ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَدَدُ دَرَجِ الْجَنَّةِ عَدَدُ آيِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ دَرَجَةٌ» "، قَالَ الحاكم: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُكْتَبِ الْمَتْنُ إِلَّا بِهِ وَهُوَ مِنَ الشَّوَاذِّ. وَرَوَى الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقِ الفيض بن وثيق عَنْ فرات بن سلمان، عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «دَرَجُ الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ آيِ الْقُرْآنِ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةٌ، فَتِلْكَ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ وَمِائَتَا آيَةٍ وَسِتَّ عَشْرَةَ آيَةً " بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِقْدَارُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . الْفَيْضُ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: كَذَّابٌ خَبِيثٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 [رَفْعُ الصَّوْتِ بِذَبْحِ الْمَوْتِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: فِي الْحَدِيثِ: " «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَيُقَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هُوَ الْمَوْتُ، فَيُذْبَحُ» ". إِلَى آخِرِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ لِعَدَمِ قِيَامِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَتَأَلَّفُ وَلَا يَتَجَسَّدُ وَلَا يَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْجِسْمِ، وَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْفَرِيقَانِ وَلَمْ يُشَاهِدَاهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَبْلَ ذَلِكَ؟ وَمَا النُّكْتَةُ فِي فَرَحِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِذَبْحِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ لَا مَوْتَ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا خُرُوجَ بَعْدَ دُخُولِهَا لِمَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَتِلَاوَةِ كُتُبِهِمْ؟ . الْجَوَابُ: اشْتَمَلَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْئِلَةٍ: فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ إِشْكَالٌ قَدِيمٌ لَهُ فِي الْوُجُودِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اسْتُشْكِلَ هَذَا الْحَدِيثُ لِكَوْنِهِ يُخَالِفُ صَرِيحَ الْعَقْلِ ; لِأَنَّ الْمَوْتَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ لَا يَنْقَلِبُ جِسْمًا، فَكَيْفَ يُذْبَحُ؟ فَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ الْحَدِيثِ وَدَفَعَتْهُ، وَتَأَوَّلَتْهُ طَائِفَةٌ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْثِيلٌ، وَلَا ذَبْحَ هُنَاكَ حَقِيقَةً. وَقَالَ المازري: الْمَوْتُ عِنْدَنَا عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عَدَمٌ مَحْضٌ، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَبْشًا وَلَا جِسْمًا، وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّمْثِيلُ وَالتَّشْبِيهُ، قَالَ: وَقَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْجِسْمَ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُجْعَلُ مِثَالًا ; لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَطْرَأُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَنَقَلَهُ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ القرطبي فِي التَّذْكِرَةِ: الْمَوْتُ مَعْنًى، وَالْمَعَانِي لَا تَنْقَلِبُ جَوْهَرًا، وَإِنَّمَا يَخْلُقُ اللَّهُ أَشْخَاصًا مِنْ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ، وَكَذَا الْمَوْتُ يَخْلُقُ اللَّهُ كَبْشًا يُسَمِّيهِ الْمَوْتَ، وَيُلْقَى فِي قُلُوبِ الْفَرِيقَيْنِ: أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ يَكُونُ ذَبْحُهُ دَلِيلًا عَلَى الْخُلُودِ فِي الدَّارَيْنِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا مَانِعَ أَنْ يُنْشِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَعْرَاضِ أَجْسَادًا بِجَعْلِهَا مَادَّةً لَهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ: " «إِنَّ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ يَجِيئَانِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ» " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا سُقْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ، وَبَقِيَ خَامِسٌ لَمْ أُحِبَّ ذِكْرَهُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ كَيْفَ يَعْرِفُهُ الْفَرِيقَانِ وَلَمْ يُشَاهِدَاهُ؟ فَجَوَابُهُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ القرطبي: وَيُلْقَى فِي قُلُوبِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى آخِرِهِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْقِي فِي قُلُوبِهِمْ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ، وَجَوَابٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ الكلبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 ومقاتلا ذَكَرَا فِي تَفْسِيرِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَوْتَ فِي صُورَةِ كَبْشٍ، لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا مَاتَ، وَخَلَقَ الْحَيَاةَ فِي صُورَةِ فَرَسٍ لَا تَمُرُّ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا حَيِيَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُشَاهِدُ حُلُولَ الْمَوْتِ بِهِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ، فَلَا إِشْكَالَ حِينَئِذٍ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: فَهُوَ قَدِيمٌ أَيْضًا، وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُمْ يَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ تَوَهُّمٌ لَا يَسْتَقِرُّ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَقَدُّمَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ لَا مَوْتَ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ التَّوَهُّمَاتِ تَطْرَأُ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ، ثُمَّ لَا تَسْتَقِرُّ، فَكَانَ فَرَحُهُمْ بِإِزَالَةِ التَّوَهُّمِ. وَجَوَابٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ عَيْنَ الْيَقِينِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ، فَمُشَاهَدَتُهُمْ ذَبْحَ الْمَوْتِ أَقْوَى وَأَشَدُّ فِي انْتِفَائِهِ مِنْ تَقَدُّمِ عِلْمِهِمْ ; إِذِ الْعِيَانُ أَقْوَى مِنَ الْخَبَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: ثعلبة الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] الْآيَاتِ، ذَكَرَ الباوردي، وَابْنُ السَّكَنِ، وابن شاهين، وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ ثعلبة بن حاطب أَحَدُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَ الحافظ ابن حجر فِي الْإِصَابَةِ: وَلَا أَظُنُّ الْخَبَرَ يَصِحُّ، وَإِنْ صَحَّ فَفِي كَوْنِهِ هُوَ الْبَدْرِيَّ نَظَرٌ، وَقَدْ ذَكَرَ ابن الكلبي: أَنَّ ثعلبة بن حاطب الَّذِي شَهِدَ بَدْرًا قُتِلَ بِأُحُدٍ فَتَأَكَّدَتِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا ; فَإِنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ تَأَخَّرَ فِي خِلَافَةِ عثمان، قَالَ: وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ فِي تَفْسِيرِ ابن مردويه - ثعلبة بن أبي حاطب - والبدري اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ ثعلبة بن حاطب، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» "، وَحَكَى عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ بَدْرٍ: " «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ". فَمَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؟ كَيْفَ يُعْقِبُهُ اللَّهُ نِفَاقًا فِي قَلْبِهِ، وَيَنْزِلُ فِيهِ مَا يَنْزِلُ؟ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، انْتَهَى. وَنَظِيرُ هَذَا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53] الْآيَةَ. أَنَّ طلحة بن عبيد الله قَالَ: يَتَزَوَّجُ مُحَمَّدٌ بَنَاتَ عَمِّنَا وَيَحْجُبُهُنَّ عَنَّا، لَئِنْ مَاتَ لَأَتَزَوَّجَنَّ عائشة مِنْ بَعْدِهِ، فَنَزَلَتْ، وَقَدْ كُنْتُ فِي وَقْفَةٍ شَدِيدَةٍ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ ; لِأَنَّ طلحة أَحَدُ الْعَشَرَةِ أَجَلُّ مَقَامًا مِنْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ ذَلِكَ، حَتَّى رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ شَارَكَهُ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَنَسَبِهِ ; فَإِنَّ طلحة الْمَشْهُورَ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ - طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم التيمي - وطلحة صَاحِبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 الْقِصَّةِ - طلحة بن عبيد الله بن مسافع بن عياض بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم التيمي - قَالَ أبو موسى فِي الذَّيْلِ عَنِ ابن شاهين فِي تَرْجَمَتِهِ: هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53] الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: لَئِنْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ لَأَتَزَوَّجَنَّ عائشة، وَقَالَ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفَسِّرِينَ غَلِطُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُ طلحة أَحَدُ الْعَشَرَةِ. مَسْأَلَةٌ: أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ مَا اسْمُهُ، وَمَا اسْمُ أَبِيهِ؟ . الْجَوَابُ: اسْمُهُ جرهم - بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْهَاءِ - قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَآخَرُونَ، وَقِيلَ: جرثوم - بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ - وَقِيلَ: جرثومة، وَقِيلَ: عمرو، وَقِيلَ: شم - بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ - وَاسْمُ أَبِيهِ ناشم -بِالنُّونِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ - جَزَمَ بِذَلِكَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَقِيلَ: ناشب، وَقِيلَ: ناشر، وَقِيلَ: ناشج. مَسْأَلَةٌ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ هَلْ لَهُ عَقِبٌ؟ . الْجَوَابُ: لَمْ يُعْقِبْ شَيْئًا بَلْ كَانَ لَهُ وَلَدَانِ: زيد، وعمير مَاتَا صَغِيرَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ، صَرَّحَ بِذَلِكَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الحافظ جمال الدين المزي فِي التَّهْذِيبِ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَا رَوَاهُ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ لِشَخْصٍ مِنْ أَكَابِرِ الْأَعْيَانِ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَةِ سِتَّةُ أَنْفُسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ شَيْخَهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَوَى عَنْ شَخْصٍ مِنْ أَصْحَابِ سيدي يوسف عَنْ شَيْخِهِ النَّسْرِ - أَيْ عَنْ شَيْخِهِ - سيدي أبي العباس الملثم، عَنْ معمر الصَّحَابِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ بِغَلَقَيْنِ، وَبَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ يَنْقُلُونَ بِغَلَقٍ وَاحِدٍ، فَضَرَبَ بِكَفِّهِ الشَّرِيفِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: " «عَمَّرَكَ اللَّهُ يَا معمر» " فَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ بِبَرَكَةِ الضَّرَبَاتِ الَّتِي ضَرَبَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعَ ضَرَبَاتٍ بِعَدَدِ كُلٍّ مِائَةُ سَنَةٍ، وَقَالَ لَهُ بَعْدَ أَنْ صَافَحَهُ: مَنْ صَافَحَكَ إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، أَرَوَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَمْ هُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ نَقْلُهُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ؟ . الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخُ صلاح الدين الطرابلسي مَرَّةً فِي مَجْلِسِ الأمير تمراز، وَكُنْتُ حَاضِرًا، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا بَاطِلٌ، ومعمر هَذَا كَذَّابٌ دَجَّالٌ، وَأَوْرَدْتُ لَهُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ: " «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» "، وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قَالُوا: إِنَّ مَنِ ادَّعَى الصُّحْبَةَ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَاذِبٌ، وَأَنَّ آخِرَ الصَّحَابَةِ مَوْتًا أَبُو الطُّفَيْلِ، مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لِي: لَا بُدَّ مِنْ نَقْلٍ فِي هَذَا بِخُصُوصِهِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ رَأَيْتُ الْمِيزَانَ للذهبي، فَرَأَيْتُهُ ذَكَرَ معمر بن بريك، وَأَنَّهُ عُمِّرَ مِئِينَ مِنَ السِّنِينَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَحَادِيثُ خُمَاسِيَّةٌ بَاطِلَةٌ، وَهِيَ كَذِبٌ وَاضِحٌ، وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ نَمَطِ رَتَنٍ الْهِنْدِيِّ، فَقَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يَكْذِبُ، فَأَرْسَلْتُ الْمِيزَانَ للشيخ صلاح الدين فَرَآهُ فَشَكَرَ وَدَعَا، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ أَرَانِي شَخْصٌ وَرَقَةً فِيهَا تَحْدِيثُ الشيخ صلاح الدين بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَإِجَازَتِهِ إِيَّاهُ، فَكَتَبْتُ فِيهَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَذِبٌ، لَا تَحِلُّ رِوَايَتُهُ، وَلَا التَّحْدِيثُ بِهِ، فَلْيَعْلَمْ كُلُّ مُسْلِمٍ أَنَّ معمرا هَذَا دَجَّالٌ كَذَّابٌ، وَقِصَّتُهُ هَذِهِ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُحَدِّثَ بِهَا وَلَا يَرْوِيَهَا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّءْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ". ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فُتْيَا قُدِّمَتْ للحافظ أبي الفضل بن حجر فِي معمر هَذَا، فَكَتَبَ عَلَيْهَا مَا نَصُّهُ - لَا تَخْلُو طَرِيقٌ مِنْ طَرِيقِ المعمر عَنْ مُتَوَقِّفٍ فِيهِ - حَتَّى المعمر نَفْسُهُ - فَإِنَّ مَنْ يَدَّعِي هَذِهِ الرُّتْبَةَ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ، وَثُبُوتُ ذَلِكَ عَقْلًا لَا يُفِيدُ مَعَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِنَفْيِهِ ; فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِانْخِرَامِ قَرْنِهِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ مَقَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ، فَمَنِ ادَّعَى الصُّحْبَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْخَبَرِ. ثُمَّ رَأَيْتُ فُتْيَا أُخْرَى رُفِعَتْ لَهُ، فَكَتَبَ عَلَيْهَا مَا نَصُّهُ - هَذَا الْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ والمعمر الْمَذْكُورُ إِمَّا كَذَّابٌ أَوِ اخْتَلَقَهُ كَذَّابُ، وَآخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا مُطْلَقًا أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ - ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَاحْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ: " «إِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا أَحَدٌ» " وَأَرَادَ بِذَلِكَ انْخِرَامَ الْقَرْنِ، فَكُلُّ مَنِ ادَّعَى الصُّحْبَةَ بَعْدَ أَبِي الطُّفَيْلِ فَهُوَ كَاذِبٌ، انْتَهَى جَوَابُ الحافظ ابن حجر. مَسْأَلَةٌ: مَا سِنُّ عائشة وفاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؟ وَكَمْ عَاشَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ . الْجَوَابُ: أَمَّا عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسِنُّهَا بِضْعٌ وَسِتُّونَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: بِسَنَةٍ وَنِصْفٍ، وَقِيلَ: بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَاتَتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَأَمَّا فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ الذهبي: الصَّحِيحُ أَنَّ عُمْرَهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِحْدَى وَعِشْرُونَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وَقِيلَ: سِتٌّ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: سَبْعٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ، وَقِيلَ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: شَهْرَانِ، وَأَمَّا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، أَصَحُّهَا أَنَّ فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَفْضَلُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ: أَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَيَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ قَالَ: أَنْبَأَ أبو عوانة، ثَنَا إسماعيل السدي قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنِهِ إبراهيم؟ قَالَ: لَا أَدْرِي رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى إبراهيم لَوْ عَاشَ لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، أَنَا أحمد بن أبي عثمان، أَنَا إسماعيل بن الحسن، ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد، ثَنَا عمرو بن محمد العنقزي، ثَنَا أسباط بن نصر عَنِ السدي قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَمْ كَانَ بَلَغَ إبراهيم ابن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ قَدْ مَلَأَ مَهْدَهُ، وَلَوْ بَقِيَ لَكَانَ نَبِيًّا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لِيَبْقَى ; لِأَنَّ نَبِيَّكُمْ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابن عساكر: أَنَا أَبُو غَالِبٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْبَنَّاءِ، أَنَا أبو الحسين محمد بن أحمد بن الآبنوسي، أَنَا أبو الطيب عثمان بن عمرو بن محمد بن المنتاب، ثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، ثَنَا الحسين بن الحسن المروزي، أَنَا ابن مهدي، ثَنَا سفيان عَنِ السدي سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: لَوْ عَاشَ إبراهيم ابن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا. وَقَالَ الباوردي فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ: ثَنَا محمد بن عثمان بن محمد، ثَنَا منجاب بن الحارث، ثَنَا أبو عامر الأسدي، ثَنَا سفيان عن السدي، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ عَاشَ إبراهيم لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا» ". وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، ثَنَا أبو أسامة، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَأَيْتَ إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: مَاتَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنْ يَكُونَ نَبِيٌّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَاشَ ابْنُهُ إبراهيم، وَلَكِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: أَنَا أَسْلَمُ بْنُ سَهْلٍ الْوَاسِطِيُّ، ثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، ثَنَا محمد بن الحسين المدني عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَأَيْتَ إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: تُوُفِّيَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَلَوْ قُضِيَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ لَعَاشَ، وَلَكِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ - أَخْرَجَهُ أبو يعلى - ثَنَا زكريا بن يحيى الواسطي، ثَنَا هشيم عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وَقَالَ ابن منده: أَنَا أحمد بن محمد بن زياد، ومحمد بن يعقوب قَالَ: ثَنَا أحمد بن عبد الجبار، ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ إبراهيم بن عثمان، عَنِ الحكم عَنْ مقسم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا وَلَدَتْ مارية القبطية لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبراهيم وَمَاتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ، وَلَوْ بَقِيَ لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا» ". وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، ثَنَا مُحَمَّدُ بن يونس، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَوْسٍ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، ثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الحكم، عَنْ مقسم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ إبراهيم ابن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ يُتِمُّ رَضَاعَهُ، وَلَوْ عَاشَ لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا» ". وَقَالَ ابن عساكر: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ عُمَرَ السُّدِّيُّ الْفَقِيهُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ قَالَ: أَنَا أبو عثمان البحيري، أَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ، أَنَا أحمد بن محمد بن سعيد الحافظ، ثَنَا عبيد بن إبراهيم الجعفي، ثَنَا الحسن بن أبي عبد الله الفراء، ثَنَا مصعب بن سلام، عَنْ أبي حمزة الثمالي، عَنْ أبي جعفر محمد بن علي، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَوْ عَاشَ إبراهيم لَكَانَ نَبِيًّا» ". وَقَالَ ابن عساكر: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّحَّامِيُّ، أَنَا أبو حامد أحمد بن الحسين، أَنَا أبو محمد الحسن بن أحمد بن أحمد بن محمد، أَنَا أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر، ثَنَا إبراهيم بن الحسن الهمداني، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ، ثَنَا عيسى بن عبد الله عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " «لَمَّا تُوُفِّيَ إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّهِ مارية، فَجَاءَ بِهِ فَغَسَّلَهُ وَكَفَّنَهُ، وَخَرَجَ بِهِ، وَخَرَجَ النَّاسُ مَعَهُ فَدَفَنَهُ، وَأَدْخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي قَبْرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ، وَبَكَى وَبَكَى الْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ حَتَّى ارْتَفَعَ الصَّوْتُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ مَا يُغْضِبُ الرَّبَّ، وَإِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» ". قَالَ ابن عساكر: عيسى - هو ابن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. (فَصْلٌ) : قَالَ النووي فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ: وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَوْ عَاشَ إبراهيم لَكَانَ نَبِيًّا فَبَاطِلٌ، وَجَسَارَةٌ عَلَى الْكَلَامِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ، وَمُجَازَفَةٌ وَهُجُومٌ عَلَى عَظِيمٍ، قَالَ الحافظ ابن حجر فِي الْإِصَابَةِ: وَهَذَا عَجِيبٌ مَعَ وُرُودِهِ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ [وَكَأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهُ تَأْوِيلِهِ فَبَالَغَ فِي إِنْكَارِهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ شَرْطِيَّةٌ لَا تَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ] ، وَلَا يُظَنُّ بِالصَّحَابِيِّ أَنَّهُ يَهْجُمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا بِظَنِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : رَوَى أبو داود عَنْ عائشة قَالَتْ: " «مَاتَ إبراهيم ابن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» " قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: خَبَرٌ صَحِيحٌ. قَالَ الزركشي فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الشَّرْحِ: اعْتَلَّ مَنْ سَلَّمَ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِعِلَلٍ، مِنْهَا أَنَّهُ اسْتَغْنَى بِفَضِيلَةِ أَبِيهِ عَنِ الصَّلَاةِ، كَمَا اسْتَغْنَى الشَّهِيدُ بِفَضِيلَةِ الشَّهَادَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي نَبِيٌّ عَلَى نَبِيٍّ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ لَكَانَ نَبِيًّا، انْتَهَى. (فَصْلٌ) : قَالَ الشيخ تقي الدين [السبكي] فِي حَدِيثِ: ( «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» ) ، فَإِنْ قُلْتَ: النُّبُوَّةُ وَصْفٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِهِ مَوْجُودًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ بُلُوغِ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَيْضًا، فَكَيْفَ يُوصَفُ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَقَبْلَ إِرْسَالِهِ؟ قُلْتُ: قَدْ جَاءَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ، فَقَدْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كُنْتُ نَبِيًّا إِلَى رُوحِهِ الشَّرِيفَةِ، وَإِلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْحَقَائِقُ تَقْصُرُ عُقُولُنَا عَنْ مَعْرِفَتِهَا، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا خَالِقُهَا، وَمَنْ أَمَدَّهُ بِنُورٍ إِلَهِيٍّ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ يُؤْتِي اللَّهُ كُلَّ حَقِيقَةٍ مِنْهَا مَا يَشَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَشَاءُ، فَحَقِيقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَكُونُ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ، آتَاهَا اللَّهُ ذَلِكَ الْوَصْفَ بِأَنْ يَكُونَ خَلَقَهَا مُتَهَيِّئَةً لِذَلِكَ، وَأَفَاضَهُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَصَارَ نَبِيًّا انْتَهَى. وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ تَحْقِيقُ نُبُوَّةِ السَّيِّدِ إبراهيم فِي حَالِ صِغَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الْوَحْيِ. مَسْأَلَةٌ: مِنْ قَاضِي الْقُضَاةِ، شَيْخِ الشُّيُوخِ تاج الدين بن عربشان الحنفي، الْمَسْئُولِ مِنْ تَفَضُّلَاتِ مَوْلَانَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ - أَمْتَعَ اللَّهُ بِوُجُودِهِ الْأَنَامَ - تَوْضِيحُ التَّحْرِيرِ فِي ذِكْرِ أَوْلَادِ الْبَتُولِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مَجْلِسٍ عِنْدَ بَعْضِ عِظَامِ الْأُمَرَاءِ: أَنَّ أَوْلَادَهَا الحسن، والحسين، ومحسن، فَوَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْحَاضِرِينَ تَوَقُّفٌ فِي محسن، فَنَظَمَ الْعَبْدُ ذَلِكَ فِي أَبْيَاتٍ، فَأَرَادَ عَرْضَ ذَلِكَ عَلَى الْمَسَامِعِ الْكَرِيمَةِ، أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهَا نِعَمَهُ الْجَسِيمَةَ ; لِيَزُولَ مَا أَشْكَلَ مِنَ الْإِبْهَامِ بِقَصْدِ الِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْإِمَامِ، فَإِنَّ الِاسْتِفَادَةَ مِنَ الْمَوْلَى أَحْرَى وَأَوْلَى، أَمَدَّ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ مَدِيدِ فَضْلِكُمْ، وَأَغْدَقَ مِنْ وَافِرِ بَسِيطِ طَوِيلِكُمْ، فَإِنَّ بَابَكُمُ الْعَالِيَ كَعْبَةُ الْإِفَادَةِ رَزَقَكُمُ اللَّهُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً. وَأَجَبْتُ: وَقَفْتُ عَلَى هَذَا الدُّرِّ النَّظِيمِ، وَالْعِقْدِ الَّذِي حَوَى كُلَّ جَوْهَرٍ فَرْدٍ عَظِيمٍ، فَوَجَدْتُ رَاقِمَهُ - أَعَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَبْدَعَ فِيمَا رَقَمَ، وَأَتَى بِالْعَجَبِ الْعُجَابِ فِيمَا نَثَرَ وَنَظَمَ، وَأَصَابَ فِي ذِكْرِهِ الْمُحَسِّنَ صَوْبَ الصَّوَابِ، وَأَتَى فِي تَقْرِيرِهِ بِالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ، أَوْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ الْإِنْكَارِ لِمُحَسِّنٍ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ وَالْأَثَرُ عَنْ سَيِّدِ بَنِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ: أَنَّهُ سَمَّى أَوْلَادَ فاطمة بالحسن، والحسين، ومحسن وَنِعْمَ الْمُحَبِّرُ، وَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 سَمَّيْتُهُمْ بِأَسْمَاءِ وَلَدِ هَارُونَ: شبر، وشبير، ومشبر، وَالْمُنْكِرُ لِذَلِكَ حَقُّهُ أَنْ يُضْرَبَ عَنْهُ صَفْحًا، حَيْثُ تَوَقَّفَ، وَإِنْ ثَقُلَ وَمَدَّ عُنُقَهُ مُتَطَلِّعًا إِلَى مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ فَلْيُخَفِّفِ: أَخْبَرَنِي زَائِرٌ رَشِيدُ ... عَنْ مُخْبِرٍ جَاءَهُ يُفِيدْ أَنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ عَرَّاهُ ... تَغَيَّرَ قَبْلَ مَا يُبِيدْ وَأَنَّهُ جَاءَهُ بِنَقْلٍ ... عَنِ الْعِرَاقِيِّ يَسْتَحِيدْ فَقُلْتُ لَا تَنْطِقَنَّ بِهَذَا ... الْتَبَسَ الْجَدُّ وَالْحَفِيدْ كِلَاهُمَا فِي الْأَنَامِ يُدْعَى ... مُحَمَّدًا وَاسْمُهُ حميد وَالْفَرْقُ مَا بَيْنَ ذَيْنِ بَادٍ ... مَا عَنْهُ ذُو يَقَظَةٍ يَحِيدْ ذَلِكَ إِسْحَاقُ ذُو صَحِيحٍ ... لَهُ الْمَعَالِي غَدَتْ تُشِيدْ فِي رَابِعِ الْقَرْنِ عَامَ إِحْدَى ... وَعَشْرَةَ قَدْ قَضَى الْفَرِيدْ وَلَمْ يُشَنْ قَطُّ بِاخْتِلَاطٍ ... بَلْ وَصْفُهُ كُلُّهُ سَعِيدْ وَابْنُ ابْنِهِ الْفَضْلُ ذُو اخْتِلَاطٍ ... مُدَّةَ عَامَيْنِ أَوْ تَزِيدْ وَمَاتَ فِي الْقَرْنِ عَامَ سَبْعٍ ... بَعْدَ ثَمَانِينَ يَا رَشِيدْ نَصَّ عَلَى ذَاكَ كُلُّ حَبْرٍ ... وَعَدَّهُ الْحَافِظُ الْمُجِيدْ [إِتْحَافُ الْفِرْقَةِ بِرَفْوِ الْخِرْقَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَسْأَلَةٌ: أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ سَمَاعَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] وَتَمَسَّكَ بِهَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَخَدَشَ بِهِ فِي طَرِيقِ لُبْسِ الْخِرْقَةِ، وَأَثْبَتَهُ جَمَاعَةٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي ; لِوُجُوهٍ، وَقَدْ رَجَّحَهُ أَيْضًا الحافظ ضياء الدين المقدسي فِي الْمُخْتَارَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ عَنْ علي، وَقِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَتَبِعَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ الحافظ ابن حجر فِي أَطْرَافِ الْمُخْتَارَةِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي الْأُصُولِ فِي وُجُوهِ التَّرْجِيحِ: أَنَّ الْمُثْبَتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي ; لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ. الثَّانِي: إِنَّ الحسن وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عمر بِاتِّفَاقٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ خيرة مولاة أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ أم سلمة تُخْرِجُهُ إِلَى الصَّحَابَةِ يُبَارِكُونَ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَتْهُ إِلَى عمر، فَدَعَا لَهُ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَحَبِّبْهُ إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 النَّاسِ، ذَكَرَهُ الحافظ جمال الدين المزي فِي التَّهْذِيبِ، وَأَخْرَجَهُ العسكري فِي كِتَابِ الْمَوَاعِظِ بِسَنَدِهِ، وَذَكَرَ المزي: أَنَّهُ حَضَرَ يَوْمَ الدَّارِ وَلَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مِنْ حِينِ بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ، فَكَانَ يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ، وَيُصَلِّي خَلْفَ عثمان إِلَى أَنْ قُتِلَ عثمان، وعلي إِذْ ذَاكَ بِالْمَدِينَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إِلَى الْكُوفَةِ إِلَّا بَعْدَ قَتْلِ عثمان، فَكَيْفَ يَسْتَنْكِرُ سَمَاعَهُ مِنْهُ وَهُوَ كُلَّ يَوْمٍ يَجْتَمِعُ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ خَمْسَ مَرَّاتٍ مِنْ حِينِ مَيَّزَ إِلَى أَنْ بَلَغَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً؟ وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عليا كَانَ يَزُورُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُنَّ أم سلمة، والحسن فِي بَيْتِهَا هُوَ وَأُمُّهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ وَرَدَ عَنِ الحسن مَا يَدُلُّ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْهُ، أَوْرَدَ المزي فِي التَّهْذِيبِ مِنْ طَرِيقِ أبي نعيم قَالَ: ثَنَا أبو القاسم عبد الرحمن بن العباس بن عبد الرحمن بن زكريا، ثَنَا أبو حنيفة محمد بن صفية الواسطي، ثَنَا محمد بن موسى الجرشي، ثَنَا ثمامة بن عبيدة، ثَنَا عطية بن محارب عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ الحسن قُلْتُ: يَا أبا سعيد، إِنَّكَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّكَ لَمْ تُدْرِكْهُ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَلَوْلَا مَنْزِلَتُكَ مِنِّي مَا أَخْبَرْتُكَ أَنِّي فِي زَمَانٍ كَمَا تَرَى - وَكَانَ فِي عَمَلِ الحجاج - كُلُّ شَيْءٍ سَمِعْتَنِي أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، غَيْرَ أَنِّي فِي زَمَانٍ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَذْكُرَ عليا. ذِكْرُ مَا وَقَعَ لَنَا مِنْ رِوَايَةِ الحسن عَنْ علي قَالَ أحمد فِي مُسْنَدِهِ: ثَنَا هشيم، أَنَا يونس عَنِ الحسن، عَنْ علي قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمُصَابِ حَتَّى يُكْشَفَ عَنْهُ» " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ، قَالَ الْحَافِظُ زين الدين العراقي فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: الحسن رَأَى عليا بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ غُلَامٌ، وَقَالَ أبو زرعة: كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَوْمَ بُويِعَ لعلي ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَأَى عليا بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَلْقَهُ الحسن بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الحسن: رَأَيْتُ الزبير يُبَايِعُ عليا، انْتَهَى. قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْقَدْرِ كِفَايَةٌ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ النَّافِي عَلَى مَا بَعْدَ خُرُوجِ علي مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: ثَنَا الحسن بن أحمد بن حبيب، ثَنَا شاد بن فياض عَنْ عمر بن إبراهيم، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الحسن، عَنْ علي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» ". وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: ثَنَا نصر بن مرزوق، ثَنَا الخطيب، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الحسن، عَنْ علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا كَانَ فِي الرَّهْنِ فَضْلٌ، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَهُوَ بِمَا فِيهِ» ". الْحَدِيثَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، ثَنَا الحسن بن شبيب المعمري قَالَ: سَمِعْتُ محمد بن صدران السلمي، ثَنَا عبد الله بن ميمون المزني، ثَنَا عوف عن الحسن، عَنْ علي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلي: " «يَا علي، قَدْ جَعَلْنَا إِلَيْكَ هَذِهِ السَّبْعَةَ بَيْنَ النَّاسِ» ". الْحَدِيثَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَنَا علي بن عبد الله بن مبشر، ثَنَا أحمد بن سنان، ثَنَا يزيد بن هارون، أَنَا حميد الطويل عَنِ الحسن قَالَ: قَالَ علي: " إِنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَاجْعَلُوهُ صَاعًا مِنْ بُرٍّ وَغَيْرِهِ " -يَعْنِي زَكَاةَ الْفِطْرِ - وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَنَا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، ثَنَا أبو حفص الأبار عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ الحسن، عَنْ علي قَالَ: " الْخَلِيَّةُ، وَالْبَرِيَّةُ، وَالْبَتَّةُ، وَالْبَائِنُ، وَالْحَرَامُ ثَلَاثٌ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ". وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: ثَنَا ابن مرزوق، ثَنَا عمرو بن أبي رزين، ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنِ الحسن، عَنْ علي قَالَ: " لَيْسَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ وُضُوءٌ ". 50 وَقَالَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ: ثَنَا عبد الله بن محمد، ثَنَا أبو يحيى الرازي، ثَنَا هناد، ثَنَا ابن فضل عَنْ ليث، عَنِ الحسن عَنْ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " طُوبَى لِكُلِّ عَبْدٍ ثُومَةٍ عَرَفَ النَّاسَ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ، عَرَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرِضْوَانٍ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَكْشِفُ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلَّ فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ، سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِالْمَزَابِيعِ الْبُذَّرِ، وَلَا الْجُفَاةِ الْمُرَائِينَ ". وَقَالَ الخطيب فِي تَارِيخِهِ: أَنَا الحسن بن أبي بكر، أَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، ثَنَا محمد بن غالب، ثَنَا يحيى بن عمران، ثَنَا سليمان بن أرقم، عَنِ الحسن عَنْ علي قَالَ: " كَفَّنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَمِيصٍ أَبْيَضَ، وَثَوْبَيْ حَبِرَةٍ ". وَقَالَ جعفر بن محمد بن محمد فِي كِتَابِ الْعَرُوسِ: ثَنَا وكيع عَنِ الربيع، عَنِ الحسن، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَفَعَهُ " «مَنْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى آدَمَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ الذُّنُوبَ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ» " أَخْرَجَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَافِظَ ابن حجر قَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَمْ يَسْمَعِ الحسن مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قِيلَ: أَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ عثمان؟ قَالَ يَقُولُونَ عَنْهُ: رَأَيْتُ عثمان قَامَ خَطِيبًا، وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ علي، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرَ حَدِيثٍ، وَكَانَ علي لَمَّا خَرَجَ بَعْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 قَتْلِ عثمان كَانَ الحسن بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَدِمَ الْبَصْرَةَ فَسَكَنَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ. قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر: وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ أبي يعلى قَالَ: ثَنَا جويرية بن أشرس قَالَ: أَنَا عقبة بن أبي الصهباء الباهلي، قَالَ: سَمِعْتُ الحسن يَقُولُ: سَمِعْتُ عليا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ» ". الْحَدِيثَ، قَالَ محمد بن الحسن بن الصيرفي شَيْخُ شُيُوخِنَا: هَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي سَمَاعِ الحسن مِنْ علي، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ - جويرية وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ - وَعُقْبَةُ - وَثَّقَهُ أحمد، وَابْنُ مَعِينٍ -[انْتَهَى، وَحَدِيثٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ اللَّالْكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ: أَنَا أحمد بن محمد الفقيه، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ، ثَنَا تميم بن محمد، ثَنَا نصر بن علي، ثَنَا محمد بن سواء، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ عامر الأحوال عَنِ الحسن قَالَ: شَهِدْتُ عليا بِالْمَدِينَةِ وَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قُتِلَ عثمان قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي لَمْ أَرْضَ، وَلَمْ أُمَالِئْ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا. ثُمَّ وَجَدْتُ حَدِيثًا آخَرَ قَالَ الْحَافِظُ أبو بكر بن مسدي فِي مُسَلْسَلَاتِهِ: صَافَحْتُ أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسوي النغزوي بِهَا قَالَ: صَافَحْتُ أبا الحسن علي بن سيف الحصري بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ح وَصَافَحْتُ شبل بن أحمد بن شبل قَدِمَ عَلَيْنَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: صَافَحْتُ أبا محمد عبد الله بن مقبل بن محمد العجيني قَالَ: صَافَحْتُ محمد بن الفرج بن الحجاج السكسكي قَالَ: صَافَحْتُ أبا مروان عبد الملك بن ميسرة قَالَ: صَافَحْتُ أحمد بن محمد النغزوي، بِهَا قَالَ: صَافَحْتُ أحمد الأسود قَالَ: صَافَحْتُ ممشاد الدينوري قَالَ: صَافَحْتُ علي بن الرزيني الخراساني قَالَ: صَافَحْتُ عيسى القصار قَالَ: صَافَحْتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَالَ: صَافَحْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: صَافَحْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَافَحَتْ كَفِّي هَذِهِ سُرَادِقَاتِ عَرْشِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ ابن مسدي: غَرِيبٌ لَا نَعْلَمُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صُوفِيٌّ انْتَهَى] . مَسْأَلَةٌ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ عِمَامَةً صَفْرَاءَ، فَهَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ؟ . الْجَوَابُ: نَعَمْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا محمد بن الحسين الأنماطي البغدادي، ثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ إسماعيل بن عبد الله بن جعفر، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " «رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ بِزَعْفَرَانَ ; رِدَاءً وَعِمَامَةً» "، أَخْرَجَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ، أَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ عَنْ هشام بن سعد، عَنْ يحيى بن عبد الله بن مالك قَالَ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ بِالزَّعْفَرَانِ ; قَمِيصَهُ وَرِدَاءَهُ وَعِمَامَتَهُ» "، وَقَالَ: أَنَا هاشم بن القاسم، ثَنَا عاصم بن عمر، عَنْ عمر بن محمد، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ كُلَّهَا بِالزَّعْفَرَانِ حَتَّى الْعِمَامَةِ» ". وَأَخْرَجَ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ سلمان بن أرقم، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَصْفَرُ وَرِدَاءٌ أَصْفَرُ وَعِمَامَةٌ صَفْرَاءُ» "، وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَفِّرُ ثِيَابَهُ» "، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ» . وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا أسلم بن سهل، ثَنَا محمد بن الصباح، ثَنَا عبيد بن القاسم، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ ابن أبي أوفى قَالَ: " «كَانَ أَحَبُّ الصَّبْغِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّفْرَةَ» "، وَأَخْرَجَ ابن عساكر مِنْ طَرِيقِ عباد بن حمزة، «عَنْ عبد الله بن الزبير أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ، وَكَانَتْ عَلَى الزبير يَوْمَئِذٍ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ الْيَوْمَ عَلَى سِيمَا أبي عبد الله، وَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ» ". وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير: جَدِّي ابْنُ عَمَّةِ أَحْمَدَ وَوَزِيرُهُ ... عِنْدَ الْبَلَاءِ وَفَارِسُ الشَّعْوَاءِ وَغَدَاةَ بَدْرٍ كَانَ أَوَّلَ فَارِسٍ ... شَهِدَ الْوَغَى فِي اللَّامَةِ الصَّفْرَاءِ نَزَلَتْ بِسِيمَاهُ الْمَلَائِكُ نُصْرَةً ... بِالْحَوْضِ يَوْمَ تَأَلَّبَ الْأَعْدَاءُ (فِي عَدَدِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ) : أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ» ". وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وأبو داود وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيَبْلُغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَفْرَغُ مِنْ وُضُوئِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» ". وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عمر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» ". وَأَخْرَجَ أحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ أحمد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فُتِحَ لَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ دَخَلَ» ". وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» ". وَأَخْرَجَ الخطيب فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، وَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فُتِحَ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ لَهُ: ادْخُلْ مِنْ أَيِّ بَابٍ شِئْتَ» ". وَأَخْرَجَ محمد بن نصر فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وأبي سعيد قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَنَّهَا لَتَصْطَفِقُ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ، وأبو يعلى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْجَنَّةُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، سَبْعَةٌ مُغْلَقَةٌ، وَبَابٌ مَفْتُوحٌ لِلتَّوْبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ» ". وَأَخْرَجَ أحمد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ عقبة بن عبد السلمي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ دَخَلَ» ". وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ، أَوِ أُخْتَانَ، أَوْ عَمَّتَانِ، أَوْ خَالَتَانِ وَعَالَهُنَّ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ» ". وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ» "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اتَّقَتْ رَبَّهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا فُتِحَ لَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَقِيلَ لَهَا: ادْخُلِي مِنْ حَيْثُ شِئْتِ» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ: بَابٌ لِلْمُصَلِّينَ، وَبَابٌ لِلصَّائِمِينَ، وَبَابٌ لِلْحَاجِّينَ، وَبَابٌ لِلْمُعْتَمِرِينَ، وَبَابٌ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَبَابٌ لِلذَّاكِرِينَ، وَبَابٌ لِلصَّابِرِينَ، وَبَابٌ لِلشَّاكِرِينَ ". وَأَخْرَجَ أحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ، وأبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عقبة بن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْقَتْلَى ثَلَاثَةٌ» "، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: " «وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ، فَإِنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَلِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ» ". وَأَخْرَجَ إسحاق بن راهويه فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ عمر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ مَاتَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قِيلَ لَهُ: ادْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شِئْتَ» ". وَأَخْرَجَ المستغفري فِي الدَّعَوَاتِ، وَحَسَّنَهُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ حِينَ يَتَوَضَّأُ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِكُلِّ عُضْوٍ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَفْرَغُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» ". وَأَخْرَجَ الحاكم فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «مَاتَ ابْنٌ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عثمان، أَمَا تَرْضَى بِأَنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَلِلنَّارِ سَبْعَةً، وَأَنْتَ لَا تَنْتَهِي إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَ ابْنَكَ قَائِمًا عِنْدَهُ، آخِذًا بِحُجْزَتِكَ، يَشْفَعُ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَنَا فِي فَرَطِنَا مِثْلُ مَا لعثمان؟ قَالَ: نَعَمْ لِمَنْ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ» ". مَسْأَلَةٌ: فِيمَا هُوَ جَارٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ، وَفِي الْمَدَائِحِ النَّبَوِيَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَانَ لَهُ الصَّخْرُ، وَأَثَّرَتْ قَدَمُهُ فِيهِ، وَأَنَّهُ كَانَ إِذَا مَشَى عَلَى التُّرَابِ لَا تُؤَثِّرُ قَدَمُهُ فِيهِ، هَلْ لَهُ أَصْلٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ إِذَا وَرَدَ فِيهِ شَيْءٌ مَنْ خَرَّجَهُ؟ وَصَحِيحٌ هُوَ أَوْ ضَعِيفٌ؟ وَهَلْ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي فِي مِعْرَاجِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ مُسَجَّعًا، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ تَوَجَّهَ نَحْوَ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَمَّاهَا، فَصَعِدَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ أَعْلَاهَا، فَاضْطَرَبَتْ تَحْتَ قَدَمِ نَبِيِّنَا، وَلَانَتْ، فَأَمْسَكَتْهَا الْمَلَائِكَةُ لَمَّا تَحَرَّكَتْ وَمَالَتْ؟ أَلِهَذَا أَيْضًا أَصْلٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ صَحِيحٌ أَوْ ضَعِيفٌ، أَوْ لَا؟ وَهَلْ هَذَا الْأَثَرُ الْمَوْجُودُ الْآنَ بِصَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْمَعْرُوفُ هُنَاكَ بِقَدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحِيحٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ سَيِّدَنَا إِبْرَاهِيمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ - أَثَّرَتْ قَدَمَاهُ فِي الْحَجَرِ الَّذِي كَانَ يُبْنَى عَلَيْهِ الْبَيْتُ، الَّذِي هُوَ الْآنَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ ضَعِيفٌ، أَوْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ؟ وَهَلْ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةً إِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 حَصَلَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهَا أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ صَحِيحٌ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ وَمَنْ هُوَ قَائِلُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِمَكَّةَ وَوَقَفَ يَنْتَظِرُهُ أَلْزَقَ مَنْكِبَهُ وَمِرْفَقَهُ بِالْحَائِطِ فَغَاصَ الْمِرْفَقُ فِي الْحَجَرِ وَأَثَّرَ فِيهِ وَبِهِ سُمِّيَ الزُّقَاقُ بِمَكَّةَ زُقَاقَ الْمِرْفَقِ أَوْ لَيْسَ لِذَلِكَ أَصْلٌ؟ وَهَلْ مَا ذَكَرَهُ الثعلبي وَالطَّرْطُوشِيُّ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَفَرَ الْخَنْدَقَ وَظَهَرَتِ الصَّخْرَةُ وَعَجَزَتِ الصَّحَابَةُ عَنْ كَسْرِهَا نَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ وَضَرَبَهَا ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ وَأَنَّهَا لَانَتْ لَهُ وَتَفَتَّتْ صَحِيحٌ ذَلِكَ أَوْ ضَعِيفٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مُعْتَمَدٌ؟ وَهَلْ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّخْرَ لَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثَّرَتْ قَدَمُهُ فِيهِ يَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَا؟ الْجَوَابُ: أَمَّا حَدِيثُ الصَّخْرَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي الْخَنْدَقِ وَعَجَزَ الصَّحَابَةُ عَنْ كَسْرِهَا وَضَرَبَهَا ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ فَكَسَرَهَا، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وأبو نعيم مَعًا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَدِيثِ عمرو بن عوف المزني، وَمِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جابر قَالَ: «إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ» ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ سَيِّدَنَا إِبْرَاهِيمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ - أَثَّرَتْ قَدَمَاهُ فِي الْحَجَرِ الَّذِي كَانَ يُبْنَى عَلَيْهِ الْبَيْتُ وَهُوَ الْمَقَامُ؟ فَنَعَمْ، وَرَدَ ذَلِكَ، أَخْرَجَهُ الأزرقي فِي تَارِيخِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ عكرمة، وَبَقِيَّةُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَسْئِلَةِ لَمْ أَقِفْ لَهُ عَلَى أَصْلٍ وَلَا سَنَدٍ وَلَا رَأَيْتُ مَنْ خَرَّجَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ. شَرْطُ الْبُخَارِيِّ الْإِمَامِ وَمُسْلِمٍ ... فِيمَا حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مُتَوَافِرَهْ تَخْرِيجُ مَا يَرْوِيهِ عَنْ خَيْرِ الْوَرَى ... اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُتَكَاثِرَهْ وَعَلَيْهِ أَوْرَدَ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ مَنْ ... فِي الْحِفْظِ رُتْبَتُهُ لَدَيْهِمْ قَاصِرَهْ فَأَجَابَهُ الْقَاضِي أبو بكر هُوَ الْعَ ... رَبِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ نَاصِرَهْ أَنَّ رُوَاةَ أبي سعيد فَانْتَفَى الْإِ ... يرَادُ وَارْتَفَعَتْ حُلَاهُ الْفَاخِرَهْ وَسِوَاهُ زَادَ أَبَا هُرَيْرَةَ فِيهِ مَعَ ... أَنَسٍ فَصَارَتْ أَرْبَعًا مُتَظَافِرَهْ وَجَمَاعَةٌ قَالُوا بِأَبْلَغَ مِنْهُ أَنْ ... يُدْرِجْنَهُ فِي زُمْرَةِ الْمُتَوَاتِرَهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 فَعَنِ ابن منده قَدْ رَوَاهُ ثَمَانِ عَشْ رَةَ مِنْ صِحَابٍ كَالنُّجُومِ الزَّاهِرَهْ ... يَا مَنْ يَرُومُ الْخَوْضَ فِي ذَا الْفَنِّ لَا تَقَدَّمْ عَلَيْهِ بِهِمَّةٍ مُتَقَاصِرَهْ ... لَا يَصْلُحُ الْإِقْدَامُ فِيمَا رُمْتَهُ حَتَّى تَلَجَّجَ فِي الْبِحَارِ الزَّاخِرَهْ مَسْأَلَةٌ: ذَكَرَ ذَاكِرٌ أَنَّ أَكْثَرَ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ كَانَتْ بِقِرَاءَةِ نافع، وَهَذَا شَيْءٌ لَا أَصْلَ لَهُ الْبَتَّةَ بَلْ كَانَ يَقْرَأُ بِجَمِيعِ الْأَحْرُفِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ يُنْسَبُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرٌ لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا خَرَّجَهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي كُتُبِهِمْ لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا بِإِسْنَادٍ غَيْرِ صَحِيحٍ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ لَا مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ وَالَّذِي رَوَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا قَرَأَ بِسُورَةِ كَذَا [أَوْ بِسُورَةِ كَذَا] ، وَلَمْ يَقُولُوا فِي رِوَايَتِهِمْ قَرَأَ السُّورَةَ الْفُلَانِيَّةَ بِلَفْظِ كَذَا وَلَفْظِ كَذَا حَتَّى تُطَابِقَ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ فَتُوجَدَ مُوَافِقَةً لِقِرَاءَةِ نافع، وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا الْكَلَامُ عِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَكَانَ أَوَّلَ قَائِلٍ بِقِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ ثَابِتَةٌ فِي قِرَاءَةِ قَالُونَ عَنْ نافع، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ مالك أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ فِي الصَّلَاةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرُ قِرَاءَتِهِ بِقِرَاءَةِ نافع، وَمَا كُلُّ حَدِيثٍ وُجِدَ مَقْطُوعًا بِغَيْرِ سَنَدٍ فِي كِتَابٍ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ تَخْرِيجُهُ فِي كِتَابٍ حَافِظٍ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ صَحِيحٍ، وَكَمْ فِي الْكُتُبِ مِنْ أَحَادِيثَ لَا أَصْلَ لَهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا النَّقْلَ لَا وُجُودَ لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ القرافي فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ تُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لُغَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَلُغَةُ قُرَيْشٍ عَدَمُ تَحْقِيقِ الْهَمْزِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لُغَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرُ قِرَاءَتِهِ فِي الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ نافع، وَلَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ الْبَتَّةَ وَلَا خَرَّجَهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، بَلْ وَلَا فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرُ قِرَاءَتِهِ بِتَسْهِيلٍ، أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لُغَتُهُ مِنْ غَيْرِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزِ الَّذِي هُوَ لُغَتُهُ، وَبِتَحْقِيقِ الْهَمْزِ الَّذِي هُوَ لُغَةُ غَيْرِ قُرَيْشٍ، وَبِتَرْكِ الْإِمَالَةِ الَّذِي هُوَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَبِالْإِمَالَةِ الَّتِي هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَذِكْرُ الْأَكْثَرِيَّةِ تَحْتَاجُ إِلَى نَصْرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَرَّجٍ فِي كِتَابٍ مُعْتَبَرٍ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ صَحِيحٍ، وَلَا وُجُودَ لِذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَذَكَرَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالتَّرْقِيقِ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ ; لِأَنَّهَا تُذْهِبُ الْخُشُوعَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ خَاصٌّ، وَلَمْ يَرِدْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ نَهْيٌ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهَا تُذْهِبُ الْخُشُوعَ مَمْنُوعٌ ; لِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْفِكْرِ فِي أَدَاءِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ ; فَجَمِيعُ هَيْئَاتِ الْأَدَاءِ كَذَلِكَ، وَالْفِكْرُ فِي أَدَاءِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا لَا يُنَافِي الْخُشُوعَ ; لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ وَالدِّينِ، وَإِنَّمَا يُنَافِي الْخُشُوعَ الْفِكْرُ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ لَا الدِّينِيَّةِ وَلَا الْأُخْرَوِيَّةِ - نَصُّوا عَلَيْهِ - ثُمَّ إِنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ قِسْمِ الْقَبِيحِ كَمَا أَنَّ الْمَنْدُوبَ عِنْدَهُمْ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ، وَلَا يُوصَفُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْقُبْحِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، قُلْنَا: مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ يَقْرَأُ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ بِأَنَّ غَيْرَ الْأَفْضَلِ تُكْرَهُ قِرَاءَتُهُ، هَذَا لَا يَتَوَهَّمُهُ أَحَدٌ، ثُمَّ إِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالْأَحْرُفِ الثَّابِتَةِ فِي السَّبْعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَيْفَ يُتَخَيَّلُ أَنْ يُوصَفَ مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ؟ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا النَّقْلَ لَا وُجُودَ لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ القرافي فِي الذَّخِيرَةِ وَكَرِهَ مالك التَّرْقِيقَ وَالتَّفْخِيمَ وَالرَّوْمَ وَالْإِشْمَامَ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهَا تَشْغَلُ عَنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ أَقْسَامُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ الَّتِي يَصِفُهَا الْأُصُولِيُّونَ بِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي قِسْمِ الْقَبِيحِ كَالْحَرَامِ، بَلِ الْكَلَامُ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ كمالك وَالشَّافِعِيِّ لَهَا إِطْلَاقَانِ: أَحَدُهُمَا هَذَا وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْآخَرُ بِمَعْنَى: أَنَّ الْمُجْتَهِدَ أَحَبَّ وَاخْتَارَ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِدْخَالِهِ فِي قِسْمِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي هُوَ مِنْ نَوْعِ الْقَبِيحِ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ بِالْكَرَاهَةِ الْإِرْشَادِيَّةِ وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ لَا ثَوَابَ فِي تَرْكِهَا وَلَا قُبْحَ فِي فِعْلِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَأَنَا أَكْرَهُ الْمُشَمَّسَ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ شَرْعِيَّةٌ يُثَابُ فِيهَا أَوْ إِرْشَادِيَّةٌ لَا ثَوَابَ فِيهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَنَا أَكْرَهُ الْإِمَامَةَ ; لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ وَأَنَا أَكْرَهُ سَائِرَ الْوِلَايَاتِ، فَلَيْسَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ الْكَرَاهَةَ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْخَمْسَةِ الدَّاخِلَةِ فِي قِسْمِ الْقَبِيحِ، كَيْفَ وَالْإِمَامَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ ; لِأَنَّ بِهَا تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ الَّتِي هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، والرافعي يَقُولُ: إِنَّهَا أَفْضَلُ مِنَ الْأَذَانِ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَضْلٌ وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلْكَرَاهَةِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الدُّخُولَ فِيهَا وَلَا يَخْتَارُهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ فَهِيَ كَرَاهَةٌ إِرْشَادِيَّةٌ لَا شَرْعِيَّةٌ، فَلَوْ فَعَلَهَا لَمْ يُوصَفْ فِعْلُهُ بِقُبْحٍ بَلْ هُوَ آتٍ بِعِبَادَةٍ فِيهَا فَضْلٌ إِجْمَاعًا، إِمَّا فَضْلٌ يَزِيدُ عَلَى فَضْلِ الْآذَانِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الرافعي، أَوْ يَنْقُصُ عَنْهُ كَمَا هُوَ رَأْيُ النووي، وَلَوْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ مَكْرُوهَةً كَرَاهَةً شَرْعِيَّةً لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ الْبَتَّةَ ; لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ وَالثَّوَابَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ القرافي، وَكَرِهَ مالك مَا ذَكَرَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَحَبَّ وَاخْتَارَ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ أَمْرٌ إِرْشَادِيٌّ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ الْكَرَاهَةَ الَّتِي يَدْخُلُ مُتَعَلِّقُهَا فِي قِسْمِ الْقَبِيحِ، مَعَاذَ اللَّهِ هَذَا لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ دُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 مالك بِكَثِيرٍ فَضْلًا عَنْ هَذَا الْإِمَامِ الْجَلِيلِ إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ وَإِمَامِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنَّا بِهِ. [بُلُوغُ الْمَأْمُولِ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وجابر، فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْرَجَهُ عبد الرزاق فِي الْمُصَنَّفِ، وأحمد فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي، وأبو يعلى، والعدني فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْجَارُودِ فِي الْمُنْتَقَى، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ - وَقَدْ صَحَّحَهُ جَمْعٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ - الحاكم كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَابْنُ الْجَارُودِ، وَحَيْثُ أَخْرَجَهُ فِي الْمُنْتَقَى فَإِنَّهُ الْتَزَمَ فِيهِ الصَّحِيحَ، والضياء حَيْثُ أَخْرَجَهُ فِي الْمُخْتَارَةِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ فِيهَا الصَّحِيحَ الزَّائِدَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ وَقَالُوا: إِنَّ صَحِيحَهَا أَقْوَى مِنْ صَحِيحِ الْمُسْتَدْرَكِ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا ابن الطلاع فِي أَحْكَامِهِ نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ ابن حجر فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الرافعي، وَلَمَّا حَكَى الْحَافِظُ أبو الفضل العراقي فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ الحاكم صَحَّحَهُ أَقَرَّهُ وَأَوْرَدَ لَهُ عِدَّةَ طُرُقٍ تَقْوِيَةً لِإِسْنَادِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، والحاكم، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا ابن الطلاع، لَكِنْ تَعَقَّبَ الْحَافِظُ ابن حجر تَصْحِيحَ ابن الطلاع لَهُ فَقَالَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَصِحَّ. قُلْتُ: لَكِنْ صَحَّحَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مَعًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ، وَلَعَلَّهُ الَّذِي حَمَلَ الحاكم عَلَى تَصْحِيحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَعَقَّبَ الذَّهَبِيُّ تَصْحِيحَ الحاكم لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: فِي سَنَدِهِ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُ الْحَافِظُ العراقي بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْرَجَهُ شَاهِدًا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وَأَمَّا حَدِيثُ جابر فَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ حَيْثُ قَالَ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَفِي الْبَابِ عَنْ جابر وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ العراقي فِي شَرْحِهِ: رَوَاهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ طَرِيقِ محمد بن القاسم عَنْ يحيى بن أيوب عَنْ عباد بن كثير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جابر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوهُ» ، وَرَوَاهُ ابن وهب عَنْ يحيى بن أيوب عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابن عقيل، انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَ جابر الْحَارِثُ ابن أبي أسامة فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ مِنْ طَرِيقِ عباد بن كثير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جابر سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوهُ» . وَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ طَرِيقًا آخَرَ مِنْ حَدِيثِ علي، وَقَدْ فَاتَ الْحَافِظَيْنِ: العراقي، وابن حجر، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ: حَدَّثَنِي محمد بن معمر البحراني ثَنَا يحيى بن عبد الله بن بكر ثَنَا حسين بن زيد عَنْ جعفر بن محمد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُرْجَمُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ» . تَنْبِيهٌ: إِنَّمَا احْتَاجَ الحاكم فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى شَاهِدٍ ; لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَنْ عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، وعمرو وَثَّقَهُ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ مالك وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَا حَدِيثَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الْأُصُولِ، وَضَعَّفَهُ أبو داود وَالنَّسَائِيُّ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْكَرَ النَّسَائِيُّ حَدِيثَهُ هَذَا، وَقَالَ يحيى: كَانَ يَسْتَضْعِفُ، قَالَ الذهبي فِي الْمِيزَانِ بَعْدَ حِكَايَةِ هَذَا: مَا هُوَ بِمُسْتَضْعَفٍ وَلَا بِضَعِيفٍ، نَعَمْ وَلَا هُوَ فِي الثِّقَةِ كَالزُّهْرِيِّ وَذَوِيهِ، قَالَ: وَرَوَى أحمد بن أبي مريم عَنِ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو ثِقَةٌ يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» قَالَ الذهبي عَقِبَ ذَلِكَ: حَدِيثُهُ صَالِحٌ حَسَنٌ مُنْحَطٌّ عَنِ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مِنَ الصَّحِيحِ انْتَهَى. وَالْمُقَرَّرُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِذَا وُجِدَ لَهُ مُتَابِعٌ أَوْ شَاهِدٌ حُكِمَ لِحَدِيثِهِ بِالصِّحَّةِ، فَلِهَذَا احْتَاجَ الْحَاكِمُ إِلَى تَخْرِيجِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِيَكُونَ شَاهِدًا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ إِلَّا أَنَّهُ أَوْرَدَهُ شَاهِدًا أَصْلًا لِيَتِمَّ لَهُ تَصْحِيحُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ أبو الفضل العراقي عِدَّةَ طُرُقٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَقْوِيَةً لِتَصْحِيحِ الحاكم لَهُ فَقَالَ: قَدْ وَرَدَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، وحسين بن عبد الله عَنْ عكرمة، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مُتَابِعِينَ لِعَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، فَرِوَايَةُ داود أَخْرَجَهَا أحمد فِي مُسْنَدِهِ بِاللَّفْظِ السَّابِقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وَأَخْرَجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ بِلَفْظِ: " «مَنْ وَقَعَ عَلَى الرَّجُلِ فَاقْتُلُوهُ» "، وَرِوَايَةُ عباد أَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظٍ فِي الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ وَفِي الَّذِي يُؤْتَى فِي نَفْسِهِ قَالَ: يُقْتَلُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ بِلَفْظِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ فِي اللُّوطِيَّةِ» ، وَرِوَايَةُ حسين أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِاللَّفْظِ السَّابِقِ. وَأَوْرَدَ العراقي أَيْضًا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ، وَالثَّانِي فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ، وَلَفْظُهُمَا مُخَالِفٌ لِلَّفْظِ السَّابِقِ، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ جابر كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَعَنْ [أبي] أيوب عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ، هَذَا جَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ العراقي مِنَ الشَّوَاهِدِ لِتَصْحِيحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: وَقَدْ وَجَدْتُ شَاهِدًا آخَرَ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ قَالَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ: ثَنَا أبو محمد طلحة، وأبو إسحاق سعد، أَنْبَأَ محمد بن إسحاق النَّاقِدُ قَالَا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا وكيع، ثَنَا محمد بن قيس عَنْ أبي حصين عَنْ أبي عبد الرحمن: أَنَّ عثمان أَشْرَفَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الدَّارِ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَتْلُ إِلَّا عَلَى أَرْبَعَةٍ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ: ثَنَا وكيع، ثَنَا محمد بن قيس عَنْ أبي حصين عَنْ أبي عبد الرحمن: أَنَّ عثمان أَشْرَفَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الدَّارِ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِأَرْبَعَةٍ: رَجُلٌ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَفِي قَوْلِ عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّاسِ: أَمَا عَلِمْتُمْ دَلِيلًا عَلَى اشْتِهَارِ هَذَا عِنْدَهُمْ كَالثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا غسان بن مضر عَنْ سعيد بن يزيد عَنْ أبي نضرة قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا حَدُّ اللُّوطِيِّ؟ قَالَ: يُنْظَرُ إِلَى أَعْلَى بِنَاءٍ فِي الْقَرْيَةِ فَيُرْمَى مِنْهُ مُنَكَّسًا ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ. وَقَالَ عبد الرزاق فِي الْمُصَنَّفِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. ح، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا محمد بن بكر عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عبد الله بن عثمان بن حثيم سَمِعَ مُجَاهِدًا وسعيد بن جبير يُحَدِّثَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبِكْرِ يُوجَدُ عَلَى اللُّوطِيَّةِ: إِنَّهُ يُرْجَمُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا وكيع عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ القاسم أبي الوليد عَنْ يزيد بن قيس أَنَّ عليا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 رَجَمَ لُوطِيًّا، وَقَالَ: ثَنَا وكيع عَنْ سفيان عَنْ جابر عَنْ مُجَاهِدٍ فِي اللُّوطِيِّ قَالَ: يُرْجُمُ أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ، وَقَالَ: ثَنَا يزيد، أَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبراهيم فِي اللُّوطِيِّ قَالَ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ يُرْجَمُ مَرَّتَيْنِ رُجِمَ هَذَا. وَقَالَ: ثَنَا عبد الأعلى عَنْ سعيد عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عبيد الله بن عبد الله بن معمر فِي اللُّوطِيِّ قَالَ: عَلَيْهِ الرَّجْمُ قِتْلَةَ قَوْمِ لُوطٍ. وَقَالَ: ثَنَا عبد الأعلى، عَنْ سعيد، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جابر بن زيد قَالَ: حُرْمَةُ الدُّبُرِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْفَرْجِ، قَالَ قَتَادَةُ: نَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى الرَّجْمِ. فَهَذِهِ الْآثَارُ كُلُّهَا شَوَاهِدُ لِتَقْوِيَةِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَيْفَ يَعْتَمِدُ مولى يحيى وأبي داود وَالنَّسَائِيِّ فِي ضَعْفِ رَاوِيهِ لَوِ انْفَرَدَ، وَقَدْ وَثَّقَهُ رُؤُوسُ الْأَئِمَّةِ مالك وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ الَّذِينَ هُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى كُلِّ حَافِظٍ فِي عَصْرِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَخَرَّجُوا لَهُ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ قَالَ الذهبي فِي الْمَوْعِظَةِ: مَنْ أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا احْتَجَّا بِهِ فِي الْأُصُولِ، وَثَانِيهِمَا: مَنْ خَرَّجَا لَهُ مُتَابَعَةً وَشَهَادَةً وَاعْتِبَارًا، فَمَنِ احْتَجَّا بِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُوَثَّقْ وَلَا غُمِزَ: فَهُوَ ثِقَةٌ حَدِيثُهُ قَوِيٌّ، وَمَنِ احْتَجَّا بِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَتَكَلَّمَ فِيهِ: فَتَارَةً يَكُونُ الْكَلَامُ [تَعَنُّتًا وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَوْثِيقِهِ ; فَهَذَا حَدِيثُهُ قَوِيٌّ أَيْضًا، وَتَارَةً يَكُونُ الْكَلَامُ] فِي تَلْيِينِهِ وَحِفْظِهِ لَهُ اعْتِبَارٌ ; فَهَذَا حَدِيثُهُ لَا يَنْحَطُّ عَنْ مَرْتَبَةِ الْحَسَنِ الَّذِي قَدْ يُسَمِّيهَا مِنْ أَدْنَى دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ، فَمَا فِي الْكِتَابَيْنِ بِحَمْدِ اللَّهِ رَجُلٌ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ أَوْ مُسْلِمٌ فِي الْأُصُولِ وَرِوَايَاتُهُ ضَعِيفَةٌ بَلْ حَسَنَةٌ أَوْ صَحِيحَةٌ، وَمَنْ خَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ أَوْ مُسْلِمٌ فِي الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ فَفِيهِمْ مَنْ فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ وَفِي تَوْثِيقِهِ تَرَدُّدٌ، فَكُلُّ مَنْ خَرَّجَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَقَدْ قَفَزَ الْقَنْطَرَةَ فَلَا مَعْدِلَ لَهُ إِلَّا بِبُرْهَانٍ بَيِّنٍ، نَعَمْ، الصَّحِيحُ مَرَاتِبُ وَالثِّقَاتُ طَبَقَاتٌ، انْتَهَى كَلَامُ الذهبي فِي الْمَوْعِظَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ عمرو بن أبي عمر خَرَّجَ حَدِيثَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الْأُصُولِ فَكَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى حَدِيثِهِ هَذَا بِالضَّعْفِ كَمَا تَرَاهُ فِي كَلَامِ الذهبي، هَذَا وَهُوَ لَمْ يَنْفَرِدْ بَلْ لَهُ مُتَابِعُونَ عَنْ عكرمة وَلِحَدِيثِهِ شَوَاهِدُ مِنْ رِوَايَةِ عِدَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَلِهَذَا صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى تَضْعِيفِ مَنْ ضَعَّفَ رَاوِيَهُ وَاحْتَاجَ الحاكم إِلَى إِيرَادِ شَاهِدٍ لَهُ ; لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِ عمرو أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ حَسَنًا فَيَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدٍ يُرَقِّيهِ إِلَى دَرَجَةِ الصِّحَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 تَنْبِيهٌ آخَرُ: ذَكَرَ الْحَافِظُ ابن حجر فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الرافعي أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ مُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى فَائِدَةٍ مُهِمَّةٍ مِنِ اصْطِلَاحِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُبَيِّنَهَا ; لِأَنَّ مَنْ لَا إِلْمَامَ لَهُ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ لَا يَفْهَمُ مُرَادَهُ بِذَلِكَ، وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي الْحَدِيثِ كَمَا رَأَى مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْفَنِّ قَوْلَ التِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثِ: «أَنَا دَارُ الْحِكْمَةِ وعلي بَابُهَا» فِي بَعْضِ النُّسَخِ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، فَظَنَّ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ بَاطِلٌ أَوْ مَوْضُوعٌ ; لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْمُصْطَلَحِ وَجَهْلِهِ أَنَّ الْمُنْكَرَ مِنْ أَقْسَامِ الضَّعِيفِ الْوَارِدِ لَا مِنْ أَقْسَامِ الْبَاطِلِ الْمَوْضُوعِ، وَإِنَّمَا هَذَا لَفْظٌ اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ وَجَعَلُوهُ لَقَبًا لِنَوْعٍ مَحْدُودٍ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّعِيفِ، كَمَا اصْطَلَحَ النُّحَاةُ عَلَى جَعْلِهِمُ الْمَوْصُولَ مَثَلًا لَقَبًا لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ وَقَعَ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ أَنَّهُ رَوَى فِي تَارِيخِهِ حَدِيثًا بَاطِلًا وَقَالَ عقبه: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، فَتَعَقَّبَهُ الذهبي فِي الْمِيزَانِ وَقَالَ: الْعَجَبُ مِنَ الخطيب كَيْفَ يُطْلِقُ لَفْظَ الْمُنْكَرِ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ الْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْمُنْكَرَ عَلَى حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، وَوَصَفَ فِي الْمِيزَانِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ فِي مُسْنَدِ أحمد وَسُنَنِ أبي داود وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ بِأَنَّهَا مُنْكَرَةٌ، بَلْ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَعْنًى يَعْرِفُهُ الْحُفَّاظُ وَهُوَ أَنَّ النَّكَارَةَ تَرْجِعُ إِلَى الْفَرْدِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْفَرْدِيَّةِ ضَعْفُ مَتْنِ الْحَدِيثِ فَضْلًا عَنْ بُطْلَانِهِ، وَطَائِفَةٌ كَابْنِ الصَّلَاحِ تَرَى أَنَّ الْمُنْكَرَ وَالشَّوَاذَّ مُتَرَادِفَانِ، وَكَمْ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثٍ وُصِفَ بِالشُّذُوذِ، كَحَدِيثِ مُسْلِمٍ فِي نَفْيِ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالشُّذُوذِ، وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَقُولَ قَدْ شَرَطُوا فِي الصَّحِيحِ أَنْ لَا يَكُونَ شَاذًّا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنَّ يَكُونَ مُخَرَّجًا فِي الصَّحِيحِ وَيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالشُّذُوذِ ; لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ عَدَمِ مَعْرِفَتِكَ بِالضَّعْفِ، فَإِنَّ ابن الصلاح لَمَّا ذَكَرَ ضَابِطَ الصَّحِيحِ وَشَرَطَ أَنْ لَا يَكُونَ شَاذًّا قَالَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ: فَهَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي يُحْكَمُ لَهُ بِالصِّحَّةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ هَذَا ضَابِطُ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَبَقِيَ مِنَ الصَّحِيحِ نَوْعٌ آخَرُ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الضَّابِطِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ الزركشي فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ ابن الصلاح: خَرَجَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عَنْ هَذَا التَّعْرِيفِ، ثُمَّ قَالَ ابن الصلاح بَعْدَ هَذَا: فَوَائِدُ مُهِمَّةٌ: أَحَدُهَا الصَّحِيحُ يَتَنَوَّعُ إِلَى مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَيَتَنَوَّعُ إِلَى مَشْهُورٍ وَغَرِيبٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ الزركشي فِي شَرْحِهِ، وَالْحَافِظُ ابن حجر فِي نُكَتِهِ عِنْدَ هَذَا الْمَوْضِعِ: ذَكَرَ الحاكم فِي الْمَدْخَلِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْحَدِيثِ يَنْقَسِمُ عَشَرَةَ أَقْسَامٍ: خَمْسَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَخَمْسَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا: فَالْأَوَّلُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَهُوَ الدَّرَجَةُ الْأُولَى مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الصَّحِيحِ الَّذِي يَرْوِيهِ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ الَّذِي لَهُ رَاوِيَانِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ بِهَذَا الشَّرْطِ لَا يَبْلُغُ عَدَدُهَا عَشَرَةَ آلَافٍ. الثَّانِي: الصَّحِيحُ بِنَقْلِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ عَنِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ إِلَى الصَّحَابِيِّ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٍ. الثَّالِثُ: أَخْبَارُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٍ. الرَّابِعُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْأَفْرَادُ وَالْغَرَائِبُ الَّتِي يَرْوِيهَا الثِّقَاتُ الْعُدُولُ تَفَرَّدَ بِهَا ثِقَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ وَلَيْسَ لَهَا طُرُقٌ مُخَرَّجَةٌ فِي الْكُتُبِ. الْخَامِسُ: أَحَادِيثُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَنْ آبَائِهِمْ عَنْ أَجْدَادِهِمْ وَلَمْ تَتَوَاتَرِ الرِّوَايَةُ عَنْ آبَائِهِمْ عَنْ أَجْدَادِهِمْ بِهَا إِلَّا عَنْهُمْ. وَأَمَّا الْأَقْسَامُ الْخَمْسَةُ الْمُخْتَلَفُ فِي صِحَّتِهَا: فَالْأَوَّلُ: الْمُرْسَلُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ. الثَّانِي: رِوَايَةُ الْمُدَلِّسِينَ إِذَا لَمْ يَذْكُرُوا سَمَاعَهُمْ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ. الثَّالِثُ: خَبَرٌ يَرْوِيهِ ثِقَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ عَنْ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيُسْنِدُهُ ثُمَّ يَرْوِيهِ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ فَيُرْسِلُونَهُ. الرَّابِعُ: رِوَايَةُ مُحَدِّثٍ صَحِيحِ السَّمَاعِ صَحِيحِ الْكِتَابِ ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ وَلَا يَحْفَظُهُ فَإِنَّ هَذَا الْقِسْمَ صَحِيحٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى الْحُجَّةَ بِهِ. الْخَامِسُ: رِوَايَاتُ الْمُبْتَدَعَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّ رِوَايَاتِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَقْبُولَةٌ إِذَا كَانُوا صَادِقِينَ، قَالَ الحاكم: فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ ذَكَرْتُهَا لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، انْتَهَى. إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَقَوْلُ الْحَافِظِ ابن حجر: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ، أَرَادَ بِهِ بَيَانَ أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لَا مِنَ الْقِسْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَقَصَدَ بِذَلِكَ تَكْمِلَةَ الْفَائِدَةِ، فَإِنَّ طَرِيقَتَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَطْلَقَ ثُبُوتَهُ، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي نَبَّهَ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ الْجَلِيلِ مِنْ نَفَائِسِ الصِّنَاعَةِ الْحَدِيثِيَّةِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْمُتَبَحِّرُ فِي الْفَنِّ كَمُؤَلِّفِهِ، فَلْيَحْذَرِ الْمَرْءُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى التَّكَلُّمِ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلْيُمْعِنْ فِي تَحْصِيلِ الْفَنِّ حَتَّى يَطُولَ بَاعُهُ وَيَرْسَخَ قَدَمُهُ، وَيَتَبَحَّرَ فِيهِ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي حَدِيثِ: «مَنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . وَلَا يَغْتَرَّ بِكَوْنِهِ لَا يَجِدُ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَبَعْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ إِمَّا فِي الْقَبْرِ أَوْ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَاكَ يُخَاصِمُهُ وَيَقُولُ لَهُ: كَيْفَ تُجَازِفُ فِي حَدِيثِي وَتَتَكَلَّمُ فِيمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ شَيْئًا قُلْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَنْسِبَ إِلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْهُ، أَمَا قَرَأْتَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيَّ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] فَيَا خَيْبَتَهُ يَوْمَئِذٍ وَيَا فَضِيحَتَهُ هَذَا إِنْ مَاتَ مُسْلِمًا وَإِلَّا عُوقِبَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ كَمَا يَقُولُ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي بَعْضِ الْخُطَبِ وَالذُّنُوبِ، فَرُبَّ ذَنْبٍ يُعَاقَبُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ، وَكَمَا نَقَلَ الشَّيْخُ محيي الدين القرشي الحنفي فِي تَذْكِرَتِهِ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرُ مَا يُسْلَبُ النَّاسَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَكْبَرُ أَسْبَابِ ذَلِكَ الظُّلْمُ، وَأَيُّ ظُلْمٍ أَعْظَمُ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى الْخَوْضِ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ. [مَبْحَثُ الْإِلَهِيَّاتِ] [الْإِيمَانِ] الْفَتَاوَى الْأُصُولِيَّةِ الدِّينِيَّةِ مَبْحَثُ الْإِلَهِيَّاتِ مَسْأَلَةٌ: فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ، وَرُكْنِهِ، وَشَرْطِهِ، وَسَبَبِهِ، وَمَحَلِّهِ، وَهَلْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَشَرْطُهُ التَّلَفُّظُ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَقِيلَ هُوَ رُكْنٌ لَهُ، وَسَبَبُهُ النَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ، وَمَحَلُّهُ الْقَلْبُ وَهُوَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ كَثِيرَةٌ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَدْرِ صَحِيحِهِ مِنْهَا جُمْلَةً، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] . وَفِي الْحَدِيثِ: «الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ» أَخْرَجَهُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، مَرْفُوعًا والديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. [إِتْمَامُ النِّعْمَةِ فِي اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَبَعْدُ: فَقَدْ وَقَعَ السُّؤَالُ هَلْ كَانَ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ أَوْ لَا؟ فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُطْلَقُ الْإِسْلَامُ عَلَى كُلِّ دِينٍ حَقٍّ أَوْ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ الشَّرِيفَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَرْجَحُهُمَا الثَّانِي، فَبَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مُنْكِرًا أَنْكَرَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَشْيَاءَ عَلَى كَوْنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ يُوصَفُونَ بِكَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ عَجَبَيْنِ: الْأَوَّلُ: مِنْ إِنْكَارِهِ، فَإِنْ كَانَ أَنْكَرَ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ بِنُصُوصِ الْعُلَمَاءِ وَأَقْوَالِهِمْ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يُقَالُ فِي حَقِّهِ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ: لَوْ سَكَتَ مَنْ لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 يَعْرِفُ قَلَّ الِاخْتِلَافُ، وَمَنْ قَصُرَ بَاعُهُ وَضَاقَ نَظَرُهُ عَنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ فَمَا لَهُ لِلتَّكَلُّمِ فِيمَا لَا يَدْرِيهِ وَالدُّخُولِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَحَقُّ مِثْلِ هَذَا أَنْ يَلْزَمَ السُّكُوتَ، وَإِذَا سَمِعَ شَيْئًا لَمْ يَسْمَعْهُ قَطُّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ اسْتَفَادَ فَائِدَةً جَدِيدَةً فَيَعُدُّهَا نِعْمَةً مِنْ نَعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَدْعُو لِمَنْ أَجْرَاهَا عَلَى يَدَيْهِ وَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَنْكَرَ تَرْجِيحَ الْقَوْلِ الثَّانِي فَهَذَا لَيْسَ مِنْ وَظِيفَتِهِ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِينَ الْعَالِمِينَ بِوُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ وَمَسَالِكِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْحِجَاجِ وَالنَّظَرِ، وَإِنْكَارُهُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. الْعَجَبُ الثَّانِي: مِنِ اسْتِدْلَالِهِ، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ إِنَّمَا يَسُوغُ لِلْمُجْتَهِدِ الْعَالِمِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَمَّا غَيْرُهُ فَمَا لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْرِقَةِ: [شَرْطُ الْمُقَلِّدِ] أَنْ يَسْكُتَ وَيُسْكَتَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ قَاصِرٌ عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الْحِجَاجِ، وَلَوْ كَانَ أَهْلًا لَهُ كَانَ مُسْتَتْبَعًا لَا تَابِعًا وَإِمَامًا لَا مَأْمُومًا. وَإِنْ خَاضَ الْمُقَلِّدُ فِي الْمُحَاجَّةِ فَذَلِكَ مِنْهُ فُضُولٌ، وَالْمُشْتَغِلُ بِهِ ضَارِبٌ فِي حَدِيدٍ بَارِدٍ وَطَالِبٍ لِإِصْلَاحٍ فَاسِدٍ، وَهَلْ يُصْلِحُ الْعَطَّارُ مَا أَفْسَدَ الدَّهْرُ؟ هَذِهِ عِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام: شَرْطُ الْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ إِذَا أَفْتَى فَهُوَ نَاقِلٌ وَحَامِلُ فِقْهٍ لَيْسَ بِمُفْتٍ وَلَا فَقِيهٍ بَلْ هُوَ كَمَنْ يَنْقُلُ فَتْوَى عَنْ إِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ أَطَالَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، وَالْعَجَبُ مِنْ هَذَا الْمُنْكِرِ اسْتِدْلَالُهُ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ أَتْقَنَ عِلْمَ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الَّذِي لَا تُعْرَفُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ وَأَسَالِيبُهُ إِلَّا بِهِ، وَذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، بَلْ وَلَا أَتْقَنَ وَاحِدًا مِنَ الْعُلُومِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى يُتْقِنَهَا، وَالْعَجَبُ مِنْ تَصَدِّيهِ لِذِكْرِ أَدِلَّةٍ وَلَوْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَدِلَّةً مُعَارِضَةً لِمَا ذَكَرَهُ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ فِيهَا، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَبْسُطَ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِذِكْرِ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ وَالْأَجْوِبَةِ عَمَّا عَارَضَهَا: فَأَقُولُ: لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُطْلَقُ الْإِسْلَامُ عَلَى كُلِّ دِينٍ حَقٍّ وَلَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ - وَبِهَذَا أَجَابَ ابن الصلاح - وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِسْلَامَ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ الشَّرِيفَةِ، وَوَصْفُ الْمُسْلِمِينَ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَمْ يُوصَفْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ، فَشَرُفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَنْ وُصِفَتْ بِالْوَصْفِ الَّذِي كَانَ يُوصَفُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ نَقْلًا وَدَلِيلًا لِمَا قَامَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّاطِعَةِ، وَقَدْ خُصَّتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ بِخَصَائِصَ لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ سِوَاهَا إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ [فَقَطْ] ، مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ فَإِنَّهُ خِصِّيصَةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ يَتَوَضَّأُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ فَقَطْ فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ فِي الزَّبُورِ يَا دَاوُدُ إِنَّهُ سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكَ نَبِيٌّ اسْمُهُ أَحْمَدُ إِلَى أَنْ قَالَ: أُمَّتُهُ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ أَعْطَيْتُهُمْ مِنَ النَّوَافِلِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُ الْأَنْبِيَاءَ، وَافْتَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الْفَرَائِضَ الَّتِي افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ حَتَّى يَأْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُورُهُمْ مِثْلُ نُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنِّي افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَطَهَّرُوا لِي لِكُلِّ صَلَاةٍ كَمَا افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ كَمَا أَمَرْتُ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ بِالْحَجِّ كَمَا أَمَرْتُ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالْجِهَادِ كَمَا أَمَرْتُ الرُّسُلَ قَبْلَهُمْ. وَأَخْرَجَ الغرياني فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ كعب قَالَ: أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثَ خِصَالٍ لَمْ يُعْطَهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ كَانَ النَّبِيُّ يُقَالُ لَهُ بَلِّغْ وَلَا حَرَجَ وَأَنْتَ شَهِيدٌ عَلَى قَوْمِكَ وَادْعُ أُجِبْكَ، وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وَقَالَ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ، وَقَالَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم، وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ كعب قَالَ: فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورَيْنِ وَلِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ نُورٌ، وَلِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ فِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ نُورٌ، وَلِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ نُورَانِ يَمْشِي بِهِمَا كَنُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَخَصَائِصُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَثِيرَةٌ وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ كِفَايَةٌ. ذِكْرُ الْأَدِلَّةِ لِلْقَوْلِ الرَّاجِحِ: الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] وَفِي هَذَا اخْتُلِفَ فِي ضَمِيرِ هُوَ هَلْ هُوَ لِإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِلَّهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ سَيُذْكَرَانِ، وَقَوْلُهُ: {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِمْ كَالَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ وَلَا لِاقْتِرَانِهِ بِمَا قَبْلَهُ مَعْنًى وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ السَّلَفُ مِنَ الْآيَةِ: أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ جلال الدين ابن الملقن - مُشَافَهَةً - عَنْ أبي الفرح العزي، أَنْبَأَنَا يونس بن إبراهيم عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُقَيَّرِ، أَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ نَاصِرٍ إِجَازَةً عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ مَنْدَهْ، أَنَا أَبِي، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَزِيدَ الْقَرَاطِيسِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، أَنَا أصبغ سَمِعْتُ ابن زيد يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] قَالَ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ نَسْمَعْ بِأُمَّةٍ ذُكِرَتْ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَهَا. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابن زيد، وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالتَّفْسِيرِ وَطَبَقَتِهِ فِي أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابن المنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عطاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] ، وَأَخْرَجَ ابن المنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] ، قَالَ: - يَعْنِي مِنْ قَبْلِ الْكُتُبِ كُلِّهَا وَمِنْ قَبْلِ الذِّكْرِ - فِي هَذَا قَالَ الْقُرْآنُ. وَأَخْرَجَ عبد الرزاق وابن المنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ فِي الْكُتُبِ وَفِي هَذَا، أَيْ: فِي كِتَابِكُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابن المنذر عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] ، قَالَ: فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَفِي هَذَا قَالَ الْقُرْآنُ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] قَالَ: يَعْنِي فِي الذِّكْرِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَفِي هَذَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ، فَهَذِهِ نُصُوصُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ أَنَّ اللَّهَ سَمَّى هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ اخْتَصَّهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَسَيَأْتِي الْأَثَرُ عَنْ بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن زيد فِي قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] قَالَ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] . الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] دَعَا بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ وَهُمَا نَبِيَّانِ، ثُمَّ دَعَا بِهِ لِأُمَّتِهِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَهِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَلِهَذَا قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِجْمَاعِ فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِالْأَمْرَيْنِ بِبَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ وَتَسْمِيَتِهِمْ مُسْلِمِينَ وَلِهَذَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابن زيد. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] ، قَالَ: كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَلَكِنْ سَأَلَاهُ الثَّبَاتَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] ، قَالَ: يَعْنِيَانِ الْعَرَبَ، وَفِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أبي العالية فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] ، قَالَ: يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ وَهُوَ كَائِنٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاخْتِصَاصِ بِهِمْ. فَإِنْ قُلْتَ: لَا يَلْزَمُ. قُلْتُ: ذَاكَ لِجَهْلِكَ بِقَوَاعِدِ الْمَعَانِي فَإِنَّ تَقْدِيمَ (لَكُمْ) يَسْتَلْزِمُهُ وَيُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَهُ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] أَنَّ تَقْدِيمَ هُمْ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَكَمَا قَالَ الأصفهاني فِي قَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] أَنَّ تَقْدِيمَ (هُمْ) يُفِيدُ أَنَّ غَيْرَهُمْ يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُمُ الْمُوَحِّدُونَ. الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] وَبِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ مِنْ وَصْفِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ أُمَمِهِمْ، أَخْرَجَ ابن المنذر عَنْ عكرمة وَابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] الْآيَةَ. قَالَ: يَحْكُمُ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ كُلُّهُمْ يَحْكُمُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ لِيَهُودَ. الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: مَا أَخْرَجَهُ إسحاق بن راهويه فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مكحول قَالَ: «كَانَ لعمر عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَتَاهُ يَطْلُبُهُ، فَقَالَ عمر: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْبَشَرِ لَا أُفَارِقُكَ، فَقَالَ الْيَهُودُ: وَاللَّهِ مَا اصْطَفَى اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلَى الْبَشَرِ، فَلَطَمَهُ عمر، فَأَتَى الْيَهُودِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ يَا يَهُودِيُّ آدَمُ صَفِيُّ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ، بَلْ يَا يَهُودِيُّ تَسَمَّى اللَّهُ بِاسْمَيْنِ سَمَّى اللَّهُ بِهِمَا أُمَّتِي هُوَ السَّلَامُ وَسَمَّى بِهَا أُمَّتِي الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْمُؤْمِنُ وَسَمَّى بِهَا أُمَّتِي الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَا يَهُودِيُّ طَلَبْتُمْ يَوْمَ ذُخْرٍ لَنَا، لَنَا الْيَوْمُ وَلَكُمْ غَدٌ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى، بَلْ يَا يَهُودِيُّ أَنْتُمُ الْأَوَّلُونَ وَنَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلْ إِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي» ، هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي اخْتِصَاصِ أُمَّتِهِ بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ خَصَائِصُ لَهَا، وَلَوْ كَانَتِ الْأُمَمُ مُشَارِكَةً لَهَا فِي ذَلِكَ لَمْ يَحْسُنْ إِيرَادُهُ فِي مَعْرِضِ التَّفْضِيلِ إِذَا كَانَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ: وَنَحْنُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَسَائِرُ الْأُمَمِ. الدَّلِيلُ السَّادِسُ: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، وابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] عَنِ الحارث الأشعري عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 قَالَ: «مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: نَعَمْ فَادْعُوا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سَمَّاكُمْ بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ» . الدَّلِيلُ السَّابِعُ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] نَحْنُ نَحْكُمُ عَلَى الْيَهُودِ وَعَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ» ، هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِمَ اخْتِصَاصَ الْإِسْلَامِ بِدِينِهِ. الدَّلِيلُ الثَّامِنُ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يَمْثُلُ لِأَهْلِ كُلِّ دِينٍ دِينُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَيُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ وَأَهْلَهُ وَيَعِدُهُمُ الْخَيْرَ حَتَّى يَجِيءَ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ: رَبِّ أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ» ، هَذَا مَوْقُوفٌ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ يَخْتَصُّ بِهَذَا الدِّينِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ دِينٍ حَقٍّ كَمَا تَرَى حَيْثُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ: " «هُوَ السَّلَامُ وَسَمَّى أُمَّتِي الْمُسْلِمِينَ» ". الدَّلِيلُ التَّاسِعُ: مَا أَخْرَجَهُ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَا أَنِّي بَاعِثٌ نَبِيًّا أُمِّيًّا مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ طِيبَةَ عَبْدِي الْمُتَوَكِّلُ الْمُصْطَفَى، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْإِسْلَامُ مِلَّتُهُ وَأَحْمَدُ اسْمُهُ. فَهَذَا صَرِيحٌ فِي اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِمِلَّتِهِ، وَهَذَا الْأَثَرُ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الشِّفَا فِي كِتَابِهِ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ قَرَأَهُ وَسَمِعَهُ وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أبي العالية قَالَ: بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَمِلَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ. الدَّلِيلُ الْعَاشِرُ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] هُوَ تَوْسِعَةُ الْإِسْلَامِ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَمِنَ الْكَفَّارَاتِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَمَا عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فِي أَنْ نَسْرِقَ أَوْ نَزْنِيَ؟ قَالَ: بَلَى، قِيلَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، قَالَ: الْإِصْرُ الَّذِي كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وُضِعَ عَنْكُمْ، هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ السَّهْلَةُ الْوَاسِعَةُ بِخِلَافِ [دِينِ] الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْإِصْرِ وَالضِّيقِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى إِسْلَامًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 الدَّلِيلُ الْحَادِي عَشَرَ: مَا أَخْرَجَهُ أحمد عَنْ أبي أمامة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» ، وَأَخْرَجَ ابن المنذر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، قَالَ: الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» ، وَالْحَنِيفِيَّةُ هِيَ الْإِسْلَامُ لِمَا أَخْرَجَ ابن المنذر عَنِ السدي قَالَ: الْحَنِيفُ الْمُسْلِمُ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَصْبَحْتُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَعَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . فَقَوْلُهُ: " حَنِيفًا مُسْلِمًا " تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: " وَعَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ "، فَعُلِمَ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ اخْتِصَاصُ الْإِسْلَامِ بِمِلَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا مُوَافِقًا لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. الدَّلِيلُ الثَّانِي عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67] هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى تُسَمَّى الْيَهُودِيَّةَ، وَشَرِيعَةَ عِيسَى تُسَمَّى النَّصْرَانِيَّةَ، وَشَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ تُسَمَّى الْحَنِيفِيَّةَ وَبِهَا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَمْ يَدَّعُوا قَطُّ أَنَّ شَرِيعَتَهُمْ تُسَمَّى الْإِسْلَامَ وَلَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يُسَمَّى مُسْلِمًا. الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135] هَذِهِ الْآيَةُ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَالصَّرَاحَةِ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا اسْمَ الْإِسْلَامِ لَهُمْ قَطُّ. الدَّلِيلُ الرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65] أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابن المنذر عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمُ الَّذِينَ حَاجُّوا فِي إِبْرَاهِيمَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مَاتَ يَهُودِيًّا، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فَكَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ بَعْدَ التَّوْرَاةِ، وَكَانَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بَعْدَ الْإِنْجِيلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَتِ النَّصَارَى: كَانَ إِبْرَاهِيمُ نَصْرَانِيًّا. وَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ إِنَّمَا أُنْزِلَتَا مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 بَعْدِهِ، وَبَعْدُ كَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ تُسَمَّى يَهُودِيَّةً، وَشَرِيعَةَ الْإِنْجِيلِ تُسَمَّى نَصْرَانِيَّةً، وَلَا يُسَمَّى وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِسْلَامًا. الدَّلِيلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [آل عمران: 20] هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ خَاصٌّ بِهَذَا الدِّينِ، وَإِلَّا لَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ نَحْنُ مُسْلِمُونَ وَدِينُنَا إِسْلَامٌ. الدَّلِيلُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي فِي حَقِّ وَرَقَةَ، وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَوْ كَانَ الدِّينُ الْحَقُّ مِنْ مِلَّةِ عِيسَى يُسَمَّى إِسْلَامًا وَصَاحِبُهُ مُسْلِمٌ لَقَالَ: وَكَانَ امْرَءًا أَسْلَمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. الدَّلِيلُ السَّابِعَ عَشَرَ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وأبو الشيخ ابن حبان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: تَسَمَّتِ الْيَهُودُ بِالْيَهُودِيَّةِ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا مُوسَى: " إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ "، وَتَسَمَّتِ النَّصَارَى بِالنَّصْرَانِيَّةِ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا عِيسَى: " مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ "، فَتَسَمَّوْا بِالنَّصْرَانِيَّةِ، هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ سُمُّوا بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمَا، وَلَمْ يُسَمَّوْا بِالْمُسْلِمِينَ قَطُّ، وَلَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ وَلَا عَنْهُمْ، فَكَيْفَ يُدَّعَى لَهُمْ وَصْفٌ شَرِيفٌ لَمْ يَدَّعُوهُ هُمْ لِأَنْفُسِهِمْ؟ الدَّلِيلُ الثَّامِنَ عَشَرَ: مَا أَخْرَجَهُ أبو داود وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاةً لَا يَكَادُ يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَكَانَتْ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ " الْحَدِيثَ، هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ دِينَ مُوسَى الْحَقُّ كَانَ يُسَمَّى يَهُودِيَّةً لَا إِسْلَامًا. الدَّلِيلُ التَّاسِعَ عَشَرَ: مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» سَمَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاحِدَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَلَمْ يُطْلِقْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ لَفْظَ الْإِسْلَامِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى. الدَّلِيلُ الْعِشْرُونَ: إِطْبَاقُ أَلْسِنَةِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعِهِمْ، وَالْمُجْتَهِدِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ فُنُونِهِمْ، وَالْمُسْلِمِينَ بِأَسْرِهِمْ حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 النِّسَاءُ فِي قَعْرِ بُيُوتِهِنَّ، وَالْأَطْفَالُ، وَالْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسُ، وَسَائِرُ الْفِرَقِ حَتَّى الْحَيَوَانَاتُ، وَالْحَجَرُ، وَالشَّجَرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عَلَى تَسْمِيَةِ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ مُوسَى يَهُودِيًّا، وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ عِيسَى نَصْرَانِيًّا، وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا، لَا يَمْتَرِي فِي ذَلِكَ كَبِيرٌ، وَلَا صَغِيرٌ، وَلَا عَالِمٌ، وَلَا جَاهِلٌ، وَلَا مُسْلِمٌ، وَلَا كَافِرٌ، فَتَرَى هَذَا الْإِطْبَاقَ نَاشِئٌ عَنْ لَا شَيْءَ، وَمَبْنِيٌّ عَلَى فَسَادٍ؟ كَلَّا بَلْ هُوَ الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ وَاللَّهُ الْهَادِي لِلصَّوَابِ. ذِكْرُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا لِلْقَوْلِ الْآخَرِ: اسْتَنَدَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35] . وَالْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ مَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ كَانَ يُطْلَقُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالْبَيْتُ الْمَذْكُورُ بَيْتُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْلِمٌ إِلَّا هُوَ وَبَنَاتُهُ، وَهُوَ نَبِيٌّ، فَصَحَّ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِالْأَصَالَةِ، وَأُطْلِقَ عَلَى بَنَاتِهِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ، إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُخْتَصَّ أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ بِخَصَائِصَ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا بَقِيَّةَ الْأُمَّةِ، كَمَا اخْتَصَّ السَّيِّدُ إبراهيم ابْنُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاشَ لَكَانَ نَبِيًّا، وَكَمَا اخْتُصَّتْ فاطمة بِأَنَّهُ لَا يُتَزَوَّجُ عَلَيْهَا، وَكَمَا اخْتُصَّتْ أَيْضًا بِأَنَّهَا تَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ، وَكَذَلِكَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتُصُّوا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، والحسن، والحسين اخْتُصُّوا بِجَوَازِ الْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْجَنَابَةِ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَذَلِكَ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُوصَفَ أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا وُصِفَ بِهِ آبَاؤُهُمْ تَبَعًا لَهُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} [البقرة: 133]- إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ يُوسُفَ وَهُوَ نَبِيٌّ قَطْعًا فَلَعَلَّهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى الْجَوَابَ فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْأَصَالَةِ وَأَدْرَجَ إِخْوَتَهُ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ وَإِنْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ فَلَا إِشْكَالَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ فَإِنَّهُ خَاطَبَهُمْ وَفِيهِمْ أَخُوهُ هَارُونُ وَيُوشَعُ، وَهُمَا نَبِيَّانِ فَأُدْرِجَ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ فِي الْوَصْفِ تَغْلِيبًا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِنْ كُنْتُمْ مُنْقَادِينَ لِي فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ أُورِدَتْ عَلَيَّ مَرَّةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 فِي دَرْسِ التَّفْسِيرِ فَأَجَبْتُ فِيهَا بِذَلِكَ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا اسْتَنَدَ إِلَيْهَا، نَعَمْ رَأَيْتُ ابْنَ الصَّلَاحِ اسْتَنَدَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] ، وَهَذَا مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ، وَيَعْقُوبَ لِبَنِيهِ، وَفِي بَنِي كُلٍّ أَنْبِيَاءُ فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ طَرْدُهُ فِي أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى، لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ تُسَمَّى الْإِسْلَامَ، وَبِهَا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَوْلَادُ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ عَلَيْهَا فَصَحَّ أَنْ يُخَاطَبُوا بِذَلِكَ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى مَنْ مِلَّتُهُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَى ابن الصلاح فِي اخْتِيَارِهِ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وَقَالَ: فَمَا فَائِدَةُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يُسَمَّى مُسْلِمًا، وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ مَا رَجَّحْنَاهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَمِ وَإِنْ كَانَ مَا وَرَدَ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ فَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى نَبِيٍّ أَوْ وَلَدِ نَبِيٍّ تَبَعًا لَهُ أَوْ جَمَاعَةٍ فِيهِمْ نَبِيٌّ غَلَبَ لِشَرَفِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] فَإِنَّ الْحَوَارِيِّينَ [أَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ] ، فِيهِمُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 13] نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ حَوَارِيِّ عِيسَى، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَنْبِيَاءُ، وَيُرَشِّحُهُ ذِكْرُ الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي قَوْلِهِ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] أَيِ الَّذِينَ انْقَادُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ لِأُولِي الْعَزْمِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَيَأْتُونَ بِالشَّرَائِعِ، انْتَهَى. فَصْلٌ: قَالَ قَائِلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] الْآيَةَ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ اسْتِوَاءُ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ، وَلَيْسَ الْإِسْلَامُ اسْمًا لِلتَّوْحِيدِ فَقَطْ بَلْ لِمَجْمُوعِ الشَّرِيعَةِ بِفُرُوعِهَا وَأَعْمَالِهَا، فَالْمُسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْمَالِ، أَوْ يَزْعُمَ اسْتِوَاءَ الشَّرَائِعِ فِي الْفُرُوعِ، وَكِلَاهُمَا جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ، ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ الِاسْتِوَاءُ لَمْ يَصْلُحِ الِاسْتِدْلَالُ ; لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ فِي أَمْرٍ لَفْظِيٍّ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ تُسَمَّى تِلْكَ الشَّرَائِعُ إِسْلَامًا أَوْ لَا تُسَمَّى؟ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اتِّفَاقِهَا فِي الْفُرُوعِ وَاخْتِلَافِهَا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى قَاعِدَةِ أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 الْإِطْلَاقَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْوُرُودِ، وَالَّذِي وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ وَالْأَثَرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ إِسْلَامٌ وَإِنْ كَانَ حَقًّا، كَمَا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ قُرْآنٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الضَّمِّ وَالْجَمْعِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَوَاخِرِ آيِ الْقُرْآنِ سَجْعٌ بَلْ فَوَاصِلُ وُقُوفًا مَعَ مَا وَرَدَ، كَمَا قَالَ النووي: أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا جَلِيلًا، وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ كُلُّ ذَلِكَ وُقُوفًا مَعَ الْوُرُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابن زيد أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وابن زيد أَحَدُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ الْعَالِمِينَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّفْسِيرِ، أَفَتَرَاهُ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ؟ كَلَّا لَمْ يَغْفُلْ عَنْهَا، بَلْ عَلِمَ تَأْوِيلَهَا وَاطَّلَعَ عَلَى مَدْرَكِ الْجَوَابِ عَنْهَا، فَنَفَى وَهُوَ آمِنٌ مِنْ إِيرَادِهَا عَلَيْهِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ بِكِتَابِ اللَّهِ، حَيْثُ نَصَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِأُمَّتِهِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِيِّ مُبَيِّنًا بِهِ تَمْيِيزَ أُمَّتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِمَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّ الْآيَ الْأُخَرَ لَا تُعَارِضُهَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مُسْلِمُونَ لَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ لَهُ: وَأُمَّةُ مُوسَى أَيْضًا مُسْلِمُونَ فَلَا مَزِيَّةَ لِأُمَّتِكَ عَلَيْهِمْ، وَمِنَ الْعَجَبِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَضَلِّعٍ مِنَ الْحَدِيثِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ: الْمُجْمَلُ وَالْمُبْهَمُ، وَالْمُحْتَمَلُ، وَكُلٌّ مِنَ الثَّلَاثَةِ مُحْتَاجٌ إِلَى السُّنَّةِ تُبَيِّنُهُ وَتُعَيِّنُهُ وَتُوَضِّحُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " إِنَّهُ سَيَأْتِي قَوْمٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ، فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ ". وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَرْسَلَهُ إِلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَخَاصِمْهُمْ وَلَا تُحَاجِجْهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ ذُو وُجُوهٍ، وَلَكِنْ خَاصِمْهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْهُمْ فِي بُيُوتِنَا نَزَلَ، قَالَ: صَدَقْتَ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ تَقُولُ وَيَقُولُونَ، وَلَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَنِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَحَاجَّهُمْ بِالسُّنَنِ فَلَمْ تَبْقَ بِأَيْدِيهِمْ حُجَّةٌ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ: مُبَيِّنَةٌ لَهُ وَمُفَسِّرَةٌ، وَقَالَ الإمام فخر الدين: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى قِسْمَيْنِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ ; لِيَكُونَ فِيهِ مَجَالٌ لِكُلِّ ذِي مَذْهَبٌ فَيَنْظُرُ فِيهِ جَمِيعُ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ طَمَعًا أَنْ يَجِدَ كُلٌّ فِيهِ مَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَهُ وَيَنْصُرُ مَقَالَتَهُ فَيَجْتَهِدُونَ فِي التَّأَمُّلِ فِيهِ، فَإِذَا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ صَارَتِ الْمُحْكَمَاتُ مُفَسِّرَةً لِلْمُتَشَابِهَاتِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَخَلَّصُ الْمُبْطِلُ مِنْ بَاطِلِهِ وَيَتَّصِلُ إِلَى الْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَمَا كَانَ مُطَابِقًا إِلَّا لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ وَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 بِصَرِيحِهِ مُبْطِلًا لِكُلِّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَنْفِرُ أَرْبَابُ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ عَنْ قَبُولِهِ وَعَنِ النَّظَرِ فِيهِ، قَالَ: وَأَيْضًا إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُتَشَابِهِ افْتَقَرَ إِلَى الْعِلْمِ بِطَرِيقِ التَّأْوِيلَاتِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَافْتَقَرَ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ، وَالنَّحْوِ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ مَزِيدُ مَشَقَّةٍ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَزِيَادَةُ الْمَشَقَّةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ وَكَانَ يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِ الْحَقِّ مِنْهُ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ، هَذَا كَلَامُ الإمام فخر الدين. قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَحِلُّ لِمَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ وَاحِدًا مِنَ الْعُلُومِ الْمُشْتَرَطَةِ التَّكَلُّمُ فِي الْقُرْآنِ وَعِدَّتُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَنْ يَتَجَرَّأَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ أَوْ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ جَاهِلًا بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ شُرُوطِهِ؟ وَمِثْلُ هَذَا هُوَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَدْ كَفَرَ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ يَعْمِدُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِآيَاتٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُعَارِضِهَا وَعَنِ النَّظَرِ فِيهَا هَلْ هِيَ مَصْرُوفَةٌ عَنْ ظَاهِرِهَا أَوْ لَا؟ وَقَدْ أَوْجَبَ أَهْلُ الْأُصُولِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَدِلِّ بِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْمُعَارِضِ وَجَوَابِهِ وَعَنِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ هَلْ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ؟ وَهَذَا نَطْحٌ مَعَ النَّاطِحِينَ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَلَا مُرَاعَاةٍ لِشَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ، فَلَوِ اسْتَحْيَا هَذَا الرَّجُلُ مِنَ اللَّهِ لَوَقَفَ عِنْدَ مَرْتَبَتِهِ وَهِيَ التَّقْلِيدُ وَتَرْكُ الِاسْتِدْلَالِ لِأَهْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْمُجْتَهِدُونَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُجَاهِدٌ، وأبو العالية، والضحاك، وَغَيْرُهُمْ: أُولُو الْأَمْرِ هُمْ أُولُو الْفِقْهِ، وَأُولُو الْخَبَرِ، وَلَفْظُ مُجَاهِدٍ: هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبي العالية فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَلَا يُسَمَّى فَقِيهًا وَلَا عَالِمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ، وَامْتِنَاعُ إِطْلَاقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 الْفَقِيهِ وَالْعَالِمِ عَلَى الْمُقَلِّدِ كَامْتِنَاعِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ خُصُوصِيَّةً مِنَ اللَّهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يُفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فَصْلٌ: ثُمَّ ظَهَرَ لِي دَلِيلٌ (حَادٍ وَعِشْرُونَ) وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أحمد وَغَيْرُهُ عَنْ عبد الله بن ثابت قَالَ: «جَاءَ عمر إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ قُرَيْظَةَ فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عمر: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ لَضَلَلْتُمْ إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ» . هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ لَا تُسَمَّى إِسْلَامًا ; لِأَنَّ عمر لَمَّا رَأَى غَضَبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كِتَابَتِهِ جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ بَادَرَ إِلَى قَوْلِهِ: " رَضِينَا بِالْإِسْلَامِ دِينًا " لِيُبْرِئَ نَفْسَهُ مِنَ الرِّضَا بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَاتِّبَاعِهَا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ سُرِّيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ عمر وَهُوَ اقْتِصَارُهُ عَلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ. دَلِيلٌ ثَانٍ وَعِشْرُونَ: وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ وَقَدْ سَأَلَهُ مَا الْإِسْلَامُ؟ فَقَالَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ» ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ» ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا الْمَجْمُوعُ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ اللَّامَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لِلْعَهْدِ وَهِيَ الْخَمْسُ، وَلَمْ تُكْتَبِ الْخَمْسُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عطاء، وَالْحَجُّ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ مِنْ خَصَائِصِهَا أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَثَرِ وَهْبٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يُسَمَّى مُسْلِمًا، وَالْأُمَمُ السَّابِقَةُ لَمْ تَعْمَلْهَا فَلَا يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ. تَحْقِيقٌ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا تَحْرِيرُ الْمَعْنَى فِي التَّخْصِيصِ بِالتَّسْمِيَةِ؟ قُلْتُ: فِيهِ مَعَانٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] : تَوْسِعَةُ الْإِسْلَامِ وَوَضْعُ الْإِصْرِ الَّذِي كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَشَرِيعَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا سُهُولَةَ فِيهَا بَلْ هِيَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وَالثِّقَلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ لَا تُسَمَّى إِسْلَامًا. الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى فَوَاضِلِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ يُكْتَبْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَإِنَّمَا كُتِبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَثَرِ وهب: " أَعْطَيْتُهُمْ مِنَ النَّوَافِلِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُ الْأَنْبِيَاءَ، وَافْتَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الْفَرَائِضَ الَّتِي افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ "، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مُسْلِمِينَ كَمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَلَمْ يُسَمَّ غَيْرُهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا أَخْرَجَهُ أبو يعلى مِنْ حَدِيثِ علي مَرْفُوعًا: " «الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» " وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَا ابْتُلِيَ أَحَدٌ بِهَذَا الدِّينِ فَقَامَ بِهِ كُلَّهُ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] قِيلَ مَا الْكَلِمَاتُ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ ثَلَاثُونَ سَهْمًا، عَشْرٌ فِي قَوْلِهِ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة: 112] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ: {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون: 1] ، وَ {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج: 1] ، وَعَشْرٌ فِي الْأَحْزَابِ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَأَتَمَّهُنَّ كُلَّهُنَّ فَكَتَبَ لَهُ بَرَاءَةً، قَالَ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سِهَامُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثُونَ سَهْمًا لَمْ يُتِمَّهَا أَحَدٌ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَعَرَفَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ السِّهَامِ، وَلَمْ تُشْرَعْ كُلُّهَا إِلَّا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلِهَذَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ. الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ مَدَارُ مَعْنَاهُ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ وَلَمْ تُذْعِنْ أُمَّةٌ لِنَبِيِّهَا كَمَا أَذْعَنَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، فَلِذَلِكَ سُمُّوا مُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تُذْعِنُ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالشَّرَائِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي عِبَارَةِ الرَّاغِبِ فَسُمُّوا مُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الْأُمَمُ كَثِيرَةَ الِاسْتِعْصَاءِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ، مِنْهَا: حَدِيثُ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» ، وَقَدْ قَالَ المقداد يَوْمَ بَدْرٍ: لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ بَنُو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ وَاللَّهِ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَاتَّبَعْنَاكَ، وَفِي لَفْظٍ: لَوْ خُضْتَ بِنَا الْبَحْرَ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، فَلِذَلِكَ اخْتُصَّتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَنْ سُمُّوا مُسْلِمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْإِسْلَامُ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَنَحْوُهُ، فَمُرَادُهُمْ بِهِ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَحْدَهُمْ دُونَ أُمَمِهِمْ ; لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» . فَصْلٌ: لَمَّا فَرَغْتُ مِنْ تَأْلِيفِ هَذِهِ الْكُرَّاسَةِ وَاضْطَجَعْتُ عَلَى الْفِرَاشِ لِلنَّوْمِ وَرَدَ عَلَيَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ - وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 52 - 53] فَكَأَنَّمَا أُلْقِيَ عَلَيَّ جَبَلٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ظَاهِرُهَا الدَّلَالَةُ لِلْقَوْلِ بِعَدَمِ الْخُصُوصِيَّةِ، وَقَدْ فَكَّرْتُ فِيهَا سَاعَةً وَلَمْ يَتَّجِهْ لِي شَيْءٌ، فَلَجَأْتُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَوْتُ أَنْ يَفْتَحَ بِالْجَوَابِ عَنْهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ وَقْتَ السَّحَرِ إِذَا بِالْجَوَابِ قَدْ فُتِحَ، فَظَهَرَ لِي عَنْهَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَصْفَ فِي قَوْلِهِ: " مُسْلِمِينَ " اسْمُ فَاعِلٍ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ لَا الْحَالُ وَلَا الْمَاضِي الَّذِي هُوَ مَجَازٌ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ الْأَصْلُ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهِ عَازِمِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِهِ إِذَا جَاءَ لِمَا كُنَّا نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا مِنْ نَعْتِهِ وَوَصْفِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] فَالْوَصْفَانِ مُرَادٌ بِهِمَا الِاسْتِقْبَالُ أَيْ سَتَمُوتُ وَسَيَمُوتُونَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْحَالَ قَطْعًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَكَذَلِكَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ نَاوِينَ أَنْ سَنُسْلِمُ إِذَا جَاءَ، وَيُرَشِّحُ هَذَا الْجَوَابَ أَنَّ السِّيَاقَ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ قَصْدَهُمُ الْإِخْبَارُ بِحَقِيقَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى قَصْدِ الْإِسْلَامِ بِهِ إِذَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِهِ وَظَهَرَ لَهُمْ مِنْ دُنُوِّ زَمَانِهِ وَاقْتِرَابِ بِعْثَتِهِ، وَلَيْسَ قَصْدُهُمُ الثَّنَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي حَدِّ ذَاتِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا بِصِفَةِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْبُو عَنْهُ الْمَقَامُ كَمَا لَا يَخْفَى. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْآيَةِ: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ بِهِ مُسْلِمِينَ، فَوَصْفُ الْإِسْلَامِ سَبَبُهُ الْقُرْآنُ لَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَيُرَشِّحُ ذَلِكَ ذِكْرُ الصِّلَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى حَيْثُ قَالَ: " هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ مُرَادَةٌ فِي الثَّانِيَةِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا حُذِفَتْ كَرَاهَةً لِتَكْرَارِهَا فِي الْآيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 مَرَّتَيْنِ، حَيْثُ ذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا آمَنَّا بِهِ} [القصص: 53] وَكُرِهَ إِعَادَتُهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي الْآيَةِ، وَحُذِفَتْ إِزَالَةً لِتَعَلُّقِ التَّكْرَارِ. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الأشعري مِنْ أَنَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا فَهُوَ يُسَمَّى عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا وَلَوْ فِي حَالَةِ كَفْرٍ سَبَقَتْ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ عِنْدَنَا لِعَدَمِ عِلْمِنَا بِالْخَوَاتِمِ وَالْمُسْتَقْبَلَاتِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ لَمَّا خُتِمَ لَهُمْ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا الْوَصْفِ بِالْخَاتِمَةِ، وَإِذَا كَانَ الْكَافِرُ الْمُشْرِكُ يُوصَفُ فِي حَالِ شِرْكِهِ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ عِنْدَ الأشعري لِمَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ، فَلَأَنْ يُوصَفُ بِالْإِسْلَامِ [مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ حَقٍّ لِمَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ] عِنْدَ الْخَاتِمَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَهَذَا مَعْنًى دَقِيقٌ اسْتَفَدْنَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُتْقِنِ الْعُلُومَ كُلَّهَا وَيَطَّلِعَ عَلَى مَذَاهِبِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَمَدَارِكِهَا وَقَوَاعِدِهَا لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِدْلَالٌ وَلَا اسْتِنْبَاطٌ، وَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ: لَا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ ... لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَا فَصْلٌ: حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَهَا بِالْإِسْلَامِ أَوِ الْإِيمَانِ خِطَابًا وَغَيْبَةً، كَقَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] ، {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] . وَحَيْثُ ذَكَرَ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ لَمْ يَصِفْهُمْ قَطُّ بِإِسْلَامٍ لَا إِنْ ذَمَّهُمْ وَلَا إِنْ مَدَحَهُمْ بَلْ [قَالَ] : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} [البقرة: 62] ، وَقَالَ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ} [الجمعة: 6] . وَقَالَ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] وَقَالَ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82] الْآيَاتِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ ذَكَرَتْ مَدْحًا لِمُؤْمِنِي النَّصَارَى وَلَمْ يُسَمِّهِمْ مُسْلِمِينَ بَلْ قَالَ: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] ، وَقَالَ فِي غَيْرِ آيَةٍ عِنْدَ مَدْحِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ وَمِنَ الْيَهُودِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران: 199] ، فَأَكْثَرُ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَدْحِ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هَذَا فِي كِتَابِنَا، وَأَمَّا كُتُبُهُمْ فَوَصَفَ فِيهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَيْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلَمْ يَصِفْهُمْ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ الْبَتَّةَ، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ خيثمة قَالَ: مَا تَقْرَءُونَ فِي الْقُرْآنِ: " {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] " فَإِنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ يَا أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ. فَصْلٌ: رَأَيْتُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيِّ مَا يَشْهَدُ لِمَا قَدَّمْتُهُ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] مَا نَصُّهُ: لَمَّا قَالَ الْفَرِيقَانِ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَى دِينِهِمَا رَدَّ عَلَيْهِمَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَيْضًا نَازِلٌ بَعْدَهُ؟ قِيلَ: الْقُرْآنُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَمَا أَخْبَرَتْ كُتُبُهُمْ بِمَا ادَّعَوْا. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِ إِبْرَاهِيمَ مُسْلِمًا كَوْنُهُ مُوَافِقًا لَهُمْ فِي الْأُصُولِ، فَهُوَ أَيْضًا مُوَافِقٌ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى فِي الْأُصُولِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَوَافِقُونَ فِي الْأُصُولِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ فِي الْفُرُوعِ فَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَرِّرًا لَا شَارِعًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّقَيُّدَ بِالْقُرْآنِ مَا جَاءَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ، فَتِلَاوَتُهُ مَشْرُوعَةٌ فِي صَلَاتِنَا، وَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي صَلَاتِهِمْ. قِيلَ: أُرِيدَ الْفُرُوعُ، وَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارِعًا لَا مُقَرِّرًا ; لِأَنَّ اللَّهَ نَسَخَ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى وَعِيسَى ثُمَّ نَسَخَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِيعَتَهُمْ فَكَانَ صَاحِبَ شَرِيعَةٍ لِذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ مُوَافِقًا فِي الْأَكْثَرِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْأَقَلِّ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الْمُوَافَقَةِ، انْتَهَى كَلَامُ المرسي وَهُوَ سُؤَالٌ حَسَنٌ وَجَوَابٌ نَفِيسٌ. فَصْلٌ: دَلِيلٌ ثَالِثٌ وَعِشْرُونَ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: نَزَلَتْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَقِيَ عَلَى تَعْظِيمِ بَعْضِ شَرِيعَتِهِ كَالسَّبْتِ وَتَرْكِ لُحُومِ الْإِبِلِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَافَّةً، وَلَا يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ ; لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي التَّمَسُّكِ بِبَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُمْ نَسْخَهُ، وَكَافَّةُ مَنْ وَصَفَ السِّلْمَ كَأَنَّهُ قِيلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 ادْخُلُوا فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا - هَذِهِ عِبَارَةُ المرسي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ - وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ تَمَسَّكُوا بِبَعْضِ أُمُورِ التَّوْرَاةِ وَالشَّرَائِعِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِيهِمْ يَقُولُ: ادْخُلُوا فِي شَرَائِعِ دِينِ مُحَمَّدٍ وَلَا تَدَعُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ لَا تُسَمَّى إِسْلَامًا. تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ السبكي فِي عِبَارَتِهِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِنِّ عِدَّةَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَكْثِيرِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ وَالْآيَتَيْنِ قَدْ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا وَيَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، فَإِذَا كَثُرَتْ قَدْ تَتَرَقَّى إِلَى حَدٍّ يَقْطَعُ بِإِرَادَتِهَا ظَاهِرًا وَنَفْيِ الِاحْتِمَالِ وَالتَّأْوِيلِ عَنْهَا، انْتَهَى. أَقُولُ: وَلِذَلِكَ أَوْرَدْنَا هُنَا ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ دَلِيلًا ; لِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ مِنْهَا عَلَى انْفِرَادِهِ قَدْ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ وَتَطَرُّقُ الِاحْتِمَالِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرَتْ هَذِهِ الْكَثْرَةَ تَرَقَّتْ إِلَى حَدٍّ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إِرَادَةُ ظَاهِرِهَا وَنَفْيُ الِاحْتِمَالِ وَالتَّأْوِيلِ عَنْهَا، وَعَبَّرْتُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ دُونَ الْقَطْعِ لِأَجْلِ مَا عَارَضَهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْقَوْلُ الْآخَرُ، وَهَذَا مَقَامٌ لَا يُنْظَرُ فِيهِ وَيُحْكَمُ بِالتَّرْجِيحِ إِلَّا لِمُجْتَهِدٍ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. آخِرُ الْكِتَابِ: قَالَ مُؤَلِّفُهُ شَيْخُنَا نَفَعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَتِهِ: أَلَّفْتُهُ فِي شَوَّالَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ. مَسْأَلَةٌ: يَا مُفَرَّدًا بِاجْتِهَادٍ فِي الْأَوَانِ وَيَا ... بَحْرَ الْوَفَا وَالصَّفَا وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَا حَدُّ تَوْحِيدِنَا لِلَّهِ خَالِقِنَا ... سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ أَيْنٍ وَعَنْ مَثَلِ الْجَوَابُ: رُوِّينَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ المزني أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ هَذَا بَلْ أَنْهَى عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ، فَلَقَدْ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: سُئِلَ مالك عَنِ الْكَلَامِ وَالتَّوْحِيدِ فَقَالَ مالك: مُحَالٌ أَنْ نَظُنَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَلَّمَ أُمَّتَهُ الِاسْتِنْجَاءَ وَلَمْ يُعَلِّمْهُمُ التَّوْحِيدَ، وَالتَّوْحِيدُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَمَا عَصَمَ بِهِ الدَّمَ وَالْمَالَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، هَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَبِهِ أَجَبْتُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 [تَنْزِيهُ الِاعْتِقَادِ عَنِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِي هُوَ أَخُو الْحُلُولِ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِهِ النَّصَارَى، إِلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوهُ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ بِهِ وبمريم أُمِّهِ وَلَمْ يُعَدُّوهُ إِلَى أَحَدٍ، وَخَصُّوهُ بِاتِّحَادِ الْكَلِمَةِ دُونَ الذَّاتِ بِحَيْثُ إِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ سَلَكُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ إِلْزَامِهِمْ بِأَنْ يَقُولُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي الذَّاتِ أَيْضًا، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا سَلَّمُوا بُطْلَانَ ذَلِكَ لَزِمَ إِبْطَالُ مَا قَالُوهُ، أَمَّا الْمُتَوَسِّمُونَ بِسِمَةِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَبْتَدِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذِهِ الْبِدْعَةَ وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ أَذْكَى فِطْرَةً وَأَصَحُّ لُبًّا مِنْ أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمُحَالُ، وَإِنَّمَا مَشَى ذَلِكَ عَلَى النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ أَبْلَدُ الْخَلْقِ أَذْهَانًا وَأَعْمَاهُمْ قُلُوبًا، غَيْرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ غُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَزَادُوا عَلَى النَّصَارَى فِي تَعْدِيَةِ ذَلِكَ، وَالنَّصَارَى قَصَرُوهُ عَلَى وَاحِدٍ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَدْ زَادُوا فِي الْكُفْرِ عَلَى النَّصَارَى، وَأَحْسَنُ مَا اعْتُذِرَ عَمَّنْ صَدَرَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَنَا الْحَقُّ، بِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالِ سُكْرٍ وَاسْتِغْرَاقِ غَيْبُوبَةِ عَقْلٍ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ غَابَ عَقْلُهُ وَأَلْغَى أَقْوَالُهُ فَلَا تُعَدُّ مَقَالَتُهُ هَذِهِ شَيْئًا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تُعَدَّ مَذْهَبًا يُنْقَلُ، وَمَا زَالَتِ الْعُلَمَاءُ وَمُحَقِّقُو الصُّوفِيَّةِ يُبَيِّنُونَ بُطْلَانَ الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَيُنَبِّهُونَ عَلَى فَسَادِهِ وَيُحَذِّرُونَ مِنْ ضَلَالِهِ، وَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ: قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ فِي بَابِ السَّمَاعِ: الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: سَمَاعُ مَنْ جَاوَزَ الْأَحْوَالَ وَالْمَقَامَاتِ، فَعَزَبَ عَنْ فَهْمِهِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى عَزَبَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَحْوَالِهَا وَمُعَامَلَاتِهَا وَكَانَ كَالْمَدْهُوشِ الْغَائِصِ فِي عَيْنِ الشُّهُودِ الَّذِي يُضَاهِي حَالُهُ حَالَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فِي مُشَاهَدَةِ جَمَالِ يُوسُفَ حَتَّى بُهِتْنَ وَسَقَطَ إِحْسَاسُهُنَّ، وَعَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَبِّرُ الصُّوفِيَّةُ بِأَنَّهُ فَنَى عَنْ نَفْسِهِ، وَمَهْمَا فَنَى عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ عَنْ غَيْرِهِ أَفْنَى، فَكَأَنَّهُ فَنَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا عَنِ الْوَاحِدِ الْمَشْهُودِ، وَفَنَى أَيْضًا عَنِ الشُّهُودِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِنِ الْتَفَتَ إِلَى الشُّهُودِ وَإِلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مُشَاهِدٌ فَقَدْ غَفَلَ عَنِ الْمَشْهُودِ، فَالْمُسْتَهْتِرُ بِالْمَرْئِيِّ لَا الْتِفَاتَ لَهُ فِي حَالِ اسْتِغْرَاقِهِ إِلَى رُؤْيَتِهِ وَلَا إِلَى عَيْنِهِ الَّتِي بِهَا رُؤْيَتُهُ، وَلَا إِلَى قَلْبِهِ الَّذِي بِهِ لَذَّتُهُ ; فَالسَّكْرَانُ لَا خِبْرَةَ لَهُ مِنْ سُكْرِهِ، وَالْمُتَلَذِّذُ لَا خِبْرَةَ لَهُ مِنِ الْتِذَاذِهِ، إِنَّمَا خِبْرَتُهُ مِنَ الْمُلْتَذِّ بِهِ فَقَطْ، وَمِثَالُهُ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، فَإِنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، فَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ مَهْمَا وَرَدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِالْعِلْمِ بِالشَّيْءِ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الشَّيْءِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ تَطْرَأُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَتَطْرَأُ أَيْضًا فِي حَقِّ خَالِقِيَّةِ الْخَالِقِ، وَلَكِنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَكُونُ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ وَلَا يَدُومُ، فَإِنْ دَامَ لَمْ تُطِقْهُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ، فَرُبَّمَا يَضْطَرِبُ تَحْتَ أَعْبَائِهِ اضْطِرَابًا تَهْلِكُ فِيهِ نَفْسُهُ، فَهَذِهِ دَرَجَةُ الصِّدِّيقِينَ فِي الْفَهْمِ وَالْوَجْدِ وَهِيَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ; لِأَنَّ السَّمَاعَ عَلَى الْأَحْوَالِ، وَهِيَ مُمْتَزِجَةٌ بِصِفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ نَوْعُ قُصُورٍ، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ أَنْ يَفْنَى بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَحْوَالِهِ، أَعْنِي أَنَّهُ يَنْسَاهَا فَلَا يَبْقَى لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَيْهَا، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلنِّسْوَةِ الْتِفَاتٌ إِلَى الْأَيْدِي وَالسَّكَاكِينِ، فَيَسْمَعُ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَفِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ. وَهَذِهِ رُتْبَةُ مَنْ خَاضَ لُجَّةَ الْحَقَائِقِ، وَعَبَرَ سَاحِلَ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَاتَّحَدَ لِصَفَاءِ التَّوْحِيدِ وَتَحَقَّقَ بِمَحْضِ الْإِخْلَاصِ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا، بَلْ خَمَدَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بَشَرِيَّتُهُ، وَفَنَى الْتِفَاتُهُ إِلَى صِفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ رَأْسًا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْ هُنَا نَشَأَ خَيَالُ مَنِ ادَّعَى الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ، وَقَالَ: أَنَا الْحَقُّ، وَحَوْلَهُ يُدَنْدِنُ كَلَامَ النَّصَارَى فِي دَعْوَى اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ، أَوْ تَدَرُّعِهَا بِهَا أَوْ حُلُولِهَا فِيهَا عَلَى مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُهُمْ، وَهُوَ غَلَطٌ مَحْضٌ. هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ الْغَزَالِيِّ، وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ الْمَحَبَّةِ: مَنْ قَوِيَتْ بَصِيرَتُهُ وَلَمْ تَضْعُفْ مِنَّتُهُ ; فَإِنَّهُ فِي حَالِ اعْتِدَالِ أَمْرِهِ لَا يَرَى إِلَّا اللَّهَ وَلَا يَعْرِفُ غَيْرَهَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْعَالُهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ فَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ، فَلَا وُجُودَ لَهَا بِالْحَقِيقَةِ دُونَهُ، وَإِنَّمَا الْوُجُودُ لِلْوَاحِدِ الْحَقِّ الَّذِي بِهِ وُجُودُ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ: فَلَا يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَّا وَيَرَى فِيهِ الْفَاعِلَ، وَيَذْهَلُ عَنِ الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ: سَمَاءٌ، وَأَرْضٌ، وَحَيَوَانٌ، وَشَجَرٌ، بَلْ يَنْظُرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَثَرُهُ لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صُنْعُهُ، فَلَا يَكُونُ نَظَرُهُ مُجَاوِزًا لَهُ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَنْ نَظَرَ فِي شَعْرِ إِنْسَانٍ أَوْ خَطِّهِ أَوْ تَصْنِيفِهِ، وَرَأَى فِيهِ الشَّاعِرَ وَالْمُصَنِّفَ، وَرَأَى آثَارَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَثَرُهُ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حِبْرٌ وَعَفْصٌ وَزَاجٌ مَرْقُومٌ عَلَى بَيَاضٍ، فَلَا يَكُونُ قَدْ نَظَرَ إِلَى غَيْرِ الْمُصَنِّفِ، وَكَذَا الْعَالَمُ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَعَرَفَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَأَحَبَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ نَاظِرًا إِلَّا فِي اللَّهِ، وَلَا عَارِفًا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مُحِبًّا إِلَّا لِلَّهِ، وَكَانَ هُوَ الْمُوَحِّدَ الْحَقَّ الَّذِي لَا يَرَى إِلَّا اللَّهَ، بَلْ لَا يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ نَفْسُهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ فَنَى فِي التَّوْحِيدِ وَإِنَّهُ فَنَى عَنْ نَفْسِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: كُنَّا بِنَا فَفَنِينَا [عَنَّا فَبَقِينَا] بِلَا نَحْنُ، فَهَذِهِ أُمُورٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ذَوِي الْأَبْصَارِ، أَشْكَلَتْ لِضَعْفِ الْأَفْهَامِ عَنْ دَرْكِهَا، وَقُصُورِ قُدْرَةِ الْعُلَمَاءِ بِهَا عَنْ إِيضَاحِهَا وَبَيَانِهَا بِعِبَارَةٍ مُفْهِمَةٍ مُوَصِّلَةٍ لِلْغَرَضِ إِلَى الْإِفْهَامِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 أَوْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ بَيَانَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِمَّا لَا يَعْنِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ تَحَزَّبَ النَّاسُ إِلَى قَاصِرِينَ مَالُوا إِلَى التَّشْبِيهِ الظَّاهِرِ، وَإِلَى غَالِينَ مُسْرِفِينَ تَجَاوَزُوا إِلَى الِاتِّحَادِ وَقَالُوا بِالْحُلُولِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا الْحَقُّ، وَضَلَّ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالُوا: هُوَ الْإِلَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: تَدَرَّعَ النَّاسُوتُ بِاللَّاهُوتِ، وَقَالَ آخَرُونَ: اتَّحَدَ بِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ انْكَشَفَ لَهُمُ اسْتِحَالَةُ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَاسْتِحَالَةُ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ، وَاتَّضَحَ لَهُمْ وَجْهُ الصَّوَابِ فَهُمُ الْأَقَلُّونَ، انْتَهَىكَلَامُ الْغَزَالِيِّ، وَبَدَأْنَا بِالنَّقْلِ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ فَقِيهٌ أُصُولِيٌّ مُتَكَلِّمٌ صُوفِيٌّ، وَهُوَ أَجَلُّ مَنِ اعْتُمِدَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ ; لِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الْفُنُونِ فِيهِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَادِ: أَصْلُ مَذْهَبِ النَّصَارَى أَنَّ الِاتِّحَادَ لَمْ يَقَعْ إِلَّا بِالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَاخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُمْ فِيهِ، فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَعْنَى بِهِ حُلُولُ الْكَلِمَةِ جَسَدَ الْمَسِيحِ لَا يَحِلُّ الْعَرَضُ مَحَلَّهُ، وَذَهَبَتِ الرُّومُ إِلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ مَازَجَتْ جَسَدَ الْمَسِيحِ وَخَالَطَتْهُ مُخَالَطَةَ الْخَمْرِ اللَّبَنَ، وَهَذَا كُلُّهُ خَبْطٌ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنِ فَوْرَكٍ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالنِّظَامِيِّ فِي أُصُولِ الدِّينِ: قَالَتِ النَّصَارَى: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَاهُوتِيٌّ نَاسُوتِيٌّ، وَتَكَلَّمُوا فِي حُلُولِ الْكَلِمَةِ لمريم عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَلِمَةَ حَلَّتْ فِي مريم حُلُولَ الْمُمَازَجَةِ كَمَا يَحِلُّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ حُلُولَ الْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا حَلَّتْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُمَازَجَةٍ كَمَا أَنَّ شَخْصَ الْإِنْسَانِ يَتَبَيَّنُ فِي الْمِرْآةِ الصَّقِيلَةِ مِنْ غَيْرِ مُمَازَجَةٍ بَيْنَهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَثَلَ اللَّاهُوتِ مَعَ النَّاسُوتِ مَثَلُ الْخَاتَمِ مَعَ الشَّمْعِ فِي أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ النَّقْشُ ثُمَّ لَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَثَرِ، وَالْأَوَّلُ طَرِيقَةُ الْيَعْقُوبِيَّةِ، وَالثَّانِي طَرِيقَةُ الْمَلْكِيَّةِ، وَالثَّالِثُ طَرِيقُ النَّسْطُورِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالِاتِّحَادِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي مَعْنَى الِاتِّحَادِ: الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ كُنْ حَلَّتْ جَسَدَ الْمَسِيحِ، وَقَالَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ: إِنَّ الِاتِّحَادَ اخْتِلَاطٌ وَامْتِزَاجٌ، وَزَعَمَتْ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ انْقَلَبَتْ لَحْمًا وَدَمًا بِالِاتِّحَادِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ: أَنَّهُ أَوْدَعَهَا بِإِظْهَارِ رُوحِ الْقُدُسِ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَكَيْنَا عَمَّنْ قَالَهُ: يَجْرِي هَذَا الِاتِّحَادُ مَجْرَى وُقُوعِ الْهَيْئَةِ فِي الْمِرْآةِ وَالنَّقْشِ مِنَ الْخَاتَمِ فِي الشَّمْعِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، وَيُقَالُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهُمْ: إِنَّ ظُهُورَ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي الْمِرْآةِ وَالشَّيْءِ الصَّقِيلِ لَيْسَ اخْتِلَاطَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَلَا انْتِقَالَ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، بَلْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا قَابَلَ الشَّيْءَ الصَّقِيلَ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ رُؤْيَةً يَرَى بِهَا نَفْسَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّقِيلِ عَلَى شَيْءٍ، فَلَا، أَمَا تَرَى أَنَّهُ إِنْ لَمَسَ وَجْهَهُ فَوَجْهَ نَفْسِهِ لَمَسَ لَا وَجْهٌ ظَهَرَ فِيهِ ; فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمِرْآةِ شَيْءٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مريم وَلَا فِي عِيسَى شَيْءٌ، وَيُبْطِلُ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَاهُوتِيٌّ وَنَاسُوتِيٌّ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْخَاتَمِ وَنَقْشِهِ مَعَ الشَّمْعِ فَلَيْسَ يَحْصُلُ مِنَ الْفَصِّ فِي الشَّمْعِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَكَّبُ الشَّمْعُ تَرْكِيبًا مِنْ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ كُلَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُتَمَاسَّيْنِ الْمُتَجَاوِرَيْنِ الْمُتَلَاصِقَيْنِ الْجِسْمَيْنِ الْمَحْدُودَيْنِ الَّذَيْنِ يَجُوزُ فِيهِمَا حُلُولُ الْحَوَادِثِ وَتَغَيُّرُ الْأَوْصَافِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكَلِمَةَ انْقَلَبَتْ لَحْمًا وَدَمًا، فَلَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَنْقَلِبَ الْقَدِيمُ مُحْدَثًا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ انْقِلَابُ الْمُحْدَثِ قَدِيمًا فَيَبْطُلُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مُحَالٌ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ، انْتَهَى. وَقَالَ الإمام فخر الدين الرازي فِي كِتَابِ الْمُحَصَّلِ فِي أُصُولِ الدِّينِ: مَسْأَلَةُ الْبَارِي تَعَالَى لَا يَتَّحِدُ بِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ حَالَ الِاتِّحَادِ إِنْ بَقِيَا مَوْجُودَيْنِ فَهُمَا اثْنَانِ لَا وَاحِدٌ، وَإِنْ صَارَا مَعْدُومَيْنِ فَلَمْ يَتَّحِدَا بَلْ حَدَثٌ ثَالِثٌ، وَإِنَّ عُدِمَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ فَلَمْ يَتَّحِدْ ; لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَتَّحِدُ بِالْمَوْجُودِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَقَضَى الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ صَاحِبُ الْحَاوِي الْكَبِيرِ فِي مُنَاظَرَةٍ نَاظَرَهَا لِبَعْضِ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ [الْقَائِلِ] بِالْحُلُولِ أَوِ الِاتِّحَادِ: لَيْسَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّرِيعَةِ بَلْ فِي الظَّاهِرِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَلَا يَنْفَعُ التَّنْزِيهُ مَعَ الْقَوْلِ بِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ، فَإِنَّ دَعْوَى التَّنْزِيهِ مَعَ ذَلِكَ إِلْحَادٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ تَوْحِيدٌ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَلَّ فِي الْبَشَرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ مريم، وَهُنَالِكَ حُلُولُهُ إِمَّا حُلُولُ عَرَضٍ فِي جَوْهَرٍ ; فَيَقُولُونَ بِأَنَّهُ عَرَضٌ، أَوْ حُلُولُ تَدَاخُلِ الْأَجْسَامِ، فَهُوَ جِسْمٌ، وَهُنَالِكَ إِنْ حَلَّ كُلُّهُ فَقَدِ انْحَصَرَ فِي الْقَالَبِ الْبَشَرِيِّ وَصَارَ ذَا نِهَايَةٍ وَبِدَايَةٍ أَوْ بَعْضَهُ فَقَدِ انْقَسَمَ وَتَبَعَّضَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ أَبَاطِيلُ وَتَضَالِيلُ. وَقَالَ الْقَاضِي عياض فِي الشِّفَا مَا مَعْنَاهُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كُفْرِ أَصْحَابِ الْحُلُولِ وَمَنِ ادَّعَى حُلُولَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ فِي أَحَدِ الْأَشْخَاصِ كَقَوْلِ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالنَّصَارَى وَالْقَرَامِطَةِ. وَقَالَ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ: مَا عُرِفَ اللَّهُ مِنْ شَبَهِهِ وَجِسْمِهِ مِنَ الْيَهُودِ أَوْ أَجَازَ عَلَيْهِ الْحُلُولَ وَالِانْتِقَالَ وَالِامْتِزَاجَ مِنَ النَّصَارَى، وَنَقَلَهُ عَنْهُ النووي فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ القاضي ناصر الدين البيضاوي فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] هَذَا قَوْلُ اليعقوبية الْقَائِلِينَ بِالِاتِّحَادِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة: 74] أَيْ: أَلَا يَتُوبُونَ بِالِانْتِهَاءِ عَنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالْأَقْوَالِ الزَّائِغَةِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ عَنِ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ وَالتَّهْدِيدِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام فِي قَوَاعِدِهِ الْكُبْرَى: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِلَهَ يَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَجْسَادِ النَّاسِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا عَفَا عَنِ الْمُجَسِّمَةِ لِغَلَبَةِ التَّجْسِيمِ عَلَى النَّاسِ فَإِنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَوْجُودًا فِي غَيْرِ جِهَةٍ، بِخِلَافِ الْحُلُولِ فَإِنَّهُ لَا يَعُمُّ الِابْتِلَاءُ بِهِ وَلَا يَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ عَاقِلٍ فَلَا يُعْفَى عَنْهُ انْتَهَى. قُلْتُ: مَقْصُودُ الشَّيْخِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي تَكْفِيرِهِمُ الْخِلَافُ الَّذِي جَرَى فِي الْمُجَسِّمَةِ بَلْ يَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ الْقَائِلِينَ بِالْحُلُولِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ جَرَى فِي الْمُجَسِّمَةِ خِلَافٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي أَوَّلِ الْحِلْيَةِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدِ اسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ وَأَجَبْتُكَ إِلَى مَا ابْتَغَيْتَ مِنْ جَمْعِ كِتَابٍ يَتَضَمَّنُ أَسَامِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْلَامِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَئِمَّتِهِمْ وَتَرْتِيبِ طَبَقَاتِهِمْ مِنَ النُّسَّاكِ وَمَحَجَّتِهِمْ مِنْ قَرْنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ عَرَفَ الْأَدِلَّةَ وَالْحَقَائِقَ، وَبَاشَرَ الْأَحْوَالَ وَالطَّرَائِقَ، وَسَاكَنَ الرِّيَاضَ وَالْحَدَائِقَ، وَفَارَقَ الْعَوَارِضَ وَالْعَلَائِقَ، وَتَبَرَّأَ مِنَ الْمُتَنَطِّعِينَ وَالْمُتَعَمِّقِينَ، وَمِنْ أَهْلِ الدَّعَاوَى مِنَ الْمُتَسَوِّفِينَ، وَمِنَ الْكُسَالَى وَالْمُتَثَبِّطِينَ الْمُشَبَّهِينَ بِهِمْ فِي اللِّبَاسِ وَالْمَقَالِ وَالْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْفِعَالِ، وَذَلِكَ لَمَّا بَلَغَكَ مِنْ بِسْطِ لِسَانِنَا وَأَلْسِنَةِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْآثَارِ فِي كُلِّ الْقُطُرِ وَالْأَمْصَارِ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْفَسَقَةِ الْفُجَّارِ، وَالْمُبَاحِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ مَا حَلَّ بِالْكِذْبَةِ مِنَ الْوَقِيعَةِ وَالْإِنْكَارِ بِقَادِحٍ فِي مَنْقَبَةِ الْبَرَرَةِ الْأَخْيَارِ، وَوَاضِعٍ مِنْ دَرَجَةِ الصَّفْوَةِ الْأَبْرَارِ. وَقَالَ صَاحِبُ [كِتَابِ] مِعْيَارِ الْمُرِيدِينَ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْشَأَ أَغْلَاطِ الْفِرَقِ الَّتِي غَلِطَتْ فِي الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ جَهْلُهُمْ بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَعَدَمُ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْعِلْمِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ عَابِدٍ جَاهِلٍ، فَمَنْ لَا يَكُونُ لَهُ سَابِقَةُ عِلْمٍ لَمْ يُنْتِجْ وَلَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 يَصِحَّ لَهُ سُلُوكٌ، وَقَدْ قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: اجْتَنِبْ صُحْبَةَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ الْجَبَابِرَةِ الْغَافِلِينَ وَالْقُرَّاءِ الْمُدَاهِنِينَ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الْجَاهِلِينَ، فَافْهَمْ وَلَا تَغْلَطْ فَإِنَّ الدِّينَ وَاضِحٌ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ لَفْظُ الِاتِّحَادِ إِشَارَةً مِنْهُمْ إِلَى حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ الِاتِّحَادَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوْحِيدِ، وَالتَّوْحِيدُ مَعْرِفَةُ الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ فَاشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَا يَفْهَمُ إِشَارَاتِهِمْ فَحَمَلُوهُ عَلَى غَيْرِ مَحْمِلِهِ فَغَلِطُوا وَهَلَكُوا بِذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ اتِّحَادِ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الِاتِّحَادَ بَيْنَ مَرْبُوبَيْنِ مُحَالٌ، فَإِنَّ رَجُلَيْنِ مَثَلًا لَا يَصِيرُ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ لِتَبَايُنِهِمَا فِي ذَاتَيْهِمَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَالتَّبَايُنُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْظَمُ، فَإِذَنْ أَصْلُ الِاتِّحَادِ بَاطِلٌ مُحَالٌ مَرْدُودٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَعُرْفًا بِإِجْمَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ وَإِنَّمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ غُلَاةٌ لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَسُوءِ حَظِّهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَشَابَهُوا بِهَذَا الْقَوْلِ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّحَدَ نَاسُوتُهُ بِلَاهُوتِهُ، وَأَمَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِنَايَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا اتِّحَادًا وَلَا حُلُولًا، وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ لَفْظُ الِاتِّحَادِ فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَحْوَ أَنْفُسِهِمْ وَإِثْبَاتَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، قَالَ: وَقَدْ يُذْكَرُ الِاتِّحَادُ بِمَعْنَى فَنَاءِ الْمُخَالِفَاتِ وَبَقَاءِ الْمُوَافِقَاتِ، وَفَنَاءِ حُظُوظِ النَّفْسِ مِنَ الدُّنْيَا وَبَقَاءِ الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَفَنَاءِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ، وَبَقَاءِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، وَفَنَاءِ الشَّكِّ وَبَقَاءِ الْيَقِينِ، وَفَنَاءِ الْغَفْلَةِ وَبَقَاءِ الذِّكْرِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: سُبْحَانِي مَا أَعْظَمَ شَانِي، فَهُوَ فِي مَعْرِضِ الْحِكَايَةِ عَنِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ أَنَا الْحَقُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَلَا يُظَنُّ بِهَؤُلَاءِ الْعَارِفِينَ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَظْنُونٍ بِعَاقِلٍ، فَضْلًا عَنِ الْمُتَمَيِّزِينَ بِخُصُوصِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْيَقِينِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، وَلَا يُظَنُّ بِالْعُقَلَاءِ الْمُتَمَيِّزِينَ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ بِالْعِلْمِ الرَّاجِحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ الشَّرْعِ الْغَلَطُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ كَمَا غَلِطَ النَّصَارَى فِي ظَنِّهِمْ ذَلِكَ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ وَاقِعَاتِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ الْمُحَقِّقُونَ فَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ. هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ مِعْيَارِ الْمُرِيدِينَ بِلَفْظِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ الِاتِّحَادِ مُشْتَرَكٌ فَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْمُومِ الَّذِي هُوَ أَخُو الْحُلُولِ وَهُوَ كُفْرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ اصْطِلَاحًا - اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الصُّوفِيَّةُ - وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، إِذْ لَا يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ لَفْظٍ فِي مَعْنًى صَحِيحٍ لَا مَحْذُورَ فِيهِ شَرْعًا، وَلَوْ كَانَ مَمْنُوعًا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِلَفْظِ الِاتِّحَادِ وَأَنْتَ تَقُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِي زَيْدٍ اتِّحَادٌ، وَكَمِ اسْتَعْمَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الْمُحَدِّثُونَ وَالْفُقَهَاءُ وَالنُّحَاةُ وَغَيْرُهُمْ لَفْظَ الِاتِّحَادِ فِي مَعَانٍ حِدِيثِيَّةٍ وَفِقْهِيَّةٍ وَنَحْوِيَّةٍ، كَقَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ: اتِّحَادُ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: اتَّحَدَ نَوْعُ الْمَاشِيَةِ، وَقَوْلُ النُّحَاةِ: اتَّحَدَ الْعَامِلُ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، وَحَيْثُ وَقَعَ لَفْظُ الِاتِّحَادِ مِنْ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى الْفَنَاءِ الَّذِي هُوَ مَحْوُ النَّفْسِ وَإِثْبَاتُ الْأَمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَذْمُومُ الَّذِي يَقْشَعِرُّ لَهُ الْجِلْدُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ سَيِّدِي علي بن وفا فَقَالَ مِنْ قَصِيدَةٍ لَهُ: يَظُنُّوا بِي حُلُولًا وَاتِّحَادَا ... وَقَلْبِي مِنْ سِوَى التَّوْحِيدِ خَالِي فَتَبَرَّأَ مِنَ الِاتِّحَادِ بِمَعْنَى الْحُلُولِ وَقَالَ مِنْ أَبْيَاتٍ أُخَرَ: وَعِلْمُكَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرِي ... هُوَ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِاتِّحَادِ فَذَكَرَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُونَهُ بِالِاتِّحَادِ إِذَا أَطْلَقُوهُ هُوَ تَسْلِيمُ الْأَمْرِ كُلِّهِ لِلَّهِ، وَتَرْكُ الْإِرَادَةِ مَعَهُ، وَالِاخْتِيَارُ وَالْجَرْيُ عَلَى مَوَاقِعِ أَقْدَارِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ، وَتَرْكُ نِسْبَةِ شَيْءٍ مَا إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ نَهْجِ الرَّشَادِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ: حَدَّثَنِي الشَّيْخُ كمال الدين المراغي عَنِ الشَّيْخِ تقي الدين بن دقيق العيد أَنَّهُ قَالَ لَهُ مَرَّةً: الْكُفَّارُ إِنَّمَا انْتَشَرُوا فِي بِلَادِكُمْ لِانْتِشَارِ الْفَلْسَفَةِ هُنَاكَ، وَقِلَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِالشَّرِيعَةِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فِي بِلَادِكُمْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ الِاتِّحَادِيَّةِ، فَقَالَ: هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ كُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ فَسَادَهُ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ قَالَ: اجْتَمَعْتُ بِالشَّيْخِ أبي العباس المرسي تِلْمِيذِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أبي الحسن الشاذلي وَفَاوَضْتُهُ فِي هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ، فَوَجَدْتُهُ شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالنَّهْيَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَقَالَ: أَتَكُونُ الصَّنْعَةُ هِيَ الصَّانِعَ؟ انْتَهَى، قُلْتُ: وَلِهَذَا كَانَتْ طَرِيقَةُ الشاذلي هِيَ أَحْسَنَ طُرُقِ التَّصَوُّفِ، وَهِيَ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ نَظِيرُ طَرِيقَةِ الْجُنَيْدِ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن السبكي فِي كِتَابِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ: وَإِنَّ طَرِيقَ الشَّيْخِ الجنيد وَصَحْبِهِ طَرِيقٌ مُقَوَّمٌ، وَكَانَ وَالِدُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تقي الدين السبكي يُلَازِمُ مَجْلِسَ الشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَوَعْظَهُ، وَنَقَلَ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى غَيْرَةَ الْإِيمَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 الْجَلِيِّ فَائِدَةً حَسَنَةً فِي حَدِيثِ: " «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» " فَقَالَ: إِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ تَجَلِّيَاتٌ فَرَأَى فِي بَعْضِهَا سَائِرَ أُمَّتِهِ الْآتِينَ مِنْ بَعْدِهِ فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُمْ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» وَارْتَضَى السبكي مِنْهُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَقَالَ: إِنَّ الشَّيْخَ تاج الدين كَانَ مُتَكَلِّمَ الصُّوفِيَّةِ فِي عَصْرِهِ عَلَى طَرِيقِ الشَّاذِلِيَّةِ، انْتَهَى. قُلْتُ: وَهُوَ تِلْمِيذُ الشَّيْخِ أبي العباس المرسي، وَالشَّيْخُ أبو العباس تِلْمِيذُ الشاذلي، وَقَدْ طَالَعْتُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ أَرَ فِيهِ حَرْفًا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا صَرِيحًا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ سَيِّدِي علي بن وفا: تَمَسَّكْ بِحُبِّ الشَّاذِلِيَّةِ تَلْقَ مَا ... تَرُومُ وَحَقِّقْ ذَا الرَّجَاءِ وَحَصِّلْ وَلَا تَعْدُوَنْ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ ... شُمُوسُ هُدًى فِي أَعْيُنِ الْمُتَأَمِّلْ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ نَهْجِ الرَّشَادِ: وَمَا زَالَ عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ يُنْكِرُونَ حَالَ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ أَعْلَمَ وَأَقْدَرَ وَأَحْكَمَ مِنْ بَعْضٍ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّيْخُ سعد الدين التفتازاني فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: وَأَمَّا الْمُنْتَمُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَمِنْهُمْ بَعْضُ غُلَاةِ الشِّيعَةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ظُهُورُ الرُّوحَانِيِّ فِي الْجُسْمَانِيِّ كَجِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَكَبَعْضِ الْجِنِّ أَوِ الشَّيَاطِينِ فِي صُورَةِ الْأَنَاسِيِّ قَالُوا: فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صُورَةِ بَعْضِ الْكَامِلِينَ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ عَلِيٌّ وَأَوْلَاهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، قَالَ: وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ السَّالِكَ إِذَا أَمْعَنَ فِي السُّلُوكِ وَخَاضَ مُعْظَمَ لُجَّةِ الْوُصُولِ فَرُبَّمَا يَحِلُّ اللَّهُ فِيهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَالنَّارِ فِي الْجَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَايَزُ أَوْ يَتَّحِدُ بِهِ بِحَيْثُ لَا اثْنَيْنِيَّةَ وَلَا تَغَايُرَ، وَصَحَّ أَنْ يَقُولَ هُوَ أَنَا وَأَنَا هُوَ، قَالَ: وَفَسَادُ الرَّأْيَيْنِ غَنِيٌّ عَنِ الْبَيَانِ، قَالَ: وَهَاهُنَا مَذْهَبَانِ آخَرَانِ يُوهِمَانِ الْحُلُولَ أَوِ الِاتِّحَادَ وَلَيْسَا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّالِكَ إِذَا انْتَهَى سُلُوكُهُ إِلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ يَسْتَغْرِقُ فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ وَالْعِرْفَانِ بِحَيْثُ تَضْمَحِلُّ ذَاتُهُ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى، وَصِفَاتُهُ فِي صِفَاتِهِ، وَتَغِيبُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَلَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْفَنَاءَ فِي التَّوْحِيدِ، وَحِينَئِذٍ رُبَّمَا تَصْدُرُ عَنْهُ عِبَارَاتٌ تُشْعِرُ بِالْحُلُولِ أَوِ الِاتِّحَادِ لِقُصُورِ الْعِبَارَةِ عَنْ بَيَانِ تِلْكَ الْحَالِ وَبُعْدِ الْكَشْفِ عَنْهَا بِالْمَقَالِ، وَنَحْنُ عَلَى سَاحِلِ التَّمَنِّي نَغْتَرِفُ مِنْ بَحْرِ التَّوْحِيدِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَنَعْتَرِفُ بِأَنَّ طَرِيقَ الْفَنَاءِ فِيهِ الْعِيَانُ دُونَ الْبُرْهَانِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَذْهَبِ الثَّانِي وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ [وَقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَإِنَّهُ أَيْضًا خَارِجٌ عَنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وَالشَّرْعِ، وَإِنَّهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، وَقَدْ سُقْتُ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ فِيهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَلَّفْتُهُ فِي ذَمِّ الْقَوْلِ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَإِنَّهُ بِهِ أَجْدَرُ، وَذَكَرَ السَّيِّدُ الجرجاني فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ سُقْتُ أَيْضًا عِبَارَتَهُ فِي الْكِتَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ شمس الدين بن القيم فِي كِتَابِهِ شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَنَاءِ فَنَاءُ خَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ وَأَئِمَّةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى، شَائِمًا بَرْقَ الْفَنَا عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَاهُ، سَالِكًا سَبِيلَ الْجَمْعِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَانِيًا بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ مِنْهُ عَنْ مُرَادِهِ هُوَ مِنْ مَحْبُوبِهِ، فَضْلًا عَنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، قَدِ اتَّخَذَ مُرَادَهُ بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ أَعْنِي الْمُرَادَ الدِّينِيَّ الْأَمْرِيَّ لَا الْمُرَادَ الْكَوْنِيَّ الْقَدَرِيَّ، فَصَارَ الْمَرَادَانِ وَاحِدًا قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ اتِّحَادٌ صَحِيحٌ إِلَّا هَذَا، وَالِاتِّحَادُ فِي الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، فَيَكُونُ الْمُرَادَانِ وَالْمَعْلُومَانِ وَالْمَذْكُورَانِ وَاحِدًا مَعَ تَبَايُنِ الْإِرَادَتَيْنِ وَالْعِلْمَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ، فَغَايَةُ الْمَحَبَّةِ اتِّحَادُ مُرَادِ الْمُحِبِّ بِمُرَادِ الْمَحْبُوبِ، وَفَنَاءُ إِرَادَةِ الْمُحِبِّ فِي مُرَادِ الْمَحْبُوبِ، فَهَذَا الِاتِّحَادُ وَالْفَنَاءُ هُوَ اتِّحَادُ خَوَاصِّ الْمُحِبِّينَ وَفَنَاؤُهُمْ، قَدْ فَنَوْا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالطَّلَبِ مِنْهُ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ، وَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَا الْفَنَاءِ لَا يُحِبُّ إِلَّا فِي اللَّهِ، وَلَا يُبْغِضُ إِلَّا فِيهِ، وَلَا يُوَالِي إِلَّا فِيهِ، وَلَا يُعَادِي إِلَّا فِيهِ، وَلَا يُعْطِي إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَمْنَعُ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَرْجُو إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَسْتَعِينُ إِلَّا بِهِ، فَيَكُونُ دِينُهُ كُلُّهُ ظَاهِرًا لِلَّهِ، وَيَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَلَا يُوَادُّ مَنْ حَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ بَلْ: يُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمُ ... جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ فَنَاؤُهَا عَنْ هَوَى نَفْسِهِ وَحُظُوظِهَا بِمَرَاضِي رَبِّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِهِ، وَالْجَامِعُ لِهَذَا كُلِّهِ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَعَمَلًا وَحَالًا وَقَصْدًا، وَحَقِيقَةُ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ هُوَ الْفَنَاءُ وَالْبَقَاءُ، فَفَنَى عَنْ تَأَلُّهِ مَا سِوَاهُ عِلْمًا وَإِفْرَادًا وَتَعَمُّدًا، وَبَقِيَ تَأَلُّهُهُ وَحْدَهُ، فَهَذَا الْفَنَاءُ وَهَذَا الْبَقَاءُ هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُرْسَلُونَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَخُلِقَتْ لِأَجْلِهِ الْخَلِيقَةُ، وَشُرِعَتْ لَهُ الشَّرَائِعُ وَقَامَتْ عَلَيْهِ سُوقُ الْجَنَّةِ وَأُسِّسَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، إِلَى أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 قَالَ: وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا غَلِطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْإِرَادَةِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِنْ كَانَ مُشَمِّرًا لِلْفَنَاءِ الْعَالِي وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مُرَادٌ يُزَاحِمُ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ الشَّرْعِيَّ النَّبَوِيَّ الْقُرْآنِيَّ، بَلْ يَتَّحِدُ الْمُرَادَانِ فَيَصِيرُ عَيْنُ مُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى هُوَ عَيْنَ مُرَادِ الْعَبْدِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ وَفِيهَا يَكُونُ الِاتِّحَادُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي الْمُرَادِ لَا فِي الْمُرِيدِ وَلَا فِي الْإِرَادَةِ، قَالَ: فَتَدَبَّرْ هَذَا الْفُرْقَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي طَالَمَا زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ السَّالِكِينَ وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْوَاحِدِينَ، انْتَهَى. وَقَدْ تَكَرَّرَ كَلَامُ ابن القيم فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي تَضْلِيلِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَقَدْ سُقْتُ مِنْهُ أَشْيَاءَ فِي كِتَابِي الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ فَلْيُنْظَرْ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِنَّ الْعَبْدَ لَهُ فِي فِعْلِهِ نَوْعُ اخْتِيَارٍ هَلْ هُوَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] . الْجَوَابُ: لَا مُعَارَضَةَ فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ الَّذِي بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْإِبْدَاعِ خَاصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَمَّا الِاخْتِيَارُ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ لِلْعَبْدِ، فَالْمُرَادُ بِهِ قَصْدُهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَمَيْلُهُ إِلَيْهِ وَرِضَاهُ بِهِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا لَا عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ وَالْإِلْجَاءِ إِلَيْهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً بِهَا يَمِيلُ وَيَفْعَلُ، فَالْخَلْقُ مِنَ اللَّهِ وَالْمَيْلُ وَالْفِعْلُ مِنَ الْعَبْدِ صَادِرَانِ عَنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ فَهُمَا أَثَرُ الْخَلْقِ وَالْقُدْرَةِ، فَالِاخْتِيَارُ الْمَنْسُوبُ لِلْعَبْدِ الْمُفَسَّرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَثَرُ الِاخْتِيَارِ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَافْتَرَقَا، وَلَا إِنْكَارَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُعَارَضَةَ فِيهِ لِلْآيَةِ، وَبِهَذَا يَتَمَيَّزُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ أَهْلِ الْقَدَرِ وَالْجَبْرِ مَعًا، قَالَ الأصبهاني فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] : اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ بِالِاخْتِيَارِ فَلَهُ اعْتِبَارَانِ إِنْ نَظَرْتَ إِلَى وُجُودِهِ وَحُدُوثِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ التَّخْصِيصِ فَانْسُبْ ذَلِكَ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى تَمَيُّزِهِ عَنِ الْقَسْرِيِّ الضَّرُورِيِّ فَانْسُبْهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إِلَى الْعَبْدِ وَهِيَ النِّسْبَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا شَرْعًا بِالْكَسْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ، وَقَوْلِهِ: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] وَهِيَ الْمُحَقِّقَةُ أَيْضًا إِذَا عَرَضْتَ فِي ذِهْنِكَ الْحَرَكَتَيْنِ الِاضْطِرَارِيَّةَ كَالرَّعْشَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وَالِاخْتِيَارِيَّةِ فَإِنَّكَ تُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَعَدُّدُ الِاعْتِبَارِ فَمَدُّهُمْ فِي الطُّغْيَانِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَأَضَافَهُ إِلَيْهِ، وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ وَاقِعًا مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْكَسْبِ إِضَافَةً إِلَيْهِمْ، انْتَهَى، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ: صِفَةُ الْإِرَادَةِ لِلْعَبْدِ هِيَ الْقَصْدُ. فَهَذَا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ الْمَنْسُوبَ إِلَى الْعَبْدِ هُوَ قَصْدُهُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ وَتَوَجُّهُهُ إِلَيْهِ بِرِضًا مِنْهُ وَإِرَادَةٍ لَهُ وَكَوْنُهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بِإِلْجَاءٍ وَلَا إِكْرَاهٍ وَلَا قَسْرٍ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَافْهَمْ تَرْشَدْ. مَسْأَلَةٌ: هَلِ الْعَقْلُ أَفْضَلُ مِنَ الْعِلْمِ الْحَادِثِ أَمِ الْعِلْمُ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ وَرَجَّحُوا تَفْضِيلَ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى يُوصَفُ بِصِفَةِ الْعِلْمِ وَلَا يُوصَفُ بِصِفَةِ الْعَقْلِ، وَمَا سَاغَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِهِ أَفْضَلُ مِمَّا لَمْ يَسُغْ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ تَعَالَى قَدِيمًا وَوَصْفُنَا حَادِثٌ، فَإِنَّ الْبَارِيَ لَا يُوصَفُ بِصِفَةِ الْعَقْلِ أَصْلًا وَلَا عَلَى جِهَةِ الْقِدَمِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَفْضِيلِ الْعِلْمِ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ أَشْرَفُ، وَأَنَّهُ وَرَدَ بِفَضْلِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ وَحَسَنَةٌ وَلَمْ يَرِدْ فِي فَضْلِ الْعَقْلِ حَدِيثٌ وَكُلُّ مَا يُرْوَى فِيهِ مَوْضُوعُ كَذِبٌ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ محيي الدين الكافيجي يَقُولُ: الْعَقْلُ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ [أَقْرَبَ إِلَى الْإِفْضَاءِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَالْعَقْلُ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ] مَنْبَعًا لِلْعِلْمِ وَأَصْلًا لَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ فَضِيلَةَ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ وَفَضِيلَةَ الْعَقْلِ بِالْوَسِيلَةِ لِلْعِلْمِ. [مَبْحَثُ النُّبُوَّاتِ] مَسْأَلَةٌ: كَمْ عَدَدُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ؟ الْجَوَابُ: رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَبِيًّا كَانَ آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ؟ قَالَ: عَشَرَةَ قُرُونٍ، قَالَ: كَمْ بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: عَشَرَةَ قُرُونٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ كَانَتِ الرُّسُلُ؟ قَالَ: ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ» ، رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، والحاكم عَنْ أبي ذر قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفِ نَبِيٍّ وَأَرْبَعَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وَعِشْرُونَ أَلْفًا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمٌّ غَفِيرٌ» . مَسْأَلَةٌ: مَا أَشْهَرَ الْقَوْلَيْنِ يَا مَنْ عِلْمُهُ ... أَرْبَى عَلَى الْأَقْرَانِ وَالنُّظَرَاءِ فِي مَوْتِ مَشْهُورِ الْحَيَاةِ أَبِي الْخَضِرِ ... وَحَيَاتِهِ يَا فَائِزًا بِثَنَاءِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ قَالَهُمَا الرِّضَا ... شَيْخُ الزَّمَانِ وَفَائِقُ الْعُلَمَاءِ بِقِوَامِ دِينِ اللَّهِ لُقِّبَ وَهْوَ مِنْ ... بَغْدَادَ يُشْهَرُ بَيْنَ كُلِّ مِلَاءِ وَأَقَامَ بُرْهَانًا عَلَى فِقْدَانِهِ ... فَاعْجَبْ لِذَا يَا كَامِلَ الْآرَاءِ لَا زِلْتَ مَعْدُودًا لِكُلِّ مُلِمَّةٍ ... وَجُزِيتَ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرَ جَزَاءِ الْجَوَابُ: مِنْ بَعْدِ حَمْدِي دَائِمًا وَثَنَائِي ... ثُمَّ الصَّلَاةِ لِسَيِّدِ النُّجَبَاءِ لِلنَّاسِ خَلْفَ شَاعٍ فِي خَضِرٍ وَهَلْ ... أَوْدَى قَدِيمًا أُوحِيَ بِبَقَاءِ وَلِكُلِّ قَوْلٍ حُجَّةٌ مَشْهُورَةٌ ... تَسْمُو عَلَى الْجَوْزَاءِ فِي الْعَلْيَاءِ وَالْمُرْتَضَى قَوْلُ الْحَيَاةِ فَكَمْ لَهُ ... حُجَجٌ تَجِلُّ الدَّهْرَ عَنْ إِحْصَاءِ خَضِرٌ وَإِلْيَاسُ بِأَرْضٍ مِثْلَ مَا ... عِيسَى وَإِدْرِيسُ بَقُوا بِسَمَاءِ هَذَا جَوَابُ ابْنِ السُّيُوطِيِّ الَّذِي ... يَرْجُو مِنَ الرَّحْمَنِ خَيْرَ جَزَاءِ مَسْأَلَةٌ: يَا عَالِمَ الْعَصْرِ يَا مُفْتِيَ الْأَنَامِ أَفِدْ ... عَبِيدَ بَابِكَ أَنْتَ الْبَدْرُ فِي الظُّلَمِ كَمْ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى مِنْ مَيِّءٍ سَلَفَتْ ... وَبَيْنَ عِيسَى وَخَيْرِ الْخَلْقِ وَالْأُمَمِ أَثَابَكَ اللَّهُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ بِمَا ... تُبْدِيهِ مِنْ رُشْدٍ لِلنَّاسِ أَوْ كَرَمِ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى أَزْكَى الْوَرَى نَسَبًا ... مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْعُرْبَانِ وَالْعَجَمِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّي مُسْبِغِ النِّعَمِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَبْعُوثِ لِلْأُمَمِ أَلْفٌ وَتِسْعٌ وَمَيِّءٌ مَعَ نَيِّفٍ ضَبَطُوا ... مَا بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى صَاحِبِ الْكَلِمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وَنَحْوَ سِتِّ مَيِّءٍ فِي أَرْجَحَ ذَكَرُوا ... مَا بَيْنَ عِيسَى وَخَيْرِ الْخَلْقِ ذِي الْكَرَمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِي قَوْلِي أُقَدِّمُهُ ... كَذَا بِحَمْدِ إِلَهِ الْعَرْشِ مُخْتَتَمِي [تَزْيِينُ الْآرَائِكِ فِي إِرْسَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَلَائِكِ] [الجواب على قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبْعَثْ إِلَى الْمَلَائِكَةِ] 60 - تَزْيِينُ الْآرَائِكِ فِي إِرْسَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَلَائِكِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبْعَثْ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَفِي قَوْلِ الحافظ زين الدين العراقي: إِنَّ السَّمَاءَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلتَّكْلِيفِ، وَقَدْ أَشْكَلَ ذَلِكَ بِأُمُورٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» وَالْخَلْقُ يَعُمُّ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ، وَالْمَلَائِكَةَ، فَإِنْ فُسِّرَ بِالثَّقَلَيْنِ فَقَطْ فَمَا الْمُخَصِّصُ؟ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] وَالْعَالَمَ يَعُمُّ الْمَلَائِكَةَ وَقَوْلُهُ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] وَقَدْ بَلَّغَ الْمَلَائِكَةَ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَفْتُرُونَ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَوَرَدَ صَرِيحًا أَنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ بِعِبَادَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " إِنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ لَا يَسْمَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا الْأَذَانَ "، وَحَدِيثِ سلمان: " إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي أَرْضٍ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ صَلَّى خَلْفَهُ مَلَكَانِ، فَإِذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يُرَى طَرَفَاهُ يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ "، وَقَدْ قَاتَلَتِ الْمَلَائِكَةُ الْكُفَّارَ، وَتَحْضُرُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ، أُشْكِلَ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، سَأَلْتَ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَأَحْسَنْتَ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَأَوْرَدْتَ فَأَتْقَنْتَ كُلَّ الْإِتْقَانِ، وَأَنَا أُجِيبُكَ عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَدَلِيٌّ، وَالْآخَرُ تَحْقِيقِيٌّ: أَمَّا الْجَوَابُ الْجَدَلِيُّ، فَقَوْلُكَ: الْخَلْقُ يَعُمُّ، وَالْعَالَمِينَ يَعُمُّ، وَمَنْ بَلَغَ يَعُمُّ، جَوَابُهُ: أَنَّهُ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ أَوِ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصَ، وَقَوْلُكَ: مَا هُوَ الْمُخَصِّصُ؟ جَوَابُهُ: إِنَّ مُسْتَنَدَهُ الْإِجْمَاعُ الَّذِي ادَّعَاهُ مَنِ ادَّعَى، وَقَوْلُكَ: وَرَدَ أَنَّهُمْ لَا يَفْتَرُونَ جَوَابُهُ مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي الَّذِي هُوَ بَعْثَتُهُ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ تَكُونُ بِالْأَخْذِ عَنْ رَبِّهِمْ أَوْ بِإِرْسَالِ مَلَكٍ مِنْ جِنْسِهِمْ إِلَيْهِمْ كَجِبْرِيلَ أَوْ إِسْرَافِيلَ أَوْ غَيْرِهِمَا، قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95] ، وَقَوْلُكَ: وَرَدَ صَرِيحًا أَنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ بِعِبَادَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثُمَّ أَوْرَدْتَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ فَضْلًا عَنْ صَرَاحَةٍ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْأَذَانَ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ بِهِ، وَحَدِيثُ سلمان ظَاهِرٌ فِيمَا ذَكَرْتَ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْ بَعْثَتِهِ إِلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُكَ: وَقَدْ قَاتَلَتِ الْمَلَائِكَةُ الْكُفَّارَ فِيهِ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ عَنْ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تُقَاتِلْ إِلَّا فِي بَدْرٍ خَاصَّةً، وَقَوْلُكَ: وَتَحْضُرُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ إِنَّمَا حَضَرَتْ لِكِتَابَةِ الْحَاضِرِينَ عَلَى طَبَقَاتِ مَجِيئِهِمْ وَذَلِكَ مِنَ التَّكْلِيفَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَظِيفَةُ الْمَلَائِكَةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بُعِثَتْ بِهَا الرُّسُلُ، هَذَا آخِرُ الْجَوَابِ الْجَدَلِيِّ، وَأَمَّا الْجَوَابُ التَّحْقِيقِيُّ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمْ، وَبِهَذَا جَزَمَ الحليمي وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا، ومحمود بن حمزة الكرماني فِي كِتَابِهِ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلَ البرهان النسفي والفخر الرازي فِي تَفْسِيرَيْهِمَا الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَجَزَمَ بِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ زين الدين العراقي فِي نُكَتِهِ عَلَى ابن الصلاح، والشيخ جلال الدين المحلي فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَتَبِعْتُهُمَا فِي كِتَابِي شَرْحِ التَّقْرِيبِ فِي الْحَدِيثِ، وَشَرْحِ الْكَوْكَبِ السَّاطِعِ فِي الْأُصُولِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمْ وَهَذَا الْقَوْلُ رَجَّحْتُهُ فِي كِتَابِ الْخَصَائِصِ، وَقَدْ رَجَّحَهُ قَبْلِي الشيخ تقي الدين السبكي وَزَادَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: " «بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً» " شَامِلٌ لَهُمْ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَرَجَّحَهُ أَيْضًا الْبَارِزِيُّ وَزَادَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَاسْتَدَلَّ بِشَهَادَةِ الضَّبِّ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَشَهَادَةِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ لَهُ، وَأَزْيَدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى نَفْسِهِ. [ذِكْرُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي أَخَذْتُ مِنْهَا إِرْسَالَهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ] هِيَ قِسْمَانِ: مَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْعُمُومُ، وَمَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْخُصُوصِ، فَالَّذِي يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وَالْعَالَمُونَ شَامِلٌ لِلْمَلَائِكَةِ كَمَا هُوَ شَامِلٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] شَامِلٌ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَمْ يَدُلَّ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى وُجُودِهِ لَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَا مِنَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ نُوزِعَ مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، فَمِنْ أَيْنَ تَخْصِيصُهُ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَقَطْ دُونَ الْمَلَائِكَةِ؟ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فَإِنَّهُ أَيْضًا شَامِلٌ لِلْمَلَائِكَةِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الشِّفَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: هَلْ أَصَابَكَ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَخْشَى الْعَاقِبَةَ فَأَمِنْتُ لِثَنَاءِ اللَّهِ عَلَيَّ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] » ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى إِسْنَادٍ، وَأَمَّا مَا يَدُلُّ بِالْخُصُوصِ فَقَدِ اسْتَنْبَطْتُ أَدِلَّةً لَمْ أُسْبَقْ إِلَيْهَا: الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَقْوَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]-يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 27 - 28] ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] . أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضحاك فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} [الأنبياء: 29] قَالَ: يَعْنِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَخْرَجَ ابن المنذر عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء: 29] قَالَ: الْمَلَائِكَةُ، وَأَخْرَجَ ابن المنذر، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وابن مردويه، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] . فَهَذِهِ الْآيَةُ إِنْذَارٌ لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] فَثَبَتَ بِذَلِكَ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ أَقِفْ إِلَى الْآنِ عَلَى إِنْذَارٍ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ لِلْمَلَائِكَةِ سِوَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَاضِحَةٌ ; لِأَنَّ غَالِبَ الْمَعَاصِي رَاجِعَةٌ إِلَى الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ فَاسْتَغْنَى عَنْ إِنْذَارِهِمْ فِيهِ، وَلَمَّا وَقَعَ مِنْ إِبْلِيسَ وَكَانَ مِنْهُمْ أَوْ فِيهِمْ نَظِيرُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ أُنْذِرُوا فِيهَا. نَعَمْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أُخْرَى بِسَبَبِهِمْ لَكِنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ لَا الْإِنْذَارِ الْمَحْضِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أَخْرَجَ ابن المنذر عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ كُلُّ نَفْسٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ. الدَّلِيلُ الثَّانِي: مَا أَخْرَجَهُ عبد الرزاق فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عكرمة قَالَ: صُفُوفُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى صُفُوفِ أَهْلِ السَّمَاءِ فَإِذَا وَافَقَ آمِينَ فِي الْأَرْضِ آمِينَ فِي السَّمَاءِ غُفِرَ لِلْعَبْدِ، هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي السَّمَاءِ تُصَلِّي بِصَلَاةِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيُرَشِّحُهُ مَا أَخْرَجَهُ مالك، وَالشَّافِعِيُّ، وأحمد، وَالْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَأَخْرَجَ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، قَالَ الَّذِينَ خَلْفَهُ: آمِينَ، الْتَقَتْ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ آمِينَ غَفَرَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالُوا: وَكَيْفَ تَصُّفُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّفُّ الْأَوَّلُ عَلَى مِثْلِ الْمَلَائِكَةِ» . الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ مِنْ طَرِيقِ الليث، قَالَ: حَدَّثَنِي خالد عَنْ سعيد قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ إِسْرَافِيلَ مُؤَذِّنَ أَهْلِ السَّمَاءِ يَسْمَعُ تَأْذِينَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَمَنْ فِي الْأَرَضِينَ إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ بِهِمْ عَظِيمُ الْمَلَائِكَةِ يُصَلِّي بِهِمْ، قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ مِيكَائِيلَ يَؤُمُّ الْمَلَائِكَةَ فِي الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَذِّنُونَ آذَانَنَا وَيُصَلُّونَ صَلَاتَنَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ أَسْنَدُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَحُولُوا بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ صَلَاتِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الرَّكْعَتَيْنِ صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّسَانُدَ إِلَى الْقِبْلَةِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَأَخْرَجَ أحمد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حابس بن سعد - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ -: أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي السَّحَرِ فَرَأَى النَّاسَ يُصَلُّونَ فِي صُفَّةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي فِي السَّحَرِ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، دَلَّتْ هَذِهِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي فِي جَمَاعَتِنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ وَتَحْضُرُهَا فِي مَسَاجِدِنَا، وَيُرَشِّحُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] » ) . وَأَخْرَجَ أحمد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] قَالَ: تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ عِنْدَهَا يَجْتَمِعُ الْحُرْسَانُ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَيَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] قَالَ: " صَلَاةَ الْفَجْرَ "، وَفِي قَوْلِهِ: (كَانَ مَشْهُودًا) يَقُولُ: مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ يَشْهَدُونَ تِلْكَ الصَّلَاةَ، وَأَخْرَجَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَيَشْهَدُونَهَا جَمِيعًا ثُمَّ يَصْعَدُ هَؤُلَاءِ وَيُقِيمُ هَؤُلَاءِ. الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: مَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَوْقُوفًا، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سلمان مَرْفُوعًا قَالَ: " «إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي أَرْضٍ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ صَلَّى خَلْفَهُ مَلَكَانِ، فَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يُرَى طَرَفَاهُ يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ» ". وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: " إِذَا أَقَامَ الرَّجُلُ الصَّلَاةَ وَهُوَ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ صَلَّى خَلْفَهُ مَلَكَانِ، فَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مكحول قَالَ: مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ صَلَّى مَعَهُ مَلَكَانِ فَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ سَبْعُونَ مَلَكًا. دَلَّتْ هَذِهِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُصَلُّونَ خَلْفَنَا صَلَاتَنَا، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِشَرْعِنَا، وَيُرَشِّحُ ذَلِكَ فَرْعَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا أَصْحَابُنَا: الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ السبكي فِي الْحَلَبِيَّاتِ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ تَحْصُلُ بِالْمَلَائِكَةِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْآدَمِيِّينَ قَالَ: وَبَعْدَ أَنْ قُلْتُ ذَلِكَ بَحْثًا رَأَيْتُهُ مَنْقُولًا، فَفِي فَتَاوَى الحناطي مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ صَلَّى فِي فَضَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَكَانَ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ هَلْ يَحْنَثُ أَوْ لَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَكُونُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ فِي فَضَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَصَلَّى وَحْدَهُ صَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ خَلْفَهُ صُفُوفًا» فَإِذَا حَلَفَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْنَثُ، قَالَ السبكي: وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْجَمَاعَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَقُلْنَا بِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ، هَلْ نَقُولُ يَجِبُ الْقَضَاءُ كَمَنْ صَلَّى فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ؟ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ ; فَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ إِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا كَصَلَاةِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَنَّهَا تَصِيرُ بِهَا جَمَاعَةً، فَقَدْ يُقَالُ أَنَّهَا تَكْفِي لِسُقُوطِ الْقَضَاءِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: قَوْلُ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي إِذَا سَلَّمَ أَنْ يَنْوِيَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ مِنْ مَلَائِكَةٍ وَإِنْسٍ وَجِنٍّ. الدَّلِيلُ السَّادِسُ: مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ علي قَالَ: «لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ الْأَذَانَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: خَرَجَ مَلَكٌ مِنَ الْحِجَابِ، فَقَالَ الْمَلَكُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ الْمَلَكُ بِيَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدَّمَهُ فَأَمَّ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَوْمَئِذٍ أَكْمَلَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرَفَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» . وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ محمد بن الحنفية مِثْلَهُ، وَفِيهِ «فَقَالَ الْمَلَكُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ اللَّهُ: صَدَقَ عَبْدِي دَعَا إِلَى فَرِيضَتِي - إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَدَّمْ فَتَقَدَّمَ، فَأَمَّ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَتَمَّ لَهُ شَرَفُهُ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ» . فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى إِرْسَالِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: شَهَادَةُ الْمَلَكِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ مُطْلَقًا، حَيْثُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. الثَّانِي: قَوْلُ اللَّهِ فِي دُعَاءِ الْمَلَكِ إِلَى الصَّلَاةِ: دَعَا إِلَى فَرِيضَتِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فُرِضَتْ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا فُرِضَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. الثَّالِثُ: إِمَامَتُهُ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ بِأَسْرِهِمْ خَلْفَهُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 لَهُ وَكَوْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ أَتْبَاعِهِ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: فَيَوْمَئِذٍ أَكْمَلَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ الشَّرَفَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ، وَإِكْمَالُ الشَّرَفِ لَهُ بِبَعْثِهِ إِلَيْهِمْ وَكَوْنِهِمُ أَتْبَاعًا لَهُ، وَكَأَنَّهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَيُرَشِّحُ ذَلِكَ أَمْرٌ خَامِسٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ بَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ فِي الذِّكْرِ، فَكَمَا كَانَ شَرَفُهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَكَذَلِكَ شَرَفُهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فَتَمَّ لَهُ شَرَفُهُ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ، وَسَائِرٌ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: الْبَاقِي، فَكَأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى الثَّقَلَيْنِ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أُرْسِلَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، فَلَمَّا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ تَمَّ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْخَلْقِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَأَخْرَجَ ابن مردويه عَنْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ أَذَّنَ جِبْرِيلُ فَظَنَّتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ، فَقَدَّمَنِي فَصَلَيْتُ بِالْمَلَائِكَةِ» . الدَّلِيلُ السَّابِعُ: مَا أَخْرَجَهُ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَزَلَ آدَمُ بِالْهِنْدِ وَاسْتَوْحَشَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَنَادَى بِالْأَذَانِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ» ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْ جِبْرِيلَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَّمَهَا لِآدَمَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ مَعًا. الدَّلِيلُ الثَّامِنُ: مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وأنس، وجابر، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ «مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى كُلِّ سَمَاءٍ وَعَلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَعَلَى أَوْرَاقِ شَجَرِ الْجَنَّةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، فَمَا كُتِبَ ذَلِكَ فِي الْمَلَكُوتِ إِلَّا عَلَى دُونِ أَسْمَاءِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا لِتَشْهَدَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَكَوْنِهِ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ كعب الأحبار أَنَّ آدَمَ أَوْصَى ابْنَهُ شيث فَقَالَ: كُلَّمَا ذَكَرْتَ اللَّهَ فَاذْكُرْ إِلَى جَنْبِهِ اسْمَ مُحَمَّدٍ فَإِنِّي رَأَيْتُ اسْمَهُ مَكْتُوبًا عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ وَأَنَا بَيْنُ الرُّوحِ وَالطِّينِ، ثُمَّ إِنِّي طَرَفْتُ فَلَمْ أَرَ فِي السَّمَاءِ مَوْضِعًا إِلَّا رَأَيْتُ اسْمَ مُحَمَّدٍ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ، وَلَمْ أَرَ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا وَلَا غُرْفَةً إِلَّا اسْمَ مُحَمَّدٍ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ اسْمَ مُحَمَّدٍ مَكْتُوبًا عَلَى نُحُورِ الْحُورِ الْعَيْنِ، وَعَلَى وَرَقِ قَصَبِ آجَامِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى وَرَقِ شَجَرَةِ طُوبَى، وَعَلَى وَرَقِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَعَلَى أَطْرَافِ الْحُجُبِ، وَبَيْنَ أَعْيُنِ الْمَلَائِكَةِ، فَأَكْثِرْ ذِكْرَهُ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَذْكُرُهُ فِي كُلِّ سَاعَاتِهَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَبِيُّ الْمَلَائِكَةِ، حَيْثُ لَمْ تَغْفُلْ عَنْ ذِكْرِهِ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا الْأَثَرِ فَائِدَةً لَطِيفَةً وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إِلَى الْحُورِ الْعِينِ وَالْوِلْدَانِ، وَوَضَحَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ أَحَدٌ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ بِهَا مِمَّنْ خُلِقَ فِيهَا إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَعَلَّ مِنْ جُمْلَةِ فَوَائِدِ الْإِسْرَاءِ وَدُخُولِهِ إِلَى الْجَنَّةِ تَبْلِيغُ جَمِيعِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ فِي الْجَنَّاتِ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ، وَمَنْ فِي الْبَرْزَخِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ رِسَالَتَهُ لِيُؤْمِنُوا بِهِ وَيُصَدِّقُوهُ مُشَافَهَةً فِي زَمَنِهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ. الدَّلِيلُ التَّاسِعُ: قَدْ صَرَّحَ السبكي فِي تَأْلِيفٍ لَهُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إِلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَلَيْهِمْ وَرَسُولٌ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً» ، قَالَ: وَلِهَذَا أَخَذَ اللَّهُ الْمَوَاثِيقَ لَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] قُلْتُ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ قَطُّ مِنْ لَدُنْ نُوحٍ إِلَّا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُ لَيُؤْمِنَنَّ بِمُحَمَّدٍ. وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَزَلِ اللَّهُ يَتَقَدَّمُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ، وَلَمْ تَزَلِ الْأُمَمُ تَتَبَاشَرُ بِهِ وَتَسْتَفْتِحُ بِهِ. وَأَخْرَجَ الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى آمِنْ بِمُحَمَّدٍ وَمُرْ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْ أَمَتِّكَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُ آدَمَ وَلَا الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ. قَالَ السبكي: عَرَفْنَا بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ حُصُولَ الْكَمَالِ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَخَذَ لَهُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ نَبِيُّهُمْ وَرَسُولُهُمْ، وَفِي أَخْذِ الْمَوَاثِيقِ وَهِيَ فِي مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ لَامُ الْقَسَمِ فِي لَتُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرَنَّهُ. لَطِيفَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ كَأَنَّهَا أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ لِلْخُلَفَاءِ، وَلَعَلَّ أَيْمَانَ الْخُلَفَاءِ أُخِذَتْ مِنْ هُنَا فَانْظُرْ هَذَا التَّعْظِيمَ الْعَظِيمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِهَذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ لِوَائِهِ، وَفِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ صَلَّى بِهِمْ. وَلَوِ اتَّفَقَ مَجِيئُهُ فِي زَمَنِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَمِهِمِ الْإِيمَانُ بِهِ وَنُصْرَتُهُ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ، فَنُبُوَّتُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 عَلَيْهِمْ وَرِسَالَتُهُ إِلَيْهِمْ مَعْنًى حَاصِلٌ لَهُ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ فَتَأَخَّرَ ذَلِكَ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إِلَى وُجُودِهِمْ لَا إِلَى عَدَمِ اتِّصَافِهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَوَقُّفِ الْفِعْلِ عَلَى قَبُولِ الْمَحَلِّ وَتَوَقُّفِهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْفَاعِلِ، فَهَاهُنَا لَا تَوَقُّفَ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ ذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيفَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ وُجُودِ الْعَصْرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، فَلَوْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ لَزِمَهُمُ اتِّبَاعُهُ بِلَا شَكٍّ. وَلِهَذَا يَأْتِي عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ عَلَى شَرِيعَتِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَا فِيهَا مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْأُمَّةِ وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ أَوْ فِي زَمَانِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، وَنُوحٍ، وَآدَمَ كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى نَبُّوتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ إِلَى أُمَمِهِمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَلَيْهِمْ وَرَسُولٌ إِلَى جَمِيعِهِمْ، فَنَبُّوتُهُمْ وَرِسَالَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَأَعْظَمُ وَمُتَّفَقٌ مَعَ شَرَائِعِهِمْ فِي الْأُصُولِ ; لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ، وَتُقَدَّمُ شَرِيعَتُهُ فِيمَا عَسَاهُ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنَ الْفُرُوعِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّسْخِ، أَوْ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ، بَلْ تَكُونُ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُولَئِكَ الْأُمَمِ مَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ، وَالْأَحْكَامُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ، انْتَهَى كَلَامُ السبكي. قُلْتُ: وَيَدُلُّ لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا " «كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» ". فَهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ الَّذِي قَرَّرَهُ السبكي قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّرَفُ الْبُوصِيرِيُّ وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ مَوْلِدِ السبكي بِقَوْلِهِ فِي الْبُرْدَةِ: وَكُلُّ آيٍ أَتَى الرُّسُلُ الْكِرَامُ بِهَا ... فَإِنَّمَا اتَّصَلَتْ مِنْ نُورِهِ بِهِمْ فَإِنَّهُ شَمْسُ فَضْلٍ هُمْ كَوَاكِبُهَا ... يُظْهِرُونَ أَنْوَارَهَا لِلنَّاسِ فِي الظُّلَمْ إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَبِيَّ الْأَنْبِيَاءِ وَرَسُولًا إِلَيْهِمْ وَقَدْ قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ أَتْبَاعِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الدَّلِيلُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أُمُورًا لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، مِنْهَا: قِتَالُهُمْ مَعَهُ، وَمِنْهَا مَشْيُهُمْ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِذَا مَشَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَتْبَاعِهِ وَدَاخِلُونَ فِي شَرْعِهِ، وَمِنْ كَلَامِ الرافعي فِي خُطْبَةِ الْمُحَرَّرِ: وَأَخْدَمَتْهُ الْمَلَائِكُ، وَقَالَ ابْنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] هَذِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَالْمُعَقِّبَاتُ: الْمَلَائِكَةُ يَحْفَظُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْرَجَهُ ابن المنذر، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وابن مردويه، وأبو نعيم فِي الدَّلَائِلِ، وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ أَيَّدَنِي بِأَرْبَعَةِ وُزَرَاءَ، اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَاثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أبي بكر وعمر» وَالْوَزِيرُ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَلِكِ ضَرُورَةً، فَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ رُؤُوسُ أَهْلِ مِلَّتِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا أَنَّ أبا بكر وعمر رُؤُوسُ أَهْلِ مِلَّتِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ بِأَسْرِهِمْ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسْأَلُونَ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهِمْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَاهُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ أُمَّتَهُ إِذَا قَاتَلَتِ الْعَدُوَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِنُصْرَةِ دِينِهِ وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْضُرُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَمَّتِهِ لِيَطْرُدَ عَنْهُ الشَّيْطَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى أُمَّتِهِ وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهَا أُعْطِيَتْ قِرَاءَةَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مِنْ كِتَابِهِ وَلَمْ تُعْطَ قِرَاءَةَ شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ وَهِيَ حَرِيصَةٌ عَلَى سَمَاعِ بَقِيَّةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْإِنْسِ دُونَ سَائِرِ الْكُتُبِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ نَزَلَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا لَمْ يَنْزِلْ إِلَى الْأَرْضِ مُنْذُ خُلِقَ كَإِسْرَافِيلَ، وَمِنْهَا أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ عَلَى نَبِيٍّ قَبْلَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ وُكِّلَ بِقَبْرِهِ الشَّرِيفِ مَلَكٌ يُبْلِغُهُ سَلَامَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى قَبْرِهِ الشَّرِيفِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَضْرِبُونَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ وَيَحُفُّونَهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى أَنْ يُمْسُوا فَإِذَا أَمْسَوْا عَرَجُوا وَهَبَطَ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ كَذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحُوا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ - أَخْرَجَهُ ابن المبارك فِي الزُّهْدِ عَنْ كعب الأحبار. خَاتِمَةٌ: فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ لابن العماد حِكَايَةً أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْسَلَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِيُنْبِئَهُمْ بِمَا عَلِمَ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ كَانَ أَحَدَ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِرْسَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ مَا أُوتِيَ نَبِيُّ فَضِيلَةً إِلَّا أُوتِيَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهَا أَوْ نَظِيرَهَا، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَيْهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 [أَنْبَاءُ الْأَذْكِيَاءِ بِحَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَقَعَ السُّؤَالُ: قَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ وَوَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» ، فَظَاهَرُهُ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ [لَهُ] فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ حَسَنٌ يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ. فَأَقُولُ: حَيَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبْرِهِ هُوَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مَعْلُومَةٌ عِنْدَنَا عِلْمًا قَطْعِيًّا لِمَا قَامَ عِنْدَنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ وَتَوَاتَرَتْ [بِهِ] الْأَخْبَارُ، وَقَدْ أَلَّفَ الْبَيْهَقِيُّ جُزْءًا فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قُبُورِهِمْ، فَمِنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ مَرَّ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيهِ» ، وَأَخْرَجَ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ يوسف بن عطية قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ يَقُولُ لحميد الطويل: هَلْ بَلَغَكَ أَنَّ أَحَدًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ إِلَّا الْأَنْبِيَاءَ؟ قَالَ: لَا، وَأَخْرَجَ أبو داود وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أوس بن أوس الثقفي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ الصَّلَاةَ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ عَلَيْكَ صَلَاتُنَا وَقَدْ أَرِمْتَ؟ يَعْنِي: بَلِيتَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَامَ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، والأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا بُلِّغْتُهُ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عمار سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكًا أَعْطَاهُ أَسْمَاعَ الْخَلَائِقِ قَائِمٌ عَلَى قَبْرِي فَمَا مِنْ أَحَدٍ يُصَلِّي عَلَيَّ صَلَاةً إِلَّا بُلِّغْتُهَا» ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ، والأصبهاني فِي التَّرْغِيبِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مِائَةً فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، قَضَى اللَّهُ لَهُ مِائَةَ حَاجَةٍ سَبْعِينَ مِنْ حَوَائِجِ الْآخِرَةِ وَثَلَاثِينَ مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا، ثُمَّ وَكَّلَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَلَكًا يُدْخِلُهُ عَلَيَّ فِي قَبْرِي كَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 يُدْخِلُ عَلَيْكُمُ الْهَدَايَا، إِنَّ عِلْمِي بَعْدَ مَوْتِي كَعِلْمِي فِي الْحَيَاةِ» ، وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ: «يُخْبِرُنِي مَنْ صَلَّى عَلَيَّ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَأُثْبِتُهُ عِنْدِي فِي صَحِيفَةٍ بَيْضَاءَ» ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُتْرَكُونَ فِي قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ» ، وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي الْجَامِعِ قَالَ: قَالَ شَيْخٌ لَنَا: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: مَا مَكَثَ نَبِيٌّ فِي قَبْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ حَتَّى يُرْفَعَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَصِيرُونَ كَسَائِرِ الْأَحْيَاءِ يَكُونُونَ حَيْثُ يُنْزِلُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلِحَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ شَوَاهِدُ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ فِي لُقِيِّهِ جَمَاعَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَكَلَّمَهُمْ وَكَلَّمُوهُ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْإِسْرَاءِ وَفِيهِ: «وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ» . وَأَخْرَجَ حَدِيثَ: " «إِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ» "، وَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ رَدَّ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَرْوَاحَهُمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ النَّفْخَةَ الْأُولَى صَعِقُوا فِيمَنْ صَعِقَ ثُمَّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَوْتًا فِي جَمِيعِ مَعَانِيهِ إِلَّا فِي ذَهَابِ الِاسْتِشْعَارِ، انْتَهَى، وَأَخْرَجَ أبو يعلى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ لَئِنْ قَامَ عَلَى قَبْرِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَأُجِيبَنَّهُ» ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي لَيَالِيَ الْحَرَّةِ وَمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرِي وَمَا يَأْتِي وَقْتُ صَلَاةٍ إِلَّا سَمِعْتُ الْأَذَانَ مِنَ الْقَبْرِ. وَأَخْرَجَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْحَرَّةِ حَتَّى عَادَ النَّاسُ، وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يُلَازِمُ الْمَسْجِدَ أَيَّامَ الْحَرَّةِ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ قَالَ: فَكُنْتُ إِذَا حَانَتِ الصَّلَاةُ أَسْمَعُ أَذَانًا يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ، وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي سَنَدِهِ قَالَ: أَنْبَأَنَا مروان بن محمد عَنْ سعيد بن عبد العزيز قَالَ: لَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْحَرَّةِ لَمْ يُؤَذَّنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَلَمْ يُقَمْ، وَلَمْ يَبْرَحْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَسْجِدَ وَكَانَ لَا يَعْرِفُ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا بِهَمْهَمَةٍ يَسْمَعُهَا مِنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَاهُ، فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَى حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الشُّهَدَاءِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَهُمْ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ، وَمَا نَبِيٌّ إِلَّا وَقَدْ جَمَعَ مَعَ النُّبُوَّةِ وَصْفَ الشَّهَادَةِ، فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ أحمد، وأبو يعلى، وَالطَّبَرَانِيُّ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَإِنْ أَحْلِفْ تِسْعًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ قَتْلًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ نَبِيًّا وَاتَّخَذَهُ شَهِيدًا، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عائشة قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: «لَمْ أَزَلْ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ» ، فَثَبَتَ كَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا فِي قَبْرِهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، إِمَّا مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَإِمَّا مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ: الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَمَا قُبِضُوا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ، وَقَالَ القرطبي فِي التَّذْكِرَةِ فِي حَدِيثِ الصَّعْقَةِ نَقْلًا عَنْ شَيْخِهِ: الْمَوْتُ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الشُّهَدَاءَ بَعْدَ قَتْلِهِمْ وَمَوْتِهِمْ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الشُّهَدَاءِ فَالْأَنْبِيَاءُ أَحَقُّ بِذَلِكَ وَأَوْلَى، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَمَعَ بِالْأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَفِي السَّمَاءِ، وَرَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ وَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى كُلِّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ جُمْلَتِهِ الْقَطْعُ بِأَنَّ مَوْتَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَنْ غُيِّبُوا عَنَّا بِحَيْثُ لَا نُدْرِكُهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ أَحْيَاءً، وَذَلِكَ كَالْحَالِ فِي الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ مَوْجُودُونَ أَحْيَاءً وَلَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ مِنْ نَوْعِنَا إِلَّا مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِكَرَامَتِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، انْتَهَى، وَسُئِلَ الْبَارِزِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هُوَ حَيٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ؟ فَأَجَابَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَجْوِبَةِ مَسَائِلِ الْجَاجِرْمِيِّينَ قَالَ: الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَأَنَّهُ يُسَرُّ بِطَاعَاتِ أُمَّتِهِ وَيَحْزَنُ بِمَعَاصِي الْعُصَاةِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ تَبْلُغُهُ صَلَاةُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَبْلُونَ وَلَا تَأْكُلُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَقَدْ مَاتَ مُوسَى فِي زَمَانِهِ وَأَخْبَرَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَآهُ فِي قَبْرِهِ مُصَلِّيًا، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ رَآهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَأَنَّهُ رَأَى آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَإِذَا صَحَّ لَنَا هَذَا الْأَصْلُ قُلْنَا: نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَارَ حَيًّا بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ. وَقَالَ الْحَافِظُ شَيْخُ السُّنَّةِ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ: الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بَعْدَمَا قُبِضُوا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ، وَقَدْ رَأَى نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ وَأَمَّهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَأَخْبَرَ - وَخَبَرُهُ صِدْقٌ - أَنَّ صَلَاتَنَا مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ سَلَامَنَا يَبْلُغُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ: وَقَدْ أَفْرَدْنَا لِإِثْبَاتِ حَيَاتِهِمْ كِتَابًا قَالَ: وَهُوَ بَعْدَمَا قُبِضَ نَبِيُّ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا عَلَى سُنَنِهِ وَأَمِتْنَا عَلَى مِلَّتِهِ وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، انْتَهَى جَوَابُ الْبَارِزِيِّ. وَقَالَ الشَّيْخُ عفيف الدين اليافعي: الْأَوْلِيَاءُ تَرِدُ عَلَيْهِمْ أَحْوَالٌ يُشَاهِدُونَ فِيهَا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَنْظُرُونَ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءً غَيْرَ أَمْوَاتٍ كَمَا نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَبْرِهِ، قَالَ: وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا جَازَ لِلْأَنْبِيَاءِ مُعْجِزَةً جَازَ لِلْأَوْلِيَاءِ كَرَامَةً بِشَرْطِ عَدَمِ التَّحَدِّي، قَالَ: وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلَّا جَاهِلٌ، وَنُصُوصُ الْعُلَمَاءِ فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرَةٌ فَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَأَخْرَجَهُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وأبو داود فِي سُنَنِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ أبي عبد الرحمن المقري عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أبي صخر عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» . وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِبَدَنِهِ الشَّرِيفِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ تَأَمَّلْتُهُ فَفُتِحَ عَلَيَّ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ بِأَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ - وَهُوَ أَضْعَفُهَا - أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الرَّاوِيَ وَهِمَ فِي لَفْظَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ حَصَلَ بِسَبَبِهَا الْإِشْكَالُ، وَقَدِ ادَّعَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَلَكِنَّ الْأَصْلَ خِلَافُ ذَلِكَ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى. الثَّانِي: وَهُوَ أَقْوَاهَا وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا ذُو بَاعٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ: " رَدَّ اللَّهُ " جُمْلَةٌ حَالِيَةٌ، وَقَاعِدَةُ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ إِذَا وَقَعَتْ فِعْلًا مَاضِيًا قُدِّرَتْ فِيهَا قَدْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] أَيْ: قَدْ حَصِرَتْ، وَكَذَا تُقَدَّرُ هُنَا وَالْجُمْلَةُ مَاضِيَةٌ سَابِقَةٌ عَلَى السَّلَامِ الْوَاقِعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَحَتَّى لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ، بَلْ مُجَرَّدُ حَرْفِ عَطْفٍ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْحَدِيثِ: مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي قَبْلَ ذَلِكَ فَأَرُدُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْإِشْكَالُ مِنْ ظَنِّ أَنَّ جُمْلَةَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَظَنِّ أَنَّ حَتَّى تَعْلِيلِيَّةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، وَأَيَّدَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّدَّ وَلَوْ أُخِذَ بِمَعْنَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لَزِمَ تَكَرُّرُهُ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَكَرُّرُ الرَّدِّ يَسْتَلْزِمُ تَكْرَارَ الْمُفَارَقَةِ، وَتَكْرَارُ الْمُفَارَقَةِ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَحْذُورَانِ: أَحَدُهُمَا تَأْلِيمُ الْجَسَدِ الشَّرِيفِ بِتَكْرَارِ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ أَوْ نَوْعٍ مَا مِنْ مُخَالَفَةِ التَّكْرِيمِ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَأْلِيمٌ، وَالْآخَرُ مُخَالَفَةُ سَائِرِ النَّاسِ الشُّهَدَاءَ وَغَيْرَهُمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَكَرَّرَ لَهُ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ وَعَوْدُهَا فِي الْبَرْزَخِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالِاسْتِمْرَارِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى رُتْبَةٍ، وَمَحْذُورٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ، وَهَذَا التَّكْرَارُ يَسْتَلْزِمُ مَوْتَاتٍ كَثِيرَةً وَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَحْذُورٌ رَابِعٌ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ السَّابِقَةِ وَمَا خَالَفَ الْقُرْآنَ وَالْمُتَوَاتِرَ مِنَ السُّنَّةِ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلِ التَّأْوِيلُ كَانَ بَاطِلًا ; فَلِهَذَا وَجَبَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ أَنَّ لَفْظَ الرَّدِّ قَدْ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُفَارَقَةِ، بَلْ كَنَّى بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الصَّيْرُورَةِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] إِنَّ لَفْظَ الْعَوْدِ أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الصَّيْرُورَةِ لَا الْعَوْدُ بَعْدَ انْتِقَالٍ ; لِأَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ قَطُّ، وَحُسْنُ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْمُنَاسَبَةِ اللَّفْظِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " «حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ» "، فَجَاءَ لَفْظُ الرَّدِّ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا، أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِرَدِّ الرُّوحِ عَوْدَهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ لِلْبَدَنِ، وَإِنَّمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَرْزَخِ مَشْغُولٌ بِأَحْوَالِ الْمَلَكُوتِ مُسْتَغْرِقٌ فِي مُشَاهَدَةِ رَبِّهِ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فِي حَالَةِ الْوَحْيِ وَفِي أَوْقَاتٍ أُخَرَ، فَعَبَّرَ عَنْ إِفَاقَتِهِ مِنْ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ الِاسْتِغْرَاقِ بِرَدِّ الرُّوحِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِي اللَّفْظَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ وَهِيَ قَوْلُهُ: " «فَاسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» "، لَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِيقَاظَ مِنْ نَوْمٍ فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ لَمْ يَكُنْ مَنَامًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْإِفَاقَةُ مِمَّا خَامَرَهُ مِنْ عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ، وَهَذَا الْجَوَابُ الْآنَ عِنْدِي أَقْوَى مَا يُجَابُ بِهِ عَنْ لَفْظَةِ الرَّدِّ، وَقَدْ كُنْتُ رَجَّحْتُ الثَّانِيَ ثُمَّ قَوِيَ عِنْدِي هَذَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّ الرَّدَّ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِمْرَارَ ; لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو مِنْ مُصَلٍّ عَلَيْهِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِ الرُّوحِ فِي بَدَنِهِ. السَّادِسُ: قَدْ يُقَالُ: أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْأَمْرِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ حَيًّا فِي قَبْرِهِ، فَأَخْبَرَ بِهِ ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ بَعْدَ بِذَلِكَ، فَلَا مُنَافَاةَ لِتَأْخِيرِ الْخَبَرِ الثَّانِي عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، هَذَا مَا أَفْتَحَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَلَمْ أَرَ شَيْئًا مِنْهَا مَنْقُولًا لِأَحَدٍ، ثُمَّ بَعْدَ كِتَابَتِي لِذَلِكَ رَاجَعْتُ كِتَابَ الْفَجْرِ الْمُنِيرِ فِيمَا فُضِّلَ بِهِ الْبَشِيرُ النَّذِيرُ لِلشَّيْخِ تاج الدين بن الفاكهاني المالكي فَوَجَدْتُهُ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: رُوِّينَا فِي التِّرْمِذِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ عَلَى الدَّوَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مُحَالٌ عَادَةً أَنْ يَخْلُوَ الْوُجُودُ كُلُّهُ مِنْ وَاحِدٍ مُسَلِّمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِلَّا رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ رُوحِي» " لَا يَلْتَئِمُ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا عَلَى الدَّوَامِ بَلْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَتَعَدَّدَ حَيَاتُهُ وَوَفَاتُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ، إِذِ الْوُجُودُ لَا يَخْلُو مِنْ مُسَلِّمٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ يَتَعَدَّدُ السَّلَامُ عَلَيْهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ كَثِيرًا، فَالْجَوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالرُّوحِ هُنَا النُّطْقُ مَجَازًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِلَّا رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ نُطْقِي وَهُوَ حَيٌّ عَلَى الدَّوَامِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَيَاتِهِ نُطْقُهُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ النُّطْقَ عِنْدَ سَلَامِ كُلِّ مُسَلِّمٍ، وَعَلَاقَةُ الْمَجَازِ أَنَّ النُّطْقَ مِنْ لَازِمِهِ وُجُودُ الرُّوحِ كَمَا أَنَّ الرُّوحَ مِنْ لَازِمِهِ وُجُودُ النُّطْقِ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ، فَعَبَّرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ عَوْدَ الرُّوحِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] هَذَا لَفْظُ كَلَامِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنَ الْجَوَابِ لَيْسَ وَاحِدًا مِنَ السِّتَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، فَهُوَ إِنْ سَلِمَ - جَوَابٌ سَابِعٌ - وَعِنْدِي فِيهِ وَقْفَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا فِي الْبَرْزَخِ يُمْنَعُ عَنْهُ النُّطْقُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ سَلَامِ الْمُسَلِّمِ عَلَيْهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا بَلْ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ يَشْهَدَانِ بِخِلَافِهِ، أَمَّا النَّقْلُ فَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ عَنْ حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْبَرْزَخِ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ كَيْفَ شَاءُوا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ شَيْءٍ، بَلْ وَسَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ الشُّهَدَاءُ وَغَيْرُهُمْ يَنْطِقُونَ فِي الْبَرْزَخِ بِمَا شَاءُوا غَيْرَ مَمْنُوعِينَ مِنْ شَيْءٍ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ أَحَدًا يُمْنَعُ مِنَ النُّطْقِ فِي الْبَرْزَخِ إِلَّا مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا عَنْ قيس بن قبيصة قَالَ: قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْكَلَامِ مَعَ الْمَوْتَى، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَوْتَى؟ قَالَ: نَعَمْ وَيَتَزَاوَرُونَ» ، وَقَالَ الشيخ تقي الدين السبكي: حَيَاةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ فِي الْقَبْرِ كَحَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَشْهَدُ لَهُ صَلَاةُ مُوسَى فِي قَبْرِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَسْتَدْعِي جَسَدًا حَيًّا، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ كُلُّهَا صِفَاتُ الْأَجْسَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا حَيَاةً حَقِيقَةً أَنْ تَكُونَ الْأَبْدَانُ مَعَهَا كَمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَأَمَّا الْإِدْرَاكَاتُ كَالْعِلْمِ وَالسَّمَاعِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْمَوْتَى، انْتَهَى، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ عَنِ النُّطْقِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ نَوْعُ حَصْرٍ وَتَعْذِيبٍ، وَلِهَذَا عُذِّبَ بِهِ تَارِكُ الْوَصِيَّةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَلْحَقُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَصْرٌ أَصْلًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَمَا قَالَ لفاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ: «لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ» وَإِذَا كَانَ الشُّهَدَاءُ وَسَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى مِنَ الْمُعَذَّبِينَ لَا يُحْصَرُونَ بِالْمَنْعِ مِنَ النُّطْقِ فَكَيْفَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْ كَلَامِ الشيخ تاج الدين جَوَابٌ آخَرُ وَيُقَرَّرُ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالرُّوحِ النُّطْقَ وَبِالرَّدِّ الِاسْتِمْرَارَ مِنْ غَيْرِ مُفَارَقَةٍ عَلَى حَدِّ مَا قَرَّرْتُهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَيَكُونُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا مَجَازَانِ: مَجَازٌ فِي لَفْظِ الرَّدِّ، وَمَجَازٌ فِي لَفْظِ الرُّوحِ، فَالْأَوَّلُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَالثَّانِي مَجَازٌ مُرْسَلٌ، وَعَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَكُونُ فِيهِ مَجَازٌ وَاحِدٌ فِي الرَّدِّ فَقَطْ، وَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرُّوحُ كِنَايَةً عَنِ السَّمْعِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ يَرُدُّ عَلَيْهِ سَمْعَهُ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمُسَلِّمَ وَإِنْ بَعُدَ قُطْرُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى وَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سَمْعَهُ الْمُعْتَادَ، وَقَدْ كَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا حَالَةً يَسْمَعُ فِيهَا سَمْعًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ بِحَيْثُ كَانَ يَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ كَمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُعْجِزَاتِ، وَهَذَا قَدْ يَنْفَكُّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَيَعُودُ لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَحَالَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَرْزَخِ كَحَالَتِهِ فِي الدُّنْيَا سَوَاءٌ. وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ سَمْعُهُ الْمُعْتَادُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِرَدِّهِ إِفَاقَتَهُ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ الْمَلَكُوتِيِّ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ فَيَرُدُّهُ اللَّهُ تِلْكَ السَّاعَةَ إِلَى خِطَابِ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ عَادَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِرَدِّ الرُّوحِ: التَّفَرُّغُ مِنَ الشَّغْلِ وَفَرَاغُ الْبَالِ مِمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ فِي الْبَرْزَخِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَعْمَالِ أُمَّتِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَالدُّعَاءِ بِكَشْفِ الْبَلَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 عَنْهُمْ، وَالتَّرَدُّدِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِحُلُولِ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَحُضُورِ جِنَازَةِ مَنْ مَاتَ مِنْ صَالِحِ أُمَّتِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ جُمْلَةِ أَشْغَالِهِ فِي الْبَرْزَخِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ، فَلَمَّا كَانَ السَّلَامُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ اخْتَصَّ الْمُسَلِّمَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْرَغَ لَهُ مِنْ أَشْغَالِهِ الْمُهِمَّةِ لَحْظَةً يَرُدُّ عَلَيْهِ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهُ وَمُجَازَاةً، فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَجْوِبَةٍ كُلُّهَا مِنِ اسْتِنْبَاطِي، وَقَدْ قَالَ الْجَاحِظُ: إِذَا نَكَحَ الْفِكْرُ الْحِفْظَ وَلَّدَ الْعَجَائِبَ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ حَادِي عَشَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالرُّوحِ رُوحَ الْحَيَاةِ، بَلِ الِارْتِيَاحَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] فَإِنَّهُ قُرِئَ فَرُوحٌ - بِضَمِّ الرَّاءِ - وَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْصُلُ لَهُ بِسَلَامِ الْمُسَلِّمِ عَلَيْهِ ارْتِيَاحٌ وَفَرَحٌ وَهَشَاشَةٌ لِحُبِّهِ ذَلِكَ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ ثَانِي عَشَرَ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الرَّحْمَةُ الْحَادِثَةُ مِنْ ثَوَابِ الصَّلَاةِ، قَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: تَكَرَّرَ ذِكْرُ الرُّوحِ فِي الْحَدِيثِ كَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَوَرَدَتْ فِيهِ عَلَى مَعَانٍ، وَالْغَالِبُ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْجَسَدُ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ وَالرَّحْمَةِ وَعَلَى جِبْرِيلَ، انْتَهَى. وَأَخْرَجَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] بِالضَّمِّ، وَقَالَ: الرُّوحُ الرَّحْمَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الصَّلَاةَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبْرِهِ كَمَا يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ بِالْهَدَايَا، وَالْمُرَادُ ثَوَابُ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَإِنْعَامَاتُهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ ثَالِثَ عَشَرَ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْمَلَكُ الَّذِي وُكِّلَ بِقَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُهُ السَّلَامَ، وَالرُّوحُ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ جِبْرِيلَ أَيْضًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: أَشْرَافُ الْمَلَائِكَةِ تُسَمَّى أَرْوَاحًا، انْتَهَى. وَمَعْنَى " «رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ رُوحِي» " أَيْ: بَعَثَ إِلَيَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِتَبْلِيغِي السَّلَامَ، هَذَا غَايَةُ مَا ظَهَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تَنْبِيهٌ: وَقَعَ فِي كَلَامِ الشيخ تاج الدين أَمْرَانِ يَحْتَاجَانِ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمَا، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَزَا الْحَدِيثَ إِلَى التِّرْمِذِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ إِلَّا أبو داود فَقَطْ كَمَا ذَكَرَهُ الحافظ جمال الدين المزي فِي الْأَطْرَافِ، الثَّانِي: أَنَّهُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ " رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ " وَهُوَ كَذَلِكَ فِي سُنَنِ أبي داود، وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ [رُوحِي] وَهِيَ أَلْطَفُ وَأَنْسَبُ، فَإِنَّ بَيْنَ التَّعْدِيَتَيْنِ فَرْقًا لَطِيفًا، فَإِنَّ " رَدَّ " يَتَعَدَّى بِعَلَى فِي الْإِهَانَةِ، وَبِإِلَى فِي الْإِكْرَامِ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: رَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَقْبَلْهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَطَّأَهُ، وَيَقُولُ رَدَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 إِلَى مَنْزِلِهِ وَرَدَّ إِلَيْهِ جَوَابًا أَيْ: رَجَعَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: مِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 149] ، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33] ، {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} [الأنعام: 71] وَمِنَ الثَّانِي: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} [القصص: 13] ، {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36] ، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة: 94] ، {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] . فَصْلٌ: قَالَ الرَّاغِبُ: مِنْ مَعَانِي الرَّدِّ التَّفْوِيضُ، يُقَالُ: رَدَدْتُ الْحُكْمَ فِي كَذَا إِلَى فُلَانٍ أَيْ: فَوَّضْتُهُ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء: 83] انْتَهَى، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا جَوَابٌ رَابِعَ عَشَرَ عَنِ الْحَدِيثِ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ فَوَّضَ اللَّهُ إِلَيَّ رَدَّ السَّلَامِ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الرَّحْمَةُ، وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، فَكَانَ الْمُسَلِّمُ بِسَلَامِهِ تَعَرَّضَ لِطَلَبِ صَلَاةٍ مِنَ اللَّهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» ، وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، فَفَوَّضَ اللَّهُ أَمْرَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْعُوَ بِهَا لِلْمُسَلِّمِ فَتَحْصُلُ إِجَابَتُهُ قَطْعًا، فَتَكُونُ الرَّحْمَةُ الْحَاصِلَةُ لِلْمُسَلِّمِ إِنَّمَا هِيَ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَسَلَامِهِ عَلَيْهِ، وَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الشَّفَاعَةِ فِي قَبُولِ سَلَامِ الْمُسَلِّمِ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ الْإِضَافَةُ فِي رُوحِي لِمُجَرَّدِ الْمُلَابَسَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «فَيَرُدُّهَا هَذَا إِلَى هَذَا وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى مُحَمَّدٍ» ، وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: «لَقِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ السَّاعَةِ فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِيسَى» . وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: إِلَّا فَوَّضَ اللَّهُ إِلَيَّ أَمَرَ الرَّحْمَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْمُسَلِّمِ بِسَبَبِي، فَأَتَوَلَّى الدُّعَاءَ بِهَا بِنَفْسِي بِأَنْ أَنْطِقَ بِلَفْظِ السَّلَامِ عَلَى وَجْهِ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ سَلَامِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ خَامِسَ عَشَرَ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الرَّحْمَةُ الَّتِي فِي قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ وَالرَّأْفَةُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا، وَقَدْ يَغْضَبُ فِي بَعْضِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 الْأَحْيَانِ عَلَى مَنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ أَوِ انْتَهَكَ مَحَارِمَ اللَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «إِذَنْ تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ ذَنْبُكَ» فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَإِنْ بَلَغَتْ ذُنُوبُهُ مَا بَلَغَتْ إِلَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ ذَنْبٍ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ نَفِيسَةٌ وَبُشْرَى عَظِيمَةٌ، وَتَكُونُ هَذِهِ فَائِدَةَ زِيَادَةٍ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ فِي أَحَدِ الْمَنْفِيِّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ قَبْلَ زِيَادَتِهَا، نَصَّ فِيهِ بَعْدَ زِيَادَتِهَا بِحَيْثُ انْتَفَى بِسَبَبِهَا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصَ. هَذَا آخِرُ مَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ الْآنَ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَإِنْ فَتَحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ أَلْحَقْنَاهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ مُخَرَّجًا فِي كِتَابِ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ لِلْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِ: «إِلَّا وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي» فَصَرَّحَ فِيهِ بِلَفْظِ: " وَقَدْ "، فَحَمِدْتُ اللَّهَ كَثِيرًا وَقَوِيَ أَنَّ رِوَايَةَ إِسْقَاطِهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى إِضْمَارِهَا، وَأَنَّ حَذْفَهَا مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي جَنَحْتُ إِلَيْهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَقَدْ عُدْتُ الْآنَ إِلَى تَرْجِيحِهِ لِوُجُودِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَهُوَ أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ، وَمُرَادُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ يَرُدُّ إِلَيْهِ رُوحَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَصِيرُ حَيًّا عَلَى الدَّوَامِ، حَتَّى لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ سَلَامَهُ لِوُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ، فَصَارَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي حَيَاتِهِ فِي قَبْرِهِ، وَوَاحِدًا مِنْ جُمْلَتِهَا لَا مُنَافِيًا لَهَا الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: لَوْ لَمْ نَكْتُبِ الْحَدِيثَ مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا مَا عَقَلْنَاهُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الطُّرُقَ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ تَارَةً فِي أَلْفَاظِ الْمَتْنِ، وَتَارَةً فِي الْإِسْنَادِ، فَيَسْتَبِينُ بِالطَّرِيقِ الْمَزِيدِ مَا خَفِيَ فِي الطَّرِيقِ النَّاقِصَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْإِعْلَامِ بِحُكْمِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَبَعْدُ: فَقَدْ وَرَدَ عَلَيَّ سُؤَالٌ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَادِسَ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ صُورَتُهُ: الْمَسْئُولُ الْجَوَابُ عَمَّا يُذْكَرُ وَهُوَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، بِمَاذَا يَحْكُمُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا أَوْ بِشَرْعِهِ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ إِنَّهُ يَحْكُمُ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا، فَكَيْفَ طَرِيقُ حُكْمِهِ بِهِ أَبِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَرِّرَةِ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَبِأَيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 مَذْهَبٍ هُوَ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِالِاجْتِهَادِ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ تَصِلُ إِلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي يَسْتَنْبِطُ مِنْهَا الْأَحْكَامَ، أَبِالنَّقْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ بِالْوَحْيِ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِالنَّقْلِ فَكَيْفَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ صَحِيحَ السُّنَّةِ مِنْ سَقِيمِهَا أَبِحُكْمِ الْحُفَّاظِ عَلَيْهِ أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِالْوَحْيِ فَأَيُّ وَحْيٍ هُوَ؟ أَوَحْيُ إِلْهَامٍ أَوْ بِتَنْزِيلِ مَلَكٍ، فَإِذَا كَانَ بِالثَّانِي فَأَيُّ مَلَكٍ وَكَيْفَ حُكْمُهُ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَأَرَاضِيهِ وَمَا صَدَرَ فِيهَا مِنَ الْأَوْقَافِ؟ أَيُقِرُّ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ الْآنَ أَوْ يَحْكُمُ فِيهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ؟ وَأَقُولُ: قَدْ وَرَدَ عَلَيَّ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ مُدَّةٍ تُقَارِبُ شَهْرَيْنِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جَاءَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ وَالِدِي فَسَأَلَنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا السُّؤَالُ، وَأَجَبْتُهُ عَنْهُ بِجَوَابٍ مُخْتَصَرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ قِصَّةُ اسْتِحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عثمان وَأَخْرَجْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ غَرِيبَيْنِ خَرَّجْتُهُمَا مِنْ تَارِيخِ ابن عساكر وَأَوْرِدْتُهُمَا فِي كِتَابِ تَارِيخِ الْخُلَفَاءِ فِي تَرْجَمَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَا أَنَا ذَاكِرٌ فِي هَذِهِ الْأَوْرَاقِ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى طَرِيقِ الْبَسْطِ ذَاكِرًا فِي كُلِّ كَلِمَةٍ أُورِدُهَا مُسْتَنَدِي فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ، فَقَوْلُ السَّائِلِ بِمَاذَا يَحْكُمُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا أَوْ بِشَرْعِهِ؟ جَوَابُهُ: أَنَّهُ يَحْكُمُ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا لَا بِشَرْعِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَوَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، فَمِنْ جُمْلَةِ نُصُوصِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الخطابي فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ عِنْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ أَنَّ عِيسَى يَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْخَنَازِيرِ وَبَيَانِ أَنَّ أَعْيَانَهَا نَجِسَةٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا يَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ عَلَى حُكْمِ شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ نُزُولَهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِنُزُولِ عِيسَى أَنَّهُ يَنْزِلُ بِشَرْعٍ يَنْسَخُ شَرْعَنَا وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، بَلْ صَحَّتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّهُ يَنْزِلُ حَكَمًا مُقْسِطًا يَحْكُمُ بِشَرْعِنَا وَيُحْيِي مِنْ أُمُورِ شَرْعِنَا مَا هَجَرَهُ النَّاسُ. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أحمد، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سمرة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى مِلَّتِهِ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ ثُمَّ وَإِنَّمَا هُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ» ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَلْبَثُ الدَّجَّالُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا بِمُحَمَّدٍ وَعَلَى مِلَّتِهِ إِمَامًا مَهْدِيًّا وَحَكَمًا عَدْلًا فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَؤُمُّهُمْ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَتَلَ اللَّهُ الدَّجَّالَ وَأَظْهَرَ الْمُؤْمِنِينَ» . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عِيسَى يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ يَوْمَئِذٍ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَهَذَا الذِّكْرُ فِي الِاعْتِدَالِ مِنْ خَوَاصِّ صَلَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرْتُهُ فِي كِتَابِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْخَصَائِصِ، وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «يَهْبِطُ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَيُصَلِّي الصَّلَوَاتِ وَيُجَمِّعُ الْجُمَعَ» "، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْزِلُ بِشَرْعِنَا ; لِأَنَّ مَجْمُوعَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَلَاةِ الْجُمْعَةِ لَمْ يَكُونَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَأَخْرَجَ ابن عساكر مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ آخِرُهَا» . وَأَخْرَجَ ابن عساكر أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ تَهْلِكُ أُمَّةٌ أَنَا أَوَّلُهَا وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ آخِرُهَا والمهدي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فِي وَسَطِهَا؟» وَقَوْلُ السَّائِلِ: وَإِذَا قُلْتُمْ: إِنَّهُ يَحْكُمُ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا فَكَيْفَ طَرِيقُ حُكْمِهِ بِهِ أَبِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الْمُقَرَّرَةِ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ؟ هَذَا السُّؤَالُ عَجَبٌ مِنْ سَائِلِهِ وَأَشَدُّ عَجَبًا مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: بِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، فَهَلْ خَطَرَ بِبَالِ السَّائِلِ أَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ الشَّرِيفَةِ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ وَالْمُجْتَهِدُونَ مِنَ الْأُمَّةِ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكُلٌّ لَهُ مَذْهَبٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَقَدْ كَانَ فِي السِّنِينَ الْخَوَالِي نَحْوُ عَشَرَةِ مَذَاهِبَ مُقَلِّدَةٌ أَرْبَابُهَا مُدَوَّنَةٌ كُتُبُهَا وَهِيَ: الْأَرْبَعَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَمَذْهَبُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمَذْهَبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَمَذْهَبُ إسحاق بن راهويه، وَمَذْهَبُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَمَذْهَبُ داوود، وَكَانَ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعٌ يُفْتُونَ بِقَوْلِهِمْ وَيَقْضُونَ، وَإِنَّمَا انْقَرَضُوا بَعْدَ الْخَمْسِمِائَةِ لِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ وَقُصُورِ الْهِمَمِ، فَالْمَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ خَصَّصَ السَّائِلُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ؟ ثُمَّ كَيْفَ يُظَنُّ بِنَبِيٍّ أَنَّهُ يُقَلِّدُ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا، فَإِذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ لَا يُقَلِّدُ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ أَنَّهُ يُقَلِّدُ؟ فَإِنْ قُلْتَ: فَتَعَيَّنَ حِينَئِذٍ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِالِاجْتِهَادِ، قُلْتُ: لَا لَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْكُمُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ اجْتِهَادًا، كَمَا لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ حَكَوْا خِلَافًا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ بِمَا يَفْهَمُهُ مِنَ الْقُرْآنِ يُسَمَّى اجْتِهَادًا لَمْ تَتَّجِهْ حِكَايَةُ الْخِلَافِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 فَإِنْ قُلْتَ: بَيِّنْ لَنَا طَرِيقَ مَعْرِفَةِ عِيسَى بِأَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ: الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِي زَمَانِهِمْ بِجَمِيعِ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ، وَبِالتَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَشَّرَ أُمَّتَهُ بِمَجِيءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِجُمْلَةٍ مِنْ شَرِيعَتِهِ يَأْتِي بِهَا تُخَالِفُ شَرِيعَةَ عِيسَى، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِمُوسَى وَدَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَرَّبَ مُوسَى نَجِيًّا قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أُمَّةً خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أُمَّةً أَنَاجِيلِهِمْ فِي صُدُورِهِمْ يَقْرَؤُونَهَا وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُمْ يَقْرَؤُونَ كُتُبَهُمْ نَظَرًا وَلَا يَحْفَظُونَهَا فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أُمَّةً يَأْكُلُونَ صَدَقَاتِهِمْ فِي بُطُونِهِمْ وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُمْ إِذَا أَخْرَجَ صَدَقَتَهُ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكَلَتْهَا، فَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ لَمْ تَأْكُلْهَا النَّارُ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أُمَّةً إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. فَهَذِهِ أَحْكَامٌ فِي شَرْعِنَا مُخَالِفَةٌ لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُوسَى فَعَلِمَهَا بِالْوَحْيِ لَا بِالِاجْتِهَادِ وَلَا بِالتَّقْلِيدِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ أَيْضًا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى فِي الزَّبُورِ: يَا دَاوُدُ إِنَّهُ سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكَ نَبِيٌّ اسْمُهُ أَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ صَادِقًا نَبِيًّا لَا أَغْضَبُ عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَا يَعْصِينِي أَبَدًا، وَقَدْ غَفَرْتُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَأُمَّتُهُ مَرْحُومَةٌ أَعْطَيْتُهُمْ مِنَ النَّوَافِلِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُ الْأَنْبِيَاءَ، وَافْتَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الْفَرَائِضَ الَّتِي افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ حَتَّى يَأْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُورُهُمْ مِثْلُ نُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنِّي افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَطَهَّرُوا لِي كُلَّ صَلَاةٍ كَمَا افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ كَمَا أَمَرْتُ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالْحَجِّ كَمَا أَمَرْتُ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ، وَأَمَرْتُهُمْ بِالْجِهَادِ كَمَا أَمَرْتُ الرُّسُلَ قَبْلَهُمْ، يَا دَاوُدُ إِنِّي فَضَّلْتُ مُحَمَّدًا وَأُمَّتَهُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 الْأُمَمِ كُلِّهِمْ، أَعْطَيْتُهُمْ خِصَالًا لَمْ أُعْطِهَا غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، لَا أُؤَاخِذُهُمْ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَكُلِّ ذَنْبٍ رَكِبُوهُ إِذَا اسْتَغْفَرُونِي مِنْهُ غَفَرْتُهُ، وَمَا قَدَّمُوا لِآخِرَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ طَيِّبَةً بِهِ أَنْفُسُهُمْ عَجَّلْتُهُ لَهُمْ، وَلَهُمْ عِنْدِي أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ، وَأَعْطَيْتُهُمْ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا إِذَا صَبَرُوا وَقَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ الصَّلَاةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْهُدَى إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ كعب الأحبار كَيْفَ تَجِدُ نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ كعب: نَجِدُهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَيُهَاجِرُ إِلَى طَابَةَ وَيَكُونُ مُلْكُهُ بِالشَّامِ، وَلَيْسَ بِفَاحِشٍ وَلَا بِسَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَافِئُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي كُلِّ سَرَّاءَ، وَيُكَبِّرُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ نَجْدٍ، يُوَضِّئُونَ أَطْرَافَهُمْ وَيَأْتَزِرُونَ فِي أَوْسَاطِهِمْ، يَصُفُّونَ فِي صَلَاتِهِمْ كَمَا يَصُفُّونَ فِي قِتَالِهِمْ، وَدَوِيُّهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ كَدَوِيِّ النَّحْلِ يُسْمَعُ مُنَادِيهِمْ فِي جَوِّ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِفَتِي فِي الْإِنْجِيلِ أَحْمَدُ الْمُتَوَكِّلُ مَوْلِدُهُ مَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ إِلَى طِيبَةَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ يَجْزِي بِالْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ وَلَا يُكَافِئُ بِالسَّيِّئَةِ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَأْتَزِرُونَ عَلَى أَنْصَافِهِمْ وَيُوَضِّئُونَ أَطْرَافَهُمْ، أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، يَصُفُّونَ لِلصَّلَاةِ كَمَا يَصُفُّونَ لِلْقِتَالِ، قُرْبَانُهُمُ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيَّ دِمَاؤُهُمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ» ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ كعب الأحبار قَالَ: صِفَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الْآخِرِ، وَيُقَاتِلُونَ أَهْلَ الضَّلَالَةِ حَتَّى يُقَاتِلُوا الْأَعْوَرَ الدَّجَّالَ، هُمُ الْحَمَّادُونَ رُعَاةُ الشَّمْسِ، الْمُحَكِّمُونَ، إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَمْرًا قَالَ أَفْعَلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِذَا أَشْرَفَ أَحَدُهُمْ عَلَى شَرَفٍ كَبَّرَ اللَّهَ، وَإِذَا هَبَطَ وَادِيًا حَمِدَ اللَّهَ، الصَّعِيدُ لَهُمْ طَهُورٌ وَالْأَرْضُ لَهُمْ مَسْجِدٌ حَيْثُ مَا كَانُوا، يَتَطَهَّرُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ، طُهُورُهُمْ بِالصَّعِيدِ كَطُهُورِهِمْ بِالْمَاءِ حَيْثُ لَا يَجِدُونَ الْمَاءَ، غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِنَا مُخَالِفَةٌ لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، بَيَّنَهَا اللَّهُ لِأَنْبِيَائِهِ فِيمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ بِبَيَانٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَتَرَكْتُهَا خَوْفَ الْإِطَالَةِ، وَوَرَدَتِ الْآثَارُ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لِأَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبِهِمْ جَمِيعَ مَا هُوَ وَاقِعٌ فِي هَذِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 الْأُمَّةِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَفِتَنٍ وَأَخْبَارِ خُلَفَائِهَا وَمُلُوكِهَا، مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابن عساكر عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: مَثَلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَثَلُ الْقَطْرِ أَيْنَمَا يَقَعُ نَفَعَ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: كَيْفَ تَجِدُ نَعْتِي فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: خَلِيفَةُ قَرْنٍ مِنْ حَدِيدٍ أَمِيرٌ شَدِيدٌ لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِكَ خَلِيفَةٌ تَقْتُلُهُ أُمَّةٌ ظَالِمِينَ لَهُ ثُمَّ يَقَعُ الْبَلَاءُ بَعْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ دَعَا الْأُسْقُفَّ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِكُمْ؟ قَالَ: نَجِدُ صِفَتَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ محمد بن يزيد الثقفي قَالَ: اصْطَحَبَ قيس بن خرشة، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ حَتَّى إِذَا بَلَغَا صِفِّينَ وَقَفَ كعب ثُمَّ نَظَرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَيَهْرَاقَنَّ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ لَا يَهْرَاقُ بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلُهُ، فَقَالَ قيس: مَا يُدْرِيكَ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ؟ فَقَالَ كعب: مَا مِنَ الْأَرْضِ شِبْرٌ إِلَّا مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى مَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَخْرَجَ عبد الله بن أحمد فِي رِوَايَاتِ الزُّهْدِ عَنْ هشام بن خالد الربعي قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ تَبْكِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا وَقَدْ سَرَدْتُهَا فِي كِتَابِ الْمُعْجِزَاتِ، وَحَاصِلُهَا الْقَطْعُ بِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لِأَنْبِيَائِهِ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَحْكَامٍ وَمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ حَوَادِثَ وَفِتَنٍ، فَعَلِمَ الْأَنْبِيَاءُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَنْ يَأْخُذُوهُ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ - هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ - وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيَّ فِي هَذَا الطَّرِيقِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مُضَمَّنًا فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَأَقُولُ: لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا اللَّازِمِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 192] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] ، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 192] قَالَ: الْقُرْآنُ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] قَالَ: أَيْ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ: إِنَّهُ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى الْأَوَّلِينَ. وَأَخْرَجَ عَنْ مبشر بن عبيد القرشي فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} [الشعراء: 197] قَالَ: يَقُولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْقُرْآنُ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِ اللَّهِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا بِعَيْنِهِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مُضَمَّنٌ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَهِيَ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَخْذًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِمَّا يَشْهَدُ بِذَلِكَ وَصْفُهُ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ بِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ، فَلَوْلَا أَنَّ مَا فِيهِ مَوْجُودٌ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْوَصْفُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى الْكُتُبِ فِيمَا أَخْبَرَنَا أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ كِتَابِهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ فَصَدِّقُوا، وَإِلَّا فَكَذِّبُوا. وَأَخْرَجَ عَنِ ابن زيد فِي الْآيَةِ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ تَوْرَاةٍ أَوْ إِنْجِيلٍ أَوْ زَبُورٍ فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ عَلَى ذَلِكَ، كُلُّ شَيْءٍ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ مُصَدِّقٌ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا حَدَّثَ عَنْهَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18] . أَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ كُلُّ هَذَا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى» . وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هَذِهِ السُّورَةُ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السدي قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى مِثْلَ مَا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ عبد الرزاق عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [الأعلى: 18] قَالَ: مَا قَصَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الحسن: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [الأعلى: 18] قَالَ: فِي كُتُبِ اللَّهِ كُلِّهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 36] (أَنْ لَا تَزِرُ) الْآيَاتِ. فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْقُرْآنِ فَيَفْهَمَ مِنْهُ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى مُرَاجَعَةِ الْأَحَادِيثِ كَمَا فَهِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ قَدِ انْطَوَى عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفَهِمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَهْمِهِ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ، ثُمَّ شَرَحَهَا لِأُمَّتِهِ فِي السُّنَّةِ، وَأَفْهَامُ الْأُمَّةِ تَقْصُرُ عَنْ إِدْرَاكِ مَا أَدْرَكَهُ صَاحِبُ النُّبُوَّةِ، وَعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَفْهَمَ مِنَ الْقُرْآنِ كَفَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَاهِدُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَهِمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ - قَوْلُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي " الْأَوْسَطِ " مِنْ حَدِيثِ عائشة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَا أُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: جَمِيعُ مَا تَقُولُهُ الْأُمَّةُ شَرْحٌ لِلسُّنَّةِ، وَجَمِيعُ السُّنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: لَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ فِي الدِّينِ نَازِلَةٌ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فِيهَا. وَقَالَ ابن برجان: مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِيهِ أَصْلُهُ، قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ، وَعَمِهَ مَنْ عَمِهَ، وَكَذَا كُلُّ مَا حَكَمَ أَوْ قَضَى بِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَنْ فَهَّمَهُ اللَّهُ حَتَّى إِنِّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ عُمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11] فَإِنَّهَا رَأْسُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةً، وَعَقَّبَهَا بِالتَّغَابُنِ لِيُظْهِرَ التَّغَابُنَ فِي فَقْدِهِ. وَقَالَ المرسي فِي تَفْسِيرِهِ: جَمَعَ الْقُرْآنُ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ بِحَيْثُ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا حَقِيقَةً إِلَّا الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ رَوَتْ عَنْهُ مُعْظَمَ ذَلِكَ سَادَاتُ الصَّحَابَةِ وَأَعْلَامُهُمْ، مِثْلَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَمِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى قَالَ: لَوْ ضَاعَ لِي عِقَالُ بَعِيرٍ لَوَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَكُونُ فِتَنٌ، قِيلَ: وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَوْ أَغْفَلَ شَيْئًا لَأَغْفَلَ الذَّرَّةَ وَالْخَرْدَلَةَ وَالْبَعُوضَةَ» . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي " كِتَابِ الْعَظَمَةِ ". وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَعَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ فِيهِ خَبَرَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: أُنْزِلَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ كُلُّ عِلْمٍ، وَبُيِّنَ لَنَا فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ عِلْمَنَا يَقْصُرُ عَمَّا بُيِّنَ لَنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 فِي الْقُرْآنِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِحَدِيثٍ أَنْبَأْتُكُمْ بِتَصْدِيقِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا وَجَدْتُ مِصْدَاقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ - رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. فَعُرِفَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ الشَّرِيعَةِ مُنْطَوِيَةٌ تَحْتَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْهَضُ لِإِدْرَاكِهَا مِنْهُ إِلَّا صَاحِبُ النُّبُوَّةِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْعِبَادَةُ فِي الْقُرْآنِ لِلْعَامَّةِ، وَالْإِشَارَةُ لِلْخَاصَّةِ، وَاللَّطَائِفُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَالْحَقَائِقُ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ رَسُولٌ، فَيَفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ وَيَحْكُمُ بِهِ وَإِنْ خَالَفَ الْإِنْجِيلَ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ يَحْكُمُ بِشَرْعِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَانِ طَرِيقَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَمِلٌ فِي مَعْرِفَةِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَمَأْخَذُهُمَا قَوِيٌّ فِي غَايَةِ الِاتِّجَاهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ السبكي وَغَيْرُهُ، أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ بَقَائِهِ عَلَى نُبُوَّتِهِ - مَعْدُودٌ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَاخِلٌ فِي زُمْرَةِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَيٌّ مُؤْمِنًا بِهِ وَمُصَدِّقًا، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُ بِهِ مَرَّاتٍ فِي غَيْرِ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ مِنْ جُمْلَتِهَا بِمَكَّةَ، رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي " الْكَامِلِ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ رَأَيْنَا بُرْدًا وَيَدًا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا الْبُرْدُ الَّذِي رَأَيْنَا وَالْيَدُ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ سَلَّمَ عَلَيَّ» . وَأَخْرَجَ ابن عساكر مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنْتُ أَطُوفُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، إِذْ رَأَيْتُهُ صَافَحَ شَيْئًا لَا نَرَاهُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ صَافَحْتَ شَيْئًا وَلَا نَرَاهُ! قَالَ: ذَاكَ أَخِي عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، انْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى طَوَافَهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ» . فَحِينَئِذٍ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّى مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْكَامَهُ الْمُتَعَلِّقَةَ بِشَرِيعَتِهِ الْمُخَالِفَةَ لِشَرِيعَةِ الْإِنْجِيلِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي أُمَّتِهِ وَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِشَرِيعَتِهِ، فَأَخَذَهَا عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَقَدْ رَوَى ابن عساكر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّ ابْنَ مَرْيَمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَلَا رَسُولٌ، إِلَّا أَنَّهُ خَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي» . وَقَدْ رَأَيْتُ فِي عِبَارَةِ السبكي فِي تَصْنِيفٍ لَهُ مَا نَصُّهُ: إِنَّمَا يَحْكُمُ عِيسَى بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَتَرَجَّحُ أَنَّ أَخْذَهُ لِلسُّنَّةِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْمُشَافَهَةِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ هُوَ والخضر وَإِلْيَاسُ. قَالَ الذهبي فِي " تَجْرِيدِ الصَّحَابَةِ ": عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ وَصَحَابِيٌّ؛ فَإِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَهُوَ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا. انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وَقَوْلُ السَّائِلِ: وَكَيْفَ حُكْمُهُ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، أَيُقِرُّ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ الْآنَ؟ كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْعَجَبِ؛ فَإِنَّ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ جَارِيَةٌ الْآنَ عَلَى غَيْرِ الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا يُقِرُّ نَبِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَوَارِيثِ: إِنَّهُ لَا يُورَّثُ بَيْتُ الْمَالِ إِلَّا عِنْدَ انْتِظَامِهِ، وَانْتِظَامُهُ أَنْ يَكُونَ كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَهُوَ قَبْلَ الْأَرْبَعِمِائَةِ: لِبَيْتِ الْمَالِ سِنِينٌ كَثِيرَةٌ مَا اسْتَقَامَ، فَكَيْفَ قُرْبَ التِّسْعِمِائَةِ وَلَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً، وَقَدْ أَلَّفْتُ كِتَابًا فِي آدَابِ الْمُلُوكِ، مَنْ طَالَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ عَلِمَ أَنَّ غَالِبَ أُمُورِ بَيْتِ الْمَالِ جَارِيَةٌ الْآنَ عَلَى غَيْرِ الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ المهدي يَأْتِي قَبْلَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا بَعْدَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، وَيَأْتِي عِيسَى فَيُقِرُّ صُنْعَ المهدي، وَمِمَّا يَعْدِلُ فِيهِ المهدي أَنَّهُ يُقَسِّمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيْئَهُمُ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وُلَاةُ الْأَتْرَاكِ وَأَكَلُوهُ وَاسْتَبَدُّوا بِهِ دُونَهُمْ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وأبو نعيم، والحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ سمرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ أَنْ يَمْلَأَ اللَّهُ أَيْدِيَكُمْ مِنَ الْعَجَمِ، فَيَأْكُلُونَ فَيْئَكُمْ» . وَوَرَدَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وحذيفة، وابن عمرو، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أم سلمة قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المهدي أَنَّهُ يُقَسِّمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيْئَهُمْ، وَيَعْمَلُ فِيهِمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ إِلَى الْأَرْضِ، يَمْكُثُ سَبْعَ سِنِينَ» . وَأَخْرَجَ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وأبو يعلى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُبَشِّرُكُمْ بالمهدي، يُبْعَثُ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنَ النَّاسِ وَزَلَازِلَ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الْأَرْضِ، يُقَسِّمُ الْمَالَ صِحَاحًا. قِيلَ: مَا صِحَاحًا؟ قَالَ: بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَمْلَأُ قُلُوبَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ غِنًى، وَيَسَعُهُمْ عَدْلُهُ، حَتَّى يَأْمُرَ مُنَادِيًا فَيُنَادِيَ: مِنْ لَهُ فِي مَالٍ حَاجَةٌ، فَمَا يَقُومُ مِنَ النَّاسِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَيَكُونُ كَذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ» . وَقَوْلُ السَّائِلِ: وَمَا صَدَرَ فِيهَا مِنَ الْأَوْقَافِ؟ جَوَابُهُ: أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا وَقْفًا عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْقُرَّاءِ، وَذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَارِبِهِ، وَالْفُقَرَاءِ، وَالْمَرْضَى، وَالزَّمْنَى، وَالْمُنْقَطِعِينَ، وَالْمَدَارِسِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَالْحَرَمَيْنِ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، فَهُوَ وَقْفٌ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ، فَيُقِرُّهُ، وَمَا كَانَ مُوقَفًا عَلَى نِسَاءِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَوْلَادِهِمْ فَهُوَ وَقْفٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، فَيُبْطِلُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 ثُمَّ ظَهَرَ لِي طَرِيقٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نَزَلَ يَجْتَمِعُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ، وَمُسْتَنَدِي فِي هَذَا الطَّرِيقِ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: مَا أَخْرَجَهُ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ لَئِنْ قَامَ عَلَى قَبْرِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لِأُجِيبَنَّهُ» . وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيُهْبِطَنَّ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، وَإِمَامًا مُقْسِطًا، فَلَيَسْلُكَنَّ فَجَّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، وَلَيَقِفَنَّ عَلَى قَبْرِي فَلَيُسَلِّمَنَّ عَلَيَّ، وَلَأَرُدَنَّ عَلَيْهِ» . الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ كَانَ يَرَى الْأَنْبِيَاءَ وَيَجْتَمِعُ بِهِمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ رَأَى عِيسَى فِي الطَّوَافِ، وَصَحَّ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى مُوسَى وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» ، وَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ يُصَلُّونَ» ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَزَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ يَرَى الْأَنْبِيَاءَ وَيَجْتَمِعُ بِهِمْ وَمِنْ جُمْلَتِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْخُذُ عَنْهُ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ جَمَاعَةَ أَئِمَّةِ الشَّرِيعَةِ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مِنْ كَرَامَةِ الْوَلِيِّ أَنْ يَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْتَمِعُ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ، وَيَأْخُذُ عَنْهُ مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ مَعَارِفَ وَمَوَاهِبَ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ: الْغَزَالِيُّ، والبارزي، والتاج ابن السبكي، والعفيف اليافعي، وَمِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ القرطبي، وابن أبي جمرة، وابن الحاج فِي " الْمَدْخَلِ ". وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ فَقِيهٍ، فَرَوَى ذَلِكَ الْفَقِيهُ حَدِيثًا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ، فَقَالَ الْفَقِيهُ: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِكَ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَقُلْ هَذَا الْحَدِيثَ، وَكُشِفَ لِلْفَقِيهِ فَرَآهُ، وَقَالَ الشيخ أبو الحسن الشاذلي: لَوْ حُجِبْتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا عَدَدْتُ نَفْسِي مَعَ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعِيسَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِذَلِكَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، وَيَأْخُذَ عَنْهُ مَا أَرَادَ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى اجْتِهَادٍ، وَلَا تَقْلِيدٍ لِحُفَّاظِ الْحَدِيثِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَمَّا أَكْثَرَ الْحَدِيثَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَالَ: لَئِنْ نَزَلَ عِيسَىابْنُ مَرْيَمَ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ لَأُحَدِّثَنَّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُصَدِّقُنِي. فَقَوْلُهُ: فَيُصَدِّقُنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَنْ يَأْخُذَهَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ، حَتَّى إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ الَّذِي سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ يُصَدِّقُهُ فِيمَا رَوَاهُ وَيُزَكِّيهِ، هَذَا آخِرُ الْجَوَابِ، ثُمَّ إِنَّ مَوْلَانَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَخَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَابْنَ عَمِّ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ الْإِمَامَ، الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ، أَعَزَّهُ اللَّهُ وَأَعَزَّ بِهِ الدِّينَ، وَهُوَ الْآمِرُ بِالْكِتَابَةِ أَوَّلًا - أَعَادَ الْأَمْرَ ثَانِيًا، هَلْ ثَبَتَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ نُزُولِهِ يَأْتِيهِ وَحْيٌ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، رَوَى مُسْلِمٌ، وأحمد، وأبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، مِنْ حَدِيثِ النواس بن سمعان قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ - إِلَى أَنْ قَالَ -: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، فَيَتْبَعُهُ فَيُدْرِكُهُ، فَيَقْتُلُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ الشَّرْقِيِّ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَىابْنِ مَرْيَمَ» أَنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا مِنْ عِبَادِي لَا يَدَانِ لَكَ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّرْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ الْحَدِيثَ. فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بَعْدَ النُّزُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَائِيَ إِلَيْهِ بِالْوَحْيِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ هُوَ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ وَلَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَظِيفَتُهُ، وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أبو نعيم فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ وَرَقَةُ لخديجة: جِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُسُلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي " كِتَابِ الْعَظَمَةِ "، عَنِ ابن سابط قَالَ: فِي أُمِّ الْكِتَابِ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوُكِّلَ بِهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَوُكِّلَ جِبْرِيلُ بِالْكُتُبِ وَالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَوُكِّلَ أَيْضًا بِالْهَلَكَاتِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ قَوْمًا، وَوَكَّلَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَوُكِّلَ مِيكَائِيلُ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ، وَوُكِّلَ مَلَكُ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَارَضُوا بَيْنَ حِفْظِهِمْ وَبَيْنَ مَا كَانَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَيَجِدُونَهُ سَوَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ جِبْرِيلُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينَ اللَّهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: جِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَمِيكَائِيلُ يَتَلَقَّى الْكُتُبَ، وَإِسْرَافِيلُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاجِبِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عكرمة بن خالد: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمَلَائِكَةِ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ، فَأَمَّا جِبْرِيلُ فَصَاحِبُ الْحَرْبِ وَصَاحِبُ الْمُرْسَلِينَ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَصَاحِبُ كُلِّ قَطْرَةٍ تَسْقُطُ وَكُلِّ وَرَقَةٍ تَنْبُتُ، وَأَمَّا مَلَكُ الْمَوْتِ فَهُوَ مُوَكَّلٌ بِقَبْضِ رُوحِ كُلِّ عَبْدٍ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ فَأَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عبد العزيز بن عمير قَالَ: اسْمُ جِبْرِيلَ فِي الْمَلَائِكَةِ خَادِمُ رَبِّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ كعب قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ أَمْرًا جَاءَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ حَتَّى يُصَفِّقَ جَبْهَةَ إِسْرَافِيلَ، فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيَنْظُرُ، فَإِذَا الْأَمْرُ مَكْتُوبٌ فَيُنَادِي جِبْرِيلَ فَيُلَبِّيهِ، فَيَقُولُ: أُمِرْتَ بِكَذَا أُمِرْتَ بِكَذَا، فَيَهْبِطُ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُوحِي إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أبي بكر الهذلي قَالَ: إِذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْأَمْرِ تَدَلَّتِ الْأَلْوَاحُ عَلَى إِسْرَافِيلَ بِمَا فِيهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا إِسْرَافِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلَ فَيُجِيبُهُ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أبي سنان قَالَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ مُعَلَّقٌ بِالْعَرْشِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ بِشَيْءٍ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ، فَيَجِيءُ اللَّوْحُ حَتَّى يَقْرَعَ جَبْهَةَ إِسْرَافِيلَ، فَيَنْظُرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ دَفَعَهُ إِلَى مِيكَائِيلَ، وَإِنْ كَانَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ دَفَعَهُ إِلَى جِبْرِيلَ، فَأَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّوْحُ، يُدْعَى بِهِ تَرْعُدُ فَرَائِصُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ، فَيَقُولُ إِسْرَافِيلُ، فَيُدْعَى إِسْرَافِيلُ تَرْعُدُ فَرَائِصُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَغَكَ اللَّوْحُ؟ فَإِذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ اللَّوْحُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانِي مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ، ثُمَّ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُعِيَ إِسْرَافِيلُ تَرْعُدُ فَرَائِصُهُ، فَيُقَالُ: مَا صَنَعْتَ فِيمَا أَدَّى إِلَيْكَ اللَّوْحُ؟ فَيَقُولُ: بَلَّغْتُ جِبْرِيلَ، فَيُدْعَى جِبْرِيلُ تَرْعُدُ فَرَائِصُهُ، فَيُقَالُ: مَا صَنَعْتَ فِيمَا بَلَّغَكَ إِسْرَافِيلُ؟ فَيَقُولُ: بَلَّغْتُ الرُّسُلَ فَيُؤْتَى بِالرُّسُلِ، فَيُقَالُ: مَا صَنَعْتُمْ فِيمَا أَدَّى إِلَيْكُمْ جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُونَ: بَلَّغْنَا النَّاسَ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] . وَأَخْرَجَ ابن المبارك فِي " الزُّهْدِ "، عَنِ ابن أبي جبلة بِسَنَدِهِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِسْرَافِيلُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: هَلْ بَلَّغْتَ عَهْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ رَبِّ قَدْ بَلَّغْتُ جِبْرِيلَ، فَيُدْعَى جِبْرِيلُ، فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَكَ إِسْرَافِيلُ عَهْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُخَلَّى عَنْ إِسْرَافِيلَ، فَيَقُولُ لِجِبْرِيلَ: مَا صَنَعْتَ فِي عَهْدِي؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ بَلَّغْتُ الرُّسُلَ. فَيُدْعَى الرُّسُلُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ جِبْرِيلُ عَهْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُخَلَّى عَنْ جِبْرِيلَ - الْحَدِيثَ. فَعُرِفَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْآثَارِ اخْتِصَاصُ جِبْرِيلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَعُرِفَ بِهَا أَيْضًا أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَلَقَّى الْوَحْيَ عَنِ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ إِسْرَافِيلَ، وَقَدْ كُنَّا سُئِلْنَا عَنْ ذَلِكَ مُنْذُ أَيَّامٍ. خَاتِمَةٌ: اشْتَهَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ أَنَّ جِبْرِيلَ لَا يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا أَصْلَ لَهُ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي " الْكَبِيرِ "، «عَنْ ميمونة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 بنت سعد قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَرْقُدُ الْجُنُبُ؟ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَرْقُدَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُتَوَفَّى فَلَا يَحْضُرُهُ جِبْرِيلُ» . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ، وَيَحْضُرُ مَوْتَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ. ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى حَدِيثٍ آخَرَ فِيهِ نُزُولُ جِبْرِيلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي " كِتَابِ الْفِتَنِ "، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصْفِ الدَّجَّالِ قَالَ: «فَيَمُرُّ بِمَكَّةَ، فَإِذَا هُوَ بِخَلْقٍ عَظِيمٍ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا مِيكَائِيلُ بَعَثَنِي اللَّهُ لِأَمْنَعَهُ مِنْ حَرَمِهِ، وَيَمُرُّ بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا هُوَ بِخَلْقٍ عَظِيمٍ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا جِبْرِيلُ بَعَثَنِي اللَّهُ لِأَمْنَعَهُ مِنْ حَرَمِهِ» . ثُمَّ رَأَيْتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر: 4]- الْآيَةَ - عَنِ الضحاك أَنَّ الرُّوحَ هَنَا جِبْرِيلُ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَيُسَلِّمُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَقَدْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِذَا نَزَلَ لَا يُوحَى إِلَيْهِ وَحْيًا حَقِيقِيًّا، بَلْ وَحْيَ إِلْهَامٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ سَاقِطٌ مُهْمَلٌ؛ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: مُنَابَذَتُهُ لِلْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَلَفْظُهُ: «فَبَيْنَاهُ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا عِيسَى، إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، حَوِّلْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ» . وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ وَحْيٌ حَقِيقِيٌّ لَا وَحْيَ إِلْهَامٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ هَذَا الزَّاعِمُ مِنْ تَعَذُّرِ الْوَحْيِ الْحَقِيقِيِّ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ عِيسَى نَبِيٌّ، فَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ نُزُولِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، فَإِنْ تَخَيَّلَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ عِيسَى قَدْ ذَهَبَ وَصْفُ النُّبُوَّةِ عَنْهُ وَانْسَلَخَ مِنْهُ فَهَذَا قَوْلٌ يُقَارِبُ الْكُفْرَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَذْهَبُ عَنْهُ وَصْفُ النُّبُوَّةِ أَبَدًا وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ تَخَيَّلَ اخْتِصَاصَ الْوَحْيِ لِلنَّبِيِّ بِزَمَنٍ دُونَ زَمَنٍ فَهُوَ [قَوْلٌ] لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَيُبْطِلُهُ ثُبُوتُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدْ أَلَمَّ السبكي بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ: مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ إِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ فِي زَمَانِهِ لَيُؤْمِنُ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وَيُوصِي أُمَّتَهُ بِذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمِ قَدْرِهِ الْعَلِيِّ مَا لَا يَخْفَى، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيئِهِ فِي زَمَانِهِمْ يَكُونُ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ، وَتَكُونُ نُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ زَمَنِ آدَمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَكُونُ الْأَنْبِيَاءُ وَأُمَمُهُمْ كُلُّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً لَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّاسُ مِنْ زَمَانِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بَلْ يَتَنَاوَلُ مَنْ قَبْلَهُمْ أَيْضًا - إِلَى أَنْ قَالَ: فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَوِ اتَّفَقَ مَجِيئُهُ فِي زَمَنِ آدَمَ، وَنُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 أُمَمِهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنُصْرَتُهُ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ، فَنُبُوَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَرِسَالَتُهُ إِلَيْهِمْ مَعْنًى حَاصِلٌ لَهُ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ، فَلَوْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ لَزِمَهُمُ اتِّبَاعُهُ بِلَا شَكٍّ؛ وَلِهَذَا يَأْتِي عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ عَلَى شَرِيعَتِهِ، وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ، لَا كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَأْتِيَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، نَعَمْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا قُلْنَاهُ أَنَّ اتِّبَاعَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ، لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ أَوْ فِي زَمَانِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَآدَمَ - كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ إِلَى أُمَمِهِمْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَلَيْهِمْ وَرَسُولٌ إِلَى جَمِيعِهِمْ، فَنُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَأَعْظَمُ، هَذَا كَلَامُ السبكي [بِحُرُوفِهِ] ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ كَوْنِهِ يَنْزِلُ مُتَّبِعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كَوْنِهِ بَاقِيًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَيَأْتِيهِ جِبْرِيلُ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ زَاعِمٌ: الْوَحْيُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ مُؤَوَّلٌ بِوَحْيِ الْإِلْهَامِ. قُلْتُ: قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِدَلِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِدَلِيلٍ فَلَعِبٌ لَا تَأْوِيلٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا فَهُوَ لَعِبٌ بِالْحَدِيثِ. قَالَ زَاعِمٌ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ " «لَا وَحْيَ بَعْدِي» " قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَاطِلٌ. قَالَ زَاعِمٌ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ " «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» " قُلْنَا: يَا مِسْكِينُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ بَعْثُ نَبِيٍّ بِشَرْعٍ يَنْسَخُ شَرْعَهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ يُقَالُ لِهَذَا الزَّاعِمِ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، فَيَلْزَمُكَ عَلَيْهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا نَفْيُ نُزُولِ عِيسَى، أَوْ نَفْيُ النُّبُوَّةِ عَنْهُ وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ؟ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ كِتَابَتِي لِهَذَا الْجَوَابِ وَقَفْتُ عَلَى سُؤَالٍ رُفِعَ إِلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابن حجر، صُورَتُهُ: مَا قَوْلُكُمْ فِي قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَكَمًا» . فَهَلْ يَنْزِلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَافِظًا لِكِتَابِ اللَّهِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَتَلَقَّى الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عَنْ عُلَمَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيَجْتَهِدُ فِيهَا؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ: لَمْ يُنْقَلْ لَنَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَرِيحٌ، وَالَّذِي يَلِيقُ بِمَقَامِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ يَتَلَقَّى ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَحْكُمُ فِي أُمَّتِهِ بِمَا تَلَقَّاهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ خَلِيفَةٌ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 (تَنْبِيهٌ) : وَيُشْبِهُ هَذَا مَا بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمُنْكِرِينَ أَنَّهُ أَنْكَرَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نَزَلَ يُصَلِّي خَلْفَ المهدي صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَأَنَّهُ صَنَّفَ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ كِتَابًا، وَقَالَ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ مَقَامًا مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ غَيْرِ نَبِيٍّ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، فَإِنَّ صَلَاةَ عِيسَى خَلْفَ المهدي ثَابِتَةٌ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ بِأَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يُخْلَفُ خَبَرُهُ، مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، والحاكم فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " وَصَحَّحَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: «فَيَنْزِلُ عِيسَى عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَيَقُولُ لَهُ أَمِيرُ النَّاسِ، تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَصَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: إِنَّكُمْ مَعْشَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أُمَرَاءُ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ بِنَا، فَيَتَقَدَّمُ فَيُصَلِّي بِهِمْ، فَإِذَا انْصَرَفَ أَخَذَ عِيسَى حَرْبَتَهُ نَحْوَ الدَّجَّالِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ» . وَفِي " مُسْنَدِ أحمد "، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ» . . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى، فَتُقَامُ الصَّلَاةُ، فَيُقَالُ لَهُ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ، فَيَقُولُ: لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ» ... الْحَدِيثَ. وَفِي " مُسْنَدِ أبي يعلى " عَنْ جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيَقُولُ إِمَامُهُمْ: تَقَدَّمْ، فَيَقُولُ: أَنْتَ أَحَقُّ، بَعْضُكُمْ أُمَرَاءُ عَلَى بَعْضٍ، أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ» . وَرَوَى أبو داود وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَنَا عَنِ الدَّجَّالِ» - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الصُّبْحَ، فَرَجَعَ ذَلِكَ الْإِمَامُ يَمْشِي الْقَهْقَرَى لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى يُصَلِّي، فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ عِيسَى: أَقِيمُوا الْبَابَ، فَيُفْتَحُ وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ جابر، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَمِينٌ، تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ» . وَقَوْلُ هَذَا الْمُنْكِرِ: إِنَّ النَّبِيَّ أَجَلُّ مَقَامًا مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ غَيْرِ نَبِيٍّ - جَوَابُهُ: أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ الْأَنْبِيَاءِ مَقَامًا وَأَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً، وَقَدْ صَلَّى خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَرَّةً، وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أُخْرَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وَقَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ نَبِيٌّ حَتَّى يُصَلِّيَ خَلْفَ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِهِ» . ثَبَتَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، فَكَيْفَ يَتَّجِهُ لِهَذَا الْمُنْكِرِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَلَسْتُ أَعْجَبُ مِنْ إِنْكَارِ مَنْ لَا يَعْرِفُ، إِنَّمَا أَعْجَبُ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى تَسْطِيرِ ذَلِكَ فِي وَرَقٍ يُخَلَّدُ بَعْدَهُ وَيُسَطَّرُ فِي صَحِيفَتِهِ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا أبو أسامة، عَنْ هشام عَنِ ابن سيرين، قَالَ: المهدي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَؤُمُّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. [لُبْسُ الْيَلَبِ فِي الْجَوَابِ عَنْ إِيرَادِ حَلَبَ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَ كِتَابُ " الْإِعْلَامِ " إِلَى حَلَبَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَاقِفٌ، فَرَأَى قَوْلِي فِيهِ: إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. فَكَتَبَ عَلَى الْهَامِشِ بِخَطِّهِ مَا نَصُّهُ: بَلْ قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ الحافظ برهان الدين الحلبي فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ ": اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ صُوَرٍ، ذَكَرَهَا السهيلي فِي رَوْضِهِ - إِلَى أَنْ قَالَ -: سَابِعُهَا وَحْيُ إِسْرَافِيلَ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُكِّلَ بِهِ إِسْرَافِيلُ، فَكَانَ يَتَرَاءَى لَهُ وَيَأْتِيهِ بِالْكَلِمَةِ وَالشَّيْءِ، ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ جِبْرِيلُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَوَّلِ " الِاسْتِيعَابِ " وَسَاقَ سَنَدًا إِلَى الشَّعْبِيِّ: قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ ابن الملقن أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ جِبْرِيلَ ابْتَدَأَهُ بِالْوَحْيِ. انْتَهَى مَا كَتَبَهُ الْمُعْتَرِضُ. وَأَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: مَا نَقَلَهُ الْمُعْتَرِضُ نَفْسُهُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ عَنِ ابن الملقن أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ جِبْرِيلَ ابْتَدَأَهُ بِالْوَحْيِ، وَإِنَّمَا قَالَ ابن الملقن ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الثَّابِتُ فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَثَرُ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مَعَ ثُبُوتِ خِلَافِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُعْتَرِضِ كَيْفَ اعْتَرَضَ بِمَا لَمْ يَثْبُتْ، مَعَ نَقْلِهِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَشْهُورَ خِلَافُ مَا اعْتَرَضَ بِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّفِيرِ: الَّذِي هُوَ مُرْصَدٌ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِ جِبْرِيلَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَجِيءُ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، كَمَا أَنَّ كَاتِبَ السِّرِّ مُرْصَدٌ لِلتَّوْقِيعِ عَنِ السُّلْطَانِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يُوقِّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 يُسْلَبُ كَاتِبُ السِّرِّ الِاخْتِصَاصَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مَنْ وَقَّعَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَكَذَلِكَ لَا يُسْلَبُ جِبْرِيلُ الِاخْتِصَاصَ بِاسْمِ السَّفِيرِ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي وَقْتٍ مَا، وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ غَيْرِ إِسْرَافِيلَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا هُوَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَجَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَشَّرَهُ بِالْخُلَّةِ، فَعَجَبٌ مِنَ الْمُعْتَرِضِ كَيْفَ اقْتَصَرَ عَلَى إِسْرَافِيلَ دُونَ مَجِيءِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِبَارَةَ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا " وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ " بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَإِسْرَافِيلُ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حِكْمَتِهِ أَنَّهُ الْمُوَكَّلُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ قُرْبَ السَّاعَةِ، وَكَانَتْ بَعْثَتُهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ إِسْرَافِيلَ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَى نَبِيٍّ قَبْلَهُ، وَحِينَئِذٍ فَالْمَبْعُوثُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَفِيرٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَفِيرًا إِلَّا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ، وَالْحُكْمُ الْمَنْفِيُّ عَنِ الْمَجْمُوعِ لَا يَلْزَمُ نَفْيُهُ عَنْ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ، فَلَا يَصِحُّ النَّقْضُ بِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا يُوهِي أَثَرَ الشَّعْبِيِّ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، والحاكم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ، إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا مِنَ السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَلَكٌ قَدْ نَزَلَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى الْأَرْضِ قَطُّ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ؛ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتَهُمَا» . قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هَذَا الْمَلَكُ هُوَ إِسْرَافِيلُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَبَطَ عَلَيَّ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ مَا هَبَطَ عَلَى نَبِيٍّ قَبْلِي، وَلَا يَهْبِطُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدِي، وَهُوَ إِسْرَافِيلُ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَبِّكَ إِلَيْكَ، أَمَرَنِي أُخْبِرُكَ إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا، فَنَظَرْتُ إِلَى جِبْرِيلَ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعْ، فَلَوْ أَنِّي قَلْتُ نَبِيًّا مَلِكًا لَسَارَتِ الْجِبَالُ مَعِي ذَهَبًا» . وَهَاتَانِ الْقَضِيَّتَانِ بَعْدَ ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ بِسِنِينَ كَمَا يُعْرَفُ مِنْ سَائِرِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ، وَهُمَا ظَاهِرَانِ فِي أَنَّ إِسْرَافِيلَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ أَتَاهُ فِي ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ؟ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ أَقَمْنَا فِي " الْإِعْلَامِ " الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ عَقِبَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ورقة: جِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِهِ، وَقَوْلُ ابن سابط: فَوُكِّلَ جِبْرِيلُ بِالْكُتُبِ وَالْوَحْيِ إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ جِبْرِيلُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينَ اللَّهِ إِلَى رُسُلِهِ. وَمِيكَائِيلُ يَتَلَقَّى الْكُتُبَ، وَإِسْرَافِيلُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاجِبِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَمَّا جِبْرِيلُ فَصَاحِبُ الْحَرْبِ وَصَاحِبُ الْمُرْسَلِينَ» - الْحَدِيثَ، وَآثَارٌ أُخَرُ، وَقُلْنَا فِي آخِرِ الْكَلَامِ: فَعُرِفَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْآثَارِ اخْتِصَاصُ جِبْرِيلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، أَفَمَا كَانَ عِنْدَ الْمُعْتَرِضِ مِنَ الْفِطْنَةِ مَا يَهْتَدِي بِهِ لِصِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَخْذًا مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ؟ هَذَا آخِرُ الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [مَبْحَثُ الْمَعَادِ] [اللُّمْعَةُ فِي أَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ السَّبْعَةِ] مَبْحَثُ الْمَعَادِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحْوَالُ الْبَرْزَخِ، وَأَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَالْبَعْثِ أَحْوَالُ الْبَرْزَخِ اللُّمْعَةُ فِي أَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ السَّبْعَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَعْلَمُ الْأَمْوَاتُ بِزِيَارَةِ الْأَحْيَاءِ وَبِمَا هُمْ فِيهِ؟ وَهَلْ يَسْمَعُ الْمَيِّتُ كَلَامَ النَّاسِ وَمَا يُقَالُ فِيهِ؟ وَأَيْنَ مَقَرُّ الْأَرْوَاحِ؟ وَهَلْ تَجْتَمِعُ وَيَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ وَهَلْ يُسْأَلُ الشَّهِيدُ وَالطِّفْلُ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ مَسَائِلُ مُهِمَّةٌ قَلَّ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا بِمَا يَشْفِي، وَأَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَتَتَبَّعُ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ. أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، فَنَعَمْ يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ، رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي " كِتَابِ الْقُبُورِ " مِنْ حَدِيثِ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ وَيَجْلِسُ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ» ". وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " الِاسْتِذْكَارِ " وَ " التَّمْهِيدِ "، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» "، صَحَّحَهُ أبو محمد عبد الحق. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي " كِتَابِ الْقُبُورِ "، عَنْ محمد بن قدامة الجوهري، عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى الْقَزَّازِ، عَنْ هشام بن سعد، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا مَرَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 الرَّجُلُ بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَعَرَفَهُ، وَإِذَا مَرَّ بِقَبْرٍ لَا يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ. وَرَوَى فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ بِزُوَّارِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ. وَعَنِ الضحاك قَالَ: مَنْ زَارَ قَبْرًا يَوْمَ السَّبْتِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلِمَ الْمَيِّتُ بِزِيَارَتِهِ، قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِمَكَانِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ عِلْمُ الْأَمْوَاتِ بِأَحْوَالِ الْأَحْيَاءِ وَبِمَا هُمْ فِيهِ، فَنَعَمْ أَيْضًا، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: ثَنَا عبد الرزاق، عَنْ سفيان، عَمَّنْ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا» ". وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الصلت بن دينار، عَنِ الحسن، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى عَشَائِرِكُمْ وَعَلَى أَقْرِبَائِكُمْ فِي قُبُورِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِكَ» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي " الْأَوْسَطِ "، مِنْ طَرِيقِ مسلمة بن علي - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ وَهِشَامِ بْنِ الْغَازِ، عَنْ مكحول، عَنْ عبد الرحمن بن سلامة، عَنْ أبي رهم، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ إِذَا قُبِضَتْ، تَلَقَّاهَا أَهْلُ الرَّحْمَةِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَمَا تَلْقَوْنَ الْبَشِيرَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُونَ: أَنْظِرُوا صَاحِبَكُمْ لِيَسْتَرِيحَ؛ فَإِنَّهُ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ، ثُمَّ لَيَسْأَلُونَهُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ وَفُلَانَةُ، هَلْ تَزَوَّجَتْ؟ فَإِذَا سَأَلُوهُ عَنِ الرَّجُلِ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ فَيَقُولُ: أَيْهَاتَ، قَدْ مَاتَ ذَاكَ قَبْلِي، فَيَقُولُونَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، فَبِئْسَتِ الْأُمُّ وَبِئْسَتِ الْمُرَبِّيَةُ، وَقَالَ: إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وَقَالُوا: اللَّهُمَّ هَذَا فَضْلُكَ وَرَحْمَتُكَ، فَأَتْمِمْ نِعْمَتَكَ عَلَيْهِ وَأَمِتْهُ عَلَيْهَا، وَيُعْرَضُ عَلَيْهِمْ عَمَلُ الْمُسِيءِ فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُ عَمَلًا صَالِحًا تَرْضَى بِهِ وَتُقَرِّبُهُ إِلَيْكَ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي " كِتَابِ الْمَنَامَاتِ "، عَنْ محمد بن الحسين، عَنْ محمد بن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أبي رهم، عَنْ أبي أيوب قَالَ: تُعْرَضُ أَعْمَالُكُمْ عَلَى الْمَوْتَى، فَإِنْ رَأَوْا حَسَنًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا، وَإِنْ رَأَوْا سُوءًا قَالُوا: اللَّهُمَّ رَاجِعْ بِهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي " نَوَادِرِ الْأُصُولِ "، مِنْ حَدِيثِ عبد الغفور بن عبد العزيز، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ عَلَى اللَّهِ، وَتُعْرَضُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَيَفْرَحُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ وَتَزْدَادُ وُجُوهُهُمْ بَيَاضًا وَإِشْرَاقًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُؤْذُوا أَمْوَاتَكُمْ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَنَامَاتِ، ثَنَا القاسم بن هاشم ومحمد بن رزق الله قَالَا: ثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ، ثَنَا أبو إسماعيل السلولي: سَمِعْتُ مالك بن الداء: يَقُولُ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي إِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، فَإِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ» . وَقَالَ: ثَنَا عبد الله بن شبيب، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ شَيْبَةَ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا فليح بن إسماعيل، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أبي صالح وَالْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَفْضَحُوا مَوْتَاكُمْ بِسَيِّئَاتِ أَعْمَالِكُمْ، فَإِنَّهَا تُعْرَضُ عَلَى أَوْلِيَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» . وَقَالَ: ثَنَا الحسن بن عبد العزيز، نَبَّأَ عمر بن أبي سلمة، عَنْ سعيد بن عبد العزيز، عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ يَمْقُتَنِي خَالِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيتُهُ. وَقَالَ: ثَنَا أبو هشام، ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ عبد الوهاب بن مجاهد، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِنَّهُ لَيُبَشَّرُ بِصَلَاحِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِتَقَرَّ بِذَلِكَ عَيْنُهُ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ هَلْ يَسْمَعُ الْمَيِّتُ كَلَامَ النَّاسِ وَثَنَاءَهُمْ عَلَيْهِ وَقَوْلَهُمْ فِيهِ، فَنَعَمْ أَيْضًا، أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، والمروزي فِي " الْجَنَائِزِ "، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَغَيْرُهُمْ، مِنْ طَرِيقِ أبي عامر العقدي، عَنْ عبد الملك بن الحسن المدني، عَنْ سعد بن عمرو بن سليم، عَنْ معاوية - أَوِ ابن معاوية - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ مَنْ يُغَسِّلُهُ وَيَحْمِلُهُ وَيُدَلِّيهِ فِي قَبْرِهِ» . وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي " الْأَوْسَطِ " مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أبي سعيد. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ، عَنْ عمرو بن دينار وبكر بن عبد الله المزني، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ مَعْنَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنِي عمار، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ حذيفة: الرُّوحُ بِيَدِ مَلَكٍ وَإِنَّ الْجَسَدَ لَيُغَسَّلُ، وَإِنَّ الْمَلَكَ لَيَمْشِي مَعَهُ إِلَى الْقَبْرِ، فَإِذَا سُوِّيَ عَلَيْهِ سَلَكَ فِيهِ، فَذَلِكَ حِينَ يُخَاطَبُ. وَقَالَ ثَنَا الحسين بن عمرو القرشي، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، ثَنَا سفيان، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: الرُّوحُ بِيَدِ مَلَكٍ يَمْشِي بِهِ مَعَ الْجِنَازَةِ، يَقُولُ لَهُ: اسْمَعْ مَا يُقَالُ لَكَ، فَإِذَا بَلَغَ حُفْرَتَهُ دَفَنَهُ مَعَهُ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ مَقَرُّ الْأَرْوَاحِ، فَهِيَ أَجَلُّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَنَا أَسْتَوْفِي لَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ: رَوَى مالك فِي " الْمُوَطَّأِ "، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 قَالَ: " «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» ". هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مالك، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ أحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي " الْكَبِيرِ " بِسَنَدٍ حَسَنٍ، «عَنْ أم هانئ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَتَزَاوَرُ إِذَا مُتْنَا وَيَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَكُونُ النَّسَمُ طَيْرًا تُعَلَّقُ بِالشَّجَرِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَخَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ فِي جَسَدِهَا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ تَسْرَحُ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ» . وَأَخْرَجَ أحمد، وأبو داود، والحاكم، وَغَيْرُهُمْ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا أُصِيبَ أَصْحَابُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ» . وَأَخْرَجَ أحمد وعبد فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وَ " الطَّبَرَانِيُّ " بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يُخْرَجُ إِلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْبَعْثِ "، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، «عَنْ عبد الرحمن بن كعب بن مالك قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ كعبا الْوَفَاةُ أَتَتْهُ أم بشر بنت البراء، فَقَالَتْ: يَا أبا عبد الرحمن، إِنْ لَقِيتَ كعبا فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَقَالَ لَهَا: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ يَا أم بشر، نَحْنُ أَشْغَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ نَسَمَةَ الْمُؤْمِنِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَنَسَمَةَ الْكَافِرِ فِي سِجِّينٍ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: فَهُوَ ذَاكَ.» وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا عبد الله بن صالح، «عَنْ ضمرة بن حبيب قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ؟ قَالَ: مَحْبُوسَةٌ فِي سِجِّينٍ.» هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، والحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ وابن أبي داود فِي كِتَابَيِ الْبَعْثِ لَهُمَا، وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَبَلٍ فِي الْجَنَّةِ، يَكْفُلُهُمْ إبراهيم وسارة حَتَّى يَرُدَّهُمْ إِلَى آبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . صَحَّحَهُ الحاكم. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ "، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وابن مردويه فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ أبي محمد الحماني، عَنْ أبي هارون العبدي، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُتِيتُ بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي تَعْرُجُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، فَلَمْ تَرَ الْخَلَائِقُ أَحْسَنَ مِنَ الْمِعْرَاجِ مَا رَأَيْتَ الْمَيِّتَ حِينَ يَشُقُّ بَصَرَهُ طَامِحًا إِلَى السَّمَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَجَبُهُ بِالْمِعْرَاجِ، فَصَعِدْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ، فَاسْتَفْتَحَ بَابَ السَّمَاءِ، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ وَنَفْسٌ طَيِّبَةٌ، اجْعَلُوهَا فِي عِلِّيِّينَ، ثُمَّ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ الْفُجَّارِ فَيَقُولُ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَنَفْسٌ خَبِيثَةٌ، اجْعَلُوهَا فِي سِجِّينٍ» . وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا أحمد بن إبراهيم الكيال، ثَنَا موسى بن شعيب أبو عمران السمرقندي، ثَنَا محمد بن سهيل، ثَنَا أبو مقاتل السمرقندي، ثَنَا أبو سهل هشام بن مصك، عَنِ الحسن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ يَنْظُرُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ» . هَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، وَأَمَّا الْمَوْقُوفَةُ فَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا محمد بن رجاء، ثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا علي بن يزيد بن جدعان، عَنْ يوسف بن مهران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَبْغَضُ بُقْعَةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ وَادٍ يُقَالُ لَهُ: بَرَهُوتُ، فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْبَعْثِ "، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي " كِتَابِ الْمَنَامَاتِ "، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ الْتَقَيَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ لَقِيتَ رَبَّكَ قَبْلِي فَأَخْبِرْنِي مَاذَا لَقِيتَ، فَقَالَ: أَوَيَلْقَى الْأَحْيَاءُ الْأَمْوَاتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي " الْكَبِيرِ "، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الْجَنَّةُ مَطْوِيَّةٌ فِي قُرُونِ الشَّمْسِ تُنْشَرُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ، وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَيْرٍ كَالزَّرَازِيرِ تَأْكُلُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ. وَأَسْنَدَ المروزي فِي " الْجَنَائِزِ "، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: تُرْفَعُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى جِبْرِيلَ، فَيُقَالُ: أَنْتَ وَلِيُّ هَذِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَسْنَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ تُجْمَعُ بِبَرَهُوتَ سَبْخَةٍ بِحَضْرَمَوْتَ وَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ تَجْتَمِعُ بِالْجَابِيَةِ. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ كعب قَالَ: جَنَّةُ الْمَأْوَى فِيهَا طَيْرٌ خُضْرٌ تَرْتَقِي فِيهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ فِي طَيْرٍ سُودٍ تَغْدُو عَلَى النَّارِ وَتَرُوحُ، وَإِنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ. وَأَسْنَدَ أبو نعيم فِي " الْحِلْيَةِ "، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ دَارًا يُقَالُ لَهَا الْبَيْضَاءُ تَجْتَمِعُ فِيهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا تَلَقَّتْهُ الْأَرْوَاحُ يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَخْبَارِ الدُّنْيَا كَمَا يَسْأَلُ الْغَائِبُ أَهْلَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ مُرْسَلَةٌ تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَهِيَ هَلْ تَجْتَمِعُ الْأَرْوَاحُ وَيَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَنَعَمْ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أبي أيوب عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِي حَدِيثِ أم بشر عِنْدَهُ وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَفِي أَثَرِ وهب. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي محمد بن عبد الله بن بزيغ، ثَنَا فضيل بن سليمان النميري، ثَنَا يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وَجَدَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَجْدًا شَدِيدًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَزَالُ الْهَالِكُ يَهْلِكُ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَهَلْ تَتَعَارَفُ الْمَوْتَى فَأُرْسِلُ إِلَى بشر بِالسَّلَامِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لَيَتَعَارَفُونَ كَمَا تَتَعَارَفُ الطَّيْرُ فِي رُؤُوسِ الشَّجَرِ. وَكَانَ لَا يَهْلِكُ هَالِكٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ إِلَّا جَاءَتْهُ أم بشر فَقَالَتْ: يَا فُلَانُ عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَيَقُولُ: وَعَلَيْكِ، فَتَقُولُ: اقْرَأْ عَلَى بشر السَّلَامَ» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الحسن، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دراج، عَنْ عيسى بن هلال الصدفي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رُوحَيِ الْمُؤْمِنَيْنِ لَيَلْتَقِيَانِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَمَا رَأَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قَطُّ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْزِلُ بِهِ الْمَوْتُ وَيُعَايِنُ مَا يُعَايِنُ، يَوَدُّ لَوْ خَرَجَتْ نَفْسُهُ، وَاللَّهُ يُحِبُّ لِقَاءَ الْمُؤْمِنِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ تَصْعَدُ رُوحُهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَأْتِيهِ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَسْتَخْبِرُونَهُ عَنْ مَعَارِفِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِذَا قَالَ: تَرَكْتُ فُلَانًا فِي الدُّنْيَا أَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، وَإِذَا قَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَدْ مَاتَ، قَالُوا: مَا جِيءَ بِهِ إِلَيْنَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِأَسَانِيدَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ تَلَقَّتْهُ الْأَرْوَاحُ، فَيَسْتَخْبِرُونَهُ كَمَا يَسْتَخْبِرُ الرَّاكِبُ مَا فَعَلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ. وَعَنِ الحسن قَالَ: إِذَا احْتَضَرَ الْمُؤْمِنُ حَضَرَهُ خَمْسُمِائَةِ مَلَكٍ يَقْبِضُونَ رُوحَهُ، فَيَعْرُجُونَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَتَتَلَقَّاهُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَاضِينَ، فَيُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَخْبِرُوهُ، فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: ارْفُقُوا بِهِ، فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْ كَرْبٍ عَظِيمٍ، فَيَسْأَلُهُ الرَّجُلُ عَنْ أَخِيهِ وَعَنْ صَاحِبِهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ اسْتَقْبَلَهُ وَلَدُهُ كَمَا يُسْتَقْبَلُ الْغَائِبُ. وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا مَاتَ احْتَوَشَهُ أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ الَّذِينَ قَدْ تَقَدَّمُوهُ مِنَ الْمَوْتَى، فَهُوَ أَفْرَحُ بِهِمْ وَهُمْ أَفْرَحُ بِهِ مِنَ الْمُسَافِرِ إِذَا قَدِمَ عَلَى أَهْلِهِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَهِيَ أَنَّ الشَّهِيدَ هَلْ يُسْأَلُ؟ فَجَوَابُهُ: لَا، صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 القرطبي، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: هَلْ يُفْتَنُ الشَّهِيدُ؟ فَقَالَ: كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً.» قَالَ القرطبي: وَمَعْنَاهُ أَنَّ السُّؤَالَ فِي الْقَبْرِ إِنَّمَا جُعِلَ لِامْتِحَانِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَثُبُوتُهُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي إِيمَانِهِ، وَإِلَّا لَفَرَّ إِلَى الْكُفَّارِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَهِيَ أَنَّ الطِّفْلَ هَلْ يُسْأَلُ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْحَنَابِلَةِ حَكَاهُمَا ابن القيم فِي " كِتَابِ الرُّوحِ "، وَقَوْلُ النووي فِي " الرَّوْضَةِ " وَ " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": أَنَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الدَّفْنِ مُخْتَصٌّ بِالْبَالِغِ، وَأَنَّ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ لَا يُلَقَّنُ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: مَاذَا يَقُولُ إِمَامُ الْعَصْرِ مُجْتَهِدْ ... قَدْ فَاقَ سَالِفَهُ فِي الْعُجْمِ وَالْعَرَبْ فِيمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ كَلِمْ ... لِأَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ رُدُّوا إِلَى الْقُلُبْ وَقِيلَ كَلَّمْتَ مَوْتَى لَا سَمَاعَ لَهُمْ ... فَقَالَ لَسْتُمْ بِأَسْمَعَ جَاءَ فِي الْكُتُبْ وَقَالَ لَا تَسْمَعُ الْمَوْتَى الْإِلَهَ وَذَا ... مُعَارِضٌ لِلَّذِي قُلْنَاهُ فِي الرُّتَبْ لَا زِلْتَ تُرْشِدُ عَبْدًا ظَلَّ فِي حَلَكْ ... بِوَاضِحِ الْفَرْقِ جَالِي الشَّكِّ وَالرِّيَبْ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا دَائِمَ الْحِقَبْ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَبْعُوثِ خَيْرِ نَبِي سَمَاعُ مَوْتَى كَلَامِ الْخَلْقِ مُعْتَقَدْ ... جَاءَتْ بِهِ عِنْدَنَا الْآثَارُ فِي الْكُتُبْ وَآيَةُ النَّفْيِ مَعْنَاهَا سَمَاعُ هُدًى ... لَا يَقْبَلُونَ وَلَا يُصْغُونَ لِلْأَدَبْ فَالنَّفْيُ جَاءَ عَلَى مَعْنَى الْمَجَازِ فَخُذْ ... وَاجْمَعْ بِهِ بَيْنَ ذَا مَعَ هَذِهِ تُصِبْ مَسْأَلَةٌ: سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي الْقَبْرِ هَلْ هُوَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، أَوْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ أَحَدٌ؟ وَهَلْ يُسْأَلُ الْأَطْفَالُ وَالسَّقْطُ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ عَامًّا لِلْخَلْقِ بَلْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ الشَّهِيدُ، فَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُفْتَنُ الشَّهِيدُ فِي قَبْرِهِ؟ فَقَالَ: كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً.» قَالَ القرطبي فِي " التَّذْكِرَةِ " نَقْلًا عَنِ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ نِفَاقٌ فَرَّ عِنْدَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ وَبَرِيقِ السُّيُوفِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِ الْفِرَارَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَشَأْنِ الْمُؤْمِنِ الْبَذْلَ وَالتَّسْلِيمَ لِلَّهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 فَلَمَّا ظَهَرَ صِدْقُ ضَمِيرِهِ حَيْثُ بَرَزَ لِلْحَرْبِ وَالْقَتْلِ، لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ الْمَوْضُوعُ لِامْتِحَانِ الْمُسْلِمِ الْخَالِصِ مِنَ الْمُنَافِقِ، قَالَ القرطبي: وَإِذَا كَانَ الشَّهِيدُ لَا يُفْتَنُ فَالصِّدِّيقُ مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَجَلُّ قَدْرًا. وَمِمَّنْ يُسْتَثْنَى الْمُرَابِطُ فَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَحَادِيثُ. وَالْمَطْعُونُ وَالصَّابِرُ فِي بَلَدِ الطَّعْنِ مُحْتَسِبًا وَمَاتَ بِغَيْرِ الطَّاعُونِ - صَرَّحَ بِهِ الحافظ ابن حجر فِي كِتَابِ بَذْلِ الْمَاعُونِ، وَالْأَطْفَالُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. [الِاحْتِفَالُ بِالْأَطْفَالِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: اخْتُلِفَ فِي الْأَطْفَالِ، هَلْ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ أَوْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ شَهِيرَيْنِ حَكَاهُمَا ابن القيم فِي " كِتَابِ الرُّوحِ " عَنْ أَصْحَابِهِ الْحَنَابِلَةِ وَرَأَيْتُهُمَا أَيْضًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَلِلْمَالِكِيَّةِ، وَيَخْرُجَانِ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَا يُسْأَلُونَ، وَبِهِ جَزَمَ النسفي مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابن الصلاح، والنووي، وابن الرفعة، والسبكي، وَصَرَّحَ بِهِ الزركشي، وَأَفْتَى بِهِ الحافظ ابن حجر. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ، رُوِّينَاهُ عَنِ الضحاك مِنَ التَّابِعِينَ، وَجَزَمَ بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ البزازي، والبيكساري، والشيخ أكمل الدين، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ فَوْرَكٍ، والمتولي، وابن يونس مِنْ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ سعد الدين التفتازاني، عَنْ أبي شجاع، وَجَزَمَ بِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ القرطبي فِي " التَّذْكِرَةِ "، والفاكهاني، وابن ناجي، والأقفهسي، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ " الْمِصْبَاحِ " فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. ذِكْرُ نُقُولِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَالَ النسفي فِي بَحْرِ الْكَلَامِ: الْأَنْبِيَاءُ وَأَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ حِسَابٌ، وَلَا عَذَابُ الْقَبْرِ، وَلَا سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ. وَقَالَ النووي فِي " الرَّوْضَةِ " مِنْ زَوَائِدِهِ، وَفِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ الْمُكَلَّفِ، أَمَّا الصَّبِيُّ وَنَحْوُهُ فَلَا يُلَقَّنُ، قَالَ الزركشي فِي " الْخَادِمِ ": هَذَا تَابَعَ فِيهِ ابن الصلاح، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا أَصْلَ لِتَلْقِينِهِ - يَعْنِي لِأَنَّهُ لَا يُفْتَنُ فِي قَبْرِهِ - وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي " الْخَادِمِ ": مَا قَالَهُ ابن الصلاح والنووي مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ. انْتَهَى. وَقَدْ تَابَعَهُمَا عَلَى ذَلِكَ ابن الرفعة فِي " الْكِفَايَةِ "، والسبكي فِي " شَرْحِ الْمِنْهَاجِ "، وَسُئِلَ الحافظ ابن حجر عَنِ الْأَطْفَالِ هَلْ يُسْأَلُونَ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ اخْتِصَاصُ السُّؤَالِ بِمَنْ يَكُونُ مُكَلَّفًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 ذِكْرُ نُقُولِ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ جويبر قَالَ: مَاتَ ابْنٌ لِلضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ ابْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ: إِذَا وَضَعْتَ ابْنِي فِي لَحْدِهِ فَأَبْرِزْ وَجْهَهُ، وَحُلَّ عُقَدَهُ، فَإِنَّ ابْنِي مُجْلَسٌ وَمَسْئُولٌ، فَقُلْتُ: عَمَّ يُسْأَلُ؟ قَالَ: عَنِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي صُلْبِ آدَمَ. وَقَالَ البزازي مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي فَتَاوِيهِ: السُّؤَالُ لِكُلِّ ذِي رُوحٍ حَتَّى الصَّبِيُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُلْهِمُهُ، وَقَالَ الزركشي فِي " الْخَادِمِ ": قَدْ صَرَّحَ ابن يونس فِي " شَرْحِ التَّعْجِيزِ " بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَلْقِينُ الطِّفْلِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَّنَ ابْنَهُ إبراهيم» ، قَالَ: وَهَذَا احْتَجَّ بِهِ المتولي فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ السبكي فِي " شَرْحِ الْمِنْهَاجِ ": إِنَّمَا يُلَقَّنُ الْمَيِّتُ الْمُكَلَّفُ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا يُلَقَّنُ. وَقَالَ فِي " التَّتِمَّةِ ": إِنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَحَدَ ابْنَهُ إبراهيم لَقَّنَهُ» ، وَهَذَا غَرِيبٌ، انْتَهَى. وَعِبَارَةُ " التَّتِمَّةِ " الْأَصْلُ فِي التَّلْقِينِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَفَنَ إبراهيم قَالَ: قُلِ اللَّهُ رَبِّي، وَرَسُولِي أَبِي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ تُلَقِّنُهُ فَمَنْ يُلَقِّنُنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] » انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ سعد الدين فِي " شَرْحِ الْعَقَائِدِ ": قَالَ أبو شجاع: إِنَّ لِلصِّبْيَانِ سُؤَالًا. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمِصْبَاحِ ": الْأَصَحُّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُسْأَلُونَ، وَتُسْأَلُ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ. وَتَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي سُؤَالِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ القرطبي فِي " التَّذْكِرَةِ ": فَإِنْ قَالُوا: مَا حُكْمُ الصِّغَارِ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: هُمْ كَالْبَالِغِينَ، وَإِنَّ الْعَقْلَ يُكَمَّلُ لَهُمْ لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ مَنْزِلَتَهُمْ وَسَعَادَتَهُمْ، وَيُلْهَمُونَ الْجَوَابَ عَمَّا يُسْأَلُونَ عَنْهُ. هَذَا مَا تَقْتَضِيهِ ظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الْقَبْرَ يَنْضَمُّ عَلَيْهِمْ كَمَا يَنْضَمُّ عَلَى الْكِبَارِ. وَقَدْ رَوَى هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْمَنْفُوسِ مَا عَمِلَ خَطِيئَةً قَطُّ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، انْتَهَى. وَالْأَوَّلُونَ قَالُوا: إِنَّمَا يَكُونُ السُّؤَالُ لِمَنْ عَقَلَ الرَّسُولَ وَالْمُرْسَلَ، فَيُسْأَلُ: هَلْ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَطَاعَهُ أَمْ لَا؟ قَالُوا: وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ فِيهِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ عُقُوبَتَهُ وَلَا السُّؤَالَ، بَلْ مُجَرَّدُ الْأَلَمِ بِالْغَمِّ، وَالْهَمِّ، وَالْحَسْرَةِ، وَالْوَحْشَةِ، وَالضَّغْطَةِ الَّتِي تَعُمُّ الْأَطْفَالَ وَغَيْرَهُمْ، وَقَدْ يُسْتَشْهَدُ لِأَصْحَابِ الْقَوْلِ الثَّانِي بِمَا أَخْرَجَهُ ابن شاهين فِي " السُّنَّةِ " قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن سليمان قَالَ: ثَنَا عمرو بن عثمان قَالَ: ثَنَا بقية قَالَ: حَدَّثَنِي صفوان قَالَ: حَدَّثَنِي راشد قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَعَلَّمُوا حُجَّتَكُمْ، فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ» ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَيْتِ مِنَ الْأَنْصَارِ يَحْضُرُ الرَّجُلَ مِنْهُمُ الْمَوْتُ فَيُوصُونَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وَالْغُلَامُ إِذَا عَقَلَ فَيَقُولُونَ لَهُ: إِذَا سَأَلُوكَ مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلِ: اللَّهُ رَبِّي، وَمَا دِينُكَ؟ فَقُلِ: الْإِسْلَامُ دِينِي، وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَقُلْ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا رَجَّحْتُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي كِتَابِ " شَرْحِ الصُّدُورِ "، وَغَيْرِهِ تَبَعًا لِأَهْلِ مَذْهَبِنَا، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ عليه، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ " لأبي زيد عبد الرحمن الجزولي مَا نَصُّهُ: يَظْهَرُ مِنْ أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مُكَلَّفِينَ أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الْمُكَلَّفِينَ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أبي محمد هُنَا وَمِمَّا يَأْتِي أَنَّهُ أَرَادَ الْمُكَلَّفِينَ وَغَيْرَ الْمُكَلَّفِينَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَا يَأْتِي: إِنَّهُ أَرَادَ الْمُكَلَّفِينَ وَعَافَهُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَلِلشُّيُوخِ هُنَا تَأْوِيلَانِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ فَقَالَ: يُرِيدُ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَكِنْ يُنَاقِضُهُ مَا قَالَ فِي الْجَنَائِزِ، انْتَهَى. وَقَالَ يوسف بن عمر فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: " «وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ» " غَيْرَ الْمُجَاهِدِينَ الشَّهِيدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرَ الصِّبْيَانِ عَلَى قَوْلٍ. وَقَالَ الشيخ أكمل الدين فِي " الْإِرْشَادِ ": السُّؤَالُ لِكُلِّ مَيِّتٍ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ يُسْأَلُ إِذَا غَابَ عَنِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِذَا مَاتَ فِي الْبَحْرِ أَوْ أَكَلَهُ السَّبْعُ فَهُوَ مَسْئُولٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يُسْأَلُونَ. ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي تَلْقِينِ إبراهيم أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكٍ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ " النِّظَامِيِّ فِي أُصُولِ الدِّينِ " مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى أَصْلِ السُّؤَالِ، وَعِبَارَتُهُ: اعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ فِي الْقَبْرِ حَقٌّ، وَأَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمُ الْوَاهِي، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ مَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا دَفَنَ وَلَدَهُ إبراهيم وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، الْقَلْبُ يَحْزَنُ، وَالْعَيْنُ تَدْمَعُ، وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، يَا بُنَيَّ قُلِ اللَّهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَرَسُولُ اللَّهِ أَبِي، فَبَكَتِ الصَّحَابَةُ، وَبَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بُكَاءً ارْتَفَعَ لَهُ صَوْتُهُ، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى عمر يَبْكِي وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ، فَقَالَ: يَا عمر، مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا وَلَدُكَ، وَمَا بَلَغَ الْحُلُمَ، وَلَا جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مُلَقِّنٍ مِثْلِكَ يُلَقِّنُهُ التَّوْحِيدَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ! فَمَا حَالُ عمر وَقَدْ بَلَغَ الْحُلُمَ وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ، وَلَيْسَ لَهُ مُلَقِّنٌ مِثْلُكَ، أَيُّ شَيْءٍ تَكُونُ صُورَتُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ؟ فَبَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَكَتِ الصَّحَابَةُ مَعَهُ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهِمْ، فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ عمر، وَمَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَصَعِدَ جِبْرِيلُ وَنَزَلَ وَقَالَ: رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] يُرِيدُ بِذَلِكَ وَقْتَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ، فَتَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ الْآيَةَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 فَطَابَتِ الْأَنْفُسُ، وَسَكَنَتِ الْقُلُوبُ، وَشَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى. » وَمِنَ النُّقُولِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقَوْلِ الثَّانِي قَالَ شمس الدين البيكساري فِي " شَرْحِ عُمْدَةِ النَّسَفِيِّ ": السُّؤَالُ لِكُلِّ مَيِّتٍ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ تَوَقَّفَ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّهُمْ هَلْ يُسْأَلُونَ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَمْ لَا؟ وَعِنْدَ غَيْرِهِ يُسْأَلُونَ. وَذَكَرَ الفاكهاني فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ " كَلَامَ القرطبي فِي أَنَّ الصِّغَارَ يُسْأَلُونَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَلَيْسَ فِي إِحْيَاءِ الْأَطْفَالِ خَبَرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَالْعَقْلُ يُجَوِّزُهُ، وَقَالَ الجمال الأقفهسي فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": ظَاهِرُ قَوْلِ الرِّسَالَةِ: وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَيُسْأَلُونَ إِنْ كَانَ الْمُكَلَّفُ وَغَيْرُهُ يُسْأَلُ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ أبو القاسم بن عيسى بن ناجي فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ الصَّبِيَّ يُفْتَنُ، وَهُوَ كَذَلِكَ قَالَهُ القرطبي فِي تَذْكِرَتِهِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ الدُّعَاءِ لِلطِّفْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ: هَذَا كَالنَّصِّ فِي أَنَّ الصَّغِيرَ يَسْأَلُهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ. [طُلُوعُ الثُّرَيَّا بِإِظْهَارِ مَا كَانَ خَفِيًّا] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. مَسْأَلَةٌ: فِتْنَةُ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهِمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، أَوْرَدَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي كُتُبِهِمْ، فَأَخْرَجَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي " كِتَابٍ الزُّهْدِ "، والحافظ أبو الأصبهاني فِي كِتَابِ " الْحِلْيَةِ " بِالْإِسْنَادِ إِلَى طَاوُسٍ أَحَدِ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ، وَأَخْرَجَهَا ابْنُ جُرَيْجٍ فِي مُصَنَّفِهِ بِالْإِسْنَادِ إِلَى عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ طَاوُسٍ فِي التَّابِعِينَ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ صَحَابِيٌّ، وَعَزَاهَا الحافظ زين الدين بن رجب فِي كِتَابِ " أَهْوَالِ الْقُبُورِ " إِلَى مُجَاهِدٍ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَحُكْمُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ حُكْمُ الْمَرَاسِيلِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ زِيَادَةُ أَنَّ الْمُنَافِقَ يُفْتَنُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ "، والإمام أبو علي الحسين بن رشيق المالكي فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ "، وَحَكَاهُ الإمام أبو زيد عبد الرحمن الجزولي مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي " الشَّرْحِ الْكَبِيرِ " عَلَى رِسَالَةِ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ، والإمام أبو القاسم بن عيسى بن ناجي مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ " أَيْضًا وَأَوْرَدَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى، والشيخ كمال الدين الدميري مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي " حَيَاةِ الْحَيَوَانِ "، وَحَافِظُ الْعَصْرِ أبو الفضل بن حجر فِي الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ. ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الْمُسْنَدَةَ عَنْ طَاوُسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي " كِتَابِ الزُّهْدِ " لَهُ: حَدَّثَنَا هاشم بن القاسم قَالَ: ثَنَا L-1 الأشجعي، عَنْ سفيان قَالَ: قَالَ طَاوُسٌ: إِنَّ الْمَوْتَى يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ سَبْعًا، فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُمْ تِلْكَ الْأَيَّامَ. قَالَ الحافظ أبو نعيم فِي " الْحِلْيَةِ ": حَدَّثَنَا أبو بكر بن مالك، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا هاشم، ثَنَا L-1 الأشجعي، عَنْ سفيان قَالَ: قَالَ طَاوُسٌ: إِنَّ الْمَوْتَى يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ سَبْعًا، فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُمْ تِلْكَ الْأَيَّامَ. ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الْمُسْنَدَةَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنِ الحارث بن أبي الحارث، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: يُفْتَنُ رَجُلَانِ مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُفْتَنُ سَبْعًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيُفْتَنُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: رِجَالُ الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وطاوس مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، قَالَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ: هُوَ أَوَّلُ الطَّبَقَةِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَرَوَى أبو نعيم عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ خَمْسِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ شَيْخًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابن سعد: كَانَ لَهُ يَوْمَ مَاتَ بِضْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً. وسفيان هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَدْ أَدْرَكَ طَاوُسًا، فَإِنَّ وَفَاةَ طَاوُسٍ سَنَةَ بِضْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَمَوْلِدُ سفيان سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ رِوَايَتِهِ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ. L-1 والأشجعي اسْمُهُ عبيد الله بن عبيد الرحمن، وَيُقَالُ: ابْنُ عبد الرحمن. وَأَمَّا الْإِسْنَادُ الثَّانِي فعبيد بن عمير، هو الليثي قَاصُّ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ ": إِنَّهُ وُلِدَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ صَحَابِيًّا، وَكَانَ يَقُصُّ بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَصَّ بِهَا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ وَفَاةِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَمَّا الحارث فهو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن أبي ذياب الدوسي، رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ والدراوردي وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا ابْنُ جُرَيْجٍ فَهُوَ الْإِمَامُ عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ الْكُتُبَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: سَمِعْتُ ابْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 جُرَيْجٍ يَقُولُ: مَا دَوَّنَ الْعِلْمَ تَدْوِينِي أَحَدٌ. رَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُقَرَّرُ فِي فَنِّ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ أَنَّ مَا رُوِيَ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ كَأُمُورِ الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ حُكْمَهُ الرَّفْعُ لَا الْوَقْفُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحِ الرَّاوِي بِنِسْبَتِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ العراقي فِي الْأَلْفِيَّةِ: وَمَا أَتَى عَنْ صَاحِبٍ بِحَيْثُ لَا ... يُقَالُ رَأْيًا حُكْمُهُ الرَّفْعُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْمَحْصُولِ نَحْوَ مَنْ أَتَى ... فَالْحَاكِمُ الرَّفْعُ لِهَذَا أُثْبِتَا وَقَالَ فِي شَرْحِهَا: مَا جَاءَ مِنْ صَحَابِيٍّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ الرَّأْيُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، كَمَا قَالَ الإمام فخر الدين فِي " الْمَحْصُولِ " فَقَالَ: إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَوْلًا لَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالٌ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، «كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ أَتَى سَاحِرًا أَوْ عَرَّافًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، تَرْجَمَ عَلَيْهِ الحاكم فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ: مَعْرِفَةُ الْمَسَانِيدِ الَّتِي لَا يُذْكَرُ سَنَدُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَمِثَالُ ذَلِكَ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ هَذَا أَحَدُهَا، وَمَا قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَدْخَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ " التَّقَصِّي " عِدَّةَ أَحَادِيثَ ذَكَرَهَا مالك فِي " الْمُوَطَّأِ " مَوْقُوفَةً مَعَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْكِتَابِ لِمَا فِي " الْمُوَطَّأِ " مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، مِنْهَا حَدِيثُ سهل بن أبي حثمة فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَقَالَ فِي " التَّمْهِيدِ ": هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ عَلَى سهل فِي " الْمُوَطَّأِ " عِنْدَ جَمَاعَةِ الرُّوَاةِ عَنْ مالك. قَالَ: وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ. انْتَهَى كَلَامُ العراقي فِي " شَرْحِ الْأَلْفِيَّةِ ". وَقَالَ الحافظ أبو الفضل بن حجر فِي " شَرْحِ النُّخْبَةِ ": مِثَالُ الْمَرْفُوعِ مِنَ الْقَوْلِ حُكْمًا مَا يَقُولُهُ الصَّحَابِيُّ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِبَيَانِ لُغَةٍ أَوْ شَرْحِ غَرِيبٍ، كَالْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوِ الْآتِيَةِ كَالْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ وَأَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَذَا الْإِخْبَارُ عَمَّا يَحْصُلُ بِفِعْلِهِ ثَوَابٌ مَخْصُوصٌ أَوْ عِقَابٌ مَخْصُوصٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ إِخْبَارَهُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي مُخْبِرًا لَهُ، وَمَا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ يَقْتَضِي مُوقِفًا لِلْقَائِلِ بِهِ، وَلَا مُوقِفَ لِلصَّحَابَةِ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ حُكْمُ مَا لَوْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ مَرْفُوعٌ، مِثَالُ الْمَرْفُوعِ مِنَ الْفِعْلِ حُكْمًا أَنْ يَفْعَلَ الصَّحَابِيُّ مَا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، فَيُنَزَّلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 اللَّهُ عَنْهُ فِي صَلَاةِ علي فِي الْكُسُوفِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَكْثَرَ مِنْ رُكُوعَيْنِ. انْتَهَى كَلَامُ شَارِحِ النُّخْبَةِ. وَقَالَ الحافظ ابن حجر فِي نُكَتِهِ عَلَى ابن الصلاح: مَا قَالَهُ الصَّحَابِيُّ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ، كَالْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَنِ الْأُمُورِ الْآتِيَةِ كَالْمَلَاحِمِ، وَالْفِتَنِ، وَالْبَعْثِ، وَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ عَمَلٍ يَحْصُلُ بِهِ ثَوَابٌ مَخْصُوصٌ أَوْ عِقَابٌ مَخْصُوصٌ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهَا فَيُحْكَمُ لَهَا بِالرَّفْعِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي: قَدْ يَحْكِي الصَّحَابِيُّ قَوْلًا يُوقِفُهُ، فَيُخْرِجُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الْمُسْنَدِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيُّ مَا قَالَهُ إِلَّا بِتَوَقُّفٍ، كَمَا رَوَى أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ، لَا يَجِدْنَ عَرْفَ الْجَنَّةِ» الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَيَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْنَدِ. قَالَ الحافظ ابن حجر: وَهَذَا هُوَ مُعْتَمَدُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ كَصَاحِبَيِ الصَّحِيحِ، وَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ، وأبي بكر بن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ الْمُسْنَدِ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي آخَرِينَ، قَالَ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ مُسْنَدٌ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الحاكم فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَالْإِمَامُ فخر الدين فِي الْمَحْصُولِ انْتَهَى. وَعِبَارَةُ الْمَحْصُولِ: إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَوْلًا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ حُمِلَ عَلَى السَّمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا طَرِيقَ إِلَّا السَّمَاعُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، انْتَهَى. وَقَالَ الحافظ أبو الفضل العراقي فِي " شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ": مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ،» هُوَ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ، فَمِنَ الْأَئِمَّةِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ، وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَأَدْخَلَ فِي " كِتَابِ التَّقَصِّي " أَحَادِيثَ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، مَعَ أَنَّ مَوْضُوعَ كِتَابِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ سهل بن أبي حثمة فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَقَالَ فِي " التَّمْهِيدِ ": هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ عَلَى سهل فِي " الْمُوَطَّأِ " عِنْدَ جَمَاعَةِ الرُّوَاةِ عَنْ مالك، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ فِي عُلُومِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 الْحَدِيثِ، فَقَالَ فِي النَّوْعِ السَّادِسِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ: مَعْرِفَةُ الْمَسَانِيدِ الَّتِي لَا يُذْكَرُ سَنَدُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَوَى فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كُنَّا نَتَمَضْمَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَلَا نَتَوَضَّأُ مِنْهُ» . وَقَوْلَ أَنَسٍ: «كَانَ يُقَالُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ: كُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ يَوْمٍ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ عَشَرَةُ آلَافِ يَوْمٍ» ، قَالَ: يَعْنِي فِي الْفَضْلِ. وَقَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «مَنْ أَتَى سَاحِرًا أَوْ عَرَّافًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . قَالَ: فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ إِذَا قَالَهُ الصَّحَابِيُّ فَهُوَ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُخَرَّجٌ فِي الْمَسَانِيدِ. وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ الإمام فخر الدين الرازي، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ " الْمَحْصُولِ ": إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَوْلًا لَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالٌ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَقِبَ ذِكْرِهِ لِقَوْلِ عمر: وَمِثْلُ هَذَا إِذَا قَالَهُ عمر لَا يَكُونُ إِلَّا تَوْقِيفًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِنَظَرٍ، انْتَهَى. هَذَا كُلُّهُ إِذَا صَدَرَ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابِيِّ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا مُتَّصِلًا، فَإِنْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنَ التَّابِعِيِّ فَهُوَ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ، كَمَا ذَكَرَ ابن الصلاح ذَلِكَ فِي نَظِيرِ الْمَسْأَلَةِ، وَصَرَّحَ الْبَيْهَقِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِسَنَدِهِ عَنْ أبي قلابة قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ قَصْرٌ لِصُوَّامِ رَجَبٍ» ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أبي قلابة، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، فَمِثْلُهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ بَلَاغٍ مِمَّنْ فَوْقَهُ عَمَّنْ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " بِسَنَدِهِ عَنْ أبي قلابة قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَمَنْ قَرَأَ الْكَهْفَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ حُفِظَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَإِنْ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَجَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَنْ قَرَأَ يس غُفِرَ لَهُ، وَمَنْ قَرَأَهَا وَهُوَ جَائِعٌ شَبِعَ، وَمَنْ قَرَأَهَا وَهُوَ ضَالٌّ هُدِيَ، وَمَنْ قَرَأَهَا وَلَهُ ضَالَّةٌ وَجَدَهَا، وَمَنْ قَرَأَهَا عِنْدَ طَعَامٍ خَافَ قِلَّتَهُ كَفَاهُ، وَمَنْ قَرَأَهَا عِنْدَ مَيِّتٍ هُوِّنَ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَهَا عِنْدَ وَالِدَةٍ عَسُرَ عَلَيْهَا وَلَدُهَا يُسِّرَ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، وَلِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبٌ، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس.» ثُمَّ قَالَ عقبه: هَكَذَا نُقِلَ إِلَيْنَا عَنْ أبي قلابة، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَلَا نَقُولُ ذَلِكَ إِنْ صَحَّ عَنْهُ إِلَّا بَلَاغًا. وَرَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ يحيى بن سعيد أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُصَلِّيَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ وَمَا فَاتَهُ وَقْتُهَا، وَلَمَا فَاتَهُ مِنْ وَقْتِهَا أَعْظَمُ أَوْ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ» . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ؛ إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ رَأْيًا، ويحيى بن سعيد مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَرَوَى مالك فِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 «مَنْ صَلَّى بِأَرْضِ فَلَاةٍ صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ، فَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى وَرَاءَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ» . قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ. وَهَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ السبكي فِي " الْحَلَبِيَّاتِ " عَلَى حُصُولِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ بِذَلِكَ، وَرَوَى عبد الرزاق عَنْ عكرمة قَالَ: «صُفُوفُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى صُفُوفِ أَهْلِ السَّمَاءِ، فَإِذَا وَافَقَ آمِينَ فِي الْأَرْضِ آمِينَ فِي السَّمَاءِ غُفِرَ لِلْعَبْدِ» - أَوْرَدَهُ الحافظ ابن حجر فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ " فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ» " وَقَالَ: مِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَوْلَى، وعكرمة تَابِعِيٌّ، وَهَذَا الْأَثَرُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَرْزَخِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ وَالْبَلَاغِ عَمَّنْ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وطاوس، وَهُمَا مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْمُرْسَلِ، وَإِنْ ثَبَتَتْ صُحْبَةُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " فِي شَرْحِ حَدِيثِ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَسُؤَالِهِ: أَحْكَامُ الْآخِرَةِ لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْقِيَاسِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَلَا لِلنَّظَرِ وَالِاحْتِجَاجِ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَقَالَ القرطبي فِي " التَّذْكِرَةِ ": هَذَا الْبَابُ لَيْسَ فِيهِ مُدْخَلٌ لِلْقِيَاسِ، وَلَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ لِقَوْلِ الصَّادِقِ الْمُرْسَلِ إِلَى الْعِبَادِ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ التَّابِعِينَ تُحْمَلُ عَلَى الرَّفْعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِسَنَدِهِ، عَنْ أبي جعفر محمد بن علي قَالَ: كَانَ علي بن حسين يَذْكُرُ «أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا احْتُمِلَ إِلَى قَبْرِهِ نَادَى حَمَلَتَهُ إِذَا بُشِّرَ بِالنَّارِ فَيَقُولُ: يَا إِخْوَتَاهُ، مَا عَلِمْتُمْ مَا عَايَنْتُ بَعْدَكُمْ، إِنْ أَخَاكُمْ بُشِّرَ بِالنَّارِ، فَيَا حَسْرَتَاهُ عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، أَنْشُدُ بِاللَّهِ كُلَّ وَلَدٍ أَوْ جَارٍ أَوْ صَدِيقٍ أَوْ أَخٍ إِلَّا احْتَبَسَنِي عَنْ قَبْرِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ صَاحِبِكُمْ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا أَنْ تُوَارُوهُ فِي التُّرَابِ، وَالْمَلَائِكَةُ يُنَادُونَ: امْضِ عَدُوَّ اللَّهِ، فَإِذَا دَنَا مِنْ حُفْرَتِهِ يَقُولُ: مَا لِي مِنْ شَفِيعٍ مُطَاعٍ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِذَا أُدْخِلَ الْقَبْرَ ضُرِبَ ضَرْبَةً تَذْعَرُ لَهَا كُلُّ دَابَّةٍ غَيْرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَأَمَّا وَلِيُّ اللَّهِ إِذَا احْتُمِلَ إِلَى قَبْرِهِ وَبُشِّرَ بِالْجَنَّةِ نَادَى حَمَلَتَهُ: يَا إِخْوَتَاهُ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنِّي بُشِّرْتُ بَعْدَكُمْ بِالرِّضَا مِنَ اللَّهِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَالنَّارِ، فَعَجِّلُوا بِي إِلَى حُفْرَتِي فَ {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ - بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 - 27] ، وَالْمَلَائِكَةُ يُنَادُونَ: امْضِ وَلِيَّ اللَّهِ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يُثِيبُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ الْعَظِيمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 الْجَزِيلَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا غُدْوَةً أَوْ رَوْحَةً إِلَى الْجَنَّةِ، فَإِذَا أُدْخِلَ الْقَبْرَ تُلُقِّيَ بِحُزْمَةٍ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ، يَجِدُ رِيحَهَا كُلُّ ذِي رِيحٍ غَيْرَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.» قَالَ أبو جعفر: كَانَ علي بن حسين إِذَا ذَكَرَ أَشْبَاهَ هَذَا الْحَدِيثِ بَكَى ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي لَأَخَافُ اللَّهَ أَنْ أَكْتُمَهُ، وَلَئِنْ أَظْهَرْتُهُ لَيَدْخُلَنَّ عَلَيَّ أَذًى مِنَ الْفَسَقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ علي بن حسين ذَكَرَ حَدِيثَ الَّذِي يُنَادِي حَمَلَتَهُ، فَقَالَ ضمرة بن معبد - رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ - وَاللَّهِ يَا علي بن حسين لَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ يَفْعَلُ كَمَا زَعَمْتَ بِمُنَاشَدَتِكَ حَمَلَتَهُ إِذًا لَوَثَبَ عَنْ أَيْدِي الرَّجُلِ مِنْ سَرِيرِهِ، فَضَحِكَ أُنَاسٌ مِنَ الْفَسَقَةِ، وَغَضِبَ علي بن حسين وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ ضمرة كَذَّبَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُكَ، فَخُذْهُ أَخْذَ أَسِفٍ، فَمَا لَبِثَ ضمرة إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى مَاتَ فَجْأَةً. قَالَ أبو جعفر: فَأَشْهَدُ عَلَى مسلم بن شعيب مَوْلَاهُ - وَكَانَ مَا عَلِمْنَاهُ خِيَارًا - أَنَّهُ أَتَى علي بن حسين لَيْلًا فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ ضمرة أَعْرِفُهُ كَمَا كُنْتُ أَعْرِفُ صَوْتَهُ حَيًّا وَهُوَ يُنَادِي فِي قَبْرِهِ: وَيْلٌ طَوِيلٌ لضمرة إِلَّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْكَ كُلُّ خَلِيلٍ، وَحَلَلْتَ فِي نَارِ الْجَحِيمِ فِيهَا مَبِيتُكَ وَالْمَقِيلُ، فَقَالَ علي بن حسين: نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، هَذَا جَزَاءُ مَنْ ضَحِكَ وَأَضْحَكَ النَّاسَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْظُرْ كَيْفَ ذَكَرَ علي بن حسين الْحَدِيثَ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِعَزْوِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اتِّكَالًا عَلَى عِلْمِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَإِنَّمَا مُعْتَمَدُهُ التَّوْقِيفُ وَالسَّمَاعُ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحُكْمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا بِالرَّفْعِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَثَرَ طَاوُسٍ حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْمُرْسَلِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى التَّابِعِيِّ صَحِيحٌ، كَانَ حُجَّةً عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وأحمد مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَأَمَّا عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ إِذَا اعْتَضَدَ بِأَحَدِ أُمُورٍ مُقَرَّرَةٍ فِي مَحَلِّهَا، مِنْهَا مَجِيءُ آخَرَ أَوْ صَحَابِيٍّ يُوَافِقُهُ، وَالِاعْتِضَادُ هَاهُنَا مَوْجُودٌ، فَإِنَّهُ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهُمَا تَابِعِيَّانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عبيد صَحَابِيًّا، فَهَذَانِ مُرْسَلَانِ آخَرَانِ يُعَضِّدَانِ الْمُرْسَلَ الْأَوَّلَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِهِ: حَدَّثَنَا أبو بكر، عَنْ علي بن عبد الله قَالَ: قَالَ يحيى بن سعيد: مُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلَاتِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ بِكَثِيرٍ، كَانَ عطاء يَأْخُذُ عَنْ كُلِّ ضَرْبٍ، قَالَ علي: قُلْتُ ليحيى: مُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ مُرْسَلَاتُ طَاوُسٍ؟ قَالَ: مَا أَقْرَبَهُمَا. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِثُبُوتِ الصُّحْبَةِ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَكُونُ مَرْفُوعًا مُتَّصِلًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَثَرُ طَاوُسٍ شَاهِدٌ قَوِيٌّ لَهُ يُرَقِّيهِ إِلَى مَرْتَبَةِ الصِّحَّةِ، وَقَدِ احْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَثَرِ عُبَيْدِ بْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 عُمَيْرٍ هَذَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ اخْتِصَاصِ السُّؤَالِ بِالْمُنَافِقِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ الصَّرِيحَ لَا يُسْأَلُ، وَلَوْلَا ثُبُوتُهُ عِنْدَهُ وَصِحَّتُهُ مَا احْتَجَّ بِهِ. وَقَدْ قَالَ النووي فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ ": الْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ إِذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مُتَّصِلًا تَبَيَّنَّا بِهِ صِحَّةَ الْمُرْسَلِ، وَجَازَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَيَصِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ، مِنْ بَابِ قَوْلِ التَّابِعِيِّ كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَفِيهِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْمَرْفُوعِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْلَمُ بِهِ وَيُقِرُّ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعَزْوِ إِلَى الصَّحَابَةِ دُونَ انْتِهَائِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اخْتُلِفَ عَلَى هَذَا هَلْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونَ نَقْلًا لِلْإِجْمَاعِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، أَصَحُّهُمَا فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " للنووي. الثَّانِي: قَالَ شمس الدين البرشنسي فِي شَرْحِ أَلْفِيَّتِهِ الْمُسَمَّاةِ بِ " الْمَوْرِدِ الْأَصْفَى فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ ": قَوْلُ التَّابِعِيِّ كَانُوا يَفْعَلُونَ يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الْبَعْضِ، وَقِيلَ: يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوِ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ، أَوْ فَعَلُوا كُلُّهُمْ عَلَى وَجْهٍ ظَهَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، انْتَهَى. وَقَالَ الرافعي فِي " شَرْحِ الْمُسْنَدِ ": مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَقَوْلُ طَاوُسٍ: " فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ " إِنْ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ - كَمَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ - كَانَ ذَلِكَ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ، وَيَكُونُ الْحَدِيثُ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَصْلٌ اعْتِقَادِيٌّ، وَهُوَ فِتْنَةُ الْمَوْتَى سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَالثَّانِي حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَرْعِيٌّ، وَهُوَ اسْتِحْبَابُ التَّصَدُّقِ وَالْإِطْعَامِ عَلَيْهِمْ مُدَّةَ تِلْكَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ، كَمَا اسْتُحِبَّ سُؤَالُ التَّثْبِيتِ بَعْدَ الدَّفْنِ سَاعَةً، وَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ مُرْسَلَ الْإِسْنَادِ؛ لِإِطْلَاقِ التَّابِعِيِّ لَهُ وَعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ الصَّحَابِيَّ الَّذِي بَلَّغَهُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَ مَنْ يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ مَنْ يَقْبَلُهُ بِشَرْطِ الِاعْتِضَادِ لِمَجِيئِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَحِينَئِذٍ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْمُرْسَلِ، وَإِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْإِجْمَاعِ كَمَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، فَهُوَ مُتَّصِلٌ؛ لِأَنَّ طَاوُسًا أَدْرَكَ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَأَخْبَرَ عَنْ بَقِيَّةِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ مِنْهُمْ بِالْبَلَاغِ عَنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَقَطْ كَمَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ - وَهُوَ الْأَصَحُّ - كَانَ مُتَّصِلًا عَنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ، وَحِينَئِذٍ فَالْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مُتَّصِلٌ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِمَّا مُرْسَلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ، وَقَدْ أَطْلَقَهُ تَابِعِيٌّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 فَيَكُونُ مُرْسَلًا لِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ الْمُبَلِّغِ لَهُ مِنَ السَّنَدِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْأَمْرُ الثَّانِي الْمَنْقُولُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ عَاضِدًا لِذَلِكَ الْمُرْسَلِ؛ لِأَنَّ مِنْ وُجُوهِ اعْتِضَادِ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا أَنْ يُوَافِقَهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ، فَيَكُونُ هَذَا عَاضِدًا ثَالِثًا بَعْدَ الْعَاضِدَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَهُمَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُشْتَمِلًا عَلَى جُمْلَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُرْسَلَةٍ، وَجُمْلَةٍ مَوْقُوفَةٍ مُتَّصِلَةٍ عَاضِدَةٍ لِتِلْكَ الْجُمْلَةِ الْمُرْسَلَةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُمَا طَاوُسٌ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ تَوْجِيهُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ اسْتِحْبَابُ الْإِطْعَامِ عَنِ الْمَوْتَى مُدَّةَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، فَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَهُ وُرُودُ فِتْنَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ؛ وَلِهَذَا فَرَّعَهُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ حَيْثُ قَالَ: فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنَّ يُطْعَمَ عَنْهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ، وَنَظِيرُ هَذَا الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ الْمِنْدِيلُ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِأَنَّ مَاءَ الْوُضُوءِ يُوزَنُ، أَرَادَ الزُّهْرِيُّ - وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ - تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ - وَهُوَ تَرْكُ التَّنْشِيفِ بَعْدَ الْوُضُوءِ - بِسَبَبٍ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، لِأَنَّ وَزْنَ مَاءِ الْوُضُوءِ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، فَلَمَّا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مَوْرِدَ التَّعْلِيلِ أَوْرَدَهُ مُرْسَلًا مَحْذُوفًا مِنْهُ الصَّحَابِيُّ. وَقَدْ قَالَ النووي فِي آخِرِ " شَرْحِ مُسْلِمٍ " قَدْ عَمِلَتِ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ بِهَذَا، فَيُفْتِي الْإِنْسَانُ مِنْهُمْ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْفُتْيَا دُونَ الرِّوَايَةِ وَلَا يَرْفَعُهُ، فَإِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ آخَرَ رَفَعَهُ. وَقَالَ الرافعي فِي " شَرْحِ الْمُسْنَدِ ": قَدْ يَحْتَجُّ الْمُحْتَجُّ وَيُفْتِي الْمُفْتِي بِلَفْظِ الْحَدِيثِ وَلَا يُسْنِدُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَثَرُ طَاوُسٍ أَمْرًا ثَانِيًا، وَهُوَ اتِّصَالُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الْإِطْعَامَ عَنِ الْمَوْتَى تِلْكَ الْأَيَّامَ السَّبْعَةَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّثْبِيتِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ كَانَ نَاشِئًا عَنِ التَّوْقِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ لَا الْمُرْسَلِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ قَدْ زَالَ، وَتَبَيَّنَ الِاتِّصَالُ بِنَقْلِ طَاوُسٍ عَنِ الصَّحَابَةِ؛ وَلِهَذَا قُلْتُ فِي أُرْجُوزَتِي: إِسْنَادُهُ قَدْ صَحَّ وَهْوَ مُرْسَلُ ... وَقَدْ يُرَى مِنْ جِهَةٍ يَتَّصِلُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَتَبَيَّنُ اتِّصَالُهُ مِنْ جِهَةِ مَا نَقَلَهُ طَاوُسٌ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنِ اسْتِحْبَابِ الْإِطْعَامِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمُسْتَلْزِمِ لِكَوْنِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْفِتْنَةُ فِيهَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ السِّرُّ فِي إِرْسَالِ طَاوُسٍ الْحَدِيثَ وَعَدَمَ تَسْمِيَةِ الصَّحَابِيِّ الْمُبَلِّغِ لَهُ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ مَشْهُورًا إِذْ ذَاكَ، وَالْمُبَلِّغُونَ لَهُ فِيهِمْ كَثْرَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 فَاسْتَغْنَى عَنْ تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ؛ وَلِأَنَّ فِي اسْتِيعَابِ ذِكْرِ مَنْ بَلَغَهُ طُولًا، وَإِنْ سَمَّى الْبَعْضَ أَوْهَمَ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ إِلَّا مِمَّنْ سَمَّى فَقَطْ، وَخُصُوصًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُحْمَلُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي عَدَمِ تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنَ الْمُبَلِّغِينَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْحَدِيثُ مَقْبُولٌ، وَيُحْتَجُّ بِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا عَضَّدَهُ مُرْسَلَانِ آخَرَانِ، وَفِعْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ كُلِّهِمْ أَوْ كُلِّ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ عَلَى قَبُولِ الْحَدِيثِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ مِنْ جِهَةٍ فِي الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ الإمام عبد الجليل بن موسى القصري فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الإمام أبو زيد الجزولي فِي " شَرْحِ رِسَالَةِ أبي زيد ": الْبَرْزَخُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَكَانٌ وَزَمَانٌ وَحَالٌ، فَالْمَكَانُ مِنَ الْقَبْرِ إِلَى عِلِّيِّينَ، تَعْمُرُهُ أَرْوَاحُ السُّعَدَاءِ. وَمِنَ الْقَبْرِ إِلَى سِجِّينٍ تَعْمُرُهُ أَرْوَاحُ الْأَشْقِيَاءِ، وَأَمَّا الزَّمَانُ فَهُوَ مُدَّةُ بَقَاءِ الْخَلْقِ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ مَنْ مَاتَ أَوْ يَمُوتُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. وَأَمَّا الْحَالُ فَإِمَّا مُنَعَّمَةٌ وَإِمَّا مُعَذَّبَةٌ أَوْ مَحْبُوسَةٌ حَتَّى تَتَخَلَّصَ بِالسُّؤَالِ مِنَ الْمَلَكَيْنِ الْفَتَّانَيْنِ، انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: " أَوْ مَحْبُوسَةٌ حَتَّى تَتَخَلَّصَ مِنَ الْمَلَكَيْنِ الْفَتَّانَيْنِ " صَرِيحٌ أَوْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ فِتْنَةَ الْقَبْرِ تَكُونُ فِي مُدَّةٍ بِحَيْثُ يَمْكُثُ مَحْبُوسًا لِأَجْلِهَا إِلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهَا، وَتِلْكَ الْمُدَّةُ هِيَ السَّبْعَةُ الْأَيَّامِ الْوَارِدَةُ، فَهَذَا تَأْيِيدٌ لِذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا ذَكَرَ الحافظ ابن رجب فِي كِتَابِ " أَهْوَالِ الْقُبُورِ " عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَرْوَاحُ عَلَى الْقُبُورِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ دَفْنِ الْمَيِّتِ لَا تُفَارِقُهُ، فَهَذِهِ آثَارٌ يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَطْبَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ يُفْتَنُونَ وَبِفِتْنَةِ الْقَبْرِ: سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، وَالْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِيهِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ مَلَكَا السُّؤَالِ الْفَتَّانَيْنِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ " «أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ، فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. .» . " الْحَدِيثَ. وَرَوَى أحمد وَالْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ " «أَمَّا فِتْنَةُ الْقَبْرِ فَبِي تُفْتَنُونَ وَعَنِّي تُسْأَلُونَ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أُجْلِسَ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ . . .» الْحَدِيثَ. فَانْظُرْ كَيْفَ فَسَّرَ قَوْلَهُ: " «تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ» " بِسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ. وَرَوَى أحمد وأبو داود مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَسَأَلَهُ. . .» " الْحَدِيثَ. وَرَوَى أحمد، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أبي الزبير أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا أُدْخِلَ الْمُؤْمِنُ قَبْرَهُ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ شَدِيدُ الِانْتِهَارِ، فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ. . .» الْحَدِيثَ. وَرَوَى ابن أبي داود فِي الْبَعْثِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ؟ قَالَ: فَتَّانَا الْقَبْرِ. . .» الْحَدِيثَ. وَرَوَى أبو نعيم وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مِثْلَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا رَأَيْتَ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا؟ قَالَ: وَمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ؟ قَالَ: فَتَّانَا الْقَبْرِ» - الْحَدِيثَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ «عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِي يُفْتَنُ أَهْلُ الْقُبُورِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] » . وَرَوَى أحمد وأبو داود حَدِيثَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ.» وَرَوَى النَّسَائِيُّ حَدِيثَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً» . وَرَوَى جويبر مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَةَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ» . . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ وَقَالَ: وَهِيَ أَشَدُّ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ. وَكَذَا مَا رَوَاهُ أبو نعيم مِنْ مُرْسَلِ ضَمْرَةَ: فَتَّانُو الْقَبْرِ ثَلَاثَةٌ؛ أَنْكَرُ وَنَاكُورٌ وَرُومَانُ. وَمَا رَوَاهُ ابن الجوزي عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا: «فَتَّانُو الْقَبْرِ أَرْبَعَةٌ؛ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ وَنَاكُورٌ وَسَيِّدُهُمُ رُومَانُ» . وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ ابن الأثير فِي " النِّهَايَةِ " فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: «إِنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ» - يُرِيدُ مَسْأَلَةَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ - مِنَ الْفِتْنَةِ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، وَقَدْ كَثُرَتِ اسْتِعَاذَتُهُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ [وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ] ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «فَبِي تُفْتَنُونَ وَعَنِّي تُسْأَلُونَ» - أَيْ تُمْتَحَنُونَ بِي فِي قُبُورِكُمْ - وَيُتَعَرَّفُ إِيمَانُكُمْ بِنُبُوَّتِي. وَقَالَ النووي فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " عِنْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ» ، مَعْنَى تُفْتَنُونَ: تُمْتَحَنُونَ، «فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، وَيَقُولُ الْمُنَافِقُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ» ، هَكَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: لِلْفِتْنَةِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ، وَمَعْنَاهَا هُنَا الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، وَكَذَا قَالَ الباجي وابن رشيق والقرطبي فِي شُرُوحِهِمْ عَلَى " الْمُوَطَّأِ ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي " الرِّسَالَةِ ": وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَيُسْأَلُونَ، وَيُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ. قَالَ يوسف بن عمر فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": قَوْلُهُ: تُفْتَنُونَ - أَيْ تُخْتَبَرُونَ - وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيُسْأَلُونَ، وَأَتَى بِهِ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: تُفْتَنُونَ. وَقَالَ الجزولي فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": الْفِتْنَةُ تَأْتِي وَالْمُرَادُ بِهَا الْكُفْرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] وَتَأْتِي وَالْمُرَادُ بِهَا الِاحْتِرَاقُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] وَتَأْتِي وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَيْلُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الضَّلَالُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْمَرَضُ، قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الِاخْتِبَارُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] أَيِ اخْتَبَرْنَاكَ، قَالَ: وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: تُفْتَنُونَ مَعْنَاهُ: تُخْتَبَرُونَ. وَقَالَ الْإِمَامُ عَلَمُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ فِي أُرْجُوزَتِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ: وَكُلَّ مَا أَتَاكَ عَنْ مُحَمَّدٍ ... صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ خُذْهُ تَرْشَدِ مِنْ فِتْنَةِ الْعِبَادِ فِي الْقُبُورِ ... وَالْعَرْضِ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ قَالَ شَارِحُهُ: فِتْنَةُ الْقُبُورِ سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمْ يَرِدْ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ تَصْرِيحٌ بِذِكْرِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ. قُلْنَا: وَلَا وَرَدَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِهَا وَلَا تَعَرُّضٌ لِكَوْنِ الْفِتْنَةِ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ بَلْ هِيَ مُطْلَقَةٌ صَادِقَةٌ بِالْمَرَّةِ وَبِأَكْثَرَ، فَإِذَا وَرَدَ ذِكْرُ السَّبْعَةِ مِنْ طَرِيقٍ مَقْبُولٍ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ بَابِ زِيَادَاتِ الثِّقَاتِ الْمَقْبُولَةِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ أَكْثَرَ أَحَادِيثِ السُّؤَالِ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً، وَوَرَدَ فِي حَدِيثَيْنِ أَنَّ السُّؤَالَ يُعَادُ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَحُمِلَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ عَلَى هَذَا. وَالْحَدِيثَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا أَحَدُهُمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ أبي قتادة بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَالْآخَرُ أَخْرَجَهُ ابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَنَظِيرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ وَرَدَ فِي أَحَادِيثِ مَجِيءِ مَلَكَيْنِ وَفِي أَحَادِيثِ مَجِيءِ مَلَكٍ وَاحِدٍ، قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 القرطبي: لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الَّذِي رَوَى مَجِيءَ مَلَكٍ لَمْ يَقُلْ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا يَأْتِيهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُطْلَقَةَ لَمْ يُقَلْ فِيهَا: وَلَا يُفْتَنُ سِوَى يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَا قِيلَ: وَلَا يَأْتِيَانِ بَعْدَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ إِنَّهُمْ يُفْتَنُونَ سَبْعًا. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: إِنْ قِيلَ إِعَادَةُ السُّؤَالِ بَعْدَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ هَلْ هُوَ تَأْسِيسٌ أَوْ تَأْكِيدٌ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ، فَمَا هُوَ إِلَّا سُؤَالٌ وَاحِدٌ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ، وَجَوَابٌ وَاحِدٌ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ بَعْدَ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُمْ لَا يُسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ سِوَى ذَلِكَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: إِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي التَّكْرِيرِ سَبْعًا، وَهَلَّا اكْتُفِيَ بِالْأَوَّلِ؟ فَالْجَوَابُ: أَوَّلًا أَنْ نَقُولَ هَلْ ظَنَنْتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ السُّؤَالِ عِلْمُ مَا عِنْدَهُ حَتَّى إِذَا أَجَابَ أَوَّلَ مَرَّةٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ؟ مَعَاذَ اللَّهِ، لَا يَظُنُّ ذَلِكَ عَاقِلٌ، قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ قَبْلَ السُّؤَالِ، بَلْ وَعَلِمَ ذَلِكَ الْمَلَكَانِ أَيْضًا؛ وَلِذَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لَهُ إِذَا أَجَابَ: «نَمْ صَالِحًا فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا» . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنَ السُّؤَالِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: إِظْهَارُ شَرَفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَكَانَتِهِ وَخُصُوصِيَّتِهِ وَمَزِيَّتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ إِنَّمَا جُعِلَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَخُصُوصِيَّةَ شَرَفٍ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يُسْأَلُ عَنْهُ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ يُعْطَ ذَلِكَ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَمَّا فِتْنَةُ الْقَبْرِ، «فَبِي تُفْتَنُونَ وَعَنِّي تُسْأَلُونَ» . . . الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أحمد وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عائشة بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: سُؤَالُ الْقُبُورِ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْأُمَمَ قَبْلَهَا كَانَتِ الرُّسُلُ تَأْتِيهِمْ بِالرِّسَالَةِ، فَإِذَا أَبَوْا كَفَّتِ الرُّسُلُ وَاعْتَزَلُوهُمْ وَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ أَمْسَكَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَأُعْطِيَ السَّيْفَ حَتَّى يَدْخُلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَنْ دَخَلَ لِمَهَابَةِ السَّيْفِ، ثُمَّ يَرْسُخُ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، فَمِنْ هَذَا ظَهَرَ النِّفَاقُ، فَكَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ الْإِيمَانَ، فَكَانُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي سِتْرٍ، فَلَمَّا مَاتُوا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُمْ فَتَّانَىِ الْقَبْرِ؛ لِيُسْتَخْرَجَ سِرُّهُمْ بِالسُّؤَالِ، وَلِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. الثَّانِي: قَالَ الحليمي مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: لَعَلَّ الْمَعْنَى فِي السُّؤَالِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ حُوِّلَ مِنْ ظَهْرِ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيَجِيءُ هُنَاكَ وَيُوقَفُ وَيُسْأَلُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَبْرَارِ عَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ بِنَفْسِهِ وَرُوحِهِ إِلَى عِلِّيِّينَ، وَهُوَ نَظِيرُ إِيقَافِهِ فِي الْمَحْشَرِ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ وَاسْتِعْرَاضِ عَمَلِهِ، حَتَّى إِذَا وُجِدَ مِنَ الْأَبْرَارِ أُجِيزَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُجَّارِ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، انْتَهَى كَلَامُ الحليمي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: جُعِلَتْ فِتْنَةُ الْقَبْرِ تَكْرِمَةً لِلْمُؤْمِنِ، وَإِظْهَارًا لِإِيمَانِهِ، وَتَمْحِيصًا لِذُنُوبِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ فَعَلَ سَيِّئَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا تُدْفَعُ عَنْهُ بِعَشَرَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يَتُوبَ فَيُتَابَ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْتَغْفِرَ فَيُغْفَرَ لَهُ، أَوْ يَعْمَلَ حَسَنَاتٍ فَتَمْحُوَهَا، فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، أَوْ يُبْتَلَى فِي الدُّنْيَا بِمَصَائِبَ فَتُكَفِّرُ عَنْهُ، أَوْ فِي الْبَرْزَخِ بِالضَّغْطَةِ وَالْفِتْنَةِ، فَتُكَفِّرُ عَنْهُ، أَوْ يَدْعُو لَهُ إِخْوَانُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، أَوْ يَهْدُونَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مَا يَنْفَعُهُ، أَوْ يُبْتَلَى فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بِأَهْوَالٍ تُكَفِّرُ عَنْهُ، أَوْ تُدْرِكُهُ شَفَاعَةُ نَبِيِّهِ، أَوْ رَحْمَةُ رَبِّهِ، انْتَهَى. الرَّابِعُ: قَالَ عَبْدُ الْجَلِيلِ الْقَصْرِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ": الْمَعْنَى فِي سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ الْفَتَّانَيْنِ فِي الْقَبْرِ أَنَّ الْخَلْقَ فِي الْتِزَامِ الشَّرَائِعِ وَقَبُولِ الْإِيمَانِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الِاخْتِبَارِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمِنَ النَّظَرِ فِيهِ وَفِي أَمْرِ الرُّسُلِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَ عَرْضِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْعُقُولِ، فَيَعْتَقِدُ كُلُّ أَحَدٍ فِي قَلْبِهِ وَسِرِّهِ عَلَى حَسَبِ مَا قُدِّرَ لَهُ حِينَ تَعْتَرِضُهُمْ أَفْكَارُ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، فَمِنْ بَيْنِ مُنْكِرٍ جَاحِدٍ أَوْ شَاكٍّ مُرْتَابٍ، وَمِنْ بَيْنِ مُؤْمِنٍ مُصَدِّقٍ وَمُوقِنٍ مُطْمَئِنٍّ ثَابِتٍ، هَذِهِ حَالُ الْكُلِّ مُدَّةَ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِ مَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الْوَاجِبَاتُ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ، فَلَمَّا حُصِّلَ الْخَلْقُ فِي الْآخِرَةِ فُتِنُوا بِالْجَزَاءِ عَنْ عَقَائِدِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمَلَكَانِ لِلْمَسْئُولِ: «قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا» ، «وَلَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، وَعَلَى الشَّكِّ حَيِيتَ وَعَلَيْهِ مِتَّ» ، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَسْرَارِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُفْتَحُ لِكُلِّ أَحَدٍ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَبَابٌ إِلَى النَّارِ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَقْعَدِهِ مِنْهُمَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَفَتَحَتْ لِلْعُقُولِ أَبْوَابَ دِينِ الْإِسْلَامِ حِينَ عَرَضَتْهُ عَلَى الْعُقُولِ، وَحِينَ وُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَمَرَتْ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَأَمَرَتْ بِالْتِزَامِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَذَكَرَتْ لِلْعُقُولِ أَنَّ مَنِ الْتَزَمَ الطَّاعَاتِ جُوزِيَ بِالْجَنَّةِ وَدَخَلَهَا، وَمَنْ أَعْرَضَ وَأَبَى وَقَعَ فِي الْكُفْرِ وَدَخَلَ النَّارَ، فَمِنْ بَيْنِ دَاخِلٍ مَفْتُوحٍ لَهُ بِدُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَمِنْ بَيْنِ خَارِجٍ نَافِرٍ. فَيُقَالُ لِلْعَبْدِ ذَلِكَ الْوَقْتَ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ النَّارِ أَوِ الْجَنَّةِ كَمَا صَنَعَ هُوَ بِنَفْسِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَافْهَمْ. الْخَامِسُ: قَالَ الباجي فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ ": لَيْسَ الِاخْتِبَارُ فِي الْقَبْرِ بِمَنْزِلَةِ التَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِظْهَارُ الْعَمَلِ وَإِعْلَامٌ بِالْمَآلِ وَالْعَاقِبَةِ، كَاخْتِبَارِ الْحِسَابِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَالتَّكْلِيفَ قَدِ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ، قَالَ مالك: مَنْ مَاتَ فَقَدِ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَفِتْنَةُ الرَّجُلِ لِمَعْنَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ، لَكِنَّهُ شَبَّهَهَا بِهَا لِصُعُوبَتِهَا وَعِظَمِ الْمِحْنَةِ بِهَا، وَقِلَّةِ الثَّبَاتِ مَعَهَا، انْتَهَى. إِذَا عَرَفْتَ الْمَقْصُودَ مِنَ السُّؤَالِ عَرَفْتَ مِنْهُ حِكْمَةَ التَّكْرِيرِ، أَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ التَّكْرِيرَ أَبْلَغُ فِي إِظْهَارِ شَرَفِ الْمُصْطَفَى وَخُصُوصِيَّتِهِ وَمَكَانَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي فَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ وَقْتُ الْعُرُوجِ بِالرُّوحِ إِلَى عِلِّيِّينَ وَالْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَالِيَةٌ لَا تُدْرَكُ بِالْهُوَيْنَا» . وَلِهَذَا جُعِلَ الصِّرَاطُ الَّذِي هُوَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعَرِ طَرِيقًا إِلَى وُصُولِ الْإِنْسَانِ إِلَيْهَا بِبَدَنِهِ، وَلَا شَكَّ فِي شِدَّةِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ عِوَضَهُ لِوُصُولِ الرُّوحِ إِلَيْهَا تَكْرِيرَ الْفِتْنَةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهُ الحليمي نَظِيرَ الْإِيقَافِ عَلَى الصِّرَاطِ. وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ فَوَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ مَا يَقْتَضِي التَّشْدِيدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ حَيْثُ اكْتَفَى مِنْهُ بِذَلِكَ وَكَفَّرَ عَنْهُ بِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَانْتَقَمَ مِنْهُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنَ السُّؤَالِ بِكَثِيرٍ، وَلَكِنَّهُ لَطَفَ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَفَّرَ عَنْهُمُ الصَّغَائِرَ بِمُقَاسَاةِ أَهْوَالِ السُّؤَالِ وَنَحْوِهِ، وَخَصَّ عَذَابَ الْقَبْرِ بِالْكَبَائِرِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْزِيرٌ، فَصُولِحَ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ وَالِانْتِهَارِ رَحْمَةً لَهُ وَرِفْقًا بِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ الَّذِينَ يُكْتَفَى فِي تَعْزِيرِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ أَنَّ فِتْنَةَ الْقَبْرِ أَشَدُّ فِتْنَةً تُعْرَضُ عَلَى الْمُوقِنِ، فَمِنْ تَمَامِ شِدَّتِهَا تَكْرِيرُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: إِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْعَدَدِ بِخُصُوصِهِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ السَّبْعَ وَالثَّلَاثَ لَهُمَا نَظَرٌ فِي الشَّرْعِ، فَمَا أُرِيدَ تَكْرِيرُهُ فَإِنَّهُ يُكَرَّرُ فِي الْغَالِبِ ثَلَاثًا، فَإِذَا أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَكْرِيرِهِ كُرِّرَ سَبْعًا؛ وَلِهَذَا كُرِّرَتِ الطَّهَارَةُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ثَلَاثًا، وَلَمَّا أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي طَهَارَةِ النَّجَاسَةِ الْكَلْبِيَّةِ كُرِّرَتْ سَبْعًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ أَشَدَّ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ جُعِلَ تَكْرِيرُهَا سَبْعًا؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ نَوْعَيِ التَّكْرِيرِ وَأَبْلَغُهُ، وَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ أَنَّ اسْتِعْرَاضَ الْأَعْمَالِ عَلَى الصِّرَاطِ يَكُونُ عَلَى سَبْعِ عَقَبَاتٍ، وَيُرْوَى عَلَى سَبْعِ قَنَاطِرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الحليمي أَنَّهُ جَعَلَ سُؤَالَ الْقَبْرِ نَظِيرَ إِيقَافِهِ عَلَى الصِّرَاطِ، فَكَانَ السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ عَلَى نَمَطِ السُّؤَالِ عَلَى الصِّرَاطِ فِي سَبْعَةِ أَمْكِنَةٍ. وَمُنَاسَبَةٌ ثَالِثَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الْغَالِبَ الْوُقُوعِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ يَكُونُ ثَلَاثًا، وَالنَّادِرَ الْوُقُوعِ يَكُونُ سَبْعًا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ غَسَلَاتُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَتَسْبِيحَاتُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَأَشْوَاطُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَتَكْبِيرَاتُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ سَبْعًا، فَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ لَا يَقَعُ فِي الدَّهْرِ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا نَوْبَةً وَاحِدَةً كُرِّرَ سَبْعًا. وَمُنَاسَبَةٌ رَابِعَةٌ: وَهِيَ أَنَّ أَيَّامَ الْأُسْبُوعِ سَبْعَةٌ، وَلَا ثَامِنَ لِلْأَيَّامِ فِي الدُّنْيَا بَلْ وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ أَنَّ أَيَّامَ الْأُسْبُوعِ تَشْهَدُ لِلْإِنْسَانِ بِمَا عَمِلَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ، وَتَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا عَمِلَ فِيهَا مِنْ شَرٍّ، فَنَاسَبَ أَنْ يُسْأَلَ أَوَّلَ مَا يَنْزِلُ قَبْرَهُ مُدَّةَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الشَّاهِدَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةٌ خَامِسَةٌ: وَهِيَ أَنَّ السُّؤَالَ يَعْقُبُهُ الْخَلَاصُ مِنَ الْهُوِيِّ إِلَى سِجِّينٍ، وَذَلِكَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَالْعُرُوجُ إِلَى عِلِّيِّينَ وَذَلِكَ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، فَنَاسَبَ أَنْ يُسْأَلَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لِيَكُونَ كُلُّ يَوْمٍ فِي مُقَابَلَةِ خَلَاصٍ مِنْ أَرْضٍ وَعُرُوجٍ إِلَى سَمَاءٍ. وَمُنَاسَبَةٌ سَادِسَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ أَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا كُلِّهَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ الْمُوَصِّلُ لِلْجَنَّةِ مُدَّةَ جُمُعَةٍ مَنْ جُمَعِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ. وَمُنَاسَبَةٌ سَابِعَةٌ: وَهِيَ أَنَّ السُّؤَالَ إِذَا أُحْسِنَ الْجَوَابُ عَنْهُ ثَبَتَ إِيمَانُهُ وَخَلَصَ بِذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ وَهِيَ سَبْعُ طَبَقَاتٍ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، فَنَاسَبَ أَنْ يُسْأَلَ سَبْعًا لِيَكُونَ كُلُّ يَوْمٍ فِي مُقَابَلَةِ الْخَلَاصِ مِنْ طَبَقَةٍ وَبَابٍ، فَهَذِهِ سَبْعُ مُنَاسَبَاتٍ فِي السَّبْعَةِ، وَالسَّبْعُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرْعِ وَالْخَلْقِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا، وَالْأَرْضَ سَبْعًا، وَالطَّوَافَ سَبْعًا، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ سَبْعٍ، وَمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ سَبْعٌ. وَوَرَدَ فِي أَثَرٍ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمَيِّزُ فِي سَبْعٍ، ثُمَّ يَحْتَلِمُ فِي سَبْعٍ، ثُمَّ يَكْمُلُ طَوْرُهُ فِي سَبْعٍ، ثُمَّ يَكْمُلُ عَقْلُهُ فِي سَبْعٍ، فَظَهَرَ مُنَاسَبَةُ اعْتِبَارِ هَذَا الْعَدَدِ بِخُصُوصِهِ، وَقَدْ قُلْتُ فِي ذَلِكَ أَبْيَاتًا: فِي عَامِ سَبْعٍ أَتَى سَبْعُ الْمَنِيَّةِ إِذْ ... مِنْ بَعْدِ سَبْعٍ وَسَبْعٍ كَانَ قَدْ غَبَرَا إِذْ مَرَّ مِنْ أَشْهُرِ الْقِبْطِيِّ سَبْعٌ رُبًى ... لِبَرْهَمَاتَ الَّذِي بِالطَّعْنِ قَدْ شُهِرَا وَشَاعَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَسْأَلَةُ ... النَّقْلِ عَنِّي فِيهَا فِي الْوَرَى أَثَرَا بِأَنَّ مَيِّتَ هَذَا الْخَلْقِ يُسْأَلُ فِي ... سَبْعٍ مِنَ الدَّهْرِ مَهْمَا غَابَ أَوْ قُبِرَا فَثَارَ فِيهَا هَرِيرٌ مِنْ أُولِي سَفَهٍ ... فَجَاءَهُمْ أَيُّ سَبُعٍ فِي الْوَغَى كَسَرَا أَبْدَيْتُ فِي حِكْمَةِ الْأَعْدَادِ مُبْتَكَرَا ... مِنَ التَّنَاسُبِ سَبْعًا أَنْجُمًا زُهْرَا يَا رَبِّ مِنْ سَبْعِ نِيرَانٍ أَجِرْنِي ... بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَجُدْ بِالْعَفْوِ مُقْتَدِرَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ: أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: فِي الْقَبْرِ حِسَابٌ، وَفِي الْآخِرَةِ حِسَابٌ، فَمَنْ حُوسِبَ فِي الْقَبْرِ نَجَا، وَمَنْ حُوسِبَ فِي الْقِيَامَةِ عُذِّبَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " الْمُصَنَّفِ ": حَدَّثَنَا عبد الرحيم بن سليمان، عَنْ مجالد، عَنْ محمد بن المنتشر، عَنِ ابن حراش، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: إِنَّ فِي الْقَبْرِ حِسَابًا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابًا. قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا يُحَاسَبُ الْمُؤْمِنُ فِي الْقَبْرِ لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ غَدًا فِي الْمَوْقِفِ، فَيُمَحَّصُ فِي الْبَرْزَخِ؛ لِيَخْرُجَ مِنَ الْقَبْرِ وَقَدِ اقْتُصَّ مِنْهُ، انْتَهَى. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صُورَتُهُ صُورَةَ الْمَوْقُوفِ عَلَى حذيفة، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَشَاهِدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عائشة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُحَاسَبُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُغْفَرُ لَهُ، يَرَى الْمُسْلِمُ عَمَلَهُ فِي قَبْرِهِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، والحاكم وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا الْبَوْلَ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ فِي الْقَبْرِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ مِنْ ثَلَاثَةٍ: مِنَ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْبَوْلِ، فَإِيَّاكُمْ وَذَلِكَ» ، وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، قَالَ ابن رجب: قَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمُ السِّرَّ فِي تَخْصِيصِ الْبَوْلِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ أُنْمُوذَجُ مَا يَقَعُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ. وَالْمَعَاصِي الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَوْعَانِ: حَقٌّ لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ، وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الصَّلَاةُ، وَمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الدِّمَاءُ. وَأَمَّا الْبَرْزَخُ فَيُقْضَى فِيهِ فِي مُقَدِّمَاتِ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ وَوَسَائِلِهِمَا، فَمُقَدِّمَةُ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَمُقَدِّمَةُ الدِّمَاءِ النَّمِيمَةُ وَالْوَقِيعَةُ فِي الْأَعْرَاضِ، وَهُمَا أَيْسَرُ أَنْوَاعِ الْأَذَى، فَيُبْدَأُ فِي الْبَرْزَخِ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالْعِقَابِ عَلَيْهِمَا، انْتَهَى. قَالَ ابن رجب: وَرَوَى ابن عجلان عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: يُقَالُ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَخَلَ قَبْرَهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاتِهِ أَوَّلَ شَيْءٍ يُسْأَلُ عَنْهُ، فَإِنْ جَازَتْ لَهُ صَلَاتُهُ نُظِرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ لَمْ يُنْظَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ بَعْدُ. الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: إِنْ قِيلَ: مُقْتَضَى كَوْنِ الْفِتْنَةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مَشْرُوعِيَّةُ التَّلْقِينِ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ. فَالْجَوَابُ: لَا، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ التَّلْقِينَ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ، بَلْ حَدِيثُهُ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ إِلَى أَنَّ التَّلْقِينَ بِدْعَةٌ، وَآخِرُ مَنْ أَفْتَى بِذَلِكَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام، وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّهُ ابن الصلاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وَتَبِعَهُ النووي نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُتَسَامَحُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ. وَثَانِيًا: أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَوْقِيفِيَّةٌ، لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهَا، وَلَمْ يَرِدِ التَّلْقِينُ إِلَّا سَاعَةَ الدَّفْنِ خَاصَّةً، وَوَرَدَ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ الْإِطْعَامُ، فَاتُّبِعَ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَظْهَرُ لِاخْتِصَاصِ التَّلْقِينِ بِالْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ حِكْمَةٍ؟ قُلْتُ: ظَهَرَ لِي حِكْمَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ مَنْ حَضَرَ الدَّفْنَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشُّفَعَاءِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِتَكْلِيفِ النَّاسِ الْمَشْيَ مَعَ الْمَيِّتِ إِلَى قَبْرِهِ إِلَّا لِدَفْنِهِ خَاصَّةً، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ التَّرَدُّدَ إِلَى قَبْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُشْرَعِ التَّلْقِينُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ لِمَا فِي تَكْلِيفِهِمُ التَّرَدُّدَ إِلَيْهِ طُولَ الْأُسْبُوعِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَاقْتُصِرَ عَلَى سَاعَةِ الدَّفْنِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ مُبْتَدَأٍ صَعْبٌ، وَأَوَّلُ نُزُولِهِ قَبْرَهُ سَاعَةٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مِثْلُهَا قَطُّ، فَأَنِسَ بِالتَّلْقِينِ وَسُؤَالِ التَّثْبِيتِ، فَإِذَا اعْتَادَ بِالسُّؤَالِ أَوَّلَ يَوْمٍ وَأَلِفَهُ سَهُلَ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ الْأَيَّامِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ، وَشُرِعَ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ ذُنُوبٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يُكَفِّرُهَا مِنْ صَدَقَةٍ وَنَحْوِهَا، فَكَانَ فِي الصَّدَقَةِ عَنْهُ مَعُونَةً لَهُ عَلَى تَخْفِيفِ الذُّنُوبِ؛ لِيُخَفَّفَ عَنْهُ هَوْلُ السُّؤَالِ، وَصُعُوبَةُ خِطَابِ الْمَلَكَيْنِ، وَإِغْلَاظِهِمَا وَانْتِهَارِهِمَا. الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: لَمْ يَرِدْ تَصْرِيحٌ بِبَيَانِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِيءُ فِيهِ الْمَلَكَانِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ أَنَّهُمَا يَأْتِيَانِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إِذَا انْصَرَفَ النَّاسُ مِنْ دَفْنِهِ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: يُفْتَنُ الْمُؤْمِنُ سَبْعًا وَالْكَافِرُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا - أَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَقَدْ يَكُونُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " أَرْبَعِينَ صَبَاحًا " أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يُكَنُّوا عَنِ الْيَوْمِ بِالصَّبَاحِ إِطْلَاقًا لِلْجُزْءِ وَإِرَادَةً لِلْكُلِّ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى مَجِيئِهِمَا أَوَّلَ النَّهَارِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَأْتِيَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فِي مِثْلِ السَّاعَةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا أَوَّلَ يَوْمٍ دُفِنَ، وَالْعِلْمُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا كُنَّا لَمْ نَعْلَمْ وَقْتَ مَجِيئِهِمَا مِنَ النَّهَارِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالنَّظَرِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ أَخْبَارَ طَاوُسٍ وَغَيْرِهِ بِوُقُوعِ الْفِتْنَةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ أَوْ سَمَاعٍ أَوْ بَلَاغٍ مِمَّنْ فَوْقَهُمْ عَمَّنْ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ؟ حَاشَا وَكَلَّا، لَا يَظُنُّ ذَلِكَ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ. الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: وَرَدَ فِي أَحَادِيثِ السُّؤَالِ الْمُطْلَقَةِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ يُعِيدَانِ عَلَيْهِ السُّؤَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي حَدِيثِ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ تَصْرِيحٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَيَحْتَمِلُ جَرَيَانُ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُتَعَدِّدَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 إِذَا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِطْلَاقٌ مِنْ وَجْهٍ وَتَقْيِيدٌ مِنْ وَجْهٍ، تُقَيِّدُ إِطْلَاقَ كُلِّ حَدِيثٍ بِتَقْيِيدِ الْآخَرِ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ الْأُصُولِ، وَهَذَا مِنْهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: قَالَ قَائِلٌ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: إِنَّهُ يُقَالُ لَهُ عَقِبَ السُّؤَالِ نَمْ صَالِحًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ بَعْدَهُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَّسِعْ نَظَرُهُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا اطَّلَعَ عَلَى مُصْطَلَحَاتِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْأَحَادِيثِ، حَيْثُ يَجْمَعُونَ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ كُلَّهَا وَرِوَايَاتِهِ، وَيَضُمُّونَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ كُلِّ حَدِيثٍ مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ، وَيَقُولُونَ فِيمَا خَلَا مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ: هَذَا حَدِيثٌ مُخْتَصَرٌ وَرَدَ فِي غَيْرِهِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ لَفْظُهُ عَنْ أسماء بنت أبي بكر، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ، فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي! سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ» . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَخْصَرُ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي السُّؤَالِ. وَقَدْ وَرَدَ سِوَاهُ أَحَادِيثُ مُطَوَّلَةٌ صَحِيحَةٌ فِيهَا زِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ اعْتَمَدَهَا النَّاسُ، وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا اعْتِمَادُهَا، فَإِنْ أَخَذَ هَذَا الرَّجُلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَطْ وَتَرَكَ مَا سِوَاهُ لَزِمَهُ رَدُّ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ السُّؤَالَ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَقُولُ فِي الْجَوَابِ: رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ فِيهِ الْمَلَكَانِ بِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ أَطْبَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى الْمَلَائِكَةُ بِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ أَهْلُ السُّنَّةِ إِلَى قَوْلِهِمُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الزِّيَادَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي أَحَادِيثِ السُّؤَالِ عَلَى كَثْرَتِهَا، فَإِنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ حَدِيثًا مَا مِنْ حَدِيثٍ مِنْهَا إِلَّا وَفِيهِ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ، فَمَنْ لَمْ يَقِفْ إِلَّا عَلَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنْ سَبْعِينَ حَدِيثًا حَقُّهُ أَنْ يَسْكُتَ مَعَ السَّاكِتِينَ، وَلَا يُقْدِمَ عَلَى رَدِّ الْأَحَادِيثِ وَإِلْغَائِهَا، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا.. عِنْدَ آخِرِ جَوَابٍ يُجِيبُ بِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ يُسْأَلُ فِيهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمَحْذُوفَاتِ الْمَطْوِيِّ ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ كَسَائِرِ مَا حُذِفَ مِنْهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا وَقَعَ لِلْحَافِظِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 حَيْثُ تَكَلَّمَ عَلَى الْحَدِيثِ فِي " الْمُوَطَّأِ " وَغَيْرِهِ، أَنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يُصَلِّ فِي وَقْتِ فَرْضِ الصَّلَاةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِمَامَةُ جِبْرِيلَ لِوَقْتَيْنِ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا لِنَقْلِ الْعُدُولِ لَهَا، وَلَيْسَ تَرْكُ الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ لَا فِي رِوَايَةِ مَنْ أَجْمَلَ وَاخْتَصَرَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَوَقَعَ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثٍ، ثُمَّ رَوَى مِنْ طُرُقٍ مُرْسَلَةٍ زِيَادَةً عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَرَاسِيلُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ عِنْدَ مالك حُجَّةٌ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ حَدِيثِ " الْمُوَطَّأِ "، وَحَدِيثُ هَؤُلَاءِ بِالصَّوَابِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ زَادُوا وَأَوْضَحُوا وَفَسَّرُوا مَا أَجْمَلَهُ غَيْرُهُمْ وَأَهْمَلَهُ - هَذِهِ عِبَارَتُهُ. وَقَالَ القرطبي فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي صَوْمِهِ وَقِيَامِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ اشْتَهَرَ وَكَثُرَتْ رُوَاتُهُ، فَكَثُرَ اخْتِلَافُهُ حَتَّى ظَنَّ مَنْ لَا بَصِيرَةَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِذَا تَتَبَّعَ اخْتِلَافَهُ وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، انْتَظَمَتْ صُورَتُهُ، وَتَنَاسَبَ مَسَاقُهُ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافُ تَنَاقُضٍ وَلَا تَهَاتُرٍ، بَلْ يَرْجِعُ اخْتِلَافُهُ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ مَا سَكَتَ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَفَصَّلَ بَعْضَ مَا أَجْمَلَهُ غَيْرُهُ، انْتَهَى. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ حَدِيثِ السَّبْعَةِ وَحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ، فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكَ.. إِلَى آخِرِهِ - أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُطْلَقٌ صَادِقٌ بِالْمَرَّةِ وَبِأَكْثَرَ، فَإِذَا رَوَى الثِّقَةُ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ سَبْعًا وَجَبَ قَبُولُهُ وَحَمْلُ آخِرِ الْحَدِيثِ - وَهُوَ قَوْلُهُ: نَمْ صَالِحًا - عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْفِتْنَةِ، وَذَلِكَ بِآخِرِ يَوْمٍ مِنْهَا. وَلْنَخْتِمِ الْكِتَابَ بِلَطَائِفَ: الْأُولَى: أَنَّ سُنَّةَ الْإِطْعَامِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، بَلَغَنِي أَنَّهَا مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى الْآنَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَمْ تُتْرَكْ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إِلَى الْآنَ، وَأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ إِلَى الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. [وَرَأَيْتُ] فِي التَّوَارِيخِ كَثِيرًا فِي تَرَاجِمِ الْأَئِمَّةِ يَقُولُونَ: وَأَقَامَ النَّاسُ عَلَى قَبْرِهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَأَخْرَجَ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا نُسِبَ إِلَى الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ ": سَمِعْتُ الشَّيْخَ الْفَقِيهَ أَبَا الْفَتْحِ نَصْرَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْقَوِيِّ الْمِصِّيصِيَّ يَقُولُ: تُوُفِّيَ الشَّيْخُ نَصْرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِدِمَشْقَ، وَأَقَمْنَا عَلَى قَبْرِهِ سَبْعَ لَيَالٍ نَقْرَأُ كُلَّ لَيْلَةٍ عِشْرِينَ خَتْمَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الثَّانِيَةُ: قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى جَمَاعَةٌ لَا يُسْأَلُونَ أَصْلًا، كَالصِّدِّيقِ وَالشَّهِيدِ، وَالْمُرَابِطِ، وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ فِي ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ الجزولي مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ " قَالَ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَنْزِلَانِ بِالْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، وَهُمَا فَظَّانِ غَلِيظَانِ، أَسْوَدَانِ، أَزْرَقَانِ، يَطَآنِ فِي شُعُورِهِمَا، وَيَنْتَحِتَانِ الْأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا، يَمْشِيَانِ فِي الْأَرْضِ كَمَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي الضَّبَابِ، بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِرْزَبَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، لَوْ وُضِعَتْ عَلَى أَعْلَى جَبَلٍ فِي الدُّنْيَا لَذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، فَيَسْأَلَانِهِ، فَقَالَ لَهُ عمر: وَأَنَا كَمَا أَنَا الْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِذَنْ وَاللَّهِ أُخَاصِمُهُمَا، فَرَآهُ ابْنُهُ عبد الله بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَالَ لَهُ: مَا كَانَ مِنْكَ؟ فَقَالَ لَهُ: أَتَانِي الْمَلَكَانِ، فَقَالَا لِي: مَنْ رَبُّكَ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَقُلْتُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، وَأَنْتُمَا مَنْ رَبُّكُمَا، فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ فَقَالَ: إِنَّهُ عمر، فَوَلَّيَا عَنِّي» . قَالَ الجزولي: وَمِثْلُهُ يُرْوَى عَنْ أبي المعالي أَنَّهُمَا وَقَفَا عَلَيْهِ وَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا شَأْنُكُمَا، أَنْتُمَا مَلَكَا رَبِّي؟ أَفْنَيْتُ فِي ذِكْرِهِ عُمُرِي، وَيُسِّرْتُ لِنُصْرَتِهِ، فَمَا عَسَى أَنْ تَقُولَا وَقَدِ امْتَلَأَتِ الدُّنْيَا بِأَقْوَالِي وَسُمِّيتُ فِيهَا أبا المعالي؟ فَقَالَا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ أبو المعالي، نَمْ هَنِيئًا وَلَا تُبَالِي. قُلْتُ: أَبُو الْمَعَالِي هُوَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ لَهُ مِنْ بَرَكَةِ الْعِلْمِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَرَكَةِ الْعِلْمِ إِلَّا هَذَا الْإِكْرَامُ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الحافظ أبو الطاهر السلفي فِي " الطُّيُورِيَّاتِ "، عَنْ سَهْلِ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: رَأَيْتُ يزيد بن هارون فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: أَتَانِي فِي قَبْرِي مَلَكَانِ فَظَّانِ غَلِيظَانِ، فَقَالَا: مَنْ رَبُّكَ، وَمَا دِينُكَ، وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَأَخَذْتُ بِلِحْيَتِي الْبَيْضَاءِ وَقُلْتُ: لِمِثْلِي يُقَالُ هَذَا وَقَدْ عَلَّمْتُ النَّاسَ جَوَابَكُمَا ثَمَانِينَ سَنَةً! فَذَهَبَا. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي " السُّنَّةِ ": أَخْبَرَنَا محمد بن المظفر بن حرب، ثَنَا إبراهيم بن محمد بن عثمان النيسابوري قَالَ: سَمِعْتُ أحمد بن محمد الحيري المزكي يَقُولُ: حَدَّثَنِي عبد الله بن الحارث الصنعاني قَالَ: سَمِعْتُ حوثرة بن محمد المنقري البصري يَقُولُ: رَأَيْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ الْوَاسِطِيَّ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ لَيَالٍ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: تَقَبَّلَ مِنِّي الْحَسَنَاتِ، وَتَجَاوَزَ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَوَهَبَ لِي التَّبِعَاتِ. قُلْتُ: وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَهَلْ يَكُونُ مِنَ الْكَرِيمِ إِلَّا الْكَرَمُ؟ غَفَرَ لِي ذُنُوبِي وَأَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ، قُلْتُ: فَبِمَ نِلْتَ الَّذِي نِلْتَ؟ قَالَ: بِمَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَقَوْلِ الْحَقِّ، وَصِدْقِي فِي الْحَدِيثِ، وَطُولِ قِيَامِي فِي الصَّلَاةِ، وَصَبْرِي عَلَى الْفَقْرِ، قُلْتُ: وَمُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ حَقٌّ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَقَدْ أَقْعَدَانِي وَسَأَلَانِي وَقَالَا لِي: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَجَعَلْتُ أَنْفُضُ لِحْيَتِي الْبَيْضَاءَ مِنَ التُّرَابِ فَقُلْتُ: مِثْلِي يُسْأَلُ؟ أَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 الْوَاسِطِيُّ، وَكُنْتُ فِي دَارِ الدُّنْيَا سِتِّينَ سَنَةً أُعَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: صَدَقَ، هُوَ يزيد بن هارون، نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ، فَلَا رَوْعَةَ عَلَيْكَ بَعْدَ الْيَوْمِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ فِي انْتِخَابِهِ لِحَدِيثِ الفراء: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَمَدٍ الْأَرْتَاحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَرَّاءُ، أَنَا أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد بن نصر البخاري الحافظ، ثَنَا القاضي أبو الحسن محمد بن إسحاق الملحمي، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، ثَنَا محمد بن كثير بن بنت يزيد بن هارون قَالَ: رَأَيْتُ جَدِّي يزيد بن هارون فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا جَدِّي، كَيْفَ رَأَيْتَ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ جَاءَانِي فَأَجْلَسَانِي فِي قَبْرِي، وَقَالَا لِي: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْتُ لَهُمَا: أَلِي يُقَالُ هَذَا وَقَدْ كُنْتُ أُعَلِّمُ النَّاسَ الدِّينَ مُنْذُ ثَمَانِينَ سَنَةً؟ الثَّالِثَةُ: عَجِبْتُ مِمَّنِ اسْتَغْرَبَ سُؤَالَ الْمَيِّتِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، ذَكَرَ الشَّيْخُ تاج الدين السبكي فِي " الطَّبَقَاتِ الْوُسْطَى " فِي تَرْجَمَةِ الشيخ أبي الفتوح أخي الغزالي أَنَّهُ حَكَى يَوْمًا عَلَى رَأْسِ مِنْبَرِهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَخِي حُجَّةَ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ مِنْ حِينِ يُوضَعُ عَلَى النَّعْشِ يُوقَفُ فِي أَرْبَعِينَ مَوْقِفًا يُسَائِلُهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ السبكي: فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى دِينِهِ وَيَخْتِمَ لَنَا بِخَيْرٍ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. الرَّابِعَةُ: أَخْرَجَ ابن سعد فِي " الطَّبَقَاتِ " مِنْ طَرِيقِ ليث، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: مَا تَعَلَّمْتَ فَتَعَلَّمْهُ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ ذَهَبَتْ مِنْهُمُ الْأَمَانَةُ، قَالَ: وَكَانَ يَعُدُّ الْحَدِيثَ حَرْفًا حَرْفًا. وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي " الْحِلْيَةِ " مِنْ طَرِيقِ ليث قَالَ: قَالَ لِي طَاوُسٌ: مَا تَعَلَّمْتَ فَتَعَلَّمْهُ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّ الْأَمَانَةَ وَالصِّدْقَ قَدْ ذَهَبَا مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ أبو محمد عبيد الله بن علي بن عبد الرحمن بن منصور بن زياد الكاتب فِي أَمَالِيهِ: ثَنَا الحسن بن علي بن راشد قَالَ: سَمِعْتُ أبا الربيع العتكي يَقُولُ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: إِنِّي أَخَذْتُ مَنْ كُلِّ طَيْرٍ رِيشَةً، وَمَنْ كُلِّ ثَوْبٍ خِرْقَةً، قَالَ: وَسَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ: إِنِّي لَأَحْرِمُ جُلَسَائِيَ الْحَدِيثَ الْغَرِيبَ لِمَوْضِعِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ثَقِيلٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 [أَحْوَالُ الْبَعْثِ] مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَمُرُّ إِبْلِيسُ وَكُفَّارُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى الصِّرَاطِ؟ الْجَوَابُ: صَرَّحَ ابن برجان فِي الْإِرْشَادِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ مَا يَشْهَدُ لَهُ، وَفِي أَحَادِيثَ أُخَرَ مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ يَمُرُّونَ، فَحَمَلْتُ ذَلِكَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؛ لِكَوْنِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيْتُ القرطبي صَرَّحَ بِأَنَّ فِي الْآخِرَةِ صِرَاطَيْنِ: صِرَاطٌ لِعُمُومِ الْخَلْقِ إِلَّا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَمَنْ يَلْتَقِطُهُمْ عُنُقُ النَّارِ، وَصِرَاطٌ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ، وَعُرِفَ مِنْهُ أَنَّ مِنْ يَلْتَقِطُهُمْ عُنُقُ النَّارِ - وَهُمْ طَوَائِفُ مَخْصُوصَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ - لَا يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ بَعْثُ النَّارِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْخَلْقِ إِلَيْهَا قَبْلَ نَصْبِ الصِّرَاطِ، دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ أَصْلًا، وَهُمْ طَوَائِفُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَّا الْمُنَافِقُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ الثَّلَاثَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يُحْمَلُونَ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُونَ مِنْهُ فِي النَّارِ، وَكَذَلِكَ مَنْ يُنْصَبُ لَهُ الْمِيزَانُ مِنَ الْكُفَّارِ وَهُمْ طَائِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ فَيُحْضَرُوا وَزْنَهُمْ، فَإِنَّ الْمِيزَانَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الصِّرَاطِ. هَذَا مُلَخَّصُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، وَبَسْطُهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِ " الْبُدُورِ السَّافِرَةِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ "، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً» " هَلْ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ " أَوْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ. الْجَوَابُ: هُوَ مَخْصُوصٌ وَلَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، فَقَدْ نَصَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُحْشَرُ عَارِيًا وَبَعْضَهُمْ يُحْشَرُ فِي أَكْفَانِهِ، وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُبْعَثُ الْمَيِّتُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا» . رَوَاهُ أبو داود، وَابْنُ حِبَّانَ، والحاكم، وَقَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَحْسِنُوا أَكْفَانَ مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِثْلَهُ، وَهَذَانِ الْمَوْقُوفَانِ لَهُمَا حُكْمُ الرَّفْعِ. وَنَصَّ القرطبي عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الْحَشْرِ عُرَاةً مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَّ حَدِيثَ أبي داود وَنَحْوَهُ فِي الشُّهَدَاءِ. وَأَخْرَجَ الدينوري فِي الْمُجَالَسَةِ عَنِ الحسن قَالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ كُلُّهُمْ عُرَاةً مَا خَلَا أَهْلَ الزُّهْدِ. وَإِذَا خُصَّ مِنَ الْحَدِيثِ الشُّهَدَاءُ أَوْ أَهْلُ الزُّهْدِ، فَالْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَابِ أَوْلَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 مَسْأَلَةٌ: أَحَادِيثُ الْحَشْرِ عُرَاةً عَارَضَهَا أَحَادِيثُ أُخَرُ، صُرِّحَ فِيهَا بِأَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ التَّرْجِيحِ فَرَجَّحَ أَحَادِيثَ الْحَشْرِ فِي الْأَكْفَانِ عَلَى أَحَادِيثِ الْحَشْرِ عُرَاةً، وَهَذَا رَأْيُ الْقَلِيلِ، وَالْأَكْثَرُونَ سَلَكُوا مَسْلَكَ الْجَمْعِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ أَحَادِيثَ الْحَشْرِ فِي الْأَكْفَانِ خَاصَّةٌ بِالشُّهَدَاءِ، وَأَحَادِيثَ الْحَشْرِ عُرَاةً فِي غَيْرِهِمْ - هَكَذَا نَقَلَهُ القرطبي - وَجَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُحْشَرُ عَارِيًا، وَبَعْضَهُمْ يُحْشَرُ فِي أَكْفَانِهِ، وَلَمْ يَعَيِّنْ شُهَدَاءَ وَلَا غَيْرَهُمْ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أحمد، وَالنَّسَائِيُّ، والحاكم وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أبي ذر قَالَ: «حَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَفْوَاجٍ: فَوْجٍ طَاعِمِينَ كَاسِينَ رَاكِبِينَ، وَفَوْجٍ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ، وَفَوْجٍ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ» ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ أبو داود وَالتِّرْمِذِيُّ، وَمِنْ حَدِيثِ معاوية بن حيدة، أَخْرَجَهُ أحمد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي الْمُجَالَسَةِ للدينوري عَنِ الحسن قَالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ كُلُّهُمْ عُرَاةً مَا خَلَا أَهْلَ الزُّهْدِ، وَهَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ الْمُرْسَلِ. مَسْأَلَةٌ: سَأَلْتُكُمُو رِجَالَ الْعِلْمِ عَمَّا ... بَدَا لِيَ حَيْثُ لَا عِلْمَ بِذَاكَا هَلِ الْإِيمَانُ يُوزَنُ يَوْمَ حَشْرٍ ... بِمِيزَانٍ وَإِلَّا لَيْسَ ذَاكَا فَإِنْ قُلْتُمْ بِوَزْنٍ هَلْ تَقُولُوا ... مَعَ الْحَسَنَاتِ أَوْ ضِدٍّ لِذَاكَا وَإِنْ قُلْتُمْ مَعَ الْحَسَنَاتِ يَبْقَى ... بِأَنْ لَا وَزْنَ مَعَ شَيْءٍ يُحَاكَى وَيَرْجُحُ بَعْدَ ذَاكَ بِسَيِّئَاتٍ ... فَلَا لِلنَّارِ دَاخِلَةٌ هُنَاكَا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ نَفْسٌ ... فَسُبْحَانَ اللَّطِيفِ بِنَا هُنَاكَا أَوَزْنٌ مُطْلَقًا أَوْ لَا تَقُولُوا ... بِهَذَا أَنْتُمُ أَهْلٌ لِذَاكَا أَجِيبُوا الْعَبْدَ فَهْوَ لَكُمْ مُحِبٌّ ... وَفَضْلُكُمْ بِمِصْرَ لَا يُحَاكَى فَلَا زِلْتُمْ لِمُعْضِلَةٍ تَحُلُّوا ... وَفِي الْجَنَّاتِ مَأْوَاكُمْ هُنَاكَا الْجَوَابُ: لِرَبِّ الْعَرْشِ حَمْدًا لَا يُحَاكَى ... وَأَشْكُرُهُ وَمَا أَوْلَى بِذَاكَا وَلِلْمُخْتَارِ تَسْلِيمٌ ثَنَاهُ ... كَعَرْفِ الزَّهْرِ يَنْبُتُ فِي رُبَاكَا لَقَدْ نَصَّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِي فِي ... نَوَادِرِهِ الَّتِي حَسُنَتْ حِبَاكَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وَعَنْهُ حَكَاهُ نَقْلًا قرطبي ... بِتَذْكِرَةٍ تُنَمِّقُهَا حِيَاكَا بِأَنَّ الْوَزْنَ مُخْتَصٌّ بِحَشْرٍ ... بِأَعْمَالٍ فَتَنْسَلِكُ انْسِلَاكَا وَمَا الْإِيمَانُ مَوْزُونًا فَإِنَّ الْمَ ... وَازِنَ حَالُهُ ضِدٌّ هُنَاكَا أَيَجْمَعُ وَاحِدٌ كَفْرًا وَضِدًّا ... لِيَتَّزِنَا مُحَالٌ فَرْضُ ذَاكَا وَفِي خَبَرِ الْبِطَاقَةِ جَاءَ وَزْنٌ ... لِتَوْحِيدٍ وَأَخْبَارٍ كَذَاكَا فَأَوِّلْهَا بِنَدْبٍ فِي ادِّكَارٍ ... فَحَقًّا أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ ذَاكَا وَمَنْ يَقْصِدْ لِبَسْطٍ فِي اتِّزَانٍ ... فَفِي تَأْلِيفِ بَعْثٍ لِي دَرَاكَا وَنَاظِمُهُ ابن الأسيوطي أَبْدَى ... جَوَابًا لَمْ يُغَادِرْهُ مِسَاكَا بِنَظْمٍ نَاسِجٍ مِنْوَالَ حُسْنٍ ... عَلَى نَسَقٍ يُحَاكُ وَلَا يُحَاكَى مَسْأَلَةٌ: مَا قَوْلُ حَبْرٍ بَحْرُ أَفْكَارِهِ ... أَبْدَى عَجِيبًا عَمَّ فِي عَصْرِهِ وَفَاضَ مِنْهُ أَنْهُرًا بِالْهُدَى ... فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ مِنْ دَرِّهِ تَأْلِيفُهُ صَاغَ لَنَا عَسْجَدًا ... عَاطِرُهُ قَدْ ضَاعَ فِي نَشْرِهِ حَكَى لِنَظْمِ الدُّرِّ فِي جِيدِهِ ... وَحَازَ حُسْنَ السَّبْكِ فِي نَثْرِهِ فِي الطِّفْلِ إِنْ مَاتَ صَغِيرًا فَهَلْ يُحْشُرُ فِي الْأُخْرَى عَلَى عُمْرِهِ وَفِي جِنَانِ الْخُلْدِ يَبْقَى كَذَا ... أَوْ بَعْدَ حَشْرٍ زِيدَ فِي قَدْرِهِ وَهَلْ لَهُ فِي الْحُورِ مِنْ زَوْجَةٍ ... يَنْكِحُهَا مَا الْقَوْلُ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ وِلْدَانٍ حَكَاهُمْ لَنَا ... رَبُّ الْعُلَا الرَّحْمَنُ فِي ذِكْرِهِ أَمِنْ بَنِي آدَمَ أَمْ خَلْقُهُمْ ... كَالْحُورِ يَا مَنْ فَاقَ فِي دَهْرِهِ لَكُمْ عُلُومٌ أَعْجَزَتْ مَنْ مَضَى ... وَمَنْ بَقِيَ قَدْ صَارَ فِي فِكْرِهِ وَسَلَّمُوا أَنَّ الَّذِي نِلْتُمُو ... مِنْحَةُ رَبِّ الْعَرْشِ مِنْ سِرِّهِ يُثِيبُكُمْ جَنَّاتِهِ مِثْلَمَا ... بَذَلْتُمُ الْإِجْهَادَ فِي نَصْرِهِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ اللَّهِ عَلَى يُسْرِهِ ... وَأَشْكُرُ الْهَادِيَ عَلَى نَشْرِهِ الطِّفْلُ يَأْتِي مِثْلَمَا قَدْ مَضَى ... فِي خَلْقِهِ وَالْقَدْرِ فِي حَشْرِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وَعِنْدَمَا يَدْخُلُ جَنَّاتِهِ ... يَزْدَادُ كَالْبَالِغِ فِي قَدْرِهِ وَكَمْ لَهُ فِي الْخُلْدِ مِنْ زَوْجَةٍ ... مِنْ بِشْرٍ وَالْحُورِ فِي قَصْرِهِ وَالْحُورُ وَالْوِلْدَانُ جِنْسٌ سُوَى ... لَيْسُوا بَنِي آدَمَ فَاسْتَقْرِهِ [تُحْفَةُ الْجُلَسَاءِ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ لِلنِّسَاءِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. مَسْأَلَةٌ: رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَوْقِفِ حَاصِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِلَا نِزَاعٍ، وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّهَا تَحْصُلُ فِيهِ لِلْمُنَافِقِينَ أَيْضًا. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهَا تَحْصُلُ لِلْكَافِرِينَ أَيْضًا، ثُمَّ يُحْجَبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، وَلَهُ شَاهِدٌ رُوِّينَاهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ فِي الْجَنَّةِ فَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَرِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبَشَرِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَاخْتُلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي صُوَرٍ؛ إِحْدَاهَا النِّسَاءُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِيهِنَّ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ لِلْعُلَمَاءِ حَكَاهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الحافظ عماد الدين بن كثير فِي أَوَاخِرِ تَارِيخِهِ، أَحَدُهَا: أَنَّهُنَّ لَا يَرَيْنَ لِأَنَّهُنَّ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ تَصْرِيحٌ بِرُؤْيَتِهِنَّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ يَرَيْنَ أَخْذًا مِنْ عُمُومَاتِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الرُّؤْيَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُنَّ يَرَيْنَ فِي مِثْلِ أَيَّامِ الْأَعْيَادِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَتَجَلَّى فِي مِثْلِ أَيَّامِ الْأَعْيَادِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ تَجَلِّيًا عَامًّا، فَيَرَيْنَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ دُونَ غَيْرِهَا، قَالَ ابن كثير: وَهَذَا الْقَوْلُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الحافظ ابن رجب فِي اللَّطَائِفِ: كُلُّ يَوْمٍ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ عِيدًا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ عِيدٌ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ عَلَى زِيَارَةِ رَبِّهِمْ، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فِيهِ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ يُدْعَى فِي الْجَنَّةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ، وَيَوْمُ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى يَجْتَمِعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهِمَا لِلزِّيَارَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ يُشَارِكُ النِّسَاءُ الرِّجَالَ فِيهِمَا كَمَا كُنَّ يَشْهَدْنَ الْعِيدَيْنِ مَعَ الرِّجَالِ دُونَ الْجُمُعَةِ، هَذَا لِعُمُومِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَأَمَّا خَوَاصُّهُمْ فَكُلُّ يَوْمٍ لَهُمْ عِيدٌ يَزُورُونَ رَبَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابن رجب وَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ ابن كثير أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الرُّؤْيَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن سلمان بن الحسن، ثَنَا محمد بن عثمان بن محمد، ثَنَا مروان بن جعفر، ثنا نافع أبو الحسن مولى بني هاشم، ثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رَأَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَحْدَثُهُمْ عَهْدًا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنَاتُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ» . الثَّانِيَةُ الْمَلَائِكَةُ، فَذَهَبَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبَشَرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] خَرَجَ مِنْهُ مُؤْمِنُو الْبَشَرِ بِالْأَدِلَّةِ الثَّابِتَةِ، فَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ؛ وَلِأَنَّ لِلْبَشَرِ طَاعَاتٍ لَمْ يَثْبُتْ مِثْلُهَا لِلْمَلَائِكَةِ، كَالْجِهَادِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَايَا، وَالْمِحَنِ، وَالرَّزَايَا، وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ فِي الْعِبَادَاتِ لِأَجْلِ اللَّهِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَيُبَشِّرُهُمْ بِإِحْلَالِ رِضْوَانِهِ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَلَمْ يَثْبُتْ مِثْلُ هَذَا لِلْمَلَائِكَةِ، انْتَهَى. وَقَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَمْ يَتَعَقَّبُوهُ بِنَكِيرٍ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ بدر الدين الشبلي صَاحِبُ " آكَامِ الْمَرْجَانِ فِي أَحْكَامِ الْجَانِّ "، وَالْعَلَّامَةُ عز الدين بن جماعة فِي " شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ "، وَلَكِنَّ الْأَقْوَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ، فَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، قَالَ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ " وَمِنْهُ نَقَلْتُ مَا نَصُّهُ: أَفْضَلُ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ رُؤْيَةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْرِمِ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ الْمُرْسَلِينَ وَمَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَالصِّدِّيقِينَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِهِ عَزَّ وَجَلَّ، انْتَهَى. وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ فِي " كِتَابِ الرُّؤْيَةِ " - بَابُ مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهُمْ -: أَخْبَرَنَا أبو عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن قَالَا: ثَنَا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثَنَا محمد بن إسحاق، حَدَّثَنِي أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يُحَدِّثُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ لِعِبَادَتِهِ أَصْنَافًا، وَإِنَّ مِنْهُمْ لَمَلَائِكَةً قِيَامًا صَافِّينَ مِنْ يَوْمِ خَلْقِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَلَائِكَةً رُكُوعًا خُشُوعًا مِنْ يَوْمِ خَلْقِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلْقِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَجَلَّى لَهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَنَظَرُوا إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ. وَأَخْبَرَنَا محمد بن عبد الله وأحمد بن الحسن قَالَ: ثَنَا أبو العباس، ثَنَا محمد بن إسحاق، ثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: «سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْمَدَائِنِ، فَجَعَلَ يَعِظُنَا حَتَّى بَكَى وَأَبْكَانَا، ثُمَّ قَالَ: كُونُوا كَرَجُلٍ قَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ، أُوصِيكَ أَنْ لَا تُصَلِّيَ صَلَاةً إِلَّا ظَنَنْتَ أَنَّكَ لَا تُصَلِّي بَعْدَهَا غَيْرَهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ فُلَانًا - نَسِيَ عباد اسْمَهُ - مَا بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَرْعُدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَتِهِ، مَا مِنْهُمْ مَلَكٌ تَقْطُرُ دَمْعَةٌ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا وَقَعَتْ مَلَكًا يُسَبِّحُ، قَالَ: وَمَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ، وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَرُكُوعًا لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصُفُوفًا لَمْ يَنْصَرِفُوا عَنْ مَصَافِّهِمْ وَلَا يَنْصَرِفُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ كَمَا يَنْبَغِي لَكَ. أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي " الْعَظَمَةِ "، وَلَفْظُهُ: فَإِذَا رَفَعُوا وَنَظَرُوا إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ» . وَمِمَّنْ قَالَ بِرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْعَلَامَةُ شمس الدين بن القيم، وقاضي القضاة جلال الدين البلقيني، وَهُوَ الْأَرْجَحُ بِلَا شَكٍّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرَاهُ دُونَ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّهُ وَقَفَ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ رُؤْيَتُهُ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَمَشَى عَلَيْهِ أبو إسحاق إسماعيل الصفار البخاري مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ فِي أَسْئِلَتِهِ الْمَشْهُورَةِ مَا نَصُّهُ: سُئِلَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ هَلْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ؟ فَأَجَابَ: اعْتِمَادُ وَالِدِي الشَّهِيدِ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ سِوَى جِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ يَرَى رَبَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَرَى أَبَدًا، انْتَهَى. وَالصَّوَابُ الْعُمُومُ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ الحاكم فِي " الْمُسْتَدْرَكِ "، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ إبراهيم بن سعد، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ علي بن حسين، عَنْ جابر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُمَدُّ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَدًّا لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لِبَشَرٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أُدْعَى أَوَّلَ النَّاسِ، فَأَخِرُّ سَاجِدًا، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي، فَأَقُومُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَخْبَرَنِي هَذَا - لِجِبْرِيلَ وَهُوَ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهِ مَا رَآهُ جِبْرِيلُ قَبْلَهَا قَطُّ - أَنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ، قَالَ: وَجِبْرِيلُ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يَقُولَ اللَّهُ: صَدَقَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فِي الشَّفَاعَةِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ عِبَادُكَ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ، فَبِذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ» . قَالَ الحاكم: صَحِيحٌ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، قَالَ: لَكِنْ أَرْسَلَهُ معمر، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ علي بن حسين بِنَحْوِهِ، وَأَخْرَجَهُ الحاكم مِنْ طَرِيقِ ابن وهب، عَنْ يونس، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ علي بن حسين، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ [الْعِلْمِ]- وَلَمْ يَسَمِّهِ - «أَنَّ الْأَرْضَ تُمَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . . . الْحَدِيثَ. وَقَالَ عبد الرازق فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَا معمر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ علي بن الحسين، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَدَّ اللَّهُ الْأَرْضَ مَدَّ الْأَدِيمِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ، قَالَ: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى، وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، وَاللَّهِ مَا رَآهُ قَبْلَهَا، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ. ثُمَّ أَشْفَعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ» - أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، ثَنَا عَمِّي، ثَنَا إبراهيم بن سعد، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ علي بن حسين قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُمَدُّ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَدَّ الْأَدِيمِ لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ، وَلَا يَكُونُ لِبَشَرٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فِيهَا إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمِهِ، فَأُدْعَى أَوَّلَ النَّاسِ، فَأَخِرُّ سَاجِدًا، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَخْبَرَنِي هَذَا - لِجِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَاللَّهِ مَا رَآهُ جِبْرِيلُ قَطُّ قَبْلَهَا - إِنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ، وَجِبْرِيلُ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، حَتَّى يَقُولَ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: صَدَقْتَ، قَالَ: ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فِي الشَّفَاعَةِ، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ عِبَادُكَ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ» . الثَّالِثَةُ الْجِنُّ، وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ " آكَامِ الْمَرْجَانِ " مَقَالَةَ الشَّيْخِ عز الدين فِي الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ قَالَ: وَالْجِنُّ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْهُمْ. وَقَالَ الجلال البلقيني: لَمْ أَقِفْ عَلَى كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ تَثْبُتِ الرُّؤْيَةُ إِلَّا لِلْبَشَرِ، ثُمَّ نَقَلَ كَلَامَ الشيخ عز الدين فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَرَوْنَ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ فَفِي الْجِنِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَشْمَلُ مُؤْمِنِي الثَّقَلَيْنِ، ثُمَّ قَرَّرَ ثُبُوتَ الرُّؤْيَةِ لِلْمَلَائِكَةِ ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى مُقْتَضَى اسْتِدْلَالِ الْأَئِمَّةِ والأشعري تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ لِمُؤْمِنِي الْجِنِّ. الرَّابِعَةُ مُؤْمِنُو الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَفِيهِمُ احْتِمَالَانِ لابن أبي جمرة وَقَالَ: إِنَّ الْأَظْهَرَ مُسَاوَاتُهُمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَخْبَرَنَا الحسن بن إسماعيل، أَنَا أبو الحسن علي بن عبدة، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جابر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِلنَّاسِ عَامَّةً وَيَتَجَلَّى لأبي بكر خَاصَّةً» . فِي " الْمُغْنِي " للذهبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 - علي بن عبدة وَضَّاعٌ - وَقُلْتُمْ فِي تَأْلِيفِكُمُ " النُّكَتِ الْبَدِيعِيَّاتِ عَلَى الْمَوْضُوعَاتِ ": إِنَّ لِلْحَدِيثِ طَرِيقًا عَلَى شَرْطِ الحسن، وَأَخْرَجَهُ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِلَفْظِ: يَتَجَلَّى لِلْخَلَائِقِ، فَلِمَ لَمْ تَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ ذَيْنِكَ الْحَدِيثَيْنِ، وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الرُّؤْيَةِ لِبَنِي آدَمَ مُطْلَقًا، الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فِي الْعِيدِ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ لَا سِيَّمَا وَهُوَ حَسَنٌ. الْجَوَابُ: الِاسْتِدْلَالُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَطْرُقُهَا الِاحْتِمَالُ، وَمَتَى طَرَقَ اللَّفْظَ الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ، وَالْخَلَائِقُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بَنِي آدَمَ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ خُصُوصًا. وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ النَّاسِ الْخَاصِّ بِبَنِي آدَمَ، وَهَذَا التَّجَلِّي الْعَامُّ يُمْكِنُ حَمْلُهُ أَوَّلًا عَلَى الذُّكُورِ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الزِّيَارَةَ، فَيَكُونُ مِنْ خُصُوصِ الْأَفْرَادِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّجَلِّي أَيَّامَ الْأَعْيَادِ، فَيَكُونُ مِنْ خُصُوصِ الْأَوْقَاتِ وَيَشْمَلُ الْإِنَاثَ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - عَلَى التَّجَلِّي فِي الْمَوْقِفِ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلْخَلْقِ بِأَسْرِهِمْ: الْإِنْسِ، وَالْجِنِّ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالذُّكُورِ، وَالْإِنَاثِ، وَإِنْ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوِيَ هَذَا الْحَمْلُ الْأَخِيرُ فَانْزَاحَ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [مَسَالِكُ الْحُنَفَا فِي وَالِدَيِ الْمُصْطَفَى] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. مَسْأَلَةٌ: الْحُكْمُ فِي أَبَوَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا نَاجِيَانِ وَلَيْسَا فِي النَّارِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَهُمْ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ مَسَالِكُ: الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا مَاتَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَلَا تَعْذِيبَ قَبْلَهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَقَدْ أَطْبَقَتْ أَئِمَّتُنَا الْأَشَاعِرَةُ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ يَمُوتُ نَاجِيًا، وَأَنَّهُ لَا يُقَاتَلُ حَتَّى يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ إِذَا قُتِلَ يُضْمَنُ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ، بَلْ زَادَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَقَالَ: إِنَّهُ يَجِبُ فِي قَتْلِهِ الْقِصَاصُ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ حَقِيقِيٍّ، وَشَرْطُ الْقِصَاصِ الْمُكَافَأَةُ، وَقَدْ عَلَّلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَوْنَهُ إِذَا مَاتَ لَا يُعَذَّبُ بِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ عِنَادٌ، وَلَا جَاءَهُ رَسُولٌ فَكَذَّبَهُ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ شَيْخِنَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ شرف الدين المناوي، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ وَالِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هُوَ فِي النَّارِ؟ فَزَأَرَ فِي السَّائِلِ زَأْرَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: هَلْ ثَبَتَ إِسْلَامُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ، وَلَا تَعْذِيبَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَنَقَلَهُ سبط ابن الجوزي فِي كِتَابِ " مِرْآةِ الزَّمَانِ " عَنْ جَمَاعَةٍ، فَإِنَّهُ حَكَى كَلَامَ جَدِّهِ عَلَى حَدِيثِ إِحْيَاءِ أُمِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَالدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَمَا ذَنْبُهُمَا، وَجَزَمَ بِهِ الآبي فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ "، وَسَأَذْكُرُ عِبَارَتَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ أَحَادِيثُ، أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَآيَاتٌ مُشِيرَةٌ إِلَى عَدَمِ تَعْذِيبِهِمْ، وَإِلَى ذَلِكَ مَالَ حَافِظُ الْعَصْرِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أبو الفضل بن حجر فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، فَقَالَ: وَالظَّنُّ بِآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ الْبَعْثَةِ - أَنَّهُمْ يُطِيعُونَ عِنْدَ الِامْتِحَانِ إِكْرَامًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَالَ فِي " الْإِصَابَةِ ": وَرَدَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْهَرِمِ وَمَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ، وَمِنْ وُلِدَ أَكْمَهَ أَعْمَى أَصَمَّ، وَمَنْ وُلِدَ مَجْنُونًا أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُدْلِي بِحُجَّةٍ وَيَقُولُ: لَوْ عَقَلْتُ أَوْ ذُكِّرْتُ لَآمَنْتُ، فَتُرْفَعُ لَهُمْ نَارٌ وَيُقَالُ: ادْخُلُوهَا، فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ لَهُ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَمَنِ امْتَنَعَ أُدْخِلَهَا كُرْهًا، هَذَا مَعْنَى مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَقَدْ جَمَعْتُ طُرُقَهُ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ قَالَ: وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَدْخُلَ عبد المطلب وَآلُ بَيْتِهِ فِي جُمْلَةِ مَنْ يَدْخُلُهَا طَائِعًا فَيَنْجُوَ، إِلَّا أبا طالب؛ فَإِنَّهُ أَدْرَكَ الْبَعْثَةَ وَلَمْ يُؤْمِنْ، وَثَبَتَ أَنَّهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَقَدْ جُعِلَتْ قِصَّةُ الِامْتِحَانِ دَاخِلَةً فِي هَذَا الْمَسْلَكِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا مَسْلَكٌ مُسْتَقِلٌّ، لَكِنِّي وَجَدْتُ ذَلِكَ لِمَعْنًى دَقِيقٍ لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي التَّحْقِيقِ. ذِكْرُ الْآيَاتِ الْمُشِيرَةِ إِلَى ذَلِكَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي أَطْبَقَتْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي أَنَّهُ لَا تَعْذِيبَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَرَدُّوا بِهَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي تَحَكُّمِ الْعَقْلِ، أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمُعَذِّبٍ أَحَدًا حَتَّى يَسْبِقَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ خَبَرٌ، أَوْ تَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ بَيِّنَةٌ. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] أَوْرَدَ هَذِهِ الْآيَةَ الزركشي فِي " شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ " اسْتِدْلَالًا عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَقْلًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 بَلْ بِالسَّمْعِ. الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47] أَوْرَدَ هَذِهِ الزركشي أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ يَقُولُ: رَبِّ لَمْ يَأْتِنِي كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47] » . الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ يَقُولُ: رَبِّ لَمْ يَأْتِنِي كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا} [طه: 134] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 59] أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة فِي الْآيَةِ قَالَا: لَمْ يُهْلِكِ اللَّهُ مِلَّةً حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَذَّبُوا وَظَلَمُوا بِذَلِكَ هَلَكُوا. السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 155 - 156] . السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ - ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 208 - 209] . أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابن المنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا أَهْلَكَ اللَّهُ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَةِ وَالْعُذْرِ، حَتَّى يُرْسِلَ الرُّسُلَ، وَيُنَزِّلَ الْكُتُبَ، تَذْكِرَةً لَهُمْ وَمَوْعِظَةً، وَحُجَّةً لِلَّهِ، {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 209] ، يَقُولُ: مَا كُنَّا لِنُعَذِّبَهُمْ إِلَّا مِنَ الْبَيِّنَةِ وَالْحُجَّةِ. الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنَّذِيرِ فِي الْآيَةِ. ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ أَطَاعَ مِنْهُمْ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَى أُدْخِلَ النَّارَ. الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " كِتَابِ الِاعْتِقَادِ " وَصَحَّحَهُ، عَنِ الأسود بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 سريع، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا» . الْحَدِيثُ الثَّانِي: أَخْرَجَ أحمد وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، وابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الِاعْتِقَادِ "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرْبَعَةٌ يُمْتَحَنُونَ، فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ الأسود بن سريع سَوَاءً. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: أَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ، وَالْمَعْتُوهِ، وَالْمَوْلُودِ، فَيَقُولُ الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ: لَمْ يَأْتِنِي كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ، وَيَقُولُ الْمَعْتُوهُ: أَيْ رَبِّ، لَمْ تَجْعَلْ لِي عَقْلًا أَعْقِلُ بِهِ خَيْرًا وَلَا شَرًّا، وَيَقُولُ الْمَوْلُودُ: لَمْ أُدْرِكِ الْعَمَلَ، قَالَ: فَيُرْفَعُ لَهُمْ نَارٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ: رِدُوهَا - أَوْ قَالَ: ادْخُلُوهَا - فَيَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سَعِيدًا لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَلَ، وَيُمْسِكُ عَنْهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ شَقِيًّا لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَلَ، فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَإِيَّايَ عَصَيْتُمْ، فَكَيْفَ بِرُسُلِي بِالْغَيْبِ؟» فِي إِسْنَادِهِ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، فِيهِ ضِعْفٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ يُحَسِّنُ حَدِيثَهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَوَاهِدُ تَقْتَضِي الْحُكْمَ بِحُسْنِهِ وَثُبُوتِهِ. الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وأبو يعلى فِي مُسْنَدَيْهِمَا، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَرْبَعَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِالْمَوْلُودِ، وَالْمَعْتُوهِ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ وَبِالشَّيْخِ الْفَانِي، كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِعُنُقٍ مِنْ جَهَنَّمَ: ابْرُزِي، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي كُنْتُ أَبْعَثُ إِلَى عِبَادِي رُسُلًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنِّي رَسُولُ نَفْسِي إِلَيْكُمْ، ادْخُلُوا هَذِهِ، فَيَقُولُ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاءَ: يَا رَبِّ أَتُدْخِلُنَاهَا وَمِنْهَا كُنَّا نَفْرَقُ، وَمَنْ كَتَبَ لَهُ السَّعَادَةَ فَيَمْضِي فَيَقْتَحِمُ فِيهَا مُسْرِعًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: قَدْ عَصَيْتُمُونِي فَأَنْتُمْ لِرُسُلِي أَشَدُّ تَكْذِيبًا وَمَعْصِيَةً، فَيَدْخُلُ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ، وَهَؤُلَاءِ النَّارَ» . الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: أَخْرَجَ عبد الرزاق، وَابْنُ جَرِيرٍ، وابن المنذر، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَمَعَ اللَّهُ أَهْلَ الْفَتْرَةِ، وَالْمَعْتُوهَ، وَالْأَصَمَّ، وَالْأَبْكَمَ، وَالشُّيُوخَ الَّذِينَ لَمْ يُدْرِكُوا الْإِسْلَامَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، فَيَقُولُونَ: كَيْفَ وَلَمْ تَأْتِنَا رُسُلٌ؟ قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ، فَيُطِيعُهُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُطِيعَهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] » إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ. الْحَدِيثُ السَّادِسُ: أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، والحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَاءَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَحْمِلُونَ أَوْثَانَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ تُرْسِلْ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَلَمْ يَأْتِنَا لَكَ أَمْرٌ، وَلَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا لَكُنَّا أَطْوَعَ عِبَادِكَ، فَيَقُولُ لَهُمْ رَبُّهُمْ: أَرَيْتُكُمْ إِنْ أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ تُطِيعُونِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَعْمِدُوا إِلَى جَهَنَّمَ فَيَدْخُلُوهَا، فَيَنْطَلِقُونَ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَجَدُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، فَرَجَعُوا إِلَى رَبِّهِمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَجِرْنَا مِنْهَا، فَيَقُولُ لَهُمْ: أَلَمْ تَزْعُمُوا أَنِّي إِنْ أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ تُطِيعُونِي؟ فَيَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ مَوَاثِيقَهُمْ فَيَقُولُ: اعْمَدُوا إِلَيْهَا فَادْخُلُوهَا، فَيَنْطَلِقُونَ حَتَّى إِذَا رَأَوْهَا فَرِقُوا وَرَجَعُوا فَقَالُوا: رَبَّنَا فَرِقْنَا مِنْهَا، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَدْخُلَهَا، فَيَقُولُ: ادْخُلُوهَا دَاخِرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ دَخَلُوهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا» . قَالَ الحاكم: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. الْحَدِيثُ السَّابِعُ: أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وأبو نعيم، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْمَمْسُوخِ عَقْلًا، وَبِالْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ، وَبِالْهَالِكِ صَغِيرًا، فَيَقُولُ الْمَمْسُوخُ عَقْلًا: يَا رَبِّ لَوْ آتَيْتَنِي عَقْلًا مَا كَانَ مَنْ آتَيْتَهُ عَقْلًا بِأَسْعَدَ بِعَقْلِهِ مِنِّي، وَذَكَرَ فِي الْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ وَالصَّغِيرِ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ الرَّبُّ: إِنِّي آمِرُكُمْ بِأَمْرٍ فَتُطِيعُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: وَلَوْ دَخَلُوهَا مَا ضَرَّتْهُمْ، فَتَخْرُجُ عَلَيْهِمْ فَرَائِصَ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا قَدْ أَهْلَكَتْ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، فَيَرْجِعُونَ سِرَاعًا، ثُمَّ يَأْمُرُهُمُ الثَّانِيَةَ فَيَرْجِعُونَ كَذَلِكَ، فَيَقُولُ الرَّبُّ: قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكُمْ عَلِمْتُ مَا أَنْتُمْ عَامِلُونَ، وَعَلَى عِلْمِي خَلَقْتُكُمْ، وَإِلَى عِلْمِي تَصِيرُونَ، ضُمِّيهِمْ، فَتَأْخُذَهُمْ» . قَالَ الْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْأَلَةِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ آرَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ قَاطِبَةً أَنَّهُ لَا مَدْرَكَ لِلْأَحْكَامِ سِوَى الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ، وَلَا يُتَلَقَّى حُكْمٌ مِنْ قَضِيَّاتِ الْعُقُولِ، فَأَمَّا مَنْ عَدَا أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ، كَالرَّافِضَةِ، وَالْكَرَّامِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ مُنْقَسِمَةٌ، فَمِنْهَا مَا يُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ، وَمِنْهَا مَا يُتَلَقَّى مِنْ قَضِيَّاتِ الْعُقُولِ، قَالَ: وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ، فَإِذَا ظَهَرَ وَأَقَامَ الْمُعْجِزَةَ تَمَكَّنَ الْعَاقِلُ مِنَ النَّظَرِ، فَنَقُولُ: لَا يُعْلَمُ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ إِلَّا بِالسَّمْعِ، فَإِذَا جَاءَ الرَّسُولُ وَجَبَ عَلَيْهِ النَّظَرُ، وَعِنْدَ هَذَا يَسْأَلُ الْمُسْتَطْرِفُونَ: مَا الْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ النَّظَرَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ طَاعَةٌ وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ لِلْمَعْرِفَةِ، فَهُوَ مُطِيعٌ وَلَيْسَ بِمُتَقَرِّبٍ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 يَتَقَرَّبُ إِلَى مَنْ يَعْرِفُهُ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ شَيْئًا حَسَنًا، فَقَالَ: قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ تَتَعَارَضُ الْخَوَاطِرُ وَالطُّرُقُ، إِذْ مَا مِنْ خَاطِرٍ يَعْرِضُ لَهُ إِلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ أَنْ يَخْطُرَ خَاطِرٌ آخَرُ عَلَى نَقِيضِهِ، فَتَتَعَارَضُ الْخَوَاطِرُ وَيَقَعُ الْعَقْلُ فِي حَيْرَةٍ وَدَهْشَةٍ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ إِلَى أَنْ تَنْكَشِفَ الْغُمَّةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِمَجِيءِ الرَّسُولِ، وَهَاهُنَا قَالَ الأستاذ أبو إسحاق: إِنَّ قَوْلَ " لَا أَدْرِي " نِصْفُ الْعِلْمِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ انْتَهَى عِلْمِي إِلَى حَدٍّ وَقَفَ عِنْدَ مَجَازِهِ الْعَقْلُ - وَهَذَا إِنَّمَا يَقُولُهُ مَنْ دَقَّقَ فِي الْعِلْمِ وَعَرَفَ مَجَارِيَ الْعَقْلِ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ وَيَقِفُ عِنْدَهُ. انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ فخر الدين الرازي فِي " الْمَحْصُولِ ": شُكْرُ الْمُنْعِمِ لَا يَجِبُ عَقْلًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ؛ لَنَا أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ الْوُجُوبُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَعُذِّبَ تَارِكُهُ، فَلَا وُجُوبَ. أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَبَيِّنَةٌ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا تَعْذِيبَ فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] نَفَى التَّعْذِيبَ إِلَى غَايَةِ الْبَعْثَةِ فَيَنْتَفِي، وَإِلَّا وَقَعَ الْخُلْفُ فِي قَوْلِ اللَّهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، انْتَهَى. وَذَكَرَ أَتْبَاعُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، كَصَاحِبِ " الْحَاصِلِ وَالتَّحْصِيلِ "، وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي تاج الدين السبكي فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ ابن الحاجب عَلَى مَسْأَلَةِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ: تَتَخَرَّجُ مَسْأَلَةُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، فَعِنْدَنَا يَمُوتُ نَاجِيًا وَلَا يُقَاتَلُ حَتَّى يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي " التَّهْذِيبِ ": أَمَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَجَبَ فِي قَتْلِهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِقَتْلِهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِعَقْلِهِ، وَعِنْدَنَا هُوَ غَيْرُ مَحْجُوجٍ عَلَيْهِ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ، انْتَهَى. وَقَالَ الرافعي فِي الشَّرْحِ: مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ الْإِعْلَامِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قُتِلَ كَانَ مَضْمُونًا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَبُنِيَ الْخِلَافُ عَلَى أَنَّهُ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَى لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَلَا تَتَوَجَّهُ الْمُؤَاخَذَةُ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] انْتَهَى. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْبَسِيطِ ": مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ يُضْمَنُ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ لَا بِالْقِصَاصِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْلِمًا عَلَى التَّحْقِيقِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمُسْلِمِ. وَقَالَ ابن الرفعة فِي " الْكِفَايَةِ ": لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ عَلَى الْفِطْرَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عِنَادٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَقَالَ النووي فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " فِي مَسْأَلَةِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ: الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] قَالَ: وَإِذَا كَانَ لَا يُعَذَّبُ الْبَالِغُ لِكَوْنِهِ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى، انْتَهَى. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الْمَسْلَكُ الَّذِي قَرَّرْتَهُ هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كُلِّهِمْ؟ قُلْتُ: لَا، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ أَصْلًا، أَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُ مِنْهُمْ دَعْوَةُ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ ثُمَّ أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ قَطْعًا، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ. وَأَمَّا الْأَبَوَانِ الشَّرِيفَانِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِمَا مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ عَدَمِ بُلُوغِهِمَا دَعْوَةُ أَحَدٍ، وَذَلِكَ لِمَجْمُوعِ أُمُورٍ: تَأَخُّرِ زَمَانِهِمَا، وَبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، فَإِنَّ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتِ الْفَتْرَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا نَحْوَ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُمَا كَانَا فِي زَمَنِ جَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ طَبَّقَ الْجَهْلُ الْأَرْضَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَفُقِدَ مَنْ يُعَرِّفُ الشَّرَائِعَ وَيُبَلِّغُ الدَّعْوَةَ عَلَى وَجْهِهَا، إِلَّا نَفَرًا يَسِيرًا مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُفَرَّقِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، كَالشَّامِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يُعْهَدْ لَهُمَا تَقَلُّبٌ فِي الْأَسْفَارِ سِوَى إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا عَمَّرَا عُمْرًا طَوِيلًا بِحَيْثُ يَقَعُ لَهُمَا فِيهِ التَّنْقِيبُ وَالتَّفْتِيشُ، فَإِنَّ وَالِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعِشْ مِنَ الْعُمْرِ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ الْإِمَامُ الحافظ صلاح الدين العلائي فِي كِتَابِهِ " الدُّرَّةِ السَّنِيَّةِ فِي مَوْلِدِ سَيِّدِ الْبَرِيَّةِ ": كَانَ سِنُّ عبد الله حِينَ حَمَلَتْ مِنْهُ آمنة بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَمْتَارَ مِنْهَا تَمْرًا لِأَهْلِهِ، فَمَاتَ بِهَا عِنْدَ أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْلٌ عَلَى الصَّحِيحِ، انْتَهَى. وَأُمُّهُ قَرِيبَةٌ مِنْ ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَهِيَ امْرَأَةٌ مَصُونَةٌ مُحَجَّبَةٌ فِي الْبَيْتِ عَنِ الِاجْتِمَاعِ بِالرِّجَالِ، وَالْغَالِبُ عَلَى النِّسَاءِ أَنَّهُنَّ لَا يَعْرِفْنَ مَا الرِّجَالُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدِّيَانَاتِ وَالشَّرَائِعِ، خُصُوصًا فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي رِجَالُهُ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ نِسَائِهِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجَّبَ مِنْ بَعْثَتِهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَقَالُوا: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94] . وَقَالُوا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24] . فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ مِنْ بَعْثَةِ الرُّسُلِ مَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَرُبَّمَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بُعِثَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا مَنْ يُبَلِّغُهُمْ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى وَجْهِهَا؛ لِدُثُورِهَا وَفَقْدِ مَنْ يَعْرِفُهَا، إِذْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ أَزْيَدُ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ، فَاتَّضَحَ بِذَلِكَ صِحَّةُ دُخُولِهِمَا فِي هَذَا الْمَسْلَكِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّيْخَ عز الدين بن عبد السلام قَالَ فِي أَمَالِيهِ مَا نَصُّهُ: كُلُّ نَبِيٍّ إِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ، إِلَّا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا عَدَا قَوْمَ كُلِّ نَبِيٍّ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ إِلَّا ذُرِّيَّةَ النَّبِيِّ السَّابِقِ، فَإِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِبَعْثَةِ السَّابِقِ، إِلَّا أَنْ تَدْرُسَ شَرِيعَةُ السَّابِقِ فَيَصِيرَ الْكُلُّ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ. هَذَا كَلَامُهُ، فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ ذُرِّيَّةِ عِيسَى وَلَا مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ يُرَشِّحُ مَا قَالَ حَافِظُ الْعَصْرِ أبو الفضل بن حجر: إِنَّ الظَّنَّ بِهِمَا أَنْ يُطِيعَا عِنْدَ الِامْتِحَانِ - أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَخْرَجَهُ الحاكم فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ: لَمْ أَرَ رَجُلًا كَانَ أَكْثَرَ سُؤَالًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَبَوَاكَ فِي النَّارِ؟ فَقَالَ: مَا سَأَلْتُهُمَا رَبِّي فَيُطِيعَنِي فِيهِمَا، وَإِنِّي لَقَائِمٌ يَوْمَئِذٍ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ. فَهَذَا الْحَدِيثُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَرْتَجِي لَهُمَا الْخَيْرَ عِنْدَ قِيَامِهِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْفَعَ لَهُمَا فَيُوَفَّقَا لِلطَّاعَةِ إِذَا امْتُحِنَا حِينَئِذٍ كَمَا يُمْتَحَنُ أَهْلُ الْفَتْرَةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ عِنْدَ قِيَامِهِ ذَلِكَ الْمَقَامَ: سَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَإِذَا سَأَلَ ذَلِكَ أُعْطِيَهُ» . الْأَمْرُ الثَّانِي مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] قَالَ: مِنْ رِضَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ النَّارَ؛ وَلِهَذَا عَمَّمَ الحافظ ابن حجر فِي قَوْلِهِ: الظَّنُّ بِآلِ بَيْتِهِ كُلِّهِمْ أَنْ يُطِيعُوا عِنْدَ الِامْتِحَانِ. وَحَدِيثٌ ثَالِثٌ: أَخْرَجَ أبو سعيد فِي شَرَفِ النُّبُوَّةِ وَالْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُدْخِلَ النَّارَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَأَعْطَانِي ذَلِكَ» . أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ محب الدين الطبري فِي كِتَابِهِ " ذَخَائِرِ الْعُقْبَى ". وَحَدِيثٌ رابع أَصْرَحُ مِنْ هَذَيْنِ: أَخْرَجَ تمام الرازي فِي فَوَائِدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعْتُ لِأَبِي وَأُمِّي وَعَمِّي أبي طالب وَأَخٍ لِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» . أَوْرَدَهُ المحب الطبري - وَهُوَ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ - فِي كِتَابِهِ " ذَخَائِرِ الْعُقْبَى فِي مَنَاقِبِ ذَوِي الْقُرْبَى " وَقَالَ: إِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ فِي أبي طالب عَلَى مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ بِشَفَاعَتِهِ، انْتَهَى. وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى تَأْوِيلِهِ فِي أبي طالب دُونَ الثَّلَاثَةِ: أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ - يَعْنِي مِنَ الرَّضَاعَةِ - لِأَنَّ أبا طالب أَدْرَكَ الْبَعْثَةَ وَلَمْ يُسْلِمْ، وَالثَّلَاثَةُ مَاتُوا فِي الْفَتْرَةِ. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَضْعَفَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ أبو نعيم وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْأَخَ مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَهَذِهِ أَحَادِيثُ عِدَّةٌ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يَتَقَوَّى بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَأَمْثَلُهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّ الحاكم صَحَّحَهُ، وَمِمَّا يُرَشِّحُ مَا نَحْنُ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: ثَنَا القاسم بن هاشم السمسار، ثَنَا مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّمْلِيُّ، عَنْ أبي معشر، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأَلْتُ رَبِّي أَبْنَاءَ الْعِشْرِينَ مِنْ أُمَّتِي فَوَهَبَهُمْ لِي» . وَمِمَّا يَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْمَقْصُودِ - مَا أَخْرَجَهُ الديلمي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَنْ أَشْفَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَهْلُ بَيْتِي، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ» . وَمَا أَوْرَدَهُ المحب الطبري فِي ذَخَائِرِ الْعُقْبَى، وَعَزَاهُ لأحمد فِي الْمَنَاقِبِ، عَنْ علي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيًّا، لَوْ أَخَذْتُ بِحَلْقَةِ الْجَنَّةِ مَا بَدَأْتُ إِلَّا بِكُمْ» . وَهَذَا أَخْرَجَهُ الخطيب فِي تَارِيخِهِ، مِنْ حَدِيثِ يغنم عَنْ أَنَسٍ. وَمَا أَوْرَدَهُ أَيْضًا وَعَزَاهُ لِابْنِ الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَحِمِي لَا يَنْتَفِعُ، بَلَى حَتَّى تَبْلُغَ حَكَمَ - وَهُمْ أَحَدُ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْيَمَنِ - إِنِّي لَأَشْفَعُ فَأُشَفَّعُ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَشْفَعُ لَهُ لَيَشْفَعُ فَيُشَفَّعُ، حَتَّى إِنَّ إِبْلِيسَ لَيَتَطَاوَلُ طَمَعًا فِي الشَّفَاعَةِ» . وَنَحْوُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أم هانئ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ شَفَاعَتِي لَا تَنَالُ أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّ شَفَاعَتِي تَنَاوَلُ حَاءَ وَحَكَمَ» . لَطِيفَةٌ: نَقَلَ الزركشي فِي " الْخَادِمِ "، عَنِ ابن دحية، أَنَّهُ جَعَلَ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّفَاعَاتِ التَّخْفِيفَ عَنْ أبي لهب فِي كُلِّ يَوْمِ اثْنَيْنِ؛ لِسُرُورِهِ بِوِلَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِعْتَاقِهِ ثويبة حِينَ بُشِّرَ بِهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا هِيَ كَرَامَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَنْبِيهٌ: ثُمَّ رَأَيْتُ الْإِمَامَ أبا عبد الله محمد بن خلف الأبي، بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " عِنْدَ حَدِيثِ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» . فَأَوْرَدَ قَوْلَ النووي فِيهِ، أَنَّ مَنْ مَاتَ كَافِرًا فِي النَّارِ، وَلَا تَنْفَعُهُ قَرَابَةُ الْأَقْرَبِينَ، ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: انْظُرْ هَذَا الْإِطْلَاقَ. وَقَدْ قَالَ السهيلي: لَيْسَ لَنَا أَنْ نَقُولَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ بِسَبِّ الْأَمْوَاتِ» . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وَلَعَلَّهُ يَصِحُّ مَا جَاءَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، فَأَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ، فَآمَنَا بِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ هَذَا، وَلَا يُعْجِزُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ أَوْرَدَ قَوْلَ النووي، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي النَّارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّعْذِيبِ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ، ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: تَأَمَّلْ مَا فِي كَلَامِهِ مِنَ التَّنَافِي؛ فَإِنَّ مَنْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَى لَيْسُوا بِأَهْلِ فَتْرَةٍ، فَإِنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ هُمُ الْأُمَمُ الْكَائِنَةُ بَيْنَ أَزْمِنَةِ الرُّسُلِ، الَّذِينَ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمُ الْأَوَّلُ وَلَا أَدْرَكُوا الثَّانِيَ، كَالْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ عِيسَى وَلَا لَحِقُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْفَتْرَةُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ تَشْمَلُ مَا بَيْنَ كُلِّ رَسُولَيْنِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي الْفَتْرَةِ فَإِنَّمَا يَعْنُونَ الَّتِي بَيْنَ عِيسَى وَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا دَلَّتِ الْقَوَاطِعُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعْذِيبَ حَتَّى تَقُومَ الْحُجَّةُ، عَلِمْنَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُعَذَّبِينَ، فَإِنْ قُلْتَ: صَحَّتْ أَحَادِيثُ بِتَعْذِيبِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ كَصَاحِبِ الْمِحْجَنِ وَغَيْرِهِ. قُلْتُ: أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ، فَلَا تُعَارِضُ الْقَاطِعَ. الثَّانِي: قَصْرُ التَّعْذِيبِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّبَبِ. الثَّالِثُ: قَصْرُ التَّعْذِيبِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ الشَّرَائِعَ، وَشَرَعَ مِنَ الضَّلَالِ مَا لَا يُعْذَرُ بِهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَنْ أَدْرَكَ التَّوْحِيدَ بِبَصِيرَتِهِ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَرِيعَتِهِ، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ فِي شَرِيعَةِ حَقٍّ قَائِمَةِ الرَّسْمِ، كتبع وَقَوْمِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ بَدَّلَ، وَغَيَّرَ، وَأَشْرَكَ وَلَمْ يُوَحِّدْ، وَشَرَعَ لِنَفْسِهِ فَحَلَّلَ وَحَرَّمَ - وَهُمُ الْأَكْثَرُ - كعمرو بن لحي أَوَّلِ مَنْ سَنَّ لِلْعَرَبِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَشَرَعَ الْأَحْكَامَ، فَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ، وَزَادَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مَا شَرَعَهُ أَنْ عَبَدُوا الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ، وَحَرَقُوا الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَاتَّخَذُوا بُيُوتًا جَعَلُوا لَهَا سَدَنَةً وَحُجَّابًا يُضَاهُونَ بِهَا الْكَعْبَةَ، كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ لَمْ يُشْرِكْ، وَلَمْ يُوَحِّدْ، وَلَا دَخَلَ فِي شَرِيعَةِ نَبِيٍّ، وَلَا ابْتَكَرَ لِنَفْسِهِ شَرِيعَةً، وَلَا اخْتَرَعَ دِينًا، بَلْ بَقِيَ عُمْرَهُ عَلَى حَالِ غَفْلَةٍ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَفِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِذَا انْقَسَمَ أَهْلُ الْفَتْرَةِ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْأَقْسَامِ فَيُحْمَلُ مَنْ صَحَّ تَعْذِيبُهُ عَلَى أَهْلِ الْقِسْمِ الثَّانِي؛ لِكُفْرِهِمْ بِمَا لَا يُعَذَّبُونَ بِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَهُمْ أَهْلُ الْفَتْرَةِ حَقِيقَةً، وَهُمْ غَيْرُ مُعَذَّبِينَ لِلْقَطْعِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلٍّ مِنْ قس وزيد: إِنَّهُ يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ. وَأَمَّا تبع وَنَحْوُهُ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِيهِ، مَا لَمْ يَلْحَقْ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْإِسْلَامَ النَّاسِخَ لِكُلِّ دِينٍ. انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ الْأَبِّيُّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمَا شِرْكٌ بَلْ كَانَا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ جَدِّهِمَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، كزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا الْمَسْلَكُ ذَهَبَتْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ فخر الدين الرازي: فَقَالَ فِي كِتَابِهِ " أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ " مَا نَصُّهُ: قِيلَ: إِنْ آزر لَمْ يَكُنْ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ، بَلْ كَانَ عَمَّهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ آبَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا كُفَّارًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ - وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 - 219] قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْقُلُ نُورَهُ مِنْ سَاجِدٍ إِلَى سَاجِدٍ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ آبَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، إِنَّمَا ذَاكَ عَمُّهُ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] عَلَى وُجُوهٍ أُخْرَى. وَإِذَا وَرَدَتِ الرِّوَايَاتُ بِالْكُلِّ - وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا - وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكُلِّ، وَمَتَى صَحَّ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آبَاءَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ» . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ أَجْدَادِهِ مُشْرِكًا - هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ فخر الدين بِحُرُوفِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِمَامَةً وَجَلَالَةً، فَإِنَّهُ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَالْقَائِمُ بِالرَّدِّ عَلَى فِرَقِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي وَقْتِهِ، وَالنَّاصِرُ لِمَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ فِي عَصْرِهِ، وَهُوَ الْعَالِمُ الْمَبْعُوثُ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ لِيُجَدِّدَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْرَ دِينِهَا. وَعِنْدِي فِي نُصْرَةِ هَذَا الْمَسْلَكِ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ فخر الدين أُمُورٌ: أَحَدُهَا: دَلِيلٌ اسْتَنْبَطْتُهُ مُرَكَّبٌ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، الْأُولَى: أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ [دَلَّتْ] عَلَى أَنَّ كُلَّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آدَمَ إِلَى أَبِيهِ عبد الله، فَهُوَ مِنْ خَيْرِ أَهْلِ قَرْنِهِ وَأَفْضَلِهِمْ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَخْلُ الْأَرْضُ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ أَوْ آدَمَ إِلَى بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ مِنْ نَاسٍ عَلَى الْفِطْرَةِ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُوَحِّدُونَهُ، وَيُصَلُّونَ لَهُ، وَبِهِمْ تُحْفَظُ الْأَرْضُ، وَلَوْلَاهُمْ لَهَلَكَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَإِذَا قَارَنْتَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، أُنْتِجَ مِنْهَا قَطْعًا أَنَّ آبَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُشْرِكٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي كُلٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُ مِنْ خَيْرِ قَرْنِهِ، فَإِنْ كَانَ النَّاسُ الَّذِينَ هُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ هُمْ إِيَّاهُمْ فَهُوَ الْمُدَّعَى، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَهُمْ وَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْرِكُ خَيْرًا مِنَ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِمُخَالَفَةِ الْأَحَادِيثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الصَّحِيحَةِ، فَوَجَبَ قَطْعًا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ مُشْرِكٌ؛ لِيَكُونُوا مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلٌّ فِي قَرْنِهِ. ذِكْرُ أَدِلَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى بُعِثْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ "، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِرْقَتَيْنِ إِلَّا جَعَلَنِي اللَّهُ فِي خَيْرِهِمَا، فَأُخْرِجْتُ مِنْ بَيْنِ أَبَوَيَّ، فَلَمْ يُصِبْنِي شَيْءٌ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَخَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي وَأُمِّي، فَأَنَا خَيْرُكُمْ نَفْسًا وَخَيْرُكُمْ أَبًا» . وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " مِنْ طُرُقٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَزَلِ اللَّهُ يَنْقُلُنِي مِنَ الْأَصْلَابِ الطَّيِّبَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ مُصَفًّى مُهَذَّبًا، لَا تَنْشَعِبُ شُعْبَتَانِ إِلَّا كُنْتُ فِي خَيْرِهِمَا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ فِي فَضَائِلِ العباس، مِنْ حَدِيثِ واثلة بِلَفْظِ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِبْرَاهِيمَ وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ نِزَارَ، ثُمَّ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ نِزَارَ مُضَرَ، ثُمَّ اصْطَفَى مِنْ مُضَرَ كِنَانَةَ، ثُمَّ اصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، ثُمَّ اصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ اصْطَفَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ اصْطَفَانِي مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» . أَوْرَدَهُ المحب الطبري فِي " ذَخَائِرِ الْعُقْبَى ". وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي طَبَقَاتِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْعَرَبِ مُضَرُ، وَخَيْرُ مُضَرَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، [وَخَيْرُ بَنِي مَنَافٍ] بَنُو هَاشِمٍ، وَخَيْرُ بَنِي هَاشِمٍ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاللَّهِ مَا افْتَرَقَ فِرْقَتَانِ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ إِلَّا كُنْتُ فِي خَيْرِهِمَا» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وأبو نعيم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَاخْتَارَ مِنَ الْخَلْقِ بَنِي آدَمَ، وَاخْتَارَ مِنْ بَنِي آدَمَ الْعَرَبَ، وَاخْتَارَ مِنَ الْعَرَبِ مُضَرَ، وَاخْتَارَ مِنْ مُضَرَ قُرَيْشًا، وَاخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاخْتَارَنِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَأَنَا مِنْ خِيَارٍ إِلَى خِيَارٍ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حِينَ خَلَقَنِي جَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ، ثُمَّ حِينَ خَلَقَ الْقَبَائِلَ جَعَلَنِي مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً، وَحِينَ خَلَقَ الْأَنْفُسَ جَعَلَنِي مَنْ خَيْرِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ حِينَ خَلَقَ الْبُيُوتَ جَعَلَنِي مَنْ خَيْرِ بُيُوتِهِمْ، فَأَنَا خَيْرُهُمْ بَيْتًا وَخَيْرُهُمْ نَفْسًا» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وأبو نعيم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمَا قِسْمًا، ثُمَّ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ أَثْلَاثًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا ثُلُثًا، ثُمَّ جَعَلَ الْأَثْلَاثَ قَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا، ثُمَّ جَعَلَ الْقَبَائِلَ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا بَيْتًا» . وَأَخْرَجَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ فِيمَا أَوْرَدَهُ المحب الطبري فِي " ذَخَائِرِ الْعُقْبَى "، وَهُوَ فِي " مُسْنَدَ الْبَزَّارِ "، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «دَخَلَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى صفية بنت عبد المطلب، فَجَعَلُوا يَتَفَاخَرُونَ وَيَذْكُرُونَ الْجَاهِلِيَّةَ، فَقَالَتْ صفية: مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: تَنْبُتُ النَّخْلَةُ أَوِ الشَّجَرَةُ فِي الْأَرْضِ الْكِبَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ صفية لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ وَأَمَرَ بلالا فَنَادَى فِي النَّاسِ، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: انْسُبُونِي. قَالُوا: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يُنْزِلُونَ أَصْلِي؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَفْضَلُهُمْ أَصْلًا وَخَيْرُهُمْ مَوْضِعًا» . وَأَخْرَجَ الحاكم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قَوْمًا نَالُوا مِنْهُ فَقَالُوا: إِنَّمَا مَثَلُ مُحَمَّدٍ كَمَثَلِ نَخْلَةٍ نَبَتَتْ فِي كُنَاسٍ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ الْفِرْقَتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلًا، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، ثُمَّ قَالَ: أَنَا خَيْرُكُمْ قَبِيلًا وَخَيْرُكُمْ بَيْتًا» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي " الْأَوْسَطِ " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ "، عَنْ عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ: قَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، فَلَمْ أَجِدْ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» . قَالَ الحافظ ابن حجر فِي أَمَالِيهِ: لَوَائِحُ الصِّحَّةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى صَفَحَاتِ هَذَا الْمَتْنِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ وَالِاصْطِفَاءَ وَالِاخْتِيَارَ مِنَ اللَّهِ، وَالْأَفْضَلِيَّةَ عِنْدَهُ لَا تَكُونُ مَعَ الشِّرْكِ. ذِكْرُ أَدِلَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ: قَالَ عبد الرزاق فِي " الْمُصَنَّفِ "، عَنْ معمر، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَمْ يَزَلْ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ فِي الْأَرْضِ سَبْعَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 مُسْلِمُونَ فَصَاعِدًا فَلَوْلَا ذَلِكَ هَلَكَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا - هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ - وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الدبري عَنْ عبد الرزاق. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَمْ تَبْقَ الْأَرْضُ إِلَّا وَفِيهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَتَخْرُجُ بَرَكَتُهَا إِلَّا زَمَنَ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ. وَأَخْرَجَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] الْآيَةَ، قَالَ: مَا زَالَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ أَوْلِيَاءُ مُنْذُ هَبَطَ آدَمُ، مَا أَخْلَى اللَّهُ الْأَرْضَ لِإِبْلِيسَ إِلَّا وَفِيهَا أَوْلِيَاءُ لَهُ يَعْمَلُونَ لِلَّهِ بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَى ابن القاسم عَنْ مالك قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَزَالُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ وَلِيٌّ مَا دَامَ فِيهَا لِلشَّيْطَانِ وَلِيٌّ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الزُّهْدِ، والخلال فِي كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَا خَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ مِنْ سَبْعَةٍ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ " هَذَا أَيْضًا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ. وَأَخْرَجَ الأزرقي فِي تَارِيخِ مَكَّةَ عَنْ زهير بن محمد قَالَ: لَمْ يَزَلْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ سَبْعَةٌ مُسْلِمُونَ فَصَاعِدًا لَوْلَا ذَلِكَ لَأُهْلِكَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ الجندي فِي فَضَائِلِ مَكَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمْ يَزَلْ عَلَى الْأَرْضِ سَبْعَةٌ مُسْلِمُونَ فَصَاعِدًا، لَوْلَا ذَلِكَ هَلَكَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أحمد فِي الزُّهْدِ عَنْ كعب قَالَ: لَمْ يَزَلْ بَعْدَ نُوحٍ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يُدْفَعُ بِهِمُ الْعَذَابُ. وَأَخْرَجَ الخلال فِي كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ زَاذَانَ قَالَ: مَا خَلَتِ الْأَرْضُ بَعْدَ نُوحٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ فَصَاعِدًا يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] قَالَ: فَلَنْ يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسٌ عَلَى الْفِطْرَةِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّقْيِيدُ فِي هَذِهِ الْآثَارِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَبْلِ نُوحٍ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى الْهُدَى. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وابن المنذر، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، والحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ". وَأَخْرَجَ أبو يعلى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] قَالَ: عَلَى الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْهُدَى وَعَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا، وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى آدَمَ مِنَ الْآبَاءِ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابن سعد مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عكرمة قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِي التَّنْزِيلِ حِكَايَةٌ عَنْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28] وَوَلَدُ نُوحٍ سام مُؤْمِنٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ؛ لِأَنَّهُ نَجَا مَعَ أَبِيهِ فِي السَّفِينَةِ وَلَمْ يَنْجُ فِيهَا إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] بَلْ وَرَدَ فِي أَثَرٍ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، أَخْرَجَهُ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي الْمُوَفَقِيَّاتِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنِ الكلبي، وَوَلَدُهُ أرفخشد صُرِّحَ بِإِيمَانِهِ فِي أَثَرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابن عبد الحكم فِي تَارِيخِ مِصْرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَدْرَكَ جَدَّهُ نُوحًا وَأَنَّهُ دَعَا لَهُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ فِي وَلَدِهِ وَلَدِ أرفخشد إِلَى تارح، وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِإِيمَانِهِمْ فِي أَثَرٍ، وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ طَرِيقِ الكلبي عَنْ أبي صالح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا هَبَطَ مِنَ السَّفِينَةِ هَبَطَ إِلَى قَرْيَةٍ فَبَنَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَيْتًا فَسُمِّيَتْ سُوقَ الثَمَانِينَ فَغَرِقَ بَنُو قَابِيلَ كُلُّهُمْ، وَمَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى آدَمَ مِنَ الْآبَاءِ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا ضَاقَتْ بِهِمْ سُوقُ الثَمَانِينَ تَحَوَّلُوا إِلَى بَابِلَ فَبَنَوْهَا فَكَثُرُوا بِهَا حَتَّى بَلَغُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَزَالُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ بِبَابِلَ حَتَّى مَلَكَهُمْ نمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، فَدَعَاهُمْ نمروذ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَفَعَلُوا، هَذَا لَفْظُ هَذَا الْأَثَرِ. فَعُرِفَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْآثَارِ أَنَّ أَجْدَادَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِيَقِينٍ مِنْ آدَمَ إِلَى زَمَنِ نمروذ، وَفِي زَمَنِهِ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وآزر، فَإِنْ كَانَ آزر وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ فَيُسْتَثْنَى مِنْ سِلْسِلَةِ النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَ عَمَّهُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ، وَهَذَا الْقَوْلُ - أَعْنِي أَنْ آزر لَيْسَ أَبَا إِبْرَاهِيمَ - وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 قَالَ: إِنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ آزر وَإِنَّمَا كَانَ اسْمُهُ تارح، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وابن المنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ - بَعْضُهَا صَحِيحٌ - عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَيْسَ آزر أَبَا إِبْرَاهِيمَ. وَأَخْرَجَ ابن المنذر بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74] ، قَالَ: لَيْسَ آزر بِأَبِيهِ إِنَّمَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَيْرَحَ - أَوْ تَارَحَ - بْنِ شَارُوخَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ فَالِخٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ اسْمُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ آزر، فَقَالَ: بَلِ اسْمُهُ تارح، وَقَدْ وُجِّهَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ بِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ لَفْظَ الْأَبِ عَلَى الْعَمِّ إِطْلَاقًا شَائِعًا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا، وَفِي التَّنْزِيلِ {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] فَأَطْلَقَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ لَفْظَ الْأَبِ وَهُوَ عَمُّ يَعْقُوبَ، كَمَا أَطْلَقَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ جَدُّهُ، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْجَدُّ أَبٌ، وَيَتْلُو {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة: 133] الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَنْ أبي العالية فِي قَوْلِهِ: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 133] قَالَ: سُمِّيَ الْعَمُّ أَبًا، وَأَخْرَجَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: الْخَالُ وَالِدٌ وَالْعَمُّ وَالِدٌ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي ذَلِكَ، وَيُرَشِّحُهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ قَالَ: لِمَا أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ جَعَلُوا يَجْمَعُونَ الْحَطَبَ حَتَّى أَنْ كَانَتِ الْعَجُوزُ لَتَجْمَعُ الْحَطَبَ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوهُ فِي النَّارِ قَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَلَمَّا أَلْقَوْهُ قَالَ اللَّهُ: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فَقَالَ عَمُّ إِبْرَاهِيمَ: مِنْ أَجْلِي دَفَعَ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَرَارَةً مِنَ النَّارِ فَوَقَعَتْ عَلَى قَدَمِهِ فَأَحْرَقَتْهُ، فَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا الْأَثَرِ بِعَمِّ إِبْرَاهِيمَ، وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ هَلَكَ فِي أَيَّامِ إِلْقَاءِ إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ تَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، وَوَرَدَتِ الْآثَارُ بِأَنَّ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَهُ لَمَّا مَاتَ مُشْرِكًا وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. أَخْرُجُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا زَالَ إِبْرَاهِيمُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ فَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ، وَأَخْرَجَ عَنْ محمد بن كعب وقتادة وَمُجَاهِدٍ والحسن وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: كَانَ يَرْجُوهُ فِي حَيَاتِهِ فَلَمَّا مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ تَبَرَّأَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 مِنْهُ ثُمَّ هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَقِبَ وَاقِعَةِ النَّارِ إِلَى الشَّامِ كَمَا نَصَّ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ مُهَاجِرِهِ دَخَلَ مِصْرَ وَاتُّفِقَ لَهُ فِيهَا مَعَ الْجَبَّارِ مَا اتُّفِقَ بِسَبَبِ سارة وَأَخْدَمَهُ هَاجَرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَنْقُلَهَا وَوَلَدَهَا إِسْمَاعِيلَ إِلَى مَكَّةَ فَنَقَلَهُمَا وَدَعَا فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] إِلَى قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] فَاسْتَغْفَرَ لِوَالِدَيْهِ وَذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ عَمِّهِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَيُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذَا أَنَّ الذِّكْرَ فِي الْقُرْآنِ بِالْكُفْرِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ هُوَ عَمُّهُ لَا أَبُوهُ الْحَقِيقِي، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَلْهَمَ. رَوَى ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ عَنِ الكلبي قَالَ: هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَابِلَ إِلَى الشَّامِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَأَتَى حَرَّانَ فَأَقَامَ بِهَا زَمَانًا، ثُمَّ أَتَى الْأُرْدُنَّ فَأَقَامَ بِهَا زَمَانًا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا زَمَانًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّامِ فَنَزَلَ السَّبْعَ - أَرْضًا بَيْنَ إِيلْيَاءَ وَفِلَسْطِينَ - ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَلَدِ آذَوْهُ فَتَحَوَّلَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَنَزَلَ مَنْزِلًا بَيْنَ الرَّمَلَةِ وَإِيلْيَاءَ، وَرَوَى ابن سعد عَنِ الْوَاقِدِيِّ قَالَ: وُلِدَ لِإِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً، فَعُرِفَ مِنْ هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ أَنَّ بَيْنَ هِجْرَتِهِ مِنْ بَابِلَ عَقِبَ وَاقِعَةِ النَّارِ وَبَيْنَ الدَّعْوَةِ الَّتِي دَعَا بِهَا بِمَكَّةَ بِضْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. تَتْمِيمٌ: ثُمَّ اسْتَمَرَّ التَّوْحِيدُ فِي وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، قَالَ الشهرستاني فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ: كَانَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ قَائِمًا، وَالتَّوْحِيدُ فِي صَدْرِ الْعَرَبِ شَائِعًا، وَأَوَّلُ مَنْ غَيَّرَهُ وَاتَّخَذَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ عمرو بن لحي، قُلْتُ: وَقَدْ صَحَّ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «رَأَيْتُ عمرو بن عامر الخزاعي يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ» ) وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أحمد فِي مَسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ أبو خزاعة عمرو بن عامر، وَإِنِّي رَأَيْتُهُ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ» ) . وَأَخْرَجَ ابن إسحاق وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «رَأَيْتُ عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يَجُرُّ قُصْبَهُ بِالنَّارِ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ» ) ، وَلَفْظُ ابن إسحاق: " أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ " وَنَصَبَ الْأَوْثَانَ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ وَحَمَى الْحَامِيَ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ بَعْدَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِالشَّيْءِ يُرِيدُ أَنْ يَرُدَّهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ حَتَّى أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، قَالَ: فَمَا زَالَ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الشِّرْكِ، قَالَ السهيلي فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ: كَانَ عمرو بن لحي حِينَ غَلَبَتْ خُزَاعَةُ عَلَى الْبَيْتِ وَنَفَتْ جُرْهُمَ عَنْ مَكَّةَ قَدْ جَعَلَتْهُ الْعَرَبُ رَبًّا لَا يَبْتَدِعُ لَهُمْ بِدْعَةً إِلَّا اتَّخَذُوهَا شِرْعَةً؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُطْعِمُ النَّاسَ وَيَكْسُو فِي الْمَوْسِمِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابن إسحاق أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ الْأَصْنَامَ الْحَرَمَ وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَى عِبَادَتِهَا، وَكَانَتِ التَّلْبِيَةُ مِنْ عَهِدِ إِبْرَاهِيمَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، حَتَّى كَانَ عمرو بن لحي، فَبَيْنَمَا هُوَ يُلَبِّي تَمَثَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ يُلَبِّي مَعَهُ، فَقَالَ عمرو: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عمرو وَقَالَ: وَمَا هَذَا؟ فَقَالَ الشَّيْخُ: قُلْ: تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ؛ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَذَا، فَقَالَهَا عمرو وَدَانَتْ بِهَا الْعَرَبُ، انْتَهَى كَلَامُ السهيلي، وَقَالَ الْحَافِظُ عماد الدين بن كثير فِي تَارِيخِهِ: كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ وَلِيَ عمرو بن عامر الخزاعي مَكَّةَ وَانْتَزَعَ وِلَايَةَ الْبَيْتِ مِنْ أَجْدَادِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحَدَثَ عمرو الْمَذْكُورُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَشَرَعَ لِلْعَرَبِ الضَّلَالَاتِ مَنِ السَّوَائِبِ وَغَيْرِهَا، وَزَادَ فِي التَّلْبِيَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَوْلَهُ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَتَبِعَتْهُ الْعَرَبُ عَلَى الشَّرْطِ فَشَابَهُوا بِذَلِكَ قَوْمَ نُوحٍ وَسَائِرَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بَقَايَا مِنْ دَيْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَةِ خُزَاعَةَ عَلَى الْبَيْتِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُمْ مَشْئُومَةً إِلَى أَنْ جَاءَ قصي جَدُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَاتَلَهُمْ وَاسْتَعَانَ عَلَى حَرْبِهِمْ بِالْعَرَبِ وَانْتَزَعَ وِلَايَةَ الْبَيْتِ مِنْهُمْ، إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَرْجِعْ عَمَّا كَانَ أَحْدَثَهُ لَهَا عمرو الخزاعي مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ دِينًا فِي نَفْسِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُغَيَّرَ. انْتَهَى. فَثَبَتَ أَنَّ آبَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى زَمَانِ عمرو [الْمَذْكُورِ] كُلَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِيَقِينٍ، وَنَأْخُذُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَاقِي وَعَلَى زِيَادَةِ تَوْضِيحٍ لِهَذَا الْقَدْرِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: مِمَّا يُنْتَصَرُ بِهِ لِهَذَا الْمَسْلَكِ، آيَاتٌ وَآثَارٌ وَرَدَتْ فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَعَقِبِهِ، الْآيَةُ الْأُولَى - وَهِيَ أَصْرَحُهَا - قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ - وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 26 - 28] أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بَاقِيَةً فِي عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وابن المنذر عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا يونس عَنْ شيبان عَنْ قَتَادَةَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 قَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالتَّوْحِيدُ، لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَقُولُهَا مِنْ بَعْدِهِ، وَقَالَ عبد الرزاق فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ معمر عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] قَالَ: الْإِخْلَاصُ وَالتَّوْحِيدُ، لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ، أَخْرَجَهُ ابن المنذر ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ فِي عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ: فَلَمْ يَزَلْ بَعْدُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ، أَخْرَجَهُ ابن المنذر، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي الْآيَةِ فِي عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ: فَلَمْ يَزَلْ بَعْدُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: وَقَوْلٌ آخَرُ: فَلَمْ يَزَلْ نَاسٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَلَى الْفِطْرَةِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعَقِبُ وَلَدُهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَأَوْلَادُ الذُّكُورِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عطاء قَالَ: الْعَقِبُ وَلَدُهُ وَعَصَبَتُهُ. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ دَعَوْتَهُ فِي وَلَدِهِ فَلَمْ يَعْبُدْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ صَنَمًا بَعْدَ دَعْوَتِهِ، وَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَجَعَلَ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَرَزَقَ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَجَعَلَهُ إِمَامًا وَجَعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّ آدَمَ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ اسْتَوْحَشَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي قِصَّةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَفِيهِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ لِآدَمَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً وَاحِدًا قَانِتًا بِأَمْرِي دَاعِيًا إِلَى سَبِيلِي، أَجْتَبِيهِ وَأَهْدِيهِ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَسْتَجِيبُ دَعْوَتَهُ فِي وَلَدِهِ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأُشَفِّعُهُ فِيهِمْ وَأَجْعَلُهُمْ أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَوُلَاتَهُ وَحُمَاتَهُ، الْحَدِيثَ. هَذَا الْأَثَرُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مُجَاهِدٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ وِلَايَةَ الْبَيْتِ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِأَجْدَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنِ انْتَزَعَهَا مِنْهُمْ عمرو الخزاعي، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِمْ، فَعُرِفَ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ عَنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ سِلْسِلَةُ الْأَجْدَادِ الشَّرِيفَةِ الَّذِينَ خُصُّوا بِالِاصْطِفَاءِ، وَانْتَقَلَ إِلَيْهِمْ نُورُ النُّبُوَّةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْبَعْضُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ عَبَدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ الْأَصْنَامَ، قَالَ: لَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] قِيلَ: فَكَيْفَ لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُ إِسْحَاقَ وَسَائِرُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ دَعَا لِأَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ أَنْ لَا يَعْبُدُوا، إِذَا أَسْكَنَهُمْ إِيَّاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 فَقَالَ: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] وَلَمْ يَدْعُ لِجَمِيعِ الْبَلَدِ بِذَلِكَ فَقَالَ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] فِيهِ، وَقَدْ خَصَّ أَهْلَهُ وَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 37] فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ مِنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ شَيْخُ إِمَامِنَا الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] أَخْرَجَ ابن المنذر عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] قَالَ: فَلَنْ يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ نَاسٌ عَلَى الْفِطْرَةِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، آيَةٌ رَابِعَةٌ: أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَتْ سارة لَمَّا بَشَّرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ: {قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72] فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تَرُدُّ عَلَى سارة: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73] قَالَ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] مُحَمَّدٌ وَآلُهُ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابن حبيب فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَا تَذْكُرُوهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى أَرْمِيَا أَنِ اذْهَبْ إِلَى بخت نصر فَأَعْلِمْهُ أَنِّي قَدْ سَلَّطْتُهُ عَلَى الْعَرَبِ، وَأَمَرَ اللَّهُ أَرْمِيَا أَنْ يَحْتَمِلَ مَعَهُ معد بن عدنان عَلَى الْبُرَاقِ كَيْ لَا تُصِيبَهُ النِّقْمَةُ؛ فَإِنِّي مُسْتَخْرِجٌ مِنْ صُلْبِهِ نَبِيًّا كَرِيمًا أَخْتِمُ بِهِ الرُّسُلَ، فَفَعَلَ أَرْمِيَا ذَلِكَ، وَاحْتَمَلَ مَعَدَّ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، فَنَشَأَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ أَنْ هَدَأَتِ الْفِتَنُ، وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ مُرْسَلِ عبد الله بن خالد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «لَا تَسُبُّوا مضر فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ» ) وَقَالَ السهيلي فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ: «لَا تَسُبُّوا مضر وَلَا ربيعة فَإِنَّهُمَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ» . قُلْتُ: وَقَفْتُ عَلَيْهِ مُسْنَدًا فَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفَ بْنِ حَيَّانَ الْمَعْرُوفُ بوكيع فِي كِتَابِ الْغُرَرِ مِنَ الْأَخْبَارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق بن داود بن عيسى المروزي ثَنَا أبو يعقوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الشعراني ثَنَا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ثَنَا عثمان بن قايد عَنْ يحيى بن طلحة بن عبيد الله عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَا تَسُبُّوا ربيعة وَلَا مضر فَإِنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ» ) وَأَخْرَجَ بِسَنَدِهِ عَنْ عائشة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَا تَسُبُّوا تميما وضبة فَإِنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ» ) وَأَخْرَجَ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَا تَسُبُّوا قسا فَإِنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا» ) ثُمَّ قَالَ السهيلي: وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ( «لَا تَسُبُّوا إلياس فَإِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا» ) ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ فِي صُلْبِهِ تَلْبِيَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ، قَالَ: وكعب بن لؤي أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، وَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهَا الْجُمْعَةَ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْتَمِعُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيَخْطُبُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَبْعَثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعَلِّمُهُمْ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِاتِّبَاعِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَيُنْشِدُهُمْ فِي هَذَا أَبْيَاتًا، مِنْهَا قَوْلُهُ: يَا لَيْتَنِي شَاهِدًا فحواء دَعْوَتِهِ ... إِذَا قُرَيْشٌ تَبْغِي الْحَقَّ خِذْلَانَا . قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ كعب فِي كِتَابِ " الْأَعْلَامِ " لَهُ، انْتَهَى. قُلْتُ: هَذَا الْخَبَرُ أَخْرَجَهُ أبو نعيم فِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَفِي آخِرِهِ: وَكَانَ بَيْنَ مَوْتِ كعب وَمَبْعَثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَالْمَاوَرْدِيُّ الْمَذْكُورُ هُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ صَاحِبُ الْحَاوِي الْكَبِيرِ، لَهُ كِتَابُ " أَعْلَامُ النُّبُوَّةِ " فِي مُجَلَّدٍ كَثِيرِ الْفَوَائِدِ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ وَسَأَنْقُلُ مِنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ. فَحَصَلَ مِمَّا أَوْرَدْنَاهُ أَنَّ آبَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى كعب بن لؤي كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَوَلَدُ كعب مرة، الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِالْإِيمَانِ، وَبَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عبد المطلب أَرْبَعَةُ آبَاءٍ وَهُمْ: كلاب، وقصي، وعبد مناف، وهاشم، وَلَمْ أَظْفَرْ فِيهِمْ بِنَقْلٍ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا. وَأَمَّا عبد المطلب فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَشْبَهُ، أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَى لِأَجْلِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ ظَاهِرُ عُمُومِ كَلَامِ الْإِمَامِ فخر الدين وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى آمَنَ بِهِ وَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ، حَكَاهُ ابن سيد الناس، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَأَسْقَطُهَا وَأَوْهَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرِدْ قَطُّ فِي حَدِيثٍ لَا ضَعِيفٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، إِنَّمَا حَكَوْهُ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ غَالِبُ الْمُصَنِّفِينَ عَلَى حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتُوا عَنْ حِكَايَةِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ خِلَافَ الشِّيعَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 لَا يُعْتَدُّ بِهِ، قَالَ السهيلي فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ: وَفِي الصَّحِيحِ: ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ على أبي طالب عِنْدَ مَوْتِهِ وَعِنْدَهُ أبو جهل وابن أبي أمية، فَقَالَ: يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ أبو جهل وابن أبي أمية: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عبد المطلب؟ فَقَالَ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عبد المطلب» ) قَالَ: فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ عبد المطلب مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ، قَالَ: وَوَجَدْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ المسعودي اخْتِلَافًا فِي عبد المطلب، وَأَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِيهِ: مَاتَ مُسْلِمًا لَمَّا رَأَى مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُبْعَثُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، غَيْرَ أَنَّ فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارَ وَكِتَابِ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لفاطمة وَقَدْ عَزَّتْ قَوْمًا مِنَ الْأَنْصَارِ عَنْ مَيِّتِهِمْ: لَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى؟ فَقَالَتْ: لَا، فَقَالَ: لَوْ كُنْتِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ» ) قَالَ: وَقَدْ خَرَّجَهُ أبو داود، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: " «حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ» " قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ: جَدُّ أَبِيكِ، وَلَمْ يَقُلْ: جَدُّكِ، تَقْوِيَةٌ لِلْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ: أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَآمَنَا بِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ تَخْوِيفَهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقٌّ، وَبُلُوغَهَا مَعَهُمُ الْكُدَى لَا يُوجِبُ خُلُودًا فِي النَّارِ، هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ السهيلي بِحُرُوفِهِ. وَقَالَ الشهرستاني فِي " الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ ": ظَهَرَ نُورُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَسَارِيرِ عبد المطلب بَعْضَ الظُّهُورِ، وَبِبَرَكَةِ ذَلِكَ النُّورِ أُلْهِمَ النَّذْرَ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ، وَبِبَرَكَتِهِ كَانَ يَأْمُرُ وَلَدَهُ بِتَرْكِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ دَنِيَّاتِ الْأُمُورِ، وَبِبَرَكَةِ ذَلِكَ النُّورِ كَانَ يَقُولُ فِي وَصَايَاهُ أَنَّهُ لَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا ظَلُومٌ حَتَّى يُنْتَقَمَ مِنْهُ وَتُصِيبَهُ عُقُوبَةٌ، إِلَى أَنْ هَلَكَ رَجُلٌ ظَلُومٌ لَمْ تُصِبْهُ عُقُوبَةٌ، فَقِيلَ لعبد المطلب فِي ذَلِكَ، فَفَكَّرَ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الدَّارِ دَارًا يُجْزَى فِيهَا الْمُحْسِنُ بِإِحْسَانِهِ وَيُعَاقَبُ فِيهَا الْمُسِيءُ بِإِسَاءَتِهِ، وَبِبَرَكَةِ ذَلِكَ النُّورِ قَالَ لِأَبْرَهَةَ: إِنَّ لِهَذَا الْبَيْتِ رَبًّا يَحْفَظُهُ، وَمِنْهُ قَالَ وَقَدْ صَعِدَ أبا قبيس: لَاهُمَّ إِنِ الْمَرْءَ يَمْنَعُ ... رَحْلَهُ فَامْنَعْ رِحَالَكْ لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ يَوْمًا مِحَالَكْ فَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيبِ ... وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكْ انْتَهَى كَلَامُ الشهرستاني، وَيُنَاسِقُ مَا ذَكَرَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابن سعد فِي طَبَقَاتِهِ عَنِ ابْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الدِّيَةُ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، وعبد المطلب أَوَّلُ مَنْ سَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَجَرَتْ فِي قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَسَبَ إِلَيْهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وَهَذَا أَقْوَى مَا تَقْوَى بِهِ مَقَالَةُ الْإِمَامِ فخر الدين وَمَنْ وَافَقَهُ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي النَّهْيِ عَنِ الِانْتِسَابِ إِلَى الْآبَاءِ الْكُفَّارِ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ انْتَسَبَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ إِلَى تِسْعَةٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ ابْنِ الْإِسْلَامِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: هَذَانِ الْمُنْتَسِبَانِ، أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ فِي النَّارِ فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ، وَأَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الْجَنَّةِ) » وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أبي ريحانة عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَشَرَفًا فَهُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ» ) وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَا تَفْتَخِرُوا بِآبَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَا يُدَحْدِحُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْ آبَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ» ) ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عَيْبَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِرِجَالٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ النَّتَنَ بِأَنْفِهَا» ) . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَوْرَدَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ حَدِيثَ مُسْلِمٍ: ( «إِنَّ فِي أُمَّتِي أَرْبَعًا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَيْسُوا بِتَارِكِيهِنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ» . . .) الْحَدِيثَ، وَقَالَ عقبة: فَإِنْ عُورِضَ هَذَا بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اصْطِفَائِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَقَدْ قَالَ الحليمي: لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْفَخْرَ، إِنَّمَا أَرَادَ تَعْرِيفَ مَنَازِلِ الْمَذْكُورِينَ وَمَرَاتِبِهِمْ، كَرَجُلٍ يَقُولُ: كَانَ أَبِي فَقِيهًا، لَا يُرِيدُ بِهِ الْفَخْرَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ تَعْرِيفَ حَالِهِ دُونَ مَا عَدَاهُ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ أَرَادَ بِهِ الْإِشَارَةَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَآبَائِهِ عَلَى وَجْهِ الشُّكْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِطَالَةِ وَالْفَخْرِ فِي شَيْءٍ، انْتَهَى، فَقَوْلُهُ: أَرَادَ تَعْرِيفَ مَنَازِلِ الْمَذْكُورِينَ وَمَرَاتِبِهِمْ، أَوِ الْإِشَارَةَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَآبَائِهِ عَلَى وَجْهِ الشُّكْرِ - فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَقَالَةِ الْإِمَامِ وَإِجْرَائِهَا عَلَى عُمُومِهَا كَمَا لَا يَخْفَى، إِذِ الِاصْطِفَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ هُوَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّرْجِيحَ فِي عبد المطلب بِخُصُوصِهِ عَسِرٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبُخَارِيِّ مُصَادِمٌ قَوِيٌّ، وَإِنْ أُخِذَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 فِي تَأْوِيلِهِ لَمْ يُوجَدْ تَأْوِيلٌ قَرِيبٌ، وَالتَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ يَأْبَاهُ أَهْلُ الْأُصُولِ، وَلِهَذَا لَمَّا رَأَى السهيلي تَصَادُمَ الْأَدِلَّةِ فِيهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّرْجِيحِ فَوَقَفَ وَقَالَ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ قَوْلًا رَابِعًا فِيهِ، وَهُوَ الْوَقْفُ. وَأَكْثَرُ مَا خَطَرَ لِي فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ وَجْهَانِ بَعِيدَانِ فَتَرَكْتُهُمَا، وَأَمَّا حَدِيثُ النَّسَائِيِّ فَتَأْوِيلُهُ قَرِيبٌ وَقَدْ فَتَحَ السهيلي بَابَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهِ، وَإِنَّمَا سَهُلَ التَّرْجِيحُ فِي جَانِبِ عبد الله مَعَ أَنَّ فِيهِ مُعَارِضًا قَوِيًّا وَهُوَ حَدِيثُ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ ذَاكَ سَهْلٌ تَأْوِيلُهُ بِتَأْوِيلٍ قَرِيبٍ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ، وَقَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى رُجْحَانِ جَانِبِ التَّأْوِيلِ فَسَهُلَ الْمَصِيرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ الْإِمَامَ أَبَا الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيَّ أَشَارَ إِلَى نَحْوِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فخر الدين إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ كَتَصْرِيحِهِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ " أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ ": لَمَّا كَانَ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ صَفْوَةَ عِبَادِهِ وَخِيرَةَ خَلْقِهِ لِمَا كَلَّفَهُمْ مِنَ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ وَالْإِرْشَادِ لِخَلْقِهِ اسْتَخْلَصَهُمْ مِنْ أَكْرَمِ الْعَنَاصِرِ، وَاجْتَبَاهُمْ بِمُحْكَمِ الْأَوَاصِرِ، فَلَمْ يَكُنْ لِنَسَبِهِمْ مِنْ قَدْحٍ وَلِمَنْصِبِهِمْ مَنْ جَرْحٍ؛ لِتَكُونَ الْقُلُوبُ لَهُمْ أَصْفَى، وَالنُّفُوسُ لَهُمْ أَوْطَا، فَيَكُونُ النَّاسُ إِلَى إِجَابَتِهِمْ أَسْرَعَ وَلِأَوَامِرِهِمْ أَطْوَعَ، وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَصَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَطْيَبِ الْمَنَاكِحِ، وَحَمَاهُ مِنْ دَنَسِ الْفَوَاحِشِ، وَنَقَلَهُ مِنْ أَصْلَابٍ طَاهِرَةٍ إِلَى أَرْحَامٍ مُنَزَّهَةٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] أَيْ: تَقَلُّبُكَ مِنْ أَصْلَابٍ طَاهِرَةٍ مِنْ أَبٍ بَعْدَ أَبٍ إِلَى أَنْ جَعَلَكَ نَبِيًّا، فَكَانَ نُورُ النُّبُوَّةِ ظَاهِرًا فِي آبَائِهِ، ثُمَّ لَمْ يُشْرِكْهُ فِي وِلَادَتِهِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَخٌ وَلَا أُخْتٌ لِانْتِهَاءِ صَفْوَتِهِمَا إِلَيْهِ، وَقُصُورِ نَسَبِهِمَا عَلَيْهِ، لِيَكُونَ مُخْتَصًّا بِنَسَبٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنُّبُوَّةِ غَايَةً وَلِتَفَرُّدِهِ نِهَايَةً، فَيَزُولُ عَنْهُ أَنْ يُشَارَكَ فِيهِ وَيُمَاثَلَ فِيهِ، فَلِذَلِكَ مَاتَ عَنْهُ أَبَوَاهُ فِي صِغَرِهِ، فَأَمَّا أَبُوهُ فَمَاتَ وَهُوَ حَمْلٌ، وَأَمَّا أُمُّهُ فَمَاتَتْ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، وَإِذَا خَبَرْتَ حَالَ نَسَبِهِ وَعَرَفْتَ طَهَارَةَ مَوْلِدِهِ عَلِمْتَ أَنَّهُ سُلَالَةُ آبَاءٍ كِرَامٍ، لَيْسَ فِي آبَائِهِ مُسْتَرْذَلٌ وَلَا مَغْمُوزٌ مُسْتَبْذَلٌ، بَلْ كُلُّهُمْ سَادَةٌ قَادَةٌ، وَشَرَفُ النَّسَبِ وَطَهَارَةُ الْمَوْلِدِ مِنْ شُرُوطِ النُّبُوَّةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْمَاوَرْدِيِّ بِحُرُوفِهِ. وَقَالَ أبو جعفر النحاس فِي " مَعَانِي الْقُرْآنِ " فِي قَوْلِهِ {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تَقَلُّبُهُ فِي الظُّهُورِ حَتَّى أَخْرَجَهُ نَبِيًّا. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَنَقَّلَ أَحْمَدُ نُورًا عَظِيمَا ... تَلَأْلَأَ فِي جِبَاهِ السَّاجِدِينَا تَقَلَّبَ فِيهِمْ قَرْنًا فَقَرْنًا ... إِلَى أَنْ جَاءَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وَقَالَ أَيْضًا: حَفِظَ الْإِلَهُ كَرَامَةً لِمُحَمَّدٍ ... آبَاءَهُ الْأَمْجَادَ صَوْنًا لِاسْمِهْ تَرَكُوا السِّفَاحَ فَلَمْ يُصِبْهُمْ عَارُهُ ... مِنْ آدَمَ حَتَّى أَبِيهِ وَأُمِّهْ وَقَالَ الشَّرَفُ الْبُوصِيرِيُّ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ: كَيْفَ ترقَى رُقِيَّكَ الْأَنْبِيَاءُ ... يَا سَمَاءً مَا طَاوَلَتْهَا سَمَاءُ لَمْ يُساوُوكَ فِي عُلَاكَ وَقَدْ حَا لَ ... سَنًا مِنْكَ دُونَهُمْ وَسَنَاءُ إِنَّمَا مَثَّلُوا صِفَاتِكَ لِلنَّا سِ ... كَمَا مَثَّلَ النُّجُومَ الْمَاءُ أَنْتَ مِصْبَاحُ كُلِّ فَضْلٍ فَمَا تَصْ ... دُرُ إِلَّا عَنْ ضَوْئِكَ الْأَضْوَاءُ لَكَ ذَاتُ الْعُلُومِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْ ... بِ وَمِنْهَا لِآدَمَ الْأَسْمَاءُ لَمْ تَزَلْ فِي ضَمَائِرِ الْكَوْنِ تُخْتَا ... رُ لَكَ الْأُمَّهَاتُ وَالْآبَاءُ مَا مَضَتْ فَتْرَةٌ مِنَ الرُّسْلِ إِلَّا ... بَشَّرَتْ قَوْمَهَا بِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَتَبَاهَى بِكَ الْعُصُورُ وَتَسْمُو ... بِكَ عَلْيَاءٌ بَعْدَهَا عَلْيَاءُ وَبَدَا لِلْوُجُودِ مِنْكَ كَرِيمٌ ... مِنْ كَرِيمٍ آبَاؤُهُ كُرَمَاءُ نَسَبٌ تَحْسِبُ الْعُلَا بِحُلَاهُ ... قَلَّدَتْهَا نُجُومَهَا الْجَوْزَاءُ وَمِنْهَا: فَهَنِيئًا بِهِ لِآمِنَةَ الْفَضْ ... لُ الَّذِي شُرِّفَتْ بِهِ حواء مَنْ لحواء أَنَّهَا حَمَلَتْ أَحْ ... مَدَ أَوْ أَنَّهَا بِهِ نُفَسَاءُ يَوْمَ نَالَتْ بِوَضْعِهِ ابْنَةُ وَهْبٍ ... مِنْ فَخَارٍ مَا لَمْ تَنَلْهُ النِّسَاءُ وَأَتَتْ قَوْمَهَا بِأَفْضَلَ مِمَّا ... حَمَلَتْ قَبْلُ مريم العذراء فَائِدَةٌ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا موسى بن أيوب النصيبي ثَنَا ضمرة عَنْ عثمان بن عطاء عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ آدَمَ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَبًا. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَثَرٌ وَرَدَ فِي أُمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، أَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أم سماعة بنت أبي رهم عَنْ أُمِّهَا قَالَتْ: شَهِدَتْ آمنة أُمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِلَّتِهَا الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا وَمُحَمَّدٌ غُلَامٌ يَفْعٌ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ عِنْدَ رَأْسِهَا فَنَظَرَتْ إِلَى وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَتْ: بَارَكَ فِيكَ اللَّهُ مِنْ غُلَامٍ ... يَا ابْنَ الَّذِي مِنْ حَوْمَةِ الْحِمَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 نَجَا بِعَوْنِ الْمَلِكِ الْمِنْعَامِ ... فَوَدَى غَدَاةَ الضَّرْبِ بِالسِّهَامِ بِمِائَةٍ مِنْ إِبِلٍ سِوَامِ ... إِنْ صَحَّ مَا أَبْصَرْتُ فِي الْمَنَامِ فَأَنْتِ مَبْعُوثٌ إِلَى الْأَنَامِ ... مِنْ عِنْدِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ تُبْعَثُ فِي الْحَلِّ وَفِي الْإِحْرَامِ ... تُبْعَثُ بِالتَّحْقِيقِ وَالْإِسْلَامِ دِينِ أَبِيكَ الْبَرِّ إِبْرَاهَامِ ... فَاللَّهُ أَنْهَاكَ عَنِ الْأَصْنَامِ أَنْ لَا تَوَالِيَهَا مَعَ الْأَقْوَامِ ثُمَّ قَالَتْ: كُلُّ حَيٍّ مَيِّتٌ وَكُلُّ جَدِيدٍ بَالٍ، وَكُلُّ كَبِيرٍ يَفْنَى، وَأَنَا مَيِّتَةٌ وَذِكْرِي بَاقٍ، وَقَدْ تَرَكْتُ خَيْرًا، وَوَلَدْتُ طُهْرًا. ثُمَّ مَاتَتْ، فَكُنَّا نَسْمَعُ نَوْحَ الْجِنِّ عَلَيْهَا، فَحَفِظْنَا مِنْ ذَلِكَ: نَبْكِي الْفَتَاةَ الْبَرَّةَ الْأَمِينَهْ ... ذَاتَ الْجَمَالِ الْعَفَّةَ الرَّزِينَهْ زَوْجَةَ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَرِينَهْ ... أُمَّ نَبِيِّ اللَّهِ ذِي السَّكِينَهْ وَصَاحِبِ الْمِنْبَرِ بِالْمَدِينَهْ ... صَارَتْ لَدَى حُفْرَتِهَا رَهِينَهْ فَأَنْتَ تَرَى هَذَا الْكَلَامَ مِنْهَا صَرِيحًا فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْأَصْنَامِ مَعَ الْأَقْوَامِ، وَالِاعْتِرَافِ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُبْعَثُ وَلَدُهَا إِلَى الْأَنَامِ مِنْ عِنْدِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ بِالْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُنَافِيَةٌ لِلشِّرْكِ، وَقَوْلُهَا: تُبْعَثُ بِالتَّحْقِيقِ، كَذَا هُوَ فِي النُّسْخَةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ تَصْحِيفٌ وَإِنَّمَا هُوَ بِالتَّخْفِيفِ، ثُمَّ إِنِّي اسْتَقْرَأْتُ أُمَّهَاتِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فَوَجَدْتُهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ؛ فأم إسحاق، وَمُوسَى، وَهَرُونَ، وَعِيسَى، وحواء أم شيث مَذْكُورَاتٌ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ قِيلَ بِنُبَوَّتِهِنَّ، وَوَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِإِيمَانِ هاجر أم إسماعيل، وأم يعقوب، وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ، وأم داود، وَسُلَيْمَانَ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَشَمْوِيلَ، وَشَمْعُونَ، وَذِي الْكِفْلِ، وَنَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى إِيمَانِ أم نوح، وأم إبراهيم، وَرَجَّحَهُ أبو حيان فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ وَالِدٌ كَافِرٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] وَلَمْ يَعْتَذِرْ عَنِ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِأَبِيهِ خَاصَّةً دُونَ أُمِّهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً، وَأَخْرَجَ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا عَشْرَةً: نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَلُوطٌ، وَشُعَيْبٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَمُحَمَّدٌ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَبَنُو إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 كَافِرٌ إِلَى أَنْ بُعِثَ عِيسَى فَكَفَرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ - فَأُمَّهَاتُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ - وَأَيْضًا فَغَالِبُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَوْلَادَ أَنْبِيَاءَ أَوْ أَوْلَادَ أَوْلَادِهِمْ، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ تَكُونُ فِي سِبْطٍ مِنْهُمْ يَتَنَاسَلُونَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَأَمَّا الْعَشَرَةُ الْمَذْكُورُونَ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَدْ ثَبَتَ إِيمَانُ أم نوح، وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، وَبَقِيَ أم هود، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ، يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ أَوْ دَلِيلٍ، وَالظَّاهِرُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - إِيمَانُهُنَّ، فَكَذَلِكَ أُمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ مَا يَرَيْنَهُ مِنَ النُّورِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. أَخْرَجَ أحمد وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ والحاكم وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ» ) وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ، وَأَنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي رَأَتْهُ أُمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَالِ حَمْلِهَا بِهِ وَوِلَادَتِهَا لَهُ مِنَ الْآيَاتِ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا رَآهُ سَائِرُ أُمَّهَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا سُقْنَا الْأَخْبَارَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُعْجِزَاتِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ تُرْضِعْهُ مُرْضِعَةٌ إِلَّا أَسْلَمَتْ، قَالَ: وَمُرْضِعَاتُهُ أَرْبَعٌ: أُمُّهُ، وحليمة السعدية، وثويبة، وأم أيمن، انْتَهَى. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَصْنَعُ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِهَا وَأَنَّهَا فِي النَّارِ، وَهِيَ حَدِيثُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ؟ فَنَزَلَتْ: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] وَحَدِيثُ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ لِأُمِّهِ فَضَرَبَ جِبْرِيلُ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: لَا تَسْتَغْفِرْ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا» ، وَحَدِيثُ أَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] وَحَدِيثُ أَنَّهُ قَالَ لابني مليكة: ( «أُمُّكُمَا فِي النَّارِ، فَشَقَّ عَلَيْهِمَا فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَعَ أُمِّكُمَا» ) قُلْتُ: الْجَوَابُ أَنَّ غَالِبَ مَا يُرْوَى مِنْ ذَلِكَ ضَعِيفٌ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي أُمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِوَى حَدِيثِ ( «أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ» ) وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا فِي أَبِيهِ إِلَّا حَدِيثُ مُسْلِمٍ خَاصَّةً، وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُمَا، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْتَ، فَحَدِيثُ: ( «لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ؟) فَنَزَلَتِ الْآيَةُ» ، لَمْ يُخَرَّجْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ [الْحَدِيثِ] الْمُعْتَمَدَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَوْ جِئْنَا نَحْتَجُّ بِالْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ لَعَارَضْنَاكَ بِحَدِيثٍ وَاهٍ أَخْرَجَهُ ابن الجوزي مِنْ حَدِيثِ علي مَرْفُوعًا ( «هَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيَّ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 وَيَقُولُ: إِنِّي حَرَّمْتُ النَّارَ عَلَى صُلْبٍ أَنْزَلَكَ، وَبَطْنٍ حَمَلَكَ، وَحِجْرٍ كَفَلَكَ» ) وَيَكُونُ مِنْ بَابِ مُعَارَضَةِ الْوَاهِي بِالْوَاهِي، إِلَّا أَنَّا لَا نَرَى ذَلِكَ وَلَا نَحْتَجُّ بِهِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا السَّبَبَ مَرْدُودٌ بِوُجُوهٍ أُخْرَى مِنْ جِهَةِ الْأُصُولِ وَالْبَلَاغَةِ وَأَسْرَارِ الْبَيَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمِنْ بَعْدِهَا كُلَّهَا فِي الْيَهُودِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] وَلِهَذَا خُتِمَتِ الْقِصَّةُ بِمِثْلِ مَا صُدِّرَتْ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] الْآيَتَيْنِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَصْحَابِ الْجَحِيمِ كُفَّارُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْأَثَرِ: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والفريابي، وَابْنُ جَرِيرٍ، وابن المنذر فِي تَفَاسِيرِهِمْ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَلَاثُ عَشْرَةَ آيَةً فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْ أَرْبَعِينَ آيَةً إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَأَكْثَرُ مَا خُوطِبَ فِيهَا الْيَهُودُ، وَيُرَشِّحُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْجَحِيمَ اسْمٌ لِمَا عَظُمَ مِنَ النَّارِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَالْآثَارِ، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أبي مالك فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] قَالَ: الْجَحِيمُ مَا عَظُمَ مِنَ النَّارِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابن المنذر عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر: 44] قَالَ: أَوَّلُهَا جَهَنَّمُ، ثُمَّ لَظَى، ثُمَّ الْحُطُمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ، قَالَ: وَالْجَحِيمُ فِيهَا أبو جهل، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا، فَاللَّائِقُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مَنْ عَظُمَ كُفْرُهُ وَاشْتَدَّ وِزْرُهُ وَعَانَدَ عِنْدَ الدَّعْوَةِ وَبَدَّلَ وَحَرَّفَ وَجَحَدَ بَعْدَ عِلْمٍ، لَا مَنْ هُوَ بِمَظِنَّةِ التَّخْفِيفِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ صَحَّ فِي أبي طالب أَنَّهُ أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِرِّهِ بِهِ مَعَ إِدْارَكِهِ الدَّعْوَةَ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ الْإِجَابَةِ وَطُولِ عُمُرِهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِأَبَوَيْهِ اللَّذَيْنِ هُمَا أَشَدُّ مِنْهُ قُرْبًا وَآكَدُ حُبًّا وَأَبْسَطُ عُذْرًا وَأَقْصَرُ عُمُرًا، فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمَا أَنَّهُمَا فِي طَبَقَةِ الْجَحِيمِ، وَأَنْ يُشَدَّدَ عَلَيْهِمَا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ، هَذَا لَا يَفْهَمُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى ذَوْقٍ سَلِيمٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَّ جِبْرِيلَ ضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: «لَا تَسْتَغْفِرْ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا» ، فَإِنَّ الْبَزَّارَ أَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، وَأَمَّا نُزُولُ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ فَضَعِيفٌ أَيْضًا، وَالثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أبي طالب، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ: ( «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 عَنْكَ» ) وَأَمَّا حَدِيثُ: ( «أُمِّي مَعَ أُمِّكُمَا» ) فَأَخْرَجَهُ الحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَشَأْنُ الْمُسْتَدْرَكِ فِي تَسَاهُلِهِ فِي التَّصْحِيحِ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ بِالتَّصْحِيحِ، ثُمَّ إِنَّ الذهبي فِي مُخْتَصَرِ الْمُسْتَدْرَكِ لَمَّا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَنَقَلَ قَوْلَ الحاكم: صَحِيحٌ، قَالَ عَقِبَهُ: قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، فعثمان بن عمير ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَبَيَّنَ الذهبي ضَعْفَ الْحَدِيثِ وَحَلَفَ عَلَيْهِ يَمِينًا شَرْعِيًّا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ كَانَ لِلنَّظَرِ فِي غَيْرِهَا مَجَالٌ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ: مِمَّا يُنْتَصَرُ بِهِ لِهَذَا الْمَسْلَكِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ جَمَاعَةٍ كَانُوا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ تَحَنَّفُوا وَتَدَيَّنُوا بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَرَكُوا الشِّرْكَ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ أَبَوَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَكُوا سَبِيلَهُمْ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّلْقِيحِ: تَسْمِيَةُ مَنْ رَفَضَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، زيد بن عمرو بن نفيل، عبيد الله بن جحش، عثمان بن الحويرث، ورقة بن نوفل، رباب بن البراء، أسعد أبو كريب الحميري، قس بن ساعدة الإيادي، أبو قيس بن صرمة، انْتَهَى. وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِتَحَنُّفِ زيد بن عمرو، وورقة، وقس، وَقَدْ رَوَى ابن إسحاق وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ تَعْلِيقًا عَنْ أسماء بنت أبي بكر قَالَتْ: (لَقَدْ رَأَيْتُ زيد بن عمرو بن نفيل مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا أَصْبَحَ مِنْكُمْ أَحَدٌ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيْكَ عَبَدْتُكَ بِهِ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ) قُلْتُ: وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْلَكِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِذْ ذَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ الدَّعْوَةَ وَيَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا عَلَى وَجْهِهَا. وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: رَغِبْتُ عَنْ آلِهَةِ قَوْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرَأَيْتُ أَنَّهَا الْبَاطِلُ، يَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وأبو نعيم كِلَاهُمَا فِي " الدَّلَائِلِ " مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ شَيْخٍ مِنْ جُهَيْنَةَ: أَنَّ عمير بن حبيب الجهني تَرَكَ الشِّرْكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَصَلَّى لِلَّهِ، وَعَاشَ حَتَّى أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ. وَقَالَ إِمَامُ الْأَشَاعِرَةِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: وأبو بكر مَا زَالَ بِعَيْنِ الرِّضَا مِنْهُ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُرَادِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الأشعري يَقُولُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ بِحَالَةٍ غَيْرِ مَغْضُوبٍ فِيهَا عَلَيْهِ؛ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ وَيَصِيرُ مِنْ خُلَاصَةِ الْأَبْرَارِ، قَالَ الشيخ تقي الدين السبكي: لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَاسْتَوَى الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي قَالَهَا الأشعري فِي حَقِّ الصِّدِّيقِ لَمْ تُحْفَظْ عَنْهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ حَالَةُ كُفْرٍ بِاللَّهِ، فَلَعَلَّ حَالَهُ قَبْلَ الْبَعْثِ كَحَالِ زيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 بن عمرو بن نفيل وَأَقْرَانِهِ، فَلِهَذَا خَصَّصَ الصِّدِّيقَ بِالذِّكْرِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، انْتَهَى كَلَامُ السبكي. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي حَقِّ أَبَوَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمَا حَالَةُ كُفْرٍ بِاللَّهِ، فَلَعَلَّ حَالَهُمَا كَحَالِ زيد بن عمرو بن نفيل، وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَضْرَابِهِمَا، مَعَ أَنَّ الصِّدِّيقَ وزيد بن عمرو إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمَا التَّحَنُّفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُمَا كَانَا صَدِيقَيْنِ لَهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَا يُوَادَّانِهِ كَثِيرًا، فَأَبَوَاهُ أَوْلَى بِعَوْدِ بَرَكَتِهِ عَلَيْهِمَا وَحِفْظِهِمَا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. فَإِنْ قُلْتَ: بَقِيَتْ عُقْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ: ( «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» ) ، وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ وأبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ» ، فَاحْلُلْ هَذِهِ الْعُقْدَةَ. قُلْتُ: عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، الْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» ، لَمْ يَتَّفِقْ عَلَى ذِكْرِهَا الرُّوَاةُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثابت عَنْ أَنَسٍ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْهَا، وَقَدْ خَالَفَهُ معمر عَنْ ثابت فَلَمْ يَذْكُرْ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» ، وَلَكِنْ قَالَ لَهُ: «إِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ كَافِرٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ» ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وَالِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرٍ الْبَتَّةَ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ، فَإِنَّ معمرا أَثْبَتُ مِنْ حماد، فَإِنَّ حمادا تُكُلِّمَ فِي حِفْظِهِ وَوَقَعَ فِي أَحَادِيثِهِ مَنَاكِيرُ ذَكَرُوا أَنَّ رَبِيبَهُ دَسَّهَا فِي كُتُبِهِ، وَكَانَ حماد لَا يَحْفَظُ فَحَدَّثَ بِهَا فَوَهِمَ فِيهَا، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ شَيْئًا، وَلَا خَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْأُصُولِ إِلَّا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ ثابت، قَالَ الحاكم فِي الْمَدْخَلِ: مَا خَرَّجَ مُسْلِمٌ لحماد فِي الْأُصُولِ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ ثابت، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ فِي الشَّوَاهِدِ عَنْ طَائِفَةٍ، وَأَمَّا معمر فَلَمْ يُتَكَلَّمْ فِي حِفْظِهِ وَلَا اسْتُنْكِرَ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِهِ، وَاتَّفَقَ عَلَى التَّخْرِيجِ لَهُ الشَّيْخَانِ فَكَانَ لَفْظُهُ أَثْبَتَ، ثُمَّ وَجَدْنَا الْحَدِيثَ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِمِثْلِ لَفْظِ رِوَايَةِ معمر عَنْ ثابت عَنْ أَنَسٍ، فَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إبراهيم بن سعد عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ: ( «أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ، قَالَ: فَأَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ كَافِرٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ» ) وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، فَتَعَيَّنَ الِاعْتِمَادُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ زَادَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي آخِرِهِ قَالَ: فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ فَقَالَ: «لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَبًا، مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ» ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ إبراهيم بن سعد عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سالم عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ( «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 يَصِلُ الرَّحِمَ وَكَانَ، فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي النَّارِ، قَالَ: فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَيْثُ مَرَرْتَ بِقَبْرِ مُشْرِكٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ، قَالَ: فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ، قَالَ: لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَبًا، مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ» ) . فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَوْضَحَتْ بِلَا شَكٍّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْعَامَّ هُوَ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَآهُ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَمْرًا مُقْتَضِيًا لِلِامْتِثَالِ فَلَمْ يَسَعْهُ إِلَّا امْتِثَالُهُ، وَلَوْ كَانَ الْجَوَابُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَمْرٌ بِشَيْءٍ الْبَتَّةَ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الْأَوَّلَ مِنْ تَصَرُّفِ الرَّاوِي، رَوَاهُ بِالْمَعْنَى عَلَى حَسَبِ فَهْمِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا النَّمَطِ فِيهَا لَفْظٌ تَصَرَّفَ فِيهِ الرَّاوِي، وَغَيْرُهُ أَثْبَتُ مِنْهُ، كَحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ فِي نَفْيِ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ، وَقَدْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِذَلِكَ، وَقَالَ: إِنِ الثَّابِتَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ نَفْيُ سَمَاعِهَا، فَفَهِمَ مِنْهُ الرَّاوِي نَفْيَ قِرَاءَتِهَا، فَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى عَلَى مَا فَهِمَهُ فَأَخْطَأَ، وَنَحْنُ أَجَبْنَا عَنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِنَظِيرِ مَا أَجَابَ بِهِ إِمَامُنَا [الْإِمَامُ] الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ فِي نَفْيِ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ، ثُمَّ لَوْ فُرِضَ اتِّفَاقُ الرُّوَاةِ عَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ كَانَ مُعَارَضًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ إِذَا عَارَضَهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى هِيَ أَرْجَحُ مِنْهُ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ وَتَقْدِيمُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَبِهَذَا الْجَوَابِ الْأَخِيرِ يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ عَدَمِ الْإِذْنِ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ دَعْوَى عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَلَعَلَّهُ كَانَتْ عَلَيْهَا تَبِعَاتٌ غَيْرُ الْكُفْرِ فَمُنِعَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهَا بِسَبَبِهَا، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَقْعَدُ وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ طَرِيقًا أُخْرَى لِلْحَدِيثِ مِثْلَ لَفْظِ رِوَايَةِ معمر وَأَزْيدَ وُضُوحًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ السَّائِلَ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَبِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ تَجَمُّلًا وَتَأَدُّبًا. فَأَخْرَجَ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ لقيط بن عامر ( «أَنَّهُ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق فَقَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لِانْسِلَاخِ رَجَبٍ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مِنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ مِنْ خَيْرٍ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عَرَضِ قُرَيْشٍ: إِنَّ أَبَاكَ المنتفق فِي النَّارِ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ حَرٌّ بَيْنَ جِلْدِ وَجْهِي وَلَحْمِي مِمَّا قَالَ لِأَبِي عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: وَأَبُوكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا الْأُخْرَى أَجْمَلُ فَقُلْتُ: وَأَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَا أَتَيْتَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْرِ قُرَشِيٍّ أَوْ عَامِرِيٍّ مُشْرِكٍ فَقُلْ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ مُحَمَّدٌ فَأَبْشِرْ بِمَا يَسُوءُكَ» ) هَذِهِ رِوَايَةٌ لَا إِشْكَالَ فِيهَا، وَهِيَ أَوْضَحُ الرِّوَايَاتِ وَأَبْيَنُهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 تَقْرِيرٌ آخَرُ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ السَّائِلِ: فَأَيْنَ أَبُوكَ؟ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: إِنَّ أَبِي - إِنْ ثَبَتَ - الْمُرَادَ بِهِ عَمُّهُ أبو طالب لَا أَبُوهُ عبد الله، كَمَا قَالَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ فخر الدين فِي أَبِي إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ عَمُّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ والسدي وَيُرَشِّحُهُ هُنَا أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِطْلَاقَ ذَلِكَ على أبي طالب كَانَ شَائِعًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَا كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: قُلْ لِابْنِكَ يَرْجِعُ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَقَالَ لَهُمْ أبو طالب مَرَّةً لَمَّا قَالُوا لَهُ: أَعْطِنَا ابْنَكَ نَقْتُلْهُ وَخُذْ هَذَا الْوَلَدَ مَكَانَهُ -: أُعْطِيكُمُ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ وَآخُذُ ابْنَكُمْ أَكْفُلُهُ لَكُمْ، وَلَمَّا سَافَرَ أبو طالب إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ لَهُ بحيرا فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا مِنْكَ؟ قَالَ: هُوَ ابْنِي، فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا، فَكَانَتْ تَسْمِيَةُ أبي طالب أَبًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَائِعَةً عِنْدَهُمْ لِكَوْنِهِ عَمَّهُ وَكَوْنِهِ رَبَّاهُ وَكَفَلَهُ مِنْ صِغَرِهِ، وَكَانَ يَحُوطُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَنْصُرُهُ، فَكَانَ مَظِنَّةَ السُّؤَالِ عَنْهُ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ يُشْبِهُ هَذَا ذِكْرُ أبي طالب فِي ذَيْلِ الْقِصَّةِ، أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أم سلمة (أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَحُثُّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ وَإِيوَاءِ الْيَتِيمِ وَإِطْعَامِ الضَّيْفِ وَإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَكُلُّ هَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ هشام بن المغيرة، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ قَبْرٍ لَا يَشْهَدُ صَاحِبُهُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ جَذْوَةٌ مِنَ النَّارِ، وَقَدْ وَجَدْتُ عَمِّي أبا طالب فِي طَمْطَامٍ مِنَ النَّارِ فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ لِمَكَانِهِ مِنِّي وَإِحْسَانِهِ إِلَيَّ فَجَعَلَهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ» ) . تَنْبِيهٌ: قَدِ اسْتَرَاحَ جَمَاعَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ كُلِّهَا وَأَجَابُوا عَنِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ [فِيهِمَا بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، كَمَا أَجَابُوا عَنِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ، وَقَالُوا: النَّاسِخُ لِأَحَادِيثِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَلِأَحَادِيثِ الْأَبَوَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَمِنَ اللَّطَائِفِ كَوْنُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْفَرِيقَيْنِ مُقْتَرِنَتَيْنِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَعَاطِفَتَيْنِ مُتَنَاسِقَتَيْنِ فِي النَّظْمِ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُخْتَصَرٌ مُفِيدٌ يُغْنِي عَنْ كُلِّ جَوَابٍ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى الْمَسْلَكِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، فَلِهَذَا احْتَجْنَا إِلَى تَحْرِيرِ الْأَجْوِبَةِ عَنْهَا عَلَى الْمَسْلَكِ الثَّانِي. تَتِمَّةٌ: قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أبو طالب، وَأَنَّهُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ فِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَوَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَا فِي النَّارِ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِيهَا لَكَانَا أَهْوَنَ عَذَابًا مِنْ أبي طالب؛ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ مِنْهُ مَكَانًا وَأَبْسَطُ عُذْرًا، فَإِنَّهُمَا لَمْ يُدْرِكَا الْبَعْثَةَ وَلَا عَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ فَامْتَنَعَا بِخِلَافِ أبي طالب، وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّهُ أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا فَلَيْسَ أَبَوَاهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَهَذَا يُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ. نَصْبُ مَيْدَانٍ جَدَلِيٍّ: الْمُجَادِلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ كَثِيرٌ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَكْثَرُهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِطُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ فَالْكَلَامُ مَعَهُمْ ضَائِعٌ، غَيْرَ أَنِّي أَنْظُرُ الَّذِي يُجَادِلُ وَأُكَلِّمُهُ بِطَرِيقَةٍ تَقْرُبُ مِنْ ذِهْنِهِ، فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا عِنْدَهُ أَنْ يَقُولَ: الَّذِي ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا تَقُولُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُجَادِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِنَا شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ أَقُولُ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْرَأْ فِي الصَّلَاةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَنْتَ لَا تُصَحِّحُ الصَّلَاةَ بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» ) . وَأَنْتَ إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، تَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، مِثْلَهُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا لِعُذْرٍ وَأَنْتَ قَادِرٌ تُصَلِّي خَلْفَهُ قَائِمًا لَا جَالِسًا، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ التَّيَمُّمِ: ( «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً وَمَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ» ) وَأَنْتَ لَا تَكْتَفِي فِي التَّيَمُّمِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا بِالْمَسْحِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، فَكَيْفَ خَالَفْتَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَلَا بُدَّ إِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ رَائِحَةٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ: قَامَتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مُعَارِضَةٌ لِهَذِهِ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا، فَأَقُولُ لَهُ: وَهَذَا مِثْلُهُ، لَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ إِلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَإِنَّهَا مُلْزِمَةٌ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُجَادِلُ مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ أَقُولُ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ( «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» ) وَأَنْتَ لَا تُثْبِتُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ، وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَلَمْ يَمْسَحْ كُلَّ رَأْسِهِ» ، وَأَنْتَ تُوجِبُ فِي الْوُضُوءِ مَسْحَ كُلِّ الرَّأْسِ، فَكَيْفَ خَالَفْتَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ؟ فَيَقُولُ: قَامَتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مُعَارِضَةٌ لَهُ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ لَهُ: وَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُجَادِلُ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ أَقُولُ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ( «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا» ) وَأَنْتَ لَا تَشْتَرِطُ فِي النَّجَاسَةِ الْكَلْبِيَّةِ سَبْعًا، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ( «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ) وَأَنْتِ تُصَحِّحُ الصَّلَاةَ بِدُونِهَا، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: ( «ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا» ) وَأَنْتَ تُصَحِّحُ الصَّلَاةَ بِدُونِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الِاعْتِدَالِ، وَصَحَّ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 الْحَدِيثِ: ( «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» ) وَأَنْتَ لَا تَعْتَبِرُ الْقُلَّتَيْنِ، وَصَحَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ الْمُدَبَّرَ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِبَيْعِ الْمُدَبَّرِ، فَكَيْفَ خَالَفْتَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ؟ فَيَقُولُ: قَامَتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مُعَارِضَةٌ لَهَا تَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا. فَأَقُولُ لَهُ: وَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُجَادِلُ حَنْبَلِيَّ الْمَذْهَبِ أَقُولُ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: ( «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» ) وَثَبَتَ فِيهِمَا ( «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ» ) وَأَنْتَ تَقُولُ بِصِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ، فَكَيْفَ خَالَفْتَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ؟ فَيَقُولُ: قَامَتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مُعَارِضَةٌ لَهُ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ لَهُ: وَهَذَا مِثْلُهُ. هَذَا أَقْرَبُ مَا يُقَرَّبُ بِهِ لِأَذْهَانِ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَإِنْ كَانَ الْمُجَادِلُ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ وَلَا فِقْهَ عِنْدَهُ يُقَالُ لَهُ: قَدْ قَالَتِ الْأَقْدَمُونَ: الْمُحَدِّثُ بِلَا فِقْهٍ كَعَطَّارٍ غَيْرِ طَبِيبٍ، فَالْأَدْوِيَةُ حَاصِلَةٌ فِي دُكَّانِهِ وَلَا يَدْرِي لِمَاذَا تَصْلُحُ، وَالْفَقِيهُ بِلَا حَدِيثٍ كَطَبِيبٍ لَيْسَ بِعَطَّارٍ يَعْرِفُ مَا تَصْلُحُ لَهُ الْأَدْوِيَةُ إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ قَدِ اجْتَمَعَ عِنْدِي الْحَدِيثُ وَالْفِقْهُ وَالْأُصُولُ وَسَائِرُ الْآلَاتِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَنَا أَعْرِفُ كَيْفَ أَتَكَلَّمُ وَكَيْفَ أَقُولُ وَكَيْفَ أَسْتَدِلُّ وَكَيْفَ أُرَجِّحُ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَخِي - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - فَلَا يَصْلُحُ لَكَ ذَلِكَ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي الْفِقْهَ وَلَا الْأُصُولَ وَلَا شَيْئًا مِنَ الْآلَاتِ، وَالْكَلَامُ فِي الْحَدِيثِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ وَلَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ عَلَى التَّكَلُّمِ فِيهِ لِمَنْ لَمْ يَجْمَعْ هَذِهِ الْعُلُومَ، فَاقْتَصِرْ عَلَى مَا آتَاكَ اللَّهُ وَهُوَ أَنَّكَ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ حَدِيثٍ تَقُولُ: وَرَدَ أَوْ لَمْ يَرِدْ، وَصَحَّحَهُ الْحُفَّاظُ وَحَسَّنُوهُ وَضَعَّفُوهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكَ فِي الْإِفْتَاءِ سِوَى هَذَا الْقَدْرِ، وَخَلِّ مَا عَدَا ذَلِكَ لِأَهْلِهِ. لَا تَحْسَبُ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ ... لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَا وَثَمَّ أَمْرٌ آخَرُ أُخَاطِبُ بِهِ كُلَّ ذِي مَذْهَبٍ مِنْ مُقَلِّدِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَذَلِكَ أَنْ مسلما رَوَى فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ كَانَ يُجْعَلُ وَاحِدَةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عمر» ، فَأَقُولُ لِكُلِّ طَالِبِ عِلْمٍ: هَلْ تَقُولُ أَنْتَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، تُطَلَّقُ وَاحِدَةً فَقَطْ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، أَعْرَضْتُ عَنْهُ، وَإِنْ قَالَ: لَا، أَقُولُ لَهُ: فَكَيْفَ تُخَالِفُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ؟ فَإِنْ قَالَ: لِمَا عَارَضَهُ، أَقُولُ لَهُ: فَاجْعَلْ هَذَا مِثْلَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَدِيثٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يُقَالُ بِمُقْتَضَاهُ لِوُجُودِ الْمَعَارِضِ لَهُ. الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ حَتَّى آمَنَا بِهِ. وَهَذَا الْمَسْلَكُ مَالَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ حُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمُ ابن شاهين وَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 والسهيلي، والقرطبي، والمحب الطبري، وَالْعَلَّامَةُ ناصر الدين بن المنير، وَغَيْرُهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ ابن شاهين فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ، كِلَاهُمَا فِي غَرَائِبِ مالك بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عائشة قَالَتْ: «حَجَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَمَرَّ بِي عَلَى عَقَبَةٍ بِالْحَجُونِ وَهُوَ بَاكٍ حَزِينٌ مُغْتَمٌّ، فَنَزَلَ فَمَكَثَ عَنِّي طَوِيلًا ثُمَّ عَادَ إِلَيَّ وَهُوَ فَرِحٌ مُبْتَسِمٌ، فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: ذَهَبْتُ لِقَبْرِ أُمِّي فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُحْيِيَهَا فَأَحْيَاهَا فَآمَنَتْ بِي وَرَدَّهَا اللَّهُ» . هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ، لَكِنَّ الصَّوَابَ ضَعْفُهُ لَا وَضْعُهُ، وَقَدْ أَلَّفْتُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ جُزْءًا مُفْرَدًا، وَأَوْرَدَ السهيلي فِي الرَّوْضِ الْأُنُفِ بِسَنَدٍ قَالَ أَنَّ فِيهِ مَجْهُولِينَ عَنْ عائشة «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُحْيِيَ أَبَوَيْهِ فَأَحْيَاهُمَا لَهُ فَآمَنَا بِهِ ثُمَّ أَمَاتَهُمَا» ، وَقَالَ السهيلي بَعْدَ إِيرَادِهِ: اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَيْسَ تَعْجَزُ رَحْمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ عَنْ شَيْءٍ، وَنَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلٌ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَا شَاءَ مِنْ فَضْلِهِ وَيُنْعِمُ عَلَيْهِ بِمَا شَاءَ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَقَالَ القرطبي: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ حَدِيثِ الْإِحْيَاءِ وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ، فَإِنَّ إِحْيَاءَهُمَا مُتَأَخِّرٌ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمَا بِدَلِيلِ حَدِيثِ عائشة أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ ابن شاهين نَاسِخًا لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ناصر الدين بن المنير المالكي فِي كِتَابِ " الْمُقْتَفَى فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى ": قَدْ وَقَعَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِحْيَاءُ الْمَوْتَى نَظِيرَ مَا وَقَعَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا مُنِعَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ دَعَا اللَّهَ أَنْ يُحْيِيَ لَهُ أَبَوَيْهِ، فَأَحْيَاهُمَا لَهُ فَآمَنَا بِهِ وَصَدَّقَا وَمَاتَا مُؤْمِنَيْنِ، وَقَالَ القرطبي: فَضَائِلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَزَلْ تَتَوَالَى وَتَتَتَابَعُ إِلَى حِينِ مَمَاتِهِ، فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ وَأَكْرَمَهُ، قَالَ: وَلَيْسَ إِحْيَاؤُهُمَا وَإِيمَانُهُمَا بِهِ يَمْتَنِعُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ إِحْيَاءُ قَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِخْبَارُهُ بِقَاتِلِهِ، وَكَانَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُحْيِي الْمَوْتَى، وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَحْيَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ جَمَاعَةً مِنَ الْمَوْتَى، قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَا يَمْتَنِعُ مِنْ إِيمَانِهِمَا بَعْدَ إِحْيَائِهِمَا زِيَادَةَ كَرَامَةٍ فِي فَضِيلَتِهِ، وَقَالَ الْحَافِظُ فتح الدين بن سيد الناس فِي سِيرَتِهِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ الْإِحْيَاءِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي التَّعْذِيبِ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ رَاقِيًا فِي الْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ صَاعِدًا فِي الدَّرَجَاتِ الْعَلِيَّةِ إِلَى أَنْ قَبَضَ اللَّهُ رُوحَهُ الطَّاهِرَةَ إِلَيْهِ وَأَزْلَفَهُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ لَدَيْهِ مِنَ الْكَرَامَةِ حِينَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ دَرَجَةً حَصَلَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَأَنْ يَكُونَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِيمَانُ مُتَأَخِّرًا عَنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ فَلَا تَعَارُضَ. انْتَهَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، فَقَالَ بَعْدَ إِيرَادِهِ خَبَرَ حليمة وَمَا أَسْدَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا حِينَ قُدُومِهَا عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ الْأُمِّ عَنْ إِرْضَاعِهِ ... لَكِنَّ جَزَاءَ اللَّهِ عَنْهُ عَظِيمُ وَكَذَاكَ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ لِأُمِّهِ ... عَنْ ذَاكَ آمِنَةَ يَدٌ وَنَعِيمُ وَيَكُونُ أَحْيَاهَا الْإِلَهُ وَآمَنَتْ ... بِمُحَمَّدٍ فَحَدِيثُهَا مَعْلُومُ فَلَرُبَّمَا سَعِدَتْ بِهِ أَيْضًا كَمَا ... سَعِدَتْ بِهِ بَعْدَ الشَّقَاءِ حَلِيمُ وَقَالَ الْحَافِظُ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " مَوْرِدُ الصَّادِي فِي مَوْلِدِ الْهَادِي " بَعْدَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مُنْشِدًا لِنَفْسِهِ: حَبَا اللَّهُ النَّبِيَّ مَزِيدَ فَضْلٍ ... عَلَى فَضْلٍ وَكَانَ بِهِ رَؤُوفَا فَأَحْيَا أُمَّهُ وَكَذَا أَبَاهُ ... لِإِيمَانٍ بِهِ فَضْلًا لَطِيفَا فَسَلِّمْ فَالْقَدِيمُ بِذَا قَدِيرٌ ... وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ بِهِ ضَعِيفَا خَاتِمَةٌ: وَجَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ تَقْوَ عِنْدَهُمْ هَذِهِ الْمَسَالِكُ فَأَبْقَوْا حَدِيثَيْ مُسْلِمٍ وَنَحْوَهُمَا عَلَى ظَاهِرِهِمَا مِنْ غَيْرِ عُدُولٍ عَنْهَا بِدَعْوَى نَسْخٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ، قَالَ السهيلي فِي " الرَّوْضِ الْأُنُفِ " بَعْدَ إِيرَادِهِ حَدِيثَ مُسْلِمٍ: وَلَيْسَ لَنَا نَحْنُ أَنْ نَقُولَ ذَلِكَ فِي أَبَوَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ: ( «لَا تُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ بِسَبِّ الْأَمْوَاتِ» ) وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] الْآيَةَ، وَسُئِلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: إِنْ أَبَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّارِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مَلْعُونٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] قَالَ: وَلَا أَذًى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقَالَ عَنْ أَبِيهِ إِنَّهُ فِي النَّارِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ ذَهَبَ إِلَى قَوْلٍ خَامِسٍ وَهُوَ الْوَقْفُ، قَالَ الشَّيْخُ تاج الدين الفاكهاني فِي كِتَابِهِ " الْفَجْرُ الْمُنِيرُ ": اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ أَبَوَيْهِ، وَقَالَ الباجي فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْذَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلٍ مُبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ فَيَجُوزُ أَنْ يُؤْذَى بِمُبَاحٍ وَلَيْسَ لَنَا الْمَنْعُ مِنْهُ وَلَا يَأْثَمُ فَاعِلُ الْمُبَاحِ وَإِنْ وَصَلَ بِذَلِكَ أَذًى إِلَى غَيْرِهِ، قَالَ: وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إِذْ أَرَادَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ: «إِنَّمَا فاطمة بَضْعَةٌ مِنِّي وَإِنِّي لَا أُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَبَدًا» ) فَجَعَلَ حُكْمَهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْذَى بِمُبَاحٍ، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [الأحزاب: 57] الْآيَتَيْنِ، فَشَرَطَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْذُوا بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، وَأَطْلَقَ الْأَذَى فِي خَاصَّةٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية قَالَ: حَدَّثَنَا نوفل بن الفرات - وَكَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ كُتَّابِ الشَّامِ مَأْمُونًا عِنْدَهُمُ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى كُورَةِ الشَّامِ، وَكَانَ أَبُوهُ يَزِنُ بَالْمَنَانِيَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَسْتَعْمِلَ رَجُلًا عَلَى كُورَةٍ مَنْ كُوَرِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ أَبُوهُ يَزِنُ بَالْمَنَانِيَّةِ؟ قَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا عَلَيَّ! كَانَ أَبُو النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشْرِكًا، فَقَالَ عمر: آهٍ، ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: أَأَقْطَعُ لِسَانَهُ؟ أَأَقْطَعُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ؟ أَأَضْرِبَ عُنُقَهُ؟ ثُمَّ قَالَ: لَا تَلِي لِي شَيْئًا مَا بَقِيتُ، وَقَدْ سُئِلْتُ أَنْ أَنْظِمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبْيَاتًا أَخْتِمُ بِهَا هَذَا التَّأْلِيفَ فَقُلْتُ: إِنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... أَنْجَى بِهِ الثَّقَلَيْنِ مِمَّا يُجْحِفُ وَلِأُمِّهِ وَأَبِيهِ حُكْمٌ شَائِعٌ ... أَبْدَاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا صَنَّفُوا فَجَمَاعَةٌ أَجْرَوْهُمَا مَجْرَى الَّذِي ... لَمْ يَأْتِهِ خَبَرُ الدُّعَاةِ الْمُسْعِفُ وَالْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ تَجِئْهُ دَعْوَةٌ ... أَنْ لَا عَذَابَ عَلَيْهِ حُكْمٌ يُؤْلَفُ فَبِذَاكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ كُلُّهُمْ ... وَالْأَشْعَرِيَّةُ مَا بِهِمْ مُتَوَقِّفُ وَبِسُورَةِ الْإِسْرَاءِ فِيهِ حُجَّةٌ ... وَبِنَحْوِ ذَا فِي الذِّكْرِ آيٌ تُعْرَفُ وَلِبَعْضِ أَهْلِ الْفِقْهِ فِي تَعْلِيلِهِ ... مَعْنًى أَرَقُّ مِنَ النَّسِيمِ وَأَلْطَفُ وَنَحَا الْإِمَامُ الْفَخْرُ رَازِيُّ الْوَرَى ... مَنْحًى بِهِ لِلسَّامِعِينَ تَشَنُّفُ إِذْ هُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي وُلِدُوا وَلَمْ ... يَظْهَرْ عِنَادٌ مِنْهُمْ وَتَخَلُّفُ قَالَ الْأُولَى وَلَدُوا النَّبِيَّ الْمُصْطَفَى ... كُلٌّ عَلَى التَّوْحِيدِ إِذْ يَتَحَنَّفُ مِنْ آدَمَ لِأَبِيهِ عَبَدِ اللَّهَ مَا ... فِيهِمْ أَخُو شِرْكٍ وَلَا مُسْتَنْكِفُ فَالْمُشْرِكُونَ كَمَا بِسُورَةِ تَوْبَةَ ... نَجَسٌ وَكُلُّهُمْ بِطُهْرٍ يُوصَفُ وَبِسُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِيهِ تَقَلَّبَ ... فِي السَّاجِدِينَ فَكُلُّهُمْ مُتَحَنِّفُ هَذَا كَلَامُ الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ فِي ... أَسْرَارِهِ هَطَلَتْ عَلَيْهِ الذَّرْفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 فَجَزَاهُ رَبُّ الْعَرْشِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... وَحَبَاهُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ تُزَخْرَفُ فَلَقَدْ تَدَيَّنَ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ ... فِرْقَةٌ دِينَ الْهُدَى وَتَحَنَّفُوا زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ نَوْفَلٍ هَكَذَا الصِّدِّيقُ ... مَا شِرْكٌ عَلَيْهِ يَعْكُفُ قَدْ فَسَّرَ السُّبْكِيُّ بِذَاكَ مَقَالَةً ... لِلْأَشْعَرِيِّ وَمَا سِوَاهُ مُزَيَّفُ إِذْ لَمْ تَزَلْ عَيْنُ الرِّضَا مِنْهُ عَلَى الصِّدِّيقِ ... وَهُوَ بِطُولِ عُمْرٍ أَحْنَفُ عَادَتْ عَلَيْهِ صُحْبَةُ الْهَادِي فَمَا ... فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالضَّلَالَةِ يَقْرَفُ فَلَأُمُّهُ وَأَبُوهُ أَحْرَى سِيَّمَا ... وَرَأَتْ مِنَ الْآيَاتِ مَا لَا يُوصَفُ وَجَمَاعَةٌ ذَهَبُوا إِلَى إِحْيَائِهِ ... أَبَوَيْهِ حَتَّى آمَنَا لَا خُوِّفُوا وَرَوَى ابْنُ شَاهِينَ حَدِيثًا مُسْنَدًا ... فِي ذَاكَ لَكِنَّ الْحَدِيثَ مُضَعَّفُ هَذِي مَسَالِكُ لَوْ تَفَرَّدَ بَعْضُهَا ... لَكَفَى فَكَيْفَ بِهَا إِذَا تَتَأَلَّفُ وَبِحَسْبِ مَنْ لَا يَرْتَضِيهَا صَمْتُهُ ... أَدَبًا وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ هُوَ مُنْصِفُ صَلَّى الْإِلَهُ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... مَا جَدَّدَ الدِّينَ الْحَنِيفَ مُحَنَّفُ حَدِيثٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بَشْرَانَ أَنَا أبو جعفر الرزاز ثَنَا يحيى بن جعفر أَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ أَنَا يس بن معاذ ثَنَا عبد الله بن قريد عَنْ طلق بن علي قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «لَوْ أَدْرَكْتُ وَالِدَيَّ أَوْ أَحَدَهُمَا وَأَنَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَقَدْ قَرَأْتُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ تُنَادِي يَا مُحَمَّدُ، لَأَجَبْتُهَا: لَبَّيْكِ» ) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يس بن معاذ ضَعِيفٌ. فَائِدَةٌ: قَالَ الأزرقي فِي تَارِيخِ مَكَّةَ: حَدَّثَنَا محمد بن يحيى عَنْ عبد العزيز بن عمران عَنْ هشام بن عاصم الأسلمي قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فَنَزَلُوا بِالْأَبْوَاءِ قَالَتْ هند ابنة عتبة لأبي سفيان بن حرب: لَوْ بَحَثْتُمْ قَبْرَ آمنة أم محمد فَإِنَّهُ بِالْأَبْوَاءِ، فَإِنْ أُسِرَ أَحَدُكُمُ افْتَدَيْتُمْ بِهِ كُلَّ إِنْسَانٍ بِإِرْبٍ مَنْ آرَابِهَا، فَذَكَرَ ذَلِكَ أبو سفيان لِقُرَيْشٍ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لَا تَفْتَحْ عَلَيْنَا هَذَا الْبَابَ إِذًا تَبْحَثُ بَنُو بَكْرٍ مَوْتَانَا. فَائِدَةٌ: مِنْ شِعْرِ عبد الله وَالِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْرَدَهُ الصلاح الصفدي فِي تَذْكِرَتِهِ: لَقَدْ حَكَمَ السَّارُونَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ ... بِأَنَّ لَنَا فَضْلًا عَلَى سَادَةِ الْأَرْضِ وَإِنَّ أَبِي ذُو الْمَجْدِ وَالسُّؤْدَدِ الَّذِي ... يُشَارُ بِهِ مَا بَيْنَ نَشْزٍ إِلَى خَفْضِ وَجَدِّي وَآبَاءٌ لَهُ أَثَّلُوا الْعُلَا ... قَدِيمًا بِطِيبِ الْعِرْقِ وَالْحَسَبِ الْمَحْضِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 فَائِدَةٌ: قَالَ الْإِمَامُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ فِي الْمُقْنِعِ: وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُتِلَ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. [الْفَتَاوَى الصوفية] [ الزهد ] الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّصَوُّفِ مَسْأَلَةٌ: فِيمَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أبي عبد الله محمد بن الوراق لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَشْيَاءَ فَعَدَّ مِنْهَا بِأَنْ قَالَ: مَنِ اكْتَفَى بِالْفِقْهِ دُونَ الزُّهْدِ يَفْسُقُ، فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَا هُوَ الزُّهْدُ الَّذِي يَكْتَفِي بِالْفِقْهِ دُونَهُ؟ وَهَلِ الْفَقِيهُ إِذَا اكْتَفَى بِالْفِقْهِ وَخَرَجَ مِنَ الْخِلَافِ، هَلْ يُعَدُّ هَذَا مِنَ الزُّهْدِ الَّذِي عَنَاهُ الشَّيْخُ هُنَا؟ الْجَوَابُ: هَذَا كَلَامُ رَجُلٍ صُوفِيٍّ تَكَلَّمَ بِحَسْبِ مَقَامِهِ، فَإِنَّ الْخَوَاصَّ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ عَلَى مَا لَا يُطْلِقُهُ الْفُقَهَاءُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَأَطْلَقَ عَلَى الْحَسَنَاتِ سَيِّئَاتٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَلِيِّ مَقَامِهِمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِنْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا قَضَيْتُ بِرِدَّتِي وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِرِدَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَمِنْ هَذَا النَّمَطِ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ الْغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ، فَكُلُّ هَذَا مِنْ طَرِيقَةِ الْخَوَاصِّ يُلْزِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَا لَا يَلْزَمُ الْعَامَّةَ. مَسْأَلَةٌ: فِي جَمَاعَةٍ صُوفِيَّةٍ اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ ثُمَّ إِنَّ شَخْصًا مِنَ الْجَمَاعَةِ قَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ ذَاكِرًا وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ لِوَارِدٍ حَصَلَ لَهُ، فَهَلْ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ أَمْ لَا، وَهَلْ لِأَحَدٍ مَنْعُهُ وَزَجْرُهُ عَنْ ذَلِكَ؟ . الْجَوَابُ: لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِعَيْنِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ سراج الدين البلقيني فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ لَا إِنْكَارَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِمَانِعِ التَّعَدِّي بِمَنْعِهِ، وَيَلْزَمُ الْمُتَعَدِّيَ بِذَلِكَ التَّعْزِيرُ، وَسُئِلَ عَنْهُ الْعَلَّامَةُ برهان الدين الأبناسي فَأَجَابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَزَادَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَالِ مَغْلُوبٌ، وَالْمُنْكِرَ مَحْرُومٌ مَا ذَاقَ لَذَّةَ التَّوَاجُدِ وَلَا صَفَا لَهُ الْمَشْرُوبُ، إِلَى أَنْ قَالَ فِي آخِرِ جَوَابِهِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّلَامَةُ فِي تَسْلِيمِ حَالِ الْقَوْمِ، وَأَجَابَ أَيْضًا بِمِثْلِ ذَلِكَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كُلُّهُمْ كَتَبُوا عَلَى هَذَا السُّؤَالِ بِالْمُوَافَقَةِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ. أَقُولُ: وَكَيْفَ يُنْكَرُ الذِّكْرُ قَائِمًا وَالْقِيَامُ ذَاكِرًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ} [آل عمران: 191] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 {اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] وَقَالَتْ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» ، وَإِنِ انْضَمَّ إِلَى هَذَا الْقِيَامِ رَقْصٌ أَوْ نَحْوُهُ فَلَا إِنْكَارَ عَلَيْهِمْ، فَذَلِكَ مِنْ لَذَّاتِ الشُّهُودِ أَوِ الْمَوَاجِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «رَقْصُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ لَهُ: أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي» ، وَذَلِكَ مِنْ لَذَّةٍ هَذَا الْخِطَابِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي رَقْصِ الصُّوفِيَّةِ لِمَا يُدْرِكُونَهُ مِنْ لَذَّاتِ الْمَوَاجِيدِ، وَقَدْ صَحَّ الْقِيَامُ وَالرَّقْصُ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالسَّمَاعِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عز الدين بن عبد السلام. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ الشَّيْخِ أبي العباس المرسي فِي حِزْبِهِ: إِلَهِي مَعْصِيَتُكَ نَادَتْنِي بِالطَّاعَةِ، وَطَاعَتُكَ نَادَتْنِي بِالْمَعْصِيَةِ، فَفِي أَيِّهِمَا أَخَافُكَ وَفِي أَيِّهِمَا أَرْجُوكَ؟ إِنْ قُلْتُ بِالْمَعْصِيَةِ، قَابَلْتَنِي بِفَضْلِكَ فَلَمْ تَدَعْ لِي خَوْفًا، وَإِنْ قُلْتُ بِالطَّاعَةِ، قَابَلْتَنِي بِعَدْلِكَ فَلَمْ تَدَعْ لِي رَجَاءً، فَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَرَى إِحْسَانِي مَعَ إِحْسَانِكَ؟ ! أَمْ كَيْفَ أَجْهَلُ فَضْلَكَ مَعَ عِصْيَانِكَ؟ ! ق ج سِرَّانِ مِنْ سِرِّكَ وَكِلَاهُمَا دَالَّانِ عَلَى غَيْرِكَ، فَبِالسِّرِّ الْجَامِعِ الدَّالِّ عَلَيْكَ لَا تَدَعْنِي لِغَيْرِكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الْجَوَابُ: حَسْبَمَا ظَهَرَ قَوْلُهُ: إِلَهِي مَعْصِيَتُكَ نَادَتْنِي بِالطَّاعَةِ: يَعْنِي لِمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهَا مِنَ النَّدَمِ وَالْخَوْفِ وَالِانْكِسَارِ وَالذُّلِّ وَرَجَاءِ التَّوْبَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ وَنُزُولِ الْمَرْتَبَةِ، وَطَاعَتُكَ نَادَتْنِي بِالْمَعْصِيَةِ لِمَا قَدْ يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ أَضْدَادِ ذَلِكَ وَمِنْ مُخَالَطَةِ الْعُجْبَ وَالرِّيَاءِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ عَنْ كليب الجهني عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ( «لَوْلَا أَنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ مِنَ الْعُجْبِ مَا خَلَّيْتُ بَيْنَ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الذَّنْبِ» ) وَمَا أَخْرَجَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «لَوْلَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَنْ يَعْجَبُ بِعَمَلِهِ لَعُصِمَ مِنَ الذَّنْبِ حَتَّى لَا يَهُمَّ بِهِ، وَلَكِنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْعُجْبِ» ) وَمَا أَخْرَجَهُ أبو نعيم وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وأبي سعيد مَرْفُوعًا: ( «لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، الْعُجْبَ الْعُجْبَ» ) وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْأَوْلِيَاءِ وأبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جِبْرِيلَ يَقُولُ اللَّهُ: ( «وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يَسْأَلُنِي الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَكُفُّهُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فَيُفْسِدُهُ ذَلِكَ» ) - ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وَأَيْضًا فَالطَّاعَةُ قَدْ تَكُونُ مَذْمُومَةً لِنُقْصَانِهَا بِتَخَلُّفِ أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَخَلَّفَ عَنْهَا، كَالذِّكْرِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَارِنَهُ حُضُورُ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ: اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ، وَكَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَارِنَهُ الِائْتِمَارُ وَالِانْتِهَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي ذَمِّ مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَأْتَمِرْ بِهِ، وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ، وَكَالصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نَاهِيَةً عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَكَالصَّوْمِ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنِ الْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِ الطَّاعَاتِ الَّتِي لَا تُحْمَدُ مَا لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ الْكَمَالِ وَتَخْلُصْ مِنْ شَوَائِبِ النُّقْصَانِ. قَوْلُهُ: إِنْ قُلْتُ بِالْمَعْصِيَةِ قَابَلْتَنِي بِفَضْلِكَ، أَيْ: ذَكَّرْتَنِي فَضْلَكَ وَسِعَةَ رَحْمَتِكَ وَمُغْفِرَتِكَ فَلَمْ تَدَعْ لِي خَوْفًا وَفَتَحْتَ لِي أَبْوَابَ الرَّجَاءِ، فِي الْحَدِيثِ: ( «لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. قَوْلُهُ: وَإِنْ قُلْتُ بِالطَّاعَةِ قَابَلْتَنِي بِعَدْلِكَ، أَيْ: ذَكَّرْتَنِي مَا لِي مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا فِي طَاعَتِي مِنَ التَّقْصِيرِ الَّذِي يَكَادُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الِاعْتِدَادِ بِهَا فَضْلًا عَنْ تَكْفِيرِ الْخَوَاتِمِ. قَوْلُهُ: فَلَمْ تَدَعْ لِي رَجَاءً: لِاتِّسَاعِ الْخَوْفِ حِينَئِذٍ عَلَيَّ، فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ هَرَمًا فِي مَرْضَاتِ اللَّهِ لَخَفَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، قَوْلُهُ: فَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَرَى إِحْسَانِي مَعَ إِحْسَانِكَ! أَيْ كَيْفَ أَعُدُّهُ إِحْسَانًا يَسْتَوْجِبُ الْجَزَاءَ مَعَ أَنَّ إِقْدَارِي عَلَيْهِ إِحْسَانٌ مِنْكَ وَنِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ وَالْمَزِيدَ فِي الْعَمَلِ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرَّا مَعَ مَزِيدِ الْإِحْسَانِ وَجَزِيلِ الْإِفْضَالِ الْخَارِجِ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُنَاسِبُ جُمْلَةَ الْخَوْفِ، قَوْلُهُ: أَمْ كَيْفَ أَجْهَلُ فَضْلَكَ بِالْحِلْمِ وَالْإِمْهَالِ وَالْإِنْعَامِ مَعَ عِصْيَانِي لَكَ؟ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُنَاسِبُ جُمْلَةَ الرَّجَاءِ، قَوْلُهُ: ق ج سِرَّانِ مِنْ سِرِّكَ الظَّاهِرِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَخَذَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ مِنْ وَصْفَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الم، وطس، وَق، وَن، وَص، أَنَّهَا حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا مِنَ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهَا مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْقَافُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَدِيرٍ أَوْ مُقْتَدِرٍ، وَالْجِيمُ مِنْ جَوَادٍ، وَكَلَاهُمَا مُنَاسِبَانِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَالْخَوْفُ يُنَاسِبُهُ الْقُدْرَةُ أَوِ الِاقْتِدَارُ، وَالرَّجَاءُ يُنَاسِبُهُ الْجُودُ، قَوْلُهُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وَكِلَاهُمَا دَالَّانِ عَلَى غَيْرِكَ، يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ لَهُمَا تَعَلُّقًا بِالْغَيْرِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِمَقْدُورٍ وَالِاقْتِدَارَ بِمَقْدُورٍ عَلَيْهِ وَالْجُودَ بِمُتَفَضَّلٍ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ يُوصَفَ بِهِمَا غَيْرُهُ تَعَالَى وَأَنْ يُطْلَقَا عَلَيْهِ وَلِذَا قَالَ عقبه: فَبِالسِّرِّ الْجَامِعِ الدَّالِّ عَلَيْكَ، أَيْ: بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بِكَ وَهُوَ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْغَيْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ تَعَالَى، وَهُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الذَّاتِ وَهُوَ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ فَإِنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْوَصْفِ بِمَدْلُولِهَا، قَوْلُهُ: لَا تَدَعْنِي لِغَيْرِكَ بَلِ اجْعَلْنِي لَكَ عِبَادَتِي وَدُعَائِي وَخَوْفِي وَرَجَائِي وَتَوَجُّهِي وَحَرَكَاتِي وَسَكَنَاتِي، هَذَا مَا ظَهَرَ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ كَلَامًا لِلشِّهَابِ أحمد بن عبد الواحد بن الميلق عَلَى هَذَا الْفَصْلِ قَالَ: قَوْلُ الْأُسْتَاذِ يَعْنِي أبا العباس المرسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِلَهِي مَعْصِيَتُكَ نَادَتْنِي بِالطَّاعَةِ: يَحْتَمِلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ سَبَقَ تَعَلُّقُ عِلْمِكَ بِهَا وَقُدْرَتِكَ بِإِيجَادِهَا وَإِرَادَتِكَ بِتَخْصِيصِهَا، فَتَعَيَّنَ وُجُودُهَا عَلَى حَسَبِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ تَعْيِينًا لُزُومِيًّا لِلْعَبْدِ ضَرُورَةَ بُطْلَانِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَتَبَدُّلِهِ جَهْلًا، وَتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَتَبَدُّلِهَا عَجْزًا، وَتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَتَبَدُّلِهَا قَسْرًا، فَلَيْسَ إِلَّا وُقُوعُ هَذَا الْمُقْتَضَى عَلَى حَسَبِ سَابِقِ الْقَضَاءِ فَأَنَّى يُمْكِنُ الْعَبْدَ الْحَوْلُ عَنْهَا، وَوُقُوعُهَا مِنْهُ حَتْمًا عَدْلًا مِنَ الْقَهَّارِ لَا ظُلْمًا، فَلِهَذَا كَانَتْ مُنَادِيَةً عَلَيْهِ بِالطَّاعَةِ أَيْ بِالدُّخُولِ تَحْتَ مَجَارِي الْقَهْرِ اسْتِسْلَامًا لِلْقَهَّارِ كَمَا قَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فَهَذِهِ الطَّاعَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي كَلَامِ الْأُسْتَاذِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّهَا مَجَازٌ فِي تِلْوِ هَذَا الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَطَاعَتُكَ نَادَتْنِي بِالْمَعْصِيَةِ: يَحْتَمِلُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ مُشِيرًا إِلَى مَا سَبَقَ، تَعَلُّقُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، بَدَأَ بِالطَّاعَةِ الَّتِي جَرَتْ عَلَى يَدِ الْعَبْدِ فَكَانَ الْحَقُّ وُقُوعَهَا وَالْبَاطِلُ امْتِنَاعَهَا لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَطَاعَ وَمَا خَالَفَ فَيَكُونُ مُنَادِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِلِسَانِ حَالِ رُؤْيَتِهِ طَاعَتَهُ مَوْلَاهُ بِدَعْوَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِي حَالِ الْإِطَاعَةِ حَقِيقَةً فَعَدَلَ عَنِ الْمُخَالَفَةِ لِلطَّاعَةِ فَأَطَاعَ، وَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فِي حَالِ جَرَيَانِ الْفَضْلِ الْمُقَدَّرِ الْمُسَمَّى بِالطَّاعَةِ فَهُوَ فِي عَيْنِ الْمَعْصِيَةِ، فَتَبَيَّنَ مِنْ هُنَا أَنَّ نِسْبَةَ الطَّاعَةِ لَهُ مَجَازٌ كَنِسْبَتِهَا لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ فُهِمَ الْغَرَضُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَوْطِنِ يُفْهَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 مَعْنَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِسَيِّدِ خَلْقِهِ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] وَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] ثُمَّ قَالَ: فَفِي أَيِّهِمَا [أَخَافُكَ وَفِي أَيِّهِمَا] أَرْجُوكَ، إِنْ قُلْتُ بِالْمَعْصِيَةِ قَابَلْتَنِي بِفَضْلِكَ فَلَمْ تَدَعْ لِي خَوْفًا، أَوْ قُلْتُ بِالطَّاعَةِ قَابَلْتَنِي بِعَدْلِكَ فَلَمْ تَدَعْ لِي رَجَاءً، يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِنْ رَأَيْتُ مَعْصِيَتِي لَكَ مِنِّي حَيْثُ الْأَدَبُ الشَّرْعِيُّ قَامَ الْخَوْفُ بِي مِنْكَ فَأَطْفَأَهُ وَارِدُ الْفَضْلِ مِنْكَ عَلَيَّ بِإِشْهَادِي الْحَقِيقَةَ مِنْ لَدُنْكَ {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] فَيَنْزَهِقُ الْخَوْفُ هُنَا، وَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ قُلْتُ بِالطَّاعَةِ قَابَلْتَنِي بِعَدْلِكَ فَلَمْ تَدَعْ لِي رَجَاءً، يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنْ رَأَيْتُ طَاعَتِي مِنِّي لَكَ مِنْ حَيْثُ النَّسَبُ الشَّرْعِيُّ قَامَ الرَّجَاءُ بِي فَأَفْنَاهُ وَارِدُ الْعَدْلِ مِنْكَ عَلِيَّ بِإِشْهَادِي الْحَقِيقَةَ مِنْ لَدُنْكَ {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] . وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ هَذَا فَلْتَعْلَمْ أَنَّ لِلْفَضْلِ تَعَلُّقَاتٍ وَلِلْعَدْلِ تَعَلُّقَاتٍ وَكِلَاهُمَا دَالَّانِ عَلَى غِنَاهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَمِنْ تَعَلُّقَاتِ فَضْلِهِ مَا يُعَامِلُ بِهِ مَنْ عَصَاهُ مِنْ سِتْرٍ وَبِرٍّ وَعَطْفٍ وَلُطْفٍ وَحَنَانٍ وَإِحْسَانٍ وُجُودٍ وَبَسْطِ يَدِ الرَّحْمَةِ لِلْعَاصِي مِنْ غَيْرِ حُدُودٍ، وَمِنْ مُتَعَلِّقَاتِ عَدْلِهِ مَا يُعَامِلُ بِهِ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَبْضٍ فِي الرِّزْقِ وَدُحُوضٍ بَيْنَ الْخَلْقِ وَضَعْفٍ فِي الْجَسَدِ وَقِلَّةِ حَظٍّ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْبَلَدِ وَالْإِخْوَانِ وَالْأَخْدَانِ وَالْوَلَدِ. وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ مُقَابَلَةَ الْعَاصِي بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْفَضْلِ فِي حَالِ عِصْيَانِهِ رُبَّمَا يُزِيلُ عَنْهُ الْخَوْفَ، وَمُقَابَلَةُ الطَّائِعِ بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْعَدْلِ فِي حَالِ طَاعَتِهِ رُبَّمَا يُزِيلُ عَنْهُ الرَّجَاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وُرُودِ أَثَرِ الْفَضْلِ عَلَى سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ وُرُودِ أَثَرِ الْعَدْلِ عَلَى عَطْبِ الْعَاقِبَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَقَعَ الْإِيهَامُ عَلَى الْخَلْقِ فَجَاءَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] وَهُوَ رُؤْيَةُ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ حَقِيقَةً مَعَ التَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ مِنْهَا حَقِيقَةً، وَرَدِّ الْأَشْيَاءِ اللَّائِقَةِ بِالنَّسَبِ لِلْعِبَادِ كَسْبًا شَرِيعَةً مَعَ الِانْسِلَاخِ عَنْ لُحُوظِ الْحُظُوظِ تَوَكُّلًا عَلَيْهِ وَاسْتِسْلَامًا إِلَيْهِ وَفَنَاءً لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا مُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ فِي ضِمْنِ مَا أَشَارَ الْأُسْتَاذُ إِلَيْهِ حَسْبَ فَهْمِي عَنْهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَاللَّهَ أَسْأَلُ الْمَغْفِرَةَ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ رَأَيْتُ فَائِدَةً: لَقَدْ رَمَزَ الْأَشْيَاخُ سِرًّا مُكَتَّمًا ... عَنِ الْقَافِ لَمْ يُبْدُوا لَهَا أَبَدًا حَلَّا يَقُولُونَ عِنْدَ الْقَافِ قِفْ لِتَرَى الَّذِي ... أَرَدْنَاهُ لَا تَبْغِي بِهِ بَدَلًا أَصْلَا وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخُ عبد السلام البغدادي فَأَجَابَ: يُرِيدُونَ قَافَ الرِّقِّ يَا ذَا النُّهَى فَكُنْ ... بِمَقْصُودِهِمْ كَيْ تُدْرِكَ الْعِلْمَ وَالْفَضْلَا فَفِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ هُمْ يَزْعُمُونَ مَنْ ... دَرَى نَفْسَهُ فَهُوَ الَّذِي عَرَفَ الْمَوْلَى دَارِهَا بِرِقٍّ وَانْكِسَارٍ وَذِلَّةٍ ... وَخَالِقُهُ رَبٌّ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَقَدْ جَاءَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ دَلِيلُهُمْ ... هِيَ الْمُبْتَغَى مِنْ خَلْقِهِ حَقِّقَ النَّقْلَا بِآخِرِ آيِ الذَّارِيَاتِ تَرَاهُمُ ... بِتَأْوِيلِهِمْ كَيْ يَعْرِفُوا حَبَّذَا وَصْلًا ثَلَاثُمِائَةِ عِلْمٍ لِمَنْ شَاءَ فَهْمَهَا ... مِنَ الرَّاءِ وَالْقَافِ اجْعَلْنَ ذَلِكَ الْأَصْلَا مَنَازِلُ سَيْرِ السَّالِكِينَ تَعُدُّهَا ... بِأَقْسَامٍ عَشْرٍ فَاجْعَلْنَ مِائَةً عَدْلَا فَأَوَّلُهَا بَابُ الْإِنَابَةِ يَا فَتَى ... وَآخِرُهَا التَّوْحِيدُ وَالْمَطْلَبُ الْأَعْلَى ثَلَاثُ عُلُومٍ مِنْ طِبَاقٍ أَتَى بِهَا ... هُوَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ جَادَ بِهَا نَقْلَا عَوَامُّ خَوَاصٍّ ثُمَّ خَاصُّ خَوَاصِّهَا ... فَكُنْ أَوْحَدِيًّا عَارِفًا رَاتِعًا فَحْلَا فَهَذَا جَوَابٌ مِنْ فَقِيرٍ مُحَصِّلٍ ... وَطَالِبِ فَهْمٍ أُلْهِمَ الرَّمْزَ وَالْحَلَّا وَمُوَلَّهِ دَارِ السَّلَامِ وَاسْمُهُ ... عُبَيْدُ السَّلَامِ مُصَلَّاكُمْ نَازِلًا حَلَّا إِلَى الْعَالِمِ النِّحْرِيرِ نُعْمَانَ يَنْتَمِي ... إِمَامِ الْهُدَى وَالْفِقْهِ كَمْ مُشْكِلٍ حَلَّا وَأَجَابَ سَيِّدِي محمد بن سلطان العزي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنَفَعَنَا اللَّهُ بِبَرَكَاتِهِ: أَيَا سَائِلًا عَنْ سِرِّ رَمْزٍ مُكَتَّمٍ ... تَوَقَّفْ فَذَا قَافٌ غَدًا فَاؤُهُ أَصْلَا يُشِيرُ بِمَحْمُولٍ لِعَيْنٍ وَحَاؤُهُ ... بِمُوجِعِ مَبْسُوطٍ لَهُ مَوْرِدًا أَصْلَا وَكُبْرَاهُ قَدْ أَبْدَى نَتِيجَةَ دَالِهِ ... وَصُغْرَاءُ مَحْذُورٌ لَقَدْ حَقَّقَ الْوَصْلَا هَيُولَاؤُهُ وَافَى بِشَكْلٍ مُثَمَّنٍ ... وَتَسْدِيسُ ذَاكَ الشَّكْلِ جَهْرًا لَقَدْ أَمْلَى وَآخِرُهُ جِيمٌ فَرَاءٌ بِأَوْجِهَا ... حَضِيضٌ لِصَادٍ سِينُهُ حَرِّرِ النَّقْلَا فَهَذَا جَوَابٌ مِنْ فَقِيرٍ جُوَيْهِلٍ ... مُسِيءٍ جَرِيءٍ أَكْثَرَ النَّوْمَ وَالْأَكْلَا دُعِيَ بِابْنِ سُلْطَانٍ مُحَمَّدٍ فِي الْوَرَى ... وَخَادِمِ فَتَى كَيْلَانَ ذِي النَّسَبِ الْأَعْلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 [الْقَوْلُ الْأَشْبَهُ فِي حَدِيثِ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ] 68 - الْقَوْلُ الْأَشْبَهُ فِي حَدِيثِ «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَبَعْدُ فَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ: " «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ» " وَرُبَّمَا فُهِمَ مِنْهُ مَعْنًى لَا صِحَّةَ لَهُ، وَرُبَّمَا نُسِبَ إِلَى قَوْمٍ أَكَابِرَ، فَرَقَّمْتُ فِي هَذِهِ الْكُرَّاسَةِ مَا يُبَيِّنُ الْحَالَ وَيُزِيلُ الْإِشْكَالَ، وَفِيهِ مَقَالَاتٌ: الْمَقَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ النووي فِي فَتَاوِيهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَقَالَ ابن تيمية: مَوْضُوعٌ، وَقَالَ الزركشي فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ: ذَكَرَ ابن السمعاني: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ. الْمَقَالُ الثَّانِي فِي مَعْنَاهُ: قَالَ النووي فِي فَتَاوِيهِ: مَعْنَاهُ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالضَّعْفِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقُوَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، وَقَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن عطاء الله فِي " لَطَائِفِ الْمِنَنِ ": سَمِعْتُ شَيْخَنَا أبا العباس المرسي يَقُولُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَيْ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِذُلِّهَا وَعَجْزِهَا وَفَقْرِهَا عَرَفَ اللَّهَ بِعِزِّهِ وَقُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ، فَتَكُونُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ أَوَّلًا ثُمَّ مَعْرِفَةُ اللَّهِ مِنْ بَعْدُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ اللَّهَ مِنْ قَبْلُ، فَالْأَوَّلُ حَالُ السَّالِكِينَ، وَالثَّانِي حَالُ الْمَجْذُوبِينَ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ فِي " قُوتِ الْقُلُوبِ ": مَعْنَاهُ إِذَا عَرَفْتَ صِفَاتِ نَفْسِكَ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ وَأَنَّكَ تَكْرَهُ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْكَ فِي أَفْعَالِكَ وَأَنْ يُعَابَ عَلَيْكَ مَا تَصْنَعُهُ عَرَفْتَ مِنْهَا صِفَاتِ خَالِقِكَ، وَأَنَّهُ يَكْرَهُ ذَلِكَ فَارْضَ بِقَضَائِهِ وَعَامِلْهُ بِمَا تُحِبُّ أَنْ تُعَامَلَ بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين: قَدْ ظَهَرَ لِي مِنْ سِرِّ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَجِبُ كَشْفُهُ وَيُسْتَحْسَنُ وَصْفُهُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَضَعَ هَذِهِ الرُّوحَ الرُّوحَانِيَّةَ فِي هَذِهِ الْجُثَّةِ الْجُثْمَانِيَّةِ لَطِيفَةً لَاهُوتِيَّةً مَوْضُوعَةً فِي كَثِيفَةٍ نَاسُوتِيَّةٍ دَالَّةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَرَبَّانِيَّتِهِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْهَيْكَلَ الْإِنْسَانِيَّ لَمَّا كَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى مُدَبِّرٍ وَمُحَرِّكٍ وَهَذِهِ الرُّوحُ مُدَبَّرَةٌ وَمُحَرَّكَةٌ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُدَبِّرٍ وَمُحَرِّكٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 الْوَجْهُ الثَّانِي: لَمَّا كَانَ مُدَبِّرُ الْهَيْكَلِ وَاحِدًا وَهُوَ الرُّوحُ عَلِمْنَا أَنَّ مُدَبِّرَ هَذَا الْعَالَمِ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي تَدْبِيرِهِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 42 - 43] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] . الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَمَّا كَانَ هَذَا الْجَسَدُ لَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِإِرَادَةِ الرُّوحِ وَتَحْرِيكِهَا لَهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُرِيدٌ لِمَا هُوَ كَائِنٌ فِي كَوْنِهِ لَا يَتَحَرَّكُ مُتَحَرِّكٌ بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: لَمَّا كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ فِي الْجَسَدِ شَيْءٌ إِلَّا بِعِلْمِ الرُّوحِ وَشُعُورِهَا بِهِ لَا يَخْفَى عَلَى الرُّوحِ مِنْ حَرَكَاتِ الْجَسَدِ وَسَكَنَاتِهِ شَيْءٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: لَمَّا كَانَ هَذَا الْجَسَدُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ أَقْرَبَ إِلَى الرُّوحِ مِنْ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ قَرِيبٌ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي الْجَسَدِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَيْسَ شَيْءٌ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا شَيْءٌ أَبْعَدَ إِلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ وَلَا بِمَعْنَى قُرْبِ الْمَسَافَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: لَمَّا كَانَ الرُّوحُ مَوْجُودًا قَبْلَ وُجُودِ الْجَسَدِ وَيَكُونُ مَوْجُودًا بَعْدَ عَدَمِ الْجَسَدِ عَلِمْنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ قَبْلَ كَوْنِ خَلْقِهِ، وَيَكُونُ مَوْجُودًا بَعْدَ فَقْدِ خَلْقِهِ مَا زَالَ وَلَا يَزَالُ وَتَقَدَّسَ عَنِ الزَّوَالِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: لَمَّا كَانَ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ لَا يُعْرَفُ لَهُ كَيْفِيَّةٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُقَدَّسٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: لَمَّا كَانَ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ لَا يُعْلَمُ لَهُ أَيْنِيَّةٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَالْأَيْنِيَّةِ فَلَا يُوصَفُ بِأَيْنَ وَلَا كَيْفَ بَلِ الرُّوحُ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ الْجَسَدِ مَا خَلَا مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ، وَكَذَلِكَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ مَا خَلَا مِنْهُ مَكَانٌ وَتَنَزَّهَ عَنِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 الْوَجْهُ التَّاسِعُ: لَمَّا كَانَ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ لَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ وَلَا يُمَثَّلُ بِالصُّوَرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَلَا يُمَثَّلُ بِالصُّوَرِ وَالْآثَارِ وَلَا يُشَبَّهُ بِالشُّمُوسِ وَالْأَقْمَارِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: لَمَّا كَانَ الرُّوحُ لَا يُحَسُّ وَلَا يُمَسُّ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحِسِّ وَالْجِسْمِ وَاللَّمْسِ وَالْمَسِّ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ، فَطُوبَى لِمَنْ عَرَفَ وَبِذَنْبِهِ اعْتَرَفَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَفْسِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّكَ تَعْرِفُ أَنَّ صِفَاتِ نَفْسِكَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ صِفَاتِ رَبِّكَ، فَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْفَنَاءِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْبَقَاءِ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْجَفَاءِ وَالْخَطَأِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْوَفَاءِ وَالْعَطَاءِ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ كَمَا هِيَ عَرَفَ رَبَّهُ كَمَا هُوَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِيَّاكَ كَمَا إِيَّاكَ، فَكَيْفَ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى مَعْرِفَةِ إِيَّاهُ كَمَا إِيَّاهُ؟ فَكَأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ، عَلَّقَ الْمُسْتَحِيلَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ أَنْ تَعْرِفَ نَفْسَكَ وَكَيْفِيَّتَهَا وَكَمِّيَّتَهَا، فَإِنَّكَ إِذَا كُنْتَ لَا تُطِيقُ بِأَنْ تَصِفَ نَفْسَكَ الَّتِي هِيَ بَيْنَ جَنْبَيْكَ بِكَيْفِيَّةٍ وَأَيْنِيَّةٍ وَلَا بِسَجِيَّةٍ وَلَا هَيْكَلِيَّةٍ وَلَا هِيَ بِمَرْئِيَّةٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِعُبُودِيَّتِكَ أَنْ تَصِفَ الرُّبُوبِيَّةَ بِكَيْفَ وَأَيْنَ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنِ الْكَيْفِ وَالْأَيْنِ؟ وَفِي ذَلِكَ أَقُولُ: قُلْ لِمَنْ يَفْهَمُ عَنِّي مَا أَقُولُ ... قَصَرَ الْقَوْلُ فَذَا شَرْحٌ يَطُولْ هُوَ سِرٌّ غَامِضٌ مِنْ دُونِهِ ... ضُرِبَتْ وَاللَّهِ أَعْنَاقُ الْفُحُولْ أَنْتَ لَا تَعْرِفُ إِيَّاكَ وَلَا ... تَدْرِ مَنْ أَنْتَ وَلَا كَيْفَ الْوُصُولْ لَا وَلَا تَدْرِ صِفَاتٍ رُكِّبَتْ ... فِيكَ حَارَتْ فِي خَفَايَاهَا الْعُقُولْ أَيْنَ مِنْكَ الرُّوحُ فِي جَوْهَرِهَا ... هَلْ تَرَاهَا فَتَرَى كَيْفَ تَجُولْ هَذِهِ الْأَنْفَاسُ هَلْ تَحْصُرُهَا ... لَا وَلَا تَدْرِي مَتَى مِنْكَ تَزُولْ أَيْنَ مِنْكَ الْعَقْلُ وَالْفَهْمُ إِذَا ... غَلَبَ النَّوْمُ فَقُلْ لِي يَا جَهُولْ أَنْتَ أَكْلُ الْخُبْزِ لَا تَعْرِفُهُ ... كَيْفَ يَجْرِي مِنْكَ أَمْ كَيْفَ تَبُولْ فَإِذَا كَانَتْ طَوَايَاكَ الَّتِي ... بَيْنَ جَنْبَيْكَ كَذَا فِيهَا خُلُولْ كَيْفَ تَدْرِي مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ... لَا تَقُلْ كَيْفَ اسْتَوَى كَيْفَ النُّزُولْ كَيْفَ تَجَلَّى اللَّهُ أَمْ كَيْفَ يُرَى ... فَلَعَمْرِي لَيْسَ ذَا إِلَّا فُضُولْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 هُوَ لَا كَيْفَ وَلَا أَيْنَ لَهُ وَهُوَ رَبُّ الْكَيْفِ وَالْكَيْفُ يَحُولْ ... وَهُوَ فَوْقَ الْفَوْقِ لَا فَوْقَ لَهُ وَهُوَ فِي كُلِّ النَّوَاحِي لَا يَزُولْ ... جَلَّ ذَاتًا وَصِفَاتًا وَسَمَا وَتَعَالَى قَدْرُهُ عَمَّا أَقُولْ وَقَالَ القونوي فِي شَرْحِ التَّعَرُّفِ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِمَا لَا يَكُونُ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْرِفَةَ النَّفْسِ قَدْ سَدَّ الشَّارِعُ بَابَهَا لِقَوْلِهِ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ فَهُوَ عَنْ مَعْرِفَةِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ، بَلْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِ وَحَوَاسِّهِ كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ وَكَلَامِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي كُلٍّ مِنْهَا اخْتِلَافَاتٍ وَمَذَاهِبَ لَا يَحْصُلُ النَّاظِرُ مِنْهَا عَلَى طَائِلٍ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ الْأَبْصَارَ بِالِانْطِبَاعِ أَوْ بِخُرُوجِ الشُّعَاعِ، وَأَنَّ الشَّمَّ بِتَكَيُّفِ الْهَوَاءِ أَوْ بِانْبِثَاثِ الْأَجْزَاءِ مِنْ ذِي الرَّائِحَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ الْمَشْهُورَةِ، فَإِذَا كَانَ الْحَالُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يُلَابِسُهَا الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ فِي مَعْرِفَةِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ وَقَدْ تَحَصَّلَ مِمَّا سُقْنَاهُ فِي مَعْنَى هَذَا الْأَثَرِ أَقْوَالٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى وُجُودِ الْقُطْبِ وَالْأَوْتَادِ وَالنُّجَبَاءِ وَالْأَبْدَالِ] 69 - الْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى وُجُودِ الْقُطْبِ وَالْأَوْتَادِ وَالنُّجَبَاءِ وَالْأَبْدَالِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحِبِهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَاوَتَ بَيْنَ خَلْقِهِ فِي الْمَرَاتِبِ، وَجَعَلَ فِي كُلِّ قَرْنٍ سَابِقِينَ بِهِمْ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُنَزِّلُ الْغَمَامَ السَّاكِبَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْبَدْرِ الْمُنِيرِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْهُدَاةِ الْكَوَاكِبِ. وَبَعْدُ: فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ إِنْكَارُ مَا اشْتُهِرَ عَنِ السَّادَةِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ أَنَّ مِنْهُمْ أَبْدَالًا وَنُقَبَاءَ وَنُجَبَاءَ وَأَوْتَادًا وَأَقْطَابًا، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ فَجَمَعْتُهَا فِي هَذَا الْجُزْءِ لِتُسْتَفَادَ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى إِنْكَارِ أَهْلِ الْعِنَادِ وَسَمَّيْتُهُ - الْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى وُجُودِ الْقُطْبِ وَالْأَوْتَادِ وَالنُّجَبَاءِ وَالْأَبْدَالِ - وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 فَأَقُولُ: وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وأنس، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَمِنْ مُرْسَلِ الحسن، وعطاء، وبكر بن خنيس، وَمِنَ الْآثَارِ عَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَا لَا يُحْصَى. حَدِيثُ عمر: قَالَ أَبُو طَاهِرٍ الْمُخْلِصُ: أَنَا أحمد بن عبد الله بن سعيد ثَنَا السري بن يحيى ثَنَا شعيب بن إبراهيم حَدَّثَنَا سيف بن عمر عَنْ أبي عمر عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ الشَّامُ قَدْ أُسْكِنَ فَإِذَا أَقْبَلَ جُنْدٌ مِنَ الْيَمَنِ وَمِمَّنْ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ فَاخْتَارَ أَحَدٌ مِنْهُمُ الشَّامَ قَالَ عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يَا لَيْتَ شِعْرِي عَنِ الْأَبْدَالِ هَلْ مَرَّتْ بِهِمُ الرِّكَابُ؟ أَخْرَجَهُ ابن عساكر فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سيف بن عمر عَنْ محمد، وطلحة، وسهل قَالَ: كَتَبَ عمر إِلَى أبي عبيدة إِذَا أَنْتَ فَرَغْتَ مِنْ دِمَشْقَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَاصْرِفْ أَهْلَ الْعِرَاقِ إِلَى الْعِرَاقِ فَإِنَّهُ قَدْ أُلْقِيَ فِي رُوعِي أَنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَهَا ثُمَّ تُدْرِكُونَ إِخْوَانَكُمْ فَتَنْصُرُونَهُمْ عَلَى عَدْوِّهِمْ، وَأَقَامَ عمر بِالْمَدِينَةِ لِمُرُورِ النَّاسِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا إِلَيْهِ مِنْ بُلْدَانِهِمْ فَجَعَلَ إِذَا سَرَّحَ قَوْمًا إِلَى الشَّامِ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي عَنِ الْأَبْدَالِ فَهَلْ مَرَّتْ بِهِمُ الرِّكَابُ أَمْ لَا؟ وَإِذَا سَرَّحَ قَوْمًا إِلَى الْعِرَاقِ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي كَمْ فِي هَذَا الْحَيِّ مَنِ الْأَبْدَالِ؟ حَدِيثُ علي: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ: ثَنَا أبو المغيرة ثَنَا صفوان عَنْ شريح بن عبيد قَالَ: ذُكِرَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - وَهُوَ بِالْعِرَاقِ - فَقَالُوا: الْعَنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلًا يَسْقِي بِهِمُ الْغَيْثَ وَيَنْتَصِرُ بِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَيَصْرِفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمُ الْعَذَابَ» ) - رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ - غَيْرَ شريح بن عبيد وَهُوَ ثِقَةٌ. طَرِيقٌ ثَانِيَةٌ: قَالَ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ: أَنَا أبو القاسم الحسيني ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْكِنَانِيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ أَنَا الحسن بن حبيب ثَنَا زكريا بن يحيى ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو السَّكْسَكِيِّ عَنْ شريح بن عبيد الحضرمي قَالَ: ذُكِرَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْعَنْهُمْ؟ فَقَالَ: لَا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «إِنَّ الْأَبْدَالَ بِالشَّامِ يَكُونُونَ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا بِهِمْ تُسْقَوْنَ الْغَيْثَ وَبِهِمْ تُنْصَرُونَ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الْبَلَاءُ وَالْغَرَقُ» ) قَالَ ابن عساكر: هَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ شريح وَعَلِيٍّ فَإِنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ. طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْأَوْلِيَاءِ: حَدَّثَنِي أبو الحسن خلف بن محمد الواسطي ثَنَا يعقوب بن محمد الزهري ثَنَا مجاشع بن عمرو عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ إبراهيم عَنْ عبد الله بن زرير عَنْ علي «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْأَبْدَالِ؟ قَالَ: (هُمْ سِتُّونَ رَجُلًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَلِّهِمْ لِي، قَالَ: لَيْسُوا بِالْمُتَنَطِّعِينَ وَلَا بِالْمُبْتَدِعِينَ وَبِالْمُتَعَمِّقِينَ، لَمْ يَنَالُوا مَا نَالُوا بِكَثْرَةِ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَكِنْ بِسَخَاءِ الْأَنْفُسِ وَسَلَامَةِ الْقُلُوبِ وَالنَّصِيحَةِ لِأَئِمَّتِهِمْ» ) أَخْرَجَهُ الخلال فِي كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَفِيهِ بَدَلُ: وَلَا بِالْمُتَعَمِّقِينَ: وَلَا بِالْمُعْجَبِينَ، وَزَادَ فِي أُخْرَى: ( «إِنَّهُمْ يَا علي فِي أُمَّتِي أَقَلُّ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ» ) . طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ ثَنَا علي بن الحسين الخواص الموصلي ثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ثَنَا عياش بن عباس القتباني عَنْ عبد الله بن زرير الغافقي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَا تَسُبُّوا أَهْلَ الشَّامِ فَإِنَّ فِيهِمُ الْأَبْدَالَ» ) قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، قَالَ ابن عساكر: هَذَا وَهْمٌ مِنَ الطَّبَرَانِيِّ بَلْ رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ ثُمَّ قَالَ: أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ سَعْدَانَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّبَعِيُّ ثَنَا علي بن الحسين بن ثابت ثَنَا هشام بن خالد ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ بِهِ، قَالَ: وَرَوَاهُ الحارث بن يزيد المصري عَنِ ابن زرير فَوَقَفَهُ عَلَى علي وَلَمْ يَرْفَعْهُ، أَخْبَرَنَاهُ أبو بكر محمد بن محمد أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِيءُ أَنَا أحمد بن عبد الله بن الخضر ثَنَا أحمد بن علي بن محمد أَنَا أَبِي أَنَا أبو عمرو محمد بن مروان بن عمر السعيدي ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ ثَنَا عبد الله بن صالح حَدَّثَنِي أبو شريح أَنَّهُ سَمِعَ الحارث بن يزيد يَقُولُ: حَدَّثَنِي عبد الله بن زرير الغافقي أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: لَا تَسُبُّوا أَهْلَ الشَّامِ فَإِنَّ فِيهِمُ الْأَبْدَالَ، وَسُبُّوا ظَلَمَتَهُمْ. أَخْرَجَهُ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ أحمد بن الحارث بن يزيد بِهِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَأَقَرَّهُ الذهبي فِي مُخْتَصَرِهِ. طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ مَوْقُوفَةٌ: وَبِهِ إِلَى أبي عمرو السعيدي ثَنَا زياد بن يحيى أبو الخطاب ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنِ الفرج بن فضالة ثَنَا عُرْوَةُ بْنُ رُوَيْمٍ اللَّخْمِيُّ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنِ الحارث بن حومل عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَا تَسُبُّوا أَهْلَ الشَّامِ فَإِنَّ فِيهِمُ الْأَبْدَالَ، وَقَالَ الحارث: يَا رجاء اذْكُرْ لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَيْسَانَ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَصَّ أَهْلَ بَيْسَانَ بِرَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ مِنَ الْأَبْدَالِ، لَا يَمُوتُ وَاحِدٌ إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ وَاحِدًا، وَلَا تَذْكُرْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 لِي مِنْهُمَا مُتَمَاوِتًا وَلَا طَعَّانًا عَلَى الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهُمَا الْأَبْدَالُ. لَهُ طُرُقٌ عَنِ الفرج بن فضالة. طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ علي مَوْقُوفَةٌ: قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ أَنَا عبد الرزاق أَنَا معمر عَنِ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ صِفِّينَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ أَهْلَ الشَّامِ، فَقَالَ علي: لَا تَسُبَّ أَهْلَ الشَّامِ فَإِنَّ بِهَا الْأَبْدَالَ، فَإِنَّ بِهَا الْأَبْدَالَ، فَإِنَّ بِهَا الْأَبْدَالَ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، والخلال وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَفِي بَعْضِهَا عَنْ صفوان بن عبد الله بن صفوان، وَفِي بَعْضِهَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أبي عثمان بن سنة عَنْ علي، وَفِي بَعْضِهَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ علي. طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ: قَالَ يعقوب بن سفيان: ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ ثَنَا شريك عَنْ عثمان بن أبي زرعة عَنْ أبي صادق قَالَ: سَمِعَ علي رَجُلًا وَهُوَ يَلْعَنُ أَهْلَ الشَّامِ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَلْعَنْهُمْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْأَبْدَالَ. طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ: قَالَ ابن عساكر: أَنْبَأَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ الْأَنْمَاطِيُّ أَنَا المبارك بن عبد الجبار أَنَا أبو بكر عبد الباقي بن عبد الكريم بن عمر الشيرازي أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حُمَةَ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ ثَنَا جَدِّي ثَنَا عثمان بن محمد ثَنَا جرير عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: خَطَبَنَا علي فَذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَامَ رَجُلٌ فَلَعَنَ أَهْلَ الشَّامِ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ لَا تُعَمِّمْ فَإِنَّ مِنْهُمُ الْأَبْدَالَ وَمِنْكُمُ الْعَصَبُ، وَبِالسَّنَدِ السَّابِقِ إِلَى أبي عمرو السعيدي ثَنَا الحسين بن عبد الرحمن أَنَا وكيع عَنْ فطر عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ وَالنُّجَبَاءُ بِالْكُوفَةِ، وَقَالَ ابن عساكر: أَنْبَأَنَا أبو الغنائم عَنْ محمد بن علي بن الحسن الحسني ثَنَا محمد بن عبد الله الجعفي ثَنَا محمد بن عمار العطار ثَنَا علي بن محمد بن خبية ثَنَا عمرو بن حماد بن طلحة ثَنَا إسحاق بن إبراهيم الأزدي عَنْ قطر عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ علي قَالَ: إِذَا قَامَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَهْلَ الْمَشْرِقِ وَأَهْلَ الْمَغْرِبِ فَيَجْتَمِعُونَ كَمَا يَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ، فَأَمَّا الرُّفَقَاءُ فَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَمَّا الْأَبْدَالُ فَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ. طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ: وَبِهِ إِلَى محمد بن عمار ثَنَا جعفر بن علي بن نجيح ثَنَا حسن بن حسين عَنْ علي بن القاسم عَنْ صباح بن يحيى المزني عَنْ سعيد بن الوليد الهجري عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ علي: أَلَا إِنَّ الْأَوْتَادَ مِنْ أَبْنَاءِ الْكُوفَةِ، وَمِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَبِدَالَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الخلال: ثَنَا علي بن عمرو بن سهل الحريري ثَنَا علي بن محمد بن كاس ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ خالد بن يزيد السكسكي عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قُبَّةُ الْإِسْلَامِ بِالْكُوفَةِ وَالْهِجْرَةُ بِالْمَدِينَةِ وَالنُّجَبَاءُ بِمِصْرَ وَالْأَبْدَالُ بِالشَّامِ وَهُمْ قَلِيلٌ - أَخْرَجَهُ ابن عساكر مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ بِهِ. طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُمْ: قَالَ ابن عساكر: أَنَا نصر بن أحمد بن مقاتل عَنْ أَبِي الْفَرَجِ سَهْلِ بْنِ بِشْرٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ أَنَا أبو الحسن علي بن منير بن أحمد الخلال أَنَا الْحَسَنُ بْنُ رَشِيقٍ ثَنَا أبو علي الحسين بن حميد العك ثَنَا زهير بن عباد ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عياش بن عباس القتباني أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْأَبْدَالُ مِنَ الشَّامِ وَالنُّجَبَاءُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ وَالْأَخْيَارُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ: قَالَ الْحَافِظُ أبو محمد الخلال فِي كِتَابِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ: ثَنَا عبد الله بن عثمان الصفار أَنَا محمد بن مخلد الصفار ثَنَا أحمد بن منصور زاج ثَنَا حسين بن علي عَنْ زائدة عَنْ عمار الذهبي عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ علي قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَدْفَعُ عَنِ الْقَرْيَةِ بِسَبْعَةِ مُؤْمِنِينَ يَكُونُونَ فِيهَا. حَدِيثُ أَنَسٍ: قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ: ثَنَا عمر بن يحيى بن نافع الأيلي (ح) وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ، وابن شاهين، وَالْحَافِظُ أبو محمد الخلال فِي كِتَابِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ مَعًا ثَنَا محمد بن زهير بن الفضل الأيلي ثَنَا عمر بن يحيى بن نافع ثَنَا العلاء بن زيدل عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «الْبُدَلَاءُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ بِالشَّامِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِالْعِرَاقِ، كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ آخَرَ، فَإِذَا جَاءَ الْأَمْرُ قُبِضُوا كُلُّهُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُومُ السَّاعَةُ» ) . طَرِيقٌ ثَانٍ عَنْهُ: قَالَ الْحَافِظُ أبو محمد الخلال فِي كِتَابِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ: أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ شَاذَانَ ثَنَا عمر بن محمد الصابوني ثَنَا إبراهيم بن الوليد الجشاش ثَنَا أَبُو عُمَرَ الْغُدَانِيُّ ثَنَا أبو سلمة الخراساني عَنْ عطاء عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْأَبْدَالُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَأَرْبَعُونَ امْرَأَةً، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلًا، وَكُلَّمَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهَا امْرَأَةً» ) أَخْرَجَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ إبراهيم بن الوليد. طَرِيقٌ ثَالِثٌ عَنْهُ: قَالَ ابن لال فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ: ثَنَا عبد الله بن يزيد بن يعقوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 الدقاق ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدِّينَوَرِيُّ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ ثَنَا عوف عَنِ الحسن عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ بُدَلَاءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِكَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَلَا صِيَامِهِمْ وَلَكِنْ دَخَلُوهَا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ وَسَخَاوَةِ أَنْفُسِهِمْ» ) أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، والخلال وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَالنُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ. طَرِيقٌ رَابِعٌ عَنْهُ: قَالَ ابن عساكر: قَرَأْتُ بِخَطِّ تَمَّامِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَا أبو علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري حَدَّثَنَا زكريا بن يحيى ثَنَا المنذر بن العباس بن نجيح القرشي حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ دِعَامَةَ أُمَّتِي عَصَبُ الْيَمَنِ وَأَبْدَالُ الشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، كُلَّمَا هَلَكَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ آخَرَ، لَيْسُوا بِالْمُتَمَاوِتِينَ وَلَا بِالْمُتَهَالِكِينَ وَلَا الْمُتَنَاوِشِينَ، لَمْ يَبْلُغُوا مَا بَلَغُوا بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَإِنَّمَا بَلَغُوا ذَلِكَ بِالسَّخَاءِ وَصِحَّةِ الْقُلُوبِ وَالْمُنَاصَحَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ» ) . وَقَالَ ابن عساكر أَيْضًا: أَنْبَأَنَا أبو الفضل محمد بن ناصر أَنَا أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف البغدادي أَنَا أبو الحسن محمد بن علي بن محمد بن صخر الأزدي البصري بِمَكَّةَ ثَنَا أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن ثَنَا بكر بن محمد بن سعيد ثَنَا نصر بن علي ثَنَا نوح بن قيس عَنْ عبد الملك بن معقل عَنْ يزيد الرقاشي عَنْ أَنَسٍ بِهِ. طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: ثَنَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِثْلِ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ فَبِهِمْ يُسْقَوْنَ وَبِهِمْ يُنْصَرُونَ، مَا مَاتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ آخَرَ» ) قَالَ قَتَادَةُ: لَسْنَا نَشُكُّ أَنَّ الحسن مِنْهُمْ، قَالَ الْحَافِظُ أبو الحسن الهيثمي فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ ثَنَا أَبِي ثَنَا سليمان ثَنَا إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ وَهُمْ ثَلَاثُونَ رَجُلًا عَلَى مِنْهَاجِ إِبْرَاهِيمَ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ آخَرَ، عِشْرُونَ مِنْهُمْ عَلَى مِنْهَاجِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَعِشْرُونَ مِنْهُمْ قَدْ أُوتُوا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ. حَدِيثُ عِبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: قَالَ الْإِمَامُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ: ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ أَنَا الحسن بن ذكوان عَنْ عبد الواحد بن قيس عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 ( «الْأَبْدَالُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثُونَ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلًا» ) أَخْرَجَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، والخلال فِي كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ عبد الواحد، وَقَدْ وَثَّقَهُ العجلي وأبو زرعة. طَرِيقٌ ثَانٍ عَنْهُ: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي محمد بن الفرج ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ أَخْبَرَنِي عمر البزار عَنْ عبيسة الخواص عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أبي قلابة عَنْ أبي الأشعث عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( [ «لَا يَزَالُ] الْأَبْدَالُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ، بِهِمْ تَقُومُ الْأَرْضُ وَبِهِمْ تُمْطَرُونَ وَبِهِمْ تُنْصَرُونَ» ) قَالَ قَتَادَةُ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الحسن مِنْهُمْ. حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أحمد فِي الزُّهْدِ ثَنَا عبد الرحمن ثَنَا سفيان عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ المنهال بن عمرو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا خَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ مِنْ سَبْعَةٍ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. أَخْرَجَهُ الخلال. حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْخَزْرِ الطَّبَرَانِيُّ ثَنَا سعيد بن أبي زيدون ثَنَا عبد الله بن هارون الصوري ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «خِيَارُ أُمَّتِي فِي كُلِّ قَرْنِ خَمْسُمِائَةٍ، وَالْأَبْدَالُ أَرْبَعُونَ، فَلَا الْخَمْسُمِائَةِ يَنْقُصُونَ وَلَا الْأَرْبَعُونَ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ مَكَانَهُ وَأَدْخَلَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ مَكَانَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: دُلَّنَا عَلَى أَعْمَالِهِمْ، قَالَ: يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ وَيَتَوَاسَوْنَ فِيمَا آتَاهُمُ اللَّهُ» ) أَخْرَجَهُ أبو نعيم، وتمام، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، وَأَخْرَجَهُ ابن عساكر أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ محمد بن الخزر - وَلَفْظُهُ: كُلَّمَا مَاتَ بَدِيلٌ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ سعيد بن عبدوس عَنْ عبد الله بن هارون، بِلَفْظِ: «كُلَّمَا مَاتَ أَحَدٌ بَدَّلَ اللَّهُ مِنَ الْخَمْسِمِائَةٍ مَكَانَهُ وَأَدْخَلَ فِي الْخَمْسِمِائَةِ مَكَانَهُ» . طَرِيقٌ ثَانٍ: قَالَ الخلال فِي كِتَابِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ: ثَنَا أحمد بن محمد بن يوسف ثَنَا عبد الصمد بن علي بن مكرم ثَنَا محمد بن زكريا الغلابي ثَنَا يحيى بن بسطام ثَنَا محمد بن الحارث ثَنَا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «لَا يَزَالُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا يَحْفَظُ اللَّهَ بِهِمُ الْأَرْضَ كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ آخَرَ وَهُمْ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا» ) وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ ثَنَا عبد الله بن جعفر ثَنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 إسماعيل بن عبد الله ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ثَنَا يحيى بن أيوب عَنِ ابن عجلان عَنْ عياض بْنِ عبد الله عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لِكُلِّ قَرْنٍ مِنْ أُمَّتِي سَابِقُونَ» ) وَقَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا أبي محمد بن الحسن ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «فِي كُلِّ قَرْنٍ مِنْ أُمَّتِي سَابِقُونَ» ) . حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: قَالَ أبو نعيم: ثَنَا محمد بن أحمد بن الحسن ثَنَا محمد بن السري القنطري ثَنَا قيس بن إبراهيم بن قيس السامري ثَنَا عبد الرحيم بن يحيى الأرمني ثَنَا عثمان بن عمارة ثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ منصور عَنْ إبراهيم عَنِ الأسود عَنْ عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْخَلْقِ ثَلَاثَمِائَةٍ قَلْبُهُمْ عَلَى قَلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِلَّهِ فِي الْخَلْقِ أَرْبَعُونَ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِلَّهِ فِي الْخَلْقِ سَبْعَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِلَّهِ فِي الْخَلْقِ خَمْسَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِلَّهِ فِي الْخَلْقِ ثَلَاثَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ مِيكَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِلَّهِ فِي الْخَلْقِ وَاحِدٌ قَلْبُهُ عَلَى قَلْبِ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا مَاتَ الْوَاحِدُ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْخَمْسَةِ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ الْخَمْسَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ السَّبْعَةِ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ السَّبْعَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ أَبْدَلَ مَكَانَهُ مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْعَامَّةِ، فَبِهِمْ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُمْطِرُ وَيُنْبِتُ وَيَدْفَعُ الْبَلَاءَ» ) قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: وَكَيْفَ بِهِمْ يُحْيِي وَيُمِيتُ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ إِكْثَارَ الْأُمَمِ فَيَكْثُرُونَ وَيَدْعُونَ عَلَى الْجَبَابِرَةِ فَيُقْصَمُونَ وَيَسْتَسْقُونَ فَيُسْقَوْنَ وَيَسْأَلُونَ فَتَنْبُتُ لَهُمُ الْأَرْضُ وَيَدْعُونَ فَيَدْفَعُ بِهِمْ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ، أَخْرَجَهُ ابن عساكر. طَرِيقٌ آخَرُ: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ: أَنَا أحمد بن داود المكي ثَنَا ثابت بن عياش الْأَحْدَبُ ثَنَا أبو رجاء الكلبي ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «لَا يَزَالُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، يُقَالُ لَهُمُ الْأَبْدَالُ، إِنَّهُمْ لَنْ يُدْرِكُوهَا بِصَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا بِصَدَقَةٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِمَ أَدْرَكُوهَا؟ قَالَ: بِالسَّخَاءِ وَالنَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ» ) . حَدِيثُ عوف بن مالك: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الصُّورِيُّ ثَنَا عمرو بن واقد عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ سَبُّوا أَهْلَ الشَّامِ فَأَخْرَجَ عوف بن مالك رَأْسَهُ مِنْ بُرْنُسِهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا أَهْلَ مِصْرَ أَنَا عوف بن مالك، لَا تَسُبُّوا أَهْلَ الشَّامِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (فِيهِمُ الْأَبْدَالُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 بِهِمْ تُنْصَرُونَ وَبِهِمْ تُرْزَقُونَ» ) أَخْرَجَهُ ابن عساكر مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ عمرو بن واقد، وَرِجَالُ الْإِسْنَادٍ ثِقَاتٌ غَيْرُهُ؛ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ ضَعَّفُوهُ، وَوَثَّقَهُ محمد بن مبارك الصوري، وشهر مُخْتَلَفٌ فِيهِ. حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: قَالَ أبو عبد الرحمن السلمي فِي كِتَابِ سُنَنِ الصُّوفِيَّةِ: ثَنَا أحمد بن علي بن الحسن ثَنَا جعفر بن عبد الوهاب السرخسي ثَنَا عبيد بن آدم عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبي حمزة عَنْ ميسرة بْنِ عَبَدِ رَبِّهِ عَنِ المغيرة بن قيس عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مِنَ الْأَبْدَالِ الَّذِينَ بِهِمْ قِوَامُ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالصَّبْرُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَالْغَضَبُ فِي ذَاتِ اللَّهِ» ) أَخْرَجَهُ الديلمي فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ. حَدِيثُ واثلة: قَالَ ابن عساكر: قُرِئَ على أبي محمد بن الأكفاني وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَيْدَانِيُّ أَنَا أبو الحارث أحمد بن محمد بن عمارة بن أبي الخطاب الليثي الدمشقي ثَنَا أبو سهل سعيد بن الحسن الأصبهاني ثَنَا محمد بن أحمد بن إبراهيم ثَنَا هشام بن خالد الأزرق ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا ابن جابر عَنْ عبد الله بن عامر عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «سَتَكُونُ دِمَشْقُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَكْثَرَ الْمُدُنِ أَهْلًا وَأَكْثَرَهُ أَبْدَالًا وَأَكْثَرَهُ مَسَاجِدَ وَأَكْثَرَهُ زُهَّادًا وَأَكْثَرَهُ مَالًا وَرِجَالًا وَأَقَلَّهُ كُفَّارًا، وَهِيَ مَعْقِلٌ لِأَهْلِهَا» ) . حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ أَنَا أحمد بن عبيد ثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا محمد بن عمران بن أبي ليل أَنَا سلمة بن رجاء كُوفِيٌّ - عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ عَنِ الحسن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - أَوْ غَيْرِهِ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ أَبِدَالَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِالْأَعْمَالِ [وَلَكِنْ] إِنَّمَا دَخَلُوهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَسَخَاوَةِ الْأَنْفُسِ وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ وَرَحْمَةٍ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ» ) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَاهُ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ عَنْ محمد بن عمران فَقَالَ: عَنْ أبي سعيد، لَمْ يَقُلْ: وَقِيلَ: عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ عَنْ ثابت عَنْ أَنَسٍ. حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي التَّارِيخِ: ثَنَا محمد بن المسيب ثَنَا عبد الرحمن بن مرزوق ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ الْخَفَّافُ عَنْ محمد بن عمرو عَنْ أبي سلمة عَنْ أَبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ ثَلَاثِينَ مِثْلِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ بِهِمْ تُغَاثُونَ وَبِهِمْ تُرْزَقُونَ وَبِهِمْ تُمْطَرُونَ» ) . طَرِيقٌ ثَانٍ عَنْهُ: قَالَ الخلال: كَتَبَ إِلَيَّ أحمد بن هشام بِالْكُوفَةِ يَذْكُرُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدَانَ حَدَّثَهُمْ ثَنَا أحمد بن حازم ثَنَا الحكم بن سليمان الحبلي ثَنَا سيف بن عمر عَنْ موسى بن أبي عقيل البصري عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ( «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْبَابِ السَّاعَةَ رَجُلٌ مِنْ أَحَدِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ بِهِمْ، فَإِذَا حَبَشِيٌّ قَدْ طَلَعَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ أَقْرَعُ أَجْدَعُ عَلَى رَأْسِهِ جَرَّةٌ مِنْ مَاءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبَا هُرَيْرَةَ هُوَ هَذَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: مَرْحَبًا بيسار، وَكَانَ يَرُشُّ الْمَسْجِدَ وَيَكْنُسُهُ وَكَانَ غُلَامًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ» ) . حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيَّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ: ثَنَا عبد الرحيم بن حبيب ثَنَا داود بن محبر عَنْ ميسرة عَنْ أبي عبد الله الشامي عَنْ مكحول عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنِ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا أَوْتَادَ الْأَرْضِ فَلَمَّا انْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُمْ قَوْمًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَالُ لَهُمُ الْأَبْدَالُ، لَمْ يَفْضُلُوا النَّاسَ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا تَسْبِيحٍ، وَلَكِنْ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَبِصِدْقِ الْوَرَعِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ وَسَلَامَةِ قُلُوبِهِمْ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصِيحَةِ لِلَّهِ. حَدِيثُ أم سلمة: قَالَ أبو داود فِي سُنَنِهِ: ثَنَا محمد بن المثنى ثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صالح أبي الخليل عَنْ صَاحِبٍ لَهُ عَنْ أم سلمة زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «يَكُونُ اخْتِلَافٌ عِنْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ فَيَأْتِيهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُخْرِجُونَهُ وَهُوَ كَارِهٌ فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ مِنَ الشَّامِ فَيُخْسَفُ بِهِمْ بِالْبَيْدَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَإِذَا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ أَتَوْا أَبِدَالَ أَهْلِ الشَّامِ وَعَصَائِبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَيُبَايِعُونَهُ» ) الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أحمد فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وأبو يعلى، والحاكم، وَالْبَيْهَقِيُّ وَلَهُ طُرُقٌ سُمِّيَ فِي بَعْضِهَا الْمُبْهَمُ: مُجَاهِدًا، وَفِي بَعْضِهَا: عبد الله بن الحارث. مُرْسَلُ الحسن: قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ السَّخَاءِ: ثَنَا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام ثَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ عَنِ الحسن أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ بُدَلَاءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِكَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَلَا صِيَامِهِمْ وَلَكِنْ دَخَلُوهَا بِسَلَامَةِ الصُّدُورِ وَسَخَاوَةِ أَنْفُسِهِمْ» ) وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أبي عبد الله الحافظ عَنْ أبي حامد أحمد بن محمد بن الحسين عَنْ داود بن الحسين عَنْ يحيى بن يحيى عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ بِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وَأَخْرَجَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ ثَنَا أَبِي ثَنَا عبد العزيز بن المغيرة البصري ثَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ عَنِ الحسن قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «إِنَّ بُدَلَاءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ دَخَلُوهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ وَسَخَاوَةِ الْأَنْفُسِ وَالرَّحْمَةِ بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ» ) . مُرْسَلُ عطاء: قَالَ أبو داود: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ ثَنَا ابن فضيل عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرجال بن سالم عَنْ عطاء قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْأَبْدَالُ مِنَ الْمَوَالِي» ) أَخْرَجَهُ الحاكم فِي الْكُنَى. مُرْسَلُ بكر بن خنيس: قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْأَوْلِيَاءِ: حَدَّثَنِي عبد الرحمن بن صالح الأزدي ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ بكر بن خنيس يَرْفَعُهُ: ( «عَلَامَةُ أَبِدَالِ أُمَّتِي أَنَّهُمْ لَا يَلْعَنُونَ شَيْئًا أَبَدًا» ) . الْآثَارُ: أَثَرٌ عَنِ الحسن: أَخْرَجَ ابن عساكر عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ سَبْعِينَ صِدِّيقًا وَهُمُ الْأَبْدَالُ، لَا يَهْلَكُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِثْلَهُ، أَرْبَعُونَ بِالشَّامِ وَثَلَاثُونَ مِنْ سَائِرِ الْأَرَضِينَ. أَثَرٌ عَنْ قَتَادَةَ: أَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ أَرْبَعِينَ بِهِمْ يُغَاثُ النَّاسُ وَبِهِمْ يُنْصَرُونَ وَبِهِمْ يُرْزَقُونَ، كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلًا، قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ إِنِّي لِأَرْجُو أَنْ يَكُونَ الحسن مِنْهُمْ. أَثَرٌ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: أَخْرَجَ الخلال، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: قَالَتِ الْأَرْضُ: رَبِّ كَيْفَ تَدَعُنِي وَلَيْسَ عَلَيَّ نَبِيٌّ؟ قَالَ: سَوْفَ أَدَعُ عَلَيْكِ أَرْبَعِينَ صِدِّيقًا بِالشَّامِ. أَثَرٌ عَنْ شهر: أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَنْ تَبْقَى الْأَرْضُ إِلَّا وَفِيهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَيُخْرِجُ بَرَكَتَهَا، إِلَّا زَمَنَ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ. أَثَرٌ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُ: أَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ قَالَ: الْأَبْدَالُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا بِالشَّامِ، بِهِمْ يُجَارُونَ وَبِهِمْ يُرْزَقُونَ، إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ، وَأَخْرَجَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 عَنِ الفضل بن فضالة قَالَ: الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ فِي حِمْصَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، وَفِي دِمَشْقَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَبِبَيْسَانَ اثْنَانِ، وَأَخْرَجَ عَنِ الحسن بن يحيى الخشني قَالَ: بِدِمَشْقَ مِنَ الْأَبْدَالِ سَبْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا وَبِبَيْسَانَ أَرْبَعَةٌ، وَأَخْرَجَ ابن أبي خيثمة، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابن شوذب قَالَ: الْأَبْدَالُ سَبْعُونَ فَسِتُّونَ بِالشَّامِ وَعِشْرُونَ بِسَائِرِ الْأَرَضِينَ، وَأَخْرَجَا مِنْ طَرِيقِ عثمان بن عطاء عَنْ أَبِيهِ قَالَ: الْأَبْدَالُ أَرْبَعُونَ إِنْسَانًا، قُلْتُ لَهُ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا؟ قَالَ: لَا تَقُلْ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَلَكِنْ قُلْ: أَرْبَعُونَ إِنْسَانًا؛ لَعَلَّ فِيهِمْ نِسَاءً، وَأَخْرَجَ ابن عساكر مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أبا سليمان يَقُولُ: الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ وَالنُّجَبَاءُ بِمِصْرَ وَالْعَصَبُ بِالْيَمَنِ وَالْأَخْيَارُ بِالْعِرَاقِ، وَأَخْرَجَ هُوَ والخطيب مِنْ طَرِيقِ عبيد الله بن محمد العبسي قَالَ: سَمِعْتُ الكناني يَقُولُ: النُّقَبَاءُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَالنُّجَبَاءُ سَبْعُونَ وَالْبُدَلَاءُ أَرْبَعُونَ وَالْأَخْيَارُ سَبْعَةٌ وَالْعُمُدُ أَرْبَعَةٌ وَالْغَوْثُ وَاحِدٌ، فَمَسْكَنُ النُّقَبَاءِ الْمَغْرِبُ، وَمَسْكَنُ النُّجَبَاءِ مِصْرُ، وَمَسْكَنُ الْأَبْدَالِ الشَّامُ، وَالْأَخْيَارُ سَيَّاحُونَ فِي الْأَرْضِ، وَالْعُمُدُ فِي زَوَايَا الْأَرْضِ، وَمَسْكَنُ الْغَوْثِ مَكَّةُ، فَإِذَا عَرَضَتِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرِ الْعَامَّةِ ابْتَهَلَ فِيهَا النُّقَبَاءُ، ثُمَّ النُّجَبَاءُ، ثُمَّ الْأَبْدَالُ، ثُمَّ الْأَخْيَارُ، ثُمَّ الْعُمُدُ، فَإِنْ أُجِيبُوا وَإِلَّا ابْتَهَلَ الْغَوْثُ فَلَا تَتِمُّ مَسْأَلَتُهُ حَتَّى تُجَابَ دَعْوَتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ ثَنَا عثمان بن مطيع ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: لَمَّا ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ - وَكَانُوا أَوْتَادَ الْأَرْضِ - أَخْلَفَ اللَّهُ مَكَانَهُمْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَالُ لَهُمُ الْأَبْدَالُ، لَا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ مَكَانَهُ آخَرَ يَخْلُفُهُ، وَهُمْ أَوْتَادُ الْأَرْضِ، قُلُوبُ ثَلَاثِينَ مِنْهُمْ عَلَى مِثْلِ يَقِينِ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَفْضُلُوا النَّاسَ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَلَا بِكَثْرَةِ الصِّيَامِ وَلَا بِحُسْنِ التَّخَشُّعِ وَلَا بِحُسْنِ الْحِلْيَةِ وَلَكِنْ بِصِدْقِ الْوَرَعِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ وَسَلَامَةِ الْقُلُوبِ وَالنَّصِيحَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ بَصَبْرٍ حَلِيمٍ وَلُبٍّ رَحِيمٍ، وَتَوَاضُعٍ فِي غَيْرِ مَذَلَّةٍ، لَا يَلْعَنُونَ أَحَدًا وَلَا يُؤْذُونَ أَحَدًا وَلَا يَتَطَاوَلُونَ عَلَى أَحَدٍ تَحْتَهُمْ وَلَا يُحَقِّرُونَهُ، وَلَا يَحْسُدُونَ أَحَدًا فَوْقَهُمْ، لَيْسُوا بِمُتَخَشِّعِينَ وَلَا مُتَمَاوِتِينَ وَلَا مُعْجَبِينَ، لَا يُحِبُّونَ لِدُنْيَا وَلَا يُحِبُّونَ الدُّنْيَا، لَيْسُوا الْيَوْمَ فِي وَحْشَةٍ وَلَا غَدًا فِي غَفْلَةٍ، وَأَخْرَجَ الخلال عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: مَا مِنْ قَرْيَةٍ وَلَا بَلْدَةٍ إِلَّا يَكُونُ فِيهَا مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْهُمْ، وَأَخْرَجَ عَنْ زَاذَانَ قَالَ: مَا خَلَتِ الْأَرْضُ بَعْدَ نُوحٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ فَصَاعِدًا يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أحمد فِي الزُّهْدِ عَنْ كعب قَالَ: لَمْ يَزَلْ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمُ الْعَذَابَ، وَأَخْرَجَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي فِي جُزْءٍ جَمَعَهُ فِي أَخْبَارِ الخضر قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُلَاعِبٍ ثَنَا يحيى بن سعيد السعدي أَخْبَرَنِي أبو جعفر الكوفي عَنْ أبي عمر النصيبي قَالَ: خَرَجْتُ أَطْلُبُ مَسْأَلَةً مِنْ مِصْقَلَةَ بِالشَّامِ وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ مَنَ الْأَبْدَالِ، فَلَقِيتُهُ بِوَادِي الْأُرْدُنِّ فَقَالَ لِي: أَلَا أُخْبِرُكَ بِشَيْءٍ رَأَيْتُهُ الْيَوْمَ فِي هَذَا الْوَادِي؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: دَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِشَيْخٍ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ فَأُلْقِيَ فِي رُوعِي أَنَّهُ إِلْيَاسُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ: أَنَا إِلْيَاسُ النَّبِيُّ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَلْ فِي الْأَرْضِ الْيَوْمَ مَنِ الْأَبْدَالِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُمْ سِتُّونَ رَجُلًا، مِنْهُمْ خَمْسُونَ بِالشَّامِ فِيمَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الْفُرَاتِ، وَمِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ بِالْمِصِّيصَةِ، وَوَاحِدٌ بِأَنْطَاكِيَةَ، وَسَائِرُ الْعَشْرَةِ فِي سَائِرِ أَمْصَارِ الْعَرَبِ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَتْلِيُّ فِي كِتَابِ الدِّيبَاجِ لَهُ بِسَنَدِهِ عَنْ داود بن يحيى مولى عون الطفاوي عَنْ رَجُلٍ كَانَ مُرَابِطًا بِعَسْقَلَانَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ بِالْأُرْدُنِّ إِذْ أَنَا بِرَجُلٍ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي قَائِمٌ يُصَلِّي فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّهُ إِلْيَاسُ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَبْلَهُ، وَلَفْظُهُ، قُلْتُ: فَكَمِ الْإِبْدَالُ؟ قَالَ: هُمْ سِتُّونَ رَجُلًا - خَمْسُونَ مَا بَيْنَ عَرِيشِ مِصْرَ إِلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، وَرَجُلَانِ بِالْمِصِّيصَةِ، وَرَجُلٌ بِأَنْطَاكِيَةَ، وَسَبْعَةٌ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ - بِهِمْ تُسْقَوْنَ الْغَيْثَ وَبِهِمْ تُنْصَرُونَ عَلَى الْعَدُوِّ وَبِهِمْ يُقِيمُ اللَّهُ أَمْرَ الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الدُّنْيَا أَمَاتَهُمْ جَمِيعًا. وَفِي كِفَايَةِ الْمُعْتَقَدِ لليافعي - نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِبَرَكَتِهِ - قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الصَّالِحُونَ كَثِيرٌ مُخَالِطُونَ لِلْعَوَامِّ لِصَلَاحِ النَّاسِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَالنُّجَبَاءُ فِي الْعَدَدِ أَقَلُّ مِنْهُمْ، وَالنُّقَبَاءُ فِي الْعَدَدِ أَقَلُّ مِنْهُمْ، وَهُمْ مُخَالِطُونَ الْخَوَاصَّ، وَالْأَبْدَالُ فِي الْعَدَدِ أَقَلُّ مِنْهُمْ نَازِلُونَ فِي الْأَمْصَارِ الْعِظَامِ لَا يَكُونُ فِي الْمِصْرِ مِنْهُمْ إِلَّا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ، فَطُوبَى لِأَهْلِ بَلْدَةٍ كَانَ فِيهَا اثْنَانِ مِنْهُمْ، وَالْأَوْتَادُ وَاحِدٌ بِالْيَمَنِ وَوَاحِدٌ بِالشَّامِ وَوَاحِدٌ فِي الْمَشْرِقِ وَوَاحِدٌ فِي الْمَغْرِبِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُدِيرُ الْقُطْبَ فِي الْآفَاقِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْكَانِ الدُّنْيَا كَدَوَرَانِ الْفَلَكِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَقَدْ سُتِرَتْ أَحْوَالُ الْقُطْبِ - وَهُوَ الْغَوْثُ - عَنِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ غَيْرَةً مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُرَى عَالِمًا كَجَاهِلٍ، أَبْلَهَ كَفَطِنٍ، تَارِكًا آخِذًا، قَرِيبًا بَعِيدًا، سَهْلًا عَسِرًا، آمِنًا حَذِرًا، وَكَشْفُ أَحْوَالِ الْأَوْتَادِ لِلْخَاصَّةِ وَكَشْفُ أَحْوَالِ الْبُدَلَاءِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَارِفِينَ، وَسَتَرُ أَحْوَالَ النُّجَبَاءِ وَالنُّقَبَاءِ عَنِ الْعَامَّةِ خَاصَّةً وَكَشْفُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَكَشْفُ حَالِ الصَّالِحِينَ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ؛ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، وَعِدَّةُ النُّجَبَاءِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَالنُّقَبَاءُ أَرْبَعُونَ وَالْبُدَلَاءُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 قِيلَ ثَلَاثُونَ، وَقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ سَبْعَةٌ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - وَالْأَوْتَادُ أَرْبَعَةٌ، فَإِذَا مَاتَ الْقُطْبُ جُعِلَ مَكَانَهُ خِيَارُ الْأَرْبَعَةِ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ جُعِلَ مَكَانَهُ خِيَارُ السَّبْعَةِ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ السَّبْعَةِ جُعِلَ مَكَانَهُ خِيَارُ الْأَرْبَعِينَ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْأَرْبَعِينَ جُعِلَ مَكَانَهُ خِيَارُ الثَّلَاثِمِائَةِ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الثَّلَاثِمِائَةِ جُعِلَ مَكَانَهُ خِيَارُ الصَّالِحِينَ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ السَّاعَةَ أَمَاتَهُمْ أَجْمَعِينَ، وَبِهِمْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ عِبَادِهِ الْبَلَاءَ وَيُنْزِلُ قَطْرَ السَّمَاءِ. انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: وَالْقُطْبُ هُوَ الْوَاحِدُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ عَلَى قَلْبِ إِسْرَافِيلَ، وَمَكَانُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ كَالنُّقْطَةِ فِي الدَّائِرَةِ الَّتِي هِيَ مَرْكَزُهَا، بِهِ يَقَعُ صَلَاحُ الْعَالَمِ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَذْكُرْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَحَدًا عَلَى قَلْبِهِ؛ إِذْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِي عَالَمِ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ أَعَزَّ وَأَلْطَفَ وَأَشْرَفَ مِنْ قَلْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى قَلْبِهِ كَإِضَافَةِ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِلَى كَمَالِ الشَّمْسِ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَ القشيري فِي الرِّسَالَةِ بِسَنَدِهِ عَنْ بلال الخواص قَالَ: كُنْتُ فِي تِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِذَا رَجُلٌ يُمَاشِينِي فَعَجِبْتُ، فَأُلْهِمْتُ أَنَّهُ الخضر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقُلْتُ لَهُ: بِحَقِّ الْحَقِّ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَخُوكَ الخضر، قُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ، قَالَ: سَلْ، قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي الشَّافِعِيِّ؟ قَالَ: هُوَ مِنَ الْأَوْتَادِ، قُلْتُ: وَمَا تَقُولُ فِي أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؟ قَالَ: رَجُلٌ صِدِّيقٌ، قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي بشر الحافي؟ قَالَ: لَمْ يُخْلَقْ بَعْدَهُ مِثْلُهُ، قُلْتُ: بِأَيِّ وَسِيلَةٍ رَأَيْتُكَ؟ قَالَ: بِبَرَكَةِ أُمِّكَ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أحمد فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وأبو نعيم، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ جَلِيسِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ بُدَلَاءُ أُمَّتِكَ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا بِالْعِرَاقِ مِنْهُمْ أَحَدٌ؟ قَالَ: بَلَى، مُحَمَّدُ بْنُ وَاسْعٍ وحسان بن أبي سنان وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ الَّذِي يَمْشِي فِي النَّاسِ بِمِثْلِ زُهْدِ أبي ذر فِي زَمَانِهِ. وَأَخْرَجَ أبو نعيم عَنْ داود بن يحيى بن يمان قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنِ الْأَبْدَالُ؟ قَالَ: الَّذِينَ لَا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ، وَإِنَّ وَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابن عساكر عَنْ أبي مطيع معاوية بن يحيى أَنَّ شَيْخًا مِنْ أَهْلِ حِمْصَ خَرَجَ يُرِيدُ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ فَإِذَا عَلَيْهِ لَيْلٌ، فَلَمَّا صَارَ تَحْتَ الْقُبَّةِ سَمِعَ صَوْتَ جَرَسِ الْخَيْلِ عَلَى الْبَلَاطِ، فَإِذَا فَوَارِسُ قَدْ لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مِنْ أَيْنَ قَدِمْتُمْ؟ قَالُوا: أَوَلَمْ تَكُونُوا مَعَنَا؟ قَالُوا: لَا، قَالُوا: قَدِمْنَا مِنْ جِنَازَةِ الْبَدِيلِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، قَالُوا: وَقَدْ مَاتَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 مَا عَلِمْنَا بِمَوْتِهِ، فَمَنِ اسْتَخْلَفْتُمْ بَعْدَهُ؟ قَالُوا: أرطاة بن المنذر، فَلَمَّا أَصْبَحَ الشَّيْخُ حَدَّثَ أَصْحَابَهُ فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَا بِمَوْتِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، فَلَمَّا كَانَ نِصْفُ النَّهَارِ قَدِمَ الْبَرِيدُ بِخَبَرِ مَوْتِهِ. وَفِي كِفَايَةِ الْمُعْتَقَدِ لليافعي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّيْخِ عبد القادر الكيلاني قَالَ: خَرَجَ الشَّيْخُ عبد القادر مِنْ دَارِهِ لَيْلَةً فَنَاوَلْتُهُ إِبْرِيقًا فَلَمْ يَأْخُذْهُ، وَقَصَدَ بَابَ الْمَدْرَسَةِ فَانْفَتَحَ لَهُ الْبَابُ، فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ خَلْفَهُ ثُمَّ عَادَ الْبَابُ مُغْلَقًا، وَمَشَى إِلَى قُرْبٍ مِنْ بَابِ بَغْدَادَ فَانْفَتَحَ لَهُ فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ ثُمَّ عَادَ الْبَابُ مُغْلَقًا، وَمَشَى غَيْرَ بَعِيدٍ فَإِذَا نَحْنُ فِي بَلَدٍ لَا أَعْرِفُهُ فَدَخَلَ فِيهِ مَكَانًا شَبِيهًا بِالرِّبَاطِ، وَإِذَا فِيهِ سِتَّةُ نَفَرٍ فَبَادَرُوا إِلَى السَّلَامِ عَلَيْهِ، وَالْتَجَأْتُ إِلَى سَارِيَةٍ هُنَاكَ وَسَمِعْتُ مِنْ جَانِبِ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَنِينًا فَلَمْ نَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى سَكَنَ الْأَنِينُ، وَدَخَلَ رَجُلٌ وَذَهَبَ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي سَمِعْتُ فِيهَا الْأَنِينَ ثُمَّ خَرَجَ يَحْمِلُ شَخْصًا عَلَى عَاتِقِهِ وَدَخَلَ آخَرُ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ طَوِيلَ الشَّارِبِ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ فَأَخَذَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ الشَّهَادَتَيْنِ وَقَصَّ شَعْرَ رَأْسِهِ وَشَارِبَهُ وَأَلْبَسَهُ طَاقِيَّةً وَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا، وَقَالَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ: قَدْ أَمَرْتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَدَلًا عَنِ الْمَيِّتِ، قَالُوا: سَمْعًا وَطَاعَةً، ثُمَّ خَرَجَ الشَّيْخُ وَتَرَكَهُمْ وَخَرَجْتُ خَلْفَهُ وَمَشَيْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ وَإِذَا نَحْنُ عِنْدَ بَابِ بَغْدَادَ فَانْفَتَحَ كَأَوَّلِ مَرَّةٍ ثُمَّ أَتَى الْمَدْرَسَةَ فَانْفَتَحَ لَهُ بَابُهَا وَدَخَلَ دَارَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَقْسَمْتُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لِي مَا رَأَيْتُ، قَالَ: أَمَّا الْبَلَدُ فَنَهَاوَنْدُ، وَأَمَّا السِّتَّةُ فَهُمُ الْأَبْدَالُ، وَصَاحِبُ الْأَنِينِ سَابِعُهُمْ كَانَ مَرِيضًا فَلَمَّا حَضَرَتْ وَفَاتُهُ جِئْتُ أَحْضُرُهُ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي خَرَجَ يَحْمِلُ شَخْصًا فأبو العباس الخضر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَهَبَ بِهِ لِيَتَوَلَّى أَمْرَهُ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَخَذْتُ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ فَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَأَمَرْتُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنِ الْمُتَوَفَّى، فَأُتِيَ بِهِ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيَّ وَهُوَ الْآنَ مِنْهُمْ. فَائِدَةٌ: أَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ مِنَ الْأَبْدَالِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوْتَادُ الْأَرْضِ، فَقَالَ: أَنَا كُلُّ السَّبْعَةِ. فَائِدَةٌ: أَخْرَجَ الشَّيْخُ نصر المقدسي فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ عَلَى تَارِكِ الْمَحَجَّةِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ أَبِدَالٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ هُمُ الْأَبْدَالُ فَمَا أَعْرِفُ لِلَّهِ أَبْدَالًا، وَقَالَ الْحَافِظُ محب الدين بن النجار فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ: أَنْشَدَنَا محمد بن ناصر السلامي أَنْشَدَنَا المبارك بن عبد الجبار الصيرفي أَنْشَدَنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ لِنَفْسِهِ: عَابَ قَوْمٌ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَقَالُوا ... هُوَ عِلْمٌ طُلَّابُهُ جُهَّالُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 عَدَلُوا عَنْ مَحَجَّةِ الْعِلْمِ لَمَّا ... دَقَّ عَنْهُمْ فَهْمُ الْعُلُومِ وَقَالُوا إِنَّمَا الشَّرْعُ يَا أَخِي كِتَابُ اللَّهِ ... لَا هُوَّةَ بِهِ وَلَا إِشْكَالُ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ ... فَاضَ يَقْضِي إِلَيْهِ الْمَآلُ وَطَرِيقُ الْآثَارِ تُعْرَفُ بِالنَّقْلِ ... وَلِلنَّقْلِ فَاعْلَمَنْهُ رِجَالُ هَمُّهُمْ نَقْلُهُ وَنَفْيُ الَّذِي قَدْ ... وَضَعَتْهُ عِصَابَةٌ ضُلَّالُ لَمْ يَنْوُوا فِيهِ جَاهِدِينَ وَلَمْ تَقْطَعْهُمْ ... عَنْ طِلَابِهِ الْأَشْغَالُ وَقَضَوْا لَذَّةَ الْحَيَاةِ اغْتِبَاطًا ... بِالَّذِي حَرَّرُوهُ مِنْهُ وَقَالُوا وَرَضَوْهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بَدِيلًا ... فَلَعَمْرِي لَنِعْمَ ذَاكَ الْبِدَالُ وَلَقَدْ جَاءَنَا عَنِ السَّيِّدِ الْمَا ... جِدِ حِلْفِ الْعَلْيَاءِ فِيهِمْ مَقَالُ أحمد الْمُنْتَمِي إِلَى حَنْبَلٍ أَكْ ... رِمْ بِهِ فِيهِ مَفْخَرٌ وَجَمَالُ إِنَّ أَبِدَالَ أُمَّةِ الْمُصْطَفَى أَحْمَدَ ... هُمْ حِينَ تُذْكَرُ الْأَبْدَالُ فَائِدَةٌ: قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: صَارَتِ الْأَبْدَالُ أَبْدَالًا بِأَرْبَعَةٍ: قِلَّةِ الْكَلَامِ، وَقِلَّةِ الطَّعَامِ، وَقِلَّةِ الْمَنَامِ، وَاعْتِزَالِ الْأَنَامِ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّوَكُّلِ فَقَالَ: اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، رَجُلٌ يَضْطَرِبُ بِجَوَارِحِهِ وَقَلْبُهُ سَاكِنٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَى عَمَلِهِ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ، رَجُلٌ سَاكِنٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَا حَرَكَةٍ، وَهَذَا عَزِيزٌ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَبْدَالِ. وَأَخْرَجَ عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ قَالَ: مَنْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، كُتِبَ مِنَ الْأَبْدَالِ، وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النِّبَاجِيِّ قَالَ: إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَكُونُوا أَبْدَالًا فَأَحِبُّوا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَمَنْ أَحَبَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ مِنْ مَقَادِيرِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلَّا أَحَبَّهُ. فَائِدَةٌ: فِي كِتَابِ كِفَايَةِ الْمُعْتَقِدِ لليافعي - نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْأَبْدَالُ أَبْدَالًا لِأَنَّهُمْ إِذَا غَابُوا تُبَدَّلُ فِي مَكَانِهِمْ صُوَرٌ رُوحَانِيَّةٌ تَخْلُفُهُمْ، وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ مَا حُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ مفرج الدماميلي أَنَّهُ رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ [بِعَرَفَةَ] وَرَآهُ آخَرُ فِي مَكَانِهِ مِنْ زَاوِيَتِهِ بِدَمَامِيلَ لَمْ يُفَارِقْهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَمَّا رَجَعَ الْحَاجُّ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ وَتَنَازَعَا فِي ذَلِكَ وَحَلَفَ كُلٌّ بِالطَّلَاقِ فَاخْتَصَمَا إِلَيْهِ، فَأَقَرَّهُمَا وَأَبْقَى كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 الزَّوْجِيَّةِ، فَسُئِلَ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي عَدَمِ حِنْثِ الِاثْنَيْنِ مَعَ كَوْنِ صِدْقِ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ حِنْثَ الْآخَرِ، فَقَالَ: الْوَلِيُّ إِذَا تَحَقَّقَ فِي وِلَايَتِهِ مُكِّنَ مِنَ التَّصَوُّرِ فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ وَتَظْهَرُ رُوحَانِيَّتُهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَالصُّورَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ لِمَنْ رَآهَا بِعَرَفَةَ، وَالصُّورَةُ الَّتِي رَآهَا الْآخَرُ فِي مَكَانِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَقٌّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا صَادِقٌ فِي يَمِينِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ شَخْصٍ فِي مَكَانَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ إِثْبَاتُ تَعَدُّدِ الصُّوَرِ الرُّوحَانِيَّةِ لَا الْجُسْمَانِيَّةِ. انْتَهَى. وَقَدْ قَرَّرْتُ نَظِيرَ ذَلِكَ فِي الرُّوحِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي بَابِ مَقَرِّ الْأَرْوَاحِ فِي كِتَابِ الْبَرْزَخِ، قَالَ الشمس الداودي: قَالَ مُؤَلِّفُهُ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ -: أَلَّفُتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ ثَامِنَ مُحَرَّمٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، أَحْسَنَ اللَّهُ خِتَامَهَا بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ. [تَنْوِيرُ الْحَلَكِ فِي إِمْكَانِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ وَالْمَلَكِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ: فَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ رُؤْيَةِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ، وَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ مِمَّنْ لَا قَدَمَ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ بَالَغُوا فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ وَالتَّعَجُّبِ مِنْهُ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ، فَأَلَّفْتُ هَذِهِ الْكُرَّاسَةَ فِي ذَلِكَ وَسَمَّيْتُهَا: تَنْوِيرُ الْحَلَكِ فِي إِمْكَانِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ وَالْمَلَكِ، وَنَبْدَأُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي» ) وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ أبي بكرة، وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ [الْأَنْصَارِيِّ] قَالَ الْعُلَمَاءُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ (فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ) فَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَسَيَرَانِي فِي الْقِيَامَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ بِلَا فَائِدَةٍ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ لِأَنَّ كُلَّ أُمَّتِهِ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ رَآهُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ آمَنَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَلَمْ يَرَهُ لِكَوْنِهِ حِينَئِذٍ غَائِبًا عَنْهُ فَيَكُونُ مُبَشِّرًا لَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَمَنْ رَآهُ فِي النَّوْمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ - يَعْنِي بِعَيْنَيْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 رَأْسِهِ - وَقِيلَ: بِعَيْنٍ فِي قَلْبِهِ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ الْإِمَامُ أبو محمد بن أبي جمرة فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي انْتَقَاهَا مِنَ الْبُخَارِيِّ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ فَسَيَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَهَلْ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، أَوْ هَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ؟ وَهَلْ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ رَآهُ مُطْلَقًا أَوْ خَاصٌّ بِمَنْ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ وَالِاتِّبَاعُ لِسُنَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ اللَّفْظُ يُعْطِي الْعُمُومَ، وَمَنْ يَدَّعِي الْخُصُوصَ فِيهِ بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمُتَعَسِّفٌ، قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ عَدَمُ التَّصْدِيقِ بِعُمُومِهِ، وَقَالَ عَلَى مَا أَعْطَاهُ عَقْلُهُ: وَكَيْفَ يَكُونُ مَنْ قَدْ مَاتَ يَرَاهُ الْحَيُّ فِي عَالَمِ الشَّاهِدِ؟ قَالَ: وَفِي قَوْلِ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْمَحْذُورِ وَجْهَانِ خَطِرَانِ، أَحَدُهُمَا: عَدَمُ التَّصْدِيقِ لِقَوْلِ الصَّادِقِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَالثَّانِي: الْجَهْلُ بِقُدْرَةِ الْقَادِرِ وَتَعْجِيزِهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قِصَّةَ الْبَقَرَةِ وَكَيْفَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] وَقِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْأَرْبَعِ مِنَ الطَّيْرِ، وَقِصَّةَ عُزَيْرٍ، فَالَّذِي جَعَلَ ضَرْبَ الْمَيِّتِ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ سَبَبًا لِحَيَاتِهِ، وَجَعَلَ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ سَبَبًا لِإِحْيَاءِ الطُّيُورِ، وَجَعَلَ تَعَجُّبَ عُزَيْرٍ سَبَبًا لِمَوْتِهِ وَمَوْتِ حِمَارِهِ ثُمَّ لِإِحْيَائِهِمَا بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ - قَادِرٌ أَنْ يَجْعَلَ رُؤْيَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ سَبَبًا لِرُؤْيَتِهِ فِي الْيَقَظَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - أَظُنُّهُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ فَتَذَكَّرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَبَقِيَ يُفَكِّرُ فِيهِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - أَظُنُّهَا ميمونة - فَقَصَّ عَلَيْهَا قِصَّتَهُ، فَقَامَتْ وَأَخْرَجَتْ لَهُ مِرْآتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَنَظَرْتُ فِي الْمِرْآةِ فَرَأَيْتُ صُورَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ أَرَ لِنَفْسِي صُورَةً، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ وَهَلُمَّ جَرَّا [عَنْ جَمَاعَةٍ] مِمَّنْ كَانُوا رَأَوْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ وَكَانُوا مِمَّنْ يُصَدِّقُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَرَأَوْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ وَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَانُوا مِنْهَا مُتَشَوِّشِينَ فَأَخْبَرَهُمْ بِتَفْرِيجِهَا وَنَصَّ لَهُمْ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي مِنْهَا يَكُونُ فَرْجُهَا، فَجَاءَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، قَالَ: وَالْمُنْكِرُ لِهَذَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ يُكَذِّبَ بِهَا، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِهَا فَقَدْ سَقَطَ الْبَحْثُ مَعَهُ فَإِنَّهُ يُكَذِّبُ مَا أَثْبَتَتْهُ السُّنَّةُ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ، وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِهَا فَهَذِهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يُكْشَفُ لَهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ عَنْ أَشْيَاءَ فِي الْعَالَمَيْنِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ عَدِيدَةٍ، فَلَا يُنْكَرُ هَذَا مَعَ التَّصْدِيقِ بِذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ ذَلِكَ عَامٌّ وَلَيْسَ بِخَاصٍّ بِمَنْ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ وَالِاتِّبَاعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 لِسُنَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُرَادُهُ وُقُوعُ الرُّؤْيَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا فِي الْيَقَظَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ فِي الْمَنَامِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً تَحْقِيقًا لِوَعْدِهِ الشَّرِيفِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ لِلْعَامَّةِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، فَلَا يَخْرُجُ رُوحُهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى يَرَاهُ وَفَاءً بِوَعْدِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَتَحْصُلُ لَهُمُ الرُّؤْيَةُ فِي طُولِ حَيَاتِهِمْ إِمَّا كَثِيرًا وَإِمَّا قَلِيلًا بِحَسْبِ اجْتِهَادِهِمْ وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَى السُّنَّةِ، وَالْإِخْلَالُ بِالسُّنَّةِ مَانِعٌ كَبِيرٌ، أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مطرف قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: قَدْ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ حَتَّى اكْتَوَيْتُ فَتَرَكَ ثُمَّ تَرَكْتُ الْكَيَّ فَعَادَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مطرف قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ [فِيهِ] فَقَالَ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ فَإِنْ عِشْتُ فَاكْتُمْ عَنِّي وَإِنْ مُتُّ فَحَدِّثْ بِهَا إِنْ شِئْتَ، إِنَّهُ قَدْ سُلِّمَ عَلَيَّ، قَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ كَانَتْ بِهِ بَوَاسِيرُ فَكَانَ يَصْبِرُ عَلَى أَلَمِهَا، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَاكْتَوَى وَانْقَطَعَ سَلَامُهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَرَكَ الْكَيَّ فَعَادَ سَلَامُهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ: وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: فَإِنْ عِشْتُ فَاكْتُمْ عَنِّي، أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُشَاعَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْفِتْنَةِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ القرطبي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِكْرَامًا لَهُ وَاحْتِرَامًا إِلَى أَنِ اكْتَوَى فَتَرَكَتِ السَّلَامَ عَلَيْهِ، فَفِيهِ إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَ الحاكم فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: اعْلَمْ يَا مطرف أَنَّهُ كَانَتْ تُسَلِّمُ عَلَيَّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَأْسِي وَعِنْدَ الْبَيْتِ وَعِنْدَ بَابِ الْحُجْرَةِ، فَلَمَّا اكْتَوَيْتُ ذَهَبَ ذَاكَ، قَالَ: فَلَمَّا بَرَأَ كَلَّمَهُ، قَالَ: اعْلَمْ يَا مطرف أَنَّهُ عَادَ إِلَيَّ الَّذِي كُنْتُ أَفْقِدُ، اكْتُمْ عَلَيَّ حَتَّى أَمُوتَ. فَانْظُرْ كَيْفَ حُجِبَ عمران عَنْ سَمَاعِ تَسْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ لِكَوْنِهِ اكْتَوَى مَعَ شِدَّةِ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَيَّ خِلَافُ السُّنَّةِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: لَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْكَيِّ عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيمِ لَمْ يَكْتَوِ عمران مَعَ عِلْمِهِ بِالنَّهْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ رَكِبَ الْمَكْرُوهَ فَفَارَقَهُ مَلَكٌ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَحَزِنَ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ هَذَا الْقَوْلَ، ثُمَّ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَلَمَّا اكْتَوَى بِسَبَبِ مَرَضِهِ تَرَكُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَيَّ يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ إِلَى اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا يُبْتَلَى بِهِ الْعَبْدُ، وَطَلَبُ الشِّفَاءِ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي جَوَازِ الْكَيِّ، وَلَكِنَّهُ قَادِحٌ فِي التَّوَكُّلِ وَهِيَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ وَرَاءَ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ، وَأَخْرَجَ ابن سعد فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 قَتَادَةَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تُصَافِحُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ حَتَّى اكْتَوَى فَتَنَحَّتْ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: مَا قَدِمَ عَلَيْنَا الْبَصْرَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً تُسَلِّمُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ جَوَانِبِ بَيْتِهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وأبو نعيم، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ غزالة قَالَتْ: كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ يَأْمُرُنَا أَنْ نَكْنُسَ الدَّارَ، وَنَسْمَعُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَلَا نَرَى أَحَدًا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْمُنْقِذِ مِنَ الضَّلَالِ: ثُمَّ إِنَّنِي لَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الْعُلُومِ أَقْبَلْتُ بِهِمَّتِي عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ وَالْقَدْرُ الَّذِي أَذْكُرُهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ابْنِي، عَلِمْتُ يَقِينًا أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمُ السَّالِكُونَ لِطُرُقِ اللَّهِ خَاصَّةً، وَأَنَّ سَيْرَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ أَحْسَنُ السِّيَرِ، وَطَرِيقَهُمْ أَحْسَنُ الطُّرُقِ، وَأَخْلَاقَهُمْ أَزْكَى الْأَخْلَاقِ، بَلْ لَوْ جُمِعَ عَقْلُ الْعُقَلَاءِ وَحِكْمَةُ الْحُكَمَاءِ وَعِلْمُ الْوَاقِفِينَ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِيُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ سِيَرِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَيُبَدِّلُوهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَإِنَّ جَمِيعَ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ مُقْتَبَسَةٌ [مِنْ نُورِ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ] وَلَيْسَ وَرَاءَ نُورِ النُّبُوَّةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ - إِلَى أَنْ قَالَ: حَتَّى إِنَّهُمْ وَهُمْ فِي يَقَظَتِهِمْ يُشَاهِدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَأَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُمْ أَصْوَاتًا وَيَقْتَبِسُونَ مِنْهُمْ فَوَائِدَ ثُمَّ يَتَرَقَّى الْحَالُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الصُّوَرِ وَالْأَمْثَالِ إِلَى دَرَجَاتٍ يَضِيقُ عَنْهَا نِطَاقُ النُّطْقِ، هَذَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ. وَقَالَ تِلْمِيذُهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كِتَابِ قَانُونِ التَّأْوِيلِ: ذَهَبَتِ الصُّوفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ طَهَارَةُ النَّفْسِ فِي تَزْكِيَةِ الْقَلْبِ وَقَطْعُ الْعَلَائِقِ وَحَسْمُ مَوَادِ أَسْبَابِ الدُّنْيَا مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَالْخُلْطَةِ بِالْجِنْسِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّةِ عِلْمًا دَائِمًا وَعَمَلًا مُسْتَمِرًّا كُشِفَتْ لَهُ الْقُلُوبُ وَرَأَى الْمَلَائِكَةَ وَسَمِعَ أَقَوَالَهُمْ وَاطَّلَعَ عَلَى أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ عِنْدِهِ: وَرُؤْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَسَمَاعُ كَلَامِهِمْ مُمْكِنٌ لِلْمُؤْمِنِ كَرَامَةً وَلِلْكَافِرِ عُقُوبَةً. انْتَهَى، وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام فِي الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى: وَقَالَ ابن الحاج فِي الْمَدْخَلِ: رُؤْيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ بَابٌ ضَيِّقٌ وَقَلَّ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ عَزِيزٌ وُجُودُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ عُدِمَتْ غَالِبًا، مَعَ أَنَّنَا لَا نُنْكِرُ مَنْ يَقَعُ لَهُ هَذَا مِنَ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ حَفِظَهُمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 اللَّهُ فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ، قَالَ: وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: الْعَيْنُ الْفَانِيَةُ لَا تَرَى الْعَيْنَ الْبَاقِيَةَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَارِ الْبَقَاءِ وَالرَّائِي فِي دَارِ الْفَنَاءِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أبو محمد بن أبي جمرة يَحِلُّ هَذَا الْإِشْكَالَ وَيَرُدُّهُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ يَرَى اللَّهَ وَهُوَ لَا يَمُوتُ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَمُوتُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي شرف الدين هبة الله بن عبد الرحيم البارزي فِي كِتَابِ تَوْثِيقِ عُرَى الْإِيمَانِ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ: الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ مَا قُبِضُوا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ، وَقَدْ رَأَى نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، وَأَخْبَرَ - وَخَبَرُهُ صِدْقٌ - أَنَّ صَلَاتَنَا مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ سَلَامَنَا يَبْلُغُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ الْبَارِزِيُّ: وَقَدْ سُمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي زَمَانِنَا وَقَبْلِهِ أَنَّهُمْ رَأَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ حَيًّا بَعْدَ وَفَاتِهِ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ الْإِمَامَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْبَيَانِ نَبَأَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْفُوظٍ الدِّمَشْقِيِّ فِي نَظِيمَتِهِ. انْتَهَى، وَقَالَ الشَّيْخُ أكمل الدين البابرتي الحنفي فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ فِي حَدِيثِ (مَنْ رَآنِي) : الِاجْتِمَاعُ بِالشَّخْصَيْنِ يَقَظَةً وَمَنَامًا لِحُصُولِ مَا بِهِ الِاتِّحَادُ، وَلَهُ خَمْسَةُ أُصُولٍ: كُلِّيَّةُ الِاشْتِرَاكِ فِي الذَّاتِ، أَوْ فِي صِفَةٍ فَصَاعِدًا، أَوْ فِي حَالٍ فَصَاعِدًا، أَوْ فِي الْأَفْعَالِ، أَوْ فِي الْمَرَاتِبِ، وَكُلُّ مَا يُتَعَقَّلُ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ، وَبِحَسْبِ قُوَّتِهِ عَلَى مَا بِهِ الِاخْتِلَافُ وَضَعْفِهِ يَكْثُرُ الِاجْتِمَاعُ وَيَقِلُّ، وَقَدْ يَقْوَى عَلَى ضِدِّهِ فَتَقْوَى الْمَحَبَّةُ بِحَيْثُ يَكَادُ الشَّخْصَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ، وَمَنْ حَصَّلَ الْأُصُولَ الْخَمْسَةَ وَثَبَتَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْوَاحِ الْكُمَّلِ الْمَاضِينَ اجْتَمَعَ بِهِمْ مَتَى شَاءَ، وَقَالَ الشَّيْخُ صفي الدين بن أبي المنصور فِي رِسَالَتِهِ، وَالشَّيْخُ عفيف الدين اليافعي فِي رَوْضِ الرَّيَاحِينِ: قَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ قُدْوَةُ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ وَبَرَكَةُ أَهْلِ زَمَانِهِ أبو عبد الله القرشي: لَمَّا جَاءَ الْغَلَاءُ الْكَبِيرُ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، تَوَجَّهْتُ لِأَنْ أَدْعُوَ، فَقِيلَ لِي: لَا تَدْعُ، فَمَا يُسْمَعُ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ دُعَاءٌ، فَسَافَرْتُ إِلَى الشَّامِ فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى قَرِيبِ ضَرِيحِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَلَقَّانِي الْخَلِيلُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ ضِيَافَتِي عِنْدَكَ الدُّعَاءَ لِأَهْلِ مِصْرَ، فَدَعَا لَهُمْ فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ اليافعي: وَقَوْلُهُ: تَلَقَّانِي الْخَلِيلُ، قَوْلُ حَقٍّ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا جَاهِلٌ بِمَعْرِفَةِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُشَاهِدُونَ فِيهَا مَلَكُوتَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَيَنْظُرُونَ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءً غَيْرَ أَمْوَاتٍ كَمَا نَظَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْأَرْضِ، وَنَظَرَهُ أَيْضًا هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ وَسَمِعَ مِنْهُمْ مُخَاطَبَاتٍ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا جَازَ لِلْأَنْبِيَاءِ مُعْجِزَةً جَازَ لِلْأَوْلِيَاءِ كَرَامَةً بِشَرْطِ عَدَمِ التَّحَدِّي. انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ سراج الدين بن الملقن فِي طَبَقَاتِ الْأَوْلِيَاءِ: قَالَ الشَّيْخُ عبد القادر الكيلاني: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الظُّهْرِ فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ لِمَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ أَنَا رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ كَيْفَ أَتَكَلَّمُ عَلَى فُصَحَاءِ بَغْدَادَ؟ فَقَالَ: افْتَحْ فَاكَ، فَفَتَحْتُهُ، فَتَفَلَ فِيهِ سَبْعًا وَقَالَ: تَكَلَّمْ عَلَى النَّاسِ وَادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَصَلَّيْتُ الظُّهْرَ وَجَلَسْتُ وَحَضَرَنِي خَلْقٌ كَثِيرٌ فَارْتُجَّ عَلَيَّ، فَرَأَيْتُ عَلِيًّا قَائِمًا بِإِزَائِي فِي الْمَجْلِسِ فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ لِمَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ قَدِ ارْتُجَّ عَلَيَّ، فَقَالَ: افْتَحْ فَاكَ، فَفَتَحْتُهُ فَتَفَلَ فِيهِ سِتًّا، فَقُلْتُ: لِمَ لَا تُكْمِلُهَا سَبْعًا؟ قَالَ: أَدَبًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ تَوَارَى عَنِّي فَقُلْتُ: غَوَّاصُ الْفِكْرِ يَغُوصُ فِي بَحْرِ الْقَلْبِ عَلَى دُرَرِ الْمَعَارِفِ فَيَسْتَخْرِجُهَا إِلَى سَاحِلِ الصَّدْرِ فَيُنَادِي عَلَيْهَا تُرْجُمَانُ اللِّسَانِ فَتَشْتَرِي بِنَفَائِسِ أَثْمَانٍ حُسْنَ الطَّاعَةِ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ، وَقَالَ أَيْضًا فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ خليفة بن موسى النهرملكي: كَانَ كَثِيرَ الرُّؤْيَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقَظَةً وَمَنَامًا فَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ أَكْثَرَ أَفْعَالِهِ مُتَلَقَّاةٌ مِنْهُ بِأَمْرٍ مِنْهُ إِمَّا يَقَظَةً وَإِمَّا مَنَامًا، وَرَآهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، قَالَ لَهُ فِي إِحْدَاهُنَّ: يَا خليفة لَا تَضْجَرْ مِنِّي، كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مَاتَ بِحَسْرَةِ رُؤْيَتِي، وَقَالَ الكمال الأدفوي فِي الطَّالِعِ السَّعِيدِ فِي تَرْجَمَةِ الصفي أبي عبد الله محمد بن يحيى الأسواني نَزِيلِ أَخْمِيمَ مِنْ أَصْحَابِ أبي يحيى بن شافع: كَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ وَلَهُ مُكَاشَفَاتٌ وَكَرَامَاتٌ كَتَبَ عَنْهُ ابن دقيق العيد، وابن النعمان، والقطب العسقلاني، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ يَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجْتَمِعُ بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عبد الغفار بن نوح القوصي فِي كِتَابِهِ الْوَحِيدِ: مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ أبي يحيى أبو عبد الله الأسواني الْمُقِيمُ بِأَخْمِيمَ كَانَ يُخْبِرُ أَنَّهُ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ سَاعَةٍ حَتَّى لَا تَكَادُ سَاعَةٌ إِلَّا وَيُخْبِرُ عَنْهُ، وَقَالَ فِي الْوَحِيدِ أَيْضًا: كَانَ لِلشَّيْخِ أبي العباس المرسي وُصْلَةٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَيُجَاوِبُهُ إِذَا تَحَدَّثَ مَعَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن عطاء الله فِي لَطَائِفِ الْمِنَنِ، قَالَ رَجُلٌ لِلشَّيْخِ أبي العباس المرسي: يَا سَيِّدِي صَافِحْنِي بِكَفِّكَ هَذِهِ فَإِنَّكَ لَقِيتَ رِجَالًا وَبِلَادًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا صَافَحْتُ بِكَفِّي هَذِهِ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَقَالَ الشَّيْخُ: لَوْ حُجِبَ عَنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا عَدَدْتُ نَفْسِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ الشَّيْخُ صفي الدين بن أبي المنصور فِي رِسَالَتِهِ، وَالشَّيْخُ عبد الغفار فِي الْوَحِيدِ: حُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ أبي الحسن الوناني قَالَ: أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ أبو العباس الطنجي قَالَ: وَرَدْتُ عَلَى سَيِّدِي أحمد بن الرفاعي فَقَالَ لِي: مَا أَنَا شَيْخُكَ، شَيْخُكَ عبد الرحيم بِقِنَا، فَسَافَرْتُ إِلَى قِنَا، فَدَخَلْتُ عَلَى الشَّيْخِ عبد الرحيم فَقَالَ لِي: عَرَفْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: رُحْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى تَعْرِفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي وَإِذَا بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ مَمْلُوءَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَجَعْتُ إِلَى الشَّيْخِ فَقَالَ لِي: عَرَفْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: الْآنَ كَمُلَتْ طَرِيقَتُكَ، لَمْ تَكُنِ الْأَقْطَابُ أَقْطَابًا وَالْأَوْتَادُ أَوْتَادًا وَالْأَوْلِيَاءُ أَوْلِيَاءً إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ فِي الْوَحِيدِ: وَمِمَّنْ رَأَيْتُهُ بِمَكَّةَ الشَّيْخُ عبد الله الدلاصي، أَخْبَرَنِي أَنَّهُ لَمْ تَصِحَّ لَهُ صَلَاةٌ فِي عُمْرِهِ إِلَّا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا أَحْرَمَ الْإِمَامُ وَأَحْرَمْتُ أَخَذَتْنِي أَخْذَةٌ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إِمَامًا وَخَلْفَهُ الْعَشَرَةُ فَصَلَّيْتُ مَعَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَقَرَأَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ وَفِي الثَّانِيَةِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ لَا طَمَعًا فِي بِرِّكَ وَلَا رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَكَ لِأَنَّ لَكَ الْمِنَّةَ عَلَيْنَا بِإِيجَادِنَا قَبْلَ أَنْ لَمْ نَكُنْ فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَّمَ الْإِمَامُ فَعَقَلْتُ تَسْلِيمَهُ فَسَلَّمْتُ. وَقَالَ الشَّيْخُ صفي الدين فِي رِسَالَتِهِ: قَالَ لِي الشَّيْخُ أبو العباس الحرار: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً فَوَجَدْتُهُ يَكْتُبُ مَنَاشِيرَ لِلْأَوْلِيَاءِ بِالْوِلَايَةِ، وَكَتَبَ لِأَخِي محمد مِنْهُمْ مَنْشُورًا قَالَ: وَكَانَ أَخُو الشَّيْخِ كَبِيرًا فِي الْوِلَايَةِ كَانَ عَلَى وَجْهِهِ نُورٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ، فَسَأَلْنَا الشَّيْخَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: نَفَخَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِهِ فَأَثَّرَتِ النَّفْخَةُ هَذَا النُّورَ. قَالَ الشَّيْخُ صفي الدين: وَرَأَيْتُ الشَّيْخَ الْجَلِيلَ الْكَبِيرَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيَّ أَجَلَّ أَصْحَابِ الشيخ القرشي، وَكَانَ أَكْثَرَ إِقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ لَهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصْلَةٌ وَأَجْوِبَةٌ وَرَدٌّ لِلسَّلَامِ، حَمَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِسَالَةً لِلْمَلِكِ الْكَامِلِ، وَتَوَجَّهَ بِهَا إِلَى مِصْرَ وَأَدَّاهَا وَعَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَمِمَّنْ رَأَيْتُ بِمِصْرَ الشَّيْخَ أبا العباس العسقلاني أَخَصَّ أَصْحَابِ الشيخ القرشي، زَاهِدَ مِصْرَ فِي وَقْتِهِ، وَكَانَ أَكْثَرَ أَوْقَاتِهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ بِمَكَّةَ يُقَالُ أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 دَخَلَ مَرَّةً عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ اللَّهُ بِيَدِكَ يَا أحمد. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ فَقِيهٍ فَرَوَى ذَلِكَ الْفَقِيهُ حَدِيثًا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ، فَقَالَ الْفَقِيهُ: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِكَ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَقُلْ هَذَا الْحَدِيثَ، وَكُشِفَ لِلْفَقِيهِ فَرَآهُ، وَفِي كِتَابِ الْمِنَحِ الْإِلَهِيَّةِ فِي مَنَاقِبِ السَّادَةِ الْوَفَائِيَّةِ لابن فارس قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدِي عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: كُنْتُ وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ الشَّيْخُ يعقوب، فَأَتَيْتُهُ يَوْمًا فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقَظَةً لَا مَنَامًا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَبْيَضُ قُطْنٌ ثُمَّ رَأَيْتُ الْقَمِيصَ عَلَيَّ، فَقَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ وَالضُّحَى وَأَلَمْ نَشْرَحْ ثُمَّ غَابَ عَنِّي، فَلَمَّا أَنْ بَلَغْتُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً أَحْرَمْتُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ بِالْقَرَافَةِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبَالَةَ وَجْهِي فَعَانَقَنِي، وَقَالَ لِي: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، فَأُوتِيتُ لِسَانَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ. انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ الْمَجَامِيعِ: حَجَّ سَيِّدِي أحمد الرفاعي فَلَمَّا وَقَفَ تُجَاهَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ أَنْشَدَ: فِي حَالَةِ الْبُعْدِ رُوحِي كُنْتُ أُرْسِلُهَا ... تُقَبِّلُ الْأَرْضَ عَنِّي فَهْيَ نَائِبَتِي وَهَذِهِ نَوْبَةُ الْأَشْبَاحِ قَدْ حَضَرَتْ ... فَامْدُدْ يَمِينَكَ كَيْ تَحْظَى بِهَا شَفَتِي فَخَرَجَتِ الْيَدُ الشَّرِيفَةُ مِنَ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ فَقَبَّلَهَا، وَفِي مُعْجَمِ الشَّيْخِ برهان الدين البقاعي قَالَ: حَدَّثَنِي الْإِمَامُ أبو الفضل بن أبي الفضل النويري أَنَّ السيد نور الدين الإيجي وَالِدَ الشريف عفيف الدين لَمَّا وَرَدَ إِلَى الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَمِعَ مَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ قَائِلًا مِنَ الْقَبْرِ يَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا وَلَدِي، وَقَالَ الْحَافِظُ محب الدين بن النجار فِي تَارِيخِهِ: أَخْبَرَنِي أبو أحمد داود بن علي بن هبة الله بن المسلمة أَنَا أبو الفرح المبارك بن عبد الله بن محمد بن النقور قَالَ: حَكَى شَيْخُنَا أبو نصر عبد الواحد بن عبد الملك بن محمد بن أبي سعد الصوفي الكرخي قَالَ: حَجَجْتُ وَزُرْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ الْحُجْرَةِ إِذْ دَخَلَ الشَّيْخُ أبو بكر الدياربكري وَوَقَفَ بِإِزَاءِ وَجْهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ دَاخِلِ الْحُجْرَةِ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا أبا بكر، وَسَمِعَهُ مَنْ حَضَرَ. وَفِي كِتَابِ مِصْبَاحِ الظَّلَامِ فِي الْمُسْتَغِيثِينَ بِخَيْرِ الْأَنَامِ للإمام شمس الدين محمد بن موسى بن النعمان قَالَ: سَمِعْتُ يوسف بن علي الزناني يَحْكِي عَنِ امْرَأَةٍ هَاشِمِيَّةٍ كَانَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 مُجَاوِرَةً بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ بَعْضُ الْخُدَّامِ يُؤْذِيهَا، قَالَتْ: فَاسْتَغَثْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعْتُ قَائِلًا مِنَ الرَّوْضَةِ يَقُولُ: أَمَا لَكِ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ فَاصْبِرِي كَمَا صَبَرْتُ، أَوْ نَحْوَ هَذَا، قَالَتْ: فَزَالَ عَنِّي مَا كُنْتُ فِيهِ وَمَاتَ الْخُدَّامُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَنِي، وَقَالَ ابن السمعاني فِي الدَّلَائِلِ: أَخْبَرَنَا أبو بكر هبة الله بن الفرج أَخْبَرَنَا أبو القاسم يوسف بن محمد بن يوسف الخطيب أَخْبَرَنَا أبو القاسم عبد الرحمن بن عمر بن تميم المؤدب حَدَّثَنَا علي بن إبراهيم بن علان أَخْبَرَنَا علي بن محمد بن علي حَدَّثَنَا أحمد بن الهيثم الطائي حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أبي صادق عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَعْرَابِيٌّ بَعْدَ مَا دَفَنَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَثَا مِنْ تُرَابِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ فَسَمِعْنَا قَوْلَكَ وَوَعَيْتَ عَنِ اللَّهِ فَأَوْعَيْنَا عَنْكَ، وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] وَقَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَجِئْتُكَ تَسْتَغْفِرَ لِي، فَنُودِيَ مِنَ الْقَبْرِ أَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَكَ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ مُزِيلِ الشُّبُهَاتِ فِي إِثْبَاتِ الْكَرَامَاتِ لِلْإِمَامِ عماد الدين إسماعيل بن هبة الله بن باطيس مَا نَصُّهُ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ الْكَرَامَاتِ آثَارٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ، قَالَتْ: هَذَانِ أَخَوَايَ محمد وعبد الرحمن، فَمَنْ أُخْتَايَ وَلَيْسَ لِي إِلَّا أسماء، فَقَالَ: ذُو بَطْنِ ابْنَةِ خَارِجَةَ قَدْ أُلْقِيَ فِي رُوعِي أَنَّهَا جَارِيَةٌ، فَوَلَدَتْ أم كلثوم، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ سَارِيَةَ حَيْثُ نَادَى وَهُوَ فِي الْخُطْبَةِ: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ الْجَبَلَ، فَأَسْمَعَ اللَّهُ سَارِيَةَ كَلَامَهُ وَهُوَ بِنَهَاوَنْدَ، وَقِصَّتُهُ مَعَ نِيلِ مِصْرَ وَمُرَاسَلَتُهُ إِيَّاهُ وَجَرَيَانُهُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، وَمِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ثُمَّ أَتَيْتُ عثمان لِأُسَلِّمَ عَلَيْهِ - وَهُوَ مَحْصُورٌ - فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَخِي، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْخُوخَةِ فَقَالَ: يَا عثمان حَصَرُوكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: عَطَّشُوكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَدْلَى لِي دَلْوًا فِيهِ مَاءٌ فَشَرِبْتُ حَتَّى رَوِيتُ حَتَّى إِنِّي لَأَجِدُ بَرْدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ وَبَيْنَ كَتِفَيَّ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ نُصِرْتَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ عِنْدَنَا، فَاخْتَرْتُ أَنْ أُفْطِرَ عِنْدَهُ، فَقُتِلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. انْتَهَى. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ عَنْ عثمان - مُخَرَّجَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ بِالْإِسْنَادِ - أَخْرَجَهَا الحارث بن أبي أسامة فِي مُسْنَدِهِ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ فَهِمَ الْمُنْصِفُ مِنْهَا أَنَّهَا رُؤْيَةُ يَقَظَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ عَدُّهَا فِي الْكَرَامَاتِ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَنَامِ يَسْتَوِي فِيهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْمَعْدُودَةِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 الْكَرَامَاتِ وَلَا يُنْكِرُهَا مَنْ يُنْكِرُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ ابن باطيس فِي هَذَا الْكِتَابِ قَالَ: وَمِنْهُمْ أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعُونَ الْبَغْدَادِيُّ الصُّوفِيُّ، قَالَ أبو طاهر محمد بن علي العلان: حَضَرْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ سَمْعُونَ يَوْمًا فِي مَجْلِسِ الْوَعْظِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيِّهِ يَتَكَلَّمُ فَكَانَ أَبُو الْفَتْحِ الْقَوَّاسُ جَالِسًا إِلَى جَنْبِ الْكُرْسِيِّ فَغَشِيَهُ النُّعَاسُ وَنَامَ، فَأَمْسَكَ أبو الحسين سَاعَةً عَنِ الْكَلَامِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ أبو الفتح وَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ أبو الحسين: رَأَيْتَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَوْمِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أبو الحسين: لِذَلِكَ أَمْسَكْتُ عَنِ الْكَلَامِ خَوَفَ أَنْ تَنْزَعِجَ وَيَنْقَطِعَ مَا كُنْتَ فِيهِ، فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ابْنَ سَمْعُونَ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقَظَةً لَمَّا حَضَرَ وَرَآهُ أبو الفتح فِي نَوْمِهِ، وَقَالَ أبو بكر بن أبيض فِي جُزْئِهِ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بَنَانًا الْحَمَّالَ الزَّاهِدَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ: كَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ يُعْرَفُ بابن ثابت قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتِّينَ سَنَةً لَيْسَ إِلَّا لِلسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَرْجِعُ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ تَخَلَّفَ لِشُغْلٍ أَوْ سَبَبٍ فَقَالَ: بَيْنَا هُوَ قَاعِدٌ فِي الْحُجْرَةِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ: يَا ابن ثابت لَمْ تَزُرْنَا فَزُرْنَاكَ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَكْثَرُ مَا تَقَعُ رُؤْيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ بِالْقَلْبِ ثُمَّ يَتَرَقَّى إِلَى أَنْ يُرَى بِالْبَصَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْأَمْرَانِ فِي كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، لَكِنْ لَيْسَتِ الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ كَالرُّؤْيَةِ الْمُتَعَارَفَةِ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا هِيَ جَمْعِيَّةٌ حَالِيَّةٌ وَحَالَةٌ بَرْزَخِيَّةٌ وَأَمْرٌ وُجْدَانِيٌّ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا مَنْ بَاشَرَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الشَّيْخِ عبد الله الدلاصي، فَلَمَّا أَحْرَمَ الْإِمَامُ وَأَحْرَمْتُ أَخَذَتْنِي أَخْذَةٌ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ أَخَذَةٌ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. الثَّانِي: هَلِ الرُّؤْيَةُ لَذَاتِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ أَوْ لِمِثَالِهِ؟ الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ يَقُولُونَ بِالثَّانِي وَبِهِ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُرَى جِسْمُهُ وَبَدَنُهُ بَلْ مِثَالًا لَهُ صَارَ ذَلِكَ الْمِثَالُ آلَةً يَتَأَدَّى بِهَا الْمَعْنَى الَّذِي فِي نَفْسِهِ، قَالَ: وَالْآلَةُ تَارَةً تَكُونُ حَقِيقَةً وَتَارَةً تَكُونُ خَيَالِيَّةً، وَالنَّفْسُ غَيْرُ الْمِثَالِ الْمُتَخَيَّلِ، فَمَا رَآهُ مِنَ الشَّكْلِ لَيْسَ هُوَ رُوحَ الْمُصْطَفَى وَلَا شَخْصَهُ بَلْ هُوَ مِثَالٌ لَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ، قَالَ: وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنْ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ فَإِنَّ ذَاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الشَّكْلِ وَالصُّورَةِ، وَلَكِنْ تَنْتَهِي تَعْرِيفَاتُهُ إِلَى الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ مِنْ نُورٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمِثَالُ حَقًّا فِي كَوْنِهِ وَاسِطَةً فِي التَّعْرِيفِ فَيَقُولُ الرَّائِي: رَأَيْتُ اللَّهَ فِي الْمَنَامِ، لَا يَعْنِي أَنِّي رَأَيْتُ ذَاتَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وَفَصَّلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: رُؤْيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَتِهِ الْمَعْلُومَةِ إِدْرَاكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَرُؤْيَتُهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ إِدْرَاكٌ لِلْمِثَالِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَلَا يَمْتَنِعُ رُؤْيَةُ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَحْيَاءٌ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ مَا قُبِضُوا وَأُذِنَ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ قُبُورِهِمْ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَلَكُوتِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَقَدْ أَلَّفَ الْبَيْهَقِيُّ جُزْءًا فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ؛ وَقَالَ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ: الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ مَا قُبَضُوا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَأَنَّهُ يُبَشَّرُ بِطَاعَاتِ أُمَّتِهِ وَيَحْزَنُ بِمَعَاصِي الْعُصَاةِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ تَبْلُغُهُ صَلَاةُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَبْلُونَ وَلَا تَأْكُلُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَقَدْ مَاتَ مُوسَى فِي زَمَانِهِ فَأَخْبَرَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَآهُ فِي قَبْرِهِ مُصَلِّيًا، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ رَآهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَرَأَى آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِذَا صَحَّ لَنَا هَذَا الْأَصْلُ قُلْنَا: نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صَارَ حَيًّا بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ عَلَى نُبُوَّتِهِ. انْتَهَى، وَقَالَ القرطبي فِي التَّذْكِرَةِ فِي حَدِيثِ الصَّعْقَةِ نَقْلًا عَنْ شَيْخِهِ: الْمَوْتُ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الشُّهَدَاءَ بَعْدَ قَتْلِهِمْ وَمَوْتِهِمْ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الشُّهَدَاءِ فَالْأَنْبِيَاءُ أَحَقُّ بِذَلِكَ وَأَوْلَى، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتَمَعَ بِالْأَنْبِيَاءِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَفِي السَّمَاءِ وَرَأَى مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى كُلِّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ جُمْلَتِهِ الْقَطْعُ بِأَنَّ مَوْتَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَنْ غُيِّبُوا عَنَّا بِحَيْثُ لَا نُدْرِكُهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ أَحْيَاءً، وَذَلِكَ كَالْحَالِ فِي الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ مَوْجُودِينَ أَحْيَاءً وَلَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ مِنْ نَوْعِنَا إِلَّا مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَرَامَتِهِ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَ أبو يعلى فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» ) وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُتْرَكُونَ فِي قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ» ) وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي الْجَامِعِ قَالَ: قَالَ شَيْخٌ لَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مَا مَكَثَ نَبِيٌّ فِي قَبْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى يُرْفَعَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَصِيرُونَ كَسَائِرِ الْأَحْيَاءِ يَكُونُونَ حَيْثُ يُنْزِلُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَرَوَى عبد الرزاق فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أبي المقدام عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 مَكَثَ نَبِيٌّ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وأبو المقدام هُوَ ثابت بن هرمز [الكوفي] شَيْخٌ صَالِحٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي تَارِيخِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وأبو نعيم فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمُوتُ فَيُقِيمُ فِي قَبْرِهِ إِلَّا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» ) وَقَالَ إمام الحرمين فِي النِّهَايَةِ ثُمَّ الرافعي فِي الشَّرْحِ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «أَنَا أَكْرَمُ عَلَى رَبِّي مِنْ أَنْ يَتْرُكَنِي فِي قَبْرِي بَعْدَ ثَلَاثٍ» ) زَادَ إمام الحرمين: وَرُوِيَ: أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَيْنِ، وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِيِّ الْحَنْبَلِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ حَدِيثًا أَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ نَبِيًّا فِي قَبْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ بدر الدين بن الصاحب فِي تَذْكِرَتِهِ - فَصْلٌ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْبَرْزَخِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ تَصْرِيحُ الشَّارِعِ وَإِيمَاؤُهُ، وَمِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فَهَذِهِ الْحَالَةُ وَهِيَ الْحَيَاةُ فِي الْبَرْزَخِ بَعْدَ الْمَوْتِ حَاصِلَةٌ لِآحَادِ الْأُمَّةِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَحَالُهُمْ أَعْلَى وَأَفْضَلُ مِمَّنْ تَكُنْ لَهُ هَذِهِ الرُّتْبَةُ لَا سِيَّمَا فِي الْبَرْزَخِ، وَلَا تَكُونُ رُتْبَةُ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ أَعْلَى مِنْ رُتْبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ هَذِهِ الرُّتْبَةُ بِتَزْكِيَتِهِ وَتَبَعِيَّتِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذِهِ الرُّتْبَةَ بِالشَّهَادَةِ، وَالشَّهَادَةِ حَاصِلَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ» ) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ الْحَيَاةِ لِمُوسَى فَإِنَّهُ وَصَفَهُ بِالصَّلَاةِ وَأَنَّهُ كَانَ قَائِمًا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوصَفُ بِهِ الرُّوحُ وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ الْجَسَدُ، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالْقَبْرِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَوْصَافِ الرُّوحِ لَمْ يَحْتَجْ لِتَخْصِيصِهِ بِالْقَبْرِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ أَنَّ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ مَسْجُونَةٌ فِي الْقَبْرِ مَعَ الْأَجْسَادِ، وَأَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَمَرَرْنَا بِوَادٍ فَقَالَ: أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ فَقَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى وَاضِعًا أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا» "، سُئِلَ هُنَا: كَيْفَ ذَكَرَ حَجَّهُمْ وَتَلْبِيَتَهُمْ وَهُمْ أَمْوَاتٌ وَهُمْ فِي الْأُخْرَى وَلَيْسَتْ دَارَ عَمَلٍ؟ وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحُجُّوا وَيُصَلُّوا وَيَتَقَرَّبُوا بِمَا اسْتَطَاعُوا، وَأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 الْأُخْرَى فَإِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الْعَمَلِ حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ مُدَّتُهَا وَاعْتَقَبَتْهَا الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ انْقَطَعَ الْعَمَلُ، هَذَا لَفْظُ الْقَاضِي عِيَاضٍ، فَإِذَا كَانَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يَقُولُ: إِنَّهُمْ يَحُجُّونَ بِأَجْسَادِهِمْ وَيُفَارِقُونَ قُبُورَهُمْ، فَكَيْفَ يُسْتَنْكَرُ مُفَارَقَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَبْرِهِ؟ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ حَاجًّا وَإِذَا كَانَ مُصَلِّيًا فَجَسَدُهُ فِي السَّمَاءِ وَلَيْسَ مَدْفُونًا فِي الْقَبْرِ. انْتَهَى. فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ النُّقُولِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ، وَأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ وَيَسِيرُ حَيْثُ شَاءَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَفِي الْمَلَكُوتِ وَهُوَ بِهَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ لَمْ يَتَبَدَّلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُغَيَّبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ كَمَا غُيِّبَتِ الْمَلَائِكَةُ مَعَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً بِأَجْسَادِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَفْعَ الْحِجَابِ عَمَّنْ أَرَادَ إِكْرَامَهُ بِرُؤْيَتِهِ رَآهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا دَاعِيَ إِلَى التَّخْصِيصِ بِرُؤْيَةِ الْمِثَالِ. الثَّالِثُ: سُئِلَ بَعْضُهُمْ كَيْفَ يَرَاهُ الرَّاؤُنَ الْمُتَعَدِّدُونَ فِي أَقْطَارٍ مُتَبَاعِدَةٍ؟ فَأَنْشُدُهُمْ: كَالشَّمْسِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَضَوْؤُهَا ... يَغْشَى الْبِلَادَ مَشَارِقًا وَمَغَارِبَا وَفِي مَنَاقِبِ الشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله عَنْ بَعْضِ تَلَامِذَتِهِ قَالَ: حَجَجْتُ، فَلَمَّا كُنْتُ فِي الطَّوَافِ رَأَيْتُ الشَّيْخَ تاج الدين فِي الطَّوَافِ فَنَوَيْتُ أَنْ أُسَلِّمَ عَلَيْهِ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ جِئْتُ فَلَمْ أَرَهُ ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي عَرَفَةَ كَذَلِكَ وَفِي سَائِرِ الْمَشَاهِدِ كَذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى الْقَاهِرَةِ سَأَلْتُ عَنِ الشَّيْخِ فَقِيلَ لِي: طَيِّبٌ، فَقُلْتُ: هَلْ سَافَرَ؟ قَالُوا: لَا، فَجِئْتُ إِلَى الشَّيْخِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ لِي: مَنْ رَأَيْتَ؟ فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي رَأَيْتُكَ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ الرَّجُلُ الْكَبِيرُ يَمْلَأُ الْكَوْنَ لَوْ دُعِيَ الْقُطْبُ مِنْ حَجَرٍ لَأَجَابَ، فَإِذَا كَانَ الْقُطْبُ يَمْلَأُ الْكَوْنَ فَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الشَّيْخِ أبي العباس الطنجي أَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ مَمْلُوءَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الرَّابِعُ: قَالَ قَائِلٌ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ تَثْبُتَ الصُّحْبَةُ لِمَنْ رَآهُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا: بِأَنَّ الْمَرْئِيَّ الْمِثَالُ فَوَاضِحٌ لِأَنَّ الصُّحْبَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ جَسَدًا وَرُوحًا، وَإِنْ قُلْنَا: الْمَرْئِيُّ الذَّاتُ فَشَرْطُ الصُّحْبَةِ أَنْ يَرَاهُ وَهُوَ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ، وَهَذِهِ رُؤْيَةٌ وَهُوَ فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ لَا تُثْبِتُ صُحْبَتَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَرَدَتْ بِأَنَّ جَمِيعَ أُمَّتِهِ عُرِضُوا عَلَيْهِ فَرَآهُمْ وَرَأَوْهُ وَلَمْ تَثْبُتِ الصُّحْبَةُ لِلْجَمِيعِ لِأَنَّهَا رُؤْيَةٌ فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ فَلَا تُفِيدُ صُحْبَتَهُ. خَاتِمَةٌ: أَخْرَجَ أحمد فِي مَسْنَدِهِ، وَالْخَرَائِطِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ طَرِيقِ أبي العالية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: ( «خَرَجْتُ مِنْ أَهْلِي أُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا بِهِ قَائِمٌ وَرَجُلٌ مَعَهُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُمَا حَاجَةً، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ قَامَ بِكَ هَذَا الرَّجُلُ حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَكَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَدْرِي مَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَلَّمْتَ رَدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ» ) . وَأَخْرَجَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ تميم بن سلمة قَالَ: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذِ انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِ رَجُلٌ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ مُوَلِّيًا مُعْتَمًّا بِعِمَامَةٍ قَدْ أَرْسَلَهَا مِنْ وَرَائِهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: (هَذَا جِبْرِيلُ) » . وَأَخْرَجَ أحمد وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: ( «مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ جِبْرِيلُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَمَرَرْتُ، فَلَمَّا رَجَعْنَا وَانْصَرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَلْ رَأَيْتَ الَّذِي كَانَ مَعِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ» ) . وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ حارثة قَالَ: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، وَأَخْرَجَ أحمد وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُلْتُ: «كُنْتُ مَعَ أَبِي عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ فَكَانَ كَالْمُعْرِضِ عَنْ أَبِي فَخَرَجْنَا فَقَالَ لِي أَبِي: يَا بُنَيَّ أَلَمْ تَرَ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ كَالْمُعْرِضِ عَنِّي؟ قُلْتُ: يَا أَبَتِ إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ عِنْدَكَ رَجُلٌ يُنَاجِيكَ فَهَلْ كَانَ عِنْدَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: وَهَلْ رَأَيْتَهُ يَا عبد الله؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي يَشْغَلُنِي عَنْكَ» . وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ( «عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَنْزِلِهِ سَمِعَهُ يَتَكَلَّمُ فِي الدَّاخِلِ فَلَمَّا دَخَلَ لَمْ يَرَ أَحَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ كُنْتَ تُكَلِّمُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَخَلَ عَلَيَّ دَاخِلٌ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا قَطُّ بَعْدَكَ أَكْرَمَ مَجْلِسًا وَلَا أَحْسَنَ حَدِيثًا مِنْهُ، قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَرِجَالًا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يُقْسِمُ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ) وَأَخْرَجَ أبو بكر بن أبي داود فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنْ أبي جعفر قَالَ: «كَانَ أبو بكر يَسْمَعُ مُنَاجَاةَ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: ( «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي إِذْ سَمِعْتُ مُتَكَلِّمًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ وَإِلَيْكَ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ أَهْلٌ أَنْ تُحْمَدَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جَمِيعَ مَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِي، وَاعْصِمْنِي فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِي، وَارْزُقْنِي عَمَلًا زَاكِيًا تَرْضَى بِهِ عَنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ مَلَكٌ أَتَاكَ يُعَلِّمُكَ تَحْمِيدَ رَبِّكَ» ". وَأَخْرَجَ محمد بن نصر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي إِذْ سَمِعْتُ مُتَكَلِّمًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، قَالَ: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الذِّكْرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " «قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَأَدْخُلَنَّ الْمَسْجِدَ، فَلَأُصَلِيَّنَ وَلَأَحْمِدَنَّ اللَّهَ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمِدْهُ بِهَا أَحَدٌ، فَلَمَّا صَلَّى وَجَلَسَ لِيَحْمِدَ اللَّهَ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ إِذَا هُوَ بِصَوْتٍ عَالٍ مِنْ خَلْفٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يُرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ، لَكَ الْحَمْدُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، [اللَّهُمَّ] اغْفِرْ لِي مَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِي، وَاعْصِمْنِي فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِي، وَارْزُقْنِي أَعْمَالًا زَاكِيَةً تَرْضَى بِهَا عَنِّي، وَتُبْ عَلَيَّ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ» ". وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ محمد بن مسلمة قَالَ: " «مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى خَدِّ رَجُلٍ، فَلَمْ أُسَلِّمْ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَقَالَ لِي: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُسَلِّمَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ فَعَلْتَ بِهَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا مَا فَعَلْتَهُ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْطَعَ عَلَيْكَ حَدِيثَكَ، فَمَنْ كَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ» ". وَأَخْرَجَ الحاكم عَنْ عائشة قَالَتْ: " «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ وَاقِفًا فِي حُجْرَتِي هَذِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِيهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: بِمَنْ شَبَّهْتِهِ؟ قُلْتُ: بِدِحْيَةَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتِ جِبْرِيلَ» ". وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ حذيفة قَالَ: " «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَرَجَ، فَتَبِعْتُهُ، فَإِذَا عَارِضٌ قَدْ عَرَضَ لَهُ، فَقَالَ لِي: يَا حذيفة هَلْ رَأَيْتَ الْعَارِضَ الَّذِي عَرَضَ لِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَهْبِطْ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَهَا، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، وَبَشَّرَنِي بالحسن والحسين أَنَّهُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ فاطمة سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ". وَأَخْرَجَ أحمد، وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وأبو نعيم، وَالْبَيْهَقِيُّ، كِلَاهُمَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، «عَنْ أسيد بن حضير، أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ، إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتْ، فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هِيَ بِمِثْلِ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ عَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ تَنْظُرُ النَّاسُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 إِلَيْهَا لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ» . وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: «رَأَيْتُ يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلَيْنِ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا وَعَنْ يَسَارِهِ أَحَدُهُمَا، يُقَاتِلَانِ أَشَدَّ الْقِتَالِ، ثُمَّ ثَلَّثَهُمَا ثَالِثٌ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ رَبَّعَهُمَا رَابِعٌ أَمَامَهُ» . وَأَخْرَجَ إسحاق بن راهويه فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وأبو نعيم وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ مَا عَمِيَ: لَوْ كُنْتُ مَعَكُمْ بِبَدْرٍ الْآنَ وَمَعِيَ بَصَرِي لَأَخْبَرْتُكُمْ بِالشِّعْبِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكُّ وَلَا أَتَمَارَى. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: " «جِئْتُ يَوْمَ بَدْرٍ بِثَلَاثَةِ رُءُوسٍ، فَوَضَعْتُهُنَّ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَّا رَأْسَانِ فَقَتَلْتُهُمَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا أَبْيَضَ طَوِيلًا ضَرَبَهُ، فَأَخَذْتُ رَأْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ فُلَانٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ» ". وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمَلَكُ يَتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ مَنْ تَعْرِفُونَ مِنَ النَّاسِ يُثَبِّتُونَهُمْ، فَيَقُولُ: إِنِّي دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ حَمَلُوا عَلَيْنَا مَا ثَبَتْنَا، لَيْسُوا بِشَيْءٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] . وَأَخْرَجَ أحمد، وابن سعد، وَابْنُ جَرِيرٍ، وأبو نعيم فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «كَانَ الَّذِي أَسَرَ العباس أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ أبو اليسر رَجُلًا جَمُوعًا، وَكَانَ العباس رَجُلًا جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أبا اليسر كَيْفَ أَسَرْتَ العباس؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ، هَيْئَتُهُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ» ". وَأَخْرَجَ ابن سعد وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عمار بن أبي عمار: " أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرِنِي جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، قَالَ: اقْعُدْ فَقَعَدَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى خَشَبَةٍ كَانَتْ فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْفَعْ طَرْفَكَ [فَانْظُرْ، فَرَفَعَ طَرْفَهُ] فَرَأَى قَدَمَيْهِ مِثْلَ الزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ بِجَنَبَاتِ بَدْرٍ، إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ حُفْرَةٍ فِي عُنُقِهِ سِلْسِلَةٌ فَنَادَانِي، يَا عبد الله اسْقِنِي، وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ الْحُفْرَةِ فِي يَدِهِ سَوْطٌ، فَنَادَانِي يَا عبد الله لَا تَسْقِهِ ; فَإِنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ حَتَّى عَادَ إِلَى حُفْرَتِهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ لِي: أَوَقَدْ رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ اللَّهِ أبو جهل وَذَاكَ عَذَابُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ رُؤْيَتُهُ الرَّجُلَ الَّذِي خَرَجَ عَقِبَهُ وَضَرْبُهُ بِالسَّوْطِ، فَإِنَّهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِتَعْذِيبِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُقْبَضَ، فَكَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ كَبُرَتْ سِنِّي، وَوَهَنَ عَظْمِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَأَنَا أُصَلِّي وَأَدْعُو أَنْ أُقْبَضَ، إِذَا أَنَا بِفَتًى شَابٍّ مِنْ أَجْمَلِ الرِّجَالِ، وَعَلَيْهِ رَوَاحٌ أَخْضَرُ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي تَدْعُو بِهِ؟ قُلْتُ: وَكَيْفَ أَدْعُو؟ قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ حُسْنَ الْعَمَلِ، وَبَلْغَ الْأَجَلِ، قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ: أَنَا رَتَايِيلُ الَّذِي يَسُلُّ الْحُزْنَ مِنْ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا. وَأَخْرَجَ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ، عَنْ سعيد بن سنان قَالَ: أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَبَيْنَمَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ سَمِعْتُ حَفِيفًا لَهُ جَنَاحَانِ قَدْ أَقْبَلَ وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَ الدَّائِمِ الْقَائِمِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ، سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، سُبْحَانَ رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ أَقْبَلَ حَفِيفٌ يَتْلُوهُ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَفِيفٌ بَعْدَ حَفِيفٍ يَتَجَاوَبُونَ بِهَا حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، فَإِذَا بَعْضُهُمْ قَرِيبٌ مِنِّي فَقَالَ: آدَمِيٌّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: لَا رَوْعَ عَلَيْكَ، هَذِهِ الْمَلَائِكَةُ. تَذْنِيبٌ: وَمِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ هُنَا مَا أَخْرَجَهُ أبو داود مِنْ طَرِيقِ أبي عمير بن أنس، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، «أَنَّ عبد الله بن زيد قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَأَرَانِي الْأَذَانَ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَتَمَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا» . وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ، أَنَّ عبد الله بن زيد قَالَ: لَوْلَا اتِّهَامِي لِنَفْسِي لَقُلْتُ: إِنِّي لَمْ أَكُنْ نَائِمًا، وَفِي سُنَنِ أبي داود مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: «جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ رَجُلًا كَأَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ أَخْضَرَيْنِ، فَأَذَّنَ ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ لَقُلْتُ: إِنِّي كُنْتُ يَقْظَانًا غَيْرَ نَائِمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَرَاكَ اللَّهُ خَيْرًا» . فَقَالَ الشَّيْخُ ولي الدين العراقي فِي شَرْحِ سُنَنِ أبي داود: قَوْلُهُ: " إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ " مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ، فَكَانَ مُرَادُهُ أَنَّ نَوْمَهُ كَانَ خَفِيفًا قَرِيبًا مِنَ الْيَقَظَةِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ دَرَجَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ. قُلْتُ: أَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي تَعْتَرِي أَرْبَابَ الْأَحْوَالِ وَيُشَاهِدُونَ فِيهَا مَا يُشَاهِدُونَ، وَيَسْمَعُونَ مَا يَسْمَعُونَ، وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 اللَّهُ عَنْهُمْ هُمْ رُءُوسُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ أبا بكر وعمر وبلالا رَأَوْا مِثْلَ مَا رَأَى عبد الله بن زيد. وَذَكَرَ إمام الحرمين فِي النِّهَايَةِ، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ، أَنَّ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ قَدْ رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ [أَنَّ] الَّذِي نَادَى بِالْأَذَانِ فَسَمِعَهُ عمر وبلال جِبْرِيلُ أَخْرَجَهُ الحارث بن أبي أسامة فِي مُسْنَدِهِ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ ابن عساكر فِي تَارِيخِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أبي بكر فَرَآهُ ثَقِيلًا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَدَخَلَ عَلَى عائشة لِيُخْبِرَهَا بِوَجَعِ أبي بكر، إِذْ دَخَلَ أبو بكر يَسْتَأْذِنُ، فَدَخَلَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَجَّبُ لِمَا عَجَّلَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعَافِيَةِ، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا أَنْ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِي فَغَفَوْتُ، فَأَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَسَطَعَنِي سَطْعَةً، فَقُمْتُ وَقَدْ بَرِأْتُ. فَلَعَلَّ هَذِهِ غَفْوَةُ حَالٍ لَا غَفْوَةُ نَوْمٍ» . [الْفَتَاوَى النَّحْوِيَّةُ وَمَا ضُمَّ إِلَيْهَا] [ مسائل متفرقة في النحو ] الْفَتَاوَى النَّحْوِيَّةُ وَمَا ضُمَّ إِلَيْهَا مَسْأَلَةٌ: قَوْلُ ابْنِ الْمُصَنِّفِ: حَدُّ النَّحْوِ فِي الِاصْطِلَاحِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ بِأَحْكَامٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنَ اسْتِقْرَاءِ كَلَامِ الْعَرَبِ، أَعْنِي أَحْكَامَ الْكَلِمِ فِي ذَوَاتِهَا وَمَا يَعْرِضُ لَهَا بِالتَّرْكِيبِ، هَلْ قَوْلُهُ وَمَا يَعْرِضُ لَهَا بِأَوْ أَوْ بِالْوَاوِ، وَمَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: هُوَ بِالْوَاوِ قَصَدَ بِذَلِكَ حَدَّ النَّحْوِ عَلَى مُصْطَلَحِ أَبِيهِ الشَّامِلِ لِلْإِعْرَابِ وَالتَّصْرِيفِ مَعًا، فَأَحْكَامُ الْكَلِمِ فِي ذَوَاتِهَا هُوَ الْمَبْحُوثُ عَنْهُ فِي التَّصْرِيفِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا بِالتَّرْكِيبِ هُوَ الْمَبْحُوثُ عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ، وَيُطْلَقُ النَّحْوُ إِطْلَاقًا آخَرَ عَلَى مَا يُرَادِفُ الْإِعْرَابَ وَيُقَابِلُ التَّصْرِيفَ، وَلَهُ حَدٌّ غَيْرُ مَا ذَكَرَ. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ» . هَلِ " الْجَنَّةُ " بِالرَّفْعِ أَوْ بِالنَّصْبِ؟ . الْجَوَابُ: هُوَ بِالنَّصْبِ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ الْمَعْنَى، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَ النُّحَاةِ: يَجُوزُ الرَّفْعُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْخَبَرِ ; لِأَنَّهُ حَيْثُ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَالِاسْتِئْنَافُ هُنَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى، إِذْ يَصِيرُ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَلَيْسَ مُرَادًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إِدْخَالُهُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، فَتَعَيَّنَ النَّصْبُ. مَسْأَلَةٌ: مَا إِعْرَابُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 الْجَوَابُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظُ " ثَلَاثٌ "، وَأَمَّا إِعْرَابُهُ فَ " حُبِّبَ " فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَالظَّرْفَانِ بَعْدَهُ مُتَعَلِّقَانِ بِهِ. وَ " الطِّيبُ " مَرْفُوعٌ بِهِ نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ. وَ " النِّسَاءُ " مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ فَلَفْظُ: «وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ، فَ " قُرَّةُ " مَفْعُولُ جُعِلَ الْأَوَّلُ، أُقِيمَ مَقَامَ فَاعِلِهِ لَمَّا بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَفْعُولُهُ الثَّانِي. وَمَنْ زَادَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظَةَ " ثَلَاثٌ " فَقَدَ وَهِمُوهُ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، فَالْمَخْصُوصُ بِحُبِّهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا اثْنَانِ، النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ دِينٌ لَا دُنْيَا ; وَلِهَذَا قَالَ: مِنْ دُنْيَاكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ دُنْيَايَ وَلَا مِنَ الدُّنْيَا، فَأَشَارَ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّهُمَا مِنْ دُنْيَا النَّاسِ ; لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَهُمَا لِلِاسْتِلْذَاذِ وَحُظُوظِ النَّفْسِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ لِيَنْقُلْنَ عَنْهُ مَحَاسِنَهُ، وَمُعْجِزَاتِهِ الْبَاطِنَةَ، وَأَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ غَالِبًا، وَلِلْقِيَامِ بِأَوْدِهِنَّ، وَلِيَتَشَرَّفَ أَصْحَابُهُ بِمُصَاهَرَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَحُبِّبَ إِلَيْهِ الطِّيبُ لِمُلَاقَاتِهِ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ يُحِبُّونَهُ وَيَكْرَهُونَ الرِّيحَ الْخَبِيثَةَ ; وَلِهَذَا امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الثَّوْمِ وَنَحْوِهِ لِأَجْلِ أَنَّ جِبْرِيلَ يَأْتِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَلَكِنْ يَجِدُونَ الرِّيحَ. مَسْأَلَةٌ: «قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَارِيَةِ الَّتِي دَعَتْهُ لِحَاجَتِهَا: اجْلِسِي فِي أَيِّ سِكَكِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسْ إِلَيْكِ» . هَلْ " أَجْلِسْ " بِالْجَزْمِ أَمْ بِالرَّفْعِ أَمْ بِالْوَجْهَيْنِ؟ الْجَوَابُ: الْمَعْرُوفُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ الْجَزْمُ، وَبِهِ وَرَدَ الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31] وَالْأَشْهَرُ فِي تَوْجِيهِهِ أَنَّهُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ. مَسْأَلَةٌ: قَوْلُ الْخَزْرَجِيَّةِ: إِذَا اسْتَكْمَلَ الْإِجْزَاءَ بَيْتٌ كَحَشْوِهِ ... عَرُوضٌ وَضَرْبٌ ثَمَّ أَوْ خُولِفَتْ وَفَا عَلَامَ رُفِعَ قَوْلُهُ: عَرُوضٌ وَضَرْبٌ؟ الْجَوَابُ: " عَرُوضٌ " مُبْتَدَأٌ، وَ " ضَرْبٌ " عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ " وَهُوَ كَحَشْوِهِ " الْخَبَرُ، وَتَقْدِيمُهُ هُوَ الَّذِي سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَالْحَشْوِ فِي الِاسْتِكْمَالِ الْعُرُوضُ وَالضَّرْبُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «لَوْ كَانَ ذَاكَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرَ لَكَ» . هَلْ لَفْظُ " فَأَسْتَغْفِرَ " بِالنَّصْبِ أَوْ بِالرَّفْعِ؟ الْجَوَابُ: هُوَ بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ " لَوْ "، وَهِيَ لِلتَّمَنِّي لَا لِلشَّرْطِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 102] وَلَا يَصِحُّ كَوْنُ " لَوْ " فِي الْحَدِيثِ لِلشَّرْطِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ، " لَوْ " إِنَّمَا تَقَعُ شَرْطًا فِي الْمُضِيِّ، وَإِذَا وَقَعَ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا أُوِّلَ بِالْمُضِيِّ. الثَّانِي: أَنَّ " لَوْ " الشَّرْطِيَّةَ لَا يَقَعُ جَوَابُهَا مُضَارِعًا بَلْ مَاضِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. الثَّالِثُ: أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ مُضَارِعًا لَا يَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ " لَوْ " هُنَا لِلتَّمَنِّي لَا لِلشَّرْطِ. مَسْأَلَةٌ: فِي إِعْرَابِ تَرْكِيبٍ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ نَصُّهُ: وَلَا يُمْكِنُ الْوَارِثَ أَخْذُهَا. هَلِ " الْوَارِثَ " مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ " وَأَخْذُهَا " بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَوْ بِالْعَكْسِ؟ الْجَوَابُ: الْوَارِثَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمَنْصُوبُ، وَأَخْذُهَا هُوَ الْفَاعِلُ الْمَرْفُوعُ، لَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَمَنْ عَكَسَ فَهُوَ عَارَضَ مَنْ عَلِمَ الْعَرَبِيَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَاعِدَةٍ قَرَّرَهَا أَهْلُ النَّحْوِ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهَا، مِنْهُمُ L-1 الزجاجي فِي الْجُمَلِ، وابن هشام فِي الْمُغْنِي، فَقَالَا: إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ الْفَاعِلُ مِنَ الْمَفْعُولِ فَرُدَّ الِاسْمَ إِلَى الضَّمِيرِ، وَمَا رَجَعَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَرْفُوعِ فَهُوَ الْفَاعِلُ، وَمَا رَجَعَ إِلَى ضَمِيرِهِ الْمَنْصُوبِ فَهُوَ الْمَفْعُولُ. وَقَالَ ابن هشام: تَقُولُ: أَمْكَنَ الْمُسَافِرَ السَّفَرُ، بِنَصْبِ " الْمُسَافِرَ " ; لِأَنَّكَ تَقُولُ: أَمْكَنَنِي السَّفَرُ، وَلَا تَقُولُ: أَمْكَنْتُ السَّفَرَ، انْتَهَى. وَكَذَلِكَ التَّرْكِيبُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ، لَوْ رَجَّعْتَ الْوَارِثَ إِلَى الضَّمِيرِ لَقُلْتَ فِي التَّكَلُّمِ: وَلَا يُمْكِنُنِي أَخْذُهَا، وَفِي الْخِطَابِ: وَلَا يُمْكِنُكَ أَخْذُهَا، وَفِي الْغَيْبَةِ: وَلَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا، فَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا مَنْصُوبَةٌ، وَ " أَخْذُهَا " هُوَ الْفَاعِلُ، وَكَذَا " الْوَارِثَ " الْوَاقِعُ مَوْقِعَهُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْوَارِثَ هُوَ الْفَاعِلُ لِكَوْنِهِ مِنْ ذَوِي الْعَقْلِ دُونَ الْأَخْذِ، فَهُوَ فِي غَايَةِ الْوَهْمِ، كَيْفَ وَالْإِمْكَانُ وَعَدَمُهُ إِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخْذِ لَا بِالْوَارِثِ، وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] فِي آيَاتٍ أُخْرَى تَرَى الْفَاعِلَ فِيهَا غَيْرَ أُولِي الْعَقْلِ. مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ سَمِعَ إِنْسَانًا يُنْشِدُ قَوْلَ الْعَلَّامَةِ نَاصِحِ الدِّينِ الْأَرْجَانِيِّ: هَذَا الزَّمَانُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ كَدَرٍ ... حَكَى انْقِلَابَ لَيَالِيهِ بِأَهْلِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 غَدِيرُ مَاءٍ تَرَاءَى فِي أَسَافِلِهِ خَيَالُ قَوْمٍ تَمَشَّوْا فِي نَوَاحِيهِ ... فَالرَّأْسُ يُنْظَرُ مَنْكُوسًا أَسَافِلُهُ وَالرِّجْلُ يُنْظَرُ مَرْفُوعًا أَعَالِيهِ فَأَعْرَبَ " الرَّأْسُ " مُبْتَدَأً، وَ " يُنْظَرُ " الْمَبْنِيُّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ خَبَرٌ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِيهِ الْعَائِدُ إِلَى الرَّأْسِ مَعْمُولٌ لِ " يُنْظَرُ "، وَ " مَنْكُوسًا " حَالٌ مِنْهُ، وَأَسَافِلَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْغَدِيرِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يُنْظَرُ الرَّأْسُ حَالَ كَوْنِهِ مَنْكُوسًا أَسَافِلَ الْغَدِيرِ. وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ " يُنْظَرُ "، وَكَذَا النِّصْفُ الثَّانِي، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: يُنْظَرُ الرِّجْلُ حَالَ كَوْنِهِ مَرْفُوعًا فِي أَعَالِي الْغَدِيرِ، فَيَكُونُ الشَّاعِرُ قَدْ شَبَّهَ رَأْسَ الْإِنْسَانِ بِرَأْسِ الْإِنْسَانِ، وَالرِّجْلَ بِالْأَسَافِلِ، وَالْغَدِيرَ فِي حَالِ تَمَثُّلِ الْأَشْكَالِ فِيهِ مُنْقَلِبَةً بِالزَّمَانِ فِي انْقِلَابِهِ بِأَهْلِهِ، وَمَرَاتِبَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ الْوَاقِعِ فِي الْحُسْنِ بِمُشَاهَدَةِ الْأَشْكَالِ الْمُنْتَكِسَةِ فِي الْغَدِيرِ الْمَوْهُومَةِ أَنَّهَا سُطُوحٌ، وَقِيعَانُ الْغَدِيرِ مَرَاتِبُ الدُّنْيَا وَمَنَاصِبُهَا، وَيَكُونُ سَكَّنَ يَاءَ " أَعَالِيهِ " لِلضَّرُورَةِ، فَهَلْ هَذَا الْإِعْرَابُ صَحِيحٌ مُسْتَقِيمٌ أَوْ فَاسِدٌ بَاطِلٌ؟ أَوْ لَهُ وَجْهٌ مَا فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ مَا قَالَهُ مَنْ رَدَّ عَلَى هَذَا الْمُعْرِبِ هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَنَّ " أَسَافِلُ " مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِيُنْظَرُ، أَعْنِي: أَنَّهُ النَّائِبُ عَنِ الْفَاعِلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ - أَعْنِي " الْأَسَافِلَ " - الْأَرْجُلُ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الرَّأْسِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّأْسِ هُنَا الْإِنْسَانُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، وَأَنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ رَأْسُ بَنِي فُلَانٍ، وَعِنْدِي خَمْسُونَ رَأْسًا مِنَ الْإِبِلِ، وَ " مَنْكُوسًا " حَالٌ مِنَ الرَّأْسِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يُنْظَرُ أَسَافِلُ الْإِنْسَانِ حَالَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ مَنْكُوسًا، فَهَلْ هَذَا الْإِعْرَابُ صَحِيحٌ؟ وَمَا اعْتَبَرَهُ مِنْ مَجَازِ الرَّأْسِ مُعْتَبَرٌ عَلَاقَتُهُ بَيِّنَةٌ، وَقَرِينَتُهُ الصَّارِفَةُ عَنِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ فِي التَّخَاطُبِ صَالِحَةٌ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمَثُّلِ خَيَالِهِ فِي الْغَدِيرِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِي إِنْكَاسِ الرَّأْسِ الْمُشَبَّهَةِ بِصَاحِبِ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ وَالشَّرَفِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعَقْلِ وَارْتِفَاعِ الرِّجْلِ الْمُشَبَّهِ بِأَرْذَالِ النَّاسِ وَسُقَّاطِهِمْ، عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ كُلِّ ذَلِكَ هَلْ يَتَمَشَّى ذَلِكَ لَهُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْبَيْتِ؟ وَهَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّ إِطْلَاقَ الرَّأْسِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ - أَعْنِي حَيْثُ لَا عَلَاقَةَ وَلَا قَرِينَةَ - لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُوَّلَّدِينَ وَأَرْبَابِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ رَأْسًا - وَيُرِيدُ شَخْصًا مِنَ الْإِنْسَانِ - مِنْ غَيْرِ حُصُولِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ غَيْرُ فَصِيحٍ، بَلْ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ فَهُوَ مُسْتَهْجَنٌ غَيْرُ مَأْلُوفٍ صَحِيحٌ؟ وَهَلْ يَكُونُ قَوْلُ الْقَائِلِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ: صَرَّحَ الْأُصُولِيُّونَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْوَضْعِ فِي الْمَجَازِ، سَفْسَطَةً وَهَذَيَانًا؟ . الْجَوَابُ: الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، الثَّانِي الَّذِي قَالَهُ الرَّادُّ خَطَأٌ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا وَجْهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 لَهُ، وَلَوْ أَعْرَبَهُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: إِنَّ النَّائِبَ عَنِ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ " يُنْظَرُ "، " وَأَسَافِلُهُ " مَرْفُوعٌ بِالْوَصْفِ قَبْلَهُ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلِ اسْمِ الْمَفْعُولِ عَلَى حَدِّ: زَيْدٌ يُصْبِحُ مَضْرُوبًا غُلَامُهُ، وَكَذَا الْمِصْرَاعُ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَعَ إِمْكَانِ هَذَا الْوَجْهِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ. وَلِهَذَا الْوَجْهِ قَادِحٌ خَفِيٌّ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي قَالَهُ الرَّادُّ فَلَا وَجْهَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ خَطَأٌ صُرَاحٌ، وَالْقَدْحُ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: يُنْظَرُ أَسَافِلُ الْإِنْسَانِ حَالَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ مَنْكُوسًا، وَهُوَ يُنْظَرُ بِجُمْلَةِ أَسَافِلِهِ وَأَعَالِيهِ مَعًا؟ وَأَيْضًا فَلَا يَتِمُّ لَهُ التَّشْبِيهُ الَّذِي عُقِدَ الْبَيْتُ لِأَجْلِهِ، وَأَيْضًا فَالنَّكْسُ قَلْبُ الْأَعْلَى أَسْفَلَ لَا عَكْسُهُ الَّذِي قَرَّرَهُ هَذَا الرَّادُّ وَهُوَ قَلْبُ الْأَسْفَلِ أَعْلَى، فَذَاكَ يُسَمَّى رَفْعًا لَا نَكْسًا ; فَلِهَذَا عَبَّرَ الشَّاعِرُ فِي الرَّأْسِ بِمَنْكُوسٍ وَفِي الرِّجْلِ بِمَرْفُوعٍ، وَلَوْ كَانَ مَا قَرَّرَهُ هَذَا الرَّادُّ كَانَتِ الْعِبَارَةُ: فَالْإِنْسَانُ، أَوْ فَالرَّأْسُ، أَيِ الْإِنْسَانُ يُنْظَرُ مَرْفُوعَةً أَسَافِلُهُ، وَأَيْضًا فَجَعْلُ " مَنْكُوسًا " حَالًا مِنَ الرَّأْسِ يُقْدَحُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ: كَوْنُهُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ عَلَى مَنْعِهِ، وَكَوْنُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَامَ عَلَى الْغَدِيرِ يَكُونُ لَهُ حَالَتَانِ: حَالَةٌ يَكُونُ فِيهَا مَنْكُوسًا وَحَالَةٌ لَا يَكُونُ فِيهَا كَذَلِكَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْكُوسًا، وَالْأَصْلُ فِي الْحَالِ الِانْتِقَالُ، فَإِذَا جُعِلَ حَالًا مِنْ ضَمِيرٍ يُنْظَرُ خَلَا مِنْ هَذَا الْقَادِحِ، وَاسْتِعْمَالُ الرَّأْسِ هُنَا بِمَعْنَى الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِفَسَادِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ التَّشْبِيهِ الَّذِي سَاقَ الشَّاعِرُ الْكَلَامَ لِأَجْلِهِ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مُقَابَلَتَهُ بِالرِّجْلِ تَأْبَى ذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ هُنَا فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ. وَأَمَّا عَدَمُ الْقَرِينَةِ وَالتَّنْظِيرُ بِ " رَأَيْتُ رَأْسًا " فَلَا مَدْخَلَ لَهُ هُنَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ فِي جَوَابِ ذَلِكَ: صَرَّحَ الْأُصُولِيُّونَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْوَضْعِ فِي الْمَجَازِ فَكَلَامٌ غَيْرُ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ، وَلَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَقْصُودِ، وَهَذَا الْبَيْتُ لَا تُؤْخَذُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، بَلْ مِنْ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ وَتَوَابِعِهِ، وَكَذَلِكَ الْبَيَانُ وَالْبَدِيعُ وَالْإِنْشَاءُ وَالتَّرَسُّلُ وَنَقْدُ الشِّعْرِ: وَلِلْعُلُومِ رِجَالٌ يُعْرَفُونَ بِهَا ... وَلِلدَّوَاوِينِ كُتَّابٌ وَحُسَّابُ مَسْأَلَةٌ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَثِيلِ وَالشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ؟ الْجَوَابُ: الْمَثِيلُ أَخَصُّ الثَّلَاثَةِ، وَالشَّبِيهُ أَعَمُّ مِنَ الْمَثِيلِ وَأَخَصُّ مِنَ النَّظِيرِ، وَالنَّظِيرُ أَعَمُّ مِنَ الشَّبِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَسْتَلْزِمُ الْمُشَابَهَةَ وَزِيَادَةً، وَالْمُشَابَهَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمُمَاثَلَةَ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شِبْهُ الشَّيْءِ مُمَاثِلًا لَهُ، وَالنَّظِيرَ قَدْ لَا يَكُونُ مُشَابِهًا، وَحَاصِلُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْمُشَابَهَةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي أَكْثَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 الْوُجُوهِ لَا كُلِّهَا، وَالْمُنَاظَرَةَ تَكْفِي فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ وَلَوْ وَجْهًا وَاحِدًا، يُقَالُ: هَذَا نَظِيرُ هَذَا فِي كَذَا، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي سَائِرِ جِهَاتِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الَّذِي قُلْتُهُ مِنَ الْمَنْقُولِ مَا نَقَلَهُ الشيخ سعد الدين فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ عَنِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِالِاشْتِرَاكِ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ حَتَّى لَوِ اخْتَلَفَا فِي وَصْفٍ وَاحِدٍ انْتَفَتِ الْمُمَاثَلَةُ، وَأَمَّا اللُّغَوِيُّونَ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَثِيلَ وَالشَّبِيهَ وَالنَّظِيرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. مَسْأَلَةٌ: قَوْلُ الدَّاعِي: اللَّهُمَّ أَرِنَا وَجْهَ نَبِيِّنَا وَأَوْرِدْنَا حَوْضَهُ، هَلْ صَوَابُهُ " وَأَوْرِدْنَا " أَوْ " أَرِدْنَا "، وَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ الْمَادَّةِ وَالنَّقْلِ وَالْمَعْنَى؟ . الْجَوَابُ: الصَّوَابُ: " أَوْرِدْنَا " مِنَ الْوُرُودِ، وَالْمَاضِي " أَوْرَدَ "، وَمُضَارِعُهُ " يُورِدُ "، وَأَمَّا " أَرِدْنَا " فَهُوَ مِنَ الْإِرَادَةِ، وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ» كَيْفَ عُطِفَ، وَهُوَ إِنْشَاءٌ عَلَى قَوْلِ ورقة: إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، وَهُوَ خَبَرٌ، وَعَطْفُ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ لَا يَجُوزُ، وَأَيْضًا فَهُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَالْمُتَكَلِّمُ مُخْتَلِفٌ؟ الْجَوَابُ: الْقَوْلُ بِأَنَّ عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ لَا يَجُوزُ هُوَ رَأْيُ أَهْلِ الْبَيَانِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ جَوَازُهُ، وَأَهْلُ الْبَيَانِ يُقَدِّرُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ جُمْلَةً بَيْنِ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ، وَهِيَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا، فَالتَّرْكِيبُ سَائِغٌ عَلَى رَأْيِ أَهْلِ الْفَنَّيْنِ، أَمَّا الْمُجَوِّزُونَ لِعَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ فَوَاضِحٌ. وَأَمَّا الْمَانِعُونَ فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ أَقُولُ: وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ التَّمَنِّي فِي قَوْلِهِ: لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، بَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ أَوَّلَ الْجُمْلَةِ لَا ذَيْلَهَا الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِهَا، وَالتَّمَنِّي إِنْشَاءٌ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَأَمَّا الْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةٍ فِي كَلَامِ الْغَيْرِ فَسَائِغٌ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ الْفَصِيحِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] . مَسْأَلَةٌ: قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمُسْتَوْدِعٌ عِنْدِي حَدِيثًا يَخَافُ مِنْ ... إِذَاعَتِهِ فِي النَّاسِ أَنْ يَنْفَدَ الْعُمْرُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ " إِلَى " ; لِأَنَّ الْمَعْنَى يَنْحَلُّ إِلَى أَنَّ الْمُودِعَ يَخَافُ إِذَاعَةَ سِرِّهِ فِي النَّاسِ مَا دَامَ حَيًّا إِلَى حِينِ نَفَادِ عُمْرِهِ، أَوْ يَمْتَنِعُ تَقْدِيرُ " إِلَى "؟ وَقَوْلُ الْآخَرِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وَمُودِعٌ سِرَّهُ عِنْدِي وَيَحْذَرُ أَنْ ... أُبْدِيهِ مِنِّي إِلَى أَنْ يَنْفَدَ الْعُمْرُ هَلْ دُخُولُ " إِلَى " فِي هَذَا الْبَيْتِ مُمْتَنِعٌ؟ وَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَيْتُ شَاهِدًا عَلَى تَقْدِيرِ " إِلَى " فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ؟ الْجَوَابُ: الْبَيْتُ الْأَوَّلُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ " إِلَى " عَلَى بُعْدٍ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ لَا تُقَدَّرَ فِيهِ ; لِأَنَّ " أَنْ يَنْفَدَ " فِي مَحَلِّ مَفْعُولِ " يَخَافُ "، فَمَتَى قُدِّرَ فِيهِ " إِلَى " لَزِمَ كَوْنُهُ " يَخَافُ " بِلَا مَفْعُولٍ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى رَكِيكًا ; وَلِأَنَّ تَقْدِيرَ إِلَى الَّتِي هِيَ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ " مِنْ " الَّتِي هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْبَيْتُ خَالٍ مِنْهَا، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ رَكِيكًا، فَلَمَّا اجْتَمَعَ فِي تَقْدِيرِهَا رَكَاكَةُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْبَيْتُ الثَّانِي فَمَفْعُولُ " يَحْذَرُ " مَوْجُودٌ، وَهُوَ أَنَّ وَصِلَتُهَا، وَابْتِدَاءُ الْغَايَةِ مَوْجُودٌ، وَهُوَ " مَتَى "، فَجَازَ أَنْ يُقَابَلَ بِ " إِلَى "، وَكُلُّ بَيْتٍ لَهُ مَعْنًى يَخُصُّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَذَكَّرْتُ قَاعِدَةً فِي الْعَرَبِيَّةِ تَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْتَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ " إِلَى " فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ; وَذَلِكَ أَنَّ النُّحَاةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ إِنَّ وَأَنَّ الْمَصْدَرِيَّتَيْنِ لَا يُحْذَفُ مَعَهُمَا مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ السَّابِقُ ; لِكَوْنِهِ يُعَدَّى بِذَلِكَ الْحَرْفِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: عَجِبْتُ أَنْ تَقُومَ، فَيُقَدَّرُ " مِنْ " لِأَنَّ عَجِبْتُ يَتَعَدَّى بِمِنْ. وَفَرِحْتُ أَنْ تَقُومَ، فَتُقَدَّرُ الْبَاءُ ; لِأَنَّ " فَرِحَ " يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ. وَرَغِبْتُ أَنْ تَجِيءَ، فَيُقَدَّرُ " فِي " ; لِأَنَّ " رَغِبْتُ " يَتَعَدَّى بِفِي. وَهَذَا الْبَيْتُ فِيهِ مِنَ الْأَفْعَالِ " يَخَافُ " وَهُوَ إِنَّمَا يَتَعَدَّى بِمِنْ لَا بِإِلَى، " وَمِنِ " الْمُعَدِّيَةُ لَهُ مَوْجُودَةٌ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ " إِلَى " فِيمَا بَعْدَهُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ نَفِيسَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تُحْفَظَ. مَسْأَلَةٌ: يَا عَالِمًا فَاقَ أَهْلَ الْعَصْرِ وَالْأَثَرِ ... وَزَانَ أَهْلَ النُّهَى فِي الْخِبْرِ وَالْخَبَرِ هَلْ لَامُ يَطْلُعُ مَضْمُومٌ وَيَضْبِطُهَا ... بِذَاكَ ذَاكِرُهَا فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ أَوْ يَنْصِبُوهَا وَضَمُّ اللَّامِ ذَا خَطَأٌ ... كَمَا تَفَوَّهَ شَخْصٌ مِنْ أُولِي الْفِكَرِ وَمَا تَحَقَّقَ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ مَضَوْا ... وَصَنَّفُوا كُتُبًا فِي الصَّرْفِ لِلْبَشَرِ لَا زَالَ مَجْدُكَ مَحْرُوسًا بِأَرْبَعَةٍ ... الْعِزِّ وَالنَّصْرِ وَالْإِقْبَالِ وَالظَّفَرِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مُزْجِي السُّحْبَ بِالْمَطَرِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِ بِالضَّمِّ يَطْلُعُ مَنْقُولٌ وَشَاهِدُهُ ... تَطْلُعْ عَلَى قَوْمٍ الْمَقْرُوءُ فِي الزُّبُرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 مَسْأَلَةٌ: يَا عَالِمًا زَادَهُ رَبُّ الْعُلَا شَرَفًا ... عَلَى رِجَالٍ سَمَوْا بِالْفَضْلِ وَالْأَدَبِ هَلْ رَسْمُ " أَرْجُو " وَأَشْبَاهٌ لَهَا كَتَبُوا ... بِالْوَاوِ مَعْ أَلِفٍ أَمْضَوْهُ فِي الْحِقَبِ أَوْ وَاوُهَا آخِرًا فَاكْشِفْ لَنَا كُرُبًا ... لَا زِلْتَ تُنْجِدُنَا فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا دَائِمًا أَبَدًا ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى خَيْرِ الْهُدَى الْعَرَبِيِّ مَا كَانَ فِعْلًا لِفَرْدٍ مَا بِهِ أَلِفٌ ... وَفِعْلُ جَمْعٍ بِهِ زِدْ هَذِهِ تُصِبِ مَسْأَلَةٌ: خَطِيبٌ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: وَاللَّهِ لَتَشْرَبُنَّ كَأْسًا أَمَالَتِ الرُّءُوسَ، وَدُقَّتْ عُنُقًا. قَالَهَا بِضَمِّ الدَّالِ فَاعْتَرَضَهُ مُعْتَرِضٌ وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِ الدَّالِ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، وَ " عُنُقًا " مَفْعُولٌ. الْجَوَابُ: الْخَطِيبُ مُصِيبٌ وَالْمُعْتَرِضُ مُخْطِئٌ، وَ " دُقَّتْ " بِضَمِّ الدَّالِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَ " عُنُقًا " تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَكَانَ الْأَصْلُ: أَمَالَتِ الرُّءُوسَ وَدَقَّتْ أَعْنَاقَهَا. فَلَمَّا حُوِّلَ أُسْنِدَ دُقَّتْ إِلَى ضَمِيرِ الرُّءُوسِ، وَانْتَصَبَ مَا بَعْدَهُ تَمْيِيزًا، فَأُفْرِدَ كَمَا هُوَ مِنْ قَوَاعِدِ التَّمْيِيزِ، وَيُوهِي كَوْنَهُ بِالْفَتْحِ، وَنَصْبَ " عُنُقًا " مَفْعُولًا الَّذِي جَنَحَ إِلَيْهِ الْمُعْتَرِضُ كَوْنُ الْعُنُقِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَالْكَأْسُ لَمْ تَدُقَّ عُنُقًا وَاحِدَةً، بَلْ دَقَّتْ أَعْنَاقًا كَثِيرَةً كَمَا أَمَالَتْ رُءُوسًا كَثِيرَةً، فَذِكْرُ الْعُنُقِ بِالْإِفْرَادِ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ فِي مُقَابَلَةِ الرُّءُوسِ الَّتِي هِيَ جَمْعٌ رَكِيكٌ. مَسْأَلَةٌ: حَدِيثُ " «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ» " لِمَ حُذِفَتِ النُّونُ مِنْ " تَكُونُوا " دُونَ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ؟ الْجَوَابُ: هَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ هَكَذَا بِلَا نُونٍ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ، قَدْ خُرِّجَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحُدُهَا: أَنَّهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَحْذِفُ النُّونَ دُونَ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَبِيتُ أُسَرِّي وَتَبِيتِي تُدَلِّكِي ... [وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الزَّكِيِّ] وَخُرِّجَ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا.» الثَّانِي: وَهُوَ رَأَيُ الْكُوفِيِّينَ، والمبرد أَنَّهُ مَنْصُوبٌ، أَوْرَدَهُ شَاهِدًا عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ " كَمَا " تَنْصِبُ، وَعَدُّوهَا مِنْ نَوَاصِبِ الْمُضَارِعِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرَاتِ الرُّوَاةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 مَسْأَلَةٌ: قَوْلُ الْمُوَثِّقِينَ زَوْجَا بَابٍ مَا مَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ؟ الْجَوَابُ: مَدْلُولُهُ كَمَدْلُولِ مِصْرَاعَيِ الْبَابِ، وَهُمَا الْفَرْدَتَانِ الْمُرَكَّبَتَانِ عَلَيْهِ، قَالَ فِي " الصِّحَاحِ ": الزَّوْجُ خِلَافُ الْفَرْدِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى زَوْجًا، يُقَالُ: هُمَا زَوْجَانِ لِلِاثْنَيْنِ، وَهُمَا زَوْجٌ، كَمَا يُقَالُ هُمَا سِيَّانِ وَهُمَا سَوَاءٌ، وَتَقُولُ: اشْتَرَيْتُهُ زَوْجَيْ حَمَامٍ -وَأَنْتَ تَعْنِي ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَعِنْدِي زَوْجَا نَعْلٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40] . مَسْأَلَةٌ: فِي إِعْرَابِ تَرْكِيبٍ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ نَصُّهُ: يَقْضِي بِالشُّفْعَةِ دَافِعًا عُهْدَتَهَا الدَّفْعُ إِلَى ذِي الْيَدِ. هَلْ " دَافِعًا " حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهُوَ " الدَّفْعُ "، أَوْ مِنَ النَّائِبِ عَنْهُ وَهُوَ " بِالشُّفْعَةِ "؟ الْجَوَابُ: الْوَجْهُ إِعْرَابُهُ حَالًا مِنَ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ بِالشُّفْعَةِ لَا مِنَ الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ دَافِعٌ، وَالَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ حَالٌ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَتَفْسِيرُ الْمَعْنَى يُتَسَمَّحُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مَا تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ الْإِعْرَابِيَّةُ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ قَطْعًا هُوَ كَوْنُهُ حَالًا مِنْ " بِالشُّفْعَةِ "، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى إِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِلدَّفْعِ، فَهُوَ حَالٌ سَبَبِيَّةٌ جَارِيَةٌ عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ لَهُ، كَالصِّفَةِ السَّبَبِيَّةِ وَالْخَبَرِ السَّبَبِيِّ، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: جِيءَ بِهِنْدٍ ضَارِبًا أَبُوهَا عَمْرًا، فَ " ضَارِبًا " حَالٌ مِنْ " بِهِنْدٍ " لَا مِنْ أَبُوهَا الْفَاعِلِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى لَهُ، وَنَظِيرُهُ فِي الصِّفَةِ: مَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ ضَارِبٌ أَبُوهَا عَمْرًا، وَفِي الْخَبَرِ هِنْدٌ ضَارِبٌ أَبُوهَا عَمْرًا، فَضَارِبٌ صِفَةٌ لِامْرَأَةٍ لَا لِأَبِيهَا، وَخَبَرٌ عَنْ هِنْدٍ لَا عَنْ أَبِيهَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى إِنَّمَا هُوَ لِلْأَبِ، وَتَفْكِيكُ الْعِبَارَةِ يَقْضِي بِالشُّفْعَةِ حَالَ كَوْنِهَا دَافِعًا عُهْدَتَهَا الدَّفْعُ إِلَى آخِرِهِ، وَلَوْ أُعْرِبَ حَالًا مِنَ الدَّفْعِ لَكَانَ حَقُّهُ التَّأْخِيرَ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ التَّرْكِيبُ: يَقْضِي بِالشُّفْعَةِ الدَّفْعُ إِلَى ذِي الْيَدِ دَافِعًا عُهْدَتَهَا. وَهَذَا تَرْكِيبٌ مُفَلَّتٌ غَيْرُ مُلْتَئِمٍ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ " دَافِعًا " حَالٌ مِنَ " الدَّفْعِ "، وَهُوَ فَاعِلٌ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ مَحْذُورَانِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَالًا مِنْهُ حَقُّهُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ عَامِلًا فِي الدَّفْعِ الْفَاعِلِيَّةِ حَقُّهُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ، وَهَذَانَ أَمْرَانِ مُتَنَاقِضَانِ. الثَّانِي: أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ هُنَا وَهُوَ دَافِعٌ إِنَّمَا سَوَّغَ عَمَلُهُ الْفَاعِلِيَّةَ وَالْمَفْعُولِيَّةَ كَوْنُهُ حَالًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْمَلُ فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ مِنْهَا كَوْنُهُ حَالًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَالًا قَبْلَ الْعَمَلِ حَتَّى يَصِحَّ عَمَلُهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ الْفَاعِلِيَّةَ ثُمَّ يَصِيرُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ ; لِأَنَّهُ عَمِلَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ عَقِبَ الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ النَّجْمِ: اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَزْكِيَةِ جُمْلَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِصْمَتِهَا مِنَ الْآفَاتِ فِي هَذَا الْمَسْرَى، فَزَكَّى فُؤَادَهُ وَلِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ. وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَزَكَّى قَلْبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} [النجم: 11] الْآيَةَ - بِالْفَاءِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْوَاوِ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ الْإِتْيَانُ بِالْفَاءِ أَوِ الْوَاوِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ فَمَا وَجْهُهُ، أَوْ بِالثَّانِي فَمَا وَجْهُهُ؟ الْجَوَابُ: يَتَعَيَّنُ فِي مِثْلِ التَّعْبِيرِ بِالْفَاءِ وَهِيَ تَفْسِيرِيَّةٌ، وَلَا يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِالْوَاوِ، وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثِ، وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْبُلَغَاءِ، لَمْ يَمْتَرْ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] تَفْسِيرٌ لِأَهْلَكْنَا وَالْفَاءُ تَفْسِيرِيَّةٌ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ شَكَوْا سَعْدًا فَشَكَوْا أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ، قَالَ شُرَّاحُهُ: الْفَاءُ هُنَا تَفْسِيرِيَّةٌ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] إِنَّ الْفَاءَ فِي " فَاقْتُلُوا " تَفْسِيرِيَّةٌ ; لِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ كَانَتْ نَفْسَ الْقَتْلِ، وَكَذَا قَوْلُ صَاحِبِ " الشِّفَاءِ ": فَزَكَّى قَلْبَهُ بِقَوْلِهِ. . . إِلَى آخِرِهِ -تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: فَزَكَّى فُؤَادَهُ، وَقَوْلُهُ: فَزَكَّى فُؤَادَهُ وَلِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ - تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى إِعْلَامِ اللَّهِ بِتَزْكِيَةِ جُمْلَتِهِ. وَالتَّعْبِيرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِالْوَاوِ مُخِلٌّ بِالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: فِي تَعْرِيفِ اللَّفْظِ بِالصَّوْتِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى بَعْضِ الْحُرُوفِ، هَلْ هُوَ غَيْرُ جَامِعٍ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ فَلِمَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُوَضِّحُ وَغَيْرُهُ مِنَ النُّحَاةِ مَعَ أَنَّهُ زَادَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَقَالَ: هُوَ الصَّوْتُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى بَعْضِ الْحُرُوفِ أَوْ مَا هُوَ فِي قُوَّةِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ هُوَ جَامِعٌ ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ الْحَرْفُ الْوَاحِدُ كَوَاوِ الْعَطْفِ وَفَائِهِ وَبَاءِ الْجَرِّ وَلَامِهِ، إِذْ لَا يُقَالُ فِي الْجَرِّ: إِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدِ اعْتَرَضَ الْمُحَقِّقُونَ بِذَلِكَ عَلَى ابْنِ الْمُصَنِّفِ فِي حَيَاتِهِ وَسِلْمِهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ فَالْأَحْسَنُ تَعْرِيفُ اللَّفْظِ بِالصَّوْتِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى مَقْطَعٍ، فَإِنَّهُ تَعْرِيفٌ سَالِمٌ مِنْ كُلِّ إِيرَادٍ، وَلِهَذَا عَبَّرْتُ بِهِ فِي شَرْحِي. مَسْأَلَةٌ: يَا حَبَّذَا أَنْتَ الْوَسِيلَةَ وَالْقَصْدَا- هَلْ هُوَ تَرْكِيبٌ صَحِيحٌ أَوْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَمَا وَجْهُ نَصْبِ الْوَسِيلَةِ وَالْقَصْدِ، وَهَلْ يَجُوزُ رَفْعُهُمَا؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الْجَوَابُ: النَّصْبُ فِي مِثْلِ هَذَا وَاجِبٌ، لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَقَعَ نَكِرَةً، وَاخْتُلِفَ هَلْ هُوَ حَالٌ أَوْ تَمْيِيزٌ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَا حَبَّذَا قَوْمًا سُلَيْمٌ فَإِنَّهُ وَقَوْلِ الْآخَرِ: حَبَّذَا الصَّبْرَ شِيمَةٌ لِامْرِئٍ رَامَ ... مُبَارَاةً مُولَعٍ بِالْمَعَالِي فَتَعْرِيفُهُ إِمَّا عَلَى حَدِّ تَعْرِيفِ الْحَالِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزَّ مِنْهَا الْأَذَلُّ) أَوِ التَّمْيِيزِ فِي قَوْلِهِ: وَطِبْتَ النَّفْسَ يَا قَيْسَ عَنْ عَمْرٍو. لَكِنْ يُحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ أَنَّ النُّحَاةَ يُجِيزُونَ وُقُوعَ الْمَعْرُوفِ بَعْدَ حَبَّذَا قَبْلَ مَخْصُوصِهَا أَوْ بَعْدَهُ، وَهُوَ شَيْءٌ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ. مَسْأَلَةٌ: فِي قَوْلِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ: خُذُوا قَوْدِيَ مِنْ أَسِيرِ الْكِلَلِ ... فَوَاعَجَبًا مَنْ أَسِيرٍ قَتَلَ هَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْجُفُونُ؟ الْجَوَابُ: الْكِلَلُ هُنَا جَمْعُ كِلَّةٍ، وَهِيَ سِتْرٌ مُرَبَّعٌ، وَقَالَ الهروي: هُوَ سِتْرٌ رَقِيقٌ يُخَاطُ كَالْبَيْتِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْهَوْدَجِ وَالصَّوَامِعِ وَالْقِبَابِ، وَلَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الْجُفُونِ هُنَا ; لِأَنَّ الشَّاعِرَ أَرَادَ بِالْأَسِيرِ هُنَا الْمَرْأَةَ الْمُخَدَّرَةَ الْمَحْجُوبَةَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ أَسِيرَةً لِجُفُونِهَا، وَإِنَّمَا أَسِيرُ جُفُونِهَا هُوَ الشَّاعِرُ نَفْسُهُ: مَسْأَلَةٌ: يَا مَنْ غَدَا بِمَرَاحِ الصَّرْفِ مَشْغُولًا ... وَحَازَ مَا فِيهِ مَنْقُولًا وَمَعْقُولًا مَا الرَّاحُ سَابِقُ رَحْرَاحٍ بِخُطْبَتِهِ ... أَفِدْهُ مِنْ لُغَةٍ بَقِيتَ مَنْقُولًا مُوَافِقًا قَالَ الشُّرُوحَ فَكَمْ ... مِنْ فَاضِلٍ صَارَ بِالْإِفْضَالِ مَشْمُولًا وَقَوْلُهُ قِيلَ مَرْدُوفًا بِآخِرِهِ ... بِأَجْوَفَ فِي بِنَاءِ الْفِعْلِ مَجْهُولًا فَإِنَّ مَعْلُومَهُ قَدْ صَرَّفُوهُ إِلَى ... حَدٍّ وَيَقْصُرُ ذَا عَنْ حَدِّهِ طُولًا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يَا مَنْ لَا نَظِيرَ لَهُ ... وَمَنْ يُرَى عَنْ خَفَايَا الْعِلْمِ مَسْئُولًا لَا زِلْتَ فِي نِعْمَةٍ تُبْدِي الْعُلُومَ لِمَنْ ... بِالْحَقِّ يَعْلَمُ مَا تُبْدِيهِ مَنْقُولًا الْجَوَابُ: لِلَّهِ حَمْدًا أَتَى بِالذِّكْرِ مَشْمُولًا ... مِنْ مُخْلِصٍ لَا يُرَى بِالْغِشِّ مَعْلُولًا ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْهَادِي وَعِتْرَتِهِ ... وَصَحْبِهِ الْغُرِّ وَالتَّسْلِيمُ مَنْحُولًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 الرَّاحُ لَفْظٌ أَتَى فِي النَّقْلِ مُشْتَرَكًا ... لَهُ مَعَانٍ حَكَاهَا ذُو يَدٍ طُولَى مِنْهَا الْأَرَاضِي ذَوَاتُ الِاسْتِوَاءِ بِهَا ... نَبْتٌ رَأَيْنَاهَا فِي الْقَامُوسِ مَنْقُولًا وَقِيلَ صَرِّفْهُ كَالْمَعْلُومِ لَا حَذَرٌ ... كَالْكَلْمَتَانِ أَيَا أَهْلَ النُّهَى قِيلًا لَا زَالَ فَضْلُكَ مَنْشُورًا بِلَا كَدَرٍ ... مُؤَيَّدًا بِرِدَاءِ الْعِزِّ مَشْمُولًا مَسْأَلَةٌ: مَا قَوْلُكُمْ فِي جَوَابِ قَوْلِ الْقَائِلِ: يَا بَحْرَ عِلْمٍ طَافِحٍ رَأَيْنَا ... مَقْرُونَةً بِالْغُسْلِ فِي الْمِنْهَاجِ بِالرَّفْعِ مَضْبُوطًا لِمُنْشِيهِ وَقَدْ ... جَوَّزَ فِيهِ النَّصْبَ لَلَمُحْتَاجِ وَالْقَصْدُ تَوْجِيهٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ... لِيَرْتَوِي مِنْ بَحْرِكَ الْعَجَّاجِ الْجَوَابُ: لِلَّهِ حَمْدٌ وَالصَّلَاةُ لِلَّذِي ... قَدْ خَصَّهُ الْوَهَّابُ بِالْمِعْرَاجِ الرَّفْعُ وَصْفُ نِيَّةٍ لِأَنَّهَا ... نَكِرَةٌ تَجْرِي عَلَى الْمِنْهَاجِ وَالنِّصْفُ وَصْفُ نِيَّةٍ مَحْذُوفَةٍ ... مَعْمُولَةُ الْمَذْكُورِ فِي الْمِنْهَاجِ مَسْأَلَةٌ: يَا أَيَا عُلَمَاءَ النَّحْوِ هَلْ مِثْلُ كَافِرٍ ... مُحَلَّى بِلَامٍ مِثْلُ جَمْعٍ مُنَكَّرِ لِتَحْكُمَ فِيمَا بَعْدَ إِلَّا لَهُ تَلَتْ ... بِجَرٍّ لِوَصْفٍ يَا أَخَا الْمُتَفَكِّرِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْمِنْهَاجِ مَا هُوَ مُوهِمٌ ... وَإِنْ جَازَ غَيْرُ النَّصْبِ فَامْنُنْ وَذَكِّرِ فَأَنْتَ لَهَا كَهْفٌ وَأَنْتَ مَلَاذُنَا ... فَحَمْدًا وَشُكْرًا لِلْمَلِيكِ الْمُيَسِّرِ وَنُولِي صَلَاةً تُسْتَدَامُ عَلَى الرِّضَا ... وَآلٍ وَصَحْبٍ لِلنَّبِيِّ الْمُبَشِّرِ الْجَوَابُ: أَلَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْمُقَدِّرِ ... وَأُثْنِي عَلَى الْهَادِي النَّبِيِّ الْمُبَشِّرِ مُحَلَّى بِلَامِ الْجِنْسِ تَجْرِي كَجَمْعِهِمْ ... وَتُتْلَى بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنَكُّرِ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْيٍ فَأَبْدِلْهُ مُتْبِعًا ... وَإِنْ شِئْتَ فَانْصِبْهُ بِغَيْرِ الْمُشَهَّرِ وَخَرِّجْ عَلَى هَذَا الَّذِي فِي عِبَارَةِ النَّوَا ... وِيِّ فِي الْمُرْتَدِّ وَالْجَرِّ وَاذَّكِرِ وَمَا صَحَّ فِي إِلَّا هُنَا الْوَصْفُ ظَاهِرًا ... فَإِنَّ شُرُوطَ الْوَصْفِ مِنْهَا هُنَا عُرِّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 [فَجْرُ الثَّمْدِ فِي إِعْرَابِ أَكْمَلِ الْحَمْدِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ محيي الدين الكافيجي فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَكْمَلَ الْحَمْدِ. هَلْ أَكْمَلَ مُتَعَيِّنُ النَّصْبِ أَوْ يَجُوزُ الْجَرُّ؟ فَإِنَّ ثَمَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ فَوَافَقَهُ الشَّيْخُ عَلَى جَوَازِهِ، بَلْ وَزَادَ تَرْجِيحَهُ، وَأَلَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُؤَلَّفًا قَالَ فِيهِ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّهُ وَصْفٌ سَبَبِيٌّ لِلَّهِ مُحَوَّلٌ، أَصْلُهُ " أَكْمَلَ حَمْدِهِ "، فَحُوِّلَ بِالْإِضَافَةِ وَإِنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ قَائِمِ الْأَبِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ قَبْلَ التَّحْوِيلِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ أَبُوهُ، فَحُوِّلَ إِلَى مَا تَرَى، فَاسْتَتَرَ الضَّمِيرُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ، وَأُضِيفَ إِلَى الْأَبِ، وَقَوْلُكَ: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ حَسَنِ الْوَجْهِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٌ وَجْهُهُ، وَعَلَّلَ تَرْجِيحَهُ بِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، وَالنَّصْبُ يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ. وَأَقُولُ: الْمُتَعَيِّنُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ النَّصْبُ، وَلَا يَجُوزُ الْجَرُّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَائِبٌ مَنَابَ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ لَهُ، تَقْدِيرُهُ: حَمْدًا أَكْمَلَ الْحَمْدِ. قَالَ النُّحَاةُ فِي بَابِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَمِنْهُمُ ابن مالك فِي " شَرْحِ الْكَافِيَةِ " وابن هشام فِي التَّوْضِيحِ: يَقُومُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ وَصْفُهُ مُضَافًا إِلَيْهِ، كَسِرْتُ أَحْسَنَ السَّيْرِ، وَمِثْلُ غَيْرِهِمَا بِقَوْلِكَ: ضَرَبْتُهُ أَشَدَّ الضَّرْبِ، وَمِثْلُهُ فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ " بِقَوْلِ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ: نَظَرْتُ وَدُونِي مِنْ عِمَايَةَ مَنْكِبٌ ... وَبَطْنُ رِدَاءٍ أَيُّ نَظْرَةِ نَاظِرِ وَبِقَوْلِ الْآخَرِ: وَضَائِعٌ أَيْ جَرَى مَا أَرَدْتُ بِهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] فَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ كُلُّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَصْدَرِ وَالْمِثَالُ مِثْلُهَا. وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ دَفْعُ مَحْذُورَيْنِ وَارِدَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْإِضْمَارُ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ الشَّيْخُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ لَا إِضْمَارَ بَلْ يَكُونُ الْمَصْدَرُ مَحْذُوفًا، وَهَذَا قَائِمٌ مَقَامَهُ نِيَابَةً عَنْهُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَصْدَرَ الْمُقَدَّرَ نَكِرَةٌ، فَكَيْفَ يُوصَفُ بِالْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ وَلَا إِضْمَارَ، وَإِنَّمَا حُذِفَ أَصْلًا، وَأُقِيمَ مَقَامَهُ وَصْفُهُ مُضَافًا إِلَيْهِ لِلْبَيَانِ، وَكَانَ أَصْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كُمِّلَ - بِلَا إِضَافَةٍ هَذَا تَوْجِيهُ النَّصْبِ، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْجَرِّ فَيَكَادُ يَكُونُ بَدِيهِيًّا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَإِنَّ أَكْمَلَ صِفَةٍ لِلْحَمْدِ قَطْعًا لَا لِلَّهِ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ أَوْصَافَهُ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 يَرِدْ هَذَا الْوَصْفُ فِيهَا. وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إِطْلَاقِ " أَفْعَلِ " التَّفْضِيلِ فِي حَقِّ اللَّهِ إِلَّا مَا وَرَدَ مِثْلُ أَكْبَرُ وَأَحْسَنُ الْخَالِقِينَ لِمَا يُشْعِرُ بِالْمُشَارَكَةِ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَصْفُ الْحَمْدِ الْمُثْبَتِ لِلَّهِ بِالْأَكْمَلِيَّةِ وَالْبُلُوغِ نِهَايَةَ التَّمَامِ لَا وَصْفُ اللَّهِ بِذَلِكَ. وَأَمَّا رَابِعًا فَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ عَبَّرُوا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْحَمْدِ لَا لِلَّهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النووي فِي " الْمِنْهَاجِ ": أَحْمَدُهُ أَبْلَغَ حَمْدٍ وَأَكْمَلَهُ وَأَزْكَاهُ وَأَشْمَلَهُ -فَأَتَى بِالْجَمِيعِ صِفَاتٍ لِلْحَمْدِ وَمَصَادِرَ لَهُ. وَقَوْلُ الشَّيْخِ: أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ قَائِمِ الْأَبِ -مُخَالِفٌ لِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ; الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ فَاسِدٌ لَا يَقُولُ أَحَدٌ بِصِحَّتِهِ ; لِأَنَّ " الرَّجُلَ " مُعَرَّفَةٌ، " وَقَائِمِ الْأَبِ " نَكِرَةٌ، فَإِنَّ إِضَافَتَهُ لَفْظِيَّةٌ لَا تُفِيدُ التَّعْرِيفَ، فَلَا يَصِحُّ وَصْفُ الرَّجُلِ بِهِ، وَإِنَّمَا تُوصَفُ بِهِ النَّكِرَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ مَثَلًا بِرَجُلٍ قَائِمِ الْأَبِ، وَحِينَئِذٍ تَسْتَحِيلُ الْمَسْأَلَةُ، وَكَذَا مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ حَسَنِ الْوَجْهِ. الثَّانِي: مَا قَالَهُ مِنَ التَّحْوِيلِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَرْفُوعِ لَا يَجُوزُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ إِجْمَاعًا بَلْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَأُلْحِقَ بِهَا فِي ذَلِكَ اسْمُ الْمَفْعُولِ، نَصَّ عَلَيْهِ ابن مالك فِي كُتُبِهِ، وَقَالَ فِي " الْأَلْفِيَّةِ ": وَقَدْ يُضَافُ ذَا - أَيِ اسْمُ الْمَفْعُولِ- إِلَى اسْمٍ مُرْتَفِعٍ مَعْنًى كَمَحْمُودِ الْمَقَاصِدِ الْوَرِعِ. وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْكَافِيَةِ ": تَفَرَّدَ اسْمُ الْمَفْعُولِ بِجَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى مَا هُوَ مَرْفُوعٌ مَعْنًى، نَحْوُ: زَيْدٌ يَكْسُو الْعَبْدَ وَمَحْمُودُ الْمَقَاصِدِ. وَقَالَ أبو حيان فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ ": انْفَرَدَ اسْمُ الْمَفْعُولِ بِجَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى مَرْفُوعٍ بِخِلَافِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى فَاعِلِهِ، لَا تَقُولُ فِي: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ضَارِبٍ أَبُوهُ زَيْدًا بِرَجُلٍ ضَارِبٍ أَبِيهِ زَيْدًا. قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا أَيْضًا فِي اسْمِ الْمَفْعُولِ إِضَافَةٌ مِنْ مَنْصُوبٍ لَا مِنْ مَرْفُوعٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَصْلُهُ أَكْمَلَ حَمْدَهُ- يُؤَدِّي إِلَى اسْتِعْمَالِ " أَكْمَلَ " مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، وَمِنْ وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّ الْأَصْلَ: أَكْمَلَ حَمْدُهُ، وَأَنَّ الْحَمْدَ فَاعِلٌ، وَأَنَّهُ حُوِّلَ عَنِ الْفَاعِلِيَّةِ ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ، فَاسْتَتَرَ الضَّمِيرُ -غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ عَنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يَرْفَعُ الظَّاهِرَ أَصْلًا إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْكُحْلِ، وَهَذَا الْمِثَالُ لَيْسَ مِنْ ضَابِطِهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ بِلَا نِزَاعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 [أَلْوِيَةُ النَّصْرِ فِي خِصِّيصَى بِالْقَصْرِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَسْأَلَةٌ: قَرَأَ قَارِئٌ عَلَيَّ فِي خَتْمِ " كِتَابِ الشِّفَا " بِالْخَانْقَاهِ الشَّيْخُونِيَّةِ قَوْلَهُ: وَيَخُصُّنَا بِخِصِّيصَيْ زُمْرَةِ نَبِيِّنَا وَجَمَاعَتِهِ. فَقَرَأَهَا " بِخِصِّيصَيْ " بِالْيَاءِ السَّاكِنَةِ آخِرَهَا عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ مُثَنَّاةٌ مُضَافَةٌ لِمَا بَعْدَهَا، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: قُلْ: بِخِصِّيصَى -أَعْنِي بِأَلِفِ الْقَصْرِ- وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ محيي الدين الكافيجي، فَقَالَ الشَّيْخُ: نَعَمْ بِخِصِّيصَى -يَعْنِي بِالْأَلِفِ- فَقَالَ الْقَارِئُ الْمَذْكُورُ: فِيهَا الْوَجْهَانِ، فَقُلْتُ: لَيْسَ فِيهَا إِلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ، فَذَهَبَ فَكَتَبَ صُورَةَ سُؤَالٍ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ خُطُوطَ جَمَاعَةٍ بِتَصْوِيبِ مَا قَالَهُ، وَهُمُ الشَّيْخُ أمين الدين الأقصرائي، وَالشَّيْخُ زين الدين قاسم الحنفي، وَالشَّيْخُ سراج الدين العبادي، وَالْحَافِظُ فخر الدين الديمي، وَالْمُحَدِّثُ الْمُؤَرِّخُ شمس الدين السخاوي، فَجَمَعْتُ نُقُولَ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ، وَأَرْسَلْتُهَا إِلَى الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورِينَ مَا عَدَا السَّخَاوِيَّ، فَعَرَفُوا الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ وَرَجَعُوا عَمَّا كَتَبُوهُ أَوَّلًا، وَكَتَبُوا ثَانِيًا بِتَصْوِيبِ مَا قُلْتُهُ أَنَّهَا بِالْأَلِفِ الْمَقْصُورَةِ، فَذَهَبَ الْقَارِئُ إِلَى السَّخَاوِيِّ يَسْتَنْجِدُ بِهِ، فَكَتَبَ لَهُ عَلَى سُؤَالٍ آخَرَ كِتَابَةً طَوِيلَةً عَرِيضَةً مَضْمُونُهَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ كَمَا رَجَعَ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّ مُسْتَنَدَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِنْدَهُ نُسْخَةً مِنَ " الشِّفَا " صَحِيحَةً قُرِأَتْ عَلَى شُيُوخٍ عِدَّةٍ، وَفِيهَا صُورَةُ السُّكُونِ مَرْقُومَةٌ بِالْقَلَمِ عَلَى الْيَاءِ، فَقُلْتُ: كَفَى بِهَذَا الْكَلَامِ جَهْلًا، وَمَنْ هَذَا مَبْلَغُ عِلْمِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِ. أَطْبَقَتْ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ خِصِّيصَى بِأَلِفِ الْقَصْرِ، وَقَدْ تُمَدُّ شُذُوذًا فَيُقَالُ: خِصِّيصَاءُ، مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ، وَيُقَالُ: خَصَّهُ بِالشَّيْءِ خُصُوصًا وَخُصُوصِيَّةً وَخِصِّيصَى وَخِصِّيصَاءَ فِي لُغَةٍ، وَخَاصَّةً نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَالسِّيرَافِيُّ فِي شَرْحِهِ، والقالي فِي كِتَابِهِ " الْمَقْصُورُ وَالْمَمْدُودُ "، والفارابي فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ، وابن فارس فِي " الْمُجْمَلِ "، ونشوان الحميري فِي شَمْسِ الْعُلُومِ، وابن دريد فِي " الْجَمْهَرَةِ "، والجوهري فِي " الصِّحَاحِ "، وَابْنُ سِيدَهْ فِي " الْمُحْكَمِ "، وَالْخَفَّافُ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ "، وَأَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ فِي " اللُّبَابِ "، وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْمَصَادِرِ "، والعبسي فِي " الْخُلَاصَةِ "، والصغاني فِي " الْعُبَابِ "، وابن عصفور فِي " الْمُمْتِعِ "، والأزدي فِي " الدُّرَرِ "، وابن مالك فِي مَنْظُومَتِهِ وَشَرْحِهَا، وَابْنُهُ فِي " شَرْحِ الْأَلْفِيَّةِ " وَفِي " شَرْحِ لَامِيَّةِ الْأَفْعَالِ "، وأبو حيان فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ "، وابن هشام فِي " التَّوْضِيحِ "، وابن جابر فِي مَنْظُومَتِهِ، والفيروزابادي فِي " الْقَامُوسِ "، وَخَلَائِقُ، وَمِنْ نَظَائِرِهَا الْحِثِّيثَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 والخطيبى، والدليلى، والزليلى، وَالْمِكِّيثَى فِي أَلْفَاظٍ عِدَّةٍ، وَلَمْ يَرِدْ خِصِّيصٌ الْبَتَّةَ حَتَّى يُقَالَ فِي تَثْنِيَتِهِ خِصِّيصَانِ. وَقَدْ عَقَدَ ابن دريد فِي " الْجَمْهَرَةِ " بَابًا لِفِعِّيلٍ وَفِعِّيلَى، فَذَكَرَ مَا جَاءَ مِنْهُمَا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَيْسَ لِمُوَّلَّدٍ أَنْ يَبْنِي فِعِّيلَا إِلَّا مَا بَيَّنَتِ الْعَرَبُ وَتَكَلَّمَتْ بِهِ، وَلَوْ أُجِيزَ ذَلِكَ لَقُلِبَ أَكْثَرُ الْكَلَامِ، فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى مَا جَاءَ عَلَى فِعِّيلٍ مِمَّا لَا تَسْمَعُهُ إِلَّا أَنْ يَجِيءَ بِهِ شِعْرٌ فَصِيحٌ. [الزَّنْدُ الْوَرِيُّ فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ السَّكَنْدَرِيِّ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. مَسْأَلَةٌ: وَرَدَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ سُؤَالٌ صُورَتُهُ: رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» " قَالَ الشَّيْخُ محيي الدين النووي فِي شَرْحِهِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - أَيْ مِمَّنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي زَمَنِي وَبَعْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - فَكُلُّهُمْ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَوْلَى. قُلْتُ: وَقَدْ أُشْكِلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ تَنْزِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ عَلَى الْقَوَاعِدِ النَّحْوِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَنْ سَمِعَ بِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّنْ شَمِلَتْهُ بِعْثَتُهُ الْعَامَّةُ ثُمَّ مَاتَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَفِي تَنْزِيلِ لَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ قَلَقٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا الْإِشْكَالُ يَعْرِضُ كَثِيرًا فِي غَيْرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ أَيْضًا، كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا أَكْرَمْتُهُ، وَمَا أَحْسَنْتُ إِلَى لَئِيمٍ إِلَّا أَسَاءَ إِلَيَّ، وَمَا أَنْعَمْتُ عَلَى عَمْرٍو إِلَّا شَكَرَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْغَرَضُ فِي الْجَمِيعِ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ بَعْدَ " إِلَّا " مُرَتَّبًا مَضْمُونُهُ عَلَى مَضْمُونِ مَا بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ، أَيْ: مَهْمَا جَاءَنِي زَيْدٌ أَكْرَمْتُهُ، وَمَهْمَا أَحْسَنْتُ إِلَى لَئِيمٍ أَسَاءَ إِلَيَّ، وَمَهْمَا أَنْعَمْتُ عَلَى عَمْرٍو شَكَرَ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَتَطْبِيقُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا يُتَخَيَّلُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 مُفَرَّغًا بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ " إِلَّا " فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، أَيْ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِي مُكْرِمًا لَهُ، وَمَا أَحْسَنْتُ إِلَى لَئِيمٍ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ مُسِيئًا إِلَيَّ، وَمَا أَنْعَمْتُ عَلَى عَمْرٍو إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ شَاكِرًا لِلنِّعْمَةِ. وَهَذَا مُشْكِلٌ ; فَإِنَّ الْحَالَ مُقَيِّدَةٌ لِعَامِلِهَا وَمُقَارِنَةٌ لَهُ، وَلَيْسَ الْإِكْرَامُ مُقَيَّدًا بِمَجِيءِ زَيْدٍ بِحَسْبِ الْمَقْصُودِ وَلَا مُقَارِنًا لَهُ فِي الزَّمَنِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَمْثِلَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: اجْعَلِ الْحَالَ مُقَدَّرَةً كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا، أَيْ مُرِيدًا الصَّيْدَ بِهِ، فَكَذَا فِي الْأَمْثِلَةِ، أَيْ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِي مُرِيدًا لِإِكْرَامِهِ، وَمَا أَحْسَنْتُ إِلَى لَئِيمٍ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ مُرِيدًا الْإِسَاءَةَ إِلَيَّ، وَمَا أَنْعَمْتُ عَلَى عَمْرٍو إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ مُرِيدًا الشُّكْرَ، وَعَلَى هَذَا تَتَأَتَّى الْمُقَارَنَةُ وَالتَّقْيِيدُ، وَلَا إِشْكَالَ. قُلْتُ: هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى مُمْكِنُ الِاسْتِقَامَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْغَرَضِ الْمَصُوغِ لِهَذَا الْكَلَامِ ; إِذِ الْمَقْصُودُ كَمَا سَبَقَ وُقُوعُ مَضْمُونِ مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مُرَتَّبًا عَلَى مَضْمُونِ مَا بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِنْعَامِكَ عَلَى عَمْرٍو فِي حَالِ إِرَادَتِهِ لِلشُّكْرِ أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ مُرَتَّبًا عَلَى الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ ; لِجَوَازِ تَخَلُّفِ مُتَعَلِّقِ الْإِرَادَةِ الْحَادِثَةِ عَنْهَا، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي بَقِيَّةِ الْأَمْثِلَةِ، فَقَدْ ظَهَرَ امْتِنَاعٌ جَعْلِ مَا بَعْدَ إِلَّا حَالًا، لَا مِنْ قَبِيلِ الْحَالِ الْمُحَقَّقَةِ، وَلَا مِنْ قَبِيلِ الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ، وَلَا مَسَاغَ لِغَيْرِ الْحَالِ فِيهِ فِيمَا يَظْهَرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ، فَتَقَرَّرَ الْإِشْكَالُ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا تَجْعَلُ التَّفْرِيعَ بِاعْتِبَارِ ظَرْفِ الزَّمَانِ، أَيْ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ فِي حِينٍ مِنَ الْأَحْيَانِ إِلَّا فِي حِينٍ أَكْرَمْتُهُ، فَحَذَفَ الْحِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جِئْتُكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَيْ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. قُلْتُ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ الظَّرْفَ فِي مَسْأَلَتِنَا عَلَى زَعْمِكَ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَلَا يُحْذَفُ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ وَتَقُومُ الْجُمْلَةُ مَقَامَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُفْرَدًا كَمَا فِي جِئْتُكَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَمَا أَجَازَهُ أبو حيان فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ} [البقرة: 48] مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ " يَوْمًا يَوْمَ لَا تَجْزِي نَفْسٌ "، فَأَبْدَلَ يَوْمَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ مَرْدُودٌ ; قَالَ ابن هشام: لَا نَعْلَمُ هَذَا وَاقِعًا فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ إِنِ ادَّعَى عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَحَلِّهَا مِنَ الْجَرِّ فَشَاذٌّ، أَوْ أَنَّهَا أُنِيبَتْ عَنِ الْمُضَافِ فَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ مَفْعُولًا فِي مِثْلِ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا مَعْنًى ; فَيَظْهَرُ مِمَّا أَبْطَلْنَا بِهِ وَجْهَيِ الْحَالِ الْمُحَقَّقَةِ وَالْمُقَدَّرَةِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِي حَالِ إِكْرَامِكَ لَهُ أَوْ حَالِ إِرَادَتِكَ لِإِكْرَامِهِ، وَإِنَّمَا حِينَئِذٍ الْمَقْصُودُ مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَالْكَلَامُ فِي تَنْزِيلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، فَالْإِشْكَالُ بِحَالِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الِاسْتِثْنَاءَ الْوَاقِعُ فِيهِ جُمَلٌ، فَإِنْ أَعَدْتَهُ إِلَى الْجَمِيعِ وَبَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُسْتَثْنَى هُوَ مِنْ قِبَلِ " إِلَّا " مِنْ فِعْلٍ أَوْ مَعْنَاهُ بِوَاسِطَةِ " إِلَّا " كَمَا يَرَاهُ الْبَصْرِيُّونَ لَزِمَ اجْتِمَاعُ عَوَامِلَ عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنْ أَعَدْتَهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ لَزِمَ الْخُلْفُ فِي الْخَبَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ: لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَكَمْ مِنْ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ يَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَلَا يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، بِأَنْ يُسْلِمَ وَيَمُوتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ رَاجِعًا إِلَى مَا بَعْدَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ عَلَى مَا فِيهِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى لَا تُعْرَضُ فِيهَا إِلَّا الِاسْتِثْنَاءُ، فَيَلْزَمُ الْخُلْفُ أَيْضًا، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ - هَذَا آخِرُ السُّؤَالِ. الْجَوَابُ: قَالَ ابن مالك فِي " التَّسْهِيلِ " فِي تَقْرِيرِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي مِنْ أَفْرَادِهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَيَلِيهَا أَيْ إِلَّا فِي النَّفْيِ فِعْلٌ مُضَارِعٌ بِلَا شَرْطٍ وَمَاضٍ مَسْبُوقٌ بِفِعْلٍ أَوْ مَقْرُونٌ بِقَدْ. وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: مِثَالُ الْمُضَارِعِ مَا كَانَ زَيْدٌ إِلَّا يَفْعَلُ كَذَا، وَمَا خَرَجَ زَيْدٌ إِلَّا يَجُرُّ ثَوْبَهُ، وَمَا زَيْدٌ إِلَّا يَفْعَلُ كَذَا، وَمِثَالُ الْمَاضِي مَسْبُوقًا بِفِعْلٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا} [يس: 30] وَمَقْرُونًا بِقَدْ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مَا الْمَجْدُ إِلَّا قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ... تَنْدَى وَحُلْمٌ لَا يَزَالُ مُؤَثَّلًا قَالَ: وَإِنَّمَا أَغْنَى اقْتِرَانُ الْمَاضِي بِقَدْ عَنْ تَقَدُّمِ فِعْلٍ ; لِأَنَّ " قَدْ " تُقَرِّبُهُ مِنَ الْحَالِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ شَبِيهًا بِالْمُضَارِعِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُضَارِعُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ شَرْطٍ ; لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالِاسْمِ، وَإِنَّمَا سَاغَ بِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ مَقْرُونًا بِالنَّفْيِ لِجَعْلِ الْكَلَامِ بِمَعْنَى: كُلَّمَا كَانَ كَذَا. فَكَانَ فِيهِ فِعْلَانِ كَمَا كَانَ مَعَ كُلَّمَا، فَلَوْ قُلْتَ: مَا زَيْدٌ إِلَّا قَائِمٌ -لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا ذُكِرَ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَا يَكُونُ إِلَّا اسْمًا أَوْ مُؤَوَّلًا بِاسْمٍ، وَالْمَاضِي الْمُجَرَّدُ مِنْ " قَدْ " بَعِيدٌ مِنْ شِبْهِ الِاسْمِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَلَّا فَعَلْتَ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، كَقَوْلِهِمْ: شَرًّا أَهَرَّ ذَا نَابٍ، أَيْ مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا فِعْلَكَ انْتَهَى. وَقَالَ أبو البقاء فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا} [يس: 30] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 إِنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي " يَأْتِهِمْ " وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِرَسُولٍ عَلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَوْضِعِ، انْتَهَى. فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ تَخْرِيجُ الْحَدِيثِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَرْجَحُ الْحَالِيَّةُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ وُقُوعَ مَا بَعْدَ " إِلَّا " وَصْفًا لِمَا قَبْلَهَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ قَالَ ابن مالك: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِبَصْرِيٍّ وَلَا لِكُوفِيٍّ، وَإِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ، وَإِنَّ مَا أَوْهَمَ خِلَافَ ذَلِكَ فَمُؤَوَّلٌ عَلَى الْحَالِ. وَكَأَنَّ أَبَا الْبَقَاءِ تَابَعَ فِي ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيَّ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَالِيَّةَ تَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْأَمْثِلَةِ، وَالْوَصْفِيَّةَ لَا تَطَّرِدُ بَلْ تَخْتَصُّ بِمَا إِذَا كَانَ الِاسْمُ السَّابِقُ نَكِرَةً كَالْحَدِيثِ، أَمَّا نَحْوُ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا أَكْرَمْتُهُ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ الْوَصْفِيَّةُ كَمَا لَا يَخْفَى، فَعُلِمَ بِذَلِكَ تَرْجِيحُ الْحَالِيَّةِ، وَكَأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أبو البقاء، وَمَا أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ وَجَوَازِ تَخَلُّفِ مُتَعَلِّقِ الْإِرَادَةِ الْحَادِثَةِ عَنْهَا، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي التَّخْرِيجِ، وَلَوْ رُوعِيَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَصِحُّ لَنَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَكَمْ مِنْ قَاعِدَةٍ نَحْوِيَّةٍ قُدِّرَتْ وَلَمْ يُبَالِ بِمُخَالَفَتِهَا لِلْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّ مِنَ النَّحْوِ وَالْفِقْهِ مَعْقُولٌ مِنْ مَنْقُولٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جِنِّيٍّ، فَتَارَةً يُلَاحَظُ فِيهَا الْأَمْرُ الْعَقْلِيُّ، وَتَارَةً يُلَاحَظُ الْأَمْرُ النَّقْلِيُّ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنَ التَّرْتِيبِ وَمَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ، إِنَّمَا يَتَّجِهُ لَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ عَقْلِيًّا لَا يَتَخَلَّفُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ شَرْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ، وَالَّذِي فِي الْأَمْثِلَةِ أَيْضًا لَيْسَ بِعَقْلِيٍّ، بَلْ عَادِيٌّ خَاصٌّ، أَيْ بِحَسَبِ عَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ فِعْلُهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُكْتَفَى بِهِ فِي الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ. وَأَمْرٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ التَّرْتِيبِ تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَمَا ذُكِرَ فِي تَقْرِيرِ الْحَالِ تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ تَفْسِيرِ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرِ الْإِعْرَابِ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ تَوَافُقَهُمَا كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا لِسِيبَوَيْهِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الثَّانِي فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الْجُمَلَ السَّابِقَةَ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً، بَلْ جُمْلَةُ: " ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا يُؤْمِنُ " مُرْتَبِطَةٌ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهَا قَيْدٌ فِيهَا، وَ " ثُمَّ " هُنَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْفَاءِ، فَإِنَّهَا لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ لَا لِلتَّرَاخِي كَمَا فِي قَوْلِهِ: جَرَى فِي الْأَنَابِيبِ ثُمَّ اضْطَرَبَ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: لَا يَسْمَعُ بِي مِنْ يَهُودِيٍّ وَلَا نَصْرَانِيٍّ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِي إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. فَعُلِمَ أَنَّ جُمْلَةَ " يُؤْمِنُ " مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُولَى، وَفَاءُ الرَّبْطِ تُصَيِّرُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي حُكْمِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَرَّرَهُ النُّحَاةُ فِي بَابِ الْعَطْفِ فِي مَسْأَلَةِ: الَّذِي يَطِيرُ فَيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبَابُ، فَقَوْلُهُ: إِنْ أَعَدْتَهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 لَزِمَ الْخُلْفُ إِلَى آخِرِهِ، مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ إِذَا أُعِيدَ إِلَيْهَا مُقَيَّدَةً بِمَضْمُونِ مَا بَعْدَهَا لَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [رَفْعُ السِّنَةِ فِي نَصْبِ الزِّنَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ، وَلَا يُقَدَّرُ لِعَرْشِهِ زِنَةٌ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ أَفْصَحُ الْحَدِيثِ وَأَحْسَنُهُ. وَبَعْدُ سُئِلْتُ عَنْ وَجْهِ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، زِنَةَ عَرْشِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَعَدَدَ خَلْقِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» . وَالْجَوَابُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعَ مَنْصُوبَاتٍ عَلَى تَقْدِيرِ الظَّرْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَدْرَ زِنَةِ عَرْشِهِ، وَكَذَا البواقي، فَلَمَّا حُذِفَ الظَّرْفُ قَامَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فِي إِعْرَابِهِ، فَهَذَا الْإِعْرَابُ هُوَ الْمُتَّجِهُ الْمُطَّرِدُ السَّالِمُ مِنَ الِانْتِقَاضِ، وَقَدْ ذَكَرَ السَّائِلُ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى حَذْفِ الْخَافِضِ؟ وَأَقُولُ: أَمَّا النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ فَقَدْ ذَكَرَهُ المظهري فِي " شَرْحِ الْمَصَابِيحِ " قَالَ: " عَدَدَ خَلْقِهِ " مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ أَعُدُّ تَسْبِيحَهُ وَتَحْمِيدَهُ بِعَدَدِ خَلْقِهِ وَبِمِقْدَارِ مَا تَرْضَاهُ خَالِصًا، وَبِثِقَلِ عَرْشِهِ وَمِقْدَارِهِ وَبِمِقْدَارِ كَلِمَاتِهِ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الأشرقي فِي شَرْحِهِ قَالَ: " عَدَدَ خَلْقِهِ " وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ سَبَّحْتُهُ تَسْبِيحًا يُسَاوِي خَلْقَهُ عِنْدَ التَّعْدَادِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ فِي الْمِقْدَارِ يُوجِبُ رِضَا نَفْسِهِ انْتَهَى. فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ " نَفْسِهِ " مَصْدَرٌ وَأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَصْدَرًا لِلتَّسْبِيحِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، بَلْ يَكُونُ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مِنَ الزِّنَةِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَزِنُهُ زِنَةَ عَرْشِهِ، وَلَا يَخْفَى فَسَادُ هَذَا التَّقْدِيرِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إِنْشَاءُ وَزْنِ التَّسْبِيحِ، بَلِ الْمُرَادُ إِنْشَاءُ قَوْلِ التَّسْبِيحِ، وَالْمَعْنَى: أَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ قَوْلًا كَثِيرًا مِقْدَارَ زِنَةِ عَرْشِهِ فِي الْكَثْرَةِ وَالْعِظَمِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلِ الزِّنَةِ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَزِنُ التَّسْبِيحَ زِنَةَ عَرْشِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، ثُمَّ إِذَا قُدِّرَ فِي الْأُخْرَى أَعُدُّهُ عَدَدَ خَلْقِهِ- كَمَا أَفْصَحَ بِهِ المظهري - أَدَّى إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِنْشَاءُ عَدِّ التَّسْبِيحِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلِ الْمُرَادُ: أَقُولُهُ قَوْلًا عَدَدَ خَلْقِهِ، ثُمَّ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي رِضَا نَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يُقَدَّرُ: أُرْضِيهِ رِضَا نَفْسِهِ قُلْنَا: حِينَئِذٍ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ التَّسْبِيحِ، وَهِيَ فِي " أَزِنُهُ " " وَأَعُدُّهُ " عَائِدٌ عَلَى التَّسْبِيحِ، فَيَخْتَلُّ التَّنَاسُقُ فِي الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 " مِدَادَ كَلِمَاتِهِ " بِلَا مِرْيَةٍ، وَيَبْقَى عَلَى [كَلَامِ] المظهري تَعَقُّبَانِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَدَدًا لَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَمْ يَجِئْ بِالْفَكِّ ; لِأَنَّ مَصْدَرَ عَدَّ عَلَى فَعْلٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، فَيَجِبُ أَنْ يُدْغَمَ فَيُقَالُ: عَدَّ، بِالتَّشْدِيدِ، كَرَدَّ وَمَدَّ وَشَدَّ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84] وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ أَعُدُّ تَسْبِيحَهُ بِعَدَدِ خَلْقِهِ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءَ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، لَا يُقَالُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، يَضْرِبُ فِي مَوْضِعِ ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا، ثُمَّ قَالَ: وَبِمِقْدَارِ مَا يَرْضَاهُ، وَبِثِقَلِ عَرْشِهِ، وَمِقْدَارِهِ وَبِمِقْدَارِ كَلِمَاتِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيُؤَوَّلُ إِلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَوِ الظَّرْفِيَّةِ، فَإِنَّ النَّصْبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَنَزْعِ الْخَافِضِ مُتَقَارِبَانِ، فَإِنَّ الظَّرْفَ مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ الَّذِي هُوَ " فِي " غَيْرَ أَنَّهُ بَابٌ مُطَّرِدٌ، وَالنَّصْبُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ فِي غَيْرِ الظَّرْفِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، فَاتَّجَهَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ " قَدْرَ "، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الخطابي فِي " مَعَالِمِ السُّنَنِ ". [فَقَالَ] قَوْلُهُ: " وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ "، أَيْ قَدْرَ مَا يُوَازِنُهَا فِي الْعَدَدِ وَالْكَثْرَةِ. وَقَالَ ابن الأثير فِي " النِّهَايَةِ ": " وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ " أَيْ مِثْلَ عَدَدِهَا، وَقِيلَ: قَدْرَ مَا يُوَازِنُهَا فِي الْكَثْرَةِ عِيَارَ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيبُ، انْتَهَى. فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: " مِثْلَ " إِلَى الْمَصْدَرِ أَوِ الْوَصْفِ، وَبِقَوْلِهِ: " وَقِيلَ: قَدْرَ " إِلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أكمل الدين فِي " شَرْحِ الْمَشَارِقِ ": قَوْلُهُ: " عَدَدَ خَلْقِهِ " أَيْ عَدَدًا كَعَدَدِ خَلْقِهِ، " وَزِنَةَ عَرْشِهِ "، أَيْ بِمِقْدَارِ وَزْنِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ أَيْ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ إِعْرَابًا عَلَى حِدَةٍ: الْأُولَى مَصْدَرٌ، وَالثَّانِيَةُ ظَرْفٌ، وَالثَّالِثَةُ حَالٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَسَاوِيَ الْكُلِّ فِي الْإِعْرَابِ حَيْثُ أَمْكَنَ أَوْلَى، وَتَقْدِيرُ " قَدْرَ " فِي كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ، فَاتَّجَهَ نَصْبُ الْكُلِّ عَلَى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ " قَدْرَ ". فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِأَنَّ " قَدْرَ " انْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِ، قُلْتُ: ذَلِكَ لِعَدَمِ اطِّلَاعِكَ فِي أُمَّهَاتِ الْكُتُبِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْخَطِيبُ التِّبْرِيزِيُّ والمرزوقي كِلَاهُمَا فِي " شَرْحِ الْحَمَاسَةِ " فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَسَايَرْتُهُ مِقْدَارَ مِيلٍ وَلَيْتَنِي . وَفِي قَوْلِهِ: هَلِ الْوَجْدُ إِلَّا أَنَّ قَلْبِيَ لَوْ دَنَا ... مِنَ الْجَمْرِ قَيْدَ الرُّمْحِ لَاحْتَرَقَ الْجَمْرُ بِأَنَّ نَصْبَ " مِقْدَارَ " وَ " قَيْدَ " كِلَاهُمَا عَلَى الظَّرْفِ، وَقَيْدَ بِمَعْنَى قَدْرَ. قَالَ ابن شمعون فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَدَاهُ إِزَارَهُ ... فَسَمَا فَأَدْرَكَ خَمْسَةَ الْأَشْبَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 يَجُوزُ نَصْبُ خَمْسَةَ الْأَشْبَارِ نَصْبَ الظَّرْفِ بِسَمَا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: سَمَا مِقْدَارَ خَمْسَةِ الْأَشْبَارِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ فِي حَدِيثِ " «أَنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ» " -: إِنَّ " رَمْيَةً " نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ " قَدْرَ " أَيْ قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ. وَقَالَ الطيبي فِي " شَرْحِ الْمِشْكَاةِ " فِي حَدِيثِ " «فَضْلِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُسْتَاكُ لَهَا عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يُسْتَاكُ لَهَا سَبْعِينَ ضِعْفًا» ": قَوْلُهُ: " سَبْعِينَ " مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ ظَرْفٌ، أَيْ تَفْضُلُ مِقْدَارَ سَبْعِينَ. وَقَالَ أبو البقاء فِي حَدِيثِ: " «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا» ": هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَدْرَ شِبْرٍ. وَقَالَ الطيبي فِي حَدِيثِ: " «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا» ": شِبْرًا وَذِرَاعًا وَبَاعًا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ مِقْدَارَ شِبْرٍ، وَقَالَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ: " «مَنْ ظَلَمَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ» ": الْمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوفٌ، وَشِبْرًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا [مُطْلَقًا] أَيْ: ظَلَمَ شِبْرًا وَمَفْعُولًا فِيهِ، أَيْ مِقْدَارَ شِبْرٍ. وَقَالَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ: " «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ الزبير حُضْرَ فَرَسِهِ» ": نُصِبَ " حُضْرَ " عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ قَدْرَ مَا يَعْدُو عَدْوَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَنْصُوصَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ ; قَالَ ابن مالك فِي " التَّسْهِيلِ ": الصَّالِحُ لِلظَّرْفِيَّةِ الْقِيَاسِيَّةِ مَا دَلَّ عَلَى مِقْدَارٍ، وَقَالَ فِي " الْأَلْفِيَّةِ ": وَقَدْ يَنُوبُ عَنْ مَكَانِ مَصْدَرٍ ... وَذَاكَ فِي ظَرْفِ الزَّمَانِ يَكْثُرُ وَقَالَ ابن هشام فِي " التَّوْضِيحِ ": يَنُوبُ الْمَصْدَرُ عَنِ الظَّرْفِ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا لِمِقْدَارٍ، نَحْوَ: انْتَظَرْتُكَ حَلْبَ نَاقَةٍ. وَقَالَ أبو حيان فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ ": قَالَ الصفار فِي " شَرْحِ الْكِتَابِ ": اعْلَمْ أَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَى الظَّرْفِ جَازَ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْفِعْلِ، تَقُولُ أَتَيْتُكَ رَيْثَ قَامَ زَيْدٌ، أَيْ قَدْرَ بُطْءِ قِيَامِهِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ إِلَى الظَّرْفِ جَازَ فِيهَا مَا جَازَ فِي الظَّرْفِ، ثُمَّ إِنَّ نَصْبَ " زِنَةَ " بِخُصُوصِهَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ سِيبَوَيْهِ وَأَئِمَّةِ النَّحْوِ، قَالَ ابن مالك فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ ": مِنَ الْجَارِي مَجْرَى ظَرْفِ الزَّمَانِ بِاطِّرَادٍ مَصَادِرُ قَامَتْ مَقَامَ مُضَافٍ إِلَيْهَا تَقْدِيرًا، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: هُوَ قُرْبَ الدَّارِ، وَوَزْنَ الْجَبَلِ وَزِنَتَهُ، وَالْمُرَادُ بِالِاطِّرَادِ أَنْ لَا تَخْتَصَّ ظَرْفِيَّتُهُ بِعَامِلٍ مَا كَاخْتِصَاصِ ظَرْفِيَّةِ الْمُشْتَقِّ مِنَ اسْمِ الْوَاقِعِ فِيهِ انْتَهَى. وَقَالَ أبو حيان فِي " شَرْحِ التَّسْهِيلِ ": وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ مِنَ الْمُنْتَصِبِ ظَرْفًا صَدَدَكَ، وَصَفِيَّكَ، وَوَزْنَ الْجَبَلِ، وَزِنَةَ الْجَبَلِ، وَأَقْطَارَ الْبِلَادِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا يَنْصِبُهَا الْفِعْلُ اللَّازِمُ لِإِبْهَامِهَا انْتَهَى. وَقَالَ فِي " الِارْتِشَافِ ": فَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَ " وَزْنَ الْجَبَلِ " " وَزِنَةَ الْجَبَلِ "، فَمَعْنَى " وَزْنَ الْجَبَلِ " نَاحِيَةُ تَوَازُنِهِ، أَيْ تَقَابُلِهِ قَرِيبَةً كَانَتْ مِنْهُ أَوْ بَعِيدَةً، وَزِنَةَ الْجَبَلِ حِذَاؤُهُ، أَيْ: مُتَّصِلَةٌ بِهِ، وَكِلَاهُمَا مُبْهَمٌ يَصِلُ إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ وَيَنْتَصِبُ ظَرْفًا انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ التوربشتي شَارِحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 الْمَصَابِيحِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: زِنَةَ عَرْشِهِ مَا يُوَازِنُهُ فِي الْقَدْرِ، يُقَالُ: هُوَ زِنَةَ الْجَبَلِ أَيْ حِذَاؤُهُ فِي الثِّقَلِ وَالْوِزَانَةِ انْتَهَى. وَهَذَا مِنْهُ إِيمَاءٌ إِلَى تَخْرِيجِ الْحَدِيثِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَقَدْ خَرَّجُوا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ ; رُوِيَ أَنَّ معاوية اسْتَعْمَلَ ابْنَ أَخِيهِ عمرو بن عتبة بن أبي سفيان عَلَى صَدَقَاتِ كَلْبٍ، فَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ ابن العداء الكلبي: سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَنَدًا ... فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ قَالَ ابن الأثير فِي " النِّهَايَةِ ": نَصَبَ عِقَالًا عَلَى الظَّرْفِ أَرَادَ مُدَّةَ عِقَالٍ وَالْعِقَالُ صَدَقَةُ عَامٍ. وَقَالَ ابن يعيش فِي " شَرْحِ الْمُفَصَّلِ ": مِنَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الظَّرْفِ قَوْلُهُمْ سِيرَ عَلَيْهِ تَرْوِيحَتَيْنِ، وَانْتُظِرَ بِهِ نَحْوَ جَزُورَيْنِ، وَالْمُرَادُ مُدَّةَ ذَلِكَ، وَالتَّرْوِيحَتَيْنِ تَثْنِيَةُ التَّرْوِيحَةِ، وَاحِدَةُ التَّرَاوِيحِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ أبو البقاء فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ» " أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ الظَّرْفِ، أَيْ مُدَّةَ نَشَاطِهِ، فَحَذَفَهُ وَأَقَامَ الْمَصْدَرَ مَقَامَهُ. وَقَالَ الأشرقي فِي " شَرْحِ الْمَصَابِيحِ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَشَاطَهُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي نَشِطَ لَهَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِي نَصْبِهِ عَلَى الصِّفَةِ لِلْمَصْدَرِ؟ قُلْتُ: هَذَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ، وَأَقُولُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ " سُبْحَانَ " أَوْ لِمُقَدَّرٍ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْصُوفِهِ بِقَوْلِهِ وَبِحَمْدِهِ، وَذَلِكَ ضَعِيفٌ أَوْ مَمْنُوعٌ، مَعَ أَنَّ عِنْدِي فِي جَوَازِ وَصْفِ سُبْحَانَ وَقْفَةً، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ إِلَّا عَلَمًا لِلتَّسْبِيحِ مَنْصُوبًا وَلَمْ يُتَصَرَّفْ فِيهِ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ التَّقْدِيرَ سُبْحَانَ اللَّهِ تَسْبِيحًا زِنَةَ عَرْشِهِ فَفِيهِ وَقْفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ ; الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَقْدِيرُ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يُصَرَّحُ بِهِ فِي اللَّفْظِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى تَقْدِيرِ مَصْدَرٍ آخَرَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمَذْكُورَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، فَإِذَا قُدِّرَ مَصْدَرٌ آخَرُ لَزِمَ مِنْهُ تَقْدِيرٌ لِثَلَاثَةٍ: فِعْلِ الْمَصْدَرِ الظَّاهِرِ، وَالْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ، وَفِعْلٍ آخَرَ لَهُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ لَا يَنْصِبُ مَصْدَرَيْنِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ ; لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لَيْسَ نَفْسَ الزِّنَةِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ مِثْلَ زِنَةِ عَرْشِهِ، وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى تَقْدِيرِ مِثْلَ، فَالْمُرَادُ الْمِثْلِيَّةُ فِي الْمِقْدَارِ، فَرَجَعَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ خُصُوصًا أَنَّ قَوْلَهُ: " رِضَا نَفْسِهِ " لَا يَصِحُّ فِيهِ تَقْدِيرُ الْمِثْلِيَّةِ ; وَلِهَذَا قَالَ الأشرقي: يُسَاوِي خَلْقَهُ عِنْدَ التَّعْدَادِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ فِي الْمِقْدَارِ، وَيُوجِبُ رِضَا نَفْسِهِ، فَأَخْرَجَهُ عَنْ حَيِّزِ الْمُسَاوَاةِ، وَتَقْدِيرُ " قَدْرَ " صَحِيحٌ فِيهِ، أَيْ قَدْرًا يَبْلُغُ رِضَا نَفْسِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 فَإِنْ قُلْتَ: بَقِيَ وَجْهُ إِبْطَالِ الْحَالِ. قُلْتُ: إِذَا قُدِّرَ " أُسَبِّحُ " أَوْ " أَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ مُوَازِنًا لِعَرْشِهِ " فَإِنْ جُعِلَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ نَافَرَهُ كَوْنُ " زِنَةَ عَرْشِهِ " وَمَا بَعْدَهُ جَارِيًا عَلَى سُبْحَانَ لَا عَلَى قَائِلِهِ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ نَافَرَهُ أَنَّ الْمَفْعُولَ هُنَا مُطْلَقٌ، وَالْمَعْهُودُ مَجِيءُ الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى وَلَا يَطَّرِدُ التَّقْدِيرُ بِالْمُشْتَقِّ فِي " مِدَادَ كَلِمَاتِهِ " كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَبَطَلَ الْحَالُ. وَبَقِيَ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ فِي إِعْرَابِهِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا أَنْ يُجْعَلَ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ يَبْلُغُ زِنَةَ عَرْشِهِ أَوْ بَالِغًا زِنَةَ عَرْشِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مِقْدَارًا، وَ " سُبْحَانَ اللَّهِ " مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَ " زِنَةَ عَرْشِهِ " مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُجْرِي الْقَوْلَ مَجْرَى ظَنَّ بِلَا شَرْطٍ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِكَانَ مُقَدَّرَةً هِيَ وَاسْمَهَا ضَمِيرًا رَاجِعًا إِلَى التَّسْبِيحِ، وَتُقَدَّرُ إِمَّا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ أَوِ اسْمِ الْفَاعِلِ. الرَّابِعُ: وَهُوَ خَاصٌّ بِرِضَا نَفْسِهِ أَنْ يُجْعَلَ مَفْعُولًا لَهُ عَلَى جَعْلِ الرِّضَا بِمَعْنَى الْإِرْضَاءِ، كَقَوْلِكَ: سَبَّحْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَكُلُّهَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَالْعُمْدَةُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ آخِرُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. مَسْأَلَةٌ: وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ حَدِيثِ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، إِلَّا مَرِيضٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ مُسَافِرٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ» ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ كَلَامٍ تَامٍّ مُوجَبٍ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَ " إِلَّا " وَاجِبَ النَّصْبِ، فَمَا وَجْهُ رَفْعِهِ؟ وَخَاضَ النَّاسُ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْوَاقِعَةَ بَعْدَ " إِلَّا " مَنْصُوبَةٌ، وَلَكِنْ كُتِبَتْ بِلَا أَلِفٍ، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ. قَالَ النووي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِسْرَاءِ " «وَأَرَى مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ» " -: وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ " مَالِكٌ " بِالرَّفْعِ، وَهَذَا قَدْ يُنْكَرُ وَيُقَالُ: هَذَا لَحْنٌ لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلَكِنْ عِنْدِي جَوَابٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ " مَالِكٌ " مَنْصُوبَةٌ، وَلَكِنْ أُسْقِطَتِ الْأَلِفُ فِي الْكِتَابَةِ، وَهَذَا يَفْعَلُهُ الْمُحَدِّثُونَ كَثِيرًا، فَيَكْتُبُونَ: سَمِعْتُ أَنَسًا بِغَيْرِ أَلْفٍ وَيَقْرَءُونَهُ بِالنَّصْبِ، فَكَذَلِكَ " مَالِكٌ " كَتَبُوهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَيَقْرَءُونَهُ بِالنَّصْبِ، فَهَذَا -إِنْ شَاءَ اللَّهُ -مِنْ أَحْسَنِ مَا يُقَالُ فِيهِ، هَذَا كَلَامُ النووي. وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ الْحَجِّ: " «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنً» " - هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ " قَرْنً " بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ، وَهُوَ مَصْرُوفٌ ; لِأَنَّهُ اسْمٌ لِجَبَلٍ، وَيُقْرَأُ مُنَوَّنًا، وَإِنَّمَا حَذَفُوا الْأَلِفَ مِنْهُ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 الْمُحَدِّثِينَ يَكْتُبُونَ سَمِعْتُ أَنَسً بِغَيْرِ أَلِفٍ وَيُقْرَأُ بِالتَّنْوِينِ، وَقَالَ القرطبي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي قَوْلِ عائشة: «كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشَرَ أُوقِيَّةً وَنَشّ» : قَوْلُهُ: " وَنَشّ " هُوَ مُعْرَبٌ مُنَوَّنٌ غَيْرَ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا نَشّ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى الْمُنَوَّنِ بِالسُّكُونِ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ ولي الدين العراقي فِي شَرْحِ سُنَنِ أبي داود قَوْلُهُ: سَمِعْتُ خِلَاسَ الْهَجَرِيَّ - كَذَا فِي أَصْلِنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ غَيْرُ مَصْرُوفٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ لَا مَانِعَ لَهُ مِنَ الصَّرْفِ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ لِبَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ كِتَابَةِ الْأَلِفِ بِجَعْلِ فَتْحَتَيْنِ فَوْقَ آخِرِ الْكَلِمَةِ، لَكِنْ قَدْ يُغْفِلُ الْكَاتِبُ تِلْكَ الْفَتْحَتَيْنِ فَيَقَعُ فِي الْإِبْهَامِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عمرو بن ميمون: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الْيَمَنَ، فَسَمِعْتُ تَكْبِيرَهُ مَعَ الْفَجْرِ رَجُلٌ أَجَشُّ الصَّوْتِ -يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: " أَجَشُّ الصَّوْتِ " النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَقَدْ ضَبَطْنَاهُ فِي أَصْلِنَا بِالْوَجْهَيْنِ، قَوْلُهُ: أَجَشُّ الصَّوْتِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: رَجُلٌ، فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي أَصْلِنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا، أَوْ مَنْصُوبًا وَكَتَبَهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَكَثِيرٌ مِنَ النُّسَّاخِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْأَجْوِبَةُ الزَّكِيَّةُ عَنِ الْأَلْغَازِ السُّبْكِيَّةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَرَدَ عَلَى شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَلَّامَةِ عبد الرحمن نَجْلِ الْإِمَامِ كمال الدين أبي بكر السيوطي الشافعي، عَامَلَهُ اللَّهُ بِلُطْفِهِ، وَرَحِمَ سَلَفَهُ الْكَرِيمَ فِي سَادِسِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ -أَوْرَاقٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا مَا صُورَتُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَبَعْدُ، فَقَدْ وَقَفَ الْعَبْدُ كَاتِبُ هَذِهِ الْأَحْرُفِ فَقِيرُ رَحْمَةِ رَبِّهِ ذِي اللُّطْفِ الْخَفِيِّ، محمد بن علي بن سودون الحنفي عَلَى سُؤَالٍ، كَتَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تاج الدين أبو نصر السبكي فِي ثَانِي عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ الْحَرَامِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ إِلَى الشَّيْخِ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي الشَّاعِرِ الْمَشْهُورِ: لِلْمُشْكِلَاتِ إِذَا مَا احْتَطْنَ بِالْفِكَرِ ... وَالْمُعْضِلَاتِ إِذَا أَظْلَمْنَ فِي النَّظَرِ وَكَدَّرَتْ صَافِيَ الْأَكْدَارِ عِنْدَكَ يَا ... أبا الصفاء جَلَاءَ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ فَمَا سُؤَالَاتُ مَنْ وَافَاكَ يَسْأَلُ مَا ... حَرْفٌ هُوَ الِاسْمُ فِعْلًا غَيْرَ مُعْتَبَرِ وَأَيُّ شَكْلٍ بِهِ الْبُرْهَانُ مُنْتَهِضٌ ... وَلَا يُعَدُّ مِنَ الْأَشْكَالِ وَالصُّوَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 وَأَيُّ بَيْتٍ عَلَى بَحْرَيْنِ مُنْتَظِمٍ بَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ لَا بَيْتٌ مِنَ الشَّعَرِ ... وَأَيُّ مَيْتٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ مَا طَلَعَتْ بِمَوْتِهِ رُوحُهُ فِي ثَابِتِ الْخَبَرِ ... مَنْ عُدَّ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَحْكُمْ عَلَى النَّاسِ مِنْ بَدْوٍ وَمِنْ حَضَرِ ... وَلَمْ يَكُنْ قُرَشِيًّا حِينَ عُدَّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى إِمْرَةَ الْبَشَرِ ... مَنْ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ شَيْخِ الصِّحَابِ أبي بكر وَمِنْ عمر ... وَمِنْ علي وَمِنْ عثمان وَهْوَ فَتًى مِنْ أُمَّةِ الْمُصْطَفَى الْمَبْعُوثِ مَنْ مُضَرِ ... مَنْ أَبْصَرَتْ فِي دِمَشْقَ عَيْنُهُ صَنَمًا مُصَوَّرًا وَهْوَ مَنْحُوتٌ مِنَ الْحَجَرِ ... إِنْ جَاعَ يَأْكُلْ وَإِنْ يَعْطَشْ تَضَلَّعَ مِنْ مِيَاهِ غَيْرِ زُلَالٍ ثُمَّ مُنْهَمِرِ ... مَنْ قَالَ إِنَّ الزِّنَا وَالشُّرْبَ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ يَقُلْ هُوَ ذَنْبٌ غَيْرُ مُغْتَفَرِ ... مَنْ قَالَ إِنَّ نِكَاحَ الْأُمِّ يَقْرُبُ مِنْ تَقْوَى الْإِلَهِ مَقَالًا غَيْرَ مُبْتَكَرِ ... مَنْ قَالَ سَفْكُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ال صَلَاةِ أَوْجَبَهُ الرَّحْمَنُ فِي الزُّبُرِ ... وَمَا اللَّفِيفَةُ جَاءَتْ وَالسَّخِينَةُ فِي غَرِيبِ مَا صَحَّ مِمَّا جَاءَ فِي الْأَثَرِ ... وَهَاتِ قُلْ لِي إِبْرَاهِيمَ أَرْبَعَةً بَعْضٌ عَنِ الْبَعْضِ مَنْ هُمْ تَحْظَ بِالظَّفَرِ ... وَهَكَذَا خَلَفٌ مِنَ الرُّوَاةِ كَذَا مُحَمَّدٌ فِي الْمُغَازِي جَاءَ وَالسِّيَرِ ... وَعَنْ فَتَاةٍ لَهَا زَوْجَانِ مَا بَرِحَا تَزَوَّجَتْ ثَالِثًا حِلًّا بِلَا نُكُرِ ... وَآخَرٍ رَاحَ يَشْرِي طُعْمَ زَوْجَتِهِ فَعَادَ وَهْوَ عَلَى حَالٍ مِنَ الْغِيَرِ ... قَالَتْ لَهُ أَنْتَ عَبْدِي قَدْ وَهَبْتُكَ مِنْ زَوْجٍ تَزَوَّجْتُهُ فَاخْدِمْهُ وَاعْتَبِرِ ... وَخَمْسَةٌ مِنْ زُنَاةِ النَّاسِ خَامِسُهُمْ مَا نَالَهُ بِالزِّنَا شَيْءٌ مِنَ الضُّرِّ ... وَالْقَتْلُ وَالرَّجْمُ وَالْجَلْدُ الْأَلِيمُ كَذَا التْ تَغْرِيبُ وُزِّعَ فِي الْبَاقِينَ فَاعْتَبِرِ ... أَجِبْ فَأَنْتَ جَزَاكَ اللَّهُ صَالِحَةٌ مَنْ لَمْ يُرَعْ عِنْدَ إِشْكَالٍ وَلَمْ يَحِرِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبْيَاتًا يَمْدَحُهُ فِيهَا، وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا أَنَّهُ يُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ نَثْرًا، وَلَمْ يَرَ الْعَبْدُ لَهُ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ لَا نَظْمًا وَلَا نَثْرًا. وَالْمَسْئُولُ مِنْ صَدَقَاتِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا أَبْقَاهُ اللَّهُ فِي خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ نَظْمًا وَنَثْرًا. فَكَتَبَ شَيْخُنَا مَا صُورَتُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. الْجَوَابُ نَثْرًا: أَمَّا الْحَرْفُ الَّذِي يَكُونُ أَيْضًا اسْمًا وَفِعْلًا فَهُوَ " عَلَى " ; فَإِنَّهُ يَكُونُ حَرْفَ جَرٍّ وَاسْمًا بِمَعْنَى فَوْقَ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرِّ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ . وَفِعْلًا مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 الْعُلُوِّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4] هَكَذَا ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ " عَلَى " اسْتَكْمَلَتْ أَقْسَامَ الْكَلِمَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَهَا، وَقَدِ اسْتَدْرَكْتُ عَلَيْهِمْ قَدِيمًا لَفْظَتَيْنِ أَيْضًا: الْأُولَى: " مِنْ " فَإِنَّهَا تَكُونُ حَرْفَ جَرٍّ وَفِعْلَ أَمْرٍ مِنْ مَانَ يَمِينُ وَاسْمًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي " الْكَشَّافِ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22] إِذَا كَانَتْ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَرِزْقًا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَكُمْ مَفْعُولٌ بِهِ لِرِزْقًا ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَصْدَرٌ. قَالَ الطيبي: وَإِذَا قَدَّرْتَ " مِنْ " مَفْعُولًا كَانَتِ اسْمًا كَ " عَنْ " فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَنْ يَمِينِي مَرَّةً وَأَمَامِي. الثَّانِيَةُ: " فِي " فَإِنَّهَا تَقَعُ حَرْفَ جَرٍّ، وَاسْمًا بِمَعْنَى الْفَمِ فِي حَالَةِ الْجَرِّ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ» ". وَفِعْلَ أَمْرٍ مِنَ الْوَفَاءِ بِإِشْبَاعٍ، وَقَوْلُهُ: وَأَيُّ شَكْلٍ إِلَى آخِرِهِ هَذَا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْمَنْطِقِ، وَهُوَ عِلْمٌ حَرَامٌ خَبِيثٌ لَا أَخُوضُ فِيهِ، وَقَدْ سُئِلَ الشرف بن المقري بِأَسْئِلَةٍ نَظَمَ فِيهَا: وَمَا عَكْسُ السَّوَالِبِ يَا مُرَجِّي ... أَيِ الْجُزْئِيُّ مِنْهَا فِي النِّظَامِ فَأَجَابَ عَنِ الْأَسْئِلَةِ بَيْتًا بَيْتًا، وَقَالَ فِي هَذَا الْبَيْتِ: وَعَنْ عَكْسِ السَّوَالِبِ لَا تَسَلْنِي ... فَذَاكَ مُقَدَّمُ الْعِلْمِ الْحَرَامِ قَوْلُهُ: وَأَيُّ بَيْتٍ عَلَى بَحْرَيْنِ مُنْتَظِمٍ هَذَا نَوْعٌ مَعْرُوفٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى التَّشْرِيعَ، أَوَّلُ مَنِ اخْتَرَعَهُ الحريري، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ مَبْنِيًّا عَلَى بَحْرَيْنِ وَقَافِيَتَيْنِ يَصِحُّ الْوُقُوفُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ: يَا طَالِبَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ إِنَّهَا ... شَرَكُ الرَّدَى وَقَرَارَةُ الْأَكْدَارِ دَارٌ مَتَى مَا أَضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا ... أَبْكَتْ غَدًا بُعْدًا لَهَا مِنْ دَارِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: يَا طَالِبَ الدُّنْيَا إِنَّهَا شَرَكُ الرَّدَى ... دَارٌ مَتَى مَا أَضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا أَبْكَتْ غَدًا قَوْلُهُ: " وَأَيُّ مَيْتٍ " إِلَى آخِرِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 {فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] أَيْ نُطَفًا فِي الْأَصْلَابِ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا الْمَوْتَ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ رُوحٍ فِيهَا خَرَجَتْ مِنْهَا. قَوْلُهُ: مَنْ عُدَّ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى آخِرِهِ، هُوَ أسامة بن زيد مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّرَهُ عَلَى جَيْشٍ فِيهِ أبو بكر وعمر، فَلَمْ يَنْفُذْ حَتَّى تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَهُ أبو بكر إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ يَدْعُونَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى أسامة بن زيد قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَيَقُولُ أسامة: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَقُولُ لِي هَذَا؟! فَيَقُولُ: لَا أَزَالُ أَدْعُوكَ مَا عِشْتُ الْأَمِيرَ، مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ عَلَيَّ أَمِيرٌ وَلَمْ يَكُنْ أسامة مِنْ قُرَيْشٍ بَلْ مِنَ الْمَوَالِي. قَوْلُهُ: مَنْ بِاتِّفَاقِ إِلَى آخِرِهِ، " مَنْ " فِيهِ اسْتِفْهَامُ نَفْيٍ أَوْ إِنْكَارٍ، وَكَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الزِّنَا وَالْبَيْتَانِ بَعْدَهُ، أَيْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ، كَذَا رَأَيْتُ صَاحِبَ النَّظْمِ الشَّيْخَ تاج الدين السبكي فَسَّرَهُ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ، وَجَوَّزَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ قَالَ إِنَّ الزِّنَا: مَنْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ غَيْرُ مُغْتَفَرِ، أَيْ لَا يُغْتَفَرُ لَهُ هَذَا الْقَوْلُ، بَلْ يُؤَاخَذُ بِهِ. قَوْلُهُ: مَنْ أَبْصَرَتْ إِلَى آخِرِهِ، أَرَادَ بِهَذَا مَا رَوَاهُ الحاكم فِي " تَارِيخِ نَيْسَابُورَ " بِسَنَدِهِ إِلَى عبد الله البوشنجي، عَنْ أبي عبد الله بن يزيد الدمشقي، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ بِبَغْدَادَ صَنَمًا مِنْ نُحَاسٍ، إِذَا عَطِشَ نَزَلَ فَشَرِبَ، قَالَ البوشنجي: رُبَّمَا تَكَلَّمَتِ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَدْرِ فَهْمِ الْحَاضِرِينَ تَأْدِيبًا وَامْتِحَانًا، فَهَذَا الرَّجُلُ ابن جابر أَحَدُ عُلَمَاءِ الشَّامِ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ الصَّنَمَ لَا يَعْطَشُ، وَلَوْ عَطِشَ نَزَلَ فَشَرِبَ، فَنَفَى عَنْهُ النُّزُولَ وَالْعَطَشَ. قَوْلُهُ: وَمَا اللَّفِيفُ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ ابن الأثير فِي " النِّهَايَةِ ": قَالَ معاوية لِلْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَهُوَ يُمَازِحُهُ: مَا الشَّيْءُ الْمُلَفَّفُ فِي الْبِجَادِ؟ قَالَ: هُوَ السَّخِينَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ ابن الأثير: الْمُلَفَّفُ فِي الْبِجَادِ: وَطَبُ اللَّبَنِ، يُلَفُّ فِيهِ لِيُحْمَى وَيُدْرَكَ، وَكَانَتْ تَمِيمٌ تُعَيَّرُ بِهِ، وَالسَّخِينَةُ حِسَاءٌ يُعْمَلُ مِنْ دَقِيقٍ وَسَمْنٍ يُؤْكَلُ فِي الْجَدْبِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَيَّرُ بِهَا، فَلَمَّا مَازَحَهُ معاوية بِمَا يُعَابُ بِهِ قَوْمُهُ مَازَحَهُ الأحنف بِمِثْلِهِ. قَوْلُهُ: وَهَاتِ قُلْ لِي إِلَى آخِرِهِ، هَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَنِ اتَّفَقَ اسْمُهُ وَاسْمُ شَيْخِهِ فَصَاعِدًا وَالْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ رَوَوْا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُسَمَّى إبراهيم كَثِيرٌ، مِنْهُمْ إبراهيم بن شماس السمرقندي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ الزَّاهِدِ، عَنْ إبراهيم بن ميمون الصائغ، وَالْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ كُلٌّ مِنْهُمُ اسْمُهُ خلف وَقَعَ ذَلِكَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ لِلْحَاكِمِ فِي إِسْنَادٍ وَاحِدٍ، بَلْ خَمْسَةٌ، فَقَالَ: ثَنَا خلف، ثَنَا خلف، ثَنَا خلف، ثَنَا خلف، ثَنَا خلف، الْأَوَّلُ الْأَمِيرُ خلف بن أحمد السجزي، وَالثَّانِي أبو صالح خلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 بن محمد البخاري، وَالثَّالِثُ خلف بن سليمان النسفي، وَالرَّابِعُ خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، وَالْخَامِسُ خلف بن موسى بن خلف. وَأَمَّا الْمُحَمَّدُونَ فِي إِسْنَادٍ وَاحِدٍ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ وَقَعَ لِي حَدِيثٌ كُلُّ رُوَاتِهِ يُسَمَّى محمدا مِنْ شَيْخِنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَوْلُهُ: وَعَنْ قَتَادَةَ إِلَى آخِرِهِ رَأَيْتُ بِخَطِّ صَاحِبِ النَّظْمِ الشَّيْخِ تاج الدين فِي تَذْكِرَتِهِ مَا صُورَتُهُ: امْرَأَةٌ لَهَا زَوْجَانِ، وَيَجُوزُ أَنَّ يَتَزَوَّجَهَا ثَالِثٌ، هَذِهِ امْرَأَةٌ لَهَا عَبْدٌ وَأَمَةٌ زَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَصَدَقَ أَنَّهَا امْرَأَةٌ لَهَا زَوْجَانِ، وَإِذَا جَاءَ ثَالِثٌ حُرٌّ فَلَهُ نِكَاحُهَا. قَوْلُهُ: وَآخَرُ رَاحَ إِلَى آخِرِهِ رَأَيْتُ بِخَطِّهِ أَيْضًا أَنَّ صُورَتَهَا عَبْدٌ زَوَّجَهُ مَوْلَاهُ بِابْنَتِهِ، وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ مَاتَ مَوْلَاهُ وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ ; لِأَنَّهَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا بِالْإِرْثِ، وَكَانَتْ حَامِلًا فَوَضَعَتْ، فَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَتَزَوَّجَتْ وَوَهَبَتْ ذَلِكَ الْعَبْدَ لِزَوْجِهَا. وَقَوْلُهُ: وَخَمْسَةٌ إِلَى آخِرِهِ، رَأَيْتُ بِخَطِّهِ أَيْضًا قِيلَ: إِنَّ محمد بن الحسن سَأَلَ الشَّافِعِيَّ عَنْ خَمْسَةٍ زَنَوْا بِامْرَأَةٍ، فَوَجَبَ عَلَى وَاحِدٍ الْقَتْلُ، وَآخَرَ الرَّجْمُ، وَالثَّالِثِ الْجَلْدُ، وَالرَّابِعِ نِصْفُهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْخَامِسِ شَيْءٌ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَوَّلُ ذِمِّيٌّ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ، فَانْتَقَضَ عَهْدَهُ، فَيُقْتَلُ. وَالثَّانِي مُحْصَنٌ، وَالثَّالِثُ بِكْرٌ، وَالرَّابِعُ عَبْدٌ، وَالْخَامِسُ مَجْنُونٌ، انْتَهَى. الْجَوَابُ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَجْوِبَةِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِغَيْرِي إِلَّا هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي نَقَلْتُهَا عَنِ الشَّيْخِ تاج الدين، وَالْمَوْضِعُ السَّابِقُ فِي " مِنْ " وَبَاقِي الْمَسَائِلِ مِمَّا أَخَذْتُهُ بِالْفَهْمِ. وَقُلْتُ فِي الْجَوَابِ نَظْمًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّي بَارِئِ الْبَشَرِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِ هَذَا جَوَابُ سُؤَالَاتِ الْإِمَامِ أَبِي ... نَصْرٍ عَلَيْهِ هَمَتْ هُطَالَةُ الدُّرُرِ أَمَّا الَّذِي هُوَ حَرْفٌ ثُمَّ جَاءَ سَمِيٌّ ... أَيْضًا وَفِعْلًا مَقَالًا غَيْرَ ذِي نُكُرِ عَلَى أَتَتْ حَرْفَ جَرٍّ ثُمَّ فِعْلَ عَلَا ... وَاسْمًا كَفَوْقَ وَزِدْ مِنْ غَيْرِ مُقْتَصِرِ ثُمَّ الَّذِي هُوَ شَكْلٌ مِنْ عُلُومِ رَدِي ... وَلَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الشَّرْعِ وَالْأَثَرِ وَالْبَيْتُ يُنْظَمُ مِنْ بَحْرَيْنِ نَاظِمُهُ ... فَذَاكَ تَشْرِيعُهُمْ مَا فِيهِ مِنْ حَصَرِ وَالْمَيْتُ مِنْ غَيْرِ رُوحٍ مِنْهُ قَدْ خَرَجَتْ ... مَا كَانَ فِي صُلْبِهِ مِنْ نُطْفَةِ الْبَشَرِ ثُمَّ الْمُسَمَّى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ ... يَحْكُمْ عَلَى النَّاسِ مِنْ بَدْوٍ وَلَا حَضَرِ أسامة حِينَ وَلَّاهُ النَّبِيُّ عَلَى ... سَرِيَّةٍ لَقَّبُوهُ ذَاكَ فِي السَّفَرِ وَ " مَنْ " فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَبْيَاتِ نَافِيَةٌ ... أَيْ لَمْ يَقُلْ ذَاكَ شَخَصٌ أَيُّ مُعْتَبَرِ فَصَاحِبُ النَّظْمِ هَذَا الْقَصْدَ بَيَّنَ فِي ... تَعْلِيقِ تَذْكِرَةٍ يَا طِيبَ مُدَّكِرِ وَبَعْضُهُمْ قَالَ فِي الْأَصْنَامِ إِنَّ عَطِشَتْ ... تَنْزِلُ كَلَّا ذَاكَ لَا يُلْقَى لِمُخْتَبِرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 ثُمَّ اللَّفِيفَةُ أَكْلٌ وَالسَّخِينَةُ فِي جَدْبٍ بِهَا عِيبَ أَهْلُ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ ... ثُمَّ الْمُسَمَّوْنَ إِبْرَاهِيمَ أَرْبَعَةٌ عَنْ بَعْضِهِمْ قَدْ رَوَوْا فِي صَادِقِ الْخَبَرِ ... السمرقندي عَنِ الكوفي عَنِ العجلي عَنِ ابن ميمون فَاحْفَظْهُ وَلَا تَحِرِ ... وَهَكَذَا خَلَفٌ خَمْسٌ أَتَتْ نَسَقًا فِي مُسْنَدٍ قَدْ رَوَاهُ الحاكم الأثري ... وَمِنْ محمد يُدْعَى عِدَّةٌ نَسَقًا فِي جُمْلَةٍ أَسَانِيدَ مِنَ الْأَثَرِ ... وَمَرْأَةٌ مَلَكَتْ زَوْجَيْنِ لَا رَيْبَ فَإِنْ أَرَادَتْ نِكَاحًا غَيْرَ مُحْتَظِرِ ... وَالْعَبْدُ زَوَّجَهُ مَوْلَاهُ بِابْنَتِهِ فَمَاتَ تَمْلِكُهُ بَانَتْ بِلَا ضَرَرِ ... أَلْقَتْ جَنِينًا فَوَفَّتْ عِدَّةً نَكَحَتْ فَمَلَّكَتْهُ لَهُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَدَرِ ... ثُمَّ الَّذِينَ زَنَوْا ذِمِّيٌّ بِمُسَلِمَةٍ فَاقْتُلْ وَمُحْصَنُهُمْ فَارْجُمْهُ بِالْمَدَرِ ... وَالْبِكْرُ فَاحْدُدْ وَعَبْدًا نَصِفُهُ أَبَدًا وَمَنْ خَلَا مِنْ صِفَاتِ الْعَاقِلِينَ ذَرِ ... ثُمَّ الْجَوَابُ وَلَا لَبْسٌ يُخَالِطُهُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا غَيْرَ مُنْحَصِرِ ... وَقَالَهُ عَابِدُ الرَّحْمَنِ نَجْلُ أَبِي بَكْرِ السُّيُوطِيِّ يَرْجُو عَفْوَ مُقْتَدِرِ ثُمَّ بَعْدَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَقَفْتُ عَلَى كُرَّاسَةٍ بِخَطِّ الْإِمَامِ علم الدين العراقي قَالَ فِيهَا مَا مُلَخَّصُهُ: قَالَ مَوْلَانَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ كريم الدين عبد الله الشافعي: وَبَعْدُ فَإِنَّ بَعْضَ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ السَّادَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِزِيَادَةِ التَّحْقِيقِ وَكَثْرَةِ الْإِفَادَةِ وَضَعَ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً مِنَ الْمَعَانِي الْمُحْكَمَةِ بِالسُّؤَالَاتِ الْمُشْكِلَةِ، وَجَعَلَهَا نَظْمًا لِتَكُونَ أَعْسَرَ فَهْمًا تَحَارُ فِيهَا عُقُولُ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَيَعْجَزُونَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا لَهَا بِجَوَابٍ، فَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَيْهَا أَرَدْتُ أَنْ أُجَرِّبَ ذِهْنِيَ الْكَلِيلَ، فَأَجَبْتُ عَنْهَا غَيْرَ مَسْأَلَةٍ تَعَذَّرَ لِإِشْكَالِ مَعْنَاهَا، وَهِيَ هَذِهِ: الْأُولَى: مَنْ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ ... شَيْخِ الصِّحَابِ أبي بكر وَمِنْ عمر وَمِنْ علي وَمِنْ عثمان وَهْوَ فَتًى ... مِنْ أُمَّةِ الْمُصْطَفَى الْمَبْعُوثِ مَنْ مُضَرِ الْجَوَابُ: إِنْ كَانَ عَنَى بِالْفَتَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْفَتَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِذَلِكَ الصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالْخَدَمُ وَالْإِمَاءُ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ إِبْرَاهِيمَ وَلَدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ فَتًى، فَقَدْ نَصَّ الأزهري عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُسَمَّى فَتًى حَتَّى يُرَاهِقَ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْحَسَنَ فأبو بكر أَفْضَلُ مِنْهُ، فَلَوْ قَالَ بَدَلَ فَتًى شَخْصٌ صَحَّ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 إبراهيم وَلَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فاطمة بُضْعَةٌ مِنِّي» "، قَالَ مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا أُفَضِّلُ عَلَى بُضْعَةٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا. الثَّانِيَةُ: مَنْ كَانَ وَالِدُهَا ابْنًا فِي الْبَنِينِ لَهَا ... وَذَاكَ غَيْرُ عَجِيبٍ عِنْدَ ذِي نَظَرِ الْجَوَابُ: تِلْكَ عائشة زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَابْنَةُ أبي بكر، فَهِيَ أُمُّهُ وَابْنَتُهُ. الثَّالِثَةُ: مَنِ الْفَتَاةُ لَهَا زَوْجَانِ مَا بَرِحَا ... تَزَوَّجَتْ ثَالِثًا حَلَّ بِلَا نُكُرِ الْجَوَابُ: لَهَا زَوْجَانِ مِنْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40] {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3] . الرَّابِعَةُ: مَنْ طُلِّقَتْ فَتَلَقَّتْ أَرْبَعًا عَدَدًا ... عَنِ الْوُجُوبِ بِدَارٍ أَيَّ مُبْتَدِرِ الْجَوَابُ: هَذِهِ كَانَتْ حَامِلًا، فَوَلَدَتْ أَرْبَعَةً مِنَ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِانْفِصَالِ الْأَرْبَعَةِ، هَذَا إِنْ كَانَ قَوْلُهُ: " عَدَدًا " بِفَتْحِ الْعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ بِكَسْرِهَا فَهَذِهِ أَمَةٌ دُونَ الْبُلُوغِ، طُلِّقَتْ، فَاعْتَدَّتْ بِالْأَشْهُرِ، ثُمَّ حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، فَانْتَقَلَتْ إِلَى الْأَقْرَاءِ، ثُمَّ عَتَقَتْ فَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ فَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ. الْخَامِسَةُ: مَنْ إِنْ يَزِدْ جُرْمُهُ تَنْقُصْ مُؤَاخَذَةٌ ... وَيَفْتَدِي بَعْضَ مَا يَجْنِيهِ كَالْهَدَرِ الْجَوَابُ: إِنْ كَانَ جُرْمُهُ -بِضَمِّ الْجِيمِ- فَهَذَا رَجُلٌ ارْتَكَبَ صَغِيرَةً، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ تَرَكَهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، فَكَانَ تَرْكُهُ لِلْكَبِيرَةِ بَعْدَ الْعَزْمِ عَلَيْهَا مُكَفِّرًا لِتِلْكَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا، وَإِنْ كَانَ جِرْمُهُ -بِكَسْرِ الْجِيمِ -فَهُوَ الْمِيزَابُ الْخَارِجُ عَنِ الْحَائِطِ وَالرَّوْشَنِ، إِذَا وَقَعَ نِصْفُهُ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى الْمَالِكِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَإِنْ وَقَعَ بِجُمْلَتِهِ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 السَّادِسَةُ: مَنْ إِنْ تَلَا فِي صَلَاةٍ آيَةً فَيَبُوءَ بِالْإِثْمِ ... وَالصَّمْتُ مِنْهُ لَيْسَ مِنْ حَصَرِ الْجَوَابُ: تَلَا آيَةً فِي الصَّلَاةِ، فَغَلِطَ فِيهَا أَوْ لَحَنَ، وَكَانَ مَعَهُ مَنْ يُصَلِّي، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَأَصَرَّ عَلَى غَلَطِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ يَظُنُّ مَا يَقْرَؤُهُ صَحِيحًا، فَأَعَادَ ذَاكَ الرَّادُّ عَلَيْهِ، فَتَوَقَّفَ وَسَكَتَ، وَبَطَلَتِ الصَّلَاةُ، وَكَانَ سُكُوتُهُ لَا عَنْ حَصَرٍ وَهُوَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا سَكَتَ لِلْعَجْزِ عَنِ الْحِفْظِ، وَالْمُعَانَدَةِ، وَأَنْ لَا يَرْجِعَ لِلْغَيْرِ، فَأَبْطَلَ الصَّلَاةَ، فَأَثِمَ لِأَجْلِ ذَلِكَ. قُلْتُ: هَذَا جَوَابٌ مُخَبَّطٌ وَكَلَامٌ طَوِيلٌ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ أَنَّهُ فَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ وَهُوَ جُنُبٌ يُصَلِّي وَلَا يَقْرَأُ آيَةً زِيَادَةً عَلَى الْفَاتِحَةِ. وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ مِنْ عِنْدِي لَا مِنَ الْمُجِيبِ وَلَا الْعَلَمِ العراقي. ثُمَّ قَالَ: السَّابِعَةُ: مَنْ قَالَ وَسْطَ جُمَادَى الصَّوْمُ مُفْتَرَضٌ ... وَقَدْ يُصَلِّي لَنَا الْعِيدَانِ فِي صَفَرِ الْجَوَابُ: جُمَادَى عِنْدَ الْعَرَبِ الشِّتَاءُ كُلُّهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ ... لَا يُبْصِرُ الْكَلْبُ فِي أَرْجَائِهَا الطُّنُبَا قَالَ: وَقَوْلُهُ: وَقَدْ يُصَلِّي لَنَا الْعِيدَانِ فِي صَفَرٍ، الصَّلَاةُ هُنَا مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ، وَالْعِيدَانِ مُثَنَّى عِيدٍ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَعُودُ فِيهِ الْفَرَحُ، أَوْ ذِكْرُ الشَّوْقِ وَالْمَحَبَّةِ، فَالْمَعْنَى يُدْعَى لَنَا بِحُصُولِ عَوْدِ الْفَرَحِ وَتَجْدِيدِ الشَّوْقِ إِلَى الْحَبِيبِ. قُلْتُ: مَا أَدْرَكَ هَذَا الْجَوَابَ وَقَدِ اعْتَرَفَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ مَا قَدَرَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ الَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ " يُصَلِّي " بِمَعْنَى الِانْحِنَاءِ وَالتَّقْوِيمِ وَالتَّلْيِينِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: صَلَيْتُ الْعَوْدَ عَلَى النَّارِ، " وَالْعِيدَانِ " جَمْعُ عُودٍ، وَهُوَ آلَةُ اللَّهْوِ الْمَشْهُورَةُ، وَالصَّفَرُ صَفِيرُ الْقَصَبِ، وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ مِنْ عِنْدِي أَيْضًا. ثُمَّ قَالَ: الثَّامِنَةُ: وَآكِلٌ وَسْطَ شَهْرِ الصَّوْمِ مُنْفَرِدًا ... عَمْدًا نَهَارًا وَلَمْ يُفْطِرْ وَلَمْ يَزِرِ الْجَوَابُ: النَّهَارُ فَرْخُ الْقَطَاةِ وَوَلَدُ الْحُبَارَى، كَمَا أَنَّ اللَّيْلَ وَلَدُ الْكَرَوَانِ. التَّاسِعَةُ: وَآكِلٌ فِيهِ لَيْلًا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ ... بِصَوْمِهِ مِنْ سَرَاةِ الرَّأْيِ وَالْأَثَرِ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ أَنَّ اللَّيْلَ وَلَدُ الْكَرَوَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 الْعَاشِرَةُ: وَوَاحِدٌ قَدْ يُصَلِّي وَهْوَ مُنْفَرِدٌ ... وَقَدْ يُؤَمُّ وَلَا يَأْتَمُّ لِلْقَدَرِ الْجَوَابُ: هَذَا أَعْمَى أَصَمُّ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِأَحَدٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَرَى أَفْعَالَ الْإِمَامِ وَلَا يَسْمَعُ الْمُبَلِّغَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: وَقَائِلٌ لَا قِصَاصَ فِي السُّيُوفِ بَلَى ... إِنَّ الْقِصَاصَ لَفِي شَعَرٍ وَفِي ظُفُرِ الْجَوَابُ: لَا قِصَاصَ فِي السُّيُوفِ هُوَ فِي بَعْضِ الْجُرُوحِ، كَالْجَائِفَةِ وَمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْقِصَاصَ فِي شَعْرٍ، وَشَعْرُ الْقِصَاصِ هُنَا مِنْ: قَصَّ الشَّعَرَ يَقُصُّهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ جابر " «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى قُصَاصِ الشَّعَرِ» "، قَالَ الأزهري: هُوَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ مُنْتَهَى شَعْرِ الرَّأْسِ حَيْثُ يُؤْخَذُ بِالْمِقَصِّ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: ثَلَاثَةٌ فَرْجُ أُنْثَى مِنْهُ مَا خَرَجُوا ... وَأَوْجَدَ الرُّوحَ فِيهِمْ خَالِقُ الصُّوَرِ الْجَوَابُ: هُمْ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَنَاقَةُ صَالِحٍ. الثَّالِثَةَ عَشَرَ: وَسَارِقٌ هَتَكَ الْحِرْزَ الْحَرِيزَ وَلَمْ ... يُقْطَعْ بِلَا شُبْهَةٍ وَالْمَالُ ذُو خَطَرِ الْجَوَابُ: هُوَ الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْحَرْبِيُّ، قُلْتُ: هَذَا ظَاهِرٌ لَا يُلْغَزُ بِهِ. الرَّابِعَةَ عَشَرَ: وَسَارِقٌ مَا حَوَى الْمَسْرُوقَ يَقْطَعُهُ ... وَسَارِقٌ مَا حَوَى الْمَسْرُوقَ لَمْ يُضَرِ الْجَوَابُ: " مَا " الْأُولَى مَوْصُولَةٌ، وَالثَّانِيَةُ نَافِيَةٌ، قُلْتُ: فِي كِلَيْهِمَا نَظَرٌ. الْخَامِسَةَ عَشَرَ: وَسَارَ قَبْرٌ بِمَنْ فِيهِ إِلَى أَمَدٍ ... مِنَ الزَّمَانِ فَلَا يُنْكَرْ لِذِي خَبَرِ الْجَوَابُ: هُوَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ كَالْقَبْرِ لَهُ وَهُوَ سَائِرٌ فِي الْبَحْرِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 السَّادِسَةَ عَشَرَ وَالسَّابِعَةَ عَشَرَ: وَآخَرُ رَاحَ يَشْرِي طُعْمَ زَوْجَتِهِ ... فَعَادَ وَهْوَ عَلَى حَالٍ مِنَ الْغِيَرِ قَالَتْ لَهُ أَنْتَ عَبْدِي قَدْ وَهَبْتُكَ مِنْ ... زَوْجٍ تَزَوَّجْتُهُ فَاخْدِمْهُ وَاعْتَبِرِ وَخَمْسَةٌ مِنْ زُنَاةِ النَّاسِ خَامِسُهُمْ ... مَا نَالَهُ بِالزِّنَا شَيْءٌ مِنَ الضَّرَرِ وَالرَّجْمُ وَالْقَتْلُ وَالضَّرْبُ الْأَلِيمُ مَعَ التْ ... تَغْرِيبِ وُزِّعَ فِي الْبَاقِينَ فَافْتَكِرِ وَالْجَوَابُ عَنْهَا كَالَّذِي قَدَّمْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. [الْأَسْئِلَةُ الْمِائَةُ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ صَلَّى ذُو الْجَلَالِ عَلَى ... خُلَاصَةِ الْأَنْبِيَا كَنْزِ الْمَسَاكِينِ مَنْ أَثْبَتَ اللَّهُ مَوْلَانَا رِسَالَتَهُ ... قِدْمًا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ مُحَمَّدٌ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ قَاطِبَةً ... وَالْآلِ مَعْ صَحْبِهِ الشُّمِّ الْعَرَانِينِ وَيَرْحَمُ اللَّهُ مَوْلَانَا وَسَيِّدَنَا ... مُنْشِي الْعُلُومِ بِتَحْرِيرٍ وَتَدْوِينِ أَبَا حَنِيفَةَ نُعْمَانَ بْنَ ثَابِتِ مَنِ ... اسْتَنْبَطَ الْفِقْهَ إِيضَاحًا بِتَبْيِينِ وَمَالِكًا وابن إدريس وأحمد مَنْ ... هُمْ نُجُومُ الْهُدَى لِلنَّاسِ فِي الدِّينِ الْكَاشِفِينَ بِمَا قَدْ حَرَّرُوهُ لَنَا ... عَنِ الْفُؤَادِ حِجَابَ الْجَهْلِ وَالرِّينِ مَا ضَاءَ بَرْقٌ وَمَا ضَاعَ الشَّذَا وَشَدَا ... حَادَ وَغَرَّدَ طَيْرٌ بِالْأَفَانِينِ أَئِمَّةَ الْعِلْمِ لَا زِلْتُمْ نُجُومَ هُدَى ... لِلْعَالَمِينَ بِإِظْهَارِ الْبَرَاهِينِ مَا حُكْمُ قَوْلِ إِلَهُ الْعَرْشِ خَالِقُنَا ... سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ كَيْفٍ وَعَنْ أَيْنِ فِي آيَةٍ هِيَ فِي الْأَحْزَابِ تَذْكُرُ أَنَّ ... الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَعْدِ الْعَظِيمَيْنِ غُفْرَانِ ذَنْبِهِمِ مَعْ عِظَمِ أَجْرِهِمِ ... يَوْمَ الْجَزَاءِ الَّذِي نَشْرُ الدَّوَاوِينِ هَلْ مَا أُعِدَّ لِمَجْمُوعِ الْفَضَائِلِ أَمْ ... لِكُلِّ فَرْدٍ أَمِ الْأَفْرَادُ بِالدُّونِ وَرُؤْيَةُ اللَّهِ هَلْ إِنْسٌ تُخَصُّ بِهَا ... أَمْ مُؤْمِنُو الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الْفَرِيقَيْنِ وَمُؤْمِنَاتُ الْوَرَى يَشْهَدْنَ رُؤْيَتَهُ ... كَالْمُؤْمِنِينَ الْحَنِيفِينَ التَّقِيِّينَ أَمْ لَا تَرَاهُ إِنَاثُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا ... جَوَابُكُمْ نِلْتُمْ عِزًّا بِدَارَيْنِ أَمْ بَعْضُهُنَّ يَرَى الْمَوْلَى كفاطمة ... ومريم وَحَلِيلَاتِ النَّبِيِّينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 مَا آيَةٌ هِيَ أَرْجَى فِي الْقُرْآنِ وَمَا أَشَدُّ خَوْفًا بِهِ عِنْدَ الْمَوَازِينِ ... مَتَى اشْتَرَى اللَّهُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْ مَنْ كَانَ هَذَا الشِّرَا هَلْ قَبْلَ تَكْوِينِ ... وَلَمْ يَخُصَّ بِأَمْوَالٍ وَأَنْفُسِهِمْ دُونَ الْقُلُوبِ وَفِيهَا مَعْدِنُ الدِّينِ ... أَمَشْرِقًا فَضَّلُوا أَمْ مَغْرِبًا وَسَمَا أَمْ أَرْضَنَا ثُمَّ مَا خَيْرُ الْأَرَاضِينِ ... أَيْنَ السَّمَاوَاتُ وَالْجَنَّاتُ أَفْضَلُ مِنْ بَاقٍ وَآيَةُ أَرْضٍ أَنْجُمُ الدِّينِ ... فِي الذِّكْرِ بُورِكَ لِلْأَنَامِ بِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَا أَفِيدُونِي ... مَا السِّرُّ فِي طَمْسِ نُورِ النَّيِّرَيْنِ غَدًا وَمَا السَّوَادُ يُرَى فِي الْبَدْرِ بِالْعَيْنِ ... أَيْنَ الذَّهَابُ لِشَمْسٍ بَعْدَ مَغْرِبِهَا هَلْ تَقْطَعُ اللَّيْلَ سَيْرًا تَحْتَ أَرْضِينِ ... وَهَلْ إِذَا غَرَبَتْ تَرْقَى فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ أَمْ لَا وَمَا مِقْدَارُهَا أَفْتُونِي ... أَيُّ الْبِلَادِ بِهَا الْمَهْدِيُّ يَظْهَرُ وَالْ مَسِيحُ يَنْزِلُ بِالرُّحْمَى أَجِيبُونِي ... وَأَيُّ شَهْرٍ وَيَوْمٍ أَيُّمَا جَبَلٍ وَأَيُّ بَحْرٍ لَهُمْ فَضْلًا بِتَعْيِينِ ... أَيٌّ بِأَفْضَلَ ذُو الْفَقْرِ الصَّبُورُ أَمِ الشْ شَكُورُ ذُو النِّعَمِ الْمُوسِي الْمَسَاكِينِ ... مَا أَوَّلُ خَلْقِهِ بَدْءٌ وَأَوَّلُ مَا بِاللَّوْحِ سُطِّرَ يَا أَهْلَ الْبَرَاهِينِ ... مَا حِكْمَةٌ فِي دُخُولِ الْمُؤْمِنِينَ لِنَّا رٍ ثُمَّ فِي قَسْمِ الْمَوْلَى بِطَاسِينِ ... وَالْمِيمُ تَالِيَةٌ مَا قَدْرُ ذَرَّةِ مَنْ يَعْمَلْ بِمِثْقَالِهَا خَيْرًا أَفِيدُونِي ... مَا حَدُّ عِلْمِ يَقِينٍ ثُمَّ عَيْنِ يَقِينِ ثُمَّ حَقِّ يَقِينٍ يَا أُولِي الدِّينِ ... هَلْ أَفْضَلُ الذِّكْرِ سِرٌّ أَمْ عَلَانِيَةٌ وَهَلْ يَجُوزُ بِأَنْوَاعِ التَّلَاحِينِ ... بِحَيْثُ تَزْدَادُ بِالتَّلْحِينِ أَحْرُفُهُ وَيَنْتِجُ الْحَرْفُ بِالْإِشْبَاعِ حَرْفَيْنِ ... مَا الْأَفْضَلُ اللَّبَنُ الْمُنْسَاغُ أَمْ عَسَلٌ وَمَاءُ زَمْزَمَ أَمْ مَا كَوْثَرَ افْتُونِي ... وَالْخَوْفُ أَمْ ضِدُّهُ وَاللَّيْلُ سَادَتُنَا أَمِ النَّهَارُ وَمَا سِرٌّ لِذِي الْكُونِ ... فِي خَلْقِ آدَمَ مِنْ طِينٍ وَلِمَ خُلِقَتْ حواء مِنْ ضِلْعٍ يَا أَهْلَ الْبَرَاهِينِ ... وَرَفْعُ عِيسَى وَلِمَ سُمِّيَ الْمَسِيحَ وَكَمْ يُقِيمُ إِذْ عَادَ مَنْ عَامٍ أَجِيبُونِي ... كَمْ قَدْ أَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ يُوسُفُ فِي سِجْنٍ وَفِي بَطْنِ حُوتٍ قَامَ ذُو النُّونِ ... هَلْ جَازَ إِنْشَادُ مَدْحِ الْهَاشِمِيِّ عَلَى آلَاتِ لَهْوٍ كَمَوْصُولٍ وَقَانُونِ ... وَهَلْ لِإِلْيَاسَ والخضر الْوَفِيِّ وَإِدْ رَيِسَ الْحَيَاةُ إِلَى ذَا الْوَقْتِ وَالْحِينِ ... وَالسَّيِّدُ الخضر الْمَرْضِيُّ هَلْ ثَبَتَتْ لَهُ النُّبُوَّةُ سَادَاتِي أَفِيدُونِي ... وَوَالِدَيْ خَيْرِ خَلْقِ مُنْقِذِنَا مِنَ الضَّلَالِ الرَّسُولِ ابْنِ الذَّبِيحَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 فِي جَنَّةٍ إِذْ هُمَا لَمْ يَعْبُدَانِ سِوَى ... ذِي الْعَرْشِ مَنْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ طِينِ مَاتَا عَلَى مِلَّةِ ابْرَاهِيمَ سَيِّدِنَا ... خَلِيلُهُ أَمَرَهُ ذَبْحَ الْقَرَابِينِ عَلَيْهِ وَالْمُصْطَفَى خَيْرُ الْأَنَامِ سَلَا ... مُ اللَّهِ ثُمَّ عَلَى كُلِّ النَّبِيِّينَ هَلْ قَائِلٌ غَيْرَ هَذَا تَعْلَمُونَ وَمَا ... عَلَيْهِ إِنْ قَالَ فِي حَقِّ الْحَنِيفِينِ مَا شَرْطُكُمْ لِوُجُوبَاتِ الْوُضُوءِ وَمَا ... شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ جُودُوا بِتَبْيِينِ مَا قَوْلُكُمْ فِي إِمَامٍ ثَوْبُهُ نَجِسٌ ... صَلَّى وَلَمْ يَدْرِ إِلَّا بَعْدَ يَوْمِينِ فَهَلْ عَلَيْهِمْ يُعِيدُوا أَمْ إِمَامُهُمُ ... أَمْ كُلُّهُمْ لَمْ يُعِيدُوهَا أَجِيبُونِي وَفِي خَطِيبٍ مُطِيلٍ سَجْعَ خُطْبَتِهِ ... وَعْظًا وَحَشْوًا بِأَنْوَاعِ التَّفَانِينِ وَفِيهِ إِيذَاءُ مَعْذُورٍ وَذِي سَقَمٍ ... وَصَاحِبِ الْحَاجَةِ اللُّهُفِ الْمَسَاكِينِ فَهَلْ تِلَاوَتُهُ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ أَمْ ... صَلَاةُ نَفْلٍ وَمَاذَا يَفُتُّ فِي ذِينِ مَا قَدْرُ قِيرَاطِ أَجْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى ... مَيْتٍ وَحِكْمَتُهَا صَفًّا وَصَفِّينِ مَنْ عِنْدَهُمْ لَمْ تَغِبْ شَمْسُ النَّهَارِ سِوَى ... قَدْرَ الصَّلَاةِ وَيَبْدُو الْفَجْرُ فِي الْحِينِ وَالصَّوْمُ وَافَى فَإِنْ صَلَّوْا يَفُوتُهُمُ ... مِنَ الْعَشَا مَا بِهِ يَقْوَوْا لِفَرْضِينِ أَيَأْكُلُونَ وَيَقْضُوا فَرْضَ مَغْرِبِهِمْ ... وَحُكْمُهُمْ فِي الْعَشَا مَاذَا أَجِيبُونِي مَنْ فِي السَّفِينَةِ صَلَّى وَهْيَ رَاسِيَةٌ ... بِالْبَرِّ هَلْ صَحَّ أَوْ مَوْحُولَةُ الطِّينِ هَلْ يَفْسَدُ الصَّوْمُ مَا تُبْقِيهِ مَضْمَضَةٌ ... مِنْ بَلَّةٍ بِفَمٍ أَمْ لَا أَفِيدُونِي مَا حُكْمُ بَيْعٍ عَلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ ... كُلِّ الْعُيُوبِ بِمَا قَدْ بِيعَ مِنْ عِينِ وَطَالِبٌ رَدَّ ذَا عَيْبٍ فَأَقْبَضَهُ ... عَنْ أَرْشِهِ خَصْمُهُ نَقْدًا مِنَ الْعِينِ هَلْ طَابَ هَذَا لَهُ أَمْ لَا وَيَمْنَعُهُ ... رَدًّا وَمَا الْحُكْمُ فِي ذَا بَيْنِ الِاثْنِينِ وَمُشْتَرِي أَمَةً فِي الْفَوْرِ أَنْكَحَهَا ... زَوْجًا وَطَلَّقَهَا مِنْ قَبْلِ تَمْكِينِ هَلْ ذَاكَ مُسْقِطُ اسْتِبْرَاءَهَا وَلِمَوْ ... لَاهَا الْوِقَاعُ وَالِاسْتِمْتَاعُ فِي الْحِينِ وَهَلْ يَصِحُّ لَنَا يَا سَادَتِي سَلَمٌ ... عَلَى الْفُلُوسِ إِذَا رَاجَتْ بِنَقْدِينِ أَمْ حُكْمُهَا فِي رَوَاجٍ وَالْكَسَادِ سَوَا ... وَبَيْعُهَا أَجَلًا هَلْ حُكْمُ هَذِينِ وَمَنْ أَقَرَّ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَنَأَى ... عَنِ الْبَيَانِ فَمَاذَا يُقْضَ بِالدِّينِ مَنْ ذَا يُزَوِّجُ مَنْ بِعِضَالِهَا عَتَقُوا ... مُحَرَّرُ الْبَعْضِ أَمْ غَيْرٌ أَفِيدُونِي مَا حُكْمُ عَقْدِ نِكَاحِ الْغَائِبِينَ إِذَا ... لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ أَبٍ وَالْجَدِّ الِاثْنِينِ وَزَوْجَةُ أَنْكَرَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا ... قَبْضَ الْمُعَجَّلِ مِنْ مَهْرٍ بِتَلْوِينِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 هَلْ قَوْلُهَا أَمْ مَقَالُ الزَّوْجِ مُعْتَبَرٌ جُودُوا وُقِيتُمْ بِتَوْضِيحٍ وَتَبْيِينِ ... وَذِي الْإِمَا هَلْ لَهُ وَطْءٌ لِوَاحِدَةٍ وَهُنَّ يَسْمَعْنَ أَوْ يَنْظُرْنَ بِالْعِينِ ... وَهَلْ لَهُ وَطْءُ إِحْدَى الزَّوْجَتَيْنِ وَرَا سِتَارِهِ وَلَهُمْ تَصْغَى بِأُذْنِينِ ... وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ وَطْءٌ بِحَضْرَةِ مَنْ قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مِنْهَا نُورَ عَيْنِينِ ... بِحَيْثُ لَا تُدْرِكُ الْعَمْيَاءُ مَا فَعَلَا وَمَا جَرَى بَيْنَ الِاثْنَيْنِ الْحَبِيبِينِ ... وَقَائِلٌ كُلَّمَا عَادَتْ إِلَيَّ سُعَادٌ بَانَتْ وَدَعْهَا بِنَارِ الْهَجْرِ تَكْوِينِي ... وَقَائِلٌ إِنْ تَبِنْ مِنِّي فَقَبْلُ تَكُنْ مِنْ عِصْمَتِي بَائِنًا أُولَى وَثِنْتِينِ ... وَبَعْدَ مَا أَصْدَرَ التَّعْلِيقَ طَلَّقَهَا مَا الْحُكْمُ فِيهِ وَسِرٌّ فِيهِ مَكْنُونِ ... وَمَنْ يُطَلِّقُ إِكْرَاهًا وَفِي سُكْرٍ مَا حُكْمُهُ ثُمَّ مَاذَا حُكْمُ مَدْيُونِ ... عَلَيْهِ عَشْرُ مَثَاقِيلَ مَيْءٍ كُلٌّ مِنَ الْعَشْرِ الْمِصْرِيَّةِ الْعِينِ ... قَرْضًا وَنُودِي عَلَى الْمِثْقَالِ خَمْسُ مَيْ ءٍ كَذَا عَلَى الْعَكْسِ مَا حُكْمٌ فِي الِاثْنِينِ ... وَقَائِلٌ لِفَتَاةٍ كَانَ يَأْلَفُهَا مِنْ فَاتِكَاتِ اللِّحَاظِ الْخُرَّدِ الْعِينِ ... لَئِنْ وَطِئْتُكِ فِي مِلْكِي فَأَنْتِ إِذَنْ عَتِيقَةٌ فَأُبِيعَتْ بَيْعَ تَمْكِينِ ... وَبَعْدُ عَادَتْ لَهُ مِلْكًا وَوَاقَعَهَا أَحُكْمُهَا عِتْقُهَا أَمْ لَا أَجِيبُونِي ... وَمَرْأَةٌ عَتَقَتْ مَنْ مَلَكَتْ وَلَدًا لَهَا صَغِيرًا بِذَاكَ الْوَقْتِ وَالْحِينِ ... وَالْحَالُ لَا قَائِلٌ شَرْعِيُّ مُعْتَبَرٌ لَهُ فَمَا صَحَّ مِنْ هَذَيْنِ الَامْرِينِ ... مَنْ أَكْرَهُوهُ عَلَى عِتْقٍ أَيَنْفُذُ ذَا أَمْ لَا وَإِكْرَاهُهُ مَا حَدُّهُ أَفْتُونِي ... أَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى خَمْرٍ أَيَشْرَبُهَا أَمْ لَا وَيَقْضِي اصْطِبَارًا غَيْرَ مَفْتُونِ ... هَلْ مِنْ مُجَوِّزِ قَتْلٍ لِلْكِلَابِ لِإِفْ سَادِ الطَّرِيقِ بِتَنْجِيسِ الْخَبِيثِينِ ... هَلْ فَاسِقٌ مُدَّعٍ بِضَرْبِ مَنْدَلِهِ جَمْعًا لِجِنٍّ لِمَلْمُوسٍ وَمَجْنُونِ ... وَهَلْ مِنَ السِّحْرِ تَأْلِيبٌ وَتَفْرِقَةٌ وَكَتْبُ حِرْزٍ وَحُجْبٍ لِلْمَجَانِينِ ... مَا لَيْسَ بِالْعَرَبِيِّ مَعْنَاهُ يُفْهَمُ هَلْ تَحِلُّ رُقْيَا بِهِ أَمْ لَا أَجِيبُونِي ... مَا الْحُكْمُ فِي ذَاكِرِ الْأَشْهَادِ مُمْتَنِعٍ عَنِ الْأَدَا طَالِبًا أَجْرًا أَفِيدُونِي وَشَاهِدٌ قَالَ لَمْ أَشْهَدْ بِذَا أَبَدًا ... وَبَعْدَهُ ذَاكَرَ الْإِشْهَادَ فِي حِينِ أَمِنْهُ تُقْبَلُ أَمْ تُلْغَى شَهَادَتُهُ ... فِيهِ بِذَلِكَ يَا أَهْلَ الْبَرَاهِينِ وَحَاكِمٌ مُنْكِرٌ حُكْمًا بِهِ شَهِدَا ... عَلَيْهِ يُقْبَلُ أَمْ قَوْلُ الشَّهِيدِينِ فَهَلْ لِذِي الْجَهْلِ تَصْحِيحُ الْوِلَايَةِ أَمْ ... شَرْطُ الْقَضَا عِلْمُهُ الْأَحْكَامَ فِي الدِّينِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِلْمٍ لَهُ نَقَلُوا عَنِ الْإِمَامِ أبي الفضل بن سيرين ... أَعْنِي بِذَا الْعِلْمِ تَعْبِيرَ الْمَنَامِ وَإِخْبَارَ الْمُعَبِّرِ عَنْ غَيْبٍ وَمَكْنُونِ ... يَقُولُ قَدْ دَلَّتِ الرُّؤْيَا بِأَنْ سَيَكُنْ كَذَا مِنَ الْأَمْرِ فِي عِلْمِي وَتَيْقِينِي ... هَلْ آثِمٌ بِالَّذِي يُنْبِي الْمُعَبِّرُ أَمْ لَا إِثْمَ فِيهِ أَجِيبُونِي بِتَبْيِينِ ... مَا حِكْمَةُ اللَّهِ فِي عَوْدِ النَّبِيِّ رُسُو لِ اللَّهِ عِيسَى إِلَى أَرْضٍ أَجِيبُونِي ... مَاذَا جَوَابُكُمُ فِيمَنْ يَمُدُّ عَلَى هَمْزِ الْجَلَالَةِ فِي تَكْبِيرِهِ أَفْتُونِي ... وَمَنْ يَمُدُّ عَلَى لَامِ الْجَلَالَةِ أَوْ هَاءِ الْجَلَالَةِ يَا أَهْلَ الْبَرَاهِينِ ... هَلْ بَيْنَ هَذِي السَّمَا وَالْأَرْضِ سَادَتَنَا بَحْرٌ مِنَ الْمَا يَقِينًا أَوْ بِمَظْنُونِ ... وَهَلْ بِهِ فَلَكٌ تَجْرِي كَوَاكِبُهُ بِهِ كَشَمْسٍ وَبَدْرٍ ثُمَّ بَاقِينِ ... أَمْ سَيْرُ بَدْرٍ كَمَا قَالُوا بِأَوَّلَةٍ كَذَا بِرَابِعَةٍ شَمْسٌ أَفِيدُونِي ... نِلْتُمْ ثَوَابًا مِنَ الْمَوْلَى وَمَغْفِرَةً عَلَى الدَّوَامِ وَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى أَعْلَى الْوَرَى شَرَفًا مُحَمَّدِ الْمُصْطَفَى خَيْرِ النَّبِيِّينِ ... وَالْآلِ وَالصَّحْبِ مَا هَبَّ الصَّبَا وَصَبَا صَبٌّ لِذِكْرِ أَحَادِيثِ الْمُحِبِّينِ [تَعْرِيفُ الْفِئَةِ بِأَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ الْمِائَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَبَعْدُ فَإِنِّي رَجُلٌ حُبِّبَ إِلَيَّ الْعِلْمُ وَالنَّظَرُ فِيهِ دَقِيقُهُ وَجَلِيلُهُ، وَالْغَوْصُ عَلَى حَقَائِقِهِ، وَالتَّطَلُّعُ إِلَى إِدْرَاكِ دَقَائِقِهِ، وَالْفَحْصُ عَنْ أُصُولِهِ، وَجُبِلْتُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَيْسَ فِيَّ مَنْبَتُ شَعْرَةٍ إِلَّا وَهِيَ مَمْحُونَةٌ بِذَلِكَ، وَقَدْ أُوذِيتُ عَلَى ذَلِكَ أَذًى كَثِيرًا مِنَ الْجَاهِلِينَ وَالْقَاصِرِينَ، وَذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْعُلَمَاءِ السَّالِفِينَ، فَلَمْ يَزَالُوا مُبْتَلِينَ بِأَسْقَاطِ الْخَلْقِ وَأَرَاذِلِهِمْ، وَبِمَنْ هُوَ مِنْ طَائِفَتِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَقِ إِلَى مَحَلِّهِمْ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ مَا قَاسَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ نافع بن الأزرق، وَمَا أَسْمَعَهُ مِنَ الْأَذَى وَمَا تَعَنَّتَهُ بِهِ مِنَ الْأَسْئِلَةِ، وَأَسْئِلَةُ نافع بن الأزرق لِابْنِ عَبَّاسٍ مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ لَنَا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ، مُدَوَّنَةٌ فِي ثَلَاثِ كَرَارِيسَ، وَقَدْ سُقْتُ غَالِبَهَا فِي الْإِتْقَانِ، وَقَوْلُ نافع لِرَفِيقِهِ لَمَّا أَرَادَ تَعَنُّتَ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُمْ بِنَا إِلَى هَذَا الَّذِي نَصَبَ نَفْسَهُ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَتَّى نَسْأَلَهُ. وَرَدَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ رَدٍّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وَمِنَ الْمَعْرُوفِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مَا قَاسَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ مِنْ جُهَّالِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَشَكْوَاهُمْ إِيَّاهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، حَتَّى قَالَ لَهُ عمر: شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى قَالُوا: إِنَّكَ لَا تُحْسِنُ أَنْ تُصَلِّيَ! فَانْظُرُوا بِاللَّهِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا الْبَارِحَةَ يَزْعُمُونَ فِي صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَانَ يُسَمَّى ثُلُثَ الْإِسْلَامِ أَوْ رُبُعَهُ - أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْمَعْلُومِ مَا قَاسَاهُ الْإِمَامُ مالك مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ لَمَّا بَرَزَ عَلَيْهِمْ، وَمَا قَاسَاهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ لَمَّا أَلَّفَ الرَّدَّ عَلَى مالك وَاضْطِرَابُ الْبَلَدِ حَتَّى كَادَ الْبَلَدُ يَفْتَتِنُ، وَمَا قَاسَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَنْدَادِهِ، وَالْغَزَالِيُّ مِنْ أَعْدَائِهِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَدِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَظَهَرَ لَهُمُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، وَالْأَرْفَعُ رُتْبَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَظَهَرَ لَنَا مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِبَقَاءِ كَلَامِ هَذِهِ الْأَئِمَّةِ وَانْتِشَارِهِ، وَظُهُورِهِ وَاضْمِحْلَالِ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ وَطَمْسِ ذَلِكَ وَدُثُورِهِ. وَهَذِهِ الْأَسْئِلَةُ قَدْ رُفِعَتْ إِلَيَّ، وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى فَضْلِ نَظَرٍ وَسِعَةِ اطِّلَاعٍ، فَأَجَبْتُ عَنْهَا أَوَّلًا نَثْرًا، ثُمَّ أَعْقِدُهُ نَظْمًا، فَأَقُولُ: أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ، فَقَدْ وَرَدَ عَلَيَّ مِنْ مُدَّةٍ وَأَجَبْتُ عَنْهُ بِمَا نَصُّهُ: الْإِعْدَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِنَ الصِّفَاتِ، لَا عَلَى فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الصِّفَاتِ، وَالْمَعْطُوفَاتُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَةِ لَا مِنْ عَطْفِ الذَّوَاتِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْبَالِغُونَ دَرَجَةَ الْكَمَالِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُعَدِّ أَكْمَلُ مَا أُعِدَّ ; بِدَلِيلِ تَنْكِيرِ مَغْفِرَةٍ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَتَنْكِيرِ أَجْرٍ الدَّالِّ عَلَيْهِ أَيْضًا وَوَصْفِهِ تَعْظِيمًا، وَإِذَا قَالَ اللَّهُ لِشَيْءٍ عَظِيمٌ فَهُوَ عَظِيمٌ جِدًّا لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِمَّا أُعِدَّ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّصِفُوا بِكُلِّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ بِبَعْضِهَا، فَإِنَّ أَجْرَهُمْ دُونَ ذَلِكَ، هَذَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِنْبَاطِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمَعَانِي، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ عَنِ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ: إِنَّ الْمَوْعُودَ فِي الْقُرْآنِ بِالْجَنَّةِ لَمْ يَقَعْ مُرَتَّبًا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْإِيمَانِ، بَلْ لَمْ يَقَعْ إِلَّا مَقْرُونًا بِاشْتِرَاطِ انْضِمَامِ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ، ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْحَثِّ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْأَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كُلٌّ مِنْهَا جُزْءُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كُلٌّ مِنْهَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ اسْتِقْلَالًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِنْبَاطِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ فَرْدٍ مَحْكُومًا عَلَيْهِ اسْتِقْلَالًا لَزِمَ الْحُكْمُ عَلَى فَرْدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ كَالصَّوْمِ أَوِ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ مُجَرَّدًا عَنِ الْوَصْفِ الْمُصَدَّرِ بِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِذَا بَطَلَ اللَّازِمُ بَطَلَ الْمَلْزُومُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا مُسْتَثْنًى لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ، قُلْتُ: وَالْبَاقِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 وَأَسَالِيبِ الْبَيَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الِاجْتِهَادِ أَنْتَجَتْ لِلْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْإِعْدَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَذَكَرَ صَاحِبُ " آكَامِ الْمَرْجَانِ فِي أَحْكَامِ الْجَانِّ " أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ الشَّيْخِ عز الدين بن عبد السلام فِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ - أَنَّ الْجِنَّ أَيْضًا لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ. وَمُسْتَنَدُ الشَّيْخِ عز الدين فِي الْمَلَائِكَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] خُصَّ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ، فَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ، لَكِنْ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ عز الدين فِي الْمَلَائِكَةِ مَمْنُوعٌ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَلَّفْتُهُ فِي الرُّؤْيَةِ، وَمَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْآكَامِ " فِي الْجِنِّ خَالَفَهُ فِيهِ الْبَلْقِينِيُّ وَمَالَ إِلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَ، وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّ الْجِنَّ تَحْصُلُ لَهُمُ الرُّؤْيَةُ فِي الْمَوْقِفِ مَعَ سَائِرِ الْخَلْقِ قَطْعًا، وَيَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فِي وَقْتٍ مَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِذَلِكَ، لَكِنْ بِاحْتِمَالٍ رَاجِحٍ، أَمَّا أَنَّهُمْ يُسَاوُونَ الْإِنْسَ فِي الرُّؤْيَةِ كُلَّ جُمُعَةٍ فَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: فَقَدْ حَكَى ابن كثير فِي كِتَابِ " الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ " فِي رُؤْيَةِ النِّسَاءِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ ; أَحَدُهَا: أَنَّهُنَّ يَرَيْنَ ; إِدْرَاجًا لَهُنَّ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الرُّؤْيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ لَا يَرَيْنَ أَصْلًا لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِرُؤْيَتِهِنَّ فِي الْحَدِيثِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُنَّ يَرَيْنَ فِي الْأَعْيَادِ خَاصَّةً، وَلَا يَرَيْنَ مَعَ الرِّجَالِ فِي أَيَّامِ الْجُمَعِ ; لِوُرُودِ حَدِيثٍ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ هُوَ الرَّاجِحُ، وَبِهِ جَزَمَ ابن رجب، وَأَنَا أَسْتَثْنِي أَزْوَاجَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَنَاتِهِمْ وَسَائِرَ الصِّدِّيقَاتِ فَأَقُولُ: إِنَّهُنَّ يَرَيْنَ فِي غَيْرِ الْأَعْيَادِ أَيْضًا ; خُصُوصِيَّةً لَهُنَّ، كَمَا اخْتُصَّ الصِّدِّيقُونَ مِنَ الرِّجَالِ بِمَزِيَّةٍ فِي الرُّؤْيَةِ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُؤَلَّفٍ مُسْتَقِلٍّ سَمَّيْنَاهُ " إِسْبَالَ الْكِسَاءِ عَلَى النِّسَاءِ " وَلَخَّصْنَاهُ فِي مُخْتَصَرٍ سَمَّيْنَاهُ " رَفْعَ الْأَسَى عَنِ النِّسَا ". وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ، وَالْخَامِسُ: فَذَكَرَ صَاحِبُ كَشْفِ الْأَسْرَارِ عَمَّا خَفِيَ عَنِ الْأَفْكَارِ أَنَّهُ قِيلَ فِي أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] ، وَقِيلَ: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48] وَقِيلَ: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] وَقِيلَ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] وَقِيلَ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] وَقِيلَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَقِيلَ: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] وَقِيلَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] وَقِيلَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] وَقِيلَ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] . وَقَالَ فِي أَخْوَفِ آيَةٍ قِيلَ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وَقِيلَ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31] وَقِيلَ: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] وَقِيلَ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وَقِيلَ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] وَقِيلَ: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] وَقِيلَ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] الْآيَةَ. وَأَقُولُ: بَقِيَ فِي أَرْجَى آيَةٍ أَقْوَالٌ، فَقِيلَ: قَوْلُهُ: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] . وَقِيلَ: قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وَقِيلَ قَوْلُهُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وَقِيلَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116] وَقِيلَ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22]- إِلَى قَوْلِهِ -: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] وَقِيلَ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] وَقِيلَ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] وَقِيلَ: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 15] وَقِيلَ: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48] وَقِيلَ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . وَقِيلَ: آيَةُ الدَّيْنِ. وَبَقِيَ فِي أَخْوَفِ آيَةٍ أَقْوَالٌ ; فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 2 - 3] وَعَنِ الشبلي قَالَ: أَخْوَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَلَى طَالِبِي أَهْلِ الدُّنْيَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] وَأَخْرَجَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ أَخْوَفَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ: فَأَقُولُ: إِنَّ الشِّرَاءَ قَدْ وَقَعَ فِي الْأَزَلِ بِالْعِلْمِ وَعِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا شَأْنُ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: اشْتَرَى صِفَةُ فِعْلٍ مُسْنَدَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ السَّابِعِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَزَلِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ فِي عَالَمِ الذَّرِّ، لَكِنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى وُرُودِ حَدِيثٍ بِهِ أَوْ أَثَرٍ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّامِنُ: فَإِنَّمَا خَصَّ الْأَمْوَالَ، وَالْأَنْفُسَ وَهِيَ الْأَرْوَاحُ ; لِأَنَّهُمَا أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْخَلْقِ، فَأَعَزُّ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ نَفْسُهُ الَّتِي هِيَ رُوحُهُ، وَالْمَالُ عَدِيلُ الرُّوحِ، فَاشْتَرَى مِنْهُمُ الْأَنْفُسَ لِيَبْذُلُوهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْأَمْوَالَ لِيُنْفِقُوهَا فِي الْجِهَادِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُلُوبَ ; لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْقَلْبِ مَا هُوَ حَالٌّ فِيهِ وَهُوَ الرُّوحُ فَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ الْحَالُّ وَهُوَ الْأَنْفُسُ، فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْمَحِلِّ الَّذِي هُوَ وِعَاءٌ مَحْضٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقَلْبِ الْمَحِلُّ الَّذِي هُوَ الشَّكْلُ الصُّنُوبَرِيُّ وَهُوَ الْوِعَاءُ فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُذْكَرَ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قِطْعَةِ لَحْمٍ وَجُزْءٍ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ ذَكَرَ مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَأَعَزُّ مِنْ كُلِّ الْبَدَنِ، وَهِيَ الْأَنْفُسُ، فَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْقُلُوبِ مَعْنًى. وَأَمَّا السُّؤَالُ التَّاسِعُ: فَقَالَ صَاحِبُ " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " قَالَ الطوخي فِي " أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ ": اخْتُلِفَ فِي أَيِّ الْجِهَتَيْنِ أَفْضَلُ ; الْمَشَارِقَةُ: الْمَشْرِقُ أَفْضَلُ، وَاحْتَجُّوا بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَوْضِعٍ إِلَّا قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَشْرِقِ. الثَّانِي: الْفَضَاءُ يَكُونُ مُظْلِمًا فَلَا يُضِيءُ إِلَّا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْفِقْهِ مِنَ الشَّرْقِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي بُورِكَ فِيهَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ وَالشَّامِ وَأَرْضُ الْجَزِيرَةِ مِنَ الْمَشْرِقِ ; لِأَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَرْضَ مِصْرَ حَدُّ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَمَا كَانَ مِنْ مِصْرَ إِلَى جِهَةِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ فَهُوَ مَشْرِقٌ، فَيَتَنَاوَلُ الْحِجَازَ، وَالشَّامَ، وَالْيَمَنَ، وَالْعِرَاقَ وَمَا بَعْدَهَا، وَالْمِصْرُ فِي اللُّغَةِ: الْحَدُّ ; وَلِذَا سُمِّيَتْ مِصْرُ بِمِصْرَ. وَاحْتَجَّ الْمَغَارِبَةُ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْمَغْرِبِ فِي قِصَّةِ ذي القرنين، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ» ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الثَّابِتَ: وَهُمْ بِالشَّامِ غَرْبِيَّ الْمَدِينَةِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْغَرْبِ فَلَا يَثْبُتُ، وَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَرْبِ وَهُوَ الدَّلْوُ الَّتِي يُسْتَقَى بِهَا، وَأَكْثَرُهُمْ بِالْيَمَنِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَغْرِبَ اخْتُصَّ بِظُهُورِ الْأَهِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 وَالْحَجِّ يَرْمُقُهَا أَبْصَارُ النَّاسِ دُونَ الْمَشْرِقِ، وَعُورِضَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَبِأَنَّ الْقَمَرَ يَطْلُعُ أَوَّلًا مِنَ الْمَشْرِقِ مَمْحُوقًا ثُمَّ يَظْهَرُ بِالْمَغْرِبِ، وَبِأَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ سِعَتُهُ أَرْبَعِينَ عَامًا ثُمَّ أَنَّهُ يُغْلَقُ بِالْمَغْرِبِ. الرَّابِعُ: أَنَّ المهدي يَظْهَرُ بِالْمَغْرِبِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمَشْهُورَ ظُهُورُهُ بِمَكَّةَ أَوِ الْيَمَنِ أَوِ الْعِرَاقِ، قَالَتِ الْمَغَارِبَةُ: نَحْنُ لَا يَظْهَرُ الدجال مِنْ عِنْدِنَا، وَلَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَلَا سَائِرُ الْفِتَنِ، وَلَا أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَلَدِنَا فَقَالَ: الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا. قَالَتِ الْمَشَارِقَةُ: هَذَا عُدُولٌ عَنْ تَقْرِيرِ الْمَنَاقِبِ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالْمَثَالِبِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَكْفِيكُمْ أَنَّ الشَّمْسَ آيَةُ النَّهَارِ، وَأَنَّهَا تَغْرُبُ عِنْدَكُمْ وَتُظْلِمُ الْأَقْطَارُ، وَيُغْلَقُ بَابُ التَّوْبَةِ مِنْ جِهَتِكُمْ فَلَا تَنْفَعُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ. وَأَقُولُ: لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدِي تَفْضِيلُ الْمَشْرِقِ عَلَى الْمَغْرِبِ وَلَا عَكْسُهُ ; لِتَعَارُضِ دَلِيلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنَّ أُفَضِّلَ الْمَشْرِقَ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بُعِثُوا مِنْهُ، وَلَمْ نَقِفْ أَنَّهُ بُعِثَ مِنَ الْمَغْرِبِ نَبِيٌّ، ثُمَّ وَقَفْتُ عَنْ ذَلِكَ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بُعِثَ مِنْهُ نَبِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ خَبَرٌ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِائَةُ أَلْفِ نَبِيٍّ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ، فَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مِنَ الْمَغْرِبِ؟ وَلَمْ تَرِدِ الْأَخْبَارُ بِتَفْضِيلِ حَالِ خَمْسِينَ نَبِيًّا فَضْلًا عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُؤْخَذَ مِنْهَا. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْعَاشِرُ: فَقَالَ صَاحِبُ " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى تَفْضِيلِ الْأَرْضِ عَلَى السَّمَاءِ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ خُلِقُوا مِنْهَا، وَعَبَدُوا اللَّهَ فِيهَا، وَدُفِنُوا فِيهَا. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْحَادِي عَشَرَ: فَذَكَرَ صَاحِبُ " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " مَا نَصُّهُ- فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ -الْأَرْضُ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِمَّا تَحْتَهَا ; لِاسْتِقْرَارِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فِيهَا، وَلِانْتِفَاعِنَا بِهَا، وَدَفْنِ الْأَنْبِيَاءِ بِهَا، وَهِيَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَغَيْرِهِ. قُلْتُ: وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي عَشَرَ: فَفِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ قَالَ بَعْضُهُمْ: السَّمَاءُ الْأُولَى أَفْضَلُ مِمَّا سِوَاهَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] قُلْتُ: وَرَدَ الْأَثَرُ بِخِلَافِهِ. أَخْرَجَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَيِّدُ السَّمَاوَاتِ، السَّمَاءُ الَّتِي فِيهَا الْعَرْشُ، وَسَيِّدُ الْأَرَاضِينَ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ عَشَرَ: فَأَخْرَجَ الشَّيْخَانُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ; فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْفِرْدَوْسُ مَقْصُورَةُ الرَّحْمَنِ، فِيهَا خِيَارُ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ» . وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ عَشَرَ: فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قَالَ: الشَّامُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أبي العالية قَالَ: هِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَاءٍ فِي الْأَرْضِ عَذْبٍ هُوَ مِنْهَا، يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ الصَّخْرَةِ الَّتِي فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الصَّخْرَةِ، ثُمَّ يَتَفَرَّقُ فِي الْأَرْضِ، وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: هِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَهِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَالْمَنْشَرِ، وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَبِهَا يَهْلِكُ مَسِيحُ الضَّلَالَةِ الدجال. وَأَخْرَجَ عَنْ كعب قَالَ: هِيَ حَرَّانُ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ العوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قَالَ: يَعْنِي مَكَّةَ وَنُزُولَ إِسْمَاعِيلَ الْبَيْتَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] . وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ عَشَرَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُطْمَسُ نُورُهُمَا، وَيُلْقَيَانِ فِي جَهَنَّمَ ; لِيَظْهَرَ لِعَبَدَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَنَّهُمَا لَيْسَا آلِهَةً ; لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا آلِهَةً لَدَفَعَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا، وَلَمَا ذَهَبَ ضَوْؤُهُمَا، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي ذَهَابِ ضَوْئِهِمَا فِي الدُّنْيَا بِالْخُسُوفِ، وَإِنَّمَا أُلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيُقَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُونَهُمْ فِي جَهَنَّمَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ عَشَرَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ ": إِنْ قِيلَ: مَا هَذَا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ؟ قِيلَ: سَأَلَ ابن اللواء عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ أَثَرُ مَسْحِ جَنَاحِ جِبْرِيلَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ نُورَ الْقَمَرِ سَبْعِينَ جُزْءًا، وَكَذَلِكَ نُورَ الشَّمْسِ، ثُمَّ أَتَى جِبْرِيلُ فَمَسَحَهُ بِجَنَاحِهِ، فَمَحَا مِنَ الْقَمَرِ تِسْعَةً وَسِتِّينَ جُزْءًا فَحَوَّلَهَا إِلَى الشَّمْسِ، فَأَذْهَبَ عَنْهُ الضَّوْءَ وَأَبْقَى فِيهِ النُّورَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ وَجَدْتَهَا حُرُوفًا أَوَّلُهَا الْجِيمُ وَثَانِيهَا الْمِيمُ وَثَالِثُهَا الْيَاءُ وَاللَّامُ أَلِفٍ آخِرُ الْكُلِّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ جَمِيلًا، وَقَدْ شَاهَدْتُ ذَلِكَ وَقَرَأْتُهُ مَرَّاتٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ خَلَقَهُ جَمِيلًا. قُلْتُ: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السواد الَّذِي فِي الْقَمَرِ فَقَالَ: كَانَا شَمْسَيْنِ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء: 12] قَالَ: وَالَّذِي رَأَيْتَ هُوَ الْمَحْوُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وابن مردويه بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ شَمْسَيْنِ مِنْ نُورِ عَرْشِهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَدَعُهَا شَمْسًا فَإِنَّهُ خَلَقَهَا مِثْلَ الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِهَا مَا بَيْنَ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَطْمِسُهَا وَيَجْعَلُهَا قَمَرًا، فَإِنَّهُ خَلَقَهَا دُونَ الشَّمْسِ فِي الْعِظَمِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يُرَى صِغَرُهَا لِشِدَّةِ ارْتِفَاعِ السَّمَاءِ وَبُعْدِهَا مِنَ الْأَرْضِ، فَلَوْ تَرَكَ الشَّمْسَ كَمَا كَانَ خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ لَمْ يُعْرَفِ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ وَلَا النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَدْرِ الصَّائِمُ مَتَى يَصُومُ وَمَتَى يُفْطِرُ، وَلَمْ يَدْرِ الْمُسْلِمُونَ مَتَى وَقْتُ حَجِّهِمْ وَكَيْفَ عَدَدُ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ وَالْحِسَابِ، فَأَرْسَلَ جِبْرِيلَ فَأَمَرَّ جَنَاحَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ -وَهُوَ يَوْمَئِذٍ شَمْسٌ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَطَمَسَ عَنْهُ الضَّوْءَ وَبَقِيَ فِيهِ النُّورُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] » وَأَخْرَجَ عبد الرزاق فِي " الْمُصَنَّفِ " عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَتَبَ هرقل إِلَى معاوية يَسْأَلُهُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَيُّ مَكَانٍ إِذَا صَلَّيْتَ فِيهِ ظَنَنْتَ أَنَّكَ لَمْ تُصَلِّ إِلَى قِبْلَةٍ، وَأَيُّ مَكَانٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مَرَّةً لَمْ تَطْلُعْ فِيهِ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وَعَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، فَأَرْسَلَ معاوية إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا الْمَكَانُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالْبَحْرُ حِينَ فَرَقَهُ اللَّهُ لِمُوسَى، وَأَمَّا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ فَهُوَ الْمَحْوُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّابِعُ عَشَرَ، وَالثَّامِنُ عَشَرَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ يَبْتَلِعُهَا حُوتٌ، وَقِيلَ: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْحَمْأَةُ -بِالْهَمْزِ- ذَاتُ حَمْأَةٍ وَطِينٍ، وَقُرِئَتْ " حَامِيَةٍ " بِغَيْرِ هَمْزٍ، أَيْ حَارَّةٍ سَاخِنَةٍ. قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: وَقِيلَ: إِنَّهَا تَطْلُعُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَتَقُولَ: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمًا يَعْصُونَكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَنْزِلُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى تَطْلُعَ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَإِذَا نَزَلَتْ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا طَلَعَ الْفَجْرُ حِينَئِذٍ. وَقَالَ إمام الحرمين وَغَيْرُهُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ عِنْدَ قَوْمٍ وَتَطْلُعُ عَلَى آخَرِينَ، وَاللَّيْلَ يَطُولُ عِنْدَ قَوْمٍ وَيَقْصُرُ عِنْدَ آخَرِينَ، وَعِنْدَ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ يَكُونُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مُسْتَوِيَيْنِ أَبَدًا. وَسُئِلَ الشَّيْخُ أبو حامد عَنْ بِلَادِ بُلْغَارَ كَيْفَ يُصَلُّونَ؟ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الشَّمْسَ لَا تَغْرُبُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ ثُمَّ تَطْلُعُ، فَقَالَ: يُعْتَبَرُ صَوْمُهُمْ وَصَلَاتُهُمْ بِأَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ، وَالْأَحْسَنُ -وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ -أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الدجال الَّذِي كَسَنَةٍ وَكَشَهْرٍ: (قَدِّرُوا لَهُ) حِينَ سَأَلَهُ الصَّحَابَةُ عَنِ الصَّوْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وَالصَّلَاةِ فِيهِ، وَبُلْغَارُ -بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ فِي آخِرِهِ -أَقْصَى بِلَادِ التُّرْكِ. وَذَكَرَ لِي بَعْضُهُمْ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا غَرَبَتْ عِنْدَهُمْ مِنْ هَاهُنَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَارَ يَمْشِي قَلِيلًا ثُمَّ تَطْلُعُ الشَّمْسُ. وَبِهَذَا الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ تَرَدُّدٍ أَبْدَاهُ القرافي فِي قَوْمٍ لَا تَغِيبُ الشَّمْسُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مِقْدَارَ الصَّلَاةِ، فَهَلْ يَشْتَغِلُونَ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ أَوْ بِالْأَكْلِ حَتَّى يَقْوَوْا عَلَى صَوْمِ الْغَدِ إِذَا كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ؟ وَإِذَا عَلِمْتَ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ اللَّيْلَ يَقْصُرُ عِنْدَ قَوْمٍ وَيَطُولُ عِنْدَ آخَرِينَ ظَهَرَ لَكَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: " «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَذْهَبُ ثُلُثُ اللَّيْلِ» " - وَفِي رِوَايَةٍ: " «حِينَ يَذْهَبُ نِصْفَ اللَّيْلِ» " وَيَقُولُ: " «هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ؟» " الْحَدِيثَ. وَكَذَا أَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَهُوَ أَنَّ نُزُولَ الْمَلِكِ يَكُونُ دَائِمًا نِصْفَ اللَّيْلِ، قَالَ: وَنِصْفُ اللَّيْلِ يَكُونُ نِصْفًا عِنْدَ قَوْمٍ وَثُلُثًا عِنْدَ آخَرِينَ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، قَالَ: وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَحْدَثَتْ فِي الْعَالَمِ حَرَكَةً بِطَبْعِهَا وَحَرَارَتِهَا، فَلَا يَبْقَى حَيَوَانٌ نَائِمٌ إِلَّا وَتَحَرَّكَ ; لِأَنَّهَا تَقْرُبُ مِنَ الْأَرْضِ، فَإِذَا تَحَرَّكَ اسْتَيْقَظَ فِي الْغَالِبِ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ تَلَقَّاهُ الْمُنَادِي وَنَشَّطَهُ إِلَى الْقِيَامِ إِلَى الطَّاعَةِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ طَالِبِ حَاجَةٍ؟ . فَهَذِهِ أَسْرَارٌ غَرِيبَةٌ وَمَعَانٍ لَطِيفَةٌ، فَسُبْحَانَ مَنْ هَذَا عَطَاؤُهُ، وَجَلَّ مَنْ هَذَا قَضَاؤُهُ. قُلْتُ: الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَهَابِ الشَّمْسِ بَعْدَ غُرُوبِهَا ; فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ «عَنْ أبي ذر قَالَ: " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: يَا أبا ذر، تَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] » . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ: " «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَنْتَهِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ عِنْدَ رَبِّهَا، ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا وَتُطْلَبَ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ قِيلَ لَهَا: اطْلُعِي مِنْ مَكَانِكِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] » " وَأَخْرَجَ عبد الرزاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا أَنْ تَطْلُعَ، فَتَرُدَّهَا ذُنُوبُ بَنِي آدَمَ، فَإِذَا غَرَبَتْ سَلَّمَتْ وَسَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ، فَيُؤْذَنُ لَهَا، حَتَّى إِذَا غَرَبَتْ سَلَّمَتْ وَسَجَدَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ، فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، فَتَقُولُ: إِنِ السَّيْرَ بَعِيدٌ، وَإِنِّي إِنْ لَا يُؤْذَنْ لِي لَا أَبْلُغُ، فَتُحْبَسُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ: اطْلُعِي مِنْ حَيْثُ غَرَبْتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 قَالَ الحافظ ابن حجر فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ ": لَا تَخَالُفَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ نِهَايَةُ مَدْرَكِ الْبَصَرِ إِلَيْهَا حَالَ الْغُرُوبِ، وَسُجُودُهَا تَحْتَ الْعَرْشِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَقَالَ الخطابي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِاسْتِقْرَارِهَا تَحْتَ الْعَرْشِ أَنَّهَا تَسْتَقِرُّ تَحْتَهُ اسْتِقْرَارًا لَا نُحِيطُ بِهِ نَحْنُ، وَلَيْسَ فِي سُجُودِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ مَا يُعِيقُ عَنْ دَوَرَانِهَا فِي سَيْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وأبو الشيخ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِيَةِ تَجْرِي بِالنَّهَارِ فِي السَّمَاءِ فِي فَلَكِهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ جَرَتِ اللَّيْلَ فِي فَلَكِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى تَطْلُعَ مِنْ مَشْرِقِهَا، وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دَارَتْ فِي فَلَكِ السَّمَاءِ مِمَّا يَلِي دُبُرَ الْقِبْلَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْمَشْرِقِ الَّذِي تَطْلُعُ مِنْهُ، وَتَجْرِي فِي السَّمَاءِ مِنْ شَرْقِهَا إِلَى غَرْبِهَا، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى الْأُفُقِ مِمَّا يَلِي دُبُرَ الْقِبْلَةِ إِلَى شَرْقِهَا، كَذَلِكَ هِيَ مُسَخَّرَةٌ فِي فَلَكِهَا، وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عكرمة قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ إِذَا غَرَبَتْ دَخَلَتْ بَحْرًا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتُسَبِّحُ اللَّهَ، حَتَّى إِذَا هِيَ أَصْبَحَتِ اسْتَعْفَتْ رَبَّهَا مِنَ الْخُرُوجِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: إِنِّي إِذَا خَرَجْتُ عُبِدْتُ مِنْ دُونِكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ إِذَا غَرَبَتْ رُفِعَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فِي سُرْعَةِ طَيَرَانِ الْمَلَائِكَةِ، وَتُحْبَسُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنُ مِنْ أَيْنَ تُؤْمَرُ بِالطُّلُوعِ، ثُمَّ يُنْطَلَقُ بِهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَبَيْنَ أَسْفَلِ دَرَجَاتِ الْجِنَانِ فِي سُرْعَةِ طَيَرَانِ الْمَلَائِكَةِ، فَتَنْحَدِرُ حِيَالَ الْمَشْرِقِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ فَذَلِكَ حِينَ يَنْفَجِرُ الصُّبْحُ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ السَّمَاءِ فَذَلِكَ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ. وَأَخْرَجَ ابن عساكر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، «أَنَّ خزيمة بن حكيم السلمي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَرِّ الْمَاءِ فِي الشِّتَاءِ وَبَرْدِهِ فِي الصَّيْفِ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ إِذَا سَقَطَتْ تَحْتَ الْأَرْضِ سَارَتْ حَتَّى تَطْلُعَ مِنْ مَكَانِهَا، فَإِذَا طَالَ اللَّيْلُ فِي الشِّتَاءِ كَثُرَ لُبْثُهَا فِي الْأَرْضِ، فَيَسْخَنُ الْمَاءُ لِذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ مَرَّتْ مُسْرِعَةً لَا تَلْبَثُ تَحْتَ الْأَرْضِ ; لِقِصَرِ اللَّيْلِ، فَثَبَتَ الْمَاءُ عَلَى حَالِهِ بَارِدًا» . هَذَا مَجْمُوعُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ التَّاسِعُ عَشَرَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ «أَنَّ الشَّمْسَ عَلَى قَدْرِ الدُّنْيَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 مَا بَيْنَ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وأبو الشيخ، عَنْ عكرمة قَالَ: الشَّمْسُ سِعَةُ الْأَرْضِ وَزِيَادَةُ ثُلُثٍ وَالْقَمَرُ عَلَى قَدْرِ سِعَةِ الْأَرْضِ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الشَّمْسُ طُولُهَا ثَمَانُونَ فَرْسَخًا فِي عَرْضِ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، مِنْ طَرِيقِ الكلبي، عَنْ أبي صالح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: كَمْ طُولُ الشَّمْسِ وَكَمْ عَرَضُهَا؟ قَالَ: تِسْعُمِائَةِ فَرْسَخٍ فِي تِسْعِمِائَةٍ، وَطُولُ الْكَوَاكِبِ اثْنَا عَشَرَ فَرْسَخًا فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَرْسَخًا. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْعِشْرُونَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَأَنَّهُ يُبَايَعُ لَهُ بِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَأَنَّهُ يَسْكُنُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: فَقَدْ صَحَّ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ النواس بن سمعان أَنَّهُ يَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ. قَالَ ابن كثير: هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ فِي مَوْضِعِ نُزُولِهِ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ يَنْزِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ يَنْزِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ هُوَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَنْزِلُ بِالْأُرْدُنِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ، وَالثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَفْضَلُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَأَفْضَلُ اللَّيَالِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ» ". فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ ": أَنْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ -عَلَى خِلَافٍ فِيهِمَا- أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ ; لِمَا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ تَجَلِّي الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُبَاهَاتِهِ الْمَلَائِكَةَ بِالْحَاجِّ، وَفَيْضُ عَظِيمِ عَفْوِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ وَالْمَغْفِرَةِ ; وَلِمَا حَصَلَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ مِنْ خَلْقِ آدَمَ، وَقَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَإِجَابَةِ الدُّعَاءِ فِيهِ فِي سَاعَةٍ مِنْهُ، وَالْإِذْنِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي زِيَارَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ- انْتَهَى. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: فَالَّذِي أَقُولُهُ اسْتِنْبَاطًا أَنَّ جَبَلَ أُحُدٍ أَفْضَلُ الْجِبَالِ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» . وَوَرَدَ أَنَّهُ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ; وَلِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَرْضِ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ ; وَلِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ بِاسْمِهِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أُحُدٍ) . وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نِيلُ مِصْرَ سَيِّدُ الْأَنْهَارِ، سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ نَهْرٍ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي ذَلِكَ ; فَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ عَلَى الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَسَّطَ فَفَضَّلَ الْكَفَافَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. قَالَ صَاحِبُ الْوَحِيدِ: ذَهَبَ الجنيد إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ، وَهُوَ الَّذِي أَرَاهُ، وَعَلَّلَهُ بِأَنْ قَالَ: مَا مَنْ أَلَّمَ نَفْسَهُ كَمَنْ أَرَاحَ نَفْسَهُ. وَذَهَبَ ابن عطاء إِلَى أَنَّ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْغَنِيَّ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَهَذَا مُشْتَقٌّ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الجنيد: إِنَّ غِنَى اللَّهِ بِذَاتِهِ، وَهَذَا الْغِنَى تَمْتَدُّ إِلَيْهِ يَدُ السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ فَلَا يُشْتَقُّ هَذَا مِنْهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام فِي الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى: فَإِنْ قِيلَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ حَالُ الْأَغْنِيَاءِ أَمْ حَالُ الْفُقَرَاءِ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ النَّاسَ أَقْسَامٌ ; أَحَدُهُمْ مَنْ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْغِنَى وَيَفْسُدُ حَالُهُ بِالْفَقْرِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ غِنَى هَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ فَقْرِهِ. وَالثَّانِي أَنْ يَسْتَقِيمَ عَلَى الْفَقْرِ، وَيُفْسِدُهُ الْغِنَى وَيَحْمِلُهُ عَلَى الطُّغْيَانِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ فَقْرَ هَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ غِنَاهُ. الثَّالِثُ: مَنْ إِذَا افْتَقَرَ قَامَ بِجَمِيعِ وَظَائِفِ الْفَقْرِ كَالرِّضَا وَالصَّبْرِ، وَإِنِ اسْتَغْنَى قَامَ بِجَمِيعِ وَظَائِفِ الْغِنَى مِنَ الْبَذْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَشُكْرِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَيِّ حَالٍ هَذَا أَفْضَلُ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْفَقْرَ أَفْضَلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: غِنَاهُ أَفْضَلُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ ; لِاسْتِعَاذَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَقْرِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى فَقْرِ النَّفْسِ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَؤُلَاءِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَغْلَبَ أَحْوَالِهِ الْفَقْرُ إِلَى أَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِحُصُولِ خَيْبَرَ وَفْدَكٍ وَالْعَوَالِي وَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَا يَأْتِي عَلَيْهِمْ يَوْمٌ إِلَّا كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ خُتِمَ آخِرُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغِنَى، وَلَمْ يُخْرِجْهُ غِنَاهُ عَمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ فِي أَيَّامِ فَقْرِهِ مِنَ الْبَذْلِ وَالْإِيثَارِ وَالتَّقْلِيلِ، حَتَّى أَنَّهُ مَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى آصُعٍ مِنَ الشَّعِيرِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلِ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ تُمْسِكْ شَرٌّ لَكَ» ". أَرَادَ بِالْفَضْلِ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ، كَمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ سَلَكَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ هَذَا الطَّرِيقَ فَبَذَلَ الْفَضْلَ كُلَّهُ مُقْتَصِرًا عَلَى عَيْشٍ مِثْلِ عَيْشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَا امْتِرَاءَ أَنَّ غِنَى هَذَا خَيْرٌ مِنْ فَقْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: " «ذَهَبَ ذَوُو الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ» " - الْحَدِيثَ، وَفِيهِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ» " وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اطَّلَعْتُ عَلَى الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ» " فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، إِذْ لَا يَتَّصِفُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 يَعِيشَ عَيْشَ الْفُقَرَاءِ أَوْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِمَا فَضَلَ مِنْ عَيْشِهِ مُقَدِّمًا لِأَفْضَلِ الْبَذْلِ، فَأَفْضَلُهُ إِلَّا الشُّذُوذُ النَّادِرُونَ الَّذِينَ لَا يَكَادُونَ يُوجَدُونَ، وَالصَّابِرُونَ عَلَى الْفَقْرِ قَلِيلٌ مَا هُمْ، وَالرَّاضُونَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ. هَذَا كَلَامُ الشَّيْخِ عز الدين، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي حَدِيثِ: " «ذَهَبَ ذَوُو الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى» " -: فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضَّلَ الْغِنَى نَصًّا لَا تَأْوِيلًا إِذَا اسْتَوَتْ أَعْمَالُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، فَلِلْغَنِيِّ حِينَئِذٍ فَضْلُ عَمَلِ الْبِرِّ مِنَ الصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا سَبِيلَ لِلْفَقِيرِ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابن دقيق العيد: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْقَرِيبُ مِنَ النَّصِّ أَنَّهُ فَضَّلَ الْغَنِيَّ، وَبَعْضُ النَّاسِ تَأَوَّلَهُ بِتَأْوِيلٍ مُسْتَكْرَهٍ، قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهُمَا إِنْ تُسَاوَيَا وَفُضِّلَتِ الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْغَنِيُّ أَفْضَلَ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إِذَا تَسَاوَيَا وَانْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَصْلَحَةِ مَا هُوَ فِيهِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ إِنْ فُسِّرَ الْأَفْضَلُ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُتَعَدِّيَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْقَاصِرَةِ، فَيَتَرَجَّحُ الْغِنَى، وَإِنْ فُسِّرَ بِالْأَشْرَفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَاتِ النَّفْسِ فَالَّذِي يَحْصُلُ لَهَا مِنَ التَّطْهِيرِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ أَشْرَفُ، فَيَتَرَجَّحُ الْفَقْرُ، وَمِنْ ثَمَّ ذَهَبَ جُمْهُورُ الصُّوفِيَّةِ إِلَى تَرْجِيحِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَقَالَ القرطبي: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْعُلَمَاءِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا: الْأَفْضَلُ الْكَفَافُ. رَابِعُهَا: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ. خَامِسُهَا: التَّوَقُّفُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: فَفِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ قَالَ النيسابوري: قَالَ بَعْضُهُمْ: خَلَقَ اللَّهُ أَوَّلًا زُمُرُّدَةً خَضْرَاءَ، وَيُقَالُ: اللَّوْحَ وَالْقَلَمَ، وَيُقَالُ: الْوَقْتَ وَالزَّمَانَ، وَيُقَالُ: الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ، وَيُقَالُ: خَلَقَ أَوَّلًا عَاقِلًا أَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِعَقْلِهِ غَيْرُهُ، وَيُقَالَ: خَلَقَ جَوْهَرًا مُتَفَرِّقًا مِنَ الْأَلْوَانِ وَالْأَطْبَاعِ وَالْهَيْئَاتِ، ثُمَّ خَلَقَ الْهَيْئَاتِ فَرَكَّبَهَا بَيْنَ الْأَطْبَاعِ وَالْأَلْوَانِ، وَصَارَتْ بَسِيطَةً مُؤَلَّفَةً مَطْبُوعَةً، وَيُقَالُ خَلَقَ أَوَّلًا نُقْطَةً ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهَا بِالْهَيْبَةِ، فَتَضَعْضَعَتْ وَتَمَايَلَتْ، فَصَيَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَلْفًا. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ كَتَبَ: أَنَا التَّوَّابُ، أَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: فَفِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي إِدْخَالِ الْمُؤْمِنِينَ النَّارَ لِيَعْرِفُوا قَدْرَ الْجَنَّةِ وَمِقْدَارَ مَا دَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ عَظِيمِ النِّقْمَةِ ; لِأَنَّ تَعْظِيمَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ فِي الْحِكْمَةِ. وَقِيلَ: لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ دَلِيلًا لِلْكَافِرِينَ كَمَا أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ دَلِيلًا لِفِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ ; لِأَنَّ عُبَّادَ الصَّنَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْمَرُونَ بِدُخُولِ النَّارِ مَعَ أَصْنَامِهِمْ، فَيَأْبَوْنَ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 ادْخُلُوا، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ إِنْ أَمَرْتَنَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وَحِينَئِذٍ يَتَبَيَّنُ لِلْخَلْقِ أَنَّ بِرَّهُ فِي النَّارِ لِلْعَارِفِينَ أَكْثَرُ مِنْ بِرِّهِ فِي الْجَنَّةِ لِلْمُطِيعِينَ. وَقِيلَ: أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَيِّبَ النَّارَ كَمَا طَيَّبَ بَطْنَ الْحُوتِ بِإِلْقَاءِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ النَّارَ شَكَتْ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ مَا عَصَيْتُكَ قَطُّ، فَلِمَ جَعَلْتَنِي مَأْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْجَبَّارِينَ؟ فَقَالَ: أُرِيكِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُطِيعِينَ. وَقِيلَ: لِيَرَى الْمُؤْمِنُونَ عِيَانًا مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ نَجَاةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ نَارِ نمروذ فَقَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: وَرَدْتُمُوهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ. وَقِيلَ: لِيَرَى الْكَفَرَةُ جَوْدَةَ عُنْصُرِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ الْجَوْهَرَ الْأَصْلِيَّ لَا تَعْمَلُ فِيهِ النَّارُ وَلَا تُفْسِدُهُ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ. وَقِيلَ: لِيُظْهِرَ لِلْخَلْقِ أَنَّهُ جَامِعُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنَجِّي مِنَ الظُّلْمَةِ وَالْمَوْقِعُ فِيهَا. وَقِيلَ: لِيَرَى الْخَلْقُ كَمَالَ قُدْرَتِهِ، فِرْقَةٌ يَسْتَغِيثُونَ مِنَ النَّارِ، وَفِرْقَةٌ تَسْتَغِيثُ النَّارُ مِنْهُمْ، وَهَذَا كَمَا جُعِلَ الْمَاءُ رَحْمَةً عَلَى مُوسَى وَعُقُوبَةً عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ، كَذَلِكَ النَّارُ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، نِقْمَةٌ لِلْكَافِرِينَ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ النَّارَ أَنْ يَمْلَأَهَا، وَهِيَ لَا تُمْلَأُ بِالْكَفَرَةِ، فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ فَيُورِدُ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا فَتُمْلَأُ وَتَقُولُ قَطْ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّلَاثُونَ) . فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " أَنَّ طَاءَ شَجَرَةُ طُوبَى، وَسِينَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَمِيمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِي قَوْلِهِ: {طسم} [الشعراء: 1] فَإِنَّ الطَّاءَ مِنْ ذِي الطَّوْلِ، وَالسِّينَ مِنَ الْقُدُّوسِ، وَالْمِيمَ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالْأَقْوَالُ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. أَخْرَجَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ فَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ سِرًّا وَإِنَّ سِرَّ هَذَا الْقُرْآنِ فَوَاتِحُ السُّوَرِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: فَفِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ قَالَ النيسابوري: سَبْعُونَ ذَرَّةً تَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَسَبْعُونَ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ تَزِنُ حَبَّةً. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: فَقَالَ السهروردي فِي " عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ ": عِلْمُ الْيَقِينِ مَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ مَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْكُشُوفِ وَالنَّوَالِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ مَا كَانَ بِتَحْقِيقِ الِانْفِصَالِ عَنْ لَوْثِ الصَّلْصَالِ بِوُرُودِ رَائِدِ الْوِصَالِ. وَقَالَ فارس: عَلِمُ الْيَقِينِ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ لِلْأَسْرَارِ، وَالْعِلْمُ إِذَا تَفَرَّدَ مِنْ نَعْتِ الْيَقِينِ كَانَ عِلْمًا بِشُبْهَةٍ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ عَيْنُ الْيَقِينِ كَانَ عِلْمًا بِلَا شُبْهَةٍ، وَحَقُّ الْيَقِينِ هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 حَقِيقَةُ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ عِلْمُ الْيَقِينِ وَعَيْنُ الْيَقِينِ. قَالَ الجنيد: حَقُّ الْيَقِينِ مَا يَتَحَقَّقُ الْعَبْدُ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يُشَاهِدَ الْغُيُوبَ كَمَا يُشَاهِدُ الْمَرْئِيَّاتِ مُشَاهَدَةَ عِيَانٍ، وَيَحْكُمُ فِي الْغَيْبِ فَيُخْبِرُ عَنْهُ بِالصِّدْقِ، كَمَا أَخْبَرَ الصِّدِّيقُ حِينَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاذَا أَبْقَيْتَ لِعِيَالِكَ؟ قَالَ: اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عِلْمُ الْيَقِينِ حَالُ الْمَعْرِفَةِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ حَالُ الْجَمْعِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ جَمْعُ الْجَمْعِ بِلِسَانِ التَّوْحِيدِ. وَقِيلَ: الْيَقِينُ اسْمٌ وَرَسْمٌ وَعِلْمٌ وَعَيْنٌ وَحَقٌّ ; فَالِاسْمُ وَالرَّسْمُ لِلْعَوَامِّ، وَالْعِلْمُ عِلْمُ الْيَقِينِ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ لِخَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَحَقِيقَةُ حَقِّ الْيَقِينِ اخْتُصَّ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ ": عِلْمُ الْيَقِينِ هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ يَكُونُ بِالْمُعَايَنَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7] وَلَمَّا دَخَلُوهَا وَبَاشَرُوا عَذَابَهَا قَالَ تَعَالَى: {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ - وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ - إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 93 - 95] وَقَالَ سَيِّدِي محمد السعودي مِنْ أَصْحَابِ سَيِّدِي يوسف العجمي: عِلْمُ الْيَقِينِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِكَ ; إِذْ أَنْتَ عَيْنُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ ذَاتٍ غَيْرِ مُكَيَّفَةٍ وَلَا مَعْلُومَةِ الْمَاهِيَّةِ مَحْكُومًا لَهَا بِالْأُلُوهِيَّةِ سُلْطَانًا، وَحُجَّةً لَا رَيْبَ فِيهِ، عَيْنُ الْيَقِينِ مُشَاهَدَةُ هَذِهِ الذَّاتِ بِعَيْنِهَا لَا بِعَيْنِكَ، أَيْ بِعَيْنِ الذَّاتِ فَنَاءً كُلِّيًّا لَا يُعْقَلُ مَعَهَا نِسْبَةُ الْأُلُوهِيَّةِ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا، بَلْ مُشَاهَدَةٌ تُفْنِي الْأَحْكَامَ وَالرُّسُومَ وَتَمْحَقُ الْآثَارَ - حَقُّ الْيَقِينِ نِسْبَةُ الْأُلُوهِيَّةِ إِلَى هَذِهِ الذَّاتِ بَعْدَ الْمُشَاهَدَةِ لَا قَبْلَهَا، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْحَقِّ لَيْسَ إِلَّا، وَهُنَا سَكَتَ الْمُحَقِّقُونَ- وَبَعْدُ هَذِهِ حَقِيقَةُ حَقِّ الْيَقِينِ، وَهُوَ ظُهُورُ الِانْفِعَالَاتِ عَنِ الْعَبْدِ مَعَ غَيْبَتِهِ عَنْهَا فِيهِ غَيْبًا كُلِّيًّا وَفَنَاءً مُحَقَّقًا، وَهَذِهِ غَايَةُ الْمَرَاتِبِ، فَالثَّلَاثَةُ كِتَابِيَّةٌ ; عِلْمٌ، وَعَيْنٌ، وَحَقٌّ. وَالرَّابِعَةُ سُنِّيَّةٌ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟» " فَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ بِهَا يَخْتَبِرُ الْعَبْدُ الْمُتَحَقِّقُ نَفْسَهُ فِي دَعْوَاهُ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ حَقِّ الْيَقِينِ فَتَأَمَّلْهُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ، وَأَحَادِيثُ تَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْإِسْرَارِ بِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ. قَالَ سَيِّدِي يوسف العجمي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خَيْرُ الذِّكْرِ مَا خَفِيَ» ". وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ عَامَّةَ عِبَادِهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] وَخَاطَبَ الْخَاصَّ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] وَخَاطَبَ سَيِّدَ أَهِلِ الْحَضْرَةِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُ بِرَبِّهِ وَنَفْسِهِ وَأَرَاهُ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] فَمَنْ لَا يَعْرِفُ رَبَّهُ وَلَا نَفْسَهُ وَلَا أَرَاهُ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ فَكَيْفَ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ؟ أَوْ كَيْفَ يَرَى مَدَّ الظِّلِّ؟ بَلْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] وَأَمَّا الذِّكْرُ الْخَفِيُّ فَهُوَ مَا خَفِيَ عَنِ الْحَفَظَةِ لَا مَا يُخْفَضُ بِهِ الصَّوْتُ، وَهُوَ أَيْضًا خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ لَهُ بِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَعَنْ جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ هَذَا خَفَضَ مِنْ صَوْتِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ فَإِنَّهُ أَوَّاهٌ» ". وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قِيلَ: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ» ". وَرُوِيَ " «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَلِكَ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ» ". وَعَنْ أبي قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأبي بكر: مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ وَأَنْتَ تَخْفِضُ مِنْ صَوْتِكَ، فَقَالَ: إِنِّي أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ، فَقَالَ: ارْفَعْ صَوْتَكَ قَلِيلًا، وَقَالَ لعمر: مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ وَأَنْتَ تَرْفَعُ مِنْ صَوْتِكَ، فَقَالَ: إِنِّي أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، قَالَ: اخْفِضْ قَلِيلًا» . وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ، فَإِذَا خَفِيَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ ثَوِّرُوا الذِّكْرَ- أَيِ ارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ السَّابِقَيْنِ اللَّذَيْنِ اسْتُدلَّ بِهِمَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَثَرِ-أَنَّ الذَّاكِرِينَ إِذَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى الذِّكْرِ، فَالْأَوْلَى فِي حَقِّهِمْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالْقُوَّةُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الذَّاكِرُ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَاصِّ فَالْإِخْفَاءُ فِي حَقِّهِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامِّ فَالْجَهْرُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ. وَقَدْ شَبَّهَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ذِكْرَ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَذِكْرَ جَمَاعَةٍ مُجْتَمِعِينَ بِمُؤَذِّنٍ وَاحِدٍ وَجَمَاعَةِ مُؤَذِّنِينَ، فَكَمَا أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 أَصْوَاتَ الْجَمَاعَةِ تَقْطَعُ جِرْمَ الْهَوَاءِ أَكْثَرَ مِنْ صَوْتِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَكَذَا ذِكْرُ جَمَاعَةٍ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي رَفْعِ الْحُجُبِ مِنْ ذِكْرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ حَيْثُ الثَّوَابِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ ثَوَابُ ذِكْرِ نَفْسِهِ وَثَوَابُ سَمَاعِ ذِكْرِ رُفَقَائِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي رَفْعِ الْحُجُبِ- فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْحِجَارَةِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَجَرَ لَا يَنْكَسِرُ إِلَّا بِقُوَّةٍ، فَقُوَّةُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مُجْتَمِعِينَ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ أَشَدُّ مِنْ قُوَّةِ ذِكْرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ; وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ نجم الدين البكري رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِنَّ الْقُوَّةَ فِي الذِّكْرِ شَرْطٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ -انْتَهَى. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ إِحْدَاثَ الْأَلْحَانِ فِي الذِّكْرِ بِدْعَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أبي بكر، وَلَا عمر، وَلَا عثمان، وَلَا علي، وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ تَمْطِيطُ الْأَحْرُفِ، وَالْإِشْبَاعُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالِاخْتِلَاسُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالتَّرْقِيصُ، وَالتَّطْرِيبُ، وَتَعْوِيجُ الْحَنَكِ وَالرَّأْسِ- فَهَذَا مُغَنٍّ لَا ذَاكِرٌ، وَأَخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُجَابَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِاللَّعْنَةِ ; فَإِنَّ سِرَّ الذَّاكِرِ إِحْضَارُ عَظَمَةِ اللَّهِ وَهَيْبَتِهِ فِي الْقَلْبِ بِخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ، وَإِعْرَاضٍ عَمَّا سِوَاهُ، وَالْمُلَحِّنُ فِي شُغُلٍ شَاغِلٍ عَنْ ذَلِكَ، وَلْيَعْرِضِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَوْ وَقَفَ شَخْصٌ تَحْتَ بَيْتِهِ وَنَادَى: آهٍ يَا سَيِّدِي فُلَانُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ بِهَذَا التَّلْحِينِ وَالتَّرْقِيصِ، أَكَانَ يُرْضِيهِ ذَلِكَ، أَوْ يَعُدُّهُ قَلِيلَ الْأَدَبِ؟ فَالتَّأَدُّبُ مَعَ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحَقُّ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فَأَقُولُ: مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ تَفْضِيلُ اللَّبَنِ عَلَى الْعَسَلِ ; لِأُمُورٍ: مِنْهَا أَنَّهُ يُرَبَّى بِهِ الطِّفْلُ، وَلَا يَقُومُ الْعَسَلُ وَلَا غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَيْسَ الْعَسَلُ وَلَا غَيْرُهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. رَوَى أبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ» ". وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَشْرَقُ بِهِ أَحَدٌ، وَلَيْسَ الْعَسَلُ وَلَا غَيْرُهُ كَذَلِكَ، رَوَى ابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أبي لبيبة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَا شَرِبَ أَحَدٌ لَبَنًا فَشَرِقَ ; إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] » وَمِنْهَا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أُتِيَ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَاخْتَارَ اللَّبَنَ، فَقِيلَ: هَذِهِ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ» - رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، فَاخْتِيَارُهُ اللَّبَنَ عَلَى الْعَسَلِ ظَاهِرٌ فِي تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ، وَمِنَ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا اللَّبَنَ» ". وَالْحَدِيثُ أَصْلُهُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ: وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَفِي اللَّبَنِ: وَزِدْنَا مِنْهُ- يُعْطِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ خَيْرٌ مِنَ اللَّبَنِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فَقَدْ كُنْتُ سُئِلْتُ عَنْهُ قَدِيمًا، وَأَجَبْتُ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ وَلَا أَثَرٌ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا، وَالتَّفْضِيلُ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ. وَذُكِرَ عَنْ حَافِظِ الْعَصْرِ أبي الفضل بن حجر أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَ بِأَنَّ مَاءَ زَمْزَمَ أَفْضَلُ مِيَاهِ الدُّنْيَا، وَمَاءَ الْكَوْثَرِ أَفْضَلُ مِيَاهِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا الْجَوَابُ كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقَدْ يُقَالُ لِمَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ تَفْضِيلُ مَاءِ زَمْزَمَ أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسِلَ صَدْرُهُ بِهِ لَمَّا شَقَّهُ جِبْرِيلُ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ تَفْضِيلُ الْكَوْثَرِ ; لِأَنَّهُ عَطِيَّةُ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَمْزَمُ عَطِيَّةُ اللَّهِ لِإِسْمَاعِيلَ ; وَلِأَنَّ الْكَوْثَرَ مُصَرَّحٌ بِذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ مُسْنَدًا إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي زَمْزَمَ مِثْلُ ذَلِكَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " قَالَ بَعْضُهُمْ: هُمَا سَوَاءٌ لَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَيُقَالُ: مَا دَامَ الرَّجُلُ صَحِيحًا فَالْخَوْفُ أَفْضَلُ، وَمَا دَامَ مَرِيضًا فَالرَّجَاءُ أَفْضَلُ، وَيُقَالُ: الْخَوْفُ لِلْعَاصِي أَفْضَلُ، وَالرَّجَاءُ لِلْمُطِيعِ أَفْضَلُ، وَيُقَالُ: الْخَوْفُ قَبْلَ الذَّنْبِ أَفْضَلُ، وَالرَّجَاءُ بَعْدَ الذَّنْبِ أَفْضَلُ ; لِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ; أَحَدُهَا: إِلَى فَضْلِهِ وَالْخَوْفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَالْفَضْلُ أَكْرَمُ مِنَ الْعَدْلِ. وَالثَّانِي: الرَّجَاءُ إِلَى الْوَعْدِ، وَالْوَعْدُ مِنْ بَحْرِ الرَّحْمَةِ، وَالْخَوْفُ مِنَ الْوَعِيدِ، وَالْوَعِيدُ مِنْ بَحْرِ الْغَضَبِ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ. الثَّالِثُ: الرَّجَاءُ بِالطَّاعَةِ وَالْخَوْفُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَمِنَ الطَّاعَةِ مَا يَعْلُو عَلَى الْمَعَاصِي كَالتَّوْحِيدِ. وَالرَّابِعُ: الرَّجَاءُ بِالرَّحْمَةِ وَالْخَوْفُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالذُّنُوبُ لَهَا نِهَايَةٌ، وَالرَّحْمَةُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَيُقَالُ: الْخَوْفُ أَفْضَلُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ وَعَدَ بِالْخَوْفِ جَنَّتَيْنِ، وَلَمْ يَعِدْ بِالرَّجَاءِ إِلَّا جَنَّةً وَاحِدَةً، وَأَيْضًا الْخَوْفُ يَمْنَعُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَرْكُ الذُّنُوبِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ. وَيُقَالُ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْخَوْفِ فَهُوَ حَرُورِيٌّ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالرَّجَاءِ فَهُوَ مُرْجِئٌ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالثَّلَاثَةِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " قَالَ النيسابوري: اللَّيْلُ أَفْضَلُ ; لِوُجُوهٍ ; أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّيْلَ رَاحَةٌ، وَالرَّاحَةُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالنَّهَارَ تَعَبٌ، وَالتَّعَبُ مِنَ النَّارِ، وَأَيْضًا فَاللَّيْلُ حَظُّ الْفِرَاشِ، وَالنَّهَارُ حَظُّ اللِّبَاسِ ; وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَلَيْسَ فِي الْأَيَّامِ مِثْلُهَا. وَقِيلَ: النَّهَارُ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ نُورٌ، وَأَيْضًا لَا يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ، وَأَيْضًا النَّهَارُ لِلْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 قُلْتُ: قَدْ وَقَفْتُ عَلَى تَأْلِيفٍ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ فَارِسٍ اللُّغَوِيِّ صَاحِبِ " الْمُجْمَلِ "، فَذَكَرَ فِيهِ وَجُوهًا فِي تَفْضِيلِ هَذَا وَوُجُوهًا فِي تَفْضِيلِ هَذَا، فَمِمَّا ذَكَرَهُ فِي تَفْضِيلِ اللَّيْلِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِيهِ سُورَةً مُسَمَّاةً " سُورَةَ اللَّيْلِ "، وَلَمْ يُنْزِلْ فِي النَّهَارِ سُورَةً تُسَمَّى سُورَةَ النَّهَارِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَى النَّهَارِ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى - وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1 - 2] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} [القصص: 71] وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ قَبْلَ النَّهَارِ، وَأَنَّ لَيَالِيَ الشَّهْرِ سَابِقَةٌ عَلَى أَيَّامِهِ، وَأَنَّ فِي اللَّيْلِ لَيْلَةً خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَلَيْسَ فِي الْأَيَّامِ مِثْلُهَا، وَأَنَّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَاصَّةً، وَأَنَّ النَّهَارَ فِيهِ أَوْقَاتٌ تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَقْتُ كَرَاهَةٍ، وَالصَّلَاةُ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ، وَأَنَّ فِيهِ التَّهَجُّدَ وَالِاسْتِغْفَارَ بِالْأَسْحَارِ، وَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَاسْتِغْفَارِهِ، وَأَنَّهُ أَصَحُّ لِتِلَاوَةِ الذَّكْرِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6] وَقَالَ: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا} [الزمر: 9] وَأَنَّ الْإِسْرَاءَ وَقَعَ بِاللَّيْلِ، قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81] وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: فِي اللَّيْلِ تَنْقَطِعُ الْأَشْغَالُ، وَتُجَمُّ الْأَذْهَانُ، وَيَصِحُّ النَّظَرُ، وَتُؤَلَّفُ الْحِكَمُ، وَتَدِرُّ الْخَوَاطِرُ، وَيَتَّسِعُ مَجَالُ الْقَلْبِ، وَمُؤَلِّفُو الْكِتَابِ يَخْتَارُونَهُ عَلَى النَّهَارِ ; لِأَنَّ الْقَلْبَ بِالنَّهَارِ طَائِرٌ، وَبِاللَّيْلِ سَاكِنٌ، وَكَذَلِكَ مُدَبِّرُو الْمُلْكِ. وَقَدِيمًا كَانَ يُقَالُ: اللَّيْلُ نَهَارُ الْأَرِيبِ، وَقَالَ الْقَائِلُ: وَلَمْ أَرَ مِثْلَ اللَّيْلِ جُنَّةَ فَاتِكٍ ... إِذَا هَمَّ أَمْضَى غَنِيمَةَ نَاسِكٍ وَعَارَضَهُ صَاحِبُ النَّهَارِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ ذِكْرَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا - وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 3 - 4] وَبِأَنَّ التَّقْدِيمَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، فَقَدْ قَدَّمَ اللَّهُ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ، وَالْجِنَّ عَلَى الْإِنْسِ، وَالْأَعْمَى وَالْأَصَمَّ عَلَى الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: 24] وَالْمُتَأَخِّرُ مِمَّا ذُكِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ قَطْعًا، وَبِأَنَّ النُّورَ قَبْلَ الظُّلْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] وَبِأَنَّ النَّاسَ وَالشُّعَرَاءَ مَا زَالُوا يَذُمُّونَ اللَّيْلَ وَيَشْكُونَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 كَقَوْلِ امرئ القيس: وَلَيْلٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ. الْأَبْيَاتِ. وَقَدِ اسْتَعَاذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْأَبْهَمَيْنِ، وَيُقَالُ: الْأَعْمَيَيْنِ - السَّيْلِ وَاللَّيْلِ، وَبِاللَّيْلِ تَدِبُّ الْهَوَامُّ، وَتَثُورُ السِّبَاعُ، وَتُنْشَرُ اللُّصُوصُ، وَتُشَنُّ الْغَارَاتُ، وَتُرْتَكَبُ الْمَعَاصِي وَالْفَاحِشَاتُ ; وَلِذَلِكَ قِيلَ: اللَّيْلُ أَخْفَى لِلْوَيْلِ، وَقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ، فَقَالَ: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس: 27] وَكَانَ الحسن يَقُولُ: مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَشَدَّ سَوَادًا مِنَ اللَّيْلِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] قِيلَ: هُوَ اللَّيْلُ إِذَا أَظْلَمَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلْمِكْثَارِ: حَاطِبُ لَيْلٍ ; لِمَا يُخْشَى عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ نَهْشٍ أَوْ تَنَهُّشٍ، «وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جِدَادِ اللَّيْلِ وَصِرَامِ اللَّيْلِ، وَأَمَرَ بِغَلْقِ الْأَبْوَابِ وَكَفِّ الصِّبْيَانِ بِاللَّيْلِ، وَقَالَ: " إِنْ لِلشَّيْطَانِ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً» ، وَافْتَخَرَتِ الْعَرَبُ بِالْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِي، فَقَالُوا: يَوْمُ ذِي قَارٍ، وَيَوْمُ كَذَا. وَالْأُسْبُوعُ أَيَّامُهُ مُسَمَّاةٌ دُونَ اللَّيَالِي، فَإِنَّمَا تُذْكَرُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَيَّامِ فَيُقَالُ: لَيْلَةُ الْأَحَدِ، وَلَيْلَةُ كَذَا، وَلَيْسَ الْمُضَافُ كَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْأَيَّامُ النَّبِيهَةُ أَكْثَرُ مِنَ اللَّيَالِي، كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَالْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، وَلَيْسَ فِي اللَّيَالِي إِلَّا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَلَيْلَةُ نِصْفِ شَعْبَانَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» "، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ اللَّيَالِي. وَأَمَّا السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ ": إِنَّمَا خُلِقَ آدَمُ مِنَ التُّرَابِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ آدَمَ شَيْءٌ إِلَّا التُّرَابُ، فَخَلَقَهُ مِنْهُ، ثُمَّ خَلَقَ حواء مِنْ آدَمَ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَخَلَقَهَا مِنَ الضِّلْعِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنَ الْعِوَجِ، فَلَا يُطْمَعُ فِي تَقْوِيمِهِنَّ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْأَرْبَعُونَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " سُؤَالٌ: لِمَ رُفِعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَصْحَبَ الْمَلَائِكَةَ لِيَحْصُلَ لَهُمْ بَرَكَتُهُ كَمَا صَحِبَهُ التَّائِبُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَيْضًا لِمَا لَمْ يَكُنْ دُخُولُهُ مِنْ بَابِ الشُّهْرَةِ وَخُرُوجُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْمَنِيَّةِ، بَلْ دَخَلَ مِنْ بَابِ الْقُدْرَةِ وَخَرَجَ مِنْ بَابِ الْعِزَّةِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ ": إِنَّمَا سُمِّيَ مَسِيحًا لِأَنَّهُ كَانَ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ، وَيُقَالُ: وُلِدَ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَيُقَالُ: لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ الضُّرَّ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْأَكْمَهِ، وَيُقَالُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِقَدَمِهِ أَخْمَصُ. وَزَادَ ابن الأثير فِي " النِّهَايَةِ " مَا نَصُّهُ: وَقِيلَ الْمَسِيحُ: الصِّدِّيقُ، وَقِيلَ هُوَ بِالْعَبْرَانِيَّةِ مَشِيحًا، فَعُرِّبَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يُقِيمُ سَبْعَ سِنِينَ، وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 يُقِيمُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْبَعِينَ مَجْمُوعُ لُبْثِهِ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الرَّفْعِ وَبَعْدَهُ، فَإِنَّهُ رُفِعَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ ": قِيلَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً بِعَدَدِ حُرُوفِ {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلَا كَلِمَةُ يُوسُفَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ» . وَأَقُولُ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ الضحاك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] قَالَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابن المنذر وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَبِثَ سَبْعَ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] ، قَالَ: دُونَ الْعَشَرَةِ. وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] قَالَ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " أَنَّهُ لَبِثَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَأَخْرَجَ الحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَكَثَ يُونُسُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْتَقَمَهُ الْحُوتُ ضُحًى وَلَفِظَهُ عَشِيَّةً. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ: تَحْرِيمُ آلَاتِ اللَّهْوِ، وَأَجَازَهَا طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَالْمُخْتَارُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَقِّقُونَ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام - إِبَاحَةُ ذَلِكَ لِلصُّوفِيَّةِ خَاصَّةً وَتَحْرِيمُهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَبَسْطُ ذَلِكَ فِي حَوَاشِي " الرَّوْضَةِ ". وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ وَالثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: فَالْجَوَابُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَحْيَاءٌ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] قَالَ: رُفِعَ إِدْرِيسُ كَمَا رُفِعَ عِيسَى وَلَمْ يَمُتْ. وَأَخْرَجَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ، مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عمر مولى غفرة يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ صَدِيقًا لِمَلَكِ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ إِدْرِيسُ: أُحِبُّ أَنْ تُذِيقَنِي الْمَوْتَ وَتُفَرِّقَ بَيْنَ رُوحِي وَجَسَدِي حَتَّى أَجِدَ طَعْمَ الْمَوْتِ ثُمَّ تَرُدَّ رُوحِي، فَقَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ أَسْتَأْذِنَ فِيهِ رَبِّي، فَقَالَ لَهُ إِدْرِيسُ: فَاسْتَأْذِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَعَرَجَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى رَبِّهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَبَضَ نَفْسَهُ وَفَرَّقَ بَيْنَ رُوحِهِ وَجَسَدِهِ، فَلَمَّا سَقَطَ إِدْرِيسُ مَيِّتًا رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ رُوحَهُ» . . . الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ: كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ صَدِيقًا لِإِدْرِيسَ، فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، أَمِتْنِي فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ، فَقَالَ لَهُ: أَمِتْهُ، فَلَمَّا مَاتَ رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ رُوحَهُ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ حَيًّا، ثُمَّ قَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ، فَقَالَ: أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَاحْتَمَلَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، فَكَانَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: اخْرُجْ بِنَا، قَالَ: لَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ - إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} [الصافات: 58 - 59] وَقَالَ: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] وَمَا أَنَا بِخَارِجٍ مِنْهَا، قَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: يَا رَبِّ، قَدْ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ عَبْدُكَ إِدْرِيسُ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: صَدَقَ، فَاخْرُجْ مِنْهَا وَدَعْهُ فِيهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَرْبَعَةُ أَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ، اثْنَانِ فِي السَّمَاءِ: إِدْرِيسُ وَعِيسَى، وَاثْنَانِ فِي الْأَرْضِ: إِلْيَاسُ والخضر. وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، «أَنَّ إِلْيَاسَ يَكُونُ مَعَ الدَّجَّالِ يُنْذِرُ النَّاسَ، فَإِذَا قَالَ الدَّجَّالُ: أَنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ لَهُ إِلْيَاسُ: كَذَبْتَ. وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي " الْكَامِلِ " أَنَّ إِلْيَاسَ والخضر يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ عَامٍ بِالْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ وَيَتَفَرَّقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ، مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» . كَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابن عساكر فِي " تَارِيخِ دِمَشْقَ "، عَنِ ابن أبي رواد قَالَ: إِلْيَاسُ والخضر يَصُومَانِ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَحُجَّانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَيَشْرَبَانِ مِنْ زَمْزَمَ شَرْبَةً تَكْفِيهِمَا إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ. وَأَمَّا السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَبِيٌّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَسُولٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَلِيٌّ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَمْسُونَ: فَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ أَلَّفْتُ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ " التَّعْظِيمَ وَالْمِنَّةَ " قَرَّرْتُ فِيهِ الْأَدِلَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَقْرَبُهَا طُرُقٌ: أَحُدُهَا أَنَّهُمَا كَانَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ، كورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ تَحَنَّفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالثَّانِي أَنَّهُمَا كَانَا فِي الْفَتْرَةِ، وَالْفَتْرَةُ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا. وَالثَّالِثُ أَنَّهُمَا أُحْيِيَا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَا بِهِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعَوَامِّ أَوْ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِحَضْرَةِ الْعَوَامِّ فِي حَقِّ أَبَوَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ، أَوْ أَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ -أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّعْزِيرُ الْبَلِيغُ أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ سُئِلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ فِي حَقِّ وَالِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ كَافِرٌ، فَأَجَابَ بِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ مَلْعُونٌ ; لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] . وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ: التَّكْلِيفُ، وَالْحَدَثُ، وَدُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُنَا: التَّكْلِيفُ - يَجْمَعُ ثَلَاثَ صِفَاتٍ: الْبُلُوغَ، وَالْعَقْلَ، وَالْإِسْلَامَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّهَا بِضْعَةَ عَشَرَ شَرْطًا: الْمَاءُ الطَّهُورُ، وَالْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ بِطَهُورِيَّتِهِ، وَالْإِسْلَامُ، وَالتَّمْيِيزُ، وَعَدَمُ الْمُنَافِي، وَفَقْدُ الْمَانِعِ، وَطَهَارَةُ الْعُضْوِ مِنْ نَجَاسَتِهِ، وَالْعِلْمُ بِكَيْفِيَّتِهِ، وَتَمْيِيزُ فَرَائِضِهِ مِنْ سُنَنِهِ، وَتَرْتِيبُهُ- عَلَى مَا جَنَحْتُ إِلَيْهِ فِي حَوَاشِي " الرَّوْضَةِ "، وَلَمْ أُسْبَقْ إِلَيْهِ -وَالْأَصْحَابُ عَدُّوا التَّرْتِيبَ رُكْنًا لَا شَرْطًا، وَتَزِيدُ الْمَرْأَةُ بِشَرْطٍ، وَهُوَ النَّقَاءُ عَنِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَيَزِيدُ صَاحِبُ الضَّرُورَةِ بِسِتَّةِ شُرُوطٍ: دُخُولُ الْوَقْتِ، وَتَقْدِيمُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَالِاسْتِنْجَاءُ، وَحَشْوُ الْمَنْفَذِ، وَإِيلَاؤُهُ الْوُضُوءَ، وَالْمُوَالَاةُ فِيهِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِمَامَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِينَ. هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ فِيهِمَا. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ فِي إِطَالَةِ الْخُطْبَةِ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ الْكَثِيرِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ نَفْلٍ قَلِيلَةٍ، وَصَلَاةَ النَّفْلِ الْكَثِيرَةِ أَفْضَلُ مِنْ تِلَاوَةٍ قَلِيلَةٍ، فَإِنِ اسْتَوَى الزَّمَانُ الْمَصْرُوفُ إِلَيْهِمَا كَنِصْفِ يَوْمٍ مَثَلًا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ قَالُوا: أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " [ «وَاعْلَمُوا] أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ النَّفْلِ أَفْضَلَ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ ": إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْقِيرَاطِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْمَقَادِيرِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا، وَإِنَّمَا قَالَ: أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ ; لِأَنَّهُ أَكْبَرُ جَبَلٍ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ أَكْبَرُ جَبَلٍ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ يَبْلُغُ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى، وَأُبْهِمَ الْقِيرَاطُ الْآخَرُ ; لِأَنَّ عَطَاءَ اللَّهِ وَاسِعٌ فَلَا يُحَدُّ. وَقِيلَ: لَيْسَ الْقِيرَاطُ مَنْسُوبًا إِلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ قِيرَاطًا، بَلْ إِلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَيِّتِ مِنْ تَغْمِيضِهِ، وَتَقْبِيلِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَشَدِّ لِحْيَيْهِ بِعِصَابَةٍ، وَنَزْعِ ثِيَابِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَوَضْعِهِ عَلَى سَرِيرِهِ، وَتَغْسِيلِهِ، وَتَكْفِينِهِ، وَحَمْلِهِ، وَالْمَشْيِ مَعَهُ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَحُضُورِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 دَفْنِهِ، وَحَفْرِ الْقَبْرِ، وَوَضْعِهِ فِيهِ، وَسَدِّهِ عَلَيْهِ، وَإِهَالَةِ التُّرَابِ. فَهَذِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَمَنْ أَتَى بِالصَّلَاةِ فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ هِيَ جُمْلَةُ الْأَجْرِ، وَمَنْ حَضَرَ الدَّفْنَ فَلَهُ قِيرَاطٌ آخَرُ، وَهَذِهِ الْقَرَارِيطُ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَشَارَ فِيهِ إِلَى أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْمَغْفِرَةِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، والحاكم وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مالك بن هبيرة، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَوْجَبَ ". وَلَفَظُ الحاكم وَالْبَيْهَقِيِّ: " إِلَّا غُفِرَ لَهُ ". قَالَ النووي: وَهُوَ مَعْنَى أَوْجَبَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ، وَالسِّتُّونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ البرهان الفزاري أَفْتَى بِوُجُوبِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَأَفْتَى مُعَاصِرُوهُ بِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ ; لِعَدَمِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ وَهُوَ الْوَقْتُ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي أَيَّامِ الدَّجَّالِ، حَيْثُ قَالَ فِيهِ: اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ، قَالَ الزركشي فِي " الْخَادِمِ ": وَعَلَى هَذَا يُحْكَمُ لَهُمْ فِي رَمَضَانَ بِأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِاللَّيْلِ إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ يُمْسِكُونَ وَيُفْطِرُونَ بِالنَّهَارِ، كَذَلِكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِذَا غَرَبَتْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ كَمَا يَأْكُلُ الْمُسْلِمُونَ وَيَصُومُونَ فِي أَيَّامِ الدَّجَّالِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدِنَا إِذَا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَأَتَمَّ الْأَرْكَانَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، قَالَ المتولي وَغَيْرُهُ: إِذَا تَمَضْمَضَ الصَّائِمُ لَزِمَهُ مَجُّ الْمَاءِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَنْشِيفُ فَمِهِ بِخِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا بِلَا خِلَافٍ، قَالَ المتولي: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً، قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِي الْفَمِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَجِّ إِلَّا رُطُوبَةٌ لَا تَنْفَصِلُ عَنِ الْمَوْضِعِ، إِذْ لَوِ انْفَصَلَتْ لَخَرَجَتْ فِي الْمَجِّ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَبْرَأُ عَنْ عَيْبٍ بَاطِنٍ بِالْحَيَوَانِ لَمْ يَعْلَمْهُ الْبَائِعُ، وَلَا يَبْرَأُ مِنْ عَيْبٍ ظَاهِرٍ وَلَا بَاطِنٍ بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ وَلَا بِهِ إِذَا عَلِمَهُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ، وَالْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَيَمْنَعُهُ الرَّدُّ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: فَفِي " الرَّوْضَةِ ": لَوِ اشْتَرَى أَمَةً وَأَرَادَ تَزْوِيجَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَطِئَهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا وَاسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ، أَوْ كَانَ الِانْتِقَالُ مِنِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ جَازَ تَزْوِيجُهَا فِي الْحَالِ عَلَى الْأَصَحِّ، انْتَهَى. وَمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ أَنَّهَا إِذَا طُلِّقَتْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَطَؤُهَا السَّيِّدُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ; لِئَلَّا يَظْهَرَ بِهَا حَمْلٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى نَفْيِهِ إِلَّا بِأَنْ يَدَّعِيَ الِاسْتِبْرَاءَ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ رَاجَتْ أَمْ لَمْ تَرُجْ، وَكَذَا بَيْعُهَا إِلَى أَجَلٍ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْعُرُوضِ وَإِنْ رَاجَتْ رَوَاجَ النُّقُودِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ الْغَالِبُ فِيهَا إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْفُلُوسِ حُمِلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا تُطْلَقُ فِيهِ الدَّرَاهِمُ إِلَّا عَلَى الْفِضَّةِ حُمِلَ عَلَيْهَا، فَإِنِ اسْتَوَى الْإِطْلَاقَانِ فِي بَلَدٍ وَلَمْ يُبَيَّنْ حُمِلَ عَلَى الْفُلُوسِ؛ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ وَقَاعِدَةُ الْإِقْرَارِ الْحَمْلُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فِيمَا عَدَاهُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّبْعُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يُزَوِّجُهَا مَالِكُ الْبَعْضِ وَمَعَهُ وَلِيُّهَا الْقَرِيبُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمُعْتِقُ الْبَعْضِ وَإِلَّا فَالسُّلْطَانُ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مُعْتِقُ الْبَعْضِ. وَالثَّالِثُ: مَعَهُ السُّلْطَانُ. وَالرَّابِعُ: يَسْتَقِلُّ مَالِكُ الْبَعْضِ. وَالْخَامِسُ: لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا أَصْلًا لِضَعْفِ الْمِلْكِ وَالْوَلَايَةِ بِالتَّبْعِيضِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُمَا إِنْ كَانَا مُعَيَّنَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي الَّذِي عَقَدَ وَالشُّهُودِ صَحَّ النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اسْمِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَإِلَّا بِأَنْ قَالَ لِوَكِيلِ الْغَائِبِ: زَوَّجْتُ مُوَكِّلَكَ فَاطِمَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ بِنْتَ فُلَانٍ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ. وَفِي الرَّوْضَةِ لَوْ كَانَ اسْمُ ابْنَتِهِ الْوَاحِدَةِ فَاطِمَةَ فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ فَاطِمَةَ وَلَمْ يَقُلْ: بِنْتِي، فَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ لِكَثْرَةِ الْفَوَاطِمِ لَكِنْ لَوْ نَوَاهَا صَحَّ، كَذَا قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالْبَغَوِيُّ، وَاعْتَرَضَ ابن الصباغ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ وَالشُّهُودُ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى النِّيَّةِ، وَهَذَا أَقْوَى؛ وَلِهَذَا الْأَصْلِ مَنَعْنَا النِّكَاحَ بِالْكِنَايَاتِ انْتَهَى. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الْبَيِّنَةُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ، وَالْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ: فَالْجَوَابُ فِي الثَّلَاثَةِ الْجَوَازُ مَعَ الْكَرَاهَةِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَةِ فِي مَسْأَلَةِ وَطْءِ إِحْدَى الزَّوْجَتَيْنِ بِحَضْرَةِ الْأُخْرَى. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا إِذَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً أَوْ مُطَلَّقَةً فِي عِدَّةٍ بَيْنُونَةٍ فَمَتَى تَزَوَّجَهَا صَحَّ النِّكَاحُ وَلَمْ تُطَلَّقْ. فَإِنْ كَانَ فِي عِدَّةٍ رَجْعِيَّةٍ وَرَاجَعَهَا فِي تِلْكَ الْعِدَّةِ طُلِّقَتْ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ وَالْحُكْمُ فِيهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ الْمُنْجَزِ فَقَطْ، هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّامِنُ، وَالتَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ: فَالْجَوَابُ أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ لَا يَقَعُ وَطَلَاقَ السَّكْرَانِ يَقَعُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّمَانُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْمَثَاقِيلَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ زَادَتْ قِيمَتُهَا أَوْ نَقَصَتْ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْبَيْعَ أَبْطَلَ التَّعْلِيقَ فَإِذَا وَطِئَهَا بَعْدَ مِلْكِهَا ثَانِيًا لَمْ تُعْتَقْ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ التَّمْلِيكَ لَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ الْقَبُولِ، وَالْعِتْقَ صَادَفَ مِلْكَ الْمَرْأَةِ الْمُعْتَقَةِ فَيَصِحُّ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ عِتْقَ الْمُكْرَهِ لَا يَنْفُذُ، وَحَدُّ الْإِكْرَاهِ التَّخْوِيفُ بِأَمْرٍ يُؤْثِرُ الْعَاقِلُ الْإِقْدَامَ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَذَرًا مِمَّا هُدِّدَ بِهِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالثَّمَانُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ فِي قَتْلِ الْكَلْبِ غَيْرِ الْعَقُورِ خِلَافًا فِي مَذْهَبِنَا، وَاضْطَرَبَ تَرْجِيحُ الشَّيْخَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَفِي مَوْضِعٍ رَجَّحَا الْجَوَازَ، وَفِي مَوْضِعٍ رَجَّحَا الْمَنْعَ وَهُوَ اخْتِيَارِي. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ: فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا فِسْقَ فِي هَذَا الْفِعْلِ بِعَيْنِهِ إِلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ مُحَرَّمًا مِنْ رُقًى مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْعِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالثَّمَانُونَ: فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّفْرِقَةَ مِنَ السِّحْرِ نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَمَّا التَّأْلِيفُ وَكَتْبُ الْحِرْزِ وَالْحِجَابِ فَلَيْسَ مِنْهُ، قَدْ سُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَلْيَفْعَلْ. وَأَمَّا السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ: فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ وَقَرَابِينِ الْجِنِّ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ، كَذَا أَجَابَ بِهِ شَيْخُنَا الإمام تقي الدين الشمني، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَا حَاضِرٌ. وَأَمَّا السُّؤَالُ التِّسْعُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا عَلَى إِتْيَانِ الْقَاضِي وَالْحُضُورِ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَلَدِ فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ يَأْتِيهِ مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى فَمَا فَوْقَهَا فَلَهُ طَلَبُ نَفَقَةِ الْمَرْكُوبِ وَنَفَقَةِ الطَّرِيقِ، قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ لِمَا سِوَى هَذَا، لَكِنْ فِي تَعْلِيقِ الشيخ أبي حامد أَنَّ الشَّاهِدَ لَوْ كَانَ فَقِيرًا يَكْسِبُ قُوتَهُ يَوْمًا يَوْمًا، وَكَانَ فِي صَرْفِ الزَّمَانِ إِلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ كَسْبِهِ لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 يَلْزَمْهُ الْأَدَاءُ إِلَّا إِذَا بَذَلَ لَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ قَدْرَ كَسْبِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يُقَالُ فِي الْمُمْتَنِعِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ: فَالْجَوَابُ إِذَا قَالَ: لَمْ أَشْهَدْ بِذَلِكَ ثُمَّ شَهِدَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي الْجَانِبَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَذْكُرُ ثُمَّ شَهِدَ تُقْبَلُ، هَذَا مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ فِي الْجَانِبَيْنِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ: فَالْجَوَابُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْحَاكِمِ أَنَّهُ حَكَمَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ وَلَايَةَ الْجَاهِلِ بَاطِلَةٌ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ عِلْمَ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا عِلْمٌ مُعْتَبَرٌ أَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا إِثْمَ عَلَى الْمُعَبِّرِ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ خَطَأً أَوْ مُجَازَفَةً. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ: فَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حِكْمَةِ نُزُولِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ هَمَّتْ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ وَجَرَى أَمْرُهُ مَعَهُمْ عَلَى مَا نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَهُمْ أَبَدًا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى السِّحْرِ وَغَيْرِهِ إِلَى مَا كَانَ اللَّهُ بَرَّأَهُ وَنَزَّهَهُ عَنْهُ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةَ فَلَمْ تَقُمْ لَهُمْ مُنْذُ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَظْهَرَهُ رَايَةٌ، وَلَا كَانَ لَهُمْ فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ سُلْطَانٌ وَلَا قُوَّةٌ وَلَا شَوْكَةٌ، وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى تَقْرُبَ السَّاعَةُ، فَيَظْهَرُ الدَّجَّالُ وَهُوَ أَسْحَرُ السَّحَرَةِ، فَتُتَابِعُهُ الْيَهُودُ فَيَكُونُونَ يَوْمَئِذٍ جُنْدَهُ مُقَرِّرِينَ أَنَّهُمْ يَنْتَقِمُونَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا صَارَ أَمْرُهُمْ إِلَى هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ قَتَلُوهُ، وَأَبْرَزَهُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ وَنَصَرَهُ عَلَى رَئِيسِهِمْ وَكَبِيرِهِمُ الَّذِي ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَقَتَلَهُ وَهَزَمَ جُنْدَهُ مِنَ الْيَهُودِ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَجِدُونَ مَهْرَبًا، وَإِنْ تَوَارَى أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَجَرَةٍ أَوْ بِحَجَرٍ أَوْ بِجِدَارٍ نَادَاهُ يَا رُوحَ اللَّهِ هَهُنَا يَهُودِيٌّ حَتَّى يَقِفَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمَ وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ، وَكَذَا كُلُّ كَافِرٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَافِرٌ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ الشَّجَرِ شَجَرُ الْغَرْقَدِ فَإِنَّهُ شَجَرُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْيَهُودِيِّ إِذَا تَوَارَى بِهِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُهُ لِدُنُوِّ أَجَلِهِ لَا لِقِتَالِ الدجال؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ مِنَ التُّرَابِ أَنْ يَمُوتَ فِي السَّمَاءِ لَكِنْ أَمْرُهُ يَجْرِي عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] فَيُنْزِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِيُقِرَّهُ فِي الْأَرْضِ، يَرَاهُ فِيهَا مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ، وَيَسْمَعُ بِهِ مَنْ نَأَى عَنْهُ، ثُمَّ يُقْبَضُ فَيَتَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ أَمْرَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ حَيْثُ دُفِنَ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ أُمُّهُ مِنْ نَسْلِهِمْ وَهِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ فَيُنْشَرُ إِذَا نُشِرُوا نُشِرَ مَعَهُمْ، هَذَا سَبَبُ إِنْزَالِهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَّفِقُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ بُلُوغِ الدجال الَّذِي قَدْ بَلَغَ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَلَمْ يَنْتَصِبْ لِقِتَالِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِقَتْلِهِمْ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَيَجْرِي قَتْلُهُ عَلَى يَدَيْهِ، إِذْ كَانَ مِمَّنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ وَجَعَلَهُ وَأُمَّهُ آيَةً، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْأَمْرُ بِإِنْزَالِهِ لَا أَنَّهُ يَنْزِلُ لِقِتَالِ الدَّجَّالِ قَصْدًا. الثَّالِثُ أَنَّهُ وَجَدَ فِي الْإِنْجِيلِ فَضْلَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا قَالَهُ، وَقَوْلُهُ نَحْوَ ذَلِكَ: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَرَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ إِلَى أَنْ يَنْزِلَ آخِرَ الزَّمَانِ مُجَدِّدًا لِمَا دَرَسَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُوَافِقُ خُرُوجَ الدَّجَّالِ فَيَقْتُلُهُ، وَلَا يَبْعُدُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: قِتَالُهُ الدَّجَّالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ وَهُمْ مُفْتَتَنُونَ، قَدْ عَمَّ فَرْضُ الْجِهَادِ أَعْيَانَهُمْ وَهُوَ أَحَدُهُمْ لَزِمَهُ مِنْ هَذَا الْغَرَضِ مَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ؛ فَلِذَلِكَ يَقُومُ بِهِ وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي اتِّبَاعِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ، وَالسَّابِعُ، وَالثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ: فَالْمَدُّ عَلَى الْهَمْزِ وَالْهَاءِ خَطَأٌ وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إِلَّا إِنْ قَصَدَ الِاسْتِفْهَامَ، وَأَمَّا الْمَدُّ عَلَى اللَّامِ فَحَسَنٌ. وَأَمَّا السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ، وَالْمُوَفِّي مِائَةً: فَقَدْ قَالَ ابن المنير فِي كِتَابِهِ شَرَفِ الْمُصْطَفَى: ذَكَرَ ابن حبيب أَنَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بَحْرًا يُسَمَّى الْمَكْفُوفَ يَكُونُ بَحْرُ الْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالْقَطْرَةِ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ. وَأَنَّ هَذَا الْبَحْرَ انْفَلَقَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ حَتَّى جَاوَزَهُ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنَ انْفِلَاقِ الْبَحْرِ لِمُوسَى. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ فِي فَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَدُورُ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا بِسَنَدٍ وَاهٍ جِدًّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ بَحْرًا دُونَ السَّمَاءِ بِمِقْدَارِ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ فَهُوَ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ قَائِمٌ فِي الْهَوَاءِ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَقْطُرُ مِنْهُ قَطْرَةٌ جَارٍ فِي سُرْعَةِ السَّهْمِ يَجْرِي فِيهِ الْقَمَرُ وَالشَّمْسُ وَالنُّجُومُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] هَذَا آخِرُ الْأَجْوِبَةِ. وَقَدْ قُلْتُ فِي الْجَوَابِ نَظْمًا: سُبْحَانَ رَبِّ الْعُلَى مُؤْتِي الْبَرَاهِينِ ... وَبَاعِثِ الرُّسْلِ إِرْشَادًا لِمَهْدِينِ صَلَّى عَلَيْهِمْ إِلَهُ الْعَرْشِ قَاطِبَةً ... خُصُوصًا الْمُصْطَفَى خَيْرَ النَّبِيِّينِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 مَنِ اجْتَبَاهُ وَآتَاهُ خَصَائِصَ لَا تُحْصَى بِعَدٍّ وَلَا تُرْمَى بِتَوْهِينِ ... وَلَمْ يَزَلْ شَرْعُهُ يَعْلُو بِمُجْتَهِدٍ يَقُومُ حِفْظًا لَهُ فِي كُلِّ مَا حِينِ ... وَكُلُّ قَرْنٍ أَتَى فِي رَأْسِهِ رَجُلٌ يُقِيمُهُ اللَّهُ فِي التَّجْدِيدِ لِلدِّينِ ... نَعَمْ وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ مُجْتَهِدُ الْ عَصْرِ الْأَخِيرِ عَلَى رَغْمِ الشَّيَاطِينِ ... أَقُولُ ذَلِكَ تَحْدِيثًا بِنِعْمَتِهِ لَا أَقْصِدُ الْفَخْرَ أَوْ صُنْعَ الْمُرَائِينِ ... نَعَمْ وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ يُغْدَقُ بِي فَتْحُ الْمَغَالِقِ مَعْ حَلِّ الْعَوِيصِينِ ... إِذَا بَدَا مُشْكِلٌ فِي الْعِلْمِ أُقْصَدُ فِي إِيضَاحِهِ فَأُوَفِّيهِ بِتَبْيِينِ ... إِنْ شِئْتُ نَقْلًا فَأَرْوِي فِيهِ أَبْحُرَهُ أَوِ الدَّلِيلَ فَآتِي بِالْبَرَاهِينِ ... دَعْ ذَا وَعُدَّ لِعِلْمٍ أَوْ لِفَائِدَةٍ وَاحْفَظْ جَوَابَ سُؤَالَاتٍ بِتَمْكِينِ ... كَتَبْتُهَا سُرْعَةً فِي سَاعَتَيْنِ كَمَا كَتَمْتُهَا غَيْرَةً لِلْعِلْمِ وَالدِّينِ ... وَهَذِهِ سَرْدُهَا لِلنَّاظِرِينَ فَمَا يُغَبَّشُ الشَّمْسَ إِلَّا طَامِسُ الْعِينِ ... الْوَعْدُ فِي آيَةِ الْأَحْزَابِ يَرْجِعُ لِلْ مَجْمُوعِ لَا الْفَرْدِ لِلتَّعْظِيمِ فِي دِينِ ... وَرُؤْيَةُ اللَّهِ خُذْ عَنِّي مُحَرَّرَهَا وَدَعْ أُولِي الْجَهْلِ وَالتَّخْبِيطِ وَالشِّينِ ... كُلُّ الْأَنَامِ يَرَوْهُ فِي الْقِيَامَةِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ مَعَ الْأَمْلَاكِ بِالْعِينِ ... وَفِي الْجِنَانِ يَرَاهُ الْقَوْمُ فِي جَمْعٍ وَلِلنِّسَا رُؤْيَةٌ فِي يَوْمِ عِيدِينِ ... نَعَمْ وَيَخْتَصُّ صِدِّيقَاتُنَا بِزِيَا دَاتٍ عَلَيْهِمْ كَمَاذَا لِلْوَلِيِّينِ ... وَالْجِنُّ فِيهِمْ خِلَافٌ وَالَّذِي نَرَهُ بِأَنْ لَهُمْ رُؤْيَةٌ بَعْضَ الْأَحَايِينِ ... وَبِضْعَةٌ مَعَ عَشْرٍ عِنْدَنَا نَقَلُوا فِي آيَةٍ هِيَ أَرْجَى لِلْمُنِيبِينِ ... قُلْ يَا عِبَادِي جَرَى فِيمَا يُضَادِدُهَا وَمُنْتَهَى زُلْزِلَتْ أُخْرَى بِتَعْيِينِ ... قِدَمًا شَرَى اللَّهَ نَفْسُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عِلْمٍ وَإِذْ نَزَلَتْ أَحْدَاثُ تَكْوِينِ ... وَالرُّوحُ إِذْ بُذِلَتْ لِلْقَتْلِ أَنْفُسُهُمْ وَالْمَالُ لِلْبَذْلِ كَانَا حَقَّ تَثْمِينِ ... وَالْقَلْبُ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى يُخَصُّ بِهِ وَالنَّفْسُ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ بِتَسْكِينِ ... إِذِ الْقُلُوبُ مَحَلُّ الرُّوحِ مَسْكَنُهَا وَالرُّوحُ نَفْسٌ وَإِنْ قَدَّرْتَ نَفْسِينِ ... فَحَيْثُ كَانَتْ نُفُوسُ الْقَوْمِ بَاذِلَةً كَانَ الْوِعَاءُ لَهَا مُلْغًى عَنِ الْعِينِ ... وَالْخُلْفُ فِي الشَّرْقِ مَعْ غَرْبٍ وَفَضْلُ سَمَا وَالْأَرْضُ قَدْ شَاعَ مَا هَذَا بِمَكْنُونِ ... وَلَيْسَ عِنْدِيَ تَرْجِيحٌ بِذَيْنِ لِمَا فِيهِ تَعَارُضُ مَدْلُولِ الدَّلِيلِينِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 خَيْرُ السَّمَاوَاتِ عُلْيَاهَا رَوَيْتُ وَهَا ... ذِي الْأَرْضُ فِيمَا رَوَى خَيْرَ الْأَرَاضِينِ وَخَيْرُ جَنَّاتِهَا الْفِرْدَوْسُ أَرْفَعُهَا ... وَالْأَرْضُ فِي الْأَنْبِيَا شَامٌ بِتَعْيِينِ وَالسِّرُّ فِي طَمْسِ نُورِ النَّيِّرَيْنِ وَفِي ... إِلْقَاهُمَا النَّارَ تَبْكِيتُ الْعُبَيْدِينِ ثُمَّ السَّوَادُ يُرَى فِي بَدْرِنَا أَثَرٌ ... بِمَسْحِ جِبْرِيلَ وَهُوَ الْمَحْوُ لِلزِّينِ وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ تَأْتِي الْعَرْشَ تَسْجُدُ أَوْ ... تَسِيرُ فِي الْأَرْضِ جَاءَا فِي حَدِيثِينِ وَقَدْرُهَا مَثَلُ الدُّنْيَا وَزِدْ ثُلُثًا ... كَذَا رَوَيْنَاهُ عَنْ بَعْضِ الْحَنِيفِينِ بِمَكَّةٍ يَظْهَرُ الْمَهْدِيُّ ثُمَّ دِمَشْ ... قِ الشَّامِ فِيهَا يَجِيءُ عِيسَى بِتَزْيِينِ وَالنَّيْلُ مَعَ رَمَضَانَ جُمُعَةٍ أَحَدٍ ... لَهَا شُغُوفٌ عَلَى بَاقِي الْأَفَانِينِ وَفِي فَقِيرٍ صَبُورٍ مَعْ شَكُورٍ غَنِيٍّ ... خُلْفٌ وَفَضْلٌ كَفَافًا فَوْقَ هَذِينِ وَأَوَّلُ الْخَلْقِ فِي قَوْلٍ أُرَجِّحُهُ ... لِمَا رَوَوْا قَلَمٌ يَجْرِي بِمَسْنُونِ وَكَتْبُهُ أَوَّلًا بِاللَّوْحِ أَسْطُرُهُ ... إِنِّي أَنَا بَعْدَهُ التَّوَّابُ فَادْعُونِي وَحِكْمَةٌ فِي وُرُودِ النَّارِ مُؤْمِنُهُمْ ... تَعْرِيفُ قَدْرِ نَعِيمٍ غَيْرِ مَمْنُونِ وَنَحْوُ طس عِنْدِي لَا أُفَسِّرُهُ ... فَذَاكَ مَخْزُونُ عِلْمٍ أَيُّ مَخْزُونِ وَذَرَّةٍ إِنْ تَصِرْ سَبْعِينَ عِدَّتُهَا ... لَهَا جَنَاحُ بَعُوضٍ قَدْرَ مَوْزُونِ عِلْمُ الْيَقِينِ عَلَى الْأَخْبَارِ مُعْتَمِدٌ ... عَيْنَ الْيَقِينِ الَّذِي شَاهَدْتَ بِالْعِينِ حَقُّ الْيَقِينِ إِذَا بَاشَرْتَ ثُمَّتَ مَعْ ... يَا ذَاكِرَ اللَّهِ ذِكْرَاهُ بِتَلْحِينِ وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ سِرًّا لِلْأُولَى كَمُلُوا ... وَيَجْهَرُ الْمُخْتَشِي شَرَّ الشَّيَاطِينِ وَعِنْدِي اللَّبَنُ الْأَعْلَى فَلَيْلَةُ الْإِسْرَا ... أَخْتَارُهُ إِذْ أَتَى خَيْرُ النَّبِيِّينِ مَا كَوْثَرُ خَيْرُ مَا الْأُخْرَى وَزَمْزَمُ قُلْ ... خَيْرُ الْمِيَاهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرَاضِينِ وَالْخَوْفُ أَفْضَلُ لِلْإِنْسَانِ صَحَّ كَمَا ... لَدَى الْمَمَاتِ الرَّجَا أَوْلَى فَرَجُّونِي وَاللَّيْلُ أَفْضَلُ فِي قَوْلٍ أُرَجِّحُهُ ... لِقَوْلِهِ جَلَّ مَنْ ذَا فِيهِ يَدْعُونِي وَخَلْقُ آدَمَ تَشْرِيفًا لِعُنْصُرِهِ ... مِنَ التُّرَابِ الطَّهُورِ الطَّاهِرِ الطِّينِ وَخَلْقُ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مُجَانِسَةٍ ... لِوَصْفِهَا وَلِتَجْنِيسٍ بِزَوْجِينِ وَرَفْعُ عِيسَى لِيَأْتِيَ فِي أَوَاخِرِنَا ... لِقَتْلِ دَجَّالِهِمْ رَأْسِ الْيَهُودِينِ وَبِالْمَسِيحِ يُسَمَّى حَيْثُ خِلْقَتُهُ ... مِنْ غَيْرِ أَخْمَصَ مَمْسُوحٍ لِرِجْلِينِ يُقِيمُ سَبْعَ سِنِينَ إِذْ يَعُودُ كَمَا ... قَدْ صَحَّ فِي الْخَبَرِ الْأَشْيَاخُ رَوُّونِي كَذَا أَقَامَ بِسِجْنٍ يُوسُفٌ وَثَوَى ... فِي الْحُوتِ شَهْرًا وَثُلْثًا قِيلَ ذُو النُّونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 وَلَا نُبِيحُ لِشَخْصٍ آلَةً سُمِعَتْ سِوَى ذَوِي الْحَالِ سَادَاتِ الْمُحِبِّينِ ... إِدْرِيسُ حَيٌّ بِلَا خُلْفٍ وَالْأَرْجَحُ فِي إِلْيَاسَ وَالْخَضِرِ إِلَّا بَقَا فَحَيُّونِي ... وَالْخُلْفُ فِي خَضِرٍ هَلْ بِالنُّبُوَّةِ أَوْ لَهُ الْوَلَايَةُ مَشْهُورٌ بِتَحْسِينِ ... وَوَالِدَا خَيْرِ خَلْقِ اللَّهِ نُزْلُهُمَا فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ عِلْمٌ أَيُّ مَكْنُونِ ... وَمَنْ يُصَرِّحْ بِكَفْرٍ أَوْ بِنَارِ لَظًى فِي ذَيْنِ فَهْوَ لَعِينٌ أَيُّ مَلْعُونِ ... شَرْطُ الْوُضُوءِ وُجُوبًا وَقْتُهُ حَدَثٌ عَقْلٌ بُلُوغٌ مَعَ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ ... وَشَرْطُ صِحَّتِهِ الْمَاءُ الطَّهُورُ كَذَا عِلْمٌ بِإِطْلَاقِهِ أَوْ خُذْ بِمَظْنُونِ ... دِينٌ وَفَقْدٌ مُنَافٍ فَقْدُ مَانِعِهِ عَقْلٌ وَتَمْيِيزُ مَفْرُوضٍ وَمَسْنُونِ ... طَهَارَةُ الْعُضْوِ تَرْتِيبٌ لَدَى نَقَا حَيْضٍ وَفِي سَلَسٍ وَقْتٌ بِلَا مِينِ ... تَقْدِيمُ حَشْوٍ وَالِاسْتِنْجَا وَطُهْرُ أَذًى وَالْفَوْرُ بَعْدَ تَوَالٍ بَيْنَ عُضْوِينِ ... وَمَنْ يُصَلِّي إِمَامًا ثَوْبُهُ نَجِسٌ يُعِيدُ مِنْ دُونِ مَأْمُومٍ بِتَبْيِينِ ... وَمَنْ يُطِلْ خُطْبَةً يُكْرَهْ وَفُضِّلَ مَنْ أَتَى الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ الْقَرَابِينِ ... مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ جُزْءٌ جَزَّأَ الْعُلَمَا قِيرَاطُ أَجْرِ مُصَلَّاهُ وَمَدْفُونِ ... وَجَاءَ فِي خَبَرٍ تَمْثِيلُهُ أَحَدًا بِقَدْرِ أَصْغَرِ قِيرَاطٍ لِمَوْزُونِ ... وَحِكْمَةُ الصَّفِّ إِتْبَاعُ الْحَدِيثِ فَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ صُفُوفٌ فَازَ بِاللِّينِ ... وَمَنْ يَطُلْ عِنْدَهُمْ شَمْسُ النَّهَارِ وَلَا تَغِيبُ إِلَّا كَلَحْظٍ أَوْ كَلَحْظِينِ ... يُقَدِّرُوا الصَّوْمَ مَعَ فَرْضِ الْعِشَاءِ كَمَا يُقَدِّرُوا زَمَنَ الدَّجَّالِ بِالْحِينِ ... صَحَّتْ صَلَاةُ مُصَلٍّ فِي السَّفِينَةِ إِنْ سَارَتْ وَإِنْ تَرْسُ أَوْ تَنْسَاخُ فِي الطِّينِ ... لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ مَا تُبْقِيهِ مَضْمَضَةٌ مِنْ بَلَّةٍ لَمْ تَكُنْ مَفْصُولَةَ الْعِينِ ... مَنْ بَاعَ بَيْعًا عَلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ الْعُيُوبِ يُخَصُّ الْبُرْءُ بِاثْنِينِ ... بِبَاطِنٍ مِنْ ذَوِي رُوحٍ وَبَائِعِهِ بِجَهْلِهِ عَالِمٍ أَوْ غَيْرِ مَبْطُونِ ... وَمَنْ يُصَالِحُ عَنْ عَيْبٍ بِالَارْشِ وَهَا وَيَسْقُطُ الرَّدُّ هَذَا غَيْرَ مَغْبُونِ ... وَلَيْسَ يَسْقُطُ الِاسْتِبْرَاءُ إِنْ نُكِحَتْ وَطَلَّقَ الزَّوْجُ حَالًا قَبْلَ تَمْكِينِ ... وَفِي الْفُلُوسِ يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعْ سَلَمٍ إِلَى زَمَانٍ وَإِنْ رَاجَتْ كَنَقْدِينِ ... وَمَنْ أَقَرَّ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَنَأَى بِالْعُرْفِ يَقْضِي إِذَا مَا جَا بِتَبْيِينِ ... وَمَنْ تَبَعَّضَ يُزْوِجُهَا الْمَلِيكُ مَعَ التّ تَقْرِيبِ أَوْ مُعْتِقٌ أَوْ مَعْ سَلَاطِينِ ... عَقْدُ النِّكَاحِ صَحِيحٌ حَيْثُ يُعْرَفُ مَنْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا وَإِلَّا أَلْغِ بِالدُّونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 وَزَوْجَةٌ أَنْكَرَتْ قَبْضَ الَّذِي نُحِلَتْ ... فَقَوْلُهَا الْقَوْلُ حُكْمٌ أَيُّ مَسْنُونِ وَوَطْءُ سُرِّيَّةٍ أَوْ زَوْجَةٍ بِحِذَا ... ضَرَائِرٍ فَهْوَ كُرْهٌ بَيْنَ الِاثْنِينِ كَذَا بِحَضْرَةِ عَمْيَا غَيْرِ بَاصِرَةٍ ... لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا تَحْرِيمَ فِي الدِّينِ وَمَنْ يَقُلْ إِنْ تَعْدِلِي فَهِيَ طَالِقَةٌ ... يَلْغِي الْمَقَالَ بِبُعْدٍ أَوْ بِبَيْنُونِ وَذَاتُ دَوْرٍ بِهَا يُلْغِي الْمُعَلِّقُ لَا ... مُنْجِزٌ فَلْيَقَعْ هَذَا بِتَكْوِينِ وَمَنْ يُطَلِّقُ إِكْرَاهًا وَيُعْتِقُ لَا ... يَقَعْ وَفِي السُّكْرِ نَفْذٌ فِيهِ هَذِينِ وَحَدُّ الِاكْرَاهِ تَهْدِيدٌ بِمَا سَمَحَتْ ... نَفْسُ الْمُرُوءَاتِ مِنْهُ لِلْمُرِيدِينِ وَالْقَرْضُ يُوفِي بِوَزْنٍ مِثْلَمَا قَبَضُوا ... إِنْ زَادَ أَوْ إِنْ تَنَقَّصَ قِيمَةُ الْعِينِ وَكُلُّ تَعْلِيقِ عِتْقٍ حَلُّهُ أَبَدًا ... بَيْعٌ وَيَبْدَأُ مِلْكٌ غَيْرُ مَوْهُونِ وَمَنْ تُمَلِّكْ لَهَا طِفْلًا وَلَيْسَ لَهُ ... مِنْ قَابِلٍ يُلْغَ ذَا التَّمْلِيكُ فِي الْحِينِ فَإِنْ تُمَلِّكْهُ عَبْدًا ثُمَّ تُعْتِقُهُ ... فَلْيَنْفُذِ الْعِتْقُ مِنْهَا غَيْرَ مَوْهُونِ مَنْ أَكْرَهُوهُ عَلَى خَمْرٍ تُبَاحُ لَهُ ... مِنْ غَيْرِ حَتْمٍ وَيَقْضِي غَيْرَ مَفْتُونِ وَقَدْ جَرَى الْخُلْفُ فِي قَتْلِ الْكِلَابِ وَلَا ... أُفْتِي بِهِ أَبَدًا إِلَّا لِمُؤْذِينِ وَلَا أَفُسِّقُهُ فِي ضَرْبِ مَنْدَلِهِ ... وَلَا أَلُومُ عَلَى حَجْبٍ لِمَجْنُونِ عُدُّوا مِنَ السِّحْرِ تَفْرِيقًا وَتَأْخُذُهُ ... لَا كَتْبَ حِرْزٍ وَتَأْلِيفٍ لِزَوْجِينِ وَلَا نُبِيحُ بِمَا لَمْ يُدْرَ رُقْيَتُهُ ... حَذَارِ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِ الْقَرَابِينِ كَذَا أَجَابَ بِهِ قِدْمًا بِحَضْرَتِنَا ... شَيْخِي الشُّمُنِّيُّ ذُو التَّقْوَى وَذُو الدِّينِ لِلشَّاهِدِ الْأَجْرُ بُعْدَ الْمَسَافَةِ أَوْ ... إِنْ عُدَّ فِي الْفُقَرَا ذَا وَالْمَسَاكِينِ وَشَاهِدٌ قَالَ لَمْ أَشْهَدْ فَمَا قُبِلَتْ ... إِنْ جَاءَ يَشْهَدُ هَذَا غَيْرُ مَأْمُونِ وَحَيْثُ يُنْكِرُ حُكْمًا حَاكِمٌ قُبِلَتْ ... عَلَيْهِ فِيمَا نَفَى قَوْلُ الشَّهِيدِينِ وَلَا تَصِحُّ وَلَايَاتُ الْقَضَا أَبَدًا ... لِجَاهِلٍ طَرَقَ الْأَحْكَامَ فِي الدِّينِ وَعِلْمُ تَعْبِيرِ رُؤْيَا النَّوْمِ مُعْتَبَرٌ ... لَهُ أُصُولٌ بِمَكْتُوبٍ وَمَسْنُونِ وَمَنْ يُعَانِيهِ لَا إِثْمٌ عَلَيْهِ إِذَا ... رَاعَى الْقَوَاعِدَ فِيهِ غَيْرَ مَفْتُونِ تَمَّ الْجَوَابُ بِهَذَا عَنْ مَسَائِلِهِ ... فَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا غَيْرَ مَمْنُونِ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْهَادِي وَعِتْرَتِهِ ... وَصَحْبِهِ مَا أَتَى شَادٍ بِمَوْزُونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 [الْأَسْئِلَةُ الْوَزِيرِيَّةُ وَأَجْوِبَتُهَا] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ مُجِيبِ السَّائِلِينَ. مَا يَقُولُ عَلَّامَةُ الزَّمَانِ، وَالْفَائِقُ عَلَى سَائِرِ الْأَقْرَانِ، فِي الْجَوَابِ عَنْ أَسْئِلَةٍ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَفِعُ عَنْهَا غَرِيبُ الْإِشْكَالِ حَتَّى تَهْدِيَ الطَّالِبَ لِوَجْهِ الْحَقِّ فِيهَا عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ؟ الْأَوَّلُ: هَلِ الْوَضْعُ فِي أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ لِلْمَعْنَى الْعَامِّ أَوْ لِلْخُصُوصِيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: بِالْأَوَّلِ وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ إِذْ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْخُصُوصِيَّاتِ، فَلَا يُقَالُ هَذَا وَالْمُرَادُ أَحَدٌ مِمَّا يُشَارُ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُ لَجَازَ ذَلِكَ كَمَا فِي رَجُلٍ مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ مَجَازًا وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَإِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْخُصُوصِيَّاتِ لَزِمَكَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا وَلَا قَائِلَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ يُشَارُ بِهِ إِلَى أَمْرٍ كُلِّيٍّ مَذْكُورٍ وَذَلِكَ يُنَافِي وَضْعَهُ لِلْخَاصِّ. الثَّانِي: إِطْلَاقُ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ أَحَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ؟ فَإِنْ قُلْتَ: بِالْأَوَّلِ أَوَرَدَ أَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ حَقِيقَةً؟ وَإِنْ قُلْتَ: بِالثَّانِي وَرَدَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَقِيقَةً، الثَّالِثُ: هَلِ الْإِنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبِ وَالِابْنِ مُشَكِّكٌ أَمْ مُتَوَاطِئٌ؟ الرَّابِعُ: هَلْ يَنْطَبِقُ عَلَى مَجَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ تَعْرِيفُ الْمَجَازِ بِأَنَّهُ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لِعَلَاقَةٍ أَمْ لَا؟ الْخَامِسُ: أَنَّ الْعَلَاقَةَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 40] مَا هِيَ وَمِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْعَلَاقَةِ؟ السَّادِسُ: وَهُوَ أَعْظَمُهَا إِشْكَالًا كَيْفَ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرْعِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ تَصْدِيقٍ فَهُوَ كَيْفٌ، فَالْإِيمَانُ كَيْفٌ وَلَا شَيْءَ مِنَ الْكَيْفِ بِمُكَلَّفٍ بِهِ فَلَا شَيْءَ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُكَلَّفٍ بِهِ، أَمَّا الصُّغْرَى فَوَاضِحَةٌ، وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ؟ وَالْمَسْئُولُ مِنَ الْأُسْتَاذِ الْمُحَقِّقِ وَالْمَوْلَى الْمُدَقِّقِ كَشْفُ الْحِجَابِ عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ بِإِيضَاحِ الصَّوَابِ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَرَدَتْ عَلَيَّ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ مِنْ مَوْلًى لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ جَوَابُهَا وَلَا يُطْلَبُ مِنْ غَيْرِهِ صَوَابُهَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 تَجْدِيدَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَتَذْكِيرَ الْوُدِّ الْقَدِيمِ، فَأَقُولُ وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ كُلُّهَا مَسْطُورَةٌ وَأَجْوِبَتُهَا مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ. أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ ذَكَرَهُ وَجَوَابَهُ القرافي عَلَّامَةُ الْمَالِكِيَّةِ لَكِنْ فِي الْمُضْمَرِ فَقَالَ: اخْتَلَفَ الْفُضَلَاءُ فِي مُسَمَّى الْمُضْمَرِ حَيْثُ وُجِدَ هَلْ هُوَ جُزْئِيٌّ أَوْ كُلِّيٌّ؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: مُسَمَّاهُ جُزْئِيٌّ وَاحْتَجُّوا بِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَلَوْ كَانَ مُسَمَّاهُ كُلِّيًّا لَكَانَ نَكِرَةً، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلِّيًّا كَانَ دَالًّا عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَدُلَّ الْمُضْمَرُ عَلَى شَخْصٍ خَاصٍّ الْبَتَّةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّائِلِ حَفِظَهُ اللَّهُ - وَإِنْ قُلْتَ بِالْأَوَّلِ - وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ إِلَى آخِرِهِ. ثُمَّ قَالَ القرافي: وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ وَهُوَ الَّذِي أَجْزِمُ بِصِحَّتِهِ إِلَى أَنَّ مُسَمَّاهُ كُلِّيٌّ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسَمَّاهُ جُزْئِيًّا لَمَا صَدَقَ عَلَى شَخْصٍ آخَرَ إِلَّا بِوَضْعٍ آخَرَ كَالْإِعْلَامِ، فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَ مُسَمَّاهَا جُزْئِيًّا لَمْ يَصْدُقْ عَلَى غَيْرِ مَنْ وُضِعَتْ لَهُ إِلَّا بِوَضْعٍ ثَانٍ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: أَنَا فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ خُصُوصِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَخُصُوصُهُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصْدُقَ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِوَضْعٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِمَفْهُومِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْمُشْتَرَكُ كُلِّيٌّ فَيَكُونُ لَفْظُ أَنَا حَقِيقَةً فِي كُلِّ مَنْ قَالَ أَنَا لِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِهَذَا الَّذِي هُوَ مُسَمَّى اللَّفْظِ، فَيَنْطَبِقُ ذَلِكَ عَلَى الْوَاقِعِ، قَالَ: وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ لَهَا سَبَبَانِ: أَحَدُهُمَا وَضْعُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ خُصُوصِهِ فَيَفْهَمُ الشَّخْصُ حِينَئِذٍ لِلْوَضْعِ بِإِزَاءِ الْخُصُوصِ وَهَذَا كَالْعِلْمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ بِإِزَاءِ مَعْنًى عَامٍّ وَيَدُلُّ الْوَاقِعُ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى اللَّفْظِ مَحْصُورٌ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، فَيَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ لِانْحِصَارِ مُسَمَّاهُ فِيهِ لَا لِلْوَضْعِ بِإِزَائِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُضْمَرَاتُ وَضَعَتِ الْعَرَبُ لَفْظَةَ أَنَا مَثَلًا لِمَفْهُومِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ أَنَا - فُهِمَ هُوَ - لِأَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ الْآنَ إِلَّا هُوَ فَفَهِمْنَاهُ لِانْحِصَارِ الْمُسَمَّى فِيهِ لَا لِلْوَضْعِ بِإِزَائِهِ - وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمُضْمَرَاتِ - قَالَ: وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ لِمَعْنًى أَعَمَّ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ، فَإِنَّ الدَّلَالَةَ لَمْ تَأْتِ مِنَ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا أَتَتْ مِنْ جِهَةِ حَصْرِ الْوَاقِعِ الْمُسَمَّى فِي ذَلِكَ الْأَخَصِّ - هَذَا كَلَامُ القرافي مُلَخَّصًا - وَمَا قَالَهُ فِي الْمُضْمَرَاتِ بِعَيْنِهِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَقَوْلُ السَّائِلِ حَفِظَهُ اللَّهُ: إِنْ قُلْتَ بِالْأَوَّلِ وَرَدَ كَذَا، وَإِنْ قُلْتَ بِالثَّانِي لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا وَلَا قَائِلَ بِهِ إِلَى آخِرِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 جَوَابُهُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ وَلَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، بَلْ مِنْ بَابِ الْوَضْعِ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَالْوَضْعُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ فِي مَوَاضِعَ، فَلَيْسَ الْوَضْعُ مُنْحَصِرًا فِيمَا رَدَّدَهُ السَّائِلُ، فَهَذَا مَثَلًا وَضْعٌ لِمُشَارٍ إِلَيْهِ مُفْرَدٍ ذَكَرٍ حَاضِرٍ أَوْ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ مَفْهُومٌ كُلِّيٌّ، وَانْحِصَارُهُ فِي خَاصٍّ لَيْسَ لِلْوَضْعِ بِإِزَائِهِ، بَلْ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُشِرْ بِهِ الْآنَ إِلَّا لِزَيْدٍ مَثَلًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ النُّحَاةِ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ الْمُضْمَرَ وَاسْمَ الْإِشَارَةِ كُلِّيٌّ وَضْعًا جُزْئِيٌّ اسْتِعْمَالًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْأَمْرَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَهُوَ الطَّلَبُ حَذَرًا مِنَ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ، فَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي النَّدْبِ وَفِي الْوُجُوبِ مَثَلًا نَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهَا إِنَّهُ حَقِيقَةٌ غَيْرُ مَجَازٍ وَغَيْرُ مُشْتَرَكٍ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى صَادِقٍ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ الطَّلَبُ، وَكَذَا نَقُولُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمُضْمَرِ: لَيْسَ الْوَضْعُ فِيهِمَا لِوَاحِدٍ فَقَطْ بِحَيْثُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا، وَلَا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا، بَلْ لِمَفْهُومٍ صَادِقٍ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ وَهُوَ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مُشَارٌ إِلَيْهِ مُفْرَدٌ ذَكَرٌ حَاضِرٌ كَمَا قُلْنَاهُ، وَفِي الْمُضْمَرِ مُتَكَلِّمٌ مُفْرَدٌ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا قَالَهُ القرافي. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْعَامَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ . فَجَوَابُهُ: أَنَّهُ مَجَازٌ قَطْعًا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابن السبكي فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَقَوْلُ السَّائِلِ حَفِظَهُ اللَّهُ: إِنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَقِيقَةً. فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُحَقِّقَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الشيخ تقي الدين السبكي وَالِدُ صَاحِبِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ لَكِنْ بَحْثًا مِنْ عِنْدِهِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ وَفَرْعِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ دَلَالَةٌ مُطَابِقَةٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ اسْتِعْمَالًا لِلَفْظٍ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَلَا فِي بَعْضِ مَوْضُوعِهِ، بَلْ هُوَ كَاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ حَقِيقِيٌّ - هَذِهِ عِبَارَتُهُ - وَقَدْ عُرِفَ بِكَلَامِهِ هَذَا تَوْجِيهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَرَدُّ مَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبِ وَالِابْنِ مُشَكِّكٌ أَوْ مُتَوَاطِئٌ. فَجَوَابُهُ: أَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ لِأَنَّهُ مُتَسَاوِي الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 لَيْسَ بِأُمُورٍ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى كَالْبَيَاضِ وَالنُّورِ بَلْ بِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْهُ كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَهَذِهِ عَلَامَةُ الْمُتَوَاطِئِ كَمَا قَرَّرَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَنْطَبِقُ عَلَى مَجَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ تَعْرِيفُ الْمَجَازِ إِلَى آخِرِهِ؟ فَجَوَابُهُ: أَنَّا نَقُولُ أَوَّلًا: اخْتُلِفَ فِي الزِّيَادَةِ وَالْحَذْفِ هَلْ هُمَا مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ؟ فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ وَعَلَى هَذَا لَا إِيرَادَ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ تَعْرِيفَ الْمَجَازِ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمَا، وَفَصَّلَ آخَرُونَ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ الْبَيَانِيِّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْحَذْفُ وَالزِّيَادَةُ يُوجِبَانِ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ فَمَجَازٌ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ القرافي: الْحَذْفُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ لَيْسَ مِنْهَا مَجَازًا إِلَّا قِسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادُ نَحْوُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] إِذْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُ السُّؤَالِ إِلَيْهَا وَبَقِيَّةُ الْأَقْسَامِ لَيْسَتْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمِعْيَارِ: إِنَّمَا يَكُونُ الْحَذْفُ مَجَازًا إِذَا تَغَيَّرَ حُكْمُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ كَحَذْفِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْمَعْطُوفِ عَلَى جُمْلَةٍ فَلَا. فَأَنْتَ تَرَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ كَالْمُتَضَافِرَةِ عَلَى عَدَمِ انْطِبَاقِ تَعْرِيفِ الْمَجَازِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّنَا لَوْ شِئْنَا لَتَمَحَّلْنَا وَجْهًا لِانْطِبَاقِهِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، لَكِنَّ الَّذِي نَخْتَارُهُ فِي هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ القرافي وَصَاحِبُ الْإِيضَاحِ وَانْطِبَاقُ الْمَجَازِ عَلَى مَا ذَكَرَاهُ وَاضِحٌ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّ الْعَلَاقَةَ فِي مِثْلِ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 40] مَا هِيَ؟ فَأَقُولُ: مَا أَحْسَنَ هَذَا السُّؤَالَ وَأَلْطَفَهُ، وَلَقَدْ أَثْلَجَ خَاطِرِي بِمُوَافَقَةِ السَّائِلِ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ نَوْعِ الْمَجَازِ، وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنِّي رَأَيْتُ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْبَيَانِ قَالَ فِي نَوْعِ الْمُشَاكَلَةِ الَّذِي هَذِهِ الْآيَةُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ أَمْثِلَتِهَا أَنَّهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَقَالَ: وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ، وَلَا مُجَازٍ لِعَدَمِ الْعَلَاقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، هَكَذَا قَالَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ نَازَعْتُهُ فِي ذَلِكَ قَدِيمًا فِي كِتَابِ شَرْحِ أَلْفِيَّةِ الْمَعَانِي وَاخْتَرْتُ أَنَّهُ مَجَازٌ قَطْعًا، وَأَنَّ مَا قَالَهُ مِنْ عَدَمِ الْعَلَاقَةِ مَمْنُوعٌ؟ فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْعَلَاقَةُ؟ قُلْتُ: الشَّكْلُ وَالشَّبَهُ الصُّورِيُّ كَمَا يُطْلَقُ الْإِنْسَانُ وَالْفَرَسُ عَلَى الصُّورَةِ الْمُصَوَّرَةِ، وَكَذَا الْجَزَاءُ أُطْلِقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ لِكَوْنِهِ مِثْلَ السَّيِّئَةِ الْمُبْتَدَأِ بِهَا فِي الصُّورَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أُطْلِقَ عَلَى الْجَزَاءِ اعْتِدَاءً لِشَبَهِهِ بِالِاعْتِدَاءِ الْمُبْتَدَأِ بِهِ فِي الصُّورَةِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ: فِي الْإِيمَانِ فَهُوَ سُؤَالٌ مَذْكُورٌ مَسْطُورٌ أَجَابَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ الشَّيْخُ جلال الدين المحلي فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَقَالَ: التَّكْلِيفُ بِالتَّصْدِيقِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسِيَّةِ دُونَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْلِيفُ بِأَسْبَابِهِ كَإِلْقَاءِ الذِّهْنِ أَوْ صَرْفِ النَّظَرِ وَتَوْجِيهِ الْحَوَاسِّ وَرَفْعِ الْمَوَانِعِ - هَذِهِ عِبَارَتُهُ - فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، وَقَدْ عَلَّقْتُ هَذَا الْجَوَابَ سَاعَةَ وُرُودِهَا عَلَيَّ فَانْظُرُوا فِيهِ، فَإِنْ رَضِيتُمُوهُ وَإِلَّا فَأَتْحِفُوا بِجَوَابِكُمْ مَا قَالَهُ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي يَوْمَ السَّبْتِ الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَسَمَّيْتُهُ - نَفْحَ الطِّيبِ مِنْ أَسْئِلَةِ الْخَطِيبِ - فَكَتَبَ الشيخ شمس الدين الوزيري عَلَى هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ مَا صُورَتُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَقُولُ وَبِاللَّهِ الْعَوْنُ وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْهُدَى وَالتَّحْقِيقِ، لَمْ يَظْهَرْ مِمَّا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ مِنْ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ دَفْعُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَقَوْلُهُ فِيهِ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّائِلِ. فَإِنْ قُلْتَ: بِالْأَوَّلِ وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَى آخِرِهِ مُشِيرًا إِلَى مَا نَقَلَهُ القرافي عَنِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسَمَّاهُ كُلِّيًّا إِلَى قَوْلِهِ عَلَى خَاصٍّ الْبَتَّةَ، وَلَيْسَ عَلَى خَاصٍّ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ، فَإِنَّ اللَّازِمَ مِنْ كَوْنِ مُسَمَّاهُ كُلِّيًّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ كَوْنُهُ نَكِرَةً. وَالثَّانِي عَدَمُ دَلَالَتِهِ عَلَى شَخْصٍ وَهُمَا غَيْرُ مَا أُلْزِمُهُ السَّائِلَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُسَمَّى كُلِّيًّا حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ بِالْأَوَّلِ وَرَدَ فَإِنَّ اللَّازِمَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا جَوَازُ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمَعْنَى الْعَامِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ مَجَازًا، هَذَا مَعَ أَنَّ القرافي لَمْ يُجِبْ عَنِ الْإِلْزَامِ الْأَوَّلِ فِي كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ مُسَمَّاهُ كُلِّيًّا لَكَانَ نَكِرَةً، وَإِنَّمَا أَجَابَ عَنِ الثَّانِي كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَهُ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنَ السُّؤَالِ وَجَوَابِهِ بِمَذْكُورٍ فِي كَلَامِ القرافي كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ، وَقَوْلُهُ: جَوَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ إِلَى آخِرِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا أَجَابَ بِهِ هُوَ اخْتِيَارُ قِسْمٍ ثَالِثٍ غَيْرِ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي كَلَامِ السَّائِلِ، وَمُحَصَّلُ جَوَابِهِ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ كَهَذَا مَثَلًا: وُضِعَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 الْكُلِّيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِنَا مُشَارٌ إِلَيْهِ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ حَاضِرٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ القرافي فِي الْمُضْمَرِ مِنْ أَنَّ مُسَمَّاهُ كُلِّيٌّ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ الْعَلَّامَةُ فِي آخِرِ جَوَابِهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي كَلَامِ السَّائِلِ أَعْنِي قَوْلَهُ هَلِ الْوَضْعُ فِي أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ لِلْمَعْنَى الْعَامِّ، وَالْعَجَبُ كَيْفَ خَفِيَ مِثْلُ هَذَا عَلَى الْعَلَّامَةِ مَعَ ظُهُورِهِ عَلَى هَذَا، فَاللَّازِمُ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بَاقٍ بِحَالِهِ، إِذْ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ حَفِظَهُ اللَّهُ مَا يَدْفَعُهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي فَقَوْلُهُ إِنَّهُ مَجَازٌ هُوَ اخْتِيَارُ الْقِسْمِ الثَّانِي وَقَدْ عَرَفَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُحَقِّقَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الشَّيْخُ تقي الدين السبكي فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُقْتَضَى كَلَامِ السبكي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَهُ دَائِمًا، وَأَمَّا ذَلِكَ الْمُحَقِّقُ فَلَمْ يَقُلْ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ مُطْلَقًا بَلْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ السَّائِلِ، وَرَدَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَقِيقَةً، وَحَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّ الْجَوَابَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ إِطْلَاقٌ فِي مَحَلِّ التَّقْيِيدِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْعَلَّامَةِ السبكي: إِنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادٍ دَلَالَةٌ مُطَابِقَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعَامَّ إِذَا أُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ كَانَ دَالًّا عَلَيْهِ مُطَابَقَةً فَهُوَ خِلَافُ مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ مَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامٍ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ فَفِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ حَفِظَهُ اللَّهُ عَلَامَةَ التَّوَاطُؤِ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِأُمُورٍ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ عَلَامَةَ التَّشْكِيكِ الِاخْتِلَافُ بِأُمُورٍ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى لَيْسَتْ خَارِجَةً وَهَذَا مِمَّا لَمْ تَرَهُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ، فَإِنَّ التَّشْكِيكَ يَكُونُ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَبِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ وَبِالْأَوْلَوِيَّةِ وَكُلُّهَا أُمُورٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُسَمَّى، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّهُ مُتَسَاوِي الْمَعْنَى مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْأَبِ عَلَى الِابْنِ، فَقَدْ تَفَاوَتَ أَفْرَادُ الْكُلِّيِّ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّشْكِيكَ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ فَفِيهِ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنَّهُ مَجَازٌ بِشَرْطٍ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ انْطِبَاقَ حَدِّ الْمَجَازِ عَلَيْهِ وَاضِحٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْوَاضِحُ عَدَمُ الِانْطِبَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ اسْتُعْمِلَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ لِعَلَاقَةٍ، فَإِنَّ لَفْظَ السُّؤَالِ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَكَذَا لَفْظُ الْقَرْيَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، مِنْهُمُ النحرير التفتازاني، وَالْعَلَّامَةُ الجلال المحلي، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ تَضَافُرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَاهَا عَلَى عَدَمِ انْطِبَاقِ تَعْرِيفِ الْمَجَازِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مُحَصَّلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 الْأَقْوَالِ حَاشَا الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْمَجَازُ، إِمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا بِشَرْطٍ، وَإِمَّا أَنَّهُ هَلْ يَنْطَبِقُ تَعْرِيفُ الْمَجَازِ عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَأَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ عَلَى أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الِانْطِبَاقِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْخَامِسِ فَتَحْصِيلُهُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ فِي مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ الَّتِي الْآيَةُ مِنْ أَفْرَادِهَا هُوَ الشَّبَهُ الصُّورِيُّ حَتَّى أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى جَزَاءِ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً لِكَوْنِهَا مِثْلَهَا فِي الصُّورَةِ، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُ الْآيَةَ عَنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ إِلَى بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، فَإِنَّ الْمُشَاكَلَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ التفتازاني هِيَ التَّعْبِيرُ عَنِ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ التفتازاني بِذَلِكَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ حَيْثُ قَالَ: السَّيِّئَةُ اسْتِعَارَةٌ عَمَّا يُشْبِهُ السَّيِّئَةَ صُورَةً ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ وَصْفَ السَّيِّئَةِ بِقَوْلِهِ: مِثْلُهَا يَأْبَى هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ أَسَدٌ مِثْلُهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ انْتَهَى - فَأَنْتَ تَرَى - كَيْفَ جَعَلَ الْآيَةَ بِاعْتِبَارِ الشَّبَهِ الصُّورِيِّ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ لَا مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ مِنْ أَنَّ الْعَلَاقَةَ فِي نَوْعِ الْمُشَاكَلَةِ هُوَ الشَّبَهُ الصُّورِيُّ لَا يَتَمَشَّى فِي قَوْلِهِ: قَالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا إِذْ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الطَّبْخِ وَالْخِيَاطَةِ فِي الصُّورَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ السَّادِسِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَهُ أَعَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْجَوَابُ قَدْ أَخَذَهُ الْعَلَّامَةُ المحلي مِنْ كَلَامِ الْمُحَقِّقِ التفتازاني، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يُكَلَّفْ بِهِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ بِأَسْبَابِهِ وَفِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ مَا لَا يَخْفَى، قَالَ ذَلِكَ وَكَتَبَهُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُغَطَّى بِالزَّلَلِ وَالتَّقْصِيرِ رَاجِي عَفْوِ رَبِّهِ الْقَرِيبِ الْقَدِيرِ محمد بن إبراهيم المسمى بالخطيب، فِي لَيْلَةٍ يُسْفِرُ صَبَاحُهَا عَنِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ الْفَرْدِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، فَكَتَبَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْعَلَّامَةُ الْبَحْرُ الْحَبْرُ الْفَهَّامَةُ خَاتِمَةُ الْحُفَّاظِ وَالْمُجْتَهِدِينَ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام والمسلمين كمال الدين بن أبي بكر السيوطي الشافعي أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، وَأَمْتَعَ بِبَقَائِهِ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ الْأَجْوِبَةَ عَنْ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَقُولُ وَاللَّهُ الْهَادِي لِلصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَرَدَتْ عَلَيَّ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتُ فَتَأَمَّلْتُهَا بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ فَوَجَدْتُهَا غَيْرَ وَارِدَةٍ، وَهَا أَنَا أَسُوقُ كَلِمَاتِهَا مَعَ الْجَوَابِ عَنْهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً قَوْلُهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ فَإِنَّ اللَّازِمَ مِنْ كَوْنِ مُسَمَّاهُ كُلِّيًّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ أَمْرَانِ، كَوْنُهُ نَكِرَةً، وَعَدَمُ دِلَالَتِهِ عَلَى شَخْصٍ، وَهُمَا غَيْرُ مَا أُلْزِمُهُ السَّائِلَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَمْرَانِ: جَوَازُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَكَوْنُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ مَجَازًا، أَقُولُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ أَحَدُ إِلْزَامِي الْأَكْثَرِينَ هُوَ أَحَدُ إِلْزَامِي السَّائِلَ بِعَيْنِهِ الَّذِي أَشَرْتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 إِلَيْهِ فِي الْجَوَابِ وَهُوَ عَدَمُ دِلَالَتِهِ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ قَالُوا: يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ وُضِعَ لِلْمَعْنَى الْعَامِّ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَيْهِ، فَبَطَلَ الْمَلْزُومُ وَهُوَ كَوْنُهُ كُلِّيًّا، وَهَذَا مُؤَدَّى قَوْلِ السَّائِلِ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى كَوْنِهِ كُلِّيًّا جَوَازُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَيْ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْخَاصِّ، فَمُؤَدَّى الْعِبَارَتَيْنِ وَاحِدٌ بِلَا شَكٍّ - غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ - أَنَّ بَيْنَهُمَا قَلْبًا لَفْظِيًّا، فَإِنَّ الْعِبَارَةَ الثَّانِيَةَ هِيَ مَقْلُوبُ الْعِبَارَةِ الْأُولَى، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ مُقَدَّرَاتٌ اقْتَضَاهَا الْإِيجَازُ لَا بُدَّ مِنْ إِظْهَارِهَا لِيَتِمَّ الْمَطْلُوبُ مِنَ الِاسْتِنْتَاجِ، فَعِنْدَ إِظْهَارِهَا وَتَفْكِيكِ الْكَلَامِ يَنْحَلُّ مُؤَدَّاهُمَا إِلَى وَاحِدٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ هُوَ عَيْنُ الْإِلْزَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ، فَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا أَجَابَ بِهِ القرافي، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّا لَوْ خُلِّينَا، وَمُقْتَضَى الْوَضْعِ لَأُطْلِقَ عَلَى الْعَامِّ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ مَا عَرَضَ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ حَصْرِ الْوَاقِعِ الْمُسَمَّى فِي شَخْصٍ خَاصٍّ، وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ مَنْعُ التَّلَازُمِ بَيْنَ الْوَضْعِ وَالْإِطْلَاقِ، فَقَدْ يُوضَعُ الشَّيْءُ الْعَامُّ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا خَاصًّا بِدَلِيلِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهَا وُضِعَتْ كُلِّيًّا وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا جُزْئِيًّا، وَأَوْضَحُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ القرافي مِنْ تَشْبِيهِ ذَلِكَ بِالْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ، فَإِنَّهَا وُضِعَتْ كُلِّيَّةً ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي خَاصٍّ، فَصَارَتْ أَعْلَامًا بِالْغَلَبَةِ وَسَنَزِيدُ هَذَا وُضُوحًا قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ: إِنَّ القرافي لَمْ يُجِبْ عَنِ الْإِلْزَامِ فِي كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ مُسَمَّاهُ كُلِّيًّا لَكَانَ نَكِرَةً، وَإِنَّمَا أَجَابَ عَنِ الثَّانِي أَقُولُ: مَمْنُوعٌ فَقَدْ صَرَّحَ القرافي نَفْسُهُ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ جَوَابٌ عَنِ الْإِلْزَامَيْنِ، وَأَنَا لَمْ أَسُقْ كَلَامَهُ بِلَفْظِهِ بَلْ أَوْرَدْتُهُ مُلَخَّصًا كَمَا نَبَّهْتُ فِي آخِرِهِ، وَنُكْتَةُ عَدَمِ تَعَرُّضِي لِمَا يُوضَعُ كَوْنُهُ جَوَابًا عَنِ الْإِلْزَامِ الْآخَرِ مِنْ كَوْنِهِ نَكِرَةً أَنَّهُ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي كَلَامِ السَّائِلِ الْبَتَّةَ فَاسْتَغْنَيْتُ عَنْ إِيرَادِهِ، وَعِبَارَةُ القرافي وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهَيْنِ - يَعْنِي اللَّذَيْنِ احْتَجُّوا بِهِمَا - فَالْجَوَابُ عَنْهُ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ دِلَالَةَ اللَّفْظِ وَسَاقَ مَا قَدَّمْتُهُ عَنْهُ - إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ حَصْرُ مُسَمَّى اللَّفْظِ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْوَاقِعِ قَالَ النُّحَاةُ: هِيَ مَعَارِفُ فَإِنَّ فَهْمَ الْجُزْئِيِّ لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْهَا - هَذَا لَفْظُهُ - فَأَشَارَ أَوَّلًا إِلَى أَنَّ الْجَوَابَ عَنِ الْإِلْزَامَيْنِ مَعًا، وَأَتَى آخِرًا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِتَقْرِيرِ الْجَوَابِ عَنْ لُزُومِ كَوْنِهِ نَكِرَةً، وَمُتَحَصَّلُ كَلَامِهِ أَنَّهُ أَجَابَ عَنِ الْإِلْزَامَيْنِ مَعًا بِجَوَابٍ وَاحِدٍ، إِمَّا كَوْنُهُ يَدُلُّ عَلَى خَاصٍّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْعَامِّ، فَلَمَّا عَرَضَ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا لِأَمْرٍ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَإِمَّا كَوْنُهُ مَعْرِفَةً لَا نَكِرَةً فَلِأَنَّ فَهْمَ الْجُزْئِيِّ لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَمَعْلُومٌ عِنْدَكَ أَنَّ التَّعْرِيفَ وَالتَّنْكِيرَ لَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَضْعِ حَتَّى يُقَالَ أَنَّ وَضْعَهُ كُلِّيًّا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ نَكِرَةً، وَوَضْعَهُ جُزْئِيًّا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مَعْرِفَةً؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْدُثُ بَعْدَ الْوَضْعِ لِمَا يَعْرِضُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا وُضِعَ نَكِرَةً وَإِذَا نُودِيَ مَعَ الْقَصْدِ صَارَ مَعْرِفَةً، وَلَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 لَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ التَّعْرِيفَ حَصَلَ مِنَ الْوَضْعِ أَيْضًا لِأَنَّ (يَا) وُضِعَتْ لِتَعْرِيفِ الْمُنَادَى لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ مَرْدُودٌ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ (يَا) قَدْ تُوجَدُ وَلَا تَعْرِيفَ فِي نِدَاءِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ، وَالثَّانِي قَوْلُ النُّحَاةِ أَنَّ تَعْرِيفَ الْمُنَادَى الْمَقْصُودِ إِنَّمَا هُوَ بِالْقَصْدِ وَالْمُوَاجَهَةِ كَاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَجَعَلُوهُ فِي مَرْتَبَتِهِ، فَهَذَا أَوَّلُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْإِشَارَةِ إِنَّمَا حَصَلَ بِالْمُوَاجَهَةِ وَنَحْوِهَا دُونَ أَصْلِ الْوَضْعِ، فَهُوَ أَمْرٌ طَارِئٌ عَلَيْهِ وَحَادِثٌ بَعْدَهُ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ وَضْعِ الْإِشَارَةِ وَالْمُضْمَرِ كُلِّيًّا، وَكَوْنِهِ مَعْرِفَةً مُسْتَعْمَلًا فِي الْجُزْئِيِّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ وَالتَّنْكِيرَ لَا تَعْلُّقَ لَهُمَا بِالْوَضْعِ، وَإِنَّمَا هُمَا مِنَ الِاسْتِعْمَالِ قَوْلُ خَلَائِقَ مِنَ النُّحَاةِ إِنَّ الْمُضْمَرَ قَدْ يَكُونُ نَكِرَةً وَذَلِكَ فِي الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِرُبَّ، وَقَوْلُ آخَرِينَ إِنَّ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى النَّكِرَةِ نَكِرَةٌ مُطْلَقًا، وَقَوْلُ آخَرِينَ إِنَّ الْعَائِدَ عَلَى وَاجِبِ التَّنْكِيرِ كَالتَّمْيِيزِ نَكِرَةٌ، فَإِنْ تَخَيَّلْتَ أَنَّ التَّنْكِيرَ وَالتَّعْرِيفَ فِي الْمُضْمَرِ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ لَزِمَكَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ وَتَعَدُّدُ الْوَضْعِ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَإِنْ سَلَّمْتَ أَنَّهُ حَادِثٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَهُوَ الْمُدَّعِي، وَبِهِ يَحْصُلُ الِانْفِصَالُ عَنِ الْإِلْزَامِ، وَإِنْ قُلْتَ إِنَّهُ وُضِعَ مَعْرِفَةً وَاسْتِعْمَالَهُ نَكِرَةً عَارِضٌ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فَبَعِيدٌ، مَعَ أَنَّهُ يُثْبِتُ مَدْعَانَا أَيْضًا بِطَرِيقِ قِيَاسِ الْعَكْسِ إِذْ لَا فَارِقَ، فَثَبَتَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ الضَّمِيرَ وَاسْمَ الْإِشَارَةِ وُضِعَا لِلْمَعْنَى الْعَامِّ، وَعَدَمُ إِطْلَاقِهِمَا عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ لِمَا عَرَضَ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا لِأَمْرٍ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَهَذَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كُلِّيٌّ وَضْعًا جُزْئِيٌّ اسْتِعْمَالًا، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ، وَانْدَفَعَ أَحَدُ الْإِلْزَامَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْرَدَهُمَا السَّائِلُ، ثُمَّ بِتَقْرِيرِ كَوْنِهِ وُضِعَ لِلْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ، وَالْمَفْهُومُ الْكُلِّيُّ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ فِي آحَادِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْوَضْعِ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، فَانْدَفَعَ الْإِلْزَامُ الثَّانِي كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا فِي جَوَابِنَا مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ إِلَى آخِرِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ اخْتِيَارُ قِسْمٍ ثَالِثٍ غَيْرِ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي كَلَامِ السَّائِلِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي كَلَامِ السَّائِلِ، أَقُولُ: كَأَنَّ الْمُعْتَرِضَ حَفِظَهُ اللَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي كَلَامِنَا تَنَاقُضٌ ثُمَّ جَزَمَ بِذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْنَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْمُعْتَرِضِ أَعَزَّهُ اللَّهُ أُحَاسِبُهُ بِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي كَلَامِ السَّائِلِ اللَّذَيْنِ مَا اخْتَرْنَا فِي التَّوْجِيهِ غَيْرَهُمَا لَيْسَا بِالْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ مَا اخْتَرْنَا فِي التَّعْيِينِ أَحَدَهُمَا، فَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ هُمَا الْإِلْزَامَانِ الْوَارِدَانِ وَالْآخَرَانِ هُمَا الْمَلْزُومُ عَنْهُمَا الْمُورَدُ عَلَيْهِمَا فَلَا تَنَاقُضَ لِاخْتِلَافِ مَوْرِدِ الْقِسْمَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّائِلَ أَوْرَدَ قِسْمَيْنِ وَطَلَبَ تَعْيِينَ أَحَدِهِمَا - وَهُمَا - هَلْ هُوَ لِلْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ؟ فَعَيَّنَّا الْأَوَّلَ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ ثَلَاثَةَ إِلْزَامَاتٍ؛ عَلَى الْأَوَّلِ اثْنَانِ وَعَلَى الثَّانِي وَاحِدٌ، فَأَجَبْنَا عَنْ أَوَّلِ إِلْزَامِيَّةٍ بِمَنْعِ التَّلَازُمِ بَيْنَ الْوَضْعِ وَالْإِطْلَاقِ، وَعَنِ الثَّانِي بِتَقْرِيرِ كَوْنِهِ وُضِعَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، فَانْدَفَعَ الْمَجَازُ كَمَا انْدَفَعَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ وَهُوَ الثَّالِثُ ضَرُورَةً، فَتَقْرِيرُنَا كَوْنَهُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ عَيْنُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الْمَطْلُوبِ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ كَوْنُهُ لِلْعَامِّ وَغَيْرِ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ الْمُورَدَيْنِ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَأَيُّ تَنَاقُضٍ فِي هَذَا؟ وَقَوْلُهُ: فَاللَّازِمُ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بَاقٍ بِحَالِهِ قَوْلٌ مَمْنُوعٌ بَلْ ذَهَبَ فِي الْغَابِرِينَ وَانْقَطَعَ فِي الدَّاحِضِينَ، أَمَّا الْإِطْلَاقُ فَيَمْنَعُ التَّلَازُمَ، وَأَمَّا الْمَجَازُ فَبِكَوْنِهِ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَسَنَدُهُمَا مَا تَقَدَّمَ وَاضِحًا، وَبِهَذَا يَتِمُّ الْجَوَابُ وَيَتَّضِحُ الصَّوَابُ وَيَنْكَشِفُ الْحِجَابُ وَتَطْلُعُ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ. قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي فَقَوْلُهُ: أَنَّهُ مَجَازٌ هُوَ اخْتِيَارُ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَقَدْ عَرَفَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى آخِرِهِ. أَقُولُ: قُصَارَى مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ عَنْ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى قَوْلٍ مُفَصَّلٍ فِي مُقَابَلَةِ قَطْعِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ مَجَازٌ، وَمَعْلُومٌ عِنْدَكَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتَ الْأَقْوَالِ لَا يَكُونُ قَوْلٌ مِنْهَا وَارِدًا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِلْإِيرَادِ تَقْرِيرُ شُبْهَةٍ أَوْ إِلْزَامُ أَمْرٍ فَاسِدٍ، وَالسَّائِلُ قَالَ: وَرَدَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً فَلَمْ يُورِدْ إِلَّا الْقَوْلَ لَا الْإِلْزَامَ وَلَا الشُّبْهَةَ، وَهَذَا مَا لَا يَصْلُحُ إِيرَادُهُ، وَأَنَا لَمْ أَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ قَطْعِ النَّاسِ بِأَنَّهُ مَجَازٌ إِلَّا بَحْثَ السبكي، فَلْنَذْكُرْ شُبْهَةَ هَذَا الْمُحَقِّقِ الْآخَرِ لِيُنْظَرَ فِي جَوَابِهَا وَدَفْعِهَا أَوْ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْهُورِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ مَا قَالَهُ السبكي مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ دَلَالَةٌ مُطَابِقَةٌ خِلَافُ مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ يُقَالُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَوَّلًا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِنْ كَانُوا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالْعَضُدِ وَنَحْوِهِ، فَكَلَامُهُمْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُعَارَضَ بِهِ الْمَنْقُولُ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْبَحْثِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ "أَطْبَقَ" تَهْوِيلٌ وَلَيْسَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، كَيْفَ وَالْمَجْزُومُ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ذَلِكَ أَعْنِي أَنَّ دَلَالَتَهُ بِالْمُطَابَقَةِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ إِلَّا القرافي وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الأصفهاني فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ فَشَفَى وَكَفَى، وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الْجَوَابُ مِنَ السُّؤَالِ الثَّالِثِ فَفِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَامَةَ الْمُتَوَاطِئِ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِأُمُورٍ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ عَلَامَةَ التَّشْكِيكِ الِاخْتِلَافُ بِأُمُورٍ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى لَيْسَتْ خَارِجَةً وَهَذَا مِمَّا لَمْ نَرَهُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ، أَقُولُ: نَحْنُ قَدْ رَأَيْنَاهُ فِي كَلَامِ القرافي جَزَمَ بِذَلِكَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْجَانِبَيْنِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَإِلَّا فَانْظُرُوهُ تَجِدُوهُ، وَالْعُذْرُ لَكُمْ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ أَنَّكُمْ تَقْتَصِرُونَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وَالْبَيَانِ عَلَى نَحْوِ الْعَضُدِ، وَالْحَاشِيَةِ، وَالْمُطَوَّلِ، وَحَاشِيَتِهِ فَتَجِدُونَ فِيهَا أَبْحَاثًا فَتَظُنُّونَ أَنَّهَا مَنْقُولَاتُ أَهْلِ الْفَنِّ أَوِ الْمَجْزُومُ بِهَا فَتَعْتَمِدُونَهَا وَتَدَّعُونَ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَيْهَا وَتَشْرَبُهَا قُلُوبُكُمْ وَتَضْرِبُونَ عَنْ غَيْرِهَا صَفْحًا، وَلَوْ تَجَاوَزْتُمْ إِلَى كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَأَلْمَمْتُمْ بِمَا حَوَتْهُ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمَبَاحِثِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالتَّفْرِيعَاتِ لَعَلِمْتُمْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَا لَا أَعْتَقِدُ فِي الْأُصُولِ عَلَى أُنَاسٍ قُصَارَى أَمْرِهِمُ الرُّجُوعُ إِلَى الْقَوَاعِدِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَتَنْزِيلُ الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَيْهَا أَبَدًا، إِنَّمَا أَعْتَمِدُ عَلَى أَئِمَّةٍ جَامِعِينَ لِلْأُصُولِ وَالْفِقْهِ مُتَضَلِّعِينَ مِنْهَا مُحِيطِينَ بِقَوَاعِدِهِمَا عَارِفِينَ بِتَرْكِيبِ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ، قَدْ خَالَطَتْ عُلُومُ الشَّرْعِ وَالسُّنَنِ لُحُومَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ رِسَالَةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مُبْتَكِرِ هَذَا الْفَنِّ وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الشُّرُوحِ الْمُطْنِبَةِ وَمَا تَلَا ذَلِكَ إِلَى كُتُبِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَالْكَيَا الْهَرَّاسِيِّ، وَحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيِّ، وَالْإِمَامِ فخر الدين الرازي، وَالسَّيْفِ الْآمِدِيِّ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَبَعْدُ: فَالْإِنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبِ وَالِابْنِ مُتَوَاطِئٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مُسْتَوْفِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا بِلَا شُبْهَةٍ، كَيْفَ وَمَعْنَى الْإِنْسَانِ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَفَاوَتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبِ وَالِابْنِ كَمَا لَا يَتَفَاوَتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَتَفَاوُتُهُ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ كَتَفَاوُتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ، وَلَيْسَ بِالنِّسْبَةِ لِمَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِ الَّتِي هِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ وَالنَّاطِقِيَّةُ، بِخِلَافِ تَفَاوُتِ النُّورِ فِي الشَّمْسِ وَالسِّرَاجِ، فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى جِنْسِ الْمُسَمَّى وَمَاهِيَّتِهِ هَذَا أَمْرٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ إِلَى آخِرِهِ أَقُولُ: مَا ادَّعَاهُ مِنْ كَوْنِ لَفْظِ الْقَبِيحِ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَإِنْ صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ، جَوَابُهُ الْمَنْعُ وَمَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَقُلْهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ، إِنَّمَا قَالَهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فَجَعَلَ الْقَرْيَةَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا كَمَا سُئِلَ وَالْمَجَازُ فِي إِسْنَادِ السُّؤَالِ إِلَيْهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا مَجَازُ تَرْكِيبٍ لَا مَجَازُ إِفْرَادٍ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَجَازُ إِفْرَادٍ فَالْقَرْيَةُ قَطْعًا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَتْ لَهُ وَهُوَ الْأَهْلُ فَإِنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَهُ فِي الْمَعْنَى كَمَا قَامَتْ مَقَامَهُ فِي الْإِعْرَابِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ انْطِبَاقُ حَدِّ الْمَجَازِ عَلَى مِثْلِ هَذَا. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَظْهَرْ تَضَافُرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَاهَا عَلَى عَدَمِ الِانْطِبَاقِ جَوَابُهُ أَنِّي لَمْ أَدَعِ التَّضَافُرَ، وَإِنَّمَا قُلْتُ كَالْمُتَضَافِرَةِ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي كَوْنِهِ مَجَازًا بَيْنَ نَافٍ مُطْلَقًا وَتَفْصِيلًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ آرَاءَهُمُ اقْتَضَتْ عَدَمَ دُخُولِهِ فِي حَدِّ الْمَجَازِ حَتَّى اضْطَرَبُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْهُ نَوْعًا قَرِيبَ الدُّخُولِ فِيهِ فَأَدْخَلَهُ فِيهِ، وَأَنْوَاعًا بَعِيدَةً فَلَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 يُدْخِلْهَا فِيهِ، فَكُلُّ لَبِيبٍ يَفْهَمُ بِالْقُوَّةِ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ أَنَّهُ إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ اقْتِضَاءِ آرَائِهِمْ بُعْدُهُ عَنِ الدُّخُولِ فِي حَدِّ الْمَجَازِ، وَأَنَا لَمْ أَقُلْ إِنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِذَلِكَ بَلْ عَبَّرْتُ بِعِبَارَةٍ تُشْعِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ الِانْطِبَاقَ وَعَدَمَهُ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ وَارِدٍ حِينَئِذٍ لِأَنِّي لَمْ أَدَّعِ التَّصْرِيحَ بِهِ بَلْ أَتَيْتُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِالْقُوَّةِ، وَقَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الِانْطِبَاقِ إِنْ أَرَادَ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي انْطِبَاقِ حَدِّ الْمَجَازِ عَلَى كُلِّ حَذْفٍ فَمَمْنُوعٌ إِلَّا الْقَوْلَ الثَّانِيَ، كَيْفَ وَالْمُفَصِّلُونَ يَأْبَوْنَ تَسْمِيَةً مِنْ أَنْوَاعِهِ مَجَازًا، وَالنَّافِي مُطْلَقًا وَاضِحٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الِانْطِبَاقِ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ مَجَازًا فَصَحِيحٌ، وَهُوَ مَا ادَّعَيْنَاهُ فِي الْجَوَابِ حَيْثُ قُلْنَا إِنَّ الِانْطِبَاقَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ القرافي، وَصَاحِبُ الْإِيضَاحِ وَاضِحٌ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ أَوَّلًا أَنَّهُ غَيْرُ وَاضِحٍ، وَالْعَجَبُ كَيْفَ ادَّعَى عَدَمَ وُضُوحِهِ أَوَّلًا وَظُهُورَهُ آخِرًا. قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْخَامِسِ إِلَى آخِرِهِ. أَقُولُ: مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ كَوْنَ الْعَلَاقَةِ فِي الْآيَةِ الْمُشَابِهَةِ يُخْرِجُهَا عَنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ إِلَى بَابِ الِاسْتِعَارَةِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْمُشَابَهَةِ وَالِاسْتِعَارَةِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ اسْتِعَارَةٍ عَلَاقَتُهَا الْمُشَابَهَةُ فَلَيْسَ كُلُّ مَا عَلَاقَتُهُ الْمُشَابَهَةُ اسْتِعَارَةً، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ التَّشْبِيهَ الْمُقَدَّرَ فِيهِ الْأَدَاةُ نَحْوُ " صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ " يُسَمَّى تَشْبِيهًا بَلِيغًا لَا اسْتِعَارَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ بِلَا شَكٍّ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَا قُدِّرَتْ فِيهِ الْأَدَاةُ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا صُرِّحَ فِيهِ بِلَفْظِ مِثْلِهَا، فَالْآيَةُ لِذَلِكَ خَارِجَةٌ عَنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ دَاخِلَةٌ فِي بَابِ الْمُشَاكَلَةِ. وَالْعَلَاقَةُ الْمُشَابَهَةُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ مَنْعِ الْمُلَازَمَةِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ الْمُشَاكَلَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ التفتازاني هِيَ التَّعْبِيرُ عَنِ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ هَذَا مِنْ نَمَطِ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّكُمْ تَقْتَصِرُونَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى كُتُبِ مِثْلِ التفتازاني وَتَضْرِبُونَ عَنْ غَيْرِهَا صَفْحًا، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ نَقْلِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَنْهُ وَهُوَ فِي مَتْنِ التَّلْخِيصِ الَّذِي التفتازاني شَارِحٌ كَلَامَهُ، بَلْ وَفِي كَلَامِ السكاكي مِنْ قَبْلِهِ [بَلْ] وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَدِيعِ قَاطِبَةً، وَمِثْلُ هَذَا حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ، قَالَ أَهْلُ الْبَدِيعِ: وَإِلَّا فَالنَّقْلُ عَنِ التفتازاني يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَالَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَيُشْعِرُ أَيْضًا بِغَرَابَتِهِ، فَإِنَّ النَّقْلَ لِكَلَامٍ عَنْ مُتَأَخِّرٍ مَعَ وُجُودِهِ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَيْبٌ، فَمَا ظَنُّكَ إِذَا كَانَ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْفَنِّ قَاطِبَةً، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ عَنِ الْمُتَأَخِّرِ مَا قَالَهُ مِنْ عِنْدِهِ بَحْثًا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهُ أَوْ تَحْقِيقًا لِكَلَامِ مَنْ تَقَدَّمَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ مِنْ أَنَّ الْعَلَاقَةَ فِي نَوْعِ الْمُشَاكَلَةِ هُوَ الشَّبَهُ الصُّورِيُّ لَا يَتَمَشَّى فِي قَوْلِهِ - اطْبُخُوا لِي جُبَّةً - صَحِيحٌ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ حَسَنٌ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ أَقْعَدُ مِنْهُ. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ أَدَّعِ أَنَّ الشَّبَهَ عَلَاقَةُ نَوْعِ الْمُشَاكَلَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَتَّى يَلْزَمَنِي تَمْشِيَتُهَا فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهَا، إِنَّمَا ادَّعَيْتُ أَنَّهُ عَلَاقَةُ الْآيَةِ لِظُهُورِهَا فِيهَا. وَأَمَّا عَلَاقَةُ أَصْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 الْمُشَاكَلَةِ فَقَدْ ذَكَرْتُهَا قَدِيمًا فِي كِتَابِي شَرْحِ أَلْفِيَّةِ الْمَعَانِي اسْتِخْرَاجًا بِفِكْرِي، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَخْذُهَا مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ حَيْثُ قَالَ: الْمُشَابَهَةُ هِيَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ، فَقَوْلُهُ: ذِكْرُ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ. وَقَوْلُهُ وُقُوعُهُ فِي صُحْبَتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَلَاقَةِ وَهِيَ الصُّحْبَةُ وَالْمُجَاوَرَةُ فِي اللَّفْظِ كَمَا سُمِّيَتِ الْقَرْيَةُ رَاوِيَةً لِمُجَاوَرَتِهَا لِلْجَمَلِ الْمُسَمَّى بِهَا حَقِيقَةً، فَهَذِهِ هِيَ عَلَاقَةُ أَصْلِ الْمُشَاكَلَةِ. وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ السَّادِسِ - فَهُوَ كَمَا ذَكَرَهُ - أَقُولُ: إِنْ كَانَ هَذَا تَسْلِيمًا لِصِحَّةِ الْجَوَابِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ تَسْلِيمًا لِعَزْوِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ بِقَرِينَةِ مَا عَقَبَهُ مِنَ الْإِشْكَالِ فَجَوَابُهُ أَنْ لَا إِشْكَالَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، وَاللَّمْحَةُ الْمُشِيرَةُ إِلَيْهِ أَنَّ دَقَائِقَ أَهْلِ الْمَعْقُولِ لَا يَعْبَأُ بِهَا أَهْلُ الْفِقْهِ وَحَمَلَةُ الشَّرْعِ الَّذِي مَرْجِعُ التَّكْلِيفِ إِلَيْهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَتَبْتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَسَمَّيْتُهُ الْجَوَابَ الْمُصِيبَ عَنْ أَسْئِلَةِ اعْتِرَاضَاتِ الْخَطِيبِ. مَسْأَلَةٌ: أَيَا عَالِمًا أَضْحَى بِهِ الدَّهْرُ بَاسِمًا ... يُشَبَّهُ بِالدَّهْرِ الْقَدِيمِ وَبِالصَّدْرِ تَأَمَّلْ رَعَاكَ اللَّهُ قَوْلِي فَإِنِّي ... جَهُولٌ بِهِ لَكِنَّهُ جَالَ فِي فِكْرِي فَلَمْ أَجِدِ الشَّافِي لِدَائِي فَلَمْ أَزَلْ ... أُفَتِّشُ فِي أَهْلِ الْفَضَائِلِ وَالذِّكْرِ فَدَلَّنِيَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ عَلَيْكُمُ ... لِأَنَّكُمْ أَهْلُ الْمَآثِرِ وَالْفَخْرِ وَفَضْلُكُمُ فِي النَّاسِ أَشْهَرُ مَنْ قَفَا ... وَخَيْرُكُمْ عَمَّ الْبَوَادِي مَعَ الْحَضَرِ فَجَرَّدْتُهُ كَيْ تُسْعِدُونِي تَفَضُّلًا ... عَلَيَّ لِتَحْظَوْا فِي الْقِيَامَةِ بِالْأَجْرِ وَأَنْشُرُهُ فِي النَّاسِ مِنْ بَعْضِ فَضْلِكُمْ ... مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ فِي سَالِفِ الْعُمْرِ فَقَدْ وَرَدَ التَّصْحِيحُ فِي كُلِّ مُسْنَدٍ ... بِأَنَّ إِلَهَ الْعَرْشِ يُنْظَرُ فِي الْحَشْرِ وَلَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا فَمَا الْقَوْلُ هَهُنَا ... وَمَا حِكْمَةٌ فِي الْمَنْعِ يَا عَالِمَ الْعَصْرِ وَقَدْ يَنْزِلُ الْمَهْدِيُّ عِيسَى لِأَرْضِنَا ... فَيَكْسِرُ صُلْبَانًا كَمَا صَحَّ فِي الذِّكْرِ فَهَلْ ثَمَّ صُلْبَانٌ وَفِي الْأَرْضِ عُصْبَةٌ ... تَقُومُ عَلَى حَقٍّ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَهَلْ صَحَّ أَنَّ الْمُصْطَفَى سَيِّدُ الْوَرَى ... رَسُولُ إِلَهِ الْعَرْشِ خُصِّصَ بِالْفَخْرِ يَقُولُ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِيَّ وَأُمَّتِي ... لِيَوْمِ قِيَامِ الْخَلْقِ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ وَمَا رُسُلُ الْجِنِّ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهَا ... صَرِيحًا بِنَصِّ الْقَوْلِ فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ وَهَلْ لِنَبِيِّ اللَّهِ هَارُونَ لِحْيَةٌ ... تُرَى فِي جِنَانٍ إِذْ بِهِ النَّصُّ فِي الذِّكْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 وَهَلْ فِي جِنَانِ الْخُلْدِ قَوْمٌ تَعَاشَرُوا جِمَالًا وَتَرْعَى فِي مَرَاتِعِهَا الْخُضْرِ ... وَتَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا هَلْ مُسَاعِدٌ لِنَاقِلِ هَذَا أَوْ يُقَابَلُ بِالنُّكْرِ ... وَمَنْ هُوَ بَعْدَ الْخَتْمِ يَدْعُو لِمَيِّتٍ بِتَسْمَيَةٍ هَلْ فِي الْمَقَالَةِ مِنْ نُكْرِ ... وَمَا الْحِينُ إِنْ قَالَ امْرُؤٌ فِي يَمِينِهِ لِزَوْجَتِهِ: لَا جِئْتِ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ ... وَمَا جَاءَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ ضَرْبِ أَوْجُهٍ عَلَى صُورَةٍ مَخْلُوقَةٍ صَحَّ فِي الْأَثَرِ ... وَمَا شَرْحُهُ مَا الْقَوْلُ فِيهِ مُحَقَّقًا لَعَلَّكُمُ تُنْجُو مِنَ النَّارِ وَالْوِزْرِ ... وَهَلْ أَنْ تُبَكِّرَ مَرْأَةٌ بِبُنَيَّةٍ مِنَ الْيُمْنِ قَوْلٌ نَاقِلُوهُ ذَوُو خُبْرِ ... وَإِنْ مَاتَتِ الْأَوْلَادُ مِنْ أَهْلِ ذِمَّةٍ قُبَيْلَ بُلُوغٍ مَا يَكُونُونَ فِي الْحَشْرِ ... أَفِي نَارٍ اوْ فِي جَنَّةٍ فَازَ أَهْلُهَا بِمَقْعَدِ صِدْقٍ مَعْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَجْرِ ... تَفَضَّلْ وَجُدْ يَا سَيِّدًا فَاقَ عَصْرَهُ بِكُلِّ جَوَابٍ لَوْ يُوَازَنُ بِالتِّبْرِ ... لَكَانَ قَلِيلًا طَالَ عُمْرُكَ لِلْوَرَى تَبُثُّ عُلُومًا مَا حَيِيتَ مَدَى الدَّهْرِ ... وَصَلَّى إِلَهُ الْعَرْشِ جَلَّ جَلَالُهُ عَلَى أَحْمَدَ الْمَبْعُوثِ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْرِ ... وَأَصْحَابِهِ وَالْآلِ مَا طَارَ طَائِرٌ عَلَى فَنَنٍ أَوْ حَنَّ وَحْشٌ إِلَى وَكْرِ الْجَوَابُ: أَلَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنَزِّلِ لِلذِّكْرِ ... وَأُتْبِعُ حَمْدِي بِالثَّنَاءِ وَبِالشُّكْرِ وَصَلَّى إِلَهُ الْعَرْشِ مَا لَاحَ كَوْكَبٌ ... عَلَى الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ ذِي الْمَجْدِ وَالْفَخْرِ سَأَلْتَ عَنِ الْبَارِي يُرَى فِي قِيَامَةٍ ... وَلَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا سِوَى لِلَّذِي أُسْرِي وَحِكْمَتُهُ ضَعْفُ الْقُوَى لِأُولِي الدُّنَا ... فَغَيْرُ مُطَاقٍ رُؤْيَةُ الْوَاحِدِ الْبَرِّ وَلَمْ يَكُنِ الْبَارِي الْقَدِيمُ يُرَى بِحَا ... دِثِ بَصَرٍ قَدْ قَالَ بَعْضُ أُولِي الْخُبْرِ وَلَمَّا يَكُونُ الْبَعْثُ تَعْظُمُ قُوَّةً ... بِجُعْلٍ إِلَهِي فَاسْتَطَاعَ ذَوُو الْقَدْرِ وَأَقْدَرَ رَبُّ الْعَرْشِ حَقًّا نَبِيَّهُ ... عَلَى رُؤْيَةِ الْبَارِي فَنَاهِيكَ مِنْ فَخْرِ وَصُلْبَانُ كُفْرٍ فِي الْبِلَادِ كَثِيرَةٌ ... يُعَقِّبُهَا عِيسَى إِذَا جَاءَ بِالْكَسْرِ وَكَمْ بَلَدٍ فِيهَا كَنَائِسُ جَمَّةٌ ... وَصُلْبَانُ كُفْرٍ فِي بِلَادِ أُولِي الْكُفْرِ وَأَمَّا حَدِيثُ الْخَيْرِ فِيَّ وَأُمَّتِي ... فَلَمْ يَأْتِ هَذَا اللَّفْظُ فِي سَنَدٍ نَدْرِي وَلَكِنْ بِمَعْنَاهُ حَدِيثٌ بِعُصْبَةٍ ... تَقُومُ عَلَى حَقٍّ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَفِي الْجِنِّ رُسْلٌ أُرْسِلَ الرُّسْلُ عَنْهُمُ ... لِأَقْوَامِهِمْ وَهْيَ الْمُسَمَّاةُ بِالنَّذْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وَمَا فِي جِنَانِ الْخُلْدِ ذُو لِحْيَةٍ يُرَى ... سِوَى آدَمَ فِيمَا رَوَيْنَاهُ فِي الْأَثَرِ وَمَا جَاءَ فِي هَارُونَ فَالذَّهَبِيُّ قَدْ ... رَأَى ذَلِكَ مَوْضُوعًا فَكُنْ صَيْقَلَ الْفِكْرِ وَلَمْ أَرَ فِي أَمْرِ الْجِمَالِ مُخَبِّرًا ... مِنَ النَّقْلِ وَالْآثَارُ لَيْسَتْ مَدَى حَصْرِ وَمُطَلِّقٌ حِينَ لَحْظَةٍ ثُمَّ مَنْ دَعَا ... لِمَيِّتِهِ فِي الْخَتْمِ لَيْسَ بِذِي نُكْرِ وَعَنْ ضَرْبِ وَجْهٍ صَحَّ نَهْيٌ لِفَضْلِهِ ... وَفِي الصُّورَةِ التَّأْوِيلُ غَيْرُ أُولِي الْخُبْرِ عَلَى أَوْجُهٍ شَتَّى حَكَاهَا مُحَقِّقُو ... أُولِي السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ أُيِّدْتَ بِالنَّصْرِ فَأَسْلَمُهَا إِذْ لَا تَكُونُ مُفَوِّضًا ... إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ كَرُوحِي وَمَا يَجْرِي كَمَا قِيلَ بَيْتُ اللَّهِ أَوْ نَاقَةٌ لَهُ ... أُضِيفَتْ فَفِي هَذَاكَ مَقْنَعُ ذِي ذِكْرِ وَأَمَّا حَدِيثُ الْيُمْنِ فِي اللَّائِي بَكَّرَتْ ... بِأُنْثَى فَوَاهٍ لَا يَصِحُّ فَطِبْ وَادْرِي وَأَوْلَادُ أَهْلِ الْكُفْرِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ ... فَأَمْرُهُمُ لِلَّهِ فَهْوَ الَّذِي يَدْرِي فَذَا الْقَوْلُ صَحِّحْهُ وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ ... بِأَنَّهُمُ فِي جَنَّةٍ مَعْ أُولِي الْبِرِّ فَهَذَا جَوَابُ ابْنِ السُّيُوطِيِّ رَاجِيًا ... نَوَالًا مِنَ الرَّحْمَنِ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ مَسْأَلَةٌ: أَيَا عَالِمًا قَدْ فَازَ بِالرُّشْدِ سَائِلُهْ ... أَوَاخِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ صَارَتْ أَوَائِلَهْ جَوَابُكَ فِي قَوْلٍ بِمُخْتَصَرٍ نَمَى ... إِلَى زَاهِرٍ عَمَّا حَكَى فِيهِ قَائِلُهْ بِأَنَّ سُلَيْمَانَ النَّبِيَّ بَدَا لَهُ ... نَوَارِيزُ أَعْيَادٍ أَتَتْهَا فَعَائِلُهْ وَتَجْتَمِعُ الْأَجْنَاسُ فِيهَا بِجَمْعِهِمْ ... وَتُهْدِي هَدَايَا لِلنَّبِيِّ تُقَابِلُهْ وَإِنَّ بِوَقْتٍ قَدْ هَدَتْ فِيهِ نَمْلَةٌ ... لَهُ نَبْقَةً لَمْ تَكْتَرِثْهَا شَمَائِلُهْ فَقَالَتْ بِكَسْرِ الْقَلْبِ تَبْغِي قَبُولَهَا ... وَتَذْكُرُ مَا أَبْقَى إِلَيْهَا تُمَايِلُهْ عَلَى الْمَرْءِ حَقٌّ فَهْوَ لَا بُدَّ فَاعِلُهْ ... وَإِنْ عَظُمَ الْمَوْلَى وَجَلَّتْ فَضَائِلُهْ أَلَمْ تَرَنَا نُهْدِي إِلَى اللَّهِ مَالَهُ ... وَلَوْ كَانَ عَنْهُ ذَا غِنًى فَهْوَ قَابِلُهْ وَلَوْ كَانَ يُهْدَى لِلْجَلِيلِ بِقَدْرِهِ ... لَقَصَّرَ مَاءَ الْبَحْرِ عَنْهُ مَنَاهِلُهُ وَأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَوْحَى لَهُ إِذَنْ ... أَنِ اقْبَلْ فَقَدْ أَبْكَى الْمَقَالُ وَقَائِلُهْ لِأَهْلِ السَّمَا وَالْأَرْضِ هَذَا مَقَالَةٌ ... بِمُخْتَصَرٍ قُلْنَاهُ مَعْنًى تُفَاصِلُهْ فَهَلْ فِي اعْتِرَاضٍ فِي مَقَالَةِ قَائِلٍ ... وَلَوْ كَانَ عَنْهُ ذَا غِنًى فَهْوَ قَائِلُهْ وَهَلْ تُحْتَمَلْ لَوْ لِلْغِنَى أَوْ لِغَيْرِهِ ... أَبِنْ عَالِمًا فِي الدَّهْرِ ضَاءَتْ دَلَائِلُهْ وَوَالِدُ خِضْرٍ فِي الْوَرَى يَعْلَمُ اسْمَهُ ... وَإِنْ تَعْلَمُوا هَذَا فَمَاذَا قَبَائِلُهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وَهَلْ مِنْ يَقِينٍ جَازِمٍ فِي حَيَاتِهِ ... أَبِنْ مَا خَفَى يَا عَالِمًا عَمَّ وَابِلُهْ لَكُمْ جَنَّةُ الْمَأْوَى تَزَاهَتْ قُصُورُهَا ... وَأَجْرُكُمُ فِيهِ تَنَاهَتْ وَسَائِلُهْ الْجَوَابُ: بِحَمْدِ إِلَهِي أَبْتَدِي مَا أُحَاوِلُهْ ... وَأُتْبِعُهُ شُكْرًا تَزِيدُ نَوَافِلُهْ وَأُتْبِعُ هَذَا بِالصَّلَاةِ عَلَى الَّذِي ... بِتَخْصِيصِهِ عَمَّ الْأَنَامَ رَسَائِلُهْ مُحَمَّدٍ الْهَادِي النَّبِيِّ وَآلِهِ ... وَأَصْحَابِهِ مَا دَرَّ بِالْقَطْرِ وَابِلُهْ نَعَمْ قَوْلُ لَوْ فِيهِ اعْتِرَاضٌ مُوَجَّهٌ ... وَوَاجِبُهُ أَنْ يُصْلِحَ الْقَوْلَ قَائِلُهْ وَوَالِدُ خِضْرٍ إِنْ تُسَائِلْ عَنِ اسْمِهِ ... فَفِيهِ أَقَاوِيلٌ حَكَتْهَا أَوَائِلُهْ فَقِيلَ ابْنُ مَلْكَانَ وَقِيلَ ابْنُ مَالِكٍ ... وَقِيلَ ابْنُ عَامِيلَ بْنِ عِيصٍ قَبَائِلُهْ وَقِيلَ ابْنُ فِرْعَوْنَ وَقِيلَ ابْنُ آدَمَ ... وَقِيلَ ابْنُ قَابِيلَ الَّذِي هُوَ قَاتِلُهْ وَأَكْثَرُهُمْ يَخْتَارُ فِيهِ حَيَاتَهُ ... إِلَى أَنْ يَجِي الدَّجَّالُ حَالَتْ مُقَاتِلُهْ فَهَذَا كَلَامٌ فِيهِ تَحْرِيرُ مَقْصِدٍ ... وَهَذَا جَوَابٌ لِلَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ فَخُذْهَا عَرُوسًا مِنْ مُحِبٍّ وَمَهْرُهَا ... دُعَاءٌ يُرَجَّى أَنْ يَرَى اللَّهَ قَائِلُهْ وَأَنَّ ابْنَ الَاسْيُوطِيِّ قَدْ خَطَّهُ عَلَى ... مَنَاهِجِهِ حَتَّى تَجَلَّتْ دَلَائِلُهْ مَسْأَلَةٌ: مَا الْقَوْلُ لِلْحَبْرِ وَالْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَمَنْ ... زَانَ الْوُجُودَ بِهِ الْخَلَّاقُ لِلْبَشَرِ فِي مُشْتَرِي يُوسُفَ الصِّدِّيقِ حِينَ لَهُ ... بَاعُوهُ إِخْوَتُهُ بِالْبَخْسِ فِي الذِّكْرِ هَلْ يَمْلِكُونَ الَّذِينَ الْآنَ بِيعَ لَهُمْ ... مَا ذَلِكَ الْأَمْرُ يَا مَخْصُوصُ بِالْأَثَرِ وَفِي قَضِيَّةِ يَحْيَى حَيْثُ مَاتَ وَقَدْ ... صَحَّتْ حَيَاةُ أَبِيهِ الطُّهْرُ فِي الْخَبَرِ وَكَانَ مِنْ قَبْلُ يَدْعُو رَبَّهُ طَلَبًا ... نَجْلًا يُوَرِّثُهُ فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ مِيرَاثًا بِذَاكَ أَتَى ... نَصُّ الْمُهَيْمِنِ بِالْأَخْبَارِ فِي الزُّبُرِ وَالْحُكْمُ فِي الدِّينِ أَنَّ الْإِرْثَ يَأْخُذُهُ ... مُخَلَّفٌ بَعْدَ مَقْبُولٍ بِلَا نُكُرِ مَا الشَّأْنُ فِي ذَاكَ يَا مُفْتِي الْأَنَامِ وَمَنْ ... أَبْدَى الْفَوَائِدَ حَتَّى صَارَ كَالْقَمَرِ وَهَلْ تُصَحِّحُ لِلرَّاوِي رِوَايَتَهُ ... فِيمَا رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي أَثَرِ مَنْ لَا إِمَامَ لَهُ إِنْ شَا يَمُوتُ كَذَا ... يَهُودًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ عُصْبَةِ الْكُفْرِ أَوَّلًا وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ مَرْجِعُهُ ... إِلَى إِمَامِ الْهُدَى الْمَعْرُوفِ لِلْبَشَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرٌ وَهْوَ سَيِّدُنَا ... سُلْطَانُنَا لَا بَرِحْنَا مِنْهُ فِي خَفَرِ أَوْ غَيْرِهِ أَفْتِنَا أَنْتَ الْإِمَامُ لَنَا ... فِي مُشْكِلٍ غُرَّةٌ فِي جَبْهَةِ الدَّهْرِ أَثَابَكَ اللَّهُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ بِمَا ... أَبَنْتَ مَنْ غُرَرٍ يُشْرِقْنَ كَالدُّرَرِ بِجَاهِ خَيْرِ الْوَرَى الْهَادِي لِأُمَّتِهِ ... مِنَ الضَّلَالِ وَحَامِيهِمْ مِنَ الضَّرَرِ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَارِي الْخَلْقِ وَالْبَشَرِ ... ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِ لَمْ يَمْلِكِ الْمُشْتَرِي الصِّدِّيقُ قَطُّ وَلَا ... يُظَنُّ هَذَا بِبَيْعِ الْحُرِّ فَاعْتَبِرِ وَإِرْثُ يَحْيَى لِعِلْمٍ لَا لِمَالِ أَبٍ ... فَالْأَنْبِيَا إِرْثُهُمْ حَظْرٌ عَلَى الْبَشَرِ وَبَعْضُهُمْ وَهُوَ الطيبي قَالَ بِأَنْ ... قَدْ أُخِّرَتْ دَعْوَةٌ فِيهِ بِلَا ضَرَرِ وَفِي الْإِمَامِ أَحَادِيثٌ بِذَا وَرَدَتْ ... وَهْوَ الْخَلِيفَةُ فَافْهَمْهُ وَلَا تَحِرِ [الْأَوْجُ فِي خَبَرِ عَوْجٍ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُؤَالٌ وَرَدَ مِنَ الشَّامِ صُورَتُهُ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ أَجْمَعِينَ فِي عوج بن عنق هَلْ كَانَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ أَصْلًا فَمَا الْجَوَابُ عَمَّا وَقَعَ فِي غَالِبِ التَّفَاسِيرِ كَتَفْسِيرِ القرطبي، وَالْبَغَوِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ عَلَى مَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، والكرماني، وابن الخازن، والثعلبي، وابن عطية وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ وَتَكْرَارِ قِصَّتِهِ فِي مَكَانٍ بَعْدَ آخَرَ، عَلَى أَنَّ القرطبي، والثعلبي نَقَلَا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، والكرماني فِي تَفْسِيرِهِ نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِنْ كَانَ لَهُ وُجُودٌ فَهَلْ بَقِيَ إِلَى زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَلَكَ عَلَى يَدِهِ أَوْ هَلَكَ فِي الطُّوفَانِ مَعَ مَنْ هَلَكَ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ بِبَقَائِهِ إِلَى زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 السَّلَامُ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فَإِنَّهَا عَامَّةٌ؟ أَوْ بِهَلَاكِهِ مَعَ مَنْ هَلَكَ بِدُعَاءِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْكَافِرِينَ؟ فَمَا هَذَا الَّذِي وَقَعَ لِلْبَغَوِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ ادِّعَائِهِ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَلَاكِهِ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: 26] الْآيَةَ وَلِغَيْرِهِ كالثعلبي مِنَ ادِّعَاءِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَلْ كَانَ طُولُهُ هَذَا الطُّولَ الْعَظِيمَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَثُلُثُ ذِرَاعٍ؟ أَوْ كَانَ كَآحَادِ بَنِي آدَمَ؟ فَإِنْ كَانَ طُولُهُ مَا ذُكِرَ فَمَا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ: " «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ سِتُّونَ ذِرَاعًا ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ» " وَهَلْ وُجِدَ مِنَ الْبَشَرِ مِنْ قَوْمِ عَادٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مَنْ كَانَ طُولُهُ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ ذِرَاعًا أَوْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ؟ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ تَمَسَّكَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَقَالَ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الْبَشَرِ خَلْقٌ أَطْوَلُ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَفَى وُجُودَ ابن عنق مِنَ الْأَصْلِ وَقَالَ: لَمْ يُوجَدْ فِي الْعَالَمِ شَخْصٌ اسْمُهُ هَذَا الِاسْمُ، وَادَّعَى أَنَّ جَمِيعَ مَا وَقَعَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفَاسِيرِهِمْ مِنْ ذَلِكَ كَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ. وَالْمَسْئُولُ بَسَطَ الْجَوَابَ وَالْكَلَامَ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا، وَهَلِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ وَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ لِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ أَمْ لَا؟ وَذَكَرَ مَا وَقَعَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْبَسْطِ وَالْإِيضَاحِ وَذَكَرَ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهَلْ تَعَرَّضَ أَحَدٌ لِضَبْطِهِ وَضَبْطِ اسْمِهِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ أَثَابَكُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. قَالَ الْعَلَّامَةُ شمس الدين ابن القيم فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى - بِالْمَنَارِ الْمُنِيفِ فِي الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ -: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا كَوْنُ الْحَدِيثِ مَوْضُوعًا أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَقُومُ الشَّوَاهِدُ الصَّحِيحَةُ عَلَى بُطْلَانِهِ كَحَدِيثِ عوج بن عنق الطَّوِيلِ الَّذِي قَصَدَ وَاضِعُهُ الطَّعْنَ فِي أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُخْبِرُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ طُولَهُ كَانَ ثَلَاثَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا، وَأَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَوَّفَهُ الْغَرَقَ قَالَ لَهُ: احْمِلْنِي فِي قَصْعَتِكَ هَذِهِ، وَأَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَصِلْ إِلَى كَعْبِهِ، وَأَنَّهُ خَاضَ الْبَحْرَ فَوَصَلَ إِلَى حُجْزَتِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْحُوتَ مِنْ قَرَارِ الْبَحْرِ فَيَشْوِيهِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُ قَلَعَ صَخْرَةً عَظِيمَةً عَلَى قَدْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 عَسْكَرِ مُوسَى وَأَرَادَ أَنْ يَرْصَعَهُمْ بِهَا فَقَوَّرَهَا اللَّهُ فِي عُنُقِهِ مِثْلَ الطَّوْقِ. وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْ جُرْأَةِ مِثْلِ هَذَا الْكَذَّابِ عَلَى اللَّهِ، إِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ يُدْخِلُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُبَيِّنُ أَمْرَهُ وَهَذَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] فَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، فَلَوْ كَانَ لعوج وُجُودٌ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ نُوحٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ» " وَأَيْضًا فَإِنَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَسُمْكُهَا كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا هَذِهِ الْمَسَافَةُ الْعَظِيمَةُ فَكَيْفَ يَصِلُ إِلَيْهَا مَنْ طُولُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ حَتَّى يَشْوِيَ فِي عَيْنِهَا الْحُوتَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ مِنْ وَضْعِ زَنَادِقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ قَصَدُوا الِاسْتِهْزَاءَ وَالسُّخْرِيَةَ بِالرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. انْتَهَى كَلَامُ ابن القيم. وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الحافظ عماد الدين بن كثير فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: قِصَّةُ عوج بن عنق وَجَمِيعُ مَا يَحْكُونَ عَنْهُ هَذَيَانٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَهُوَ مِنْ مُخْتَلَقَاتِ زَنَادِقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ عَلَى عَهْدِ نُوحٍ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْغَرَقِ مِنَ الْكُفَّارِ أَحَدٌ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابن عمرو قَالَ: طُولُ عوج ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ ذِرَاعٍ، وعوج رَجُلٌ مِنْ قَوْمِ عَادٍ يَغْدُو مَعَ الشَّمْسِ وَيَرُوحُ مَعَهَا. وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ هَذَا فِي تَأْلِيفِهِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يَسْتَحِي الشَّخْصُ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى ابن عمرو لِضَعْفِهِ عَنْهُ قَالَ: وَرَدَّ ذَلِكَ آخَرُونَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا ثُمَّ مَا زَالَ النَّاسُ يَنْقُصُونَ حَتَّى الْيَوْمَ» قَالَ: وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ عَلَى الْغَالِبِ وَالْأَكْثَرِ وَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَطُولَ الْأَوْلَادُ عَنْ آبَائِهِمْ. وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: عوج بن عنق بِضَمِّهِمَا رَجُلٌ وُلِدَ فِي مَنْزِلِ آدَمَ فَعَاشَ إِلَى زَمَنِ مُوسَى وَذَكَرَ مِنْ عِظَمِ خَلْقِهِ بَشَاعَةً. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ ثَنَا معمر بن عبد الله الأنصاري ثَنَا المسعودي عَنِ القاسم بن عبد الرحمن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ طُولُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا وَعَصَاهُ اثْنَيْ عَشَرَ وَوَثْبَتُهُ اثْنَيْ عَشَرَ فَضَرَبَ عوج بن عنق فَمَا أَصَابَ مِنْهُ إِلَّا كَعْبَهُ، وَقَالَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ: حَدَّثَنَا إسحاق بن جميل ثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ثَنَا الكلبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 عَنْ أبي صالح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَقْصَرُ قَوْمِ عَادٍ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَأَطُولُهُمْ مِائَةَ ذِرَاعٍ، وَكَانَ طُولُ مُوسَى سَبْعَ أَذْرُعٍ، وَطُولُ عَصَاهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ، وَوَثَبَ فِي السَّمَاءِ سَبْعَ أَذْرُعٍ، فَأَصَابَ كَعْبَ عوج فَقَتَلَهُ. وَقَالَ: أَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَنَا أبو خيثمة زهير عَنْ أبي إسحاق الهمذاني عَنْ نوف، قَالَ: إِنَّ سَرِيرَ عوج الَّذِي قَتَلَهُ مُوسَى طُولُهُ ثَمَانِمِائَةِ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهُ أَرْبَعُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَكَانَ مُوسَى عَشْرَ أَذْرُعٍ، وَعَصَاهُ عَشْرَ أَذْرُعٍ، وَوَثْبَتُهُ حِينَ وَثَبَ عَشْرَ أَذْرُعٍ، فَأَصَابَ عَقِبَهُ فَخَرَّ عَلَى نِيلِ مِصْرَ، فَحَسَرَهُ لِلنَّاسِ عَامًا يَمُرُّونَ عَلَى صُلْبِهِ وَأَضْلَاعِهِ. وَقَالَ: ثَنَا أحمد بن محمد المصاحفي، ثَنَا محمد بن أحمد بن البراء، ثَنَا عبد المنعم بن إدريس عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَكَرَ وهب بِأَنَّ عوج بن عنق كَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِهِنَّ وَأَجْمَلِهِنَّ، وَكَانَ عوج مِمَّنْ وُلِدَ فِي دَارِ آدَمَ وَكَانَ جَبَّارًا خَلَقَهُ اللَّهُ كَمَا شَاءَ أَنْ يَخْلُقَهُ، وَلَا يُوَصَفُ عِظَمًا وَطُولًا وَعُمْرًا فَعَمَّرَ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَةٍ وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ طُولُهُ ثَمَانِمِائَةِ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهُ أَرْبَعَمِائَةِ ذِرَاعٍ حَتَّى أَدْرَكَ زَمَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ قَدْ سَأَلَ نُوحًا أَنْ يَحْمِلَهُ مَعَ السَّفِينَةِ فَقَالَ لَهُ نُوحٌ: لَمْ أُؤْمَرْ بِذَلِكَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ اغْرُبْ عَنِّي فَكَانَ الْمَاءُ زَمَانَ الْغَرَقِ إِلَى حُجْزَتِهِ، وَكَانَ يَتَنَاوَلُ الْحُوتَ مِنَ الْبَحْرِ فَيَرْفَعُهُ بِيَدِهِ فِي الْهَوَاءِ فَيُنْضِجُهُ بِحَرِّ الشَّمْسِ ثُمَّ يَأْكُلُهُ، وَكَانَ سَبَبُ هَلَاكِهِ أَنَّهُ طَلَعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي عَسْكَرِهِمْ فَحَزَرَهُ حَتَّى عَرَفَ قَدْرَهُ، وَكَانَ عَسْكَرُهُمْ فَرْسَخَيْنِ فِي فَرْسَخَيْنِ فَعَمَدَ إِلَى جَبَلٍ فَسَلَخَ مِنْهُ حَجَرًا عَلَى قَدْرِ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ يُرِيدُ أَنْ يُطْبِقَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ هُدْهُدًا لِيُرِيَهُمْ قُدْرَتَهُ، فَأَقْبَلَ وَفِي مِنْقَارِهِ خَطٌّ مِنَ السَّامُورِ فَجَاءَهُ الْحَجَرُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ عوج وَهُوَ لَا يَدْرِي، ثُمَّ ضَرَبَ بِجَنَاحِهِ ضَرْبَةً فَوَقَعَ فِي عُنُقِهِ فَأُخْبِرَ مُوسَى خَبَرَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ الْعَصَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ مُوسَى حَمَلَ عَلَيْهِ فَكَانَ قَامَةُ مُوسَى وَبَسْطَتُهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ، وَطُولُ الْعَصَا سَبْعَ أَذْرُعٍ، وَوَثْبَتُهُ إِلَى السَّمَاءِ سَبْعَ أَذْرُعٍ، فَضَرَبَهُ بِالْعَصَا أَسْفَلَ مِنْ كَعْبِهِ فَقَتَلَهُ فَمَكَثَ زَمَانًا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَيِّتًا. قُلْتُ: هَذَا الْخَبَرُ بَاطِلٌ كَذِبٌ آفَتُهُ عبد المنعم بن إدريس. قَالَ الذهبي فِي الْمِيزَانِ: قَصَّاصٌ لَيْسَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ تَرَكَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَأَفْصَحَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ: كَانَ يَكْذِبُ عَلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى أَبِيهِ وَعَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ الحافظ ابن حجر فِي اللِّسَانِ: نَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ إسماعيل بن عبد الكريم قَالَ: مَاتَ إدريس وعبد المنعم رَضِيعٌ. وَكَذَا قَالَ أحمد إِذَا سُئِلَ عَنْهُ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَذَّابٌ خَبِيثٌ. وَقَالَ الفلاس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 مَتْرُوكٌ. وَقَالَ أبو زرعة: وَاهِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ انْتَهَى. وَمَا رَأَيْتُهُمْ أَوْرَدُوا حَدِيثًا مِنْ رِوَايَتِهِ إِلَّا حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ. وَفِي كِتَابِ الْمَوْضُوعَاتِ لابن الجوزي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، بَلْ ذَكَرَ ابن الجوزي أَنَّ أَبَاهُ إدريس أَيْضًا مَتْرُوكٌ فَسَقَطَ هَذَا الْخَبَرُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْأَقْرَبُ فِي أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَقِيَّةِ عَادٍ، وَأَنَّهُ كَانَ لَهُ طُولٌ فِي الْجُمْلَةِ مِائَةَ ذِرَاعٍ أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ لَا هَذَا الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ، وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَتَلَهُ بِعَصَاهُ، هَذَا الْقَدْرُ الَّذِي يُحْتَمَلُ قَبُولُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَسْأَلَةٌ: عُبَيْدٌ جَاءَ مُعْتَرِفًا وَفَاءً ... مِنَ الْبَحْرِ الَّذِي هُوَ جَبْرُ كَسْرِي إِمَامٌ عَالِمٌ حَبْرٌ وَبَحْرٌ ... سَمَا فَضْلًا عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرِو لِخَلْقِ اللَّهِ لَمْ يَسْمَحْ زَمَانٌ ... بِمِثْلِ عُلُومِهِ بِدَوَامِ دَهْرِ وَمَا فِي الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ سِوَاهُ ... تَفَرَّدَ كَمْ لَهُ ثَانٍ بِشُكْرِ بِنَعْلَيْهِ عَلَى أَرْقَابِ قَوْمٍ ... هُمُ الْحُسَّادُ قَدْ مَاتُوا بِقَهْرِ فَمُوتُوا حَاسِدِيهِ أَمَا تَرَوْهُ ... بِخَيْرِ عُلُومِهِ صِرْتُمْ بِشَرِّ جَلَا مِرْآةَ فَقْرِي مِنْ جَلَاهَا ... جَلَالُ الدِّينِ أَنْتَ فَرِيدُ عَصْرِي فَيَا عَيْنَ الزَّمَانِ فَكَمْ غَرِيبٍ ... أَتَيْتَ بِهِ تُقَرِّرُهُ وَتُقْرِي بِفَضْلِكَ جُدْ وَسُدْ وَارْقَ الْمَعَالِي ... فَكَمْ أَبْرَزْتَ مِنْ طَيٍّ وَنَشْرِ رَثَيْتُ بِحُرْقَةٍ يَا بَحْرُ نَجْلِي ... وَرَحْبِي ضَاقَ مِنْ ضِيقَانِ صَدْرِي وَقَلْبِي بِالنَّوَى أَضْحَى حَرِيقًا ... وَبَحْرُ الدَّمْعِ مِنْ عَيْنَيَّ يَجْرِي لِنَجْلٍ كَانَ لِي مَا لِي سِوَاهُ ... عَلَيْهِ يَا إِمَامُ ضَاعَ صَبْرِي قَضَى بِفَنَائِهِ الْبَاقِي دَوَامًا ... وَقَدْ سَلَّمْتُ لِلْأَحْكَامِ أَمْرِي رَثَيْتُ إِذًا وَفِكْرِي فِي اشْتِغَالٍ ... بِرَقْمٍ عَاجِلٍ سَطْرًا بِسَطْرِ فَعَابَ رِثَاءَ مَا أَبْدَيْتُ شَخْصٌ ... لِشِعْرٍ لَمْ يَكُنْ يَا حَبْرُ يَدْرِي لِقَوْلِي إِبْرَيْسَمُ الْأَفْرَاحِ فِيهِ ... وَكَتَّانٌ أَضَفْتُ لَهُ بِحَرِّي فَكَتْكَتَهُ الْأَسَى فَغَدَا مُشَاقًّا ... وَهَذَا قُلْتُهُ يَا خَيْرَ حَبْرِ فَدَارَ بِهِ عَلَى النُّظَّامِ لَمَّا ... رَأَوْهُ غَالِيًا فِي السِّعْرِ شِعْرِي فَمِنْ حَسَدٍ لَهُ أَبْدَوْا هِجَاءً ... فَهَلْ لِمُقَابِلِ النَّعْمَا بِكُفْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 لِأَهْلِ الْفَضْلِ جِئْتُ بِهِ أَجَابُوا بِرَقْمٍ عَنْهُ تِبْيَانًا بِشُكْرِ ... وَهَا هُمْ خَطَّأُوا مَنْ قَالَ هَجْوًا وَقَالُوا حَاسِدٌ أَضْحَى بِخُسْرِ ... وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ عَلَيْهِ نَظْمًا وَكَمْ مَنْ قَابَلَ الْهَاجِي بِنَشْرِ ... فَلَوْ أَبْصَرْتَ هَجْوَهُمُ وَهَجْوِي لَقُلْتَ رَأَيْتُ تِبْنًا عِنْدَ تِبْرِي ... لَهُمْ قَدْ جِئْتُ مَيْدَانًا لِحَرْبٍ وَأَطْلَقْتُ اللِّسَانَ وَجَالَ فِكْرِي ... فَجُدْ بِنَفِيسِ دُرِّكَ لِي بِشَيْءٍ لِأَكْسِرَهُمْ بِهِ وَيَكُونَ نَصْرِي ... فَفَهْمِي مِثْلُ رَشْحِ الْكُوزِ أَضْحَى وَأَنْتَ الْبَحْرُ كُنْ يَا بَرُّ جِسْرِي ... وَنَجْلُ الْبَرْدِ دَارَ يَكُونُ مِنْكُمْ قَبُولًا سَيِّدِي مَعَ بَسْطِ عُذْرِي ... فَدُمْ وَاسْلَمْ وَعِشْ مَا دَامَ بَدْرٌ وَنَجْمٌ حَوْلَهُ فِي اللَّيْلِ يَسْرِي ... بِجَاهِ مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْبَرَايَا شَفِيعِ الْخَلْقِ طَهَ يَوْمَ حَشْرِي ... عَلَيْهِ وَآلِهِ وَالصَّحْبِ جَمْعًا صَلَاةٌ مَا انْقَضَى لَيْلٌ بِفَجْرِ ... وَمَا غَنَّتْ عَلَى الْأَوْرَاقِ وُرْقٌ بِتَلْحِينٍ عَلَى وَرْدٍ وَزَهْرِ الْجَوَابُ: سَرَحَتْ أَفْكَارِي وَالْعِلْمُ رَاقٍ ... وَالْجَهْلُ بِالْأَشْيَاءِ مُرُّ الْمَذَاقِ فِي بَيْتِ شِعْرٍ قَالَهُ شَاعِرٌ ... يَجْرِي مَعَ الْحَلْبَةِ عِنْدَ السِّبَاقِ إِبْرَيْسِمُ الْأَفْرَاحِ مِنْ بَعْدِهِ ... كَتْكَتَهُ الْحُزْنُ فَأَضْحَى مَشَاقِّ وَقَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ أَلْفَاظَهُ ... وَأَنَّهَا مَعْدُودَةٌ فِي النُّعَاقِ لَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ فِي هَذِهِ ... فَكُلُّهَا بِالِاسْتِعَارَاتِ رَاقِ وَقَدْ أَتَى فِي خَبَرِ الْمُصْطَفَى ... لَفْظُ مَشَاقِّ عَرَبِيَّ انْبِثَاقِ وَنَصَّ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كُتُبِهِمْ ... وَأَوْدَعُوهُ فِي بِطَانِ الْبِطَاقِ مَسْأَلَةُ الْكَتَّانِ وَالشِّعْرِ مَعْ ... إِبْرَيْسِمٍ تُدْعَى الْمَشَاقَّ الْمَشَاقِّ وَقَوْلُهُ كَتْكَتَهُ وَجْهُهُ ... أَهْزَلَهُ صَيَّرَهُ فِي الرِّقَاقِ فَذَاكَ مَعْنًى لُغَوِيٌّ لَهُ ... نُقِلَ أَتَى فِي الْكُتُبِ بَيْنَ الرِّفَاقِ وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ رِيقَ ... يُدْرِكُهُ ذُو الْعِلْمِ بِالِاشْتِقَاقِ تَصْرِيفُ فِعْلٍ عَرَبِيٍّ أَتَى ... مِنْ لَفْظٍ تُرْكِيٍّ إِلَيْهِ اسْتِبَاقِ مِنْ كُتْ بِمَعْنَى رُحْ فَتَأْوِيلُهُ ... أَذْهَبَهُ صَيَّرَهُ فِي انْمِحَاقِ فَذَاكَ حَسَنٌ بَعْدَ حَسَنٍ غَدَا ... يُشَاقُ لِلْأَلْبَابِ لَمَّا يُسَاقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 وَحَقُّ مَنْ ذَلِكَ مِنْ شِعْرِهِ ... أَنْ يَلْحَظُوهُ بِالْحِدَاقِ الْحُذَّاقِ وَقَدْ أَتَى مُسْتَرْفِدًا طَالِبًا ... إِجَازَةً تُدْرِجُهُ فِي الطِّبَاقِ أَجَزْتُهُ بِالشِّعْرِ فَهْوَ الَّذِي ... يَحِقُّ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِاللَّحَاقِ بِشَرْطِ تَقْوَى اللَّهِ فِي شِعْرِهِ ... وَتَرْكِهِ الْهَجْوَ وَمَا لَا يُطَاقِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةٍ ... يَضِيقُ عَنْ شُكْرِي فِيهَا النِّطَاقِ ثُمَّ صَلَاةُ اللَّهِ تُهْدَى إِلَى ... أَفْضَلِ مَنْ أُهْدَى إِلَيْهِ الْبُرَاقِ مَسْأَلَةٌ: يَا حَاوِيَ اللُّطْفِ وَالْمَعَانِي ... بَدِيعُهُ بَهْجَةٌ وَظُرْفُ وَيَا سِنِي الْمَجْدِ فِي الْمَبَانِي ... مَنْطِقُهُ مُعْرِبٌ وَلُطْفُ امْنُنْ بِكَشْفٍ عَنِ اسْمِ طَيْرٍ ... النِّصْفُ ظَرْفٌ وَالنِّصْفُ حَرْفُ الْجَوَابُ: يَا مَنْ أَتَى لُغْزُهُ الْمُعَمَّى ... يُبْتَغَى لِلْأَنَامِ كَشْفُ هُوَ اسْمُ طَيْرٍ إِنْ صَحَّفُوهُ ... فَثَمَرٌ بِالنَّدَى يُحَفُّ أَوْ حَشَفٌ يَابِسٌ تَرَاهُ ... مُرَادِفًا بِالثَّرَى يَجِفُّ وَإِنْ يَكُنْ فِي ابْتِدَاءِ عَيْنٍ ... فَمُغْرَمٌ لِلْمَنَامِ يَجْفُو أَوْ أَبْدَلُوا بَاءَهُ بِوَاوٍ ... فَذَاكَ كَلْبٌ وَفِيهِ عُرْفُ أَوْ أَبْدَلُوا بَاءَهُ بِرَاءٍ ... فَإِنَّهُ فِي الْقُلُوبِ طَرْفُ أَوْ أَبْدَلُوا بَاءَهُ بِنُونٍ ... فَإِنَّهُ قَدْ عَرَاهُ عُرْفُ وَإِنْ تُرَخِّمْهُ فَهْوَ رَاشٍ ... لِلتُّرْكِ كُلٌّ إِلَيْهِ يَقْفُو وَذَيْلُهُ دَائِرٌ مُحِيطٌ ... يَضُمُّهُ فِي الْكِتَابِ صُحْفُ هَذَا جَوَابِي غَزِيرُ مَعْنًى ... وَفِيهِ لُطْفٌ وَفِيهِ ظُرْفُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415